Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد41.و42. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد41.و42. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

41.

مجلد   41. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

-----------
= وسكون اللام ما يراه النائم، وأشار بقوله: "كذب في حلمه" مع أن لفظ الحديث: "تحلم" إلى ما ورد في بعض طرقه وهو ما أخرجه الترمذي من حديث على رفعه: "من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة" وسنده حسن وقد صححه الحاكم، ولكنه من رواية عبد الأعلى بن عامر ضعفه أبو زرعة. وذكر فيه حديثين: الحديث الأول ذكر له طرقا مرفوعة وموقوفة عن ابن عباس. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن أيوب" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا أيوب" وقد وقع في الأصل ما يدل على ذلك وهو قوله في آخره: "قال سفيان وصله لنا أيوب". قوله: "عن ابن عباس" ذكر المصنف الاختلاف فيه على عكرمة هل هو عن ابن عباس مرفوعا أو موقوفا أو هو عن أبي هريرة موقوفا. قوله: "من تحلم" أي من تكلف الحلم. قوله: "بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل" في رواية عباد بن عباد عن أيوب عند أحمد " عذب حتى يعقد بين شعيرتين وليس عاقدا " وعنده في رواية همام عن قتادة " من تحلم كاذبا دفع إليه شعيرة وعذب حتى يعقد بين طرفيها وليس بعاقد " وهذا مما يدل أن الحديث عند عكرمة عن ابن عباس وعن أبي هريرة معا لاختلاف لفظ الرواية عنه عنهما، والمراد بالتكلف نوع من التعذيب. قوله: "ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه" في رواية عباد بن عباد " وهم يفرون منه" ولم يشك. قوله: "صب في أذنه الآنك يوم القيامة" في رواية عباد " صب في أذنه يوم القيامة عذاب " وفي رواية همام " ومن استمع إلى حديث قوم ولا يعجبهم أن يستمع حديثهم أذيب في أذنه الآنك". قوله: "ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ" في رواية عباد وكذا في رواية همام " ومن صور صورة عذب يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها" وهذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة أحكام: أولها الكذب على المنام، ثانيها الاستماع لحديث من لا يريد استماعه، ثالثها التصوير، وقد تقدم في أواخر اللباس من طريق النضر بن أنس عن ابن عباس حديث : "من صور صورة" وتقدم شرحه هناك. وأما الكذب على المنام فقال الطبري: إنما اشتد فيه الوعيد من أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ قد تكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال، لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى:{ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} الآية، وإنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث: "الرؤيا جزء من النبوة" وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى انتهى ملخصا. وقد تقدم في باب قبل " باب ذكر أسلم وغفار، شيء من هذا في الكلام على حديث واثلة الآتي التنبيه عليه في ثاني حديثي الباب. وقال الملهب في قوله: "كلف أن يعقد بين شعيرتين" حجة للأشعرية في تجويزهم تكليف ما لا يطاق، ومثله في قوله تعالى :{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} وأجاب من منع ذلك بقوله تعالى :{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} أو حملوه على أمور الدنيا وحملوا الآية والحديث المذكورين على أمور الآخرة انتهى ملخصا. والمسألة مشهورة فلا نطيل بها. والحق أن التكليف المذكور في قوله: "كلف أن يعقد" ليس هو التكليف المصطلح وإنما هو كناية عن التعذيب كما تقدم، وأما التكليف المستفاد من الأمر بالسجود فالأمر فيه على سبيل التعجيز والتوبيخ لكونهم أمروا بالسجود في الدنيا وهم قادرون على ذلك فامتنعوا فأمروا به حيث لا قدرة لهم عليه تعجيزا وتوبيخا وتعذيبا. وأما الاستماع فتقدم التنبيه عليه في الاستئذان في الكلام على حديث: "لا يتناجى اثنان دون ثالث" وقد قيد ذلك في حديث الباب لمن يكون كارها لاستماعه فأخرج

(12/428)


من يكون راضيا، وأما من جهل ذلك فيمتنع حسما للمادة. وأما الوعيد على ذلك بصب الآنك في أذنه فمن الجزاء من جنس العمل. والآنك بالمد وضم النون بعدها كاف الرصاص المذاب، وقيل هو الخالص الرصاص. وقال الداودي: هو القصدير. وقال ابن أبي جمرة إنما سماه حلما ولم يسمه رؤيا لأنه ادعى أنه رأى ولم ير شيئا فكان كاذبا والكذب إنما هو من الشيطان، وقد قال: إن الحلم من الشيطان كما مضى في حديث أبي قتادة، وما كان من الشيطان فهو غير حق فصدق بعض الحديث بعضا. قال: ومعنى العقد بين الشعيرتين أن يقتل إحداهما بالأخرى، وهو مما لا يمكن عادة، قال: ومناسبة الوعيد المذكور للكاذب في منامه المصور أن الرؤيا خلق من خلق الله وهي صورة معنوية فأدخل بكذبه صورة لم تقع كما أدخل المصور في الوجود صورة ليست بحقيقية، لأن الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح، فكلف صاحب الصورة اللطيفة أمرا لطيفا وهو الاتصال المعبر عنه بالعقد بين الشعيرتين وكلف صاحب الصورة الكثيفة أمرا شديدا وهو أن يتم ما خلقه بزعمه ينفخ الروح، ووقع وعيد كل منهما بأنه يعذب حتى يفعل ما كلف به وهو ليس بفاعل، فهو كناية عن تعذيب كل منهما على الدوام. قال: والحكمة في هذا الوعيد الشديد أن الأول كذب على جنس النبوة، وأن الثاني نازغ الخالق في قدرته. وقال في مستمع حديث من يكره استماعه: يدخل فيه من دخل منزله وأغلق بابه وتحدث مع غيره فإن قرينة حاله تدل على أنه لا يريد للأجنبي أن يستمع حديثه فمن يستمع إليه يدخل في هذا الوعيد، وهو كمن ينظر إليه من خلل الباب فقد ورد الوعيد فيه ولأنهم لو فقئوا عينه لكانت هدرا قال: ويستثنى من عموم من يكره استماع حديثه من تحدث مع غيره جهرا وهناك من يكره أن يسمعه فلا يدخل المستمع في هذا الوعيد لأن قرينة الحال وهي الجهر تقتضي عدم الكراهة فيسوغ الاستماع. قال: وفي الحديث أن من خرج عن وصف العبودية استحق العقوبة بقدر خروجه، وفيه تنبيه على أن الجاهل في ذلك لا يعذر بجهله وكذا من تأول فيه تأويلا باطلا، إذ لم يفرق في الخبر بين من يعلم تحريم ذلك وبين من لا يعلمه كذا قال. ومن اللطائف ما قال غيره: إن اختصاص الشعير، بذلك لما في المنام من الشعور بما دل عليه فحصلت المناسبة بينهما من جهة الاشتقاق. قوله: "وقال قتيبة إلخ" وقع لنا في نسخة قتيبة عن أبي عوانة رواية النسائي عنه من طريق علي بن محمد الفارسي عن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيويه عن النسائي ولفظه: "عن أبي هريرة قال: من كذب في رؤياه كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة، ومن استمع الحديث، ومن صور " الحديث ووصله أبو نعيم في المستخرج من طريق خلف بن هشام عن أبي عوانة بهذا السند كذلك موقوفا، وقد أخرج أحمد والنسائي من طريق همام عن قتادة الحديث بتمامه مرفوعا ولكن اقتصر منه النسائي على قوله: "من صور". قوله: "وقال شعبه عن أبي هاشم الرماني" بضم الراء وتشديد الميم اسمه يحيى بن دينار، ووقع في رواية المستملي والسرخسي عن أبي هشام وهو غلط. قوله: "قال أبو هريرة قوله من صور صورة، ومن تحلم، ومن استمع" كذا في الأصل مختصرا اقتصر على أطراف الأحاديث الثلاثة، وقد وقع لنا موصولا في مستخرج الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن معاذ العنبري عن أبيه عن شعبة عن أبي هاشم بهذا السند فاقتصر على قوله عن أبي هريرة "من تحلم" ومن طريق محمد بن جعفر غندر عن شعبة فذكره كذلك ولفظه: "من تحلم كاذبا كلف أن يعقد شعيرة". قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن شاهين، وخالد شيخه هو ابن عبد الله الطحان، وخالد شيخه هو الحذاء. قوله: "من استمع، ومن تحلم، ومن صور نحوه" قلت كذا اختصره، وقد أخرجه الإسماعيلي

(12/429)


من طريق وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله فذكره بهذا السند إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فرفعه ولفظه: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك، ومن تحلم كلف أن يعقد شعيرة يعذب بها وليس بفاعل، ومن صور صورة عذب حتى ينفخ فيها وليس بفاعل" ثم أخرجه الإسماعيلي من طريق وهيب بن خالد ومن طريق عبد الوهاب الثقفي كلاهما عن خالد الحذاء بهذا السند مرفوعا. قوله: "تابعه هشام" يعني ابن حسان "عن عكرمة عن ابن عباس قوله" يعني موقوفا. الحديث الثاني، قوله: "حدثنا علي بن مسلم" هو الطوسي نزيل بغداد مات قبل البخاري بثلاث سنين، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث بن سعيد وقد أدركه البخاري بالسن ومات قبل أن يرحل البخاري، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار مختلف فيه: قال ابن المديني صدوق، وقال يحيى بن معين في حديثه عندي ضعف. وقال الدار قطني خالف فيه البخاري الناس وليس بمتروك، قلت: عمدة البخاري فيه كلام شيخه على، وأما قول ابن معين فلم يفسره ولعله عني حديثا معينا، ومع ذلك فما أخرج له البخاري شيئا إلا وله فيه متابع أو شاهد، فأما المتابع فأخرجه أحمد من طريق حيوة عن أبي عثمان الوليد بن أبي الوليد المدني عن عبد الله بن دينار به وأتم منه ولفظه: "أفرى الفرى من ادعى إلى غير أبيه، وأفرى الفرى من أرى عينه ما لم ير " وذكر ثالثة وسنده صحيح، وأما شاهده فمضى في مناقب قريش من حديث واثلة بن الأسقع بلفظ: "إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينه ما لم ير " وذكر فيه ثالثة غير الثالثة التي في حديث ابن معمر عند أحمد، وقد تقدم بيان ذلك هناك. قوله: "إن من أفرى الفرى" أفرى أفعل تفضيل أي أعظم الكذبات والفرى بكسر الفاء والقصر جمع فرية، قال ابن بطال: الفرية الكذبة العظيمة التي يتعجب منها، وقال الطيبي: فأرى الرجل عينيه وصفهما بما ليس فيهما " قال: ونسبة الكذبات إلى الكذب للمبالغة نحو قولهم ليل أليل". قوله: "أن يرى" بضم أوله وكسر الراء. قوله: "عينه ما لم تر" كذا فيه بحذف الفاعل وإفراد العين، ووقع في بعض النسخ "ما لم يريا" بالتثنية، ومعنى نسبة الرؤيا إلى عينيه مع أنهما لم يريا شيئا أنه أخبر عنهما بالرؤية وهو كاذب، وقد تقدم بيان كون هذا الكذب أعظم الأكاذيب في شرح. الحديث الذي قبله.

(12/430)


46- باب: إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلاَ يُخْبِرْ بِهَا وَلاَ يَذْكُرْهَا
7044- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ لاَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ. وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفِلْ ثَلاَثًا وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ"
7045- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّهَا مِنْ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلاَ يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ"

(12/430)


قوله: "باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها" كذا جمع الترجمة بين لفظي الحديثين، لكن في الترجمة "فلا يخبر" ولفظ الحديث: "فلا يحدث" وهما متقاربان، وذكر فيه حديثين: الأول، قوله: "عن عبد ربه بن سعيد" هو الأنصاري أخو يحيى، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني" عند مسلم في رواية سفيان عن الزهري عن أبي سلمة " كنت أرى الرؤيا أعرى منها غير أني لا أزمل " قال النووي: معنى أعرى وهو بضم الهمزة وسكون المهملة وفتح الراء أحم لخوفي من ظاهرها في ظن، يقال عرى بضم أوله وكسر ثانيه مخففا يعرى بفتحتين إذا أصابه عراء بضم ثم فتح ومد وهو نفض الحمى، ومعنى لا أزمل وهو بزاي وميم ثقيلة أتلفف من برد الحمى، ووقع مثله عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة ولكن قال: "ألقي منها شدة" بدل "أعرى منها" وفي رواية سفيان عن الزهري " غير أني لا أعاد " وعند مسلم أيضا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي سلمة "إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل". قوله: "حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت أرى الرؤيا" في رواية المستملي: "لأرى " بزيادة اللام، والأولى أولى. قوله: "فلا يحدث بما إلا من يحب" قد تقدم أن الحكمة فيه أنه إذا حدث بالرؤيا الحسنة من لا يحب قد يفسرها له بما لا يحب إما بغضا وإما حسدا فقد تقع عن تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك. الحديث الثاني حديث أبي سعيد قوله: "حدثنا ابن أبي حازم والدراوردي" تقدم في "باب الرؤيا من الله" أن اسم كل منهما عبد العزيز. قوله: "حدثنا يزيد بن عبد الله" زاد في رواية المستملي: "ابن أسامة بن الهاد الليثي" وقد تقدم شرح الحديث في الباب المشار إليه.

(12/431)


47- باب: مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ إِذَا لَمْ يُصِبْ
7046- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُحَدِّثُ "أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا: فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنْ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ. ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلاَ بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعْبُرْهَا". قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَالإِسْلاَمُ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ حَلاَوَتُهُ تَنْطُفُ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ. وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ. ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ، ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ. فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ - بِأَبِي أَنْتَ - أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا،" قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ. قَالَ: "لاَ تُقْسِمْ"

(12/431)


قوله: "باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب" كأنه يشير إلى حديث أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر حديثا فيه: "والرؤيا لأول عابر" وهو حديث ضعيف فيه يزيد الرقاشي، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن وصححه الحاكم عن أبي رزين العقيلي رفعه: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت " لفظ أي داود، وفي رواية الترمذي "سقطت" وفي مرسل أبي قلابة عند عبد الرزاق " الرؤيا تقع على ما يعبر، مثل ذلك مثل رجل رفع فهو ينتظر متى يضعها " وأخرجه الحاكم موصولا بذكر أنس، وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن عطاء "كان يقال الرؤيا على ما أولت " وعند الدارمي بسند حسن عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت: "كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف - يعني في التجارة - فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملا. فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت وأني ولدت غلاما أعور، فقال: خير، يرجع زوجك إن شاء الله صالحا وتلدين غلاما برا " فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، فسألتها فأخبرتني بالمنام، فقلت: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مه يا عائشة. إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها " وعند سعيد بن منصور من مرسل عطاء بن أبي رباح قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني رأيت كأن جائز بيتي انكسر - وكان زوجها غائبا - فقال، رد الله عليك زوجك، فرجع سالما " الحديث، ولكن فيه أن أبا بكر أو عمر هو الذي عبر لها الرؤيا الأخيرة، وليس فيه الخبر الأخير المرفوع، فأشار البخاري إلى تخصيص ذلك بما إذا كان العابر مصيبا في تعبيره، وأخذه من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الباب: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا" فإنه يؤخذ منه أن الذي أخطأ فيه لو بينه له لكان الذي بينه له هو التعبير الصحيح ولا عبرة بالتعبير الأول. قال أبو عبيد وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر " إذا كان العابر الأول عالما فعبر فأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام، ليتوصل بذلك إلى مراد الله فيما ضربه من المثل، فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول. قلت: وهذا التأويل لا يساعده حديث أبي رزين " إن الرؤيا إذا عبرت وقعت " إلا أن يدعى تخصيص "عبرت" بأن عابرها يكون عالما مصيبا، فيعكر عليه قوله في الرؤيا المكروهة " ولا يحدث بها أحدا " فقد تقدم في حكمة هذا النهي أنه ربما فسرها تفسيرا مكروها على ظاهرها مع احتمال أن تكون محبوبة في الباطن فتقع على ما فسر، ويمكن الجواب بأن ذلك يتعلق بالرائي، فله إذا قصها على أحد ففسرها له على المكروه أن يبادر فيسأل غيره ممن يصيب فلا يتحتم وقوع الأول بل ويقع تأويل من أصاب فإن قصر الرائي فلم يسأل الثاني وقعت على ما فسر الأول. ومن أدب المعبر ما أخرجه عبد الرزاق " عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا " ورجاله ثقات. ولكن سنده منقطع. وأخرج الطبراني والبيهقي في "الدلائل" من حديث ابن زمل الجهني بكسر الزاي وسكون الميم بعدها لام ولم يسم في الرواية وسماه أبو عمر في "الاستيعاب" عبد الله قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: هل رأى أحد منكم شيئا؟ قال ابن زمل: فقلت أنا يا رسول الله، قال: خيرا تلقاه وشرا تتوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك " الحديث وسنده ضعيف جدا، وذكر أئمة التعبير أن

(12/432)


من أدب الرائي أن يكون صادق اللهجة وأن ينام على وضوء على جنبه الأيمن وأن يقرأ عند نومه الشمس والليل والتين وسورة الإخلاص والمعوذتين ويقول: اللهم إني أعوذ بك من سيء الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة والمنام اللهم إني أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسية، اللهم أرني في منامي ما أحب ومن أدبه أن لا يقصها على امرأة ولا عدو ولا جاهل. ومن أدب العابر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند الزوال ولا في الليل. قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد الأيلي، ولم يقع لي من رواية الليث عنه إلا في البخاري. وقد عسر على أصحاب المستخرجات كالإسماعيلي وأبي نعيم وأبي عوانة والبرقاني فأخرجوه من رواية ابن وهب، وأخرجه الإسماعيلي أيضا من رواية عبد الله بن المبارك وسعيد بن يحيى ثلاثتهم عن يونس. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة" في رواية ابن وهب "أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أخبره". قوله: "أن ابن عباس كان يحدث" كذا لأكثر أصحاب الزهري، وتردد الزبيدي هل هو عن ابن عباس أو أبي هريرة. واختلف على سفيان بن عيينة ومعمر فأخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس أو أبي هريرة، قال عبد الرزاق: كان معمر يقول أحيانا عن أبي هريرة وأحيانا يقول عن ابن عباس وهكذا ثبت في " مصنف عبد الرزاق " رواية إسحاق الديري، وأخرجه أبو داود وابن ماجه عن محمد بن يحيى الذهلي عن عبد الرزاق فقال فيه: "عن ابن عباس قال: كان أبو هريرة يحدث " هكذا أخرجه البزار عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق وقال لا نعلم أحدا قال عن عبيد الله عن ابن عباس عن أبي هريرة إلا عبد الرزاق عن معمر ورواه غير واحد فلم يذكروا أبا هريرة انتهى. وأخرجه الذهلي في "العلل" عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه عن عبد الرزاق فاقتصر على ابن عباس ولم يذكر أبا هريرة وكذا قال أحمد في مسنده " قال إسحاق عن عبد الرزاق كان معمر يتردد فيه حتى جاءه زمعة بكتاب فيه عن الزهري " كما ذكرناه، وكان لا يشك فيه بعد ذلك، وأخرجه مسلم من طريق الزبيدي " أخبرني الزهري عن عبيد الله أن ابن عباس أو أبا هريرة " هكذا بالشك، وأخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة مثل رواية يونس، وذكر الحميدي أن سفيان بن عيينة كان لا يذكر فيه ابن عباس، قال فلما كان صحيحه آخر زمانه أثبت فيه ابن عباس أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق الحميدي هكذا، وقد مضى ذكر الاختلاف فيه على الزهري مستوعبا حيث ذكره المصنف في "باب رؤيا بالليل" وبالله التوفيق. قال الذهلي: المحفوظ رواية الزبيدي، وصنيع البخاري يقتضي ترجيح رواية يونس ومن تابعه، وقد جزم بذلك في الأيمان والنذور حيث قال: "وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي بكر. لا تقسم فجزم بأنه عن ابن عباس. قوله: "أن رجلا" لم أقف على اسمه، ووقع عند مسلم زيادة في أوله من طريق سليمان بن كثير عن الزهري ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها له، فجاء رجل فقال: "قال القرطبي معنى قوله: "فليقصها" ليذكر قصتها ويتبع جزئياتها حتى لا يترك منها شيئا، من قصصت الأثر إذا اتبعته، وأعبرها أي أفسرها. ووقع بيان الوقت الذي وقع فيه ذلك في رواية سفيان بن عيينة عند مسلم أيضا ولفظه: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من أحد" وعلى هذا فهو من مراسيل الصحابة سواء كان عن ابن عباس أو عن أبي هريرة أو من رواية ابن عباس عن أبي هريرة لأن كلا منهما لم يكن في ذلك الزمان بالمدينة، أما ابن عباس فكان صغيرا مع أبويه بمكة فإن مولده قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح وأحد كانت في شوال في السنة الثالثة، وأما

(12/433)


أبو هريرة فإنما قدم المدينة زمن خيبر في أوائل سنة سبع. قوله: "إني رأيت" كذا للأكثر، وفي رواية ابن وهب " إني أرى " كأنه لقوة تحققه الرؤيا كانت ممثلة بين عينيه حتى كأنه يراها حينئذ. قوله: "ظلة" بضم الظاء المعجمة أي سحابة لها ظل وكل ما أظل من ثقيفة ونحوها يسمى ظلة فاله الخطابي. وقال ابن فارس: الظلة أول شيء يظل زاد سليمان بن كثير في روايته عند الدارمي وأبي عوانة وكذا في رواية سفيان بن عيينة عند ابن ماجه: "بين السماء والأرض". قوله: "تنطف السمن والعسل" بنون وطاء مكسورة ويجوز ضمها ومعناه تقطر بقاف وطاء مضمومة ويجوز كسرها يقال نطف الماء إذا سال. وقال ابن فارس: ليلة نطوف أمطرت إلى الصبح. قوله: "فأرى الناس يتكففون منها" أي يأخذون بأكفهم، في رواية ابن وهب "بأيديهم" قال الخليل: تكفف بسط كفه ليأخذ، ووقع في رواية الترمذي من طريق معمر " يستقون " بمهملة ومثناة وقاف أي يأخذون في الأسقية، قال القرطبي: يحتمل أن يكون معنى " يتكففون " يأخذون كفايتهم وهو أليق بقوله بعد ذلك "فالمستكثر والمستقل". قلت: وما أدري كيف جوز أخذ كفى من كففه، ولا حجة فيما احتج به لما سيأتي. قوله: "فالمستكثر والمستقل" أي الآخذ كثيرا والآخذ قليلا، ووقع في رواية سليمان بن كثير بغير ألف ولام فيهما، وفي رواية سفيان بن حسين عند أحمد "فمن بين مستكثر ومستقل وبين ذلك". قوله: "وإذا سبب" أي حبل. قوله: "واصل من الأرض إلى السماء" في رواية ابن وهب وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض وفي رواية سليمان بن كثير "ورأيت لها سببا واصلا" وفي رواية سفيان بن حسين "وكأن سببا دلى من السماء". قوله: "فأراك أخذت به فعلوت" في رواية سليمان بن كثير فأعلاك الله. قوله: "ثم أخذ به" كذا للأكثر، ولبعضهم " ثم أخذه " زاد ابن وهب في روايته: "من بعد " وفي رواية ابن عيينة وابن حسين "من بعدك" في الموضعين. قوله: "فعلا به" زاد سليمان بن كثير " فأعلاه الله " وهكذا في رواية سفيان بن حسين في الموضعين. قوله: "ثم أخذ به رجل آخر فانقطع" زاد ابن وهب هنا " به " وفي رواية سفيان بن حسين " ثم جاء رجل من بعدكم فأخذ به فقطع به". قوله: "ثم وصل" في رواية ابن وهب " فوصل له " وفي رواية سليمان " فقطع به ثم وصل له فاتصل " وفي رواية سفيان بن حسين "ثم وصل له". قوله: "بأبي أنت" زاد في رواية معمر "وأمي". قوله: "والله لتدعني" بتشديد النون، وفي رواية سليمان "ائذن لي". قوله: "فأعبرها" في رواية ابن وهب " فلأعبرنها " بزيادة التأكيد باللام والنون، ونحوه في رواية معمر، ومثله في رواية الزبيدي. قوله: "أعبرها" في رواية سفيان عند ابن ماجه: "عبرها" بالتشديد، وفي رواية سفيان بن حسين " فأذن له " زاد سليمان " وكان من أعبر الناس للرؤيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وأما الظلة فالإسلام" في رواية ابن وهب وكذا لمعمر والزبيدي "فظلة الإسلام" ورواية سفيان كرواية الليث وكذا سليمان بن كثير وهي التي يظهر ترجيحها. قوله: "فالقرآن حلاوته تنطف" في رواية ابن وهب "حلاوته ولينه" وكذا في رواية سفيان ومعمر، وبينه سليمان بن كثير في روايته فقال: "وأما العسل والسمن فالقرآن في حلاوة العسل ولين السمن". قوله: "فالمستكثر من القرآن والمستقل" زاد ابن وهب في روايته قبل هذا " وأما ما يتكفف الناس من ذلك " وفي رواية سفيان " فالآخذ من القرآن كثيرا وقليلا " وفي رواية سليمان بن كثير "فهم حملة القرآن". قوله: "وأما السبب إلخ" في رواية سفيان بن حسين "وأما السبب فما أنت عليه تعلو فيعليك الله". قوله: "ثم يأخذ به رجل" زاد سفيان بن حسين وابن وهب "من بعدك" زاد سفيان

(12/434)


ابن حسين "على مناهجك". قوله: "ثم يأخذ به" في رواية سفيان بن حسين "ثم يكون من بعد كما رجل يأخذ مأخذكما". قوله: "ثم يأخذ به رجل" زاد ابن وهب "آخر". قوله: "فيقطع به ثم يوصل له فيعلو به" زاد سفيان بن حسين "فيعليه الله". قوله: "فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت" في رواية سفيان " هل أصبت يا رسول الله أو أخطأت". قوله: "أصبت بعصا وأخطأت بعضا" في رواية سليمان بن كثير وسفيان بن حسين "أصبت وأخطأت". قوله: "قال فوالله" زاد ابن وهب " يا رسول الله " ثم اتفقا " لتحدثني بالذي أخطأت " في رواية ابن وهب " ما الذي أخطأت " وفي رواية سفيان بن عيينة عند ابن ماجه، فقال أبو بكر أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بالذي أصبت من الذي أخطأت وفي رواية معمر مثله لكن قال: "ما الذي أخطأت" ولم يذكر الباقي. قوله: "قال لا تقسم" في رواية ابن ماجه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقسم يا أبا بكر " ومثله لمعمر لكن دون قوله: "يا أبا بكر " وفي رواية سليمان بن كثير " ما الذي أصبت وما الذي أخطأت، فأبى أن يخبره " قال الداودي: قوله: "لا تقسم " أي لا تكرر يمينك فإني لا أخبرك وقال المهلب: توجيه تعبير أبي بكر أن الظلة نعمة من نعم الله على أهل الجنة وكذلك كانت على بني إسرائيل، وكذلك الإسلام يقي الأذى وينعم به المؤمن في الدنيا والآخرة، وأما العسل فإن الله جعله شفاء للناس وقال تعالى إن القرآن {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} وقال إنه {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وهو حلو على الأسماع كحلاوة العسل في المذاق، وكذلك جاء في الحديث: "أن في السمن شفاء " قال القاضي عياض: وقد يكون عبر الظلة بذلك لما نطفت العسل والسمن اللذين عبرهما بالقرآن، وذلك إنما كان عن الإسلام والشريعة، والسبب في اللغة الحبل والعهد والميثاق، والذين أخذوا به بعد النبي صلى الله عليه وسلم واحدا بعد واحد هم الخلفاء الثلاثة وعثمان هو الذي انقطع به ثم اتصل انتهى ملخصا. قال المهلب: وموضع الخطأ في قوله: "ثم وصل له " لأن في الحديث ثم وصل ولم يذكر "له". قلت: بل هذه اللفظة وهي قوله: "له" وإن سقطت من رواية الليث عند الأصيلي وكريمة فهي ثابتة في رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة وكذا في رواية النسفي، وهي ثابتة في رواية ابن وهب وغيره كلهم عن يونس عند مسلم وغيره. وفي رواية معمر عند الترمذي، وفي رواية سفيان بن عيينة عند النسائي وابن ماجه، وفي رواية سفيان بن حسين عند أحمد، وفي رواية سليمان بن كثير عند الدارمي وأبي عوانة كلهم عن الزهري، وزاد سليمان بن كثير في روايته: "فوصل له فاتصل" ثم ابن المهلب على ما توهمه فقال: كان ينبغي لأبي بكر أن يقف حيث وقفت الرؤيا ولا يذكر الموصول له فإن المعنى أن عثمان انقطع به الحبل ثم وصل لغيره أي وصلت الخلافة لغيره انتهى. وقد عرفت أن لفظة "له" ثابتة في نفس الخبر، فالمعنى على هذا أن عثمان كان ينقطع عن اللحاق بصاحبيه بسبب ما وقع له من تلك القضايا التي أنكروها فعبر عنها بانقطاع الحبل، ثم وقعت له الشهادة فاتصل بهم فعبر عنه بأن الحبل وصل له فاتصل فالتحق بهم، فلم يتم في تبيين الخطأ في التعبير المذكور ما توهمه المهلب. والعجب من القاضي عياض فإنه قال في "الإكمال" قيل خطؤه في قوله: "فيوصل له" وليس في الرؤيا إلا أنه يوصل وليس فيها "له" ولذلك لم يوصل لعثمان وإنما وصلت الخلافة لعلي، وموضع التعجب سكوته عن تعقب هذا الكلام مع كون هذه اللفظة وهي "له" ثابتة في صحيح مسلم الذي يتكلم عليه، ثم قال: وقيل الخطأ هنا بمعنى الترك أي تركت بعضا لم تفسره. وقال الإسماعيلي: قيل السبب في قوله: "وأخطأت بعضا" أن الرجل لما قص على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه كان النبي صلى الله عليه وسلم أحق

(12/435)


بتعبيرها من غيره، فلما طلب تعبيرها؟ كان ذلك خطأ ففال " أخطأت بعضا " لهذا المعنى والمراد بقوله: "قيل" ابن قتيبة فإنه القائل لذلك فقال: إنما أخطأ في مبادرته بتفسيرها قبل أن يأمره به، ووافقه جماعة على ذلك، وتعقبه النووي تبعا لغيره فقال: هذا فاسد، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أذن له في ذلك وقال أعبرها " قلت: مراد ابن قتيبة أنه لم يأذن له ابتداء بل بادر هو فسأل أن يأذن له في تعبيرها فأذن له فقال أخطأت في مبادرتك للسؤال أن تتولى تعبيرها، لا أنه أراد أخطأت في تعبيرك، لكن في إطلاق الخطأ على ذلك نظر لأنه خلاف ما يتبادر للسمع من جواب قوله: "هل أصبت" فإن الظاهر أنه أراد الإصابة والخطأ في تعبيره لا لكونه التمس التعبير، ومن ثم قال ابن التين ومن بعده الأشبه بظاهر الحديث أن الخطأ في تأويل الرؤيا، أي أخطأت في بعض تأويلك، قلت ويؤيده تبويب البخاري حيث قال: "من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب " ونقل ابن التين عن أبي محمد بن أبي زيد وأبي محمد الأصيلي والداودي نحو ما نقله الإسماعيلي ولفظهم: أخطأ في سؤاله أن يعبرها، وفي تعبيره لها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن هبيرة: إنما كان الخطأ لكونه أقسم ليعبرنها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الخطأ في التعبير لم يقره عليه. وأما قوله: "لا تقسم" فمعناه أنك إذا تفكرت فيما أخطأت به علمته. قال: والذي يظهر أن أبا بكر أراد أن يعبرها فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقوله فيعرف أبو بكر بذلك علم نفسه لتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن التين وقيل أخطأ لكون المذكور في الرؤيا شيئين العسل والسمن ففسرهما بشيء واحد، وكان ينبغي أن يفسرهما بالقرآن والسنة، ذكر ذلك عن الطحاوي. قلت: وحكاه الخطيب عن أهل العلم بالتعبير، وجزم به ابن العربي. فقال: قالوا هنا وهم أبو بكر فإنه جعل السمن والعسل معنى واحدا وهما معنيان القرآن والسنة. قال: ويحتمل أن يكون السمن والعسل العلم والعمل، ويحتمل أن يكونا الفهم والحفظ، وأيد ابن الجوزي ما نسب للطحاوي بما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "رأيت فيما يرى النائم كأن في إحدى إصبعي سمنا وفي الأخرى عسلا فألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقرأ الكتابين التوراة والفرقان فكان يقرؤهما". قلت: ففسر العسل بشيء والسمن بشيء، قال النووي: قيل إنما لم يبر النبي صلى الله عليه وسلم قسم أبي بكر لأن إبرار القسم مخصوص بما إذا لم يكن هناك مفسدة ولا مشقة ظاهرة فإن وجد ذلك فلا إبرار، ولعل المفسدة في ذلك ما علمه من سبب انقطاع السبب بعثمان وهو قتله وتلك الحروب والفتن المترتبة عليه فكره ذكرها خوف شيوعها، ويحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لو ذكر له السبب للزم منه أن يوبخه بين الناس لمبادرته، ويحتمل أن يكون خطؤه في ترك تعيين الرجال المذكورين، فلو أبر قسمه للزم أن يعينهم ولم يؤمر بذلك إذ لو عينهم لكان نصا على خلافتهم، وقد سبقت مشيئة الله أن الخلافة تكون على هذا الوجه فترك تعيينهم خشية أن يقع في ذلك مفسدة. وقيل هو علم غيب فجاز أن يختص به ويخفيه عن غيره، وقيل المراد بقوله أخطأت وأصبت أن تعبير الرؤيا مرجعه الظن، والظن يخطئ ويصيب، وقيل لما أراد الاستبداد ولم يصبر حتى يفاد جاز منعه ما يستفاد فكان المنع كالتأديب له على ذلك. قلت: وجميع ما تقدم من لفظ الخطأ والتوهم والتأديب وغيرهما إنما أحكيه عن قائله ولست راضيا بإطلاقه في حق الصديق، وقيل الخطأ في خلع عثمان لأنه في المنام رأى أنه آخذ بالسبب فانقطع به وذلك يدل على انخلاعه بنفسه، وتفسير أبي بكر بأنه يأخذ به رجل فينقطع به ثم يوصل له، وعثمان قد قتل قهرا ولم يخلع نفسه فالصواب أن يحمل وصله على ولاية غيره، وقيل يحتمل أن يكون ترك إبرار القسم لما يدخل في النفوس لا سيما من

(12/436)


الذي انقطع في يده السبب وإن كان وصل، رقد اختلف في تفسير قوله: "فقطع" فقيل معناه قتل، وأنكره القاضي أبو بكر بن العربي. فقال: ليس معنى قطع قتل إذ لو كان كذلك لشاركه عمر، لكن قتل عمر لم يكن بسبب العلو بل بجهة عداوة مخصوصة وقتل عثمان كان من الجهة التي علا بها وهي الولاية فلذلك جعل قتله قطعا قال: وقوله: "ثم وصل" يعني بولاية علي فكان الحبل موصولا ولكن لم ير فيه علوا، كذا قال، وقد تقدم البحث في ذلك ووقع في "تنقيح الزركشي" ما نصه: والذي انقطع به ووصل له هو عمر، لأنه لما قتل وصل له بأهل الشورى وبعثمان، كذا قال: وهو مبني على أن المذكور في الخبر من الرجال بعد النبي صلى الله عليه وسلم اثنان فقط، وهو اختصار من بعض الرواة. وإلا فعند الجمهور ثلاثة، وعلى ذلك شرح من تقدم ذكره والله أعلم. قال ابن العربي: وقوله: "أخطأت بعضا" اختلف في تعين الخطأ فقيل: وجه الخطأ تسوره على التعبير من غير استئذان واحتمله النبي صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، قلت: تقدم البحث فيه قال: وقيل أخطأ لقسمه عليه، وقيل لجعله السمن والعسل معنى واحدا وهما معنيان وأيدوه بأنه قال أخطأت بعضا وأصبت بعضا ولو كان الخطأ في التقديم في اليسار أو في اليمين لما قال ذلك لأنه ليس من الرؤيا. وقال ابن الجوزي: الإشارة في قوله: "أصبت وأخطأت" لتعبيره الرؤيا. وقال ابن العربي: بل هذا لا يلزم لأنه يصح أن يريد به أخطأت في بعض ما جرى وأصبت في البعض، ثم قال ابن العربي: وأخبرني أبي أنه قيل وجه الخطأ أن الصواب في التعبير أن الرسول هو الظلة والسمن والعسل القرآن والسنة، وقيل: وجه الخطأ أنه جعل السبب الحق عثمان لم ينقطع به الحق، وإنما الحق أن الولاية كانت بالنبوة ثم صارت بالخلافة فاتصلت لأبي بكر ولعمر ثم انقطعت بعثمان لما كان ظن به ثم صحت براءته فأعلاه الله ولحق بأصحابه. قال: وسألت بعض الشيوخ العارفين عن تعيين الوجه الذي أخطأ فيه أبو بكر فقال: من الذي يعرفه " ولئن كان تقدم أبي بكر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم للتعبير خطأ فالتقدم بين يدي أبي بكر لتعيين خطئه أعظم وأعظم، فالذي يقتضيه الدين والحزم الكف عن ذلك. وقال الكرماني: إنما أقدموا علي تبين ذلك مع كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه لأنه كان يلزم من تبيينه مفسدة إذ ذاك فزالت بعده، مع أن جميع ما ذكروه إنما هو بطريق الاحتمال ولا جزم في شيء من ذلك. وفي الحديث من الفوائد أن الرؤيا ليست لأول عابر كما تقدم تقريره، لكن قال إبراهيم بن عبد الله الكرماني: المعبر لا يغير الرؤيا عن وجهها عبارة عابر ولا غيره، وكيف يستطيع مخلوق أن يغير ما كانت نسخته من أم الكتاب، غير أنه يستحب لمن لم يتدرب في علم التأويل أن لا يتعرض لما سبق إليه من لا يشك في أمانته ودينه. قلت: وهذا مبنى على تسليم أن المرائي تنسخ من أم الكتاب على وفق ما يعبرها العارف، وما المانع أنها تنسخ على وفق ما يعبرها أول عابر، وأنه لا يستحب إبرار القسم إذا كان فيه مفسدة. وفيه أن من قال أقسم لا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يزد على قوله: "أقسمت" كذا قاله عياض، ورده النووي بأن الذي في جميع نسخ صحيح مسلم أنه قال: "فوالله يا رسول الله لتحدثني" وهذا صريح يمين. قلت: وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الأيمان والنذور. قال ابن التين: فيه أن الأمر بإبرار القسم خاص بما يجوز الإطلاع عليه، ومن ثم لم يبر قسم أبي بكر لكونه سأل ما لا يجوز الإطلاع عليه لكل أحد. قلت: فيحتمل أن يكون منعه ذلك لما سأله جهارا وأن يكون أعلمه بذلك سرا. وفيه الحث على تعليم علم الرؤيا وعلى تعبيرها وترك إغفال السؤال عنه، وفضيلتها لما تشتمل عليه من الإطلاع على بعض الغيب وأسرار الكائنات قال ابن هبيرة: وفي السؤال من أبي بكر أولا وآخرا وجواب النبي صلى الله عليه وسلم دلالة على

(12/437)


انبساط أبي بكر معه وإدلاله عليه. وفيه أنه لا يعبر الرؤيا إلا عالم ناصح أمين حبيب وفيه أن العابر قد يخطئ وقد يصيب، وأن للعالم بالتعبير أن يسكت عن تعبير الرؤيا أو بعضها عند رجحان الكتمان على الذكر. قال المهلب: ومحله إذا كان في ذلك عموم، فأما لو كانت مخصوصة بواحد مثلا فلا بأس أن يخبره ليعد الصبر ويكون على أهبة من نزول الحادثة. وفيه جواز إظهار العالم ما يحسن من العلم إذا خلصت نيته وأمن العجب، وكلام العالم بالعلم بحضرة من هو أعلم منه إذا أذن له في ذلك صريحا أو ما قام مقامه، ويؤخذ منه جواز مثله في الإفتاء والحكم، وأن للتلميذ أن يقسم على معلمه أن يفيده الحكم.

(12/438)


48- باب: تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ
7047- حَدَّثَنِي مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ أَبُو هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ قَالَ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ. وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ. وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَانِ؟ قَالَ قَالاَ لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو رَجَاءٍ فَيَشُقُّ. قَالَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قَالَ قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ؟ قَالَ قَالاَ لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ، قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ. قَالَ فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلاَءِ؟ قَالَ قَالاَ لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا. قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ قَالاَ لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ. قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً، وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا.

(12/438)


قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ قَالَ قَالاَ لِي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيْ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ لاَ أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ. قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا، مَا هَؤُلاَءِ؟ قَالَ قَالاَ لِي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ. قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلاَ أَحْسَنَ. قَالَ قَالاَ لِي: ارْقَ، فِيهَا قَالَ فَارْتَقَيْنَا فِيهَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَ قَالاَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ، قَالَ وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ من الْبَيَاضِ فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. قَالَ قَالاَ لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ. قَالَ فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا، فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ. قَالَ: قَالاَ لِي هَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا، ذَرَانِي فَأَدْخُلَهُ، قَالاَ: أَمَّا الْآنَ فَلاَ، وَأَنْتَ دَاخِلَهُ. قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قَالَ قَالاَ لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ: أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ. وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي. وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا. وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ. وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ. قَالَ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيحًا فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ"
قوله: "باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح" فيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض عملائهم قال: لا تقصص رؤياك على امرأة ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس. وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير إن المستحب أن يكون تعبير الرؤيا بعد طلوع الشمس إلى الرابعة ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة. قال المهلب: تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها وقبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه

(12/439)


وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤيا فيستبشر بالخير ويحذر من الشر ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير عن معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذارا لأمر فيكون له مترقبا، قال: فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار انتهى ملخصا. قوله: "حدثنا" في رواية غير أبي ذر "حدثني". قوله: "مؤمل" بوزن محمد مهموز "ابن هشام أبو هاشم" كذا لأبي ذر عن بعض مشايخه وقال: الصواب أبو هشام وكذا هو عند غير أبي ذر، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وكان صهر إسماعيل شيخه في هذا الحديث على ابنته، ولم يخرج عنه البخاري عن غير إسماعيل، وقد أخرج البخاري عنه هذا الحديث هنا تاما، وأخرج في الصلاة قبل الجمعة وفي أحاديث الأنبياء وفي التفسير عنه بهذا السند أطرافا، وأخرجه أيضا تاما في أواخر كتاب الجنائز عن موسى بن إسماعيل عن جرير بن حازم عن أبي رجاء "وأخرج في الصلاة وفي التهجد وفي البيوع وفي بدء الخلق وفي الجهاد وفي أحاديث الأنبياء وفي الأدب عنه منه بالسند المذكور أطرافا، وأخرج مسلم قطعة من أوله من طريق جرير بن حازم، وأخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن جرير بتمامه، وأخرجه أيضا عن محمد بن جعفر غندر عنه عن عوف بتمامه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو الذي يقال له ابن علية، وشيخه عوف هو الأعرابي وأبو رجاء هو العطاردي واسمه عمران، والسند كله بصريون. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه" كذا لأبي ذر عن الكشميهني، وله عن غيره بإسقاط يعني" وكذا وقع عند الباقين، وفي رواية النسفي وكذا في رواية محمد ابن جعفر " مما يقول لأصحابه " وقد تقدم في بدء الوحي ما نقل ابن مالك أنها بمعنى " مما يكثر " قال الطيبي قوله مما يكثر خبر كان وما موصولة ويكثر صلته والضمير الراجع إلى ما فاعل يقول وأن يقول فاعل يكثر وهل رأى أحد منكم هو المقول أي رسول الله كائنا من النفر الذين كثر منهم هذا القول، فوضع ما موضع من تفخيما وتعظيما لجانبه، وتحريره كان رسول الله يجيد تعبير الرؤيا، وكان له مشارك في ذلك منهم، لأن الإكثار من هذا القول لا يصدر إلا ممن تدرب فيه ووثق بإصابته كقولك كان زيد من العلماء بالنحو ومنه قول صاحبي السجن ليوسف عليه السلام {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي من المجيدين في عبارة الرؤيا، وعلماء ذلك مما رأياه منه، هذا من حيث البيان، وأما من حيث النحو فيحتمل أن يكون قوله: "هل رأى أحد منكم رؤيا" مبتدأ والخبر مقدم عليه على تأويل هذا القول مما يكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله، ثم أشار إلى ترجيح الوجه السابق والمتبادر هو الثاني وهو الذي اتفق عليه أكثر الشارحين. قوله: "فيقص" بضم أوله وفتح القاف. قوله: "ما شاء الله" في رواية يزيد "فيقص عليه من شاء الله" وهو بفتح أوله وضم القاف وهي رواية النسفي، و "ما" في الرواية الأولى للمقصوص و "من" في الثانية للقاص، ووقع في رواية جرير بن حازم "فسأل يوما فقال: هل رأى أحد رؤيا؟ قلنا: لا قال: لكن رأيت الليلة" قال الطيبي: وجه الاستدراك أنه يحب أن يعبر لهم الرؤيا، فلما قالوا ما رأينا شيئا كأنه قال: أنتم ما رأيتم شيئا لكني رأيت، وفي رواية أبي خلدة بفتح المعجمة وسكون اللام واسمه خالد بن دينار عن أبي رجاه عن سمرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد يوما فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا فليحدث بها، فلم يحدث أحد بشيء فقال: إني رأيت رؤيا فاسمعوا مني" أخرجه أبو عوانة. قوله: "وإنه قال لنا ذات غداة" لفظ: "ذات" زائد أو هو من إضافة الشيء إلى اسمه، وفي رواية جرير ابن حازم عنه "كان إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه" وفي رواية يزيد بن هارون عنه "إذا صلى صلاة الغداة" وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند مسلم: "إذا صلى الصبح"

(12/440)


وبه تظهر مناسبة الترجمة وذكر ابن أبي حاتم من طريق زيد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الفجر فجلس " الحديث بطوله نحو حديث سمرة، والراوي له عن زيد ضعيف. وأخرج أبو داود والنسائي من حديث الأعرج عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد الليلة رؤيا" وأخرج الطبراني بسند جيد عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: "إني رأيت الليلة رؤيا هي حق فاعقلوها " فذكر حديثا فيه أشياء يشبه بعضها ما في حديث سمرة، لكن يظهر من سياقه أنه حديث آخر، فإن في أوله " أتاني رجل فأخذ بيدي فاستتبعني حتى أتى جبلا طويلا وعرا فقال لي: ارقه، فقلت: لا أستطيع، فقال: إني سأسهله لك فجعلت كلما وضعت قدمي وضعتها على درجه حتى استويت على سواء الجبل، ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يقولون ما لا يعلمون" الحديث. قوله: "إنه أتاني الليلة" بالنصب. قوله: "آتيان" في رواية هوذة عن عوف عند ابن أبي شيبة: "اثنان أو آتيان" بالشك وفي رواية جرير "رأيت رجلين أتياني" وفي حديث علي "رأيت ملكين" وسيأتي في آخر الحديث أنهما "جبريل وميكائيل". قوله: "وإنهما ابتعثاني" بموحدة ثم مثناة وبعد العين المهملة مثلثة كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهني بنون ثم موحدة ومعنى ابتعثاني أرسلاني، كذا قال في الصحاح بعثه وابتعثه أرسلته، يقال ابتعثه إذا أثاره وأذهبه، وقال ابن هبيرة. معنى ابتعثاني أيقظاني، ويحتمل أن يكون رأى في المنام أنهما أيقظاه فرأى ما رأى في المنام ووصفه بعد أن أفاق على أن منامه كاليقظة، لكن لما رأى مثالا كشفه التعبير دل على أنه كان مناما. قوله: "وإني انطلقت معهما" زاد جرير بن حازم في روايته: "إلى الأرض المقدسة " وعند أحمد إلى أرض فضاء أو أرض مستوية، وفي حديث علي "فانطلقا بي إلى السماء". قوله: "وإنا أتينا على رجل مضطجع" في رواية جرير "مستلق على قفاه". قوله: "وإذا آخر قائم عليه بصخرة" في رواية جرير " بفهر أو صخرة"، وفي حديث على " فمررت على ملك وأمامه آدمي وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الآدمي". قوله: "يهوي" بفتح أوله وكسر الواو أي يسقط، يقال هوى بالفتح يهوى هويا سقط إلى أسفل، وضبطه ابن التين بضم أوله من الرباعي، ويقال أهوى من بعد وهوى بفتح الواو من قرب. قوله: "بالصخرة لرأسه فيثلغ" بفتح أوله وسكون المثلثة وفتح اللام بعدها غين معجمة أي يشدخه، وقد وقع في رواية جرير "فيشدخ" والشدخ كسر الشيء الأجوف. قوله: "فيتدهده الحجر" بفتح المهملتين بينهما هاء ساكنة. وفي رواية الكشميهني فيتدأدأ بهمزتين بدل الهاءين، وفي رواية النسفي وكذا هو في رواية جرير بن حازم "فيتدهدأ" بهاء ثم همزة وكل بمعنى. والمراد أنه دفعه من علو إلى أسفل، وتدهده إذا انحط، والهمزة تبدل من الهاء كثيرا وتدأدأ تدحرج وهو بمعناه. قوله: "هاهنا" أي إلى جهة الضارب. قوله: "فيتبع الحجر" أي الذي رمى به "فيأخذه" في رواية جرير "فإذا ذهب ليأخذه". قوله: "فلا يرجع إليه" أي إلى الذي شدخ رأسه. قوله: "حتى يصح رأسه" في رواية جرير حتى "يلتئم" وعند أحمد " عاد رأسه كما كان " وفي حديث علي فيقع دماغه جانبا وتقع الصخرة جانبا. قوله: "ثم يعود عليه" في رواية جرير "فيعود إليه". قوله: "مثل ما فعل به مرة الأولى" كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما وكذا في رواية النضر بن شميل عن عوف عند أبي عوانة "المرة الأولى" وهو المراد بالرواية الأخرى وفي رواية جرير "فيصنع مثل ذلك" قال ابن العربي: جعلت العقوبة في رأس هذه النومة عن الصلاة والنوم موضعه الرأس.

(12/441)


قوله: "انطلق انطلق" كذا في المواضع كلها بالتكرير، وسقط في بعضها التكرار لبعضهم، وأما في رواية جرير فليس فيها سبحان الله وفيها "انطلق" مرة واحدة. قوله: "فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد" تقدم في الجنائز ضبط الكلوب وبيان الاختلاف فيه، ووقع في حديث علي " فإذا أنا بملك وأمامه آدمي. وبيد الملك كلوب من حديد فيضعه في شدقه الأيمن فيشقه " الحديث، قوله: "فيشرشر شدقه إلى قفاه" أي يقطعه شقا، والشدق جانب الفم، وفي رواية جرير "فيدخله في شقه فيشقه حتى يبلغ قفاه". قوله: "ومنخره" كذا بالإفراد وهو المناسب. وفي رواية جرير "ومنخريه" بالتثنية. قوله: "قال وربما قال أبو رجاء فيشق" أي بدل فيشرشر، وهذه الزيادة ليست عند محمد بن جعفر. قوله: "ثم يتحول إلى الجانب الآخر إلخ" اختصره في رواية جرير بن حازم ولفظه: "ثم يخرجه، فيدخله في شقه الآخر ويلتئم هذا الشق فهو يفعل ذلك به " قال ابن العربي: شرشرة شدق الكاذب إنزال العقوبة بمحل المعصية، وعلى هذا تجرى العقوبة في الآخرة بخلاف الدنيا. ووقعت هذه القصة مقدمة في رواية جرير على قصة الذي يشدخ رأسه. قال الكرماني: الواو لا ترتب، والاختلاف في كونه مستلقيا وفي الأخرى مضطجعا والآخر كان جالسا وفي الأخرى قائما يحمل على اختلاف حال كل منهما. قوله: "فأتينا على مثل التنور" في رواية محمد بن جعفر "مثل بناء التنور" زاد جرير "أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نارا" كذا فيه بالنصب ووقع في رواية أحمد "تتوقد تحته نار" بالرفع وهي رواية أبي ذر وعليها اقتصر الحميدي في جمعه وهو واضح. وقال ابن مالك في كلامه على مواضع من البخاري "يوقد تحته نارا" بالنصب على التمييز وأسند يوقد إلى ضمير عائد على النقب كقولك مررت بامرأة يتضوع من أردانها طيبا والتقدير يتضوع طيب من أردانها، فكأنه قال: توقد ناره تحته فيصح نصب نارا على التمييز " قال ويجوز أن يكون فاعل توقد موصولا بتحته فحذف وبقيت صلته دالة عليه لوضوح المعنى، والتقدير يتوقد الذي تحته نارا وهو على التمييز أيضا، وذكر لحذف الموصول في مثل هذا عدة شواهد. قوله: "وأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات" في رواية جرير "ثقب قد بنى بناء التنور وفيه رجال ونساء". قوله: "وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا" بغير همزة للأكثر وحكى الهمز أي رفعوا أصواتهم مختلطة ومنهم من سهل الهمزة، قال في النهاية: الضوضاة أصوات الناس ولغطهم وكذا الضوضى بلا هاء مقصور، وقال الحميدي: المصدر بغير همز، وفي روية جرير " فإذا اقتربت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا" وعند أحمد "فإذا أوقدت" بدل "اقتربت". قوله: "فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم" في رواية جرير بن حازم "على نهر من دم" ولم يقل حسبت. قوله: "سابح يسبح" بفتح أوله وسكون المهملة بعدها موحدة مفتوحة ثم حاء مهملة أي يعوم. قوله: "سبح ما سبح" بفتحتين والموحدة خفيفة. قوله: "ثم يأتي ذلك الذي" فاعل "يأتي" هو السابح. وذلك في موضع نصب على المفعولية، قوله: "فيفغر" بفتح أوله وسكون الفاء وفتح الغين المعجمة بعدها راء أي يفتحه وزنه ومعناه. قوله: "كلما رجع إليه" في رواية المستملي: "كما رجع إليه ففغر له فاه" ووقع في رواية جرير بن حازم "فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه ورده حيث كان" ويجمع بين الروايتين أنه إذا أراد أن يخرج فغر فاه وأنه يلقمه الحجر يرميه إياه. قوله: "كريه المرآة" بفتح الميم وسكون الراء وهمزة ممدودة بعدها هاء تأنيث، قال ابن التين: أصله المرأية تحركت الياء وانفتح ما قبلها

(12/442)


فقلبت ألفا وزنه مفعلة. قوله: "كأكره ما أنت راء رجلا مرآة" بفتح الميم أي قبيح المنظر. قوله: "فإذا عنده نار" في رواية يحيى بن سعيد القطان عن عوف عند الإسماعيلي: "عند نار". قوله: "يحشها" بفتح أوله وبضم الحاء المهملة وتشديد الشين المعجمة من، الثلاثي، وحكى في المطالع ضم أوله من الرباعي، وفي رواية جرير بن حازم "يحششها" بسكون الحاء وضم الشين المعجمة المكررة. قوله: "ويسعى حولها" في رواية جرير "ويوقدها" وهو تفسير يحشها قال الجوهري: حششت النار أحشها حشا أو قدتها، وقال في التهذيب: حششت النار بالحطب ضممت ما تفرق من الحطب إلى النار، وقال ابن العربي: حش ناره حركها. قوله: "فأتينا على روضة معتمة" بضم الميم وسكون المهملة وكسر المثناة وتخفيف الميم بعدها هاء تأنيث، ولبعضهم بفتح المثناة وتشديد الميم يقال أعتم البيت إذا اكتهل ونخلة عتيمة طويلة، وقال الداودي أعتمت الروضة غطاها الخصب، وهذا كله على الرواية بتشديد الميم، قال ابن التين: ولا يظهر: للتخفيف وجه قلت: الذي يظهر أنه من العتمة وهو شدة الظلام فوصفها بشدة الخضرة كقوله تعالى :{مُدْهَامَّتَانِ} وضبط ابن بطال روضة مغنمة بكسر الغين المعجمة وتشديد النون، ثم نقل عن ابن دريد: واد أغن ومغن إذا كثر شجره، وقال الخليل: روضة غناء كثيرة العشب، وفي رواية جرير بن حازم "روضة خضراء وإذا فيها شجرة عظيمة". قوله: "من كل لون الربيع" كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهني: "نور" بفتح النون وبراء بدل "لون" وهي رواية النضر بن شميل عند أبي عوانة، والنور بالفتح الزهر. قوله: "وإذا بين ظهري الروضة" بفتح الراء وكسر الياء التحتانية تثنية ظهر، وفي رواية يحيي بن سعيد "بين ظهراني" وهما بمعنى والمراد وسطها. قوله: "رجل طويل" زاد النضر "قائم". قوله: "لا أكاد أرى رأسه طولا" بالنصب على التمييز، قوله: "وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط" قال الطيبي: أصل هذا الكلام وإذا حول الرجل ولدان ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم، ونظيره. قوله بعد ذلك "لم أر روضة قط أعظم منها" ولما إن كان هذا التركيب يتضمن معنى النفي جازت زيادة "من وقط" التي تختص بالماضي المنفي وقال ابن مالك جاز استعمال قط في المثبت في هذه الرواية وهو جائز وغفل أكثرهم عن ذلك فخصوه بالماضي المنفي. قلت: والذي وجهه به الطيبي حسن جدا، ووجهه الكرماني بأنه يجوز أن يكون اكتفى بالنفي الذي يلزم من التركيب إذ المعنى: ما رأيتهم أكثر من ذلك، أو النفي مقدر. وسبق نظيره في قوله في صلاة الكسوف "فصلى بأطول قيام رأيته قط". قوله: "فقلت لهما ما هؤلاء" في بعض الطرق "ما هذا" وعليها شرح الطيبي. قوله: "فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قال قالا لي: ارق فارتقيت فيها" في رواية أحمد والنسائي وأبي عوانة والإسماعيلي: "إلى دوحة" بدل "روضة" والدوحة الشجرة الكبيرة، وفيه: "فصعدا بي في الشجرة" وهي التي تناسب الرقي والصعود. قوله: "فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة" اللبن بفتح، اللام وكسر الموحدة جمع لبنة وأصلها ما يبني به من طين وفي رواية جرير بن حازم " فأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وفتيان. ثم أخرجاني منها فأدخلاني دارا هي أحسن منها". قوله: "فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم" بفتح الخاء وسكون اللام بعدها قاف أي هيئتهم، وقوله شطر مبتدأ وكأحسن الخبر والكاف زائدة والجملة صفة رجال، وهذا الإطلاق يحتمل أن يكون المراد أن نصفهم حسن كله ونصفهم قبيح كله، ويحتمل أن يكون كل واحد منهم نصفه حسن ونصفه قبيح، والثاني هو المراد، ويؤيده قولهم في صفته "هؤلاء قوم خلطوا" أي عمل كل منهم عملا

(12/443)


صالحا وخلطه بعمل سيء. قوله: "فقعوا في ذلك النهر" بصيغة فعل الأمر بالوقوع، والمراد أنهم ينغمسون فيه ليغسل تلك الصفة بهذا الماء الخاص. قوله: "نهر معترض" أي يجرى عرضا. قوله: "كأن ماءه المحض" بفتح الميم وسكون المهملة بعدها ضاد معجمة هو اللبن الخالص عن الماء حلوا كان أو حامضا، وقد بين جهة التشبيه بقوله: "من البياض " وفي رواية النسفي والإسماعيلي: "في البياض" قال الطيبي. كأنهم سموا اللبن بالصفة ثم استعمل في كل صاف قال: ويحتمل أن يراد بالماء المذكور عفو الله عنهم أو التوبة منهم كما في الحديث: "اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد". قوله: "ذهب ذلك السوء عنهم" أي صار القبيح كالشطر الحسن، فذلك قال: وصاروا في أحسن صورة. قوله: "قالا لي هذه جنة عدن" يعني المدينة. قوله: "فسما" بفتح السين المهملة وتخفيف الميم أي نظر إلى فوق، و قوله: "صعدا" بضم المهملتين أي ارتفع كثرا " وضبطه ابن التين بفتح العين واستبعد ضمها". قوله: "مثل الربابة" بفتح الراء وتخفيف الموحدتين المفتوحتين وهي السحابة البيضاء، ويقال لكل سحابة منفردة دون السحاب ولو لم تكن بيضاء، وقال الخطابي: الربابة السحابة التي ركب بعضها على بعض، وفي رواية جرير "فرفعت رأسي فإذا هو في السحاب". قوله: "ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا وأنت داخله" في رواية جرير بن حازم "فقلت دعاني أدخل منزلي، قالا: أنه بقي لك عمر لم تستكمله، ولو استكملته أتيت منزلك". قوله: "فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت، قال قالا أما" بتخفيف الميم "إنا سنخبرك" في رواية جرير، فقلت طوفتما بي الليلة " وهي بموحدة ولبعضهم بنون " فأخبراني عما رأيت، قال نعم". قوله: "فيرفضه" بكسر الفاء ويقال بضمها قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس. قوله: "وينام عن الصلاة المكتوبة" هذا أوضح من رواية جرير بن حازم بلفظ: "علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار " فإن ظاهره أنه يعذب على ترك قراءة القرآن بالليل، بخلاف رواية عوف فإنه على تركه الصلاة المكتوبة، ويحتمل أن يكون التعذيب على مجموع الأمرين ترك القراءة وترك العمل. قوله: "يغدو من بيته" أي يخرج منه مبكرا. قوله: "فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق" في رواية جرير بن حازم " فكذوب يحدث بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة " وفي رواية موسى بن إسماعيل في أواخر الجنائز " والرجل الذي رأيته يشق شدقه فكذاب " قال ابن مالك: لا بد من جعل الموصوف الذي هنا للمعين كالعام حتى جاز دخول الفاء في خبره، أي المراد هو وأمثاله، كذا نقله الكرماني، ولفظ ابن مالك في هذا شاهد على أن الحكم قد يستحق بجزء العلة، وذلك أن المبتدأ لا يجوز دخول الفاء على خبره إلا إذا كان شبيها بمن الشرطية في العموم واستقبال ما يتم به المعنى، نحو الذي يأتيني فمكرم، لو كان المقصود بالذي معينا زالت مشابهته بمن وامتنع دخول الفاء على الخبر كما يمتنع دخولها على أخبار المبتدآت المقصود بها التعيين نحو زيد فمكرم لم يجز، فكذا الذي لا يجوز الذي يأتيني إذا قصدت به معينا، لكن الذي يبني عند قصد التعيين شبيه في اللفظ بالذي يأتيني عند قصد العموم فجاز دخول الفاء حملا للشبيه على الشبيه، ونظيره قوله تعالى :{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فإن مدلول "ما" معين ومدلول "أصابكم" ماض، إلا أنه روعي فيه التشبيه اللفظي لشبه هذه الآية بقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فأجرى "ما في" مصاحبة الفاء مجرى واحدا انتهى. قال الطيبي: هذا كلام متين،

(12/444)


لكن جواب الملكين تفصيل لتلك الرؤيا المتعددة المبهمة لا بد من ذكر كلمة التفصيل أو تقديرها فالفاء جواب أما ثم قال: والفاء في قوله: "فأولاد الناس" جاز دخولها على الخبر لأن الجملة معطوفة على مدخول "أما" في قوله: "أما الرجل" وقد تحذف الفاء في بعض المحذوفات نظرا إلى أن أما لما حذفت حذف مقتضاها وكلاهما جائز وبالله التوفيق. وقوله تحمل بالتخفيف للأكثر ولبعضهم بالتشديد، وإنما استحق التعذيب لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد وهو فيها مختار غير مكره ولا ملجأ. قال ابن هبيرة: لما كان الكاذب يساعد أنفه وعينه لسانه على الكذب بترويج باطله وقعت المشاركة بينهم في العقوبة. قوله: "في مثل بناء التنور" في رواية جرير "والذي رأيته في النقب". قوله: "فهم الزناة" مناسبة العرى لهم لاستحقاقهم أن يفضحوا لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة فعوقبوا بالهتك، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم كون جنايتهم من أعضائهم السفلى. قوله: "فإنه آكل الربا" قال ابن هبيرة إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة لأن أصل الربا يجرى في الذهب والذهب أحمر، وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئا وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من ورائه محقه. قوله: "الذي عند النار" في رواية الكشميهني: "عنده النار". قوله: "خازن جهنم" إنما كان كريه الرؤية لأن في ذلك زيادة في عذاب أهل النار. قوله: "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم" في رواية جرير " والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم " وإنما اختص إبراهيم لأنه أبو المسلمين، قال تعالى :{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وقال تعالى :{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الآية "وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة" في رواية النضر بن شميل "ولد على الفطرة" وهي أشبه بقوله في الرواية الأخرى "وأولاد المشركين" وفي رواية جرير "فأولاد الناس" لم أر ذلك إلا في هذه الطريق، ووقع في حديث أبي أمامة الذي نبهت عليه في أول شرح هذا الحديث: "ثم انطلقنا فإذا نحن بجوار وغلمان يلعبون بين نهرين، فقلت ما هؤلاء قال: ذرية المؤمنين". قوله: "فقال بعض المسلمين" لم أقف على اسمه. قوله: "وأولاد المشركين" تقدم البحث فيه مستوفي في أواخر الجنائز وظاهره أنه صلى الله عليه وسلم ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة ولا يعارض قوله: هم من آبائهم لأن ذلك حكم الدنيا. قوله: "وأما القوم الذين كانوا شطرا منهم حسن وشطرا منهم قبيح" كذا في الموضعين بنصب شطرا ولغير أبي ذر " شطر " في الموضعين بالرفع وحسنا وقبيحا بالنصب ولكل وجه، وللنسفي والإسماعيلي بالرفع في الجميع، وعليه اقتصر الحميدي في جمعه و " كان " في هذه الرواية تامة والجملة حالية، وزاد جرير بن حازم في روايته: "والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وهذه الدار دار الشهداء وأنا جبريل وهذا ميكائيل " وفي حديث أبي أمامة " ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء أقبح شيء منظرا وأنتنه ريحا كأنما ريحهم المراحيض، قلت ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزواني والزناة. ثم انطلقنا فإذا نحن بموتى أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا، قلت: ما هؤلاء قال: هؤلاء موتى الكفار. ثم انطلقنا فإذا نحن برجال نيام تحت ظلال الشجر، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى المسلمين. ثم انطلقنا فإذا نحن برجال أحسن شيء وجها وأطيبه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال، هؤلاء الصديقون والشهداء والصالحون " الحديث. وفي هذا الحديث من الفوائد أن الإسراء وقع مرارا يقظة ومناما على أنحاء شتى. وفيه أن بعض العصاة يعذبون في البرزخ. وفيه نوع من تلخيص العلم وهو أن يجمع القضايا جملة ثم يفسرها على الولاء ليجتمع تصورها في الذهن، والتحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة، وعن رفض القرآن

(12/445)


لمن يحفظه، وعن الزنا وأكل الربا وتعمد الكذب، وأن الذي له قصر في الجنة لا يقيم فيه وهو في الدنيا بل إذا مات، حتى النبي والشهيد. وفيه الحث على طلب العلم واتباع من يلتمس منه ذلك. وفيه فضل الشهداء وأن منازلهم في الجنة أرفع المنازل، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا أرفع درجة من إبراهيم عليه السلام لاحتمال أن إقامته هناك بسبب كفالته الولدان، ومنزله هو في المنزلة التي هي أعلى من منازل الشهداء كما تقدم في الإسراء أنه رأى آدم في السماء الدنيا، وإنما كان كذلك لكونه يرى نسم بنيه من أهل الخير ومن أهل الشر فيضحك ويبكي مع أن منزلته هو في عليين، فإذا كان يوم القيامة استقر كل منهم في منزلته. وفيه أن من استوت حسناته وسيئاته يتجاوز الله عنهم، اللهم تجاوز عنا برحمتك يا أرحم الراحمين. وفيه أن الاهتمام بأمر الرؤيا بالسؤال عنها وفضل تعبيرها واستحباب ذلك بعد صلاة الصبح لأنه الوقت الذي يكون فيه البال مجتمعا. وفيه استقبال الإمام أصحابه بعد الصلاة إذا لم يكن بعدها راتبة وأراد أن يعظهم أو يفتيهم أو يحكم بينهم. وفيه أن ترك استقبال القبلة للإقبال عليهم لا يكره بل يشرع كالخطيب، قال الكرماني: مناسبة العقوبات المذكورة فيه للجنايات ظاهرة إلا الزناة ففيها خفاء، وبيانه أن العرى فضيحة كالزنا، والزاني من شأنه طلب الخلوة فناسب التنور، ثم هو خائف حذر حال الفعل كأن تحته النار. وقال أيضا: الحكمة في الاقتصار على من ذكر من العصاة دون غيرهم أن العقوبة تتعلق بالقول أو الفعل، فالأول على وجود ما لا ينبغي منه أن يقال، والثاني إما بدني وإما مالي فذكر لكل منهم مثال ينبه به على من عداه، كما نبه بمن ذكر من أهل الثواب وأنهم أربع درجات. درجات النبي، ودرجات الأمة أعلاها الشهداء، وثانيها من بلغ، وثالثها من كان دون البلوغ انتهى ملخصا
"خاتمة": اشتمل كتاب التعبير من الأحاديث المرفوعة على تسعة وتسعين حديثا، الموصول منه اثنان وثمانون والبقية ما بين معلق ومتابعة، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وسبعون طريقا والبقية خالصة، وافقه مسلم على تخريجها إلا حديث أبي سعيد "إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها" وحديث: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين" وحديث عكرمة عن ابن عباس وهو يشتمل على ثلاثة أحاديث "من تحلم، ومن استمع، ومن صور" وحديث ابن عمر "من أفرى الفرى أن يرى عينيه ما لم ير" وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرة. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
"تم الجزء الثاني عشر ويليه إن شاء الله الجزء الثالث عشر أوله كتاب الفتن"

(12/446)


المجلد الثالث عشر
كتاب الفتن
مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 - المجلد الثالث عشر
2 - كِتَاب الْفِتَنِ
قوله "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الفتن" في رواية كريمة والأصيلي تأخير البسملة. والفتن جمع فتنة، قال الراغب: أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ويستعمل في إدخال الإنسان النار ويطلق على العذاب كقوله: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} ، وعلى ما يحصل عند العذاب كقوله تعالى :{ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ، وعلى الاختبار كقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} ، وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، قال تعالى :{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ومنه قوله: "وإن كادوا ليفتنونك" أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحي إليك. وقال أيضا الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات: فإن كانت من الله فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة، فقد ذم الله الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وقوله: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات" وقوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} وقوله: "بأيكم المفتون" كقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} وقال غيره: أصل الفتنة الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك.
1 - باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَذِّرُ مِنْ الْفِتَنِ
7049 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا بشر بن السري حدثنا نافع بن عمر عن بن أبي مليكة قال قالت أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أنا على حوضي نتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول أمتي فيقول لا تدري مشوا على القهقري قال بن أبي مليكة اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن"
7049 - حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن أبي وائل قال قال عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا فرطكم على الحوض فليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني فأقول أي رب أصحابي يقول لا تدري ما أحدثوا بعدك"
7050, 7051 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ

(13/3)


أَبِي عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلًا فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فِيهِ قَالَ إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي"أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال هكذا سمعت سهلا فقلت نعم قال وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه قال إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي"
قوله: "باب ما جاء في قول الله تعالى :{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} قلت: ورد فيه ما أخرجه أحمد والبزار من طريق مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: "قلنا للزبير - يعني في قصة الجمل - يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل - يعني عثمان - بالمدينة ثم جئتم تطلبون بدمه - يعني بالبصرة - فقال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة"، لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت " وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري قال: "قال الزبير: لقد خوفنا بهذه الآية ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ظننا أنا خصصنا بها " وأخرجه النسائي من هذا الوجه نحوه وله طرق أخرى عن الزبير عند الطبري وغيره. وأخرج الطبري من طريق السدي قال: نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل، وعند ابن أبي شيبة نحوه: وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب " ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة " أخرجه أحمد بسند حسن وهو عند أبي داود من حديث العرس بن عميرة وهو أخو عدي، وله شواهد من حديث حذيفة وجرير وغيرهما عند أحمد وغيره. قوله: "وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر" بالتشديد "من الفتن" يشير إلى ما تضمنه حديث الباب من الوعيد على التبديل والإحداث، فإن الفتن غالبا إنما تنشأ عن ذلك، ثم ذكر حديث أسماء بنت أبي بكر مرفوعا: "أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس ذات الشمال " الحديث وحديث عبد الله بن مسعود رفعه: "أنا فرطكم على الحوض فليرفعن إلي أقوام " الحديث، وحديث سهل بن سعد بمعناه، ومعه حديث أبي سعيد وفي جميعها " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " لفظ ابن مسعود والآخرين بمعناه، وقد تقدمت في ذكر الحوض آخر كتاب الرقاق وتقدم شرحها في " باب الحشر " قبل ذلك في كتاب الرقاق أيضا، وقوله في حديث أسماء " حدثنا بشر بن السري " هو بكسر الموحدة وسكون المعجمة وأبوه بفتح المهملة وكسر الراء بعدها ياء ثقيلة، وبشر بصري سكن مكة وكان صاحب مواعظ فلقب الأفوه، وهو ثقة عند الجميع إلا أنه كان تكلم في شيء يتعلق برؤية الله في الآخرة فقام عليه الحميدي فاعتذر وتنصل فتكلم فيه بعضهم حتى قال ابن معين رأيته بمكة يدعو على من ينسبه لرأي جهم. وقال ابن عدي: له أفراد وغرائب. قلت: وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وضح أنه متابعة وقوله في حديث سهل " من ورده شرب " وقع في رواية الكشميهني: "يشرب " وقوله: "لم يظمأ " قيل هو كناية عن أنه يدخل الجنة لأنه صفة من يدخلها، وفي حديث أبي سعيد " إنك لا تدري ما بدلوا " وقع في رواية الكشميهني: "ما أحدثوا " وحاصل ما حمل عليه حال المذكورين أنهم إن كانوا ممن ارتد عن الإسلام فلا إشكال في تبرى النبي صلى الله عليه وسلم منهم وإبعادهم، وإن كانوا ممن لم يرتد لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعة من اعتقاد القلب فقد أجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتباعا لأمر الله فيهم حتى يعاقبهم على جنايتهم،

(13/4)


ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمته فيخرجون عند إخراج الموحدين من النار والله أعلم.

(13/5)


2- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ
7052 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ
7053 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً
[الحديث 7053 – طرفاه في: 7054, 7143]
7054 - حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن الجعد أبي عثمان حدثني أبو رجاء العطاردي قال "سمعت بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية"
7055 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ"
7056 – "فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"
[الحديث 7056 – طرفاه في: 7200]
7057 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِي قَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أمورا تنكرونها" هذا اللفظ بعض المتن المذكور في ثاني أحاديث الباب وهي ستة أحاديث" الأول قوله: "وقال عبد الله بن زيد إلخ" هو طرف من حديث وصله المصنف في غزوة

(13/5)


حنين من كتاب المغازي وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار " إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " وتقدم شرحه هناك. قوله: "حدثنا زيد بن وهب" للأعمش فيه شيخ آخر أخرجه الطبراني في الأوسط من رواية يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة مثل رواية زيد بن وهب. قوله: "عبد الله" هو ابن مسعود وصرح به في رواية الثوري عن الأعمش في علامات النبوة. قوله: "إنكم سترون بعدي أثرة" في رواية الثوري " أثرة " وتقدم ضبط الأثرة وشرحها في شرح الحديث الذي قبله، وحاصلها الاختصاص بحظ دنيوي. قوله: "وأمورا تنكرونها" يعني من أمور الدين، وسقطت الواو من بعض الروايات فهذا بدل من أثرة، وفي حديث أبي هريرة الماضي في ذكر بني إسرائيل عن منصور هنا زيادة في أوله قال: "كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام بعده نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فيكثرون " الحديث وفيه معنى ما في حديث ابن مسعود. قوله: "قالوا فما تأمرنا" أي أن نفعل إذا وقع ذلك. قوله: "أدوا إليهم" أي إلى الأمراء "حقهم" أي الذي وجب لهم المطالبة به وقبضه سواء كان يختص بهم أو يعم. ووقع في رواية الثوري " تؤدون الحق الذي عليكم " أي بذل المال الواجب في الزكاة والنفس في الخروج إلى الجهاد عند التعيين ونحو ذلك. قوله: "وسلوا الله حقكم" في رواية الثوري " وتسألون الله الذي لكم " أي بأن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيرا منهم، وهذا ظاهره العموم في المخاطبين، ونقل ابن التين عن الداودي أنه خاص بالأنصار وكأنه أخذه من حديث عبد الله بن زيد الذي قبله، ولا يلزم من مخاطبة الأنصار بذلك أن يختص بهم فإنه يختص بهم بالنسبة إلى المهاجرين ويختص ببعض المهاجرين دون بعض، فالمستأثر من يلي الأمر ومن عداه هو الذي يستأثر عليه، ولما كان الأمر يختص بقريش ولا حظ للأنصار فيه خوطب الأنصار بأنكم ستلقون أثرة، وخوطب الجميع بالنسبة لمن يلي الأمر، فقد ورد ما يدل على التعميم، ففي حديث يزيد بن سلمة الجعفي عند الطبراني أنه قال: "يا رسول الله إن كان علينا أمراء يأخذون بالحق الذي علينا ويمنعونا الحق الذي لنا أنقاتلهم؟ قال: لا، عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " وأخرج مسلم من حديث أم سلمة مرفوعا: "سيكون أمراء فيعرفون وينكرون، فمن كره برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا " ومن حديث عوف بن مالك رفعه في حديث في هذا المعنى " قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة " وفي رواية له " بالسيف " وزاد: "وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة " وفي حديث عمر في مسنده للإسماعيلي من طريق أبي مسلم الخولاني عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر رفعه قال: "أتاني جبريل فقال: إن أمتك مفتتنة من بعدك، فقلت: من أين؟ قال: من قبل أمرائهم وقرائهم، بمنع الأمراء الناس الحقوق فيطلبون حقوقهم فيفتنون، ويتبع القراء هؤلاء الأمراء فيفتنون. قلت: فكيف يسلم من سلم منهم؟ قال بالكف والصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه" . حديث ابن عباس من وجهين في الثاني التصريح بالتحديث والسماع في موضعي العنعنة في الأول. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، والجعد هو أبو عثمان المذكور في السند الثاني، وأبو رجاء هو العطاردي واسمه عمران. قوله: "من كره من أميره شيئا فليصبر" زاد في الرواية الثانية " عليه". قوله: "فإنه من خرج من السلطان" أي من طاعة السلطان، ووقع عند مسلم: "فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان " وفي الرواية الثانية " من فارق الجماعة " وقوله: "شبرا " بكسر المعجمة

(13/6)


وسكون الموحدة وهي كناية عن معصية السلطان ومحاربته، قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكني عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق. قوله: "مات ميتة جاهلية" في الرواية الأخرى " فمات إلا مات ميتة جاهلية " وفي رواية لمسلم: "فميتته ميتة " جاهلية " وعنده في حديث ابن عمر رفعه: "من خلع يدا من طاعة لقي الله ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " قال الكرماني: الاستثناء هنا بمعنى الاستفهام الإنكاري أي ما فارق الجماعة أحد إلا جرى له كذا، أو حذفت " ما " فهي مقدرة، أو " إلا " زائدة أو عاطفة على رأي الكوفيين، والمراد بالميتة الجاهلية وهي بكسر الميم حالة الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال وليس له إمام مطاع، لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرا بل يموت عاصيا، ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي وإن لم يكن هو جاهليا، أو أن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير وظاهره غير مراد، ويؤيد أن المراد بالجاهلية التشبيه قوله في الحديث الآخر " من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه " أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان ومصححا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري في أثناء حديث طويل، وأخرجه البزار والطبراني في " الأوسط " من حديث ابن عباس وفي سنده خليد بن دعلج وفيه مقال. وقال: "من رأسه " بدل " عنقه " قال ابن بطال: في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث الذي بعده. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن عمرو" هو ابن الحارث وعند مسلم: "حدثنا عمرو بن الحارث". قوله: "عن بكير" هو ابن عبد الله بن الأشج، وعند مسلم: "حدثني بكير". قوله: "عن بسر" بضم الموحدة وسكون المهملة، ووقع في بعض النسخ بكسر أوله وسكون المعجمة وهو تصحيف، وجنادة بضم الجيم وتخفيف النون، ووقع عند الإسماعيلي من طريق عثمان بن صالح " حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو أن بكيرا حدثه أن بسر بن سعيد حدثه أن جنادة حدثه". قوله: "دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا: أصلحك الله حدث بحديث" في رواية مسلم: "حدثنا " وقولهم " أصلحك الله " يحتمل أنه أراد الدعاء له بالصلاح في جسمه ليعافى من مرضه أو أعم من ذلك، وهي كلمة اعتادوها عند افتتاح الطلب. قوله: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه" ليلة العقبة كما تقدم إيضاحه في أوائل كتاب الإيمان أول الصحيح. قوله: "فقال فيما أخذ علينا" أي اشترط علينا. قوله: "أن بايعنا" بفتح العين "على السمع والطاعة" أي له "في منشطنا" بفتح الميم والمعجمة وسكون النون بينهما "ومكرهنا" أي في حالة نشاطنا وفي الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نؤمر به. ونقل ابن التين عن الداودي أن المراد الأشياء التي يكرهونها، قال ابن التين: والظاهر أنه أراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله منشطنا. قلت: ويؤيده ما وقع في رواية إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة عند أحمد " في النشاط والكسل". قوله: "وعسرنا ويسرنا" في رواية إسماعيل بن عبيد " وعلى النفقة في العسر واليسر " وزاد: "وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". قوله: "وأثرة علينا" بفتح الهمزة والمثلثة وقد تقدم

(13/7)


موضع ضبطها في أول الباب، والمراد أن طواعيتهم لمن يتولى عليهم لا تتوقف على إيصالهم حقوقهم بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقهم. قوله: "وأن لا ننازع الأمر أهله" أي الملك والإمارة، زاد أحمد من طريق عمير بن هانئ عن جنادة " وإن رأيت أن لك - أي وإن اعتقدت أن لك - في الأمر حقا فلا تعمل بذلك الظن بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة، زاد في رواية حبان أبي النضر عن جنادة عند ابن حبان وأحمد " وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك " وزاد في رواية الوليد بن عبادة عن أبيه " وأن نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " وسيأتي في كتاب الأحكام. قوله: "إلا أن تروا كفرا بواحا" بموحدة ومهملة " قال الخطابي: معنى قوله بواحا يريد ظاهرا باديا من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه وأظهره " وأنكر ثابت في الدلائل بواحا وقال: إنما يجوز بوحا بسكون الواو وبؤاحا بضم أوله ثم همزة ممدودة. وقال الخطابي: من رواه بالراء فهو قريب من هذا المعنى، وأصل البراح الأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل البراح البيان يقال برح الخفاء إذا ظهر. وقال النووي: هو في معظم النسخ من مسلم بالواو وفي بعضها بالراء. قلت: ووقع عند الطبراني من رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب في هذا الحديث كفرا صراحا، بصاد مهملة مضمومة ثم راء، ووقع في رواية حبان أبي النضر المذكورة " إلا أن يكون معصية لله بواحا " وعند أحمد من طريق عمير بن هانئ عن جنادة " ما لم يأمروك بإثم بواحا " وفي رواية إسماعيل بن عبيد عند أحمد والطبراني والحاكم من روايته عن أبيه عن عبادة " سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله " وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه: "سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون فليس لأولئك عليكم طاعة". قوله: "عندكم من الله فيه برهان" أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم انتهى. وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرا والله أعلم. ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه. حديث أنس عن أسيد بن حضير ذكره مختصرا، وقد تقدم بتمامه مشروحا في مناقب الأنصار، والسر في جوابه عن طلب الولاية بقوله: "سترون بعدي أثرة " إرادة نفي ظنه أنه آثر الذي ولاه عليه؛ فبين له أن ذلك لا يقع في زمانه، وأنه لم يخصه بذلك لذاته بل لعموم مصلحة المسلمين، وأن الاستئثار للحظ الدنيوي إنما يقع بعده، وأمرهم عند وقوع ذلك بالصبر.

(13/8)


3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ
7058 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَمَعَنَا مَرْوَانُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ مَرْوَانُ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلاَنٍ وَبَنِي فُلاَنٍ لَفَعَلْتُ فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ حِينَ مُلِّكُوا بِالشَّأْمِ فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَانًا أَحْدَاثًا قَالَ لَنَا عَسَى هَؤُلاَءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ قُلْنَا أَنْتَ أَعْلَمُ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء" زاد في بعض النسخ لأبي ذر " من قريش " ولم يقع لأكثرهم، وقد ذكره في الباب من حديث أبي هريرة بدون قوله: "سفهاء " وذكر ابن بطال أن علي بن معبد أخرجه يعني في كتاب الطاعة والمعصية من رواية سماك عن أبي هريرة بلفظ: "على رءوس غلمة سفهاء من قريش". قلت: وهو عند أحمد والنسائي من رواية سماك عن أبي ظالم عن أبي هريرة " إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش " هذا لفظ أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن سماك عن عبد الله بن ظالم، وتابعه أبو عوانة عن سماك عند النسائي، ورواه أحمد أيضا عن زيد بن الحباب عن سفيان لكن قال: "مالك " بدل " عبد الله " ولفظه: "سمعت أبا هريرة يقول لمروان " أخبرني حبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قال: فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش. وكذا أخرجه من طريق شعبة عن سماك، ولم يقف عليه الكرماني فقال: لم يقع في الحديث الذي أورده بلفظ: "سفهاء " فلعله بوب به ليستدركه ولم يتفق له، أو أشار إلى أنه ثبت في الجملة لكنه ليس على شرطه. قلت: الثاني هو المعتمد وقد أكثر البخاري من هذا. قوله في الترجمة "أغيلمة" تصغير غلمة جمع غلام وواحد الجمع المصغر غليم بالتشديد يقال للصبي حين يولد إلى أن يحتلم غلام وتصغيره غليم وجمعه غلمان وغلمة وأغيلمة ولم يقولوا أغلمة مع كونه القياس كأنهم استغنوا عنه بغلمة، وأغرب الداودي فيما نقله عنه ابن التين فضبط أغيلمة بفتح الهمزة وكسر الغين المعجمة، وقد يطلق على الرجل المستحكم القوة غلام تشبيها له بالغلام في قوته. وقال ابن الأثير المراد بالأغيلمة هنا الصبيان ولذلك صغرهم. قلت: وقد يطلق الصبي والغليم بالتصغير على الضعيف العقل والتدبير والدين ولو كان محتلما وهو المراد هنا، فإن الخلفاء من بني أمية لم يكن فيهم من استخلف وهو دون البلوغ وكذلك من أمروه على الأعمال، إلا أن يكون المراد بالأغيلمة أولاد بعض من استخلف فوقع الفساد بسببهم فنسب إليهم، والأولى الحمل على أعم من ذلك. قوله: "حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو" زاد في علامات النبوة عن أحمد بن محمد المكي " حدثنا عمرو بن يحيى الأموي". قوله: "أخبرني جدي" هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وقد نسب يحيى في رواية عبد الصمد بن عبد الوارث عن عمرو بن يحيى إلى جد جده الأعلى فوقع في روايته: "حدثنا عمرو بن يحيى ابن العاص سمعت جدي سعيد بن العاص " فنسب سعيدا أيضا إلى والد جد جده، وأبوه عمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق قتله عبد الملك بن مروان لما خرج عليه بدمشق بعد السبعين. قوله: "كنت جالسا مع أبي هريرة" كان ذلك زمن معاوية. قوله: "ومعنا مروان" هو ابن الحكم بن أبي العاص بن

(13/9)


أمية الذي ولي الخلافة بعد ذلك، وكان يلي لمعاوية إمرة المدينة تارة وسعيد بن العاص - والد عمرو - يليها لمعاوية تارة. قوله: "سمعت الصادق المصدوق" تقدم بيانه في كتاب القدر والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في رواية عبد الصمد المذكور أن أبا هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية له أخرى " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "هلكة أمتي" في رواية المكي " هلاك أمتي " وهو المطابق لما في " الترجمة". وفي رواية عبد الصمد " هلاك هذه الأمة " والمراد بالأمة هنا أهل ذلك العصر ومن قاربهم لا جميع الأمة إلى يوم القيامة. قوله: "على يدي غلمة" كذا للأكثر بالتثنية، وللسرخسي والكشميهني: "أيدي " بصيغة الجمع، قال ابن بطال: جاء المراد بالهلاك مبينا في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه علي بن معبد وابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "أعوذ بالله من إمارة الصبيان، قالوا وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم - أي في دينكم - وإن عصيتموهم أهلكوكم " أي في دنياكم بإزهاق النفس أو بإذهاب المال أو بهما. وفي رواية ابن أبي شيبة: "أن أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول: اللهم لا تدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان " وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين وهو كذلك فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها وبقي إلى سنة أربع وستين فمات ثم ولي ولده معاوية ومات بعد أشهر، وهذه الرواية تخصص رواية أبي زرعة عن أبي هريرة الماضية في علامات النبوة بلفظ: "يهلك الناس هذا الحي من قريش " وإن المراد بعض قريش وهم الأحداث منهم لا كلهم، والمراد أنهم يهلكون ناس بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله فتفسد أحوال الناس ويكثر الخبط بتوالي الفتن، وقد وقع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: "لو أن الناس اعتزلوهم " محذوف الجواب وتقديره: لكان أولى بهم، والمراد باعتزالهم أن لا يداخلوهم ولا يقاتلوا معهم ويفروا بدينهم من الفتن، ويحتمل أن يكون " لو " للتمني فلا يحتاج إلى تقدير جواب. ويؤخذ من هذا الحديث استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك قال ابن وهب عن مالك: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا، وقد صنع ذلك جماعة من السلف. قوله: "فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة" في رواية عبد الصمد " لعنة الله عليهم من أغيلمة " وهذه الرواية تفسر المراد بقوله في رواية المكي " فقال مروان غلمة " كذا اقتصر على هذه الكلمة فدلت رواية الباب أنها مختصرة من قوله لعنة الله عليهم غلمة فكان التقدير غلمة عليهم لعنة الله أو ملعونون أو نحو ذلك، ولم يرد التعجب ولا الاستثبات. قوله: "فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت" في رواية الإسماعيلي: "من بني فلان وبني فلان لقلت " وكأن أبا هريرة كان يعرف أسماءهم وكان ذلك من الجواب الذي لم يحدث به، وتقدمت الإشارة إليه في كتاب العلم، وتقدم هناك قوله: "لو حدثت به لقطعتم هذا البلعوم". قوله: "فكنت أخرج مع جدي" قائل ذلك عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو وجده سعيد بن عمرو " وكان مع أبيه لما غلب على الشام، ثم لما قتل تحول سعيد بن عمرو إلى الكوفة فسكنها إلى أن مات. قوله: "حين ملكوا الشام" أي وغيرها لما ولوا الخلافة، وإنما خصت الشام بالذكر لأنها كانت مساكنهم من عهد معاوية. قوله: "فإذا رآهم غلمانا أحداثا" هذا يقوي الاحتمال الماضي وأن المراد أولاد من استخلف منهم، وأما تردده في أيهم المراد بحديث أبي هريرة فمن جهة كون أبي هريرة لم يفصح بأسمائهم، والذي يظهر أن المذكورين من جملتهم، وأن أولهم يزيد كما دل عليه قول أبي هريرة رأس الستين وإمارة الصبيان فإن يزيد كان غالبا ينتزع الشيوخ من إمارة البلدان الكبار ويوليها الأصاغر من أقاربه، وقوله: "قلنا أنت

(13/10)


أعلم " القائل له ذلك أولاده وأتباعه ممن سمع منه ذلك، وهذا مشعر بأن هذا القول صدر منه في أواخر دولة بني مروان بحيث يمكن عمرو بن يحيى أن يسمع منه ذلك. وقد ذكر ابن عساكر أن سعيد بن عمرو هذا بقي إلى أن وفد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك وذلك قبيل الثلاثين ومائة، ووقع في رواية الإسماعيلي أن بين تحديث عمرو بن يحيى بذلك وسماعه له من جده سبعين سنة، قال ابن بطال: وفي هذا الحديث أيضا حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار، لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء وأسماء آبائهم ولم يأمرهم بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين. "تنبيه": يتعجب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم من ولده فكأن الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة عليهم لعلهم يتعظون، وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد أخرجها الطبراني وغيره غالبها فيه مقال وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك

(13/11)


4 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ
7059 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ "عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّهَا قَالَتْ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً قِيلَ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ"
7060 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى قَالُوا لاَ قَالَ فَإِنِّي لاَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْر"ِ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ويل للعرب من شر قد اقترب" إنما خص العرب بالذكر لأنهم أو من دخل في الإسلام، وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهلاك أسرع إليهم. حديث زينب بنت جحش وهو مطابق للترجمة، ومالك بن إسماعيل شيخه فيه وهو أبو غسان النهدي، وكأنه اختار تخريج هذا الحديث عنه لتصريحه في روايته بسماع سفيان بن عيينة له من الزهري. قوله: "عن عروة" هو ابن الزبير. قوله: "عن زينب بنت أم سلمة" في رواية شعيب عن الزهري " حدثني عروة أن زينب بنت أبي سلمة حدثته". قوله: "عن أم حبيبة" في رواية شعيب " أن أم حبيبة بنت أبي سفيان حدثتها " هكذا قال بعض أصحاب سفيان بن عيينة منهم مالك بن إسماعيل هذا ومنهم عمرو بن محمد الناقد عند مسلم ومنهم سعيد بن منصور في السنن له ومنهم قتيبة وهارون بن عبد الله عند الإسماعيلي والقعنبي عند أبي نعيم، وكذا قال مسدد في مسنده، قلت وهكذا تقدم في أحاديث الأنبياء من رواية عقيل وفي علامات النبوة من رواية شعيب ويأتي في أواخر كتاب الفتن من رواية

(13/11)


محمد بن أبي عتيق كلهم عن الزهري ليس في السند حبيبة زاد جماعة من أصحاب ابن عيينة عنه ذكر حبيبة فقالوا عن زينب بنت أم سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة عن أمها أم حبيبة، هكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وسعيد بن عمرو الأشعثي وزهير بن حرب ومحمد بن يحيى بن أبي عمر أربعتهم عن سفيان عن الزهري، قال مسلم: زادوا فيه حبيبة، وهكذا أخرجه الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وغير واحد كلهم عن سفيان، قال الترمذي: جود سفيان هذا الحديث هكذا رواه الحميدي وعلي ابن المديني وغير واحد من الحفاظ عن سفيان بن عيينة، قال الحميدي قال سفيان: حفظت عن الزهري في هذا الحديث أربع نسوة زينب بنت أم سلمة عن حبيبة وهما ربيبتا النبي صلى الله عليه وسلم عن أم حبيبة عن زينب بنت جحش وهما زوجا النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق الحميدي فقال في روايته عن حبيبة بنت أم حبيبة عن أمها أم حبيبة. وقال في آخره: قال الحميدي: قال سفيان " أحفظ في هذا الحديث عن الزهري أربع نسوة قد رأين النبي صلى الله عليه وسلم ثنتين من أزواجه أم حبيبة وزينب بنت جحش وثنتين ربيبتاه زينب بنت أم سلمة وحبيبة بنت أم حبيبة أبوها عبيد الله بن جحش مات بأرض الحبشة". انتهى كلامه. وأخرجه أبو نعيم أيضا من رواية إبراهيم بن بشار الرمادي ونصر بن علي الجهضمي، وأخرجه النسائي عن عبيد الله بن سعيد وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة والإسماعيلي من رواية الأسود بن عامر كلهم عن ابن عيينة بزيادة حبيبة في السند، وساق الإسماعيلي عن هارون بن عبد الله قال قال لي الأسود بن عامر: كيف يحفظ هذا عن ابن عيينة؟ فذكره له بنقص حبيبة فقال: "لكنه حدثنا عن الزهري عن عروة عن أربع نسوة كلهن قد أدركن النبي صلى الله عليه وسلم بعضهن عن بعض " قال الدار قطني أظن سفيان كان تارة يذكرها وتارة يسقطها. قلت ورواه شريح بن يونس عن سفيان فأسقط حبيبة وزينب بنت جحش أخرجه ابن حبان، ومثله لأبي عوانة عن الليث عن الزهري ومن رواية سليمان بن كثير عن الزهري وصرح فيه بالأخبار، وسأذكر شرح المتن في آخر كتاب الفتن إن شاء الله تعالى، وحبيبة بنت عبيد الله بالتصغير ابن جحش هذه ذكرها موسى ابن عقبة فيمن هاجر إلى الحبشة فتنصر عبيد الله بن جحش ومات هناك وثبتت أم حبيبة على الإسلام فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وجهزها إليه النجاشي، وحكى ابن سعد أن حبيبة إنما ولدت بأرض الحبشة فعلى هذا تكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صغيرة فهي نظير التي روت عنها في أن كلا منهما ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وفي أن كلا منهما من صغار الصحابة، وزينب بنت جحش هي عمة حبيبة المذكورة فروت حبيبة عن أمها عن عمتها وكانت وفاة زينب قبل وفاة أم حبيبة، وزعم بعض الشراح أن رواية مسلم بذكر حبيبة تؤذن بانقطاع طريق البخاري، قلت وهو كلام من لم يطلع على طريق شعيب التي نبهت عليها، وقد جمع الحافظ عبد الغني ابن سعيد الأزدي جزءا في الأحاديث المسلسلة بأربعة من الصحابة وجملة ما فيه أربعة أحاديث، وجمع ذلك بعده الحافظ عبد القادر الرهاوي ثم الحافظ يوسف بن خليل فزاد عليه قدرها وزاد واحدا خماسيا فصارت تسعة أحاديث وأصحها حديث الباب، ثم حديث عمر في العمالة وسيأتي في كتاب الأحكام. حديث أسامة بن زيد، قوله: "عن الزهري" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان ابن عيينة " حدثنا الزهري " وأخرجه أبو نعيم في مستخرجه على مسلم من طريقه. قوله: "عن عروة عن أسامة بن زيد" في رواية الحميدي وابن أبي عمر في مسنده عن ابن عيينة عن الزهري " أخبرني عروة أنه سمع أسامة بن زيد " وقوله: "حدثنا محمود " هو ابن غيلان. قوله: "أشرف النبي صلى الله عليه وسلم" عند الإسماعيلي في رواية معمر " أوفى " وهو بمعنى أشرف أي اطلع من علو.
قوله: "على

(13/12)


أطم" بضمتين هو الحصن وقد تقدم بيانه في آخر الحج. قوله: "من آطام المدينة" تقدم في علامات النبوة عن أبي نعيم بهذا السند بلفظ: "على أطم من الآطام " فاقتضى ذلك أن اللفظ الذي ساقه هنا لفظ معمر. قوله: "هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا" وهذه الزيادة أيضا لمعمر، ولم أرها في شيء من الطرق عن ابن عيينة. قوله: "فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم" في رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان " إني لأرى مواقع الفتن " والمراد بالمواقع مواضع السقوط، والخلال النواحي، قال الطيبي: تقع مفعول ثان ويحتمل أن يكون حالا وهو أقرب، والرؤية بمعنى النظر أي كشف لي فأبصرت ذلك عيانا. قوله: "كوقع القطر" في رواية المستملي والكشميهني: "المطر " وفي رواية علامات النبوة " كمواقع القطر " وقد تقدم الكلام على هذه الرواية في آخر الحج، وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك أو عن شيء تولد عنه. ثم أن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه ثم عليه بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق وهي من جهة المشرق فلا منافاة بين حديث الباب وبين الحديث الآتي أن الفتنة من قبل المشرق، وحسن التشبيه بالمطر لإرادة التعميم لأنه إذا وقع في أرض معينة عمها ولو في بعض جهاتها، قال ابن بطال: أنذر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زينب بقرب قيام الساعة كي يتوبوا قبل أن تهجم عليهم، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج قرب قيام الساعة فإذا فتح من ردمهم ذاك القدر في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يزل الفتح يتسع على مر الأوقات، وقد جاء في حديث أبي هريرة رفعه: "ويل للعرب من شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم " قال: وهذا غاية في التحذير من الفتن والخوض فيها حيث جعل الموت خيرا من مباشرتها، وأخبر في حديث أسامة بوقوع الفتن خلال البيوت ليتأهبوا لها فلا يخوضوا فيها ويسألوا الله الصبر والنجاة من شرها.

(13/13)


5 - بَاب ظُهُورِ الْفِتَنِ
7061 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَ هُوَ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ"
وَقَالَ شُعَيْبٌ وَيُونُسُ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7062, 7063 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى فَقَالاَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لاَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ"
[الحديث 7062 – طرفه في: 7066والحديث 7064, 7065]
7064 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ "جَلَسَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى

(13/13)


فَتَحَدَّثَا فَقَالَ أَبُو مُوسَى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ"
7065 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ "إِنِّي لَجَالِسٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَبُو مُوسَى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ"
7066 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَأَحْسِبُهُ رَفَعَهُ – قَالَ: بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ: يَزُولُ فِيهَا الْعِلْمُ, وَيَظْهَرُ فِيهَا الْجَهْلُ قَالَ أَبُو مُوسَى: وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ"
7067 - وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ تَعْلَمُ الأَيَّامَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْهَرْجِ.. نَحْوَهُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ"
حديث أبي هريرة، قوله: "حدثنا عياش" بتحتانية ثقيلة ومعجمة، وشيخه عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري، وسعيد هو ابن المسيب ونسبه أبو بكر بن أبي شيبة في روايته له عن عبد الأعلى المذكور أخرجه ابن ماجه، وكذا عند الإسماعيلي من رواية عبد الأعلى وعبد الواحد وعبد المجيد بن أبي رواد كلهم عن معمر، وهو عند مسلم عن أبي بكر لكن لم يسق لفظه. قوله: "يتقارب الزمان" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي " الزمن " وهي لغة فيه. قوله: "وينقص العلم" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي والسرخسي " العمل"، ومثله في رواية شعيب عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عند مسلم، وعنده من رواية يونس عن الزهري في هذه الطريق " ويقبض العلم " ووقع مثله في رواية الأعرج عن أبي هريرة سيأتي في أواخر كتاب الفتن وهي تؤيد رواية من رواه بلفظ: "وينقص العمل " ويؤيده أيضا الحديث الذي بعده بلفظ: "ينزل الجهل ويرفع العلم". قوله: "ويكثر الهرج، قالوا يا رسول الله أيما هو" بفتح الهمزة وتشديد الياء الأخيرة بعدها ميم خفيفة وأصله أي شيء هو، ووقعت للأكثر بغير ألف بعد الميم، وضبطه بعضهم بتخفيف الياء كما قالوا إيش؟ في موضع أي شيء. وفي رواية الإسماعيلي: "وما هو؟ " وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة: "قالوا يا رسول الله وما الهرج؟ " وهذه رواية أكثر أصحاب الزهري. وفي رواية عنبسة بن خالد عن يونس عند أبي داود " قيل يا رسول الله إيش هو؟ قال: القتل القتل " وفي رواية للطبراني عن ابن مسعود " القتل والكذب". قوله: "قال القتل القتل" صريح في أن تفسير الهرج مرفوع، ولا يعارض ذلك مجيئه في غير هذه الرواية موقوفا ولا كونه بلسان الحبشة، وقد تقدم في كتاب العلم من طريق سالم بن عبد الله بن عمر " سمعت أبا هريرة " فذكر نحو حديث الباب دون قوله: "يتقارب

(13/14)


الزمان " ودون قوله: "ويلقى الشح " وزاد فيه: "ويظهر الجهل " وقال في آخره: "قيل يا رسول الله وما الهرج؟ فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل " فيجمع بأنه جمع بين الإشارة والنطق فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض كما وقع لهم في الأمور المذكورة، وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد " أن رجلا قال له: يا أبا سليمان اتق الله، فإن الفتن ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكانا لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة أيام الهرج". قوله: "وقال يونس" يعني ابن يزيد "وشعيب" يعني ابن أبي حمزة والليث وابن أخي الزهري عن الزهري عن حميد يعني ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة، يعني أن هؤلاء الأربعة خالفوا معمرا في قوله: "عن الزهري عن سعيد " فجعلوا شيخ الزهري حميدا لا سعيدا، وصنيع البخاري يقتضي أن الطريقين صحيحان، فإنه وصل طريق معمر هنا ووصل طريق شعيب في كتاب الأدب، وكأنه رأى أن ذلك لا يقدح، لأن الزهري صاحب حديث فيكون الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك إطراده في كل من اختلف عليه في شيخه إلا أن يكون مثل الزهري في كثرة الحديث والشيوخ، ولولا ذلك لكانت رواية يونس ومن تابعه أرجح، وليست رواية معمر مدفوعة عن الصحة لما ذكرته، فأما رواية يونس فوصلها مسلم كما ذكرت من طريق ابن وهب عنه ولفظه: "ويقبض العلم " وقدم " وتظهر الفتن " على " ويلقى الشح " وقال: "قالوا وما الهرج؟ قال: القتل " ولم يكرر لفظ القتل. ومثله له من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج " فذكره مقتصرا عليه، وأخرجه أبو داود من رواية عنبسة ابن خالد عن يونس بن يزيد بلفظ: "وينقص العلم " وأما رواية شعيب فوصلها المصنف في كتاب الأدب عن أبي اليمان عنه وقال في روايته: "يتقارب الزمان وينقص العمل " وفي رواية الكشميهني: "العلم " والباقي مثل لفظ معمر. وقال في روايتي يونس وشعيب عن الزهري " حدثني حميد بن عبد الرحمن " وأما رواية الليث فوصلها الطبراني في " الأوسط " من رواية عبد الله بن صالح عنه به مثل رواية ابن وهب، وأما رواية ابن أخي الزهري فوصلها الطبراني أيضا في " الأوسط " من طريق صدقة بن خالد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن ابن أخي الزهري واسمه محمد بن عبد الله بن مسلم وقال في روايته: "سمعت أبا هريرة " ولفظه مثل لفظ ابن وهب إلا أنه قال: "قلنا وما الهرج يا رسول الله؟ " وأخرجه مسلم من رواية عبد الرحمن بن يعقوب وهمام بن منبه وأبي يونس مولى أبي هريرة ثلاثتهم عن أبي هريرة قال بمثل حديث حميد بن عبد الرحمن غير أنهم لم يذكروا " ويلقى الشح". قلت: وساق أحمد لفظ همام وأوله " يقبض العلم ويقترب الزمن " وقد جاء عن أبي هريرة من طريق أخرى زيادة في الأمور المذكورة، فأخرج الطبراني في " الأوسط " من طريق سعيد بن جبير عنه رفعه: "لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتهلك الوعول وتظهر التحوت، قالوا يا رسول الله وما التحوت والوعول؟ قال الوعول وجوه الناس وأشرافهم والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس ليس يعلم بهم " وله من طريق أبي علقمة " سمعت أبا هريرة يقول إن من أشراط الساعة " تحوه وزاد كذلك " أنبأنا عبد الله بن مسعود سمعته من حبي؟ قال نعم، قلنا وما التحوت؟ قال: فسول الرجال وأهل البيوت الغامضة قلنا وما الوعول قال أهل البيوت الصالحة " قال ابن بطال: ليس في هذا الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله

(13/15)


يتقارب الزمان ومعناه والله أعلم تقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء في الحديث لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا فإذا تساووا هلكوا يعني لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف من الله يلجأ إليهم عند الشدائد ويستشفى بآرائهم ويتبرك بدعائهم ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم. وقال الطحاوي: قد يكون معناه في ترك طلب العلم خاصة والرضا بالجهل، وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم لأن درج العلم تتفاوت قال تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وإنما يتساوون إذا كانوا جهالا، وكأنه يريد غلبة الجهل وكثرته بحيث يفقد العلم بفقد العلماء قال ابن بطال: وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانا فقد نقص العلم وظهر الجهل وألقي الشح في القلوب وعمت الفتن وكثر القتل قلت: الذي يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسري على الكتاب في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية " الحديث وسأذكر مزيدا لذلك في أواخر كتاب الفتن، وعند الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: "ولينزعن القرآن من بين أظهركم يسري عليه ليلا فيذهب من أجواف الرجال فلا يبقى في الأرض منه شيء " وسنده صحيح لكنه موقوف وسيأتي بيان معارضه ظاهرا في كتاب الأحكام والجمع بينهما، وكذا القول في باقي الصفات، والواقع أن الصفات المذكورة وجدت مباديها من عهد الصحابة ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، والذي يعقبه قيام الساعة استحكام ذلك كما قررته، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاثمائة وخمسين سنة والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد لكن يقل بعضها في بعض ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث الباب الذي بعده " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه " ثم نقل ابن بطال عن الخطابي في معنى تقارب الزمان المذكور في الحديث الآخر يعني الذي أخرجه الترمذي من حديث أنس وأحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة " قال الخطابي هو من استلذاذ العيش، يريد والله أعلم أنه يقع عند خروج المهدي ووقوع الأمنة في الأرض وغلبة العدل فيها فيستلذ العيش عند ذلك وتستقصر مدته، وما زال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت ويستطيلون مدة المكروه وإن قصرت، وتعقبه الكرماني بأنه لا يناسب أخواته من ظهور الفتن وكثرة الهرج وغيرهما. وأقول: إنما احتاج الخطابي إلى تأويله بما ذكر لأنه لم يقع النقص في زمانه، وإلا فالذي تضمنه الحديث قد وجد في زماننا هذا فإنا نجد من سرعة مر الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا وإن لم يكن هناك عيش مستلذ، والحق أن المراد نزع البركة من كل شيء حتى من الزمان وذلك من علامات قرب الساعة. وقال بعضهم: معنى تقارب الزمان استواء الليل والنهار، قلت وهذا مما قالوه في قوله: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب " كما تقدم بيانه فيما مضى. ونقل ابن التين عن الداودي أن معنى حديث الباب أن ساعات النهار تقصر قرب قيام الساعة ويقرب النهار من

(13/16)


الليل انتهى، وتخصيصه ذلك بالنهار لا معنى له بل المراد نزع البركة من الزمان ليله ونهاره كما تقدم. قال النووي تبعا لعياض وغيره: المراد بقصره عدم البركة فيه وأن اليوم مثلا يصير الانتفاع به بقدر الانتفاع بالساعة الواحدة، قالوا وهذا أظهر وأكثر فائدة وأوفق لبقية الأحاديث، وقد قيل في تفسير قوله: "يتقارب الزمان " قصر الأعمار بالنسبة إلى كل طبقة فالطبقة الأخيرة أقصر أعمارا من الطبقة التي قبلها، وقيل تقارب أحوالهم في الشر والفساد والجهل، وهذا اختيار الطحاوي، واحتج بأن الناس لا يتساوون في العلم والفهم، فالذي جنح إليه لا يناسب ما ذكر معه، إلا أن نقول إن الواو لا ترتب فيكون ظهور الفتن أولا ينشأ عنها الهرج " ثم يخرج المهدي فيحصل الأمن". قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره على ما وقع في حديث: "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر " وعلى هذا فالقصر يحتمل أن يكون حسيا ويحتمل أن يكون معنويا، أما الحسي فلم يظهر بعد ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة، وأما المعنوي فله مدة منذ ظهر يعرف ذلك أهل العلم الديني ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك ويشكون ذلك ولا يدرون العلة فيه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات ففيها من الحرام المحض ومن الشبه ما لا يخفى حتى إن كثيرا من الناس لا يتوقف في شيء ومهما قدر على تحصيل شيء هجم عليه ولا يبالي، والواقع أن البركة في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما يكون من طريق قوة الإيمان واتباع الأمر واجتناب النهي، والشاهد لذلك قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} انتهى ملخصا. وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان تسارع الدول إلى الانقضاء والقرون إلى الانقراض فيتقارب زمانهم وتتدانى أيامهم، وأما قول ابن بطال إن بقية الحديث لا تحتاج إلى تفسير فليس كما قال، فقد اختلف أيضا في المراد بقوله: "ينقص العلم " فقيل المراد نقص علم كل عالم بأن يطرأ عليه النسيان مثلا، وقيل نقص العلم بموت أهله فكلما مات عالم في بلد ولم يخلفه غيره نقص العلم من تلك البلد، وأما نقص العمل فيحتمل أن يكون بالنسبة لكل فرد فرد، فإن العامل إذا دهمته الخطوب ألهته عن أوراده وعبادته، ويحتمل أن يراد به ظهور الخيانة في الأمانات والصناعات. قال ابن أبي جمرة: نقص العمل الحسي ينشأ عن نقص الدين ضرورة، وأما المعنوي فبحسب ما يدخل من الخلل بسبب سوء المطعم وقلة المساعد على العمل، والنفس ميالة إلى الراحة وتحن إلى جنسها، ولكثرة شياطين الإنس الذين هم أضر من شياطين الجن. وأما قبض العلم فسيأتي بسط القول فيه في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وأما قوله: "ويلقى الشح " فالمراد إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم حتى يبخل العالم بعلمه فيترك التعليم والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير، وليس المراد وجود أصل الشح لأنه لم يزل موجودا. والمحفوظ في الروايات " يلقى " بضم أوله من الرباعي. وقال الحميدي لم تضبط الرواة هذا الحرف، ويحتمل أن يكون بفتح اللام وتشديد القاف أي يتلقى ويتعلم ويتواصى به كما في قوله: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} قال: والرواية بسكون اللام مخففا تفسد المعنى لأن الإلقاء بمعنى الترك ولو ترك لم يكن موجودا وكان مدحا والحديث ينبئ بالذم. قلت: وليس المراد بالإلقاء هنا أن الناس يلقونه، وإنما المراد أنه يلقى إليهم أي يوقع في قلوبهم ومنه {أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} قال الحميدي

(13/17)


ولو قيل بالفاء مع التخفيف لم يستقم لأنه لم يزل موجودا. قلت: لو ثبتت الرواية بالفاء لكان مستقيما، والمعنى أنه يوجد كثيرا مستفيضا عند كل أحد كما تقدمت الإشارة إليه. وقال القرطبي في التذكرة: يجوز أن يكون " يلقى " بتخفيف اللام والفاء أي يترك لأجل كثرة المال وإفاضته حتى يهم ذا المال من يقبل صدقته فلا يجد، ولا يجوز أن يكون بمعنى يوجد لأنه ما زال موجودا، كذا جزم به، وقد تقدم ما يرد عليه، وأما قوله: "وتظهر الفتن " فالمراد كثرتها واشتهارها وعدم التكاتم بها والله المستعان. قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون إلقاء الشح عاما في الأشخاص، والمحذور من ذلك ما يترتب عليه مفسدة، والشحيح شرعا هو من يمنع ما وجب عليه وإمساك ذلك ممحق للمال مذهب لبركته، ويؤيده " ما نقص مال من صدقة " فإن أهل المعرفة فهموا منه أن المال الذي يخرج منه الحق الشرعي لا يلحقه آفة ولا عاهة بل يحصل له النماء، ومن ثم سميت الزكاة لأن المال ينمو بها ويحصل فيه البركة انتهى ملخصا. قال: وأما ظهور الفتن فالمراد بها ما يؤثر في أمر الدين، وأما كثرة القتل فالمراد بها ما لا يكون على وجه الحق كإقامة الحد والقصاص. قوله: "حدثنا مسدد حدثنا عبيد الله بن موسى" كذا وقع عند أبي ذر عن شيوخه في نسخة معتمدة وسقط في غيرها. وقال عياض: ثبت للقابسي عن أبي زيد المروزي وسقط مسدد للباقين وهو الصواب. قلت: وعليه اقتصر أصحاب الأطراف. قوله: "كنت مع عبد الله" هو ابن مسعود، وأبو موسى هو الأشعري. قوله: "فقالا" يظهر من الروايتين اللتين بعدها أن الذي تلفظ بذلك هو أبو موسى لقوله في روايته: "فقال أبو موسى " فذكره، ولا يعارض ذلك الرواية الثالثة من طريق واصل عن أبي وائل عن عبد الله وأحسبه رفعه قال: "بين يدي الساعة " فذكره لاحتمال أن يكون أبو وائل سمعه من عبد الله أيضا لدخوله في قوله في رواية الأعمش " قالا " وقد اتفق أكثر الرواة عن الأعمش على أنه عن عبد الله وأبي موسى معا، ورواه أبو معاوية عن الأعمش فقال: "عن أبي موسى " ولم يذكر عبد الله أخرجه مسلم، وأشار ابن أبي خيثمة إلى ترجيح قول الجماعة وأما رواية عاصم المعلقة التي ختم بها الباب فلولا أنه دون الأعمش وواصل في الحفظ لكانت روايته هي المعتمدة لأنه جعل لكل من أبي موسى وعبد الله لفظ متن غير الآخر، لكن يحتمل أن يكون المتن الآخر كان عند عبد الله ابن مسعود مع المتن الأول. قوله: "ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم" معناه أن العلم يرتفع بموت العلماء فكلما مات عالم ينقص العلم بالنسبة إلى فقد حامله، وينشأ عن ذلك الجهل بما كان ذلك العالم ينفرد به عن بقية العلماء. قوله: "إن بين يدي الساعة لأياما" في رواية الكشميهني بحذف اللام. قوله: "ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل" كذا في هاتين الروايتين، وزاد في الرواية الثالثة وهي رواية جرير ابن عبد الحميد عن الأعمش " والهرج بلسان الحبشة القتل " ونسب التفسير في رواية واصل لأبي موسى، وأصل الهرج في اللغة العربية الاختلاط يقال هرج الناس اختلطوا واختلفوا وهرج القوم في الحديث إذا كثروا وخلطوا، وأخطأ من قال نسبة تفسير الهرج بالقتل للسان الحبشة وهم من بعض الرواة وإلا فهي عربية صحيحة، ووجه الخطأ أنها لا تستعمل في اللغة العربية بمعنى القتل إلا على طريق المجاز لكون الاختلاط مع الاختلاف يفضي كثيرا إلى القتل وكثيرا ما يسمى الشيء باسم ما يؤول إليه، واستعمالها في القتل بطريق الحقيقة هو بلسان الحبش، وكيف يدعى على مثل أبي موسى الأشعري الوهم في تفسير لفظة لغوية بل الصواب معه، واستعمال العرب الهرج بمعنى القتل لا يمنع كونها لغة الحبشة وإن ورد استعمالها في الاختلاط والاختلاف كحديث معقل بن يسار رفعه: "العبادة في

(13/18)


الهرج كهجرة إلى " أخرجه مسلم، وذكر صاحب المحكم للهرج معاني أخرى ومجموعها تسعة: شدة القتل وكثرة القتل والاختلاط والفتنة في آخر الزمان وكثرة النكاح وكثرة الكذب وكثرة النوم وما يرى في النوم غير منضبط وعدم الإتقان للشيء. وقال الجوهري: أصل الهرج الكثرة في الشيء يعني حتى لا يتميز. قوله في رواية واصل "وأحسبه رفعه" زاد في رواية القواريري عن غندر " إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرجه الإسماعيلي وكذا أخرجه أحمد عن غندر، ومحمد شيخ البخاري فيه لم ينسب عند الأكثر، ونسبه أبو ذر في روايته محمد بن بشار. قوله: "وقال أبو عوانة عن عاصم" هو ابن أبي النجود القارئ المشهور، ووجدت لأبي عوانة عن عاصم في المعنى سندا آخر أخرجه ابن أبي خيثمة عن عفان وأبي الوليد جميعا عن أبي عوانة عن عاصم عن شقيق عن عروة بن قيس عن خالد بن الوليد فذكر قصة فيها " فأولئك الأيام التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة أيام الهرج " وذكر فيه أن " الفتنة تدهش حتى ينظر الشخص هل يجد مكانا لم ينزل به فلا يجد " وقد وافقه على حديث ابن مسعود الأخير زائدة أخرجه الطبراني من طريقه عن عاصم عن شقيق عن عبد الله " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء " الحديث. قوله: "أنه قال لعبد الله" يعني ابن مسعود "تعلم الأيام التي ذكر - إلى قوله - نحوه" يريد نحو الحديث المذكور " بين يدي الساعة أيام الهرج " وقد رواه الطبراني من طريق زائدة عن عاصم مقتصرا على حديث ابن مسعود المرفوع دون القصة، ووقع عند أحمد وابن ماجه من رواية الحسن البصري عن أسيد بن المتشمس عن أبي موسى في المرفوع زيادة " قال رجل يا رسول الله إنا نقتل في العام الواحد من المشركين كذا وكذا فقال: ليس بقتلكم المشركين، ولكن بقتل بعضكم بعضا " الحديث. قوله: "وقال ابن مسعود" هو بالسند المذكور. قوله: "من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء" قال ابن بطال: هذا وإن كان لفظه لفظ العموم فالمراد به الخصوص، ومعناه أن الساعة تقوم في الأكثر والأغلب على شرار الناس بدليل قوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة " فدل هذا الخبر أن الساعة تقوم أيضا على قوم فضلاء. قلت: ولا يتعين ما قال، فقد جاء ما يؤيد العموم المذكور كقوله في حديث ابن مسعود أيضا رفعه: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " أخرجه مسلم، ولمسلم أيضا من حديث أبي هريرة رفعه: "إن الله يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير فلا تدع أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته " وله في آخر حديث النواس بن سمعان الطويل في قصة الدجال وعيسى ويأجوج ومأجوج " إذ بعث الله ريحا طيبة فتقبض روح كل مؤمن ومسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة " وقد اختلفوا في المراد بقوله: "يتهارجون " فقيل يتسافدون وقيل يتثاورون، والذي يظهر أنه هنا بمعنى يتقاتلون أو لأعم من ذلك؛ ويؤيد حمله على التقاتل حديث الباب، ولمسلم أيضا: "لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله " وهو عند أحمد بلفظ: "على أحد يقول لا إله إلا الله " والجمع بينه وبين حديث: "لا تزال طائفة " حمل الغاية في حديث: "لا تزال طائفة " على وقت هبوب الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن ومسلم فلا يبقى إلا الشرار فتهجم الساعة عليهم بغتة كما سيأتي بيانه بعد قليل.

(13/19)


6 - باب لاَ يَأْتِي زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ
7068 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا

(13/19)


إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7069 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةِ "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ"
قوله: "باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه" كذا ترجم بالحديث الأول. قوله: "سفيان" هو الثوري و "الزبير بن عدي" بفتح العين بعدها دال وهو كوفي همداني بسكون الميم ولي قضاء الري ويكنى أبا عدي، وهو من صغار التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد يلتبس به راو قريب من طبقته وهو الزبير بن عربي بفتح العين والراء بعدها موحدة مكسورة وهو اسم بلفظ النسب بصري يكنى أبا سلمة: وليس له في البخاري سوى حديث واحد تقدم في الحج من روايته عن ابن عمر وتقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك هناك من كلام الترمذي. قوله: "أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون" فيه التفات ووقع في رواية الكشميهني: "فشكوا " وهو على الجادة ووقع في رواية ابن أبي مريم عن الفريابي شيخ البخاري فيه عند أبي نعيم " نشكو " بنون بدل الفاء. وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند الإسماعيلي: "شكونا إلى أنس ما نلقى من الحجاج". قوله: "من الحجاج" أي ابن يوسف الثقفي الأمير المشهور، والمراد شكواهم ما يلقون من ظلمه لهم وتعديه، وقد ذكر الزبير في " الموفقيات " من طريق مجالد عن الشعبي قال: "كان عمر فمن بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كف الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال: هذا كله لعب، فقتل بالسيف". قوله: "فقال اصبروا" زاد عبد الرحمن بن مهدي في روايته: "اصبروا عليه". قوله: "فإنه لا يأتي عليكم زمان" في رواية عبد الرحمن بن مهدي " لا يأتيكم عام " وبهذا اللفظ أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود نحو هذا الحديث موقوفا عليه قال: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه " وله عنه بسند صحيح قال: "أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة". قوله: "إلا والذي بعده" كذا لأبي ذر، وسقطت الواو للباقين وثبتت لابن مهدي. قوله: "أشر منه" كذا لأبي ذر والنسفي، وللباقين بحذف الألف، وعلى الأول شرح ابن التين فقال: كذا وقع " أشر " بوزن أفعل، وقد قال في الصحاح فلان شر من فلان ولا يقال أشر إلا في لغة رديئة. ووقع في رواية محمد بن القاسم الأسدي عن الثوري ومالك بن مغول ومسعر وأبي سنان الشيباني أربعتهم عن الزبير بن عدي بلفظ: "لا يأتي على الناس زمان إلا شر من الزمان الذي كان قبله، سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجه الإسماعيلي، وكذا أخرجه ابن منده من طريق مالك بن مغول بلفظ: "إلا وهو شر من الذي قبله"

(13/20)


وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير: من رواية مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن الزبير بن عدي وقال: تفرد به مسلم عن شعبة. قوله: "حتى تلقوا ربكم" أي حتى تموتوا، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث آخر " واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". قوله: "سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي نعيم " سمعت ذلك " قال ابن بطال: هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي وإنما يعلم بالوحي انتهى. وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخبر الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل أن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيدا فضلا عن أن يكون شرا من الزمن الذي قبله وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج فقال: لا بد للناس من تنفيس. وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني " وهو في الصحيحين، وقوله: "أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " أخرجه مسلم. ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: "سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم وإلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون " ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله: "شر منه " قال: "فأصابتنا سنة خصب فقال ليس ذلك أعني إنما أعني ذهاب العلماء " ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: "لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير ولا عاما خيرا من عام ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون برأيهم " وفي لفظ عنه من هذا الوجه " وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه " وأخرج الدارمي الأول من طريق الشعبي بلفظ: "لست أعني عاما أخصب من عام " والباقي مثله وزاد: "وخياركم " قبل قوله: "وفقهاؤكم " واستشكلوا أيضا زمان عيسى بن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى؟ أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف والله أعلم. ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور، لكن الصحابي فهم التعميم فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر، وهم أو جلهم من التابعين. واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، ثم وجدت عن ابن مسعود ما يصلح أن يفسر به الحديث وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن عن عبد الله قال: "لا

(13/21)


يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لست أعني عاما". قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، ومحمد ابن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الله بن أبي بكر نسب لجده، هكذا عطف هذا الإسناد النازل على الذي قبله وهو أعلى منه بدرجتين لأنه أورد الأول مجردا في آخر كتاب الأدب بتمامه، فلما أورده هنا عنه أردفه بالسند الآخر وساقه على لفظ السند الثاني، وابن شهاب شيخ ابن أبي عتيق هو الزهري شيخ شعيب. قوله:"هند بنت الحارث الفراسية" بكسر الفاء بعدها راء وسين مهملة نسبة إلى بني فراس بطن من كنانة وهم إخوة قريش، وكانت هند زوج معبد بن المقداد وقد قيل إن لها صحبة، وتقدم شيء من ذلك في كتاب العلم. قوله: "استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا" بنصب ليلة، وفزعا بكسر الزاي على الحال، ووقع في رواية سفيان بن عيينة عن معمر كما مضى في العلم " استيقظ ذات ليلة " وتقدم هناك الكلام على لفظ ذات ورواية هذا الباب تؤيد أنها زائدة. وفي رواية هشام بن يوسف عن معمر في قيام الليل مثل الباب لكن بحذف فزعا وفي رواية شعيب بحذفهما. قوله: "يقول سبحان الله" في رواية سفيان " فقال سبحان الله " وفي رواية ابن المبارك عن معمر في اللباس " استيقظ من الليل وهو يقول لا إله إلا الله". قوله: "ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل الليلة من الفتن" في رواية غير الكشميهني: "وماذا أنزل " بضم الهمزة وفي رواية سفيان " ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن " وفي رواية شعيب " ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن " وفي رواية ابن المبارك مثله لكن بتقديم وتأخير وقال: "من الفتنة " بالإفراد، وقد تقدم الكلام على المراد بالخزائن وما ذكر معها في كتاب العلم: و " ما " استفهامية فيها معنى التعجب. قوله: "من يوقظ صواحب الحجرات" كذا للأكثر. وفي رواية سفيان " أيقظوا " بصيغة الأمر مفتوح الأول مكسور الثالث، وصواحب بالنصب على المفعولية، وجوز الكرماني إيقظوا بكسر أوله وفتح ثالثه وصواحب منادي ودلت رواية أيقظوا على أن المراد بقوله من يوقظ التحريض على إيقاظهن. قوله: "يريد أزواجه لكي يصلين" في رواية شعيب " حتى يصلين " وخلت سائر الروايات من هذه الزيادة. قوله: "رب كاسية في الدنيا" في رواية سفيان فرب بزيادة فاء في أوله. وفي رواية ابن المبارك " يا رب كاسية " بزيادة حرف النداء في أوله. وفي رواية هشام " كم من كاسية الدنيا عارية يوم القيامة " وهو يؤيد ما ذهب إليه ابن مالك من أن رب أكثر ما ترد للتكثير فإنه قال أكثر النحويين إنها للتقليل وأن معنى مما يصدر بها المضي، والصحيح أن معناها في الغالب التكثير وهو مقتضى كلام سيبويه فإنه قال في " باب كم " واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب، لأن المعنى واحد إلا أن كم اسم ورب غير اسم انتهى، ولا خلاف أن معنى كم الخبرية التكثير ولم يقع في كتابه ما يعارض ذلك فصح أن مذهبه ما ذكرت وحديث الباب شاهد لذلك، فليس مراده أن ذلك قليل بل المتصف بذلك من النساء كثير " ولذلك لو جعلت كم موضع رب لحسن انتهى، وقد وقعت كذلك في نفس هذا الحديث كما بينته، ومما وردت فيه للتكثير قول حسان:
رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم
وقول عدي:
رب مأمول وراج أملا ... قد ثناه الدهر عن ذاك الأمل

(13/22)


قال: والصحيح أيضا أن الذي يصدر برب لا يلزم كونه ماضي المعنى بل يجوز مضيه وحضوره واستقباله، وقد اجتمع في الحديث الحضور والاستقبال، وشواهد الماضي كثيرة انتهى ملخصا. وأما تصدير رب بحرف النداء في رواية ابن المبارك فقيل المنادى فيه محذوف والتقدير يا سامعين. قوله: "عارية في الآخرة" قال عياض الأكثر بالخفض على الوصف للمجرور برب. وقال غيره: الأولى الرفع على إضمار مبتدأ والجملة في موضع النعت أي هي عارية والفعل الذي يتعلق به رب محذوف. وقال السهيلي: الأحسن الخفض على النعت لأن رب حرف جر يلزم صدر الكلام وهذا رأي سيبويه؛ وعند الكسائي هو اسم مبتدأ والمرفوع خبره، وإليه كان يذهب بعض شيوخنا انتهى. واختلف في المراد بقوله: "كاسية وعارية " على أوجه أحدها كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغني عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا، ثانيها كاسية بالثياب لكنها شفافة لا تستر عورتها فتعاقب في الآخرة بالعرى جزاء على ذلك، ثالثها كاسية من نعم الله عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب، رابعها كاسية جسدها لكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها فتصير عارية فتعاقب في الآخرة، خامسها كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح عارية في الآخرة من العمل فلا ينفعها صلاح زوجها كما قال تعالى :{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} ذكر هذا الأخير الطيبي ورجحه لمناسبة المقام، واللفظة وإن وردت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد سبق لنحوه الداودي فقال: "كاسية للشرف في الدنيا لكونها أهل التشريف وعارية يوم القيامة قال: ويحتمل أن يراد عارية في النار. قال ابن بطال: في هذا الحديث أن الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك وأراد بقوله: "من يوقظ " بعض خدمه كما قال يوم الخندق " من يأتيني بخبر القوم " وأراد أصحابه، لكن هناك عرف الذي انتدب كما تقدم وهنا لم يذكر، وفي الحديث الندب إلى الدعاء، والتضرع عند نزول الفتنة ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له وبالله التوفيق.

(13/23)


7 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا
7070 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا"
7071 - حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حمل علينا السلاح فليس منا"
7072 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ"
7073 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قُلْتُ لِعَمْرٍو يَا أَبَا مُحَمَّدٍ "سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ

(13/23)


يَقُولُ مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا قَالَ نَعَمْ
7074 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ "عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ بِأَسْهُمٍ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا لاَ يَخْدِشُ مُسْلِمًا"
7075 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا أَوْ قَالَ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا" ذكره من حديث ابن عمر ومن حديث أبي موسى وأورد معهما في الباب ثلاثة أحاديث أخرى. قوله: "من حمل علينا السلاح" في حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم: "من سل علينا السيف " ومعنى الحديث حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق لما في ذلك من تخويفهم وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كني بالحمل عن المقاتلة أو القتل للملازمة الغالبة. قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد بالحمل ما يضاد الوضع ويكون كناية عن القتال به، ويحتمل أن يراد بالحمل حمله لإرادة القتال به لقرينة قوله: "علينا " ويحتمل أن يكون المراد حمله للضرب به، وعلى كل حال ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه. قلت: جاء الحديث بلفظ: "من شهر علينا السلاح " أخرجه البزار من حديث أبي بكرة، ومن حديث سمرة، ومن حديث عمرو بن عوف، وفي سند كل منها لين لكنها يعضد بعضها بعضا وعند أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ: "من رمانا بالنبل فليس منا " وهو عند الطبراني في " الأوسط " بلفظ: "الليل " بدل النبل وعند البزار من حديث بريدة مثله. قوله: "فليس منا" أي ليس على طريقتنا، أو ليس متبعا لطريقتنا، لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله ونظيره " من غشنا فليس منا وليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب " وهذا في حق من لا يستحل ذلك، فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم بشرطه لا مجرد حمل السلاح، والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر، وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره فيقول: معناه ليس على طريقتنا، ويرى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه، والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحق فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالما. قوله: "حدثنا محمد أخبرنا عبد الرزاق" كذا في الأصول التي وقفت عليها وكذا ذكر أبو علي الجياني أنه وقع هنا. وفي العتق " حدثنا محمد - غير منسوب - عن عبد الرزاق " وأن الحاكم جزم بأنه محمد بن يحيى الذهلي إلى آخر كلامه ويحتمل أن يكون محمد هنا هو ابن رافع فإن مسلما أخرج هذا الحديث عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من مسند إسحاق بن راهويه ثم قال: أخرجه البخاري عن إسحاق، ولم أر ذلك لغير أبي نعيم، ويدل على وهمه أن في رواية إسحاق عن عبد الرزاق " حدثنا معمر " والذي في البخاري " عن معمر". قوله: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح" كذا فيه بإثبات الياء وهو نفي بمعنى النهي، ووقع لبعضهم " لا يشر " بغير ياء وهو بلفظ النهي وكلاهما جائز. قوله: "فإنه

(13/24)


لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده" بالغين المعجمة قال الخليل في العين نزغ الشيطان بين القوم نزغا حمل بعضهم على بعض بالفساد ومنه "من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي" وفي رواية الكشميهني بالعين المهملة ومعناه قلع، ونزع بالسهم رمى به، والمراد أنه يغري بينهم حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه فيحقق الشيطان ضربته له وقال ابن التين: معنى ينزعه يقلعه من يده فيصيب به الآخر أو يشد يده فيصيبه. وقال النووي: ضبطناه ونقله عياض عن جميع روايات مسلم بالعين المهملة ومعناه يرمي به في يده ويحقق ضربته، ومن رواه بالمعجمة فهو من الإغراء أي له تحقيق الضربة. قوله: "فيقع في حفرة من النار" هو كناية عن وقوعه في المعصية التي تفضي به إلى دخول النار، قال ابن بطال: معناه أن أنفذ عليه الوعيد، وفي الحديث النهي عما يفضي إلى المحذور وإن لم يكن المحذور محققا سواء كان ذلك في جد أو هزل، وقد وقع في حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة وغيره مرفوعا، من رواية ضمرة ابن ربيعة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه " الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى الآخر بحديدة وإن كان أخاه لأبيه وأمه " وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن أبي هريرة موقوفا من رواية أيوب عن ابن سيرين عنه. وأخرج الترمذي أصله موقوفا من رواية خالد الحذاء عن ابن سيرين بلفظ: "من أشار إلى أخيه بحديدة لعنته الملائكة " وقال حسن صحيح غريب، وكذا صححه أبو حاتم من هذا الوجه وقال في طريق ضمرة: منمر. وأخرج الترمذي بسند صحيح عن جابر " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولا " ولأحمد والبزار من وجه آخر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "مر بقوم في مجلس يسلون سيفا يتعاطونه بينهم غير مغمود فقال: ألم أزجر عن هذا؟ إذا سل أحدكم السيف فليغمده ثم ليعطه أخاه " ولأحمد والطبراني بسند جيد عن أبي بكرة نحوه وزاد: "لعن الله من فعل هذا، إذا سل أحدكم سيفه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده ثم يناوله إياه " قال ابن العربي: إذا استحق الذي يشير بالحديدة اللعن فكيف الذي يصيب بها؟ وإنما يستحق اللعن إذا كانت إشارته تهديدا سواء كان جادا أم لاعبا كما تقدم، وإنما أوخذ اللاعب لما أدخله على أخيه من الروع، ولا يخفى أن إثم الهازل دون إثم الجاد وإنما نهي عن تعاطي السيف مسلولا لما يخاف من الغفلة عند التناول فيسقط فيؤدي. قوله: "قلت لعمرو" يعني ابن دينار، وقد صرح به في رواية مسلم، وعمرو بن دينار هو القائل " نعم " جوابا لقول سفيان له " أسمعت جابرا " وقد تقدم البحث في ذلك في أوائل المساجد من كتاب الصلاة. قوله: "بأسهم" هو جمع قلة يدل على أن المراد بقوله في الطريق الأولى " بسهام " أنها سهام قليلة، وقد وقع في رواية لمسلم أن المار المذكور كان يتصدق بها. قوله: "قد بدا" في رواية غير الكشميهني: "أبدي " والنصول بضمتين جمع نصل بفتح النون وسكون المهملة ويجمع على نصال بكسر أوله كما في الرواية الأولى، والنصل حديدة السهم. قوله: "فأمره أن يأخذ بنصولها" يفسر قوله في الرواية الأخرى " أمسك بنصالها". قوله: "لا يخدش مسلما" بمعجمتين هو تعلل للأمر بالإمساك على النصال، والخدش أول الجراح. حديث أبي موسى، وهو بإسناد " من حمل علينا السلاح". قوله: "إذا مر أحدكم إلخ" فيه أن الحكم عام في جميع المكلفين، بخلاف حديث جابر فإنه واقعة حال لا تستلزم التعميم. وقوله: "فليقبض بكفه " أي على النصال، وليس المراد خصوص ذلك، بل يحرص على أن لا يصيب مسلما بوجه من الوجوه كما دل عليه التعليل بقوله: "أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء " وقوله: "أن يصيب بها " بفتح أن والتقدير كراهية، ووقع في رواية مسلم: "لئلا يصيب

(13/25)


بها " وهو يؤيد مذهب الكوفيين في تقدير المحذوف في مثله، وزاد مسلم في آخر الحديث: "سددنا بعضنا إلى وجوه بعض " وهي بالسين المهملة أي قومناها إلى وجوههم، وهي كناية عما وقع من قتال بعضهم بعضا في تلك الحروب الواقعة في الجمل وصفين، وفي هذين الحديثين تحريم قتال المسلم وقتله وتغليظ الأمر فيه، وتحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى أذيته بكل وجه، وفيه حجة للقول بسد الذرائع".

(13/26)


8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا إلخ" ترجم بلفظ ثالث أحاديث الباب.
7076 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"
7077 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ "ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
7078 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ هُوَ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَلاَ تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ فَكَانَ كَذَلِكَ قَالَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ فَقَالُوا هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ
7079 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَرْتَدُّوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
7080 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ "عَنْ جَدِّهِ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَنْصِتْ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"

(13/26)


قوله "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا الخ" ترجم بلفظ ثالث أحاديث الباب, وفيه خمسة أحاديث: الحديث الأول, قوله: "حدثنا عمر بن حفص" هو ابن غياث، وشقيق هو أبو وائل، والسند كله كوفيون. قوله: "سباب" بكسر المهملة وموحدتين وتخفيف مصدر يقال سبه يسبه سبا وسبابا، وهذا المتن قد تقدم في كتاب الإيمان أول الكتاب من وجه آخر عن أبي وائل، وفيه بيان الاختلاف في رفعه ووقفه، وتقدم توجيه إطلاق الكفر على قتال المؤمن وأن أقوى ما قيل في ذلك أنه أطلق عليه مبالغة في التحذير من ذلك لينزجر السامع عن الإقدام عليه، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر، كما ذكروا نظيره في الحديث الذي بعده. وورد لهذا الحديث سبب أخرجه البغوي والطبراني من طريق أبي خالد الوالبي عن عمرو بن النعمان بن مقرن المزني قال: "انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجلس من مجالس الأنصار ورجل من الأنصار كان عرف بالبذاء ومشاتمة الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " زاد البغوي في روايته: "فقال ذلك الرجل: والله لا أساب رجلا". قوله: "واقد بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر. قوله: "لا ترجعون بعدي" كذا لأبي ذر بصيغة الخبر وللباقين " لا ترجعوا " بصيغة النهي وهو المعروف. قوله: "كفارا" تقدم بيان المراد به في أوائل كتاب الديات، وجملة الأقوال فيه ثمانية، ثم وقفت على تاسع وهو أن المراد ستر الحق والكفر لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه، فلما قاتله كأنه غطى على حقه الثابت له عليه. وعاشر وهو أن الفعل المذكور يفضي إلى الكفر، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام. ومنهم من جعله من لبس السلاح يقول كفر فوق درعه إذا لبس فوقها ثوبا. وقال الداودي: معناه لا تفعلوا بالمؤمنين ما تفعلون بالكفار، ولا تفعلوا بهم ما لا يحل وأنتم ترونه حراما. قلت: وهو داخل في المعاني المتقدمة. واستشكل بعض الشراح غالب هذه الأجوبة بأن راوي الخبر وهو أبو بكرة فهم خلاف ذلك، والجواب أن فهمه ذلك إنما يعرف من توقفه عن القتال واحتجاجه بهذا الحديث، فيحتمل أن يكون توقفه بطريق الاحتياط لما يحتمله ظاهر اللفظ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كفر من باشر ذلك، ويؤيده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم ولا امتثال أوامرهم ولا غير ذلك مما يدل على أنه يعتقد فيهم حقيقته. والله المستعان. قوله: "يضرب بعضكم رقاب بعض" بجزم يضرب على أنه جواب النهي، وبرفعه على الاستئناف، أو يجعل حالا. فعلى الأول يقوي الحمل على الكفر الحقيقي ويحتاج إلى التأويل بالمستحل مثلا، وعلى الثاني لا يكون متعلقا بما قبله، ويحتمل أن يكون متعلقا وجوابه ما تقدم. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان والسند كله بصريون. قوله: "ابن سيرين" هو محمد. قوله: "وعن رجل آخر" هو حميد بن عبد الرحمن الحميري كما وقع مصرحا به في " باب الخطبة أيام منى " من كتاب الحج، وقد تقدم شرح الخطبة المذكورة في كتاب الحج، وقوله: "أبشاركم " بموحدة ومعجمة جمع بشرة وهو ظاهر جلد الإنسان، وأما البشر الذي هو الإنسان فلا يثنى ولا يجمع، وأجازه بعضهم لقوله تعالى:{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ}" وقوله: "فإنه " الهاء ضمير الشأن، وقوله: "رب مبلغ " بفتح اللام الثقيلة و " يبلغه " بكسرها، وقوله: "من هو " في رواية الكشميهني: "لمن هو". قوله: "أوعى له" زاد في رواية الحج " منه". قوله: "فكان كذلك" هذه جملة موقوفة من كلام محمد بن سيرين تخللت بين الجمل المرفوعة كما وقع التنبيه عليه واضحا في، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، من كتاب العلم. قوله: "قال لا ترجعوا" هو بالسند

(13/27)


المذكور من رواية محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة، وقد قال البزار بعد تخريجه بطوله لا نعلم من رواه بهذا اللفظ إلا قرة عن محمد بن سيرين. قوله: "فلما كان يوم حرق ابن الحضرمي" في رواية محمد بن أبي بكر المقدمي عن يحيى القطان عند الإسماعيلي: "قال فلما كان " وفاعل قال هو عبد الرحمن بن أبي بكرة، وحرق بضم أوله على البناء للمجهول، ووقع في خط الدمياطي: الصواب أحرق، وتبعه بعض الشراح، وليس الآخر بخطأ بل جزم أهل اللغة باللغتين أحرقه وحرقه والتشديد للتكثير، والتقدير هنا يوم حرق ابن الحضرمي ومن معه، وابن الحضرمي فيما ذكره العسكري اسمه عبد الله بن عمرو بن الحضرمي وأبوه عمرو هو أول من قتل من المشركين يوم بدر، وعلى هذا فلعبد الله رؤية، وقد ذكره بعضهم في الصحابة، ففي الاستيعاب: قال الواقدي ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عن عمر وعند المدائني أنه عبد الله بن عامر الحضرمي وهو ابن عمرو المذكور، والعلاء ابن الحضرمي الصحابي المشهور عمه، واسم الحضرمي عبد الله بن عماد وكان حالف بني أمية في الجاهلية، وأم ابن الحضرمي المذكور أرنب بنت كريز بن ربيعة وهي عمة عبد الله بن عامر بن كريز الذي كان أمير البصرة في زمن عثمان. قوله: "حين حرقه جارية" بجيم وتحتانية "ابن قدامة" أي ابن مالك بن زهير بن الحصين التميمي السعدي، وكان السبب في ذلك ما ذكره العسكري في الصحابة كان جارية يلقب محرقا لأنه أحرق ابن الحضرمي بالبصرة، وكان معاوية وجه ابن الحضرمي إلى البصرة ليستنفرهم على قتال علي، فوجه على جارية بن قدامة فحصره، فتحصن منه ابن الحضرمي في دار فأحرقها جارية عليه. وذكر الطبري في حوادث سنة ثمان وثلاثين من طريق أبي الحسن المدائني، وكذا أخرجه عمر بن شبة في " أخبار البصرة " أن عبد الله بن عباس خرج من البصرة وكان عاملها لعلي واستخلف زياد بن سمية على البصرة، فأرسل معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي ليأخذ له البصرة، فنزل في بني تميم، وانضمت إليه العثمانية، فكتب زياد إلى علي يستنجده، فأرسل إليه أعين ابن ضبيعة المجاشعي فقتل غيلة، فبعث علي بعده جارية بن قدامة فحصر ابن الحضرمي في الدار التي نزل فيها ثم أحرق الدار عليه وعلى من معه وكانوا سبعين رجلا أو أربعين، وأنشد في ذلك أشعارا، فهذا هو المعتمد، وأما ما حكاه ابن بطال عن المهلب أن ابن الحضرمي رجل امتنع من الطاعة، فأخرج إليه جارية بن قدامة فصلبه على جذع ثم ألقى النار في الجذع الذي صلب عليه، فما أدري ما مستنده فيه، وكأنه قاله بالظن، والذي ذكره الطبري هو الذي ذكره أهل العلم بالأخبار، وكان الأحنف يدعو جارية عما إعظاما له، قاله الطبري ومات جارية في خلافة يزيد بن معاوية قاله ابن حبان، ويقال إنه جويرية بن قدامة الذي روى قصة قتل عمر كما تقدم. قوله: "قال أشرفوا على أبي بكرة" أي اطلعوا من مكان مرتفع فرأوه، زاد البزار عن يحيى بن حكيم عن القطان " وهو في حائط له". قوله: "فقالوا هذا أبو بكرة يراك" قال المهلب: لما فعل جارية بابن الحضرمي ما فعل أمر جارية بعضهم أن يشرفوا على أبي بكرة ليختبر إن كان محاربا أو في الطاعة، وكان قد قال له خيثمة: هذا أبو بكرة يراك وما صنعت بابن الحضرمي فربما أنكر عليك بسلاح أو بكلام. فلما سمع أبو بكرة ذلك وهو في علية له قال: لو دخلوا علي داري ما رفعت عليهم قصبة، لأني لا أرى قتال المسلمين فكيف أن أقاتلهم بسلاح. قلت: ومقتضى ما ذكره أهل العلم بالأخبار كالمدائني أن ابن عباس كان استنفر أهل البصرة بأمر علي ليعاودوا محاربة معاوية بعد الفراغ من أمر التحكيم، ثم وقع أمر الخوارج فسار ابن عباس إلى علي فشهد معه النهروان، فأرسل بعض عبد القيس في غيبته إلى معاوية يخبره أن بالبصرة جماعة من

(13/28)


العثمانية، ويسأله توجيه رجل يطلب بدم عثمان، فوجه ابن الحضرمي، فكان من أمره ما كان، فالذي يظهر أن جارية بن قدامة بعد أن غلب وحرق ابن الحضرمي ومن معه استنفر الناس بأمر علي، فكان من رأي أبي بكرة ترك القتال في الفتنة كرأي جماعة من الصحابة، فدل بعض الناس على أبي بكرة ليلزموه الخروج إلى القتال فأجابهم بما قال. قوله: "قال عبد الرحمن" هو ابن أبي بكرة الراوي، وهو موصول بالسند المذكور. قوله: "فحدثتني أمي" هي هالة بنت غليظ العجلية، ذكر ذلك خليفة بن خياط في تاريخه، وتبعه أبو أحمد الحاكم وجماعة؛ وسمى ابن سعد أمه هولة والله أعلم. وذكر البخاري في تاريخه وابن سعد أن عبد الرحمن كان أول مولود ولد بالبصرة بعد أن بنيت، وأرخها ابن زيد سنة أربع عشرة وذلك في أوائل خلافة عمر رضي الله عنه. قوله: "لو دخلوا علي" بتشديد الياء. قوله: "ما بهشت" بكسر الهاء وسكون المعجمة، وللكشميهني بفتح الهاء وهما لغتان، والمعنى ما دافعتهم يقال بهش بعض القوم إلى بعض إذا تراموا للقتال، فكأنه قال ما مددت يدي إلى قصبة ولا تناولتها لأدافع بها عني. وقال ابن التين " ما قمت إليهم بقصبة " يقال بهش له إذا ارتاح له وخف إليه، وقيل معناه ما رميت وقيل معناه ما تحركت. وقال صاحب النهاية: المراد ما أقبلت إليهم مسرعا أدفعهم عني ولا بقصبة، ويقال لمن نظر إلى شيء فأعجبه واشتهاه أو أسرع إلى تناوله: بهش إلى كذا، ويستعمل أيضا في الخير والشر، يقال بهش إلى معروف فلان في الخير وبهش إلى فلان تعرض له بالشر، ويقال بهش القوم بعضهم إلى بعض إذا ابتدروا في القتال وهذا الذي قاله أبو بكرة يوافق ما وقع عند أحمد من حديث ابن مسعود ذكر الفتنة " قلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: كف يدك ولسانك وادخل دارك، قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل رجل علي داري؟ قال: فادخل بيتك. قال قلت: أفرأيت إن دخل علي بيتي قال فادخل مسجدك - وقبض بيمينه على الكوع - وقل ربي الله حتى تموت على ذلك " وعند الطبراني من حديث جندب " ادخلوا بيوتكم وأخملوا ذكركم قال: أرأيت إن دخل على أحدنا بيته قال: ليمسك بيده وليكن عبد الله المقتول لا القاتل " ولأحمد وأبي يعلى من حديث خرشة ابن الحر " فمن أتت عليه فليمش بسيفه إلى صفاة فليضربه بها حتى ينكسر ثم ليضطجع لها حتى تنجلي " وفي حديث أبي بكرة عند مسلم: "قال رجل يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين فجاء سهم أو ضربني رجل بسيف؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك " الحديث، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. قوله: "محمد بن فضيل عن أبيه" هو ابن غزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي. قوله: "لا ترتدوا" تقدم في الحج من وجه آخر عن فضيل بلفظ: "لا ترجعوا " وساقه هناك أتم. حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي. قوله: "لا ترجعوا" كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني لا ترجعن بعد العين المهملة المضمومة نون ثقيلة وأصله لا ترجعون، وقد تقدم في العلم وفي أواخر المغازي وفي الديات بلفظ: "لا ترجعوا " وليس لأبي زرعة بن عمرو ابن جرير عن جده في البخاري إلا هذا الحديث، وعلي بن مدرك الراوي عنه نخعي كوفي متفق على توثيقه، ولا أعرف له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد في المواضع المذكورة.

(13/29)


9 - باب تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ
7081 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ

(13/29)


أَبِي هُرَيْرَةَ ح قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ"
7082 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ستكون فتن القاعد فيها خير والقائم خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي, من تشرف لها تستشرفه فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به"
قوله: "باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم" كذا ترجم ببعض الحديث، وأورده من رواية سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سلمة وهو عمه، ومن رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب كلاهما عن أبي هريرة، ومن رواية شعيب عن ابن شهاب الزهري " أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن " وكأنه صحح أن لابن شهاب فيه شيخين. ولفظ الحديثين سواء إلا ما سأبينه، وقد أخرجه في علامات النبوة عن عبد العزيز الأويسي عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عنهما جميعا، وكذا أخرجه مسلم من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه، ولم يسق البخاري لفظ سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة وساقه مسلم من طريق أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد وفي أوله " تكون فتنة النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم". قوله: "ستكون فتن" في رواية المستملي: "فتنة " بالإفراد. قوله: "القاعد فيها خير من القائم" زاد الإسماعيلي من طريق الحسن بن إسماعيل الكلبي عن إبراهيم بن سعد بسنده فيه في أوله " النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القاعد"، والحسن بن إسماعيل المذكور وثقه النسائي وهو من شيوخه، ثم وجدت هذه الزيادة عند مسلم أيضا من رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد، وكان أخرجه أولا من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه كرواية محمد بن عبيد الله شيخ البخاري فيه، فكأن إبراهيم بن سعد كان يذكره تاما وناقصا، ووقع في رواية خرشة بن الحر عند أحمد وأبي يعلى مثل هذه الزيادة، وقد وجدت لهذه الزيادة شاهدا من حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود بلفظ: "النائم فيها خير من المضطجع " وهو المراد باليقظان في الرواية المذكورة لأنه قابله بالقاعد. قوله: "والماشي فيها خير من الساعي" في حديث ابن مسعود " والماشي فيها خير من الراكب والراكب فيها خير من المجري قتلاها كلها في النار" . قوله: "خير من الساعي" في حديث أبي بكرة عند مسلم: "من الساعي إليها " وزاد: "ألا فإذا نزلت فمن كانت له إبل فليلحق بإبله " الحديث قال بعض الشراح في قوله: "والقاعد فيها خير من القائم " أي القاعد في زمانها عنها قال: والمراد بالقائم الذي لا يستشرفها وبالماشي من يمشي في أسبابه لأمر سواها، فربما يقع بسبب مشيه في أمر يكرهه وحكى ابن التين عن الداودي أن الظاهر أن المراد من يكون مباشرا لها في الأحوال كلها، يعني أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سببا لإثارتها، ثم من يكون قائما بأسبابها وهو الماشي، ثم من يكون مباشرا لها وهو القائم، ثم من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد، ثم من يكون مجتنبا لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان، ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض وهو النائم، والمراد

(13/30)


بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور. قوله: "من تشرف لها" بفتح المثناة والمعجمة وتشديد الراء أي تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها، وضبط أيضا من الشرف ومن الإشراف. قوله: "تستشرفه" أي تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك، يقال استشرفت الشيء علوته وأشرفت عليه، يريد من انتصب لها انتصبت له ومن أعرض عنها أعرضت عنه، وحاصله أن من طلع فيها بشخصه قابلته بشرها، ويحتمل أن يكون المراد من خاطر فيها بنفسه أهلكته، ونحوه قول القائل من غالبها غلبته. قوله: "فمن وجد فيها" في رواية الكشميهني: "منها". قوله: "ملجأ" أي يلتجئ إليه من شرها. قوله: "أو معاذا" بفتح الميم وبالعين المهملة وبالذال المعجمة هو بمعنى الملجأ، قال ابن التين ورويناه بالضم يعني معاذا، قوله: "فليعذبه" أي ليعتزل فيه ليسلم من شر الفتنة وفي رواية سعد بن إبراهيم " فليستعذ " ووقع تفسيره عند مسلم في حديث أبي بكرة ولفظه: "فإذا نزلت فمن كان له إبل فليلحق بإبله - وذكر الغنم والأرض - قال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع". وفيه التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل. قال الطبري: اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقا كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها، ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة بلزوم البيوت. وقالت طائفة بل بالتحول عن بلد الفتن أصلا. ثم اختلفوا فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل، ومنهم من قال: بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله وهو معذور إن قتل أو قتل. وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها ونصبت الحرب وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور، وفصل آخرون فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب، وغيره على ذلك وهو قول الأوزاعي، قال الطبري: والصواب أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها. وذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك. وقيل إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان حيث يحصل التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك. وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرت إليه " قلت يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال أيام الهرج قلت ومتى؟ قال حين لا يأمن الرجل جليسه".

(13/31)


10 - بَاب إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا
7083 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ "خَرَجْتُ بِسِلاَحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ فَهَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَيُّوبَ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَنَا

(13/31)


أُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَانِي بِهِ فَقَالاَ إِنَّمَا رَوَى هَذَا الحَدِيثَ الْحَسَنُ عَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بِهَذَا وَقَالَ مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الأَحْنَفِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَرَوَاهُ بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَقَالَ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ
قوله باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب" وهو الحجبي بفتح المهملة والجيم. قوله: "حماد" هو ابن زيد وقد نسبه في أثناء الحديث. قوله: "عن رجل لم يسمه" هو عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة وكان سيئ الضبط، هكذا جزم المزي في التهذيب بأنه المبهم في هذا الموضع، وجوز غيره كمغلطاي أن يكون هو هشام بن حسان وفيه بعد. قوله: "عن الحسن" هو البصري "قال خرجت بسلاحي ليالي الفتنة" كذا وقع في هذه الرواية، وسقط الأحنف بين الحسن وأبي بكرة كما سيأتي، والمراد بالفتنة الحرب التي وقعت بين علي ومن معه وعائشة ومن معها، وقوله: "خرجت بسلاحي " في رواية عمر بن شبة عن خالد بن خداش عن حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن " عن الأحنف قال: التحفت علي بسيفي لآتى عليا فأنصره ": وقوله: "فاستقبلني أبو بكرة " في رواية مسلم الآتي التنبيه عليها " فلقيني أبو بكرة". قوله: "أين تريد" زاد مسلم في روايته: "يا أحنف". قوله: "نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم: "أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعني عليا " قال فقال لي: يا أحنف ارجع". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم: "فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فكلاهما من أهل النار" في رواية الكشميهني في النار " وفي رواية مسلم فالقاتل والمقتول في النار". قوله: "قيل فهذا القاتل" القائل هو أبو بكرة وقع مبينا في رواية مسلم، لكن شك فقال: "فقلت أو قيل " ووقع في رواية أيوب عند عبد الرزاق " قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول " وقوله: "هذا القاتل " مبتدأ وخبره محذوف، أي هذا القاتل يستحق النار، وقوله: "فما بال المقتول " أي فما ذنبه. قوله: "إنه أراد قتل صاحبه" تقدم في الإيمان بلفظ: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه". قوله: "قال حماد بن زيد" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "فقالا إنما روى هذا الحديث الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة" يعني أن عمرو بن عبيد أخطأ في حذف الأحنف بين الحسن وأبي بكرة، لكن وافقه قتادة أخرجه النسائي من وجهين عنه عن الحسن عن أبي بكرة، إلا أنه اقتصر على الحديث دون القصة، فكأن الحسن كان يرسله عن أبي بكرة فإذا ذكر القصة أسنده، وقد رواه سليمان التيمي عن الحسن عن أبي موسى أخرجه النسائي أيضا، وتعقب بعض الشراح قول البزار لا يعرف الحديث بهذا اللفظ إلا عن أبي بكرة وهو ظاهر، ولكن لعل البزار يرى أن رواية التيمي شاذة لأن المحفوظ عن الحسن رواية من قال عنه عن الأحنف عن أبي بكرة. قوله: "حدثنا سليمان حدثنا حماد بهذا" سليمان هو ابن حرب والظاهر أن قوله: "بهذا " إشارة إلى موافقة الرواية التي ذكرها حماد بن زيد عن أيوب ويونس بن عبيد، وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن أحمد بن عبدة الضبي عن حماد بن زيد عن أيوب ويونس بن عبيد والمعلى بن زياد

(13/32)


ثلاثتهم عن الحسن البصري عن الأحنف ابن قيس فساق الحديث دون القصة، وأخرجه أبو داود عن أبي كامل الجحدري " حدثنا حماد " فذكر القصة باختصار يسير. قوله: "وقال مؤمل" بواو مهموزة وزن محمد وهو ابن إسماعيل أبو عبد الرحمن البصري نزيل مكة، أدركه البخاري ولم يلقه لأنه مات سنة ست ومائتين وذلك قبل أن يرحل البخاري، ولم يخرج عنه إلا تعليقا، وهو صدوق كثير الخطأ قاله أبو حاتم الرازي، وقد وصل هذه الطريق الإسماعيلي من طريق أبي موسى محمد بن المثنى " حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا أحمد بن زيد عن أيوب يونس هو ابن عبيد وهشام عن الحسن عن الأحنف عن أبي بكرة " فذكر الحديث دون القصة، ووصله أيضا من طريق يزيد بن سنان " حدثنا مؤمل حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب ويونس والمعلى بن زياد قالوا حدثنا الحسن " فذكره، وأخرجه أحمد عن مؤمل عن حماد عن الأربعة، فكأن البخاري أشار إلى هذه الطريق. قوله: "ورواه معمر عن أيوب". قلت: وصله مسلم وأبو داود والنسائي والإسماعيلي من طريق عبد الرزاق عنه فلم يسق مسلم لفظه ولا أبو داود، وساقه النسائي والإسماعيلي فقال: "عن أيوب عن الحسن عن الأحنف ابن قيس عن أبي بكرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث دون القصة، وفي هذا السند لطيفة وهو أن رجاله كلهم بصريون، وفيهم ثلاثة عن التابعين في نسق أولهم أيوب، قال الدار قطني بعد أن ذكر الاختلاف في سنده: والصحيح حديث أيوب من حديث حماد بن زيد ومعمر عنه. قوله: "ورواه بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي بكرة". قلت: عبد العزيز هو ابن عبد الله بن أبي بكرة، وقد وقع منسوبا عند ابن ماجه، ومنهم من نسبه إلى جده فقال عبد العزيز بن أبي بكرة، وليس له ولا لولده بكار في البخاري إلا هذا الحديث، وهذه الطريق وصلها الطبراني من طريق خالد بن خداش بكسر المعجمة والدال المهملة وآخره شين معجمة قال: "حدثنا بكار بن عبد العزيز " بالسند المذكور ولفظه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن فتنة كائنة، القاتل والمقتول في النار، إن المقتول قد أراد قتل القاتل". قوله: "وقال غندر حدثنا شعبة عن منصور" هو ابن المعتمر "عن ربعي" بكسر الراء وسكون الموحدة وهو اسم بلفظ النسب واسم أبيه حراش بكسر المهملة وآخره شين معجمة تابعي مشهور، وقد وصله الإمام أحمد قال: "حدثنا محمد بن جعفر " وهو غندر بهذا السند مرفوعا ولفظه: "إذا التقى المسلمان حمل أحدهما على صاحبه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله وقعا فيها جميعا " وهكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة ومن طريقه أبو عوانة في صحيحه. قوله: "ولم يرفعه سفيان" يعني الثوري "عن منصور" يعني بالسند المذكور، وقد وصله النسائي من رواية يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري بالسند المذكور إلى أبي بكرة قال: "إذا حمل الرجلان المسلمان السلاح أحدهما على الآخر فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما الآخر فهما في النار " وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب الإيمان أوائل الصحيح، قال العلماء معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا، وقيل هو محمول على من استحل ذلك، ولا حجة فيه للخوارج ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار لأنه لا يلزم من قوله فهما في النار استمرار بقائهما فيها. واحتج به من لم ير القتال في الفتنة وهم كل من ترك القتال مع علي في حروبه كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وغيرهم وقالوا: يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه. ومنهم من قال لا يدخل في الفتنة فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه، وذهب

(13/33)


جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف عن القتال أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق، واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين كما سيأتي بيانه في كتاب الأحكام، وحمل هؤلاء الوعيد المذكور في الحديث على من قاتل بغير تأويل سائغ بل بمجرد طلب الملك، ولا يرد على ذلك منع أبي بكرة الأحنف من القتال مع علي لأن ذلك وقع عن اجتهاد من أبي بكرة أداه إلى الامتناع والمنع احتياطا لنفسه ولمن نصحه وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى. قال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال وسفك الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة وقد نهينا عن القتال فيها وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء انتهى. وقد أخرج البزار في حديث: "القاتل والمقتول في النار " زيادة تبين المراد وهي " إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار " ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ: "لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار " قال القرطبي فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهل من طلب الدنيا أو اتباع هوى فهو الذي أريد بقوله: "القاتل والمقتول في النار". قلت: ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عددا من الذين قاتلوا، وكلهم متأول مأجور إن شاء الله، بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا كما سيأتي عن أبي برزة الأسلمي والله أعلم. ومما يؤيد ما تقدم ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رفعه: "من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية " واستدل بقوله: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه " من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم وإن لم يقع الفعل، وأجاب من لم يقل بذلك أن في هذا فعلا وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكونا في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط فلم يقع التعذيب على العزم المجرد، وقد تقدم البحث في هذه المسألة في كتاب الرقاق عند الكلام على قوله: "من هم بحسنة ومن هم بسيئة " وقالوا في قوله تعالى:{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" اختيار باب الافتعال في الشر لأنه يشعر بأنه لا بد فيه من المعالجة، بخلاف الخير فإنه يثاب عليه بالنية المجردة، ويؤيده حديث: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا " والحاصل أن المراتب ثلاث: الهم المجرد وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهم أو بالعزم ولا نزاع في المؤاخذة به، والعزم وهو أقوى من الهم وفيه النزاع. "تنبيه": ورد في اعتزال الأحنف القتال في وقعة الجمل سبب آخر، فأخرج الطبري بسند صحيح عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن جاوان قال: "قلت له أرأيت اعتزال الأحنف ما كان؟ قال: سمعت الأحنف قال: حججنا فإذا الناس مجتمعون في وسط المسجد - يعني النبوي - وفيهم علي والزبير وطلحة وسعد إذ جاء عثمان " فذكر قصة مناشدته لهم في ذكر مناقبه، قال الأحنف: فلقيت طلحة والزبير فقلت: إني لا أرى هذا الرجل - يعني عثمان - إلا مقتولا، فمن تأمراني به؟ قالا: علي، فقدمنا مكة فلقيت عائشة وقد

(13/34)


بلغنا قتل عثمان فقلت لها: من تأمريني به؟ قالت: علي، قال فرجعنا إلى المدينة فبايعت عليا ورجعت إلى البصرة فبينما نحن كذلك إذ أتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير نزلوا بجانب الخريبة يستنصرون بك، فأتيت عائشة فذكرتها بما قالت لي، ثم أتيت طلحة والزبير فذكرتهما " فذكر القصة وفيها " قال فقلت والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أقاتل رجلا أمرتموني ببيعته، فاعتزل القتال مع الفريقين. ويمكن الجمع بأنه هم بالترك ثم بدا له في القتال مع علي ثم ثبطه عن ذلك أبو بكرة، أو هم بالقتال مع علي فثبطه أبو بكرة، وصادف مراسلة عائشة له فرجح عنده الترك. وأخرج الطبري أيضا من طريق قتادة قال: نزل علي بالزاوية فأرسل إليه الأحنف: إن شئت أتيتك وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف، فأرسل إليه: كف من قدرت على كفه.

(13/35)


11 - باب كَيْفَ الأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَة ؟
7084 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا قَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ
قول "باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة" ؟ كان تامة، والمعنى ما الذي يفعل المسلم في حال الاختلاف من قبل ألا يقع الإجماع على خليفة. قوله: "حدثنا ابن جابر" هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر كما صرح به مسلم في روايته عن محمد بن المثنى شيخ البخاري فيه. قوله: "حدثني بسر" بضم الموحدة وسكون المهملة "ابن عبيد الله" بالتصغير تابعي صغير، والسند كله شاميون إلا شيخ البخاري والصحابي. قوله: "مخافة أن يدركني" في رواية نصر بن عاصم عن حذيفة عند ابن أبي شيبة: "وعرفت أن الخير لن يسبقني". قوله: "في جاهلية وشر" يشير إلى ما كان من قبل الإسلام من الكفر وقتل بعضهم بعضا ونهب بعضهم بعضا وإتيان الفواحش. قوله: "فجاءنا الله بهذا الخير" يعني الإيمان والأمن وصلاح الحال واجتناب الفواحش، زاد مسلم في رواية أبي الأسود عن حذيفة " فنحن فيه: "قوله: "فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم" في رواية نصر بن عاصم " فتنة وفي رواية سبيع بن خالد عن حذيفة عند ابن أبي شيبة: "فما العصمة منه؟ قال السيف قال فهل بعد السيف من تقية؟ قال نعم هدنة " والمراد بالشر ما يقع من

(13/35)


الفتن من بعد قتل عثمان وهلم جرا أو ما يترتب على ذلك من عقوبات الآخرة. قوله: "قال: نعم، وفيه دخن" بالمهملة ثم المعجمة المفتوحتين بعدها نون وهو الحقد، وقيل الدغل، وقيل فساد في القلب، ومعنى الثلاثة متقارب. يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرا خالصا بل فيه كدر. وقيل المراد بالدخن الدخان ويشير بذلك إلى كدر الحال، وقيل الدخن كل أمر مكروه. وقال أبو عبيد يفسر المراد بهذا الحديث، الحديث الآخر " لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه " وأصله أن يكون في لون الدابة كدورة فكأن المعنى أن قلوبهم لا يصفو بعضها لبعض. قوله: "قوم يهدون" بفتح أوله "بغير هديي" بباء الإضافة بعد الياء للأكثر وبياء واحدة مع التنوين للكشميهني. وفي رواية أبي الأسود " يكون بعدي أئمة يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي". قوله: "تعرف منهم وتنكر" يعني من أعمالهم، وفي حديث أم سلمة عند مسلم: "فمن أنكر برئ ومن كره سلم". قوله: "دعاة" بضم الدال المهملة جمع داع أي إلى غير الحق. قوله: "على أبواب جهنم" أطلق عليهم ذلك باعتبار ما يؤول إليه حالهم، كما يقال لمن أمر بفعل محرم: وقف على شفير جهنم. قوله: "هم من جلدتنا" أي من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا، وفيه إشارة إلى أنهم من العرب. وقال الداودي: أي من بني آدم. وقال القابسي: معناه أنهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن محالفون، وجلدة الشيء ظاهره، وهي في الأصل غشاء البدن، قيل ويؤيد إرادة العرب أن السمرة غالبة عليهم واللون إنما يظهر في الجلد، ووقع في رواية أبي الأسود " فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس " وقوله: "جثمان " بضم الجيم وسكون المثلثة هو الجسد ويطلق على الشخص، قال عياض: المراد بالشر الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان، والمراد بالخير الذي بعده ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، والمراد بالذين تعرف منهم وتنكر الأمراء بعده، فكان فيهم من يتمسك بالسنة والعدل وفيهم من يدعو إلى البدعة ويعمل بالجور قلت: والذي يظهر أن المراد بالشر الأول ما أشار إليه من الفتن الأولى، وبالخير ما وقع من الاجتماع مع علي ومعاوية وبالدخن ما كان في زمنهما من بعض الأمراء كزياد بالعراق وخلاف من خالف عليه من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "الزم جماعة المسلمين وإمامهم " يعني ولو جار ويوضح ذلك رواية أبي الأسود " ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك " وكان مثل ذلك كثيرا في إمارة الحجاج ونحوه. قوله: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" بكسر الهمزة أي أميرهم زاد في رواية أبي الأسود " تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك " وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني " فإن رأيت خليفة فالزمه وإن ضرب ظهرك، فإن لم يكن خليفة فالهرب". قوله: "ولو أن تعض" بفتح العين المهملة وتشديد الضاد المعجمة أي ولو كان الاعتزال بالعض فلا تعدل عنه. وتعض بالنصب للجميع، وضبطه الأشيري بالرفع، وتعقب بأن جوازه متوقف على أن يكون " أن " التي تقدمته مخففة من الثقيلة وهنا لا يجوز ذلك لأنها لا تلي " لو " نبه عليه صاحب المغني. وفي رواية عبد الرحمن ابن قرط عن حذيفة عند ابن ماجه: "فلأن تموت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم " والجذل بكسر الجيم وسكون المعجمة بعدها لام عود ينص لتحتك به الإبل، وقوله: "وأنت على ذلك أي العض"، وهو كناية عن لزوم جماعة المسلمين وطاعة سلاطينهم ولو عصوا. قال البيضاوي: المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان، وعض أصل الشجرة كناية عن مكابدة المشقة كقولهم فلان يعض الحجارة من شدة الألم، أو المراد اللزوم كقوله في الحديث الآخر

(13/36)


" عضوا عليها بالنواجذ " ويؤيد الأول قوله في الحديث الآخر " فإن مت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم " وقال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم " دعاة على أبواب جهنم " ولم يقل فيهم " تعرف وتنكر " كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة. قال الطبري: اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة، فقال قوم: هو للوجوب والجماعة السواد الأعظم، ثم ساق عن محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان " عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة". وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم. وقال قوم: المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين. قال الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة، قال: وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن قرط المتقدم ذكرها، قال ابن أبي جمرة: في الحديث حكمة الله في عباده كيف أقام كلا منهم فيما شاء؛ فحبب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير ليعلموا بها ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة السؤال عن الشر ليجتنبه ويكون سببا في دفعه عمن أراد الله له النجاة، وفيه سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بوجوه الحكم كلها حتى كان يجيب كل من سأله بما يناسبه، ويؤخذ منه أن كل من حبب إليه شيء فإنه يفوق فيه غيره، ومن ثم كان حذيفة صاحب السر الذي لا يعلمه غيره حتى خص بمعرفة أسماء المنافقين وبكثير من الأمور الآتية، ويؤخذ منه أن من أدب التعليم أن يعلم التلميذ من أنواع العلوم ما يراه مائلا إليه من العلوم المباحة، فإنه أجدر أن يسرع إلى تفهمه والقيام به وأن كل شيء يهدي إلى طريق الخير يسمى خيرا وكذا بالعكس. ويؤخذ منه ذم من جعل للدين أصلا خلاف الكتب والسنة وجعلهما فرعا لذلك الأصل الذي ابتدعوه، وفيه وجوب رد الباطل وكل ما خالف الهدي النبوي ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع.

(13/37)


12 - باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ
7085 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي أَشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ "أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}
قوله: "باب من كره أن يكثر" بالتشديد "سواد الفتن والظلم" أي أهلهما، والمراد بالسواد وهو بفتح المهملة وتخفيف الواو الأشخاص، وقد جاء عن ابن مسعود مرفوعا: "من كثر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم

(13/37)


كان شريك من عمل به " أخرجه أبو يعلى، وفيه قصة لابن مسعود، وله شاهد عن أبي ذر في الزهد لابن المبارك غير مرفوع. قوله: "حدثنا حيوة" بفتح المهملة والواو بينهما ياء آخر الحروف ساكنة. قوله: "وغيره" كأنه يريد ابن لهيعة، فإنه رواه عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أيضا، وقد رواه عنه أيضا الليث، لكن أخرج البخاري هذا الحديث في تفسير سوره النساء عن عبد الله بن يزيد شيخه فيه هنا بسنده هذا وقال بعده " رواه الليث عن أبي الأسود " وقد رويناه موصولا في " معجم الطبراني الأوسط " من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث " حدثني الليث عن أبي الأسود عن عكرمة " فذكر الحديث دون القصة، قال الطبراني: لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث وابن لهيعة. قلت: ووهم في هذا الحصر لوجود رواية حيوة المذكورة، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن المقبري عن حيوة وحده به، وقد ذكرت من وصل رواية ابن لهيعة في تفسير سورة النساء مع شرح الحديث. وقوله: "فيأتي السهم فيرمى به" قيل هو من القلب والتقدير فيرمى بالسهم فيأتي. قلت: ويحتمل أن تكون الفاء الثانية زائدة، وثبت كذلك لأبي ذر في سورة النساء " فيأتي السهم يرمي به". و قوله: "أو يضربه" معطوف على " فيأتي " لا على " فيصيب " أي يقتل إما بالسهم. وإما بالسيف، وفيه تخطئة من يقيم بين أهل المعصية باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلا أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر كما وقع للذين كانوا أسلموا ومنعهم المشركون من أهلهم من الهجرة ثم كانوا يخرجون مع المشركين لا لقصد قتال المسلمين بل لإيهام كثرتهم في عيون المسلمين فحصلت لهم المؤاخذة بذلك، فرأى عكرمة أن من خرج في جيش يقاتلون المسلمين يأثم وإن لم يقاتل ولا نوى ذلك؛ ويتأيد ذلك في عكسه بحديث: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " كما مضى ذكره في كتاب الرقاق.

(13/38)


13 - باب إِذَا بَقِيَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ
7086 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ "حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلاَ أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمُ وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلاَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا"
قوله: "باب إذا بقي" أي المسلم "في حثالة من الناس" أي ماذا يصنع؟ والحثالة بضم المهملة وتخفيف المثلثة وتقدم تفسيرها في أوائل كتاب الرقاق، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الطبري وصححه ابن حبان من طريق

(13/38)


العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه. قال: فما تأمرني؟ قال: عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم " قال ابن بطال: أشار البخاري إلى هذا الحديث ولم يخرجه لأن العلاء ليس من شرطه فأدخل معناه في حديث حذيفة. قلت: يجتمع معه في قلة الأمانة وعدم الوفاء بالعهد وشدة الاختلاف، وفي كل منهما زيادة ليست في الآخر، وقد ورد عن ابن عمر مثل حديث أبي هريرة أخرجه حنبل بن إسحاق في كتاب الفتن من طريق عاصم بن محمد عن أخيه واقد وتقدم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة من طريق واقد وهو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، سمعت أبي يقول قال عبد الله بن عمر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس " إلى هنا انتهى ما في البخاري وبقيته عند حنبل مثل حديث أبي هريرة سواء وزاد: "قال: فكيف تأمرني يا رسول الله؟ قال: تأخذ بما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك وتدع عوامهم " وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه. وأخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو نفسه من طرق بعضها صحيح الإسناد وفيه: "قالوا كيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون " فذكر مثله بصيغة الجمع في جميع ذلك، وأخرجه الطبراني وابن عدي من طريق عبد الحميد بن جعفر بن الحكم عن أبيه عن علباء بكسر المهملة وسكون اللام بعدها موحدة ومد رفعه: "لا تقوم الساعة إلا على حثالة الناس " الحديث، وللطبراني من حديث سهل ابن سعد قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس فيه عمرو بن العاص وابناه فقال: "فذكر مثله وزاد: "وإياكم والتلون في دين الله ". قوله: "حدثنا محمد بن كثير" تقدم بهذا السند في كتاب الرقاق في " باب رفع الأمانة " وإن الجذر الأصل وتفتح جيمه وتكسر. قوله: "ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة" كذا في هذه الرواية بإعادة ثم، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبا كان أو مندوبا. قوله: "وحدثنا عن رفعها" هذا هو الحديث الثاني الذي ذكر حذيفة أنه ينتظره وهو رفع الأمانة أصلا حتى لا يبقى من يوصف بالأمانة إلا النادر، ولا يعكر على ذلك ما ذكره في آخر الحديث مما يدل على قلة من ينسب للأمانة فإن ذلك بالنسبة إلى حال الأولين، فالذين أشار إليهم بقوله: "ما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا " هم من أهل العصر الأخير الذي أدركه والأمانة فيهم بالنسبة إلى العصر الأول أقل، وأما الذي ينتظره فإنه حيث تفقد الأمانة من الجميع إلا النادر. قوله: "فيظل أثرها" أي يصير وأصل " ظل " ما عمل بالنهار ثم أطلق على كل وقت، وهي هنا على بابها لأنه ذكر الحالة التي تكون بعد النوم وهي غالبا تقع عند الصبح، والمعنى أن الأمانة تذهب حتى لا يبقى منها إلا الأثر الموصوف في الحديث. قوله: "مثل أثر الوكت" بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مثناة، تقدم تفسيره في الرقاق وأنه سواد في اللون، وكذا المجل وهو بفتح الميم وسكون الجيم أثر العمل في اليد. قوله: "فنفط" بكسر الفاء بعد النون المفتوحة أي صار منتفطا وهو المنتبر بنون ثم مثناة ثم موحدة يقال انتبر الجرح وانتفط إذا ورم وامتلأ ماء وحاصل الخبر أنه أنذر برفع الأمانة وأن الموصوف بالأمانة يسلبها حتى يصير خائنا بعد أن كان أمينا، وهذا إنما يقع على ما هو شاهد لمن خالط أهل الخيانة فإنه يصير خائنا لأن القرين يقتدي بقرينه. قوله: "ولقد أتى علي زمان إلخ" يشير إلى أن حال الأمانة أخذ في النقص من ذلك الزمان، وكانت وفاة حذيفة في أول سنة ست وثلاثين بعد

(13/39)


قتل عثمان بقليل، فأدرك بعض الزمن الذي وقع فيه التغير فأشار إليه، قال ابن التين: الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف. وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها، وقيل هي الطاعة، وقيل التكاليف، وقيل العهد الذي أخذه الله على العباد. وهذا الاختلاف وقع في تفسير الأمانة المذكورة في الآية "إنا عرضنا الأمانة" وقال صاحب التحرير: الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت في القلب قام بأداء ما أمر به واجتنب ما نهي عنه. وقال ابن العربي: المراد بالأمانة في حديث حذيفة الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها أن الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، فشبهه بالأثر في ظاهر البدن، وكني عن ضعف الإيمان بالنوم، وضرب مثلا لزهوق الإيمان عن القلب حالا بزهوق الحجر عن الرجل حتى يقع بالأرض. قوله: "ولا أبالي أيكم بايعت" تقدم في الرقاق أن مراده المبايعة في السلع ونحوها، لا المبايعة بالخلافة ولا الإمارة. وقد اشتد إنكار أبي عبيد وغيره على من حمل المبايعة هنا على الخلافة وهو واضح، ووقع في عبارته أن حذيفة كان لا يرضى بأحد بعد عمر يعني في الخلافة وهي مبالغة، وإلا فقد كان عثمان ولاه على المدائن وقد قتل عثمان وهو عليها، وبايع لعلي وحرض على المبايعة له والقيام فيه نصره، ومات في أوائل خلافته كما مضى في " باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما " والمراد أنه لوثوقه بوجود الأمانة في الناس أولا كان يقدم على مبايعة من اتفق من غير بحث عن حاله، فلما بدا التغير في الناس وظهرت الخيانة صار لا يبايع إلا من يعرف حاله، ثم أجاب عن إيراد مقدر كأن قائلا قال له: لم تزل الخيانة موجودة لأن الوقت الذي أشرت إليه كان أهل الكفر فيه موجودين وهم أهل الخيانة، فأجاب بأنه وإن كان الأمر كذلك لكنه كان يثق بالمؤمن لذاته وبالكافر لوجود ساعيه وهو الحاكم الذي يحكم عليه، وكانوا لا يستعملون في كل عمل قل أو جل إلا المسلم، فكان واثقا بإنصافه وتخليص حقه من الكافر إن خانه، بخلاف الوقت الأخير الذي أشار إليه فإنه صار لا يبايع إلا أفرادا من الناس يثق بهم. وقال ابن العربي: قال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة والخليفتين فأشار إلى ذلك بالمبايعة، وكني عن الإيمان بالأمانة وعما يخالف أحكامه بالخيانة، والله أعلم.

(13/40)


14- باب التَّعَرُّبِ فِي الْفِتْنَةِ
7087 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ "عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ يَا ابْنَ الأَكْوَعِ ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ تَعَرَّبْتَ قَالَ لاَ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِي فِي الْبَدْوِ وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلاَدًا فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ"
7088 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ "عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ"

(13/40)


قوله: "باب التعرب في الفتنة" بالعين المهملة والراء الثقيلة أي السكنى مع الأعراب بفتح الألف، وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابيا، وكان إذ ذاك محرما إلا إن أذن له الشارع في ذلك، وقيده بالفتنة إشارة إلى ما ورد من الإذن في ذلك عند حلول الفتن كما في ثاني حديثي الباب، وقيل بمنعه في زمن الفتنة لما يترتب عليه من خذلان أهل الحق، ولكن نظر السلف اختلف في ذلك: فمنهم من آثر السلامة واعتزل الفتن كسعد ومحمد بن مسلمة وابن عمر في طائفة، ومنهم من باشر القتال وهم الجمهور. ووقع في رواة كريمة: "التعزب " بالزاي وبينهما عموم وخصوص. وقال صاحب المطالع: وجدته بخطي في البخاري بالزاي وأخشى أن يكون وهما، فإن صح فمعناه البعد والاعتزال. قوله: "حدثنا حاتم" بمهملة ثم مثناة هو ابن إسماعيل الكوفي نزيل المدينة، ويزيد بن أبي عبيد في رواية القعنبي عن حاتم " أنبأنا يزيد بن أبي عبيد " أخرجها أبو نعيم. قوله: "عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج" هو ابن يوسف الثقفي الأمير المشهور، وكان ذلك لما ولى الحجاج إمرة الحجاز بعد قتل ابن الزبير فسار من مكة إلى المدينة وذلك في سنة أربع وسبعين. قوله: "ارتددت على عقبيك" كأنه أشار إلى ما جاء من الحديث في ذلك كما تقدم عند عد الكبائر في كتاب الحدود، فإن من جملة ما ذكر في ذلك " من رجع بعد هجرته أعرابيا " وأخرج النسائي من حديث ابن مسعود رفعه: "لعن الله آكل الربا وموكله " الحديث وفيه: "والمرتد بعد هجرته أعرابيا " قال ابن الأثير في النهاية: كان من رجع بعد هجرته إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد. وقال غيره: كان ذلك من جفاء الحجاج حيث خاطب هذا الصحابي الجليل بهذا الخطاب القبيح من قبل أن يستكشف عن عذره، ويقال إنه أراد قتله فبين الجهة التي يريد أن يجعله مستحقا للقتل بها. وقد أخرج الطبراني من حديث جابر بن سمرة رفعه: "لعن الله من بدا بعد هجرته " إلا في الفتنة فإن البدو خير من المقام في الفتنة. قوله: "قال لا" أي لم أسكن البادية رجوعا عن هجرتي "ولكن" بالتشديد والتخفيف. قوله: "أذن لي في البدو" وفي رواية حماد بن مسعدة عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداوة فأذن له أخرجه الإسماعيلي، وفي لفظ له " استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد وقع لسلمة في ذلك قصة أخرى مع غير الحجاج، فأخرج أحمد من طريق سعيد بن إياس بن سلمة أن أباه حدثه قال: "قدم سلمة المدينة فلقيه بريدة بن الخصيب فقال: ارتددت عن هجرتك، فقال: معاذ الله، إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: ابدوا يا أسلم - أي القبيلة المشهورة التي منها سلمة وأبو برزة وبريدة المذكور - قالوا: إنا نخاف أن يقدح ذلك في هجرتنا، قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم " وله شاهد من رواية عمرو بن عبد الرحمن بن جرهد قال: "سمعت رجلا يقول لجابر: من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع، فقال رجل: أما سلمة فقد ارتد عن هجرته، فقال: لا تقل ذلك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأسلم: ابدوا، قالوا إنا نخاف أن نرتد بعد هجرتنا، قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم " وسند كل منهما حسن. قوله: "وعن يزيد بن أبي عبيد" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "لما قتل عثمان بن عفان خرج سلمة إلى الربذة" بفتح الراء والموحدة بعدها معجمة موضع بالبادية بين مكة والمدينة. ويستفاد من هذه الرواية مدة سكنى سلمة البادية وهي نحو الأربعين سنة، لأن قتل عثمان كان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وموت سلمة سنة أربع وسبعين على الصحيح. قوله: "فلم يزل بها" في رواية الكشميهني: "هناك " "حتى قبل أن يموت بليال" كذا فيه بحذف " كان " بعد قوله: "حتى

(13/41)


" وقبل قوله: "قبل " وهي مقدرة وهو استعمال صحيح. قوله: "نزل المدينة" في رواية المستملي والسرخسي " فنزل " بزيادة فاء، وهذا يشعر بأن سلمة لم يمت بالبادية كما جزم به يحيى بن عبد الوهاب بن منده في الجزء الذي جمعه في آخر من مات من الصحابة بل مات بالمدينة كما تقتضيه رواية يزيد بن أبي عبيد هذه وبذلك جزم أبو عبد الله بن منده في " معرفة الصحابة " وفي الحديث أيضا رد على من أرخ وفاة سلمة سنة أربع وستين فإن ذلك كان في آخر خلافة يزيد بن معاوية ولم يكن الحجاج يومئذ أميرا ولا ذا أمر ولا نهي، وكذا فيه رد على الهيثم بن عدي حيث زعم أنه مات في آخر خلافة معاوية وهو أشد غلطا من الأول إن أراد معاوية بن أبي سفيان وإن أراد معاوية بن يزيد بن معاوية فهو عين القول الذي قبله، وقد مشى الكرماني على ظاهره فقال: مات سنة ستين وهي السنة التي مات فيها معاوية بن أبي سفيان، كذا جزم به والصواب خلافه، وقد اعترض الذهبي على من زعم أنه عاش ثمانين سنة ومات سنة أربع وسبعين لأنه يلزم منه أن يكون له في الحديبية اثنتا عشرة سنة وهو باطل لأنه ثبت أنه قاتل يومئذ وبايع. قلت: وهو اعتراض متجه لكن ينبغي أن ينصرف إلى سنة وفاته لا إلى مبلغ عمره فلا يلزم منه رجحان قول من قال مات سنة أربع وستين فإن حديث جابر يدل على أنه تأخر عنها لقوله لم يبق من الصحابة إلا أنس وسلمة، وذلك لائق بسنة أربع وسبعين فقد عاش جابر بن عبد الله بعد ذلك إلى سنة سبع وسبعين على الصحيح وقيل مات في التي بعدها وقيل قبل ذلك ثم ذكر حديث أبي سعيد " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم " الحديث وفي آخره: "يفر بدينه من الفتن " وقد تقدم بعض شرحه في " باب العزلة " من كتاب الرقاق، وأشار إلى حمل صنيع سلمة على ذلك لكونه لما قتل عثمان ووقعت الفتن اعتزل عنها وسكن الربذة وتأهل بها ولم يلابس شيئا من تلك الحروب، والحق حمل عمل كل أحد من الصحابة المذكورين على السداد فمن لابس القتال اتضح له الدليل لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية وكانت له قدرة على ذلك، ومن قعد لم يتضح له أي الفئتين هي الباغية وإذا لم يكن له قدرة على القتال. وقد وقع لخزيمة بن ثابت أنه كان مع علي وكان مع ذلك لا يقاتل فلما قتل عمار قاتل حينئذ وحدث بحديث: "يقتل عمارا الفئة الباغية " أخرجه أحمد وغيره، وقوله: "يوشك " هو بكسر الشين المعجمة أي يسرع وزنه ومعناه، ويجوز يوشك بفتح الشين. وقال الجوهري هي لغة رديئة، وقوله: "أن يكون خير مال المسلم: "يجوز في خير الرفع والنصب فإن كان غنم بالرفع فالنصب وإلا فالرفع وتقدم بيان ذلك في كتاب الإيمان أول الكتاب، والأشهر في الرواية غنم بالرفع، وقد جوز بعضهم رفع خير مع ذلك على أن يقدر في يكون ضمير الشأن وغنم وخير مبتدأ وخبر ولا يخفى تكلفه، وقوله: "شعف الجبال " بفتح الشين المعجمة والعين المهملة بعدها فاء جمع شعفة كأكم وأكمة رءوس الجبال والمرعى فيها والماء ولا سيما وفي بلاد الحجاز أيسر من غيرها، ووقع عند بعض رواة الموطأ بضم أوله وفتح ثانيه وبالموحدة بدل الفاء جمع شعبة وهي ما انفرج بين جبلين ولم يختلفوا في أن الشين معجمة، ووقع لغير مالك كالأول لكن السين مهملة وسبق بيان ذلك في أواخر علامات النبوة، وقد وقع في حديث أبي هريرة عند مسلم نحو هذا الحديث ولفظه: "ورجل في رأس شعبة من هذه الشعاب".
قوله: "يفر بدينه من الفتن" قال الكرماني هذه الجملة حالية وذو الحال الضمير المستتر في يتبع أو المسلم إذا جوزنا الحال من المضاف إليه فقد وجد شرطه وهو شده الملابسة وكأنه جزء منه، واتحاد الخير بالمال واضح، ويجوز أن تكون استئنافية وهو واضح انتهى.
والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في

(13/42)


أصل العزلة فقال الجمهور الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك. وقال قوم العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين، وقد مضى طرف من ذلك في " باب العزلة " من كتاب الرقاق وقال النووي المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى. وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين ومنهم من يترجح ليس الكلام فيه بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينا وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال الله تعالى :{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضا: "خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره " وقد تقدم في " باب العزلة " من كتاب الرقاق حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه آنفا فإن أوله عند مسلم: "خير معاشر الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله " الحديث وفيه: "ورجل في غنيمة " الحديث وكأنه ورد في أي الكسب أطيب، فإن أخذ على عمومه دل على فضيلة العزلة لمن لا يتأتى له الجهاد في سبيل الله إلا أن يكون قيد بزمان وقوع الفتن والله أعلم.

(13/43)


15 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ
7089 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ, فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُ لَكُمْ, فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي, فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاَحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ. ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا. وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا, وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ, فَقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ, إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ" قال: فَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
7090 - وَقَالَ عَبَّاسٌ النَّرْسِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. بِهَذَا وَقَالَ "كُلُّ رَجُلٍ لاَفًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي, وَقَالَ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ, أَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَوْأَى الْفِتَنِ"

(13/43)


7091 - وقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَمُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ "أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَقَالَ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ"
قوله: "باب التعوذ من الفتن" قال ابن بطال: في مشروعية ذلك الرد على من قال: اسألوا الله الفتنة فإن فيها حصاد المنافقين، وزعم أنه ورد في حديث وهو لا يثبت رفعه بل الصحيح خلافه. قلت: أخرجه أبو نعيم من حديث علي بلفظ: "لا تكرهوا الفتنة في آخر الزمان فإنها تبير المنافقين " وفي سنده ضعيف ومجهول، وقد تقدم في الدعوات عدة تراجم للتعوذ من عدة أشياء منها الاستعاذة من فتنة الغنى والاستعاذة من فتنة الفقر والاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا ومن فتنة النار وغير ذلك، قال العلماء: أراد صلى الله عليه وسلم مشروعية ذلك لأمته. قوله: "هشام" هو الدستوائي. قوله: "عن أنس" في رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أنسا حدثهم. قوله: "أحفوه" أي ألحوا عليه في السؤال، وعند الإسماعيلي في رواية من هذا الوجه " ألحفوه أو أحفوه بالمسألة". قوله: "ذات يوم المنبر" في رواية الكشميهني: "ذات يوم على المنبر". قوله: "فإذا كل رجل رأسه في ثوبه" في رواية الكشميهني: "لاف رأسه في ثوبه " وتقدم في تفسير المائدة من وجه آخر " لهم خنين " وهو بالمعجمة أي من البكاء. قوله: "فأنشأ رجل" أي بدأ الكلام. وفي رواية الإسماعيلي: "فقام رجل " وفي لفظ له " فأتى رجل". قوله: "كان إذا لاحى" بفتح المهملة من الملاحاة وهي المماراة والمجادلة. قوله: "أبوك حذافة" في رواية معتمر " سمعت أبي عن قتادة " عند الإسماعيلي، واسم الرجل خارجة. قلت: والمعروف أن السائل عبد الله أخو خارجة، وتقدم في تفسير المائدة من قال أنه قيس بن حذافة، وعند أحمد من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه: "لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به " فقال عبد الله بن حذافة: من أبي يا رسول الله؟ قال: حذافة بن قيس، فرجع إلى أمه فقالت له: ما حملك على الذي صنعت؟ فقد كنا في جاهلية، فقال: إني كنت لأحب أن أعلم من هو أبي من كان من الناس. قوله: "ثم أنشأ عمر" كذا وقع في هذه الرواية، وتقدم في تفسير سورة المائدة من طريق أخرى أتم من هذا، وعند الإسماعيلي من طريق معتمر المذكور من الزيادة " فأرم " براء مفتوحة ثم ميم ثقيلة " وخشوا أن يكونوا بين يدي أمر عظيم، قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فلا أرى كل رجل إلا قد دس رأسه في ثوبه يبكي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سلوني " فذكر الحديث. وعند أحمد عن أبي عامر العقدي عن هشام بعد قوله أبوك حذافة " فقال رجل: يا رسول الله في الجنة إنا أو في النار؟ قال: في النار " وسيأتي ذلك في كتاب الاعتصام من رواية الزهري عن أنس. قوله: "من سوء الفتن" بضم السين المهملة بعدها واو ثم همزة، وللكشميهني: "شر " بفتح المعجمة وتشديد الراء. قوله: "صورت الجنة والنار" في رواية الكشميهني: "صورت لي". قوله: "دون الحائط" أي بينه وبين الحائط، وزاد في رواية الزهري عن أنس " فلم أر كاليوم في الخير والشر " وسيأتي بيانه في كتاب الاعتصام. قوله: "قال قتادة: يذكر هذا الحديث عند هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"" هو بضم أول يذكر وفتح الكاف، ووقع في رواية الكشميهني: "فكان قتادة يذكر " بفتح أوله وضم الكاف وهي أوجه، وكذا وقع في رواية الإسماعيلي. قوله: "وقال عباس" هو بموحدة ومهملة وهو ابن الوليد و "النرسي" بفتح النون ثم سين مهملة، ومضى في علامات النبوة له حديث

(13/44)


وفي أواخر المغازي في " باب بعث معاذ وأبي موسى إلى اليمين " آخر، ومن جاء بهذه الصورة فيما عدا هذه المواضع الثلاثة في البخاري فهو عياش بن الوليد الرقام بمثناة تحتانية وآخره معجمة، ويزيد شيخه هو ابن زريع، وسعيد هو ابن أبي عروبة، وقد وصله أبو نعيم في " المستخرج " من رواية محمد ابن عبد الله بن رسته بضم الراء وسكون المهملة بعدها مثناة مفتوحة قال: "حدثنا عباس بن الوليد به " وذلك يؤيد كونه بالمهملة لأن الذي بالشين المعجمة ليس فيه الألف واللام. قوله: "بهذا" أي بهذا الحديث الماضي، ثم بين أن فيه زيادة قوله: "لافا " فدل على أن زيادتها في الأول وهم من الكشميهني. قوله: "وقال عائذا إلخ" بين أن في رواية سعيد بالشك في سوء وسوأي. قوله: "عائذا بالله" وهكذا وقع بالنصب وهو على الحال أي أقول ذلك عائذا أو على المصدر أي عياذا، وجاء في رواية أخرى بالرفع أي أنا عائذ. قوله: "وقال لي خليفة" هو ابن خياط العصفري، وأكثر ما يخرج عنه البخاري يقع بهذه الصيغة لا يقول حدثنا ولا أخبرنا، وكأنه أخذ ذلك عنه في المذاكرة. وقوله سعيد هو ابن أبي عروبة ومعتمر هو ابن سليمان التيمي. قوله: "عن أبيه" يعني عن أبي معتمر، وذكر هذه الطريق الأخرى لقوله في آخره: "من شر الفتن " بالشين المعجمة والراء، وقد تقدم التنبيه على المواضع التي ذكر فيها هذا الحديث في تفسير المائدة وأن بقية شرحه يأتي في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى.

(13/45)


16 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ
7092 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ "أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ الْفِتْنَةُ هَا هُنَا الْفِتْنَةُ هَا هُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ أَوْ قَالَ قَرْنُ الشَّمْسِ"
7093 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن نافع "عن بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول "ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان"
7094 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ"
7095 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَرَجَوْنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا قَالَ فَبَادَرَنَا إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدِّثْنَا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَاللَّهُ يَقُولُ وَ {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ"

(13/45)


قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الفتنة من قبل المشرق" أي من جهته، ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول ذكره من وجهين، وقد ذكرت في شرح حديث أسامة في أوائل كتاب الفتن وجه الجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرى الفتن خلال بيوتكم " وكان خطابه ذلك لأهل المدينة. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر" في رواية عبد الرزاق عن معمر عند الترمذي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على المنبر " وفي رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في مناقب قريش بسنده " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر " وفي رواية يونس بن يزيد عن الزهري عند مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو مستقبل المشرق". قوله: "الفتنة هاهنا، الفتنة هاهنا" كذا فيه مرتين. وفي رواية يونس " ها إن الفتنة هاهنا أعادها ثلاث مرات". قوله: "من حيث يطلع قرن الشيطان، أو قال قرن الشمس" كذا هنا بالشك. وفي رواية عبد الرزاق " هاهنا أرض الفتن وأشار إلى المشرق يعني حيث يطلع قرن الشيطان " وفي رواية شعيب " ألا إن الفتنة هاهنا يشير إلى المشرق حيث يطلع قرن الشيطان " وفي رواية يونس مثل معمر لكن لم يقل " أو قال قرن الشمس " بل قال: "يعني المشرق " ولمسلم من رواية عكرمة بن عمار عن سالم " سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو المشرق ويقول: ها إن الفتنة هاهنا ثلاثا حيث يطلع قرن الشيطان " وله من طريق حنظلة عن سالم مثله لكن قال: "إن الفتنة هاهنا ثلاثا " وله من طريق فضيل بن غزوان " سمعت سالم بن عبد الله ابن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم الكبيرة، سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الفتنة تجيء من هاهنا، وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان " كذا فيه بالتثنية، وله في صفة إبليس من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثل سياق حنظلة سواء، وله نحوه من رواية سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار أخرجه في الطلاق ثم ساق هنا من رواية الليث عن نافع عن ابن عمر مثل رواية يونس إلا أنه قال: "ألا إن الفتنة هاهنا " ولم يكرر، وكذا لمسلم، وأورده الإسماعيلي من رواية أحمد بن يونس عن الليث فكررها مرتين. قوله: "عن ابن عون" هو عبد الله "عن نافع عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لنا في شامنا الحديث" كذا أورده عن علي بن عبد الله عن أزهر السمان وأخرجه الترمذي عن بشر بن آدم بن بنت أزهر حدثني جدي أزهر بهذا السند " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ومثله للإسماعيلي من رواية أحمد بن إبراهيم الدورقي عن أزهر، وأخرجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عون عن أبيه كذلك، وقد تقدم من وجه آخر عن ابن عون في الاستسقاء موقوفا وذكرت هناك الاختلاف فيه. قوله: " قالوا يا رسول الله: وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" وقع في رواية الترمذي والدورقي بعد قوله وفي نجدنا " قال اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا قال وفي نجدنا؟ قال: هناك " فذكره لكن شك هل قال بها أو منها. وقال يخرج بدل يطلع، وقد وقع في رواية الحسين بن الحسن في الاستسقاء مثله في الإعادة مرتين. وفي رواية ولد ابن عون " فلما كان الثالثة أو الرابعة قالوا يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال بها الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان " قال المهلب: إنما ترك صلى الله عليه وسلم الدعاء لأهل المشرق ليضعفوا عن الشر الذي هو موضوع في جهتهم لاستيلاء الشيطان بالفتن وأما قوله: "قرن الشمس " فقال الداودي: للشمس قرن حقيقة ويحتمل أن يريد بالقرن قوة الشيطان وما يستعين به على الإضلال، وهذا أوجه، وقيل إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له قيل ويحتمل أن يكون للشمس شيطان تطلع الشمس بين قرنيه.
وقال الخطابي: القرن الأمة من الناس يحدثون بعد

(13/46)


فناء آخرين، وقرن الحية أن بضرب المثل فيما لا يحمد من الأمور. وقال غيره كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة انتهى وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي أن نجدا من ناحية العراق فإنه توهم أن نجدا موضع مخصوص، وليس كذلك بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجدا والمنخفض غورا. قوله: "حدثنا إسحاق الواسطي" هو ابن شاهين، وخالد هو ابن عبد الله، وبيان بموحدة ثم تحتانية خفيفة هو ابن عمرو، ووبرة بفتح الواو والموحدة عند الجميع وبه جزم ابن عبد البر. وقال عياض ضبطناه في مسلم بسكون الموحدة. قوله: "أن يحدثنا حديثا حسنا" أي حسن اللفظ يشتمل على ذكر الترجمة والرخصة، فشغله الرجل فصده عن إعادته حتى عدل إلى التحدث عن الفتنة. قوله: "فقام إليه رجل" تقدم في الأنفال أن اسمه حكيم، أخرجه البيهقي من رواية زهير بن معاوية عن بيان " أن وبرة حدثه " فذكره، وفيه: "فمررنا برجل يقال له حكيم". قوله: "يا أبا عبد الرحمن" هي كنية عبد الله بن عمر. قوله: "حدثنا عن القتال في الفتنة والله يقول" يريد أن يحتج بالآية على مشروعية القتال في الفتنة وأن فيها الرد على من ترك ذلك كابن عمر، وقوله: "ثكلتك أمك " ظاهره الدعاء وقد يرد مورد الزجر كما هنا، وحاصل جواب ابن عمر له أن الضمير في قوله تعالى :{وَقَاتِلُوهُمْ} للكفار، فأمر المؤمنين بقتال الكافرين حتى لا يبقى أحد يفتن عن دين الإسلام ويرتد إلى الكفر، ووقع نحو هذا السؤال من نافع بن الأزرق وجماعة لعمران ابن حصين فأجابهم بنحو جواب ابن عمر أخرجه ابن ماجه، وقد تقدم في سورة الأنفال من رواية زهير بن معاوية عن بيان بزيادة " فقال: "بدل قوله: "وكان الدخول في دينهم فتنة، فكان الرجل يفتن عن دينه إما يقتلونه وإما يوثقونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة " أي لم يبق فتنة أي من أحد من الكفار لأحد من المؤمنين. ثم ذكر سؤاله عن علي وعثمان وجواب ابن عمر. وقوله هنا " وليس كقتالكم على الملك " أي في طلب الملك، يشير إلى ما وقع بين مروان ثم عبد الملك ابنه وبين ابن الزبير وما أشبه ذلك، وكان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة ولو ظهر أن إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة، وقيل الفتنة مختصة بما إذا وقع القتال بسبب التغالب في طلب الملك، وأما إذا علمت الباغية فلا تسمى فتنة وتجب مقاتلتها حتى ترجع إلى الطاعة؛ وهذا قول الجمهور.

(13/47)


17 - باب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً ... تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا ... وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ... َمكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

(13/47)


7096 -حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ "سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ إِذْ قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ ؟ قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ قَالَ عُمَرُ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا قُلْتُ: أَجَلْ قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ الْبَابُ قَالَ عُمَرُ"
7097 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ وَقُلْتُ: لاَكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْنِي فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَوَقَفَ فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ قَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَدَخَلَ فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ عُمَرُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَامْتَلاَ الْقُفُّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ مَعَهَا بَلاَءٌ يُصِيبُهُ فَدَخَلَ فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ثُمَّ دَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِي وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ"
7098 - حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ قِيلَ لِأُسَامَةَ أَلاَ تُكَلِّمُ هَذَا قَالَ قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ وَمَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنْتَ خَيْرٌ بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلاَنُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ"

(13/48)


قوله: "باب الفتنة التي تموج كموج البحر" كأنه يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عاصم ابن ضمرة عن علي قال: "وضع الله في هذه الأمة خمس فتن " فذكر الأربعة ثم فتنة تموج كموج البحر وهي التي يصبح الناس فيها كالبهائم أي لا عقول لهم، ويؤيده حديث أبي موسى " تذهب عقول أكثر ذلك الزمان " وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حذيفة قال: "لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك؛ إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل" . قوله: "وقال ابن عيينة" هو سفيان، وقد وصله البخاري في التاريخ الصغير عن عبد الله بن محمد المسندي " حدثنا سفيان بن عيينة". قوله: "عن خلف بن حوشب" بمهملة ثم معجمة ثم موحدة بوزن جعفر، وخلف كان من أهل الكوفة روى عن جماعة من كبار التابعين وأدرك بعض الصحابة لكن لم أجد له رواية عن صحابي، وكان عابدا. وثقه العجلي. وقال النسائي لا بأس به، وأثنى عليه ابن عيينة والربيع بن أبي راشد، وروى عنه أيضا شعبة، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن" أي عند نزولها. قوله: "قال امرؤ القيس" كذا وقع عند أبي ذر في نسخة، والمحفوظ أن الأبيات المذكورة لعمرو ابن معد يكرب الزبيدي كما جزم به أبو العباس المبرد في الكامل، وكذا رويناه في " كتاب الغرر من الأخبار " لأبي بكر خمد بن خلف القاضي المعروف بوكيع قال: "حدثنا معدان بن علي حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن خلف بن حوشب قال قال عمرو بن معد يكرب " وبذلك جزم السهيلي في " الروض " ووقع لنا موصولا من وجه آخر وفيه زيادة رويناه في " فوائد الميمون بن حمزة المصري " عن الطحاوي فيما زاده في السنن التي رواها عن المزني عن الشافعي فقال: "حدثنا المزني حدثنا الحميدي عن سفيان عن خلف بن حوشب قال قال عيسى بن مريم للحواريين كما ترك لكم الملوك الحكمة فاتركوا لهم الدنيا " وكان خلف يقول ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة. قوله: "الحرب أول ما تكون فتية" بفتح الفاء وكسر المثناة وتشديد التحتانية أي شابة، حكى ابن التين عن سيبويه الحرب مؤنثة وعن المبرد قد تذكر وأنشد له شاهدا قال: وبعضهم يرفع " أول وفتية " لأنه مثل، ومن نصب أول قال إنه الخبر، ومنهم من قدره الحرب أول ما تكون أحوالها إذا كانت فتية، ومنهم من أعرب أول حالا " وقال غيره يجوز فيه أربعة أوجه رفع أول ونصب فتية وعكسه ورفعهما جميعا ونصبهما فمن رفع أول ونصب فتية فتقديره الحرب أول أحوالها إذا كانت فتية فالحرب مبتدأ وأول مبتدأ ثان وفتية حال سدت مسد الخبر والجملة خبر الحرب، ومن عكس فتقديره الحرب في أول أحوالها فتية فالحرب مبتدأ وفتية خبرها وأول منصوب على الظرف، ومن رفعهما فالتقدير الحرب أول أحوالها فأول مبتدأ ثان أو بدل من الحرب وفتية خبر، ومن نصبهما جعل أول ظرفا وفتية حالا والتقدير الحرب في أول أحوالها إذا كانت فتية وتسعى خبر عنها، أي الحرب في حال ما هي فتية أي في وقت وقوعها يفر من لم يجربها حتى يدخل فيها فتهلكه. قوله: "بزينتها" كذا فيه من الزينة، ورواه سيبويه ببزتها بموحدة وزاي مشددة والبزة اللباس الجيد. قوله: "إذا اشتعلت" بشين معجمة وعين مهملة كناية عن هيجانها، ويجوز في " إذا " أن تكون ظرفية وأن تكون شرطية والجواب ولت، وقوله: "وشب ضرامها " هو بضم الشين المعجمة ثم موحدة تقول شبت الحرب إذا اتقدت وضرامها بكسر الضاد المعجمة أي اشتعالها. قوله: "ذات حليل" بحاء مهملة والمعنى أنها صارت لا يرغب أحد في تزويجها، ومنهم من قاله بالخاء المعجمة. قوله: "شمطاء" بالنصب هو وصف العجوز، والشمط بالشين المعجمة اختلاط الشعر الأبيض بالشعر الأسود. وقال الداودي، هو كناية عن كثرة الشيب.

(13/49)


وقوله: "ينكر لونها " أي يبدل حسنها بقبح. ووقع في رواية الحميدي " شمطاء جزت رأسها " بدل قوله: "ينكر لونها " وكذلك أنشده السهيلي في الروض. وقوله: "مكروهة للشم والتقبيل " يصف فاها بالبخر مبالغة في التنفير منها، والمراد بالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة، فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولا. ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث: أحدها حديث حذيفة. قوله: "حدثنا شقيق" هو أبو وائل بن سلمة الأسدي، وقد تقدم في الزكاة من طريق جرير عن الأعمش عن أبي وائل. قوله: "سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر" تقدم شرحه مستوفى في علامات النبوة، وسياقه هناك أتم. وخالف أبو حمزة السكري أصحاب الأعمش فقال: "عن أبي وائل عن مسروق قال: قال عمر " وقوله هنا " ليس عن هذا أسألك " وقع في رواية ربعي بن حراش عن حذيفة عند الطبراني " لم أسأل عن فتنة الخاصة " وقوله: "ولكن التي تموج كموج البحر، فقال: ليس عليك منها بأس " في رواية الكشميهني: "عليكم " بصيغة الجمع، ووقع في رواية ربعي، فقال حذيفة " سمعته يقول: يأتيكم بعدي فتن كموج البحر يدفع بعضها بعضا " فيؤخذ منه جهة التشبيه بالموج وأنه ليس المراد به الكثرة فقط، وزاد في رواية ربعي " فرفع عمر يده فقال: اللهم لا تدركني، فقال حذيفة: لا تخف " وقوله: "إذا لا يغلق أبدا؟ قلت: أجل " في رواية ربعي " قال حذيفة كسرا ثم لا يغلق إلى يوم القيامة". قوله: "كما يعلم أن دون غد ليلة" أي علمه علما ضروريا مثل هذا " قال ابن بطال: إنما عدل حذيفة حين سأله عمر عن الإخبار بالفتنة الكبرى إلى الإخبار بالفتنة الخاصة لئلا يغم ويشتغل باله، ومن ثم قال له " إن بينك وبينها بابا مغلقا " ولم يقل له أنت الباب وهو يعلم أنه الباب فعرض له بما فهمه ولم يصرح وذلك من حسن أدبه. وقول عمر " إذا كسر لم يغلق " أخذه من جهة أن الكسر لا يكون إلا غلبة والغلبة لا تقع إلا في الفتنة، وعلم من الخبر النبوي أن بأس الأمة بينهم واقع، وأن الهرج لا يزال إلى يوم القيامة كما وقع في حديث شداد رفعه: "إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة". قلت: أخرجه الطبري وصححه ابن حبان. وأخرج الخطيب في " الرواة عن مالك " أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي فوجدها تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي - لكعب الأحبار - يقول: إنك باب من أبواب جهنم، فقال عمر: ما شاء الله. ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة. فقال: ما هذا، مرة في الجنة ومرة في النار؟ فقال: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا مت اقتحموا. قوله: "فأمرنا مسروقا" احتج به من قال إن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء. قوله: "عن شريك بن عبد الله" هو بن أبي نمر. ولم يخرج البخاري عن شريك بن عبد الله النخعي القاضي شيئا. قوله: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حائط من حوائط المدينة لحاجته" تقدم اسم الحائط المذكور مع شرح الحديث في مناقب أبي بكر، وقوله هنا " لأكونن اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني " قال الداودي في الرواية الأخرى " أمرني بحفظ الباب: "وهو اختلاف ليس المحفوظ إلا أحدهما، وتعقب بإمكان الجمع بأنه فعل ذلك ابتداء من قبل نفسه فلما استأذن أولا لأبي بكر وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له ويبشره بالجنة وافق ذلك اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ الباب عليه لكونه كان في حال خلوة وقد كشف عن ساقه ودلى رجليه فأمره بحفظ الباب، فصادف أمره ما كان أبو موسى ألزم نفسه به قبل الأمر. ويحتمل أن يكون أطلق الأمر على التقرير

(13/50)


وقد مضى شيء من هذا في مناقب أبي بكر. وقوله هنا " وجلس على قف البئر " في رواية غير الكشميهني: "في " بدل " على " والقف ما ارتفع من متن البئر. وقال الداودي: ما حول البئر. قلت: والمراد هنا مكان يبنى حول البئر للجلوس، والقف أيضا الشيء اليابس، وفي أودية المدينة واد يقال له القف وليس مرادا هنا. وقوله: "فدخل فجاء عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: "في رواية الكشميهني: "فجلس " بدل " فجاء " وقوله: "فامتلأ القف " في رواية الكشميهني: "وامتلأ " بالواو، والمراد من تخريجه هنا الإشارة إلى أن قوله في حق عثمان " بلاء يصيبه " هو ما وقع له من القتل الذي نشأت عنه الفتن الواقعة بين الصحابة في الجمل ثم في صفين وما بعد ذلك. قال ابن بطال: إنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضا لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن عثمان من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور والظلم مع تنصله من ذلك واعتذاره عن كل ما أوردوه عليه ثم هجومهم عليه داره وهتكهم ستر أهله، وكل ذلك زيادة على قتله. قلت: وحاصله أن المراد بالبلاء الذي خص به الأمور الزائدة على القتل وهو كذلك. قوله: "قال فتأولت ذلك قبورهم" في رواية الكشميهني: "فأولت " قال الداودي: كان سعيد ابن المسيب لجودته في عبارة الرؤيا يستعمل التعبير فيما يشبهها. قلت: ويؤخذ منه أن التمثيل لا يستلزم التسوية، فإن المراد بقوله: "اجتمعوا " مطلق الاجتماع لا خصوص كون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله كما كانوا على البئر، وكذا عثمان انفرد قبره عنهم ولم يستلزم أن يكون مقابلهم. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. وفي رواية أحمد عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن سليمان ومنصور وكذا للإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن بشر بن خالد شيخ البخاري فيه لكنه ساقه على لفظ سليمان وقال في آخره: "قال شعبة وحدثني منصور عن أبي وائل عن أسامة " نحوا منه إلا أنه زاد فيه: "فتندلق أقتاب بطنه". قوله: "قيل لأسامة: ألا تكلم هذا؟" كذا هنا بإبهام القائل وإبهام المشار إليه، وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من طريق سفيان بن عيينة عن الأعمش بلفظ: "لو أتيت فلانا فكلمته " وجزاء الشرط محذوف والتقدير لكان صوابا، ويحتمل أن تكون " لو " للتمني ووقع اسم المشار إليه عند مسلم من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أسامة " قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه " ولأحمد عن يعلى بن عبيد عن الأعمش " ألا تكلم عثمان". قوله: "قد كلمته ما دون أن أفتح بابا" أي كلمته فيما أشرتم إليه، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السر بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها. وما موصوفة ويجوز أن تكون موصولة. قوله: "أكون أول من يفتحه" في رواية الكشميهني: "فتحه " بصيغة الفعل الماضي وكذا في رواية الإسماعيلي؛ وفي رواية سفيان " قال إنكم لترون - أي تظنون - أني لا أكلمه إلا أسمعتكم " أي إلا بحضوركم، وسقطت الألف من بعض النسخ فصار بلفظ المصدر أي إلا وقت حضوركم حيث تسمعون وهي رواية يعلى بن عبيد المذكورة، وقوله في رواية سفيان " إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه " عند مسلم مثله لكن قال بعد قوله إلا أسمعتكم " والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه " يعني لا أكلمه إلا مع مراعاة المصلحة بكلام لا يهيج به فتنة. قوله: "وما أنا بالذي أقول لرجل بعد أن يكون أميرا على رجلين أنت خير" في رواية الكشميهني: "إيت خيرا " بصيغة فعل الأمر من الإيتاء ونصب خيرا على المفعولية، والأول أولى فقد وقع في رواية سفيان " ولا أقول لأمير إن كان على أميرا " هو بكسر همزة إن ويجوز فتحها وقوله: "كان على - بالتشديد - أميرا أنه خير الناس " وفي

(13/51)


رواية أبي معاوية عند مسلم: "يكون على أميرا " وفي رواية يعلى " وإن كان على أميرا". قوله: "بعدما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء برجل" في رواية سفيان " بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: يجاء بالرجل " وفي رواية عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عند أحمد " يجاء بالرجل الذي كان يطاع في معاصي الله فيقذف في النار". قوله: "فيطحن فيها كطحن الحمار" في رواية الكشميهني: "كما يطحن الحمار " كذا رأيت في نسخة معتمدة " فيطحن " بضم أوله على البناء للمجهول، وفي أخرى بفتح أوله وهو أوجه، فقد تقدم في رواية سفيان وأبي معاوية " فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار " وفي رواية عاصم " يستدير فيها كما يستدير الحمار " وكذا في رواية أبي معاوية. والإقتاب جمع قتب بكسر القاف وسكون المثناة بعدها موحدة هي الأمعاء، واندلاقها خروجها بسرعة يقال اندلق السيف من غمده إذا خرج من غير أن يسله أحد، وهذا يشعر بأن هذه الزيادة كانت أيضا عند الأعمش فلم يسمعها شعبة منه وسمع معناها من منصور كما تقدم. قوله: "فيطيف به أهل النار" أي يجتمعون حوله، يقال أطاف به القوم إذا حلقوا حوله حلقة وإن لم يدوروا، وطافوا إذا داروا حوله، وبهذا التقرير يظهر خطأ من قال إنهما بمعنى واحد. وفي رواية سفيان وأبي معاوية " فيجتمع عليه أهل النار " وفي رواية عاصم " فيأتي عليه أهل طاعته من الناس". قوله: "فيقولون أي فلان" في رواية سفيان وأبي معاوية " فيقولون يا فلان " وزاد: "ما شأنك " وفي رواية عاصم " أي قل، أين ما كنت تأمرنا به "؟. قوله: "ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى" في رواية سفيان " أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا "؟ قوله: "إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله وأنهى عن المنكر وأفعله" في رواية سفيان " آمركم وأنهاكم " وله ولأبي معاوية " وآتيه ولا آتيه " وفي رواية يعلى " بل كنت آمر " وفي رواية عاصم " وإني كنت آمركم بأمر وأخالفكم إلى غيره: "قال المهلب: أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره وكان أخا عثمان لأمه وكان يستعمله، فقال أسامة: قد كلمته سرا دون أن أفتح بابا، أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة. ثم عرفهم أنه لا يداهن أحدا ولو كان أميرا بل ينصح له في السر جهده، وذكر لهم قصة الرجل الذي يطرح في النار لكونه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه انتهى ملخصا. وجزمه بأن مراد من سأل أسامة الكلام مع عثمان أن يكلمه في شأن الوليد ما عرفت مستنده فيه، وسياق مسلم من طريق جرير عن الأعمش يدفعه، ولفظه عن أبي وائل " كنا عند أسامة بن زيد فقال له رجل: ما يمنعك أن تدخل على عثمان فتكلمه فيما يصنع " قال وساق الحديث بمثله، وجزم الكرماني بأن المراد أن يكلمه فيما أنكره الناس على عثمان من تولية أقاربه وغير ذلك مما اشتهر، وقوله إن السبب في تحديث أسامة بذلك ليتبرأ مما ظنوه به ليس بواضح، بل الذي يظهر أن أسامة كان يخشى على من ولى ولاية ولو صغرت أنه لا بد له من أن يأمر الرعية بالمعروف وينهاهم عن المنكر ثم لا يأمن من أن يقع منه تقصير، فكان أسامة يرى أنه لا يتأمر على أحد، وإلى ذلك أشار بقوله: "لا أقول للأمير إنه خير الناس " أي بل غايته أن ينجو كفافا. وقال عياض: مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سرا فذلك أجدر بالقبول. وقوله: "لا أقول لأحد يكون على أميرا إنه خير الناس " فيه ذم مداهنة الأمراء في الحق وإظهار ما يبطن خلافه كالمتملق بالباطل، فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة أن

(13/52)


لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل ونحو ذلك. وقال الطبري: اختلف السلف في الأمر بالمعروف، فقالت طائفة يجب مطلقا واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وبعموم قوله: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده " الحديث. وقال بعضهم: يجب إنكار المنكر، لكن شرطه أن لا يلحق المنكر بلاء لا قبل له به من قتل ونحوه. وقال آخرون: ينكر بقلبه لحديث أم سلمة مرفوعا: "يستعمل عليكم أمراء بعدي، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " الحديث قال: والصواب اعتبار الشرط المذكور ويدل عليه حديث: "لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " ثم فسره بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق انتهى ملخصا. وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه منه ضررا ولو كان الآمر متلبسا بالمعصية، لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولا سيما إن كان مطاعا، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد وإلا فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره. ثم قال الطبري: فإن قيل كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار؟ والجواب أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به فعذبوا بمعصيتهم وعذب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه، وفي الحديث تعظيم الأمراء والأدب معهم وتبليغهم ما يقول الناس فيهم ليكفوا ويأخذوا حذرهم بلطف وحسن تأدية بحيث يبلغ المقصود من غير أذية للغير.

(13/53)


18 - باب
7099 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً"
7100 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الأَسَدِيُّ قَالَ لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ فِي أَعْلاَهُ وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنْ الْحَسَنِ فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَسَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاَكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ" ؟
7101 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَذَكَرَ عَائِشَةَ وَذَكَرَ مَسِيرَهَا وَقَالَ إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ"
7102, 7103, 7104 - حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ "دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ فَقَالاَ:

(13/53)


مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ فَقَالَ عَمَّارٌ: مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأَمْرِ وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ"
[الحديث 7102 – طرفه في: 7106]
[الحديث 7103 – طرفه في: 7105]
[الحديث 7104 – طرفه في: 7107]
7105, 7106, 7107 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَمَّارٍ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلاَّ لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ فِيهِ غَيْرَكَ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ اسْتِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَمْرِ قَالَ عَمَّارٌ: يَا أَبَا مَسْعُودٍ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ وَلاَ مِنْ صَاحِبِكَ هَذَا شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتُمَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا فِي هَذَا الأَمْرِ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ - وَكَانَ مُوسِرًا - يَا غُلاَمُ هَاتِ حُلَّتَيْنِ, فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأُخْرَى عَمَّارًا وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ"
قوله: "عوف" هو الأعرابي، والحسن هو البصري، والسند كله بصريون، وقد تقدم القول في سماع الحسن من أبي بكرة في كتاب الصلح، وقد تابع عوفا حميد الطويل عن الحسن أخرجه البزار وقال: رواه عن الحسن جماعة وأحسنها إسنادا رواية حميد. قوله: "لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل" في رواية حميد " عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد جمع عمر بن شبة في " كتاب أخبار البصرة " قصة الجمل مطولة، وها أنا ألخصها وأقتصر على ما أورده بسند صحيح أو حسن وأبين ما عداه، فأخرج من طريق عطية بن سفيان الثقفي عن أبيه قال: لما كان الغد من قتل عثمان أقبلت مع علي فدخل المسجد فإذا جماعة علي وطلحة فخرج أبو جهم ابن حذيفة فقال: يا على ألا ترى؟ فلم يتكلم، ودخل بيته فأتى بثريد فأكل ثم قال: يقتل ابن عمي ونغلب على ملكه؟ فخرج إلى بيت المال ففتحه، فلما تسامع الناس تركوا طلحة. ومن طريق مغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: قال الأشتر رأيت طلحة والزبير بايعا عليا طائعين غير مكرهين. ومن طريق أبي نضرة قال: كان طلحة يقول إنه بايع وهو مكره. ومن طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال: لما قتل عثمان أتى الناس عليا وهو في سوق المدينة فقالوا له ابسط يدك نبايعك، فقال: حتى يتشاور الناس. فقال بعضهم: لئن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم لم يؤمن الاختلاف وفساد الأمة: فأخذ الأشتر بيده فبايعوه. ومن طريق ابن شهاب قال: لما قتل عثمان وكان على خلا بينهم، فلما خشي أنهم يبايعون طلحة دعا الناس إلى بيعته فلم يعدلوا به طلحة ولا غيره، ثم أرسل إلى طلحة والزبير فبايعاه. ومن طريق ابن شهاب أن طلحة والزبير استأذنا عليا في العمرة، ثم خرجا إلى مكة فلقيا عائشة فاتفقوا على الطلب بدم عثمان حتى يقتلوا قتلته. ومن طريق عوف الأعرابي قال: استعمل عثمان يعلى بن أمية على صنعاء

(13/54)


وكان عظيم الشأن عنده، فلما قتل عثمان وكان يعلى قدم حاجا فأعان طلحة والزبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين رجلا من قريش، واشترى لعائشة جملا يقال له عسكر بثمانين دينارا. ومن طريق عاصم بن كليب عن أبيه قال قال علي: أتدرون بمن بليت؟ أطوع الناس في الناس عائشة، وأشد الناس الزبير، وأدهى الناس طلحة، وأيسر الناس يعلى بن أمية. ومن طريق ابن أبي ليلى قال: خرج علي في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ومن طريق محمد بن علي بن أبي طالب قال: سار علي من المدينة ومعه تسعمائة راكب فنزل بذي قار. ومن طريق قيس بن أبي حازم قال: لما أقبلت عائشة فنزلت بعض مياه بني عامر نبحت عليها الكلاب فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب - بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بعدها همزة ثم موحدة - قالت ما أظنني إلا راجعة، فقال لها بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم، فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب. وأخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح. وعند أحمد: فقال لها الزبير، تقدمين فذكره. ومن طريق عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب - بهمزة مفتوحة ودال ساكنة ثم موحدتين الأولى مفتوحة - تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة وتنجو من بعدما كادت. وهذا رواه البزار ورجاله ثقات. وأخرج البزار من طريق زيد بن وهب قال: بينا نحن حول حذيفة إذ قال: كيف أنتم وقد خرج أهل بيت نبيكم فرقتين يضرب بعضكم وجوه بعض بالسيف؟ قلنا: يا أبا عبد الله فكيف نصنع إذا أدركنا ذلك؟ قال: انظروا إلى الفرقة التي تدعو إلى أمر علي بن أبي طالب فإنها على الهدى. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: بلغ أصحاب علي حين ساروا معه أن أهل البصرة اجتمعوا بطلحة والزبير فشق عليهم ووقع في قلوبهم، فقال علي: والذي لا إله غيره لنظهرن على أهل البصرة ولنقتلن طلحة والزبير الحديث، وفي سنده إسماعيل بن عمرو البجلي وفيه ضعف. وأخرج الطبراني من طريق محمد بن قيس قال: ذكر لعائشة يوم الجمل قالت: والناس يقولون يوم الجمل؟ قالوا: نعم. قالت: وددت أني جلست كما جلس غيري فكان أحب إلي من أن أكون ولدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة كلهم مثل عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام. وفي سنده أبو معشر نجيح المدني وفيه ضعف. وأخرج إسحاق بن راهويه من طريق سالم المرادي سمعت الحسن يقول: لما قدم على البصرة في أمر طلحة وأصحابه قام قيس بن عباد وعبد الله بن الكواء فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا فذكر حديثا طويلا في مبايعته أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم ذكر طلحة والزبير فقال: بايعاني بالمدينة وخالفاني بالبصرة، ولو أن رجلا ممن بايع أبا بكر خالفه لقاتلناه. وكذلك عمر. وأخرج أحمد والبزار بسند حسن من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله؟ قال: لا ولكن إذا كان ذلك فأرددها إلى مأمنها. وأخرج إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد السلام رجل من حيه قال: خلا علي بالزبير يوم الجمل فقال: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأنت لاوي يدي: لتقاتلنه وأنت ظالم له ثم لينصرن عليك؟ قال: قد سمعت، لا جرم لا أقاتلك. وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمر ابن هجنع - بفتح الهاء والجيم وتشديد النون بعدها مهملة - عن أبي بكرة وقيل له: ما منعك أن تقاتل مع أهل البصرة يوم الجمل؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج قوم هلكى لا يفلحون قائدهم امرأة في الجنة . فكأن أبا بكرة

(13/55)


أشار إلى هذا الحديث فامتنع من القتال معهم، ثم استصوب رأيه في ذلك الترك لما رأى غلبة علي. وقد أخرج الترمذي والنسائي الحديث المذكور من طريق حميد الطويل عن الحسن البصري عن أبي بكرة بلفظ: "عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث قال: "فلما قدمت عائشة ذكرت ذلك فعصمني الله " وأخرج عمر بن شبة من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة فقال: إنك لأم، وإن حقك لعظيم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لن يفلح قوم تملكهم امرأة. قوله: "لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا" قال ابن مالك: كذا وقع مصروفا والصواب عدم صرفه. وقال الكرماني هو يطلق على الفرس وعلى بلادهم، فعلى الأول يصرف إلا أن يراد القبيلة، وعلى الثاني يجوز الأمران كسائر البلاد انتهى. وقد جوز بعض أهل اللغة صرف الأسماء كلها. قوله: "ملكوا ابنة كسرى" في رواية حميد " لما هلك كسرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استخلفوا؟ قالوا: ابنته". قوله: "لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة" بالنصب على المفعولية. وفي رواية حميد " ولي أمرهم امرأة " بالرفع على أنها الفاعل، وكسرى المذكور هو شيرويه بن أبرويز بن هرمز، واسم ابنته المذكورة بوران. وقد تقدم في آخر المغازي في " باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى " شرح ذلك. وقوله: "ولوا أمرهم امرأة " زاد الإسماعيلي من طريق النضر بن شميل عن عوف في آخره: "قال أبو بكرة: فعرفت أن أصحاب الجمل لن يفلحوا " ونقل ابن بطال عن المهلب أن ظاهر حديث أبي بكرة يوهم توهين رأى عائشة فيما فعلت. وليس كذلك لأن المعروف من مذهب أبي بكرة أنه كان على رأي عائشة في طلب الإصلاح بين الناس، ولم يكن قصدهم القتال، لكن لما انتشبت الحرب لم يكن لمن معها بد من المقاتلة، ولم يرجع أبو بكرة عن رأي عائشة وإنما تفرس بأنهم يغلبون لما رأى الذين مع عائشة تحت أمرها لما سمع في أمر فارس، قال: ويدل لذلك أن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على منعه من قتل قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم، وكان على ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه، فاختلفوا بحسب ذلك، وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم فأنشبوا الحرب بينهم إلى أن كان ما كان. فلما انتصر علي عليهم حمد أبو بكرة رأيه في ترك القتال معهم وإن كان رأيه كان موافقا لرأي عائشة في الطلب بدم عثمان. انتهى كلامه، وفي بعضه نظر يظهر مما ذكرته ومما سأذكره. وتقدم قريبا في " باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما " من حديث الأحنف أنه كان خرج لينصر عليا فلقيه أبو بكرة فنهاه عن القتال، وتقدم قبله بباب من قول أبي بكرة لما حرق ابن الحضرمي ما يدل على أنه كان لا يرى القتال في مثل ذلك أصلا فليس هو على رأي عائشة ولا على رأي علي في جواز القتال بين المسلمين أصلا، وإنما كان رأيه الكف وفاقا لسعد ابن أبي وقاص ومحمد ابن مسلمة وعبد الله بن عمر وغيرهم، ولهذا لم يشهد صفين مع معاوية ولا علي. قال ابن التين: احتج بحديث أبي بكرة من قال لا يجوز أن تولى المرأة القضاء وهو قول الجمهور، وخالف ابن جرير الطبري فقال يجوز أن تقضي فيما تقبل شهادتها فيه، وأطلق بعض المالكية الجواز. وقال ابن التين أيضا: كلام أبي بكرة يدل على أنه لولا عائشة لكان مع طلحة والزبير لأنه لو تبين له خطؤهما لكان مع علي. وكذا قال وأغفل قسما ثالثا وهو أنه كان يرى الكف عن القتال في الفتنة كما تقدم تقريره، وهذا هو المعتمد، ولا يلزم من كونه ترك القتال مع أهل بلده للحديث المذكور أن لا يكون مانعه من القتال سبب آخر وهو ما تقدم من نهيه الأحنف عن القتال واحتجاجه بحديث: "إذا

(13/56)


التقى المسلمان بسيفيهما " كما تقدم قريبا. حديث عمار في حق عائشة أخرجه من وجهين مطولا ومختصرا. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي المسندي، وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم، وأبو مريم المذكور أسدي كوفي هو وجميع رواة الإسناد إلا شيخه وشيخ البخاري، وقد وثق أبا مريم المذكور العجلي والدار قطني، وما له في البخاري إلا هذا الحديث. قوله: "لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة" ذكر عمر بن شبة بسند جيد أنهم توجهوا من مكة بعد أن أهلت السنة، وذكر بسند له آخر أن الوقعة بينهم كانت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وذكر من رواية المدائني عن العلاء أبي محمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى علي وهو بالزاوية فقال: علام تقاتل هؤلاء؟ قال: على الحق، قال: فإنهم يقولون إنهم على الحق، قال: أقاتلهم على الخروج من الجماعة ونكث البيعة. وأخرج الطبري من طريق عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه قال: رأيت في زمن عثمان أن رجلا أميرا مرض وعند رأسه امرأة والناس يريدونه فلو نهتهم المرأة لانتهوا ولكنها لم تفعل فقتلوه. ثم غزوت تلك السنة فبلغنا قتل عثمان، فلما رجعنا من غزاتنا وانتهينا إلى البصرة قيل لنا: هذا طلحة والزبير وعائشة فتعجب الناس وسألوهم عن سبب مسيرهم فذكروا أنهم خرجوا غضبا لعثمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه. وقالت عائشة: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث إمارة الفتى وضرب السوط والعصا فما أنصفناه إن لم نغضب له في ثلاث: حرمة الدم والشهر والبلد. قال فسرت أنا ورجلان من قومي إلى علي وسلمنا عليه وسألناه فقال: عدا الناس على هذا الرجل فقتلوه وأنا معتزل عنهم ثم ولوني ولولا الخشية على الدين لم أجبهم، ثم استأذنني الزبير وطلحة في العمرة فأخذت عليهما العهود وأذنت لهما فعرضا أم المؤمنين لما لا يصلح لها فبلغني أمرهم فخشيت أن ينفتق في الإسلام فتق فأتبعتهم، فقال أصحابه: والله ما نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا، وما خرجنا إلا للإصلاح. فذكر القصة وفيها أن أول ما وقعت الحرب أن صبيان العسكرين تسابوا ثم تراموا ثم تبعهم العبيد ثم السفهاء فنشبت الحرب، وكانوا خندقوا على البصرة فقتل قوم وجرح آخرون، وغلب أصحاب علي ونادى مناديه: لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا جريحا ولا تدخلوا دار أحد، ثم جمع الناس وبايعهم واستعمل ابن عباس على البصرة ورجع إلى الكوفة. وأخرج ابن أبي شيبة بسند جيد عن عبد الرحمن بن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة يوم الجمل وهي في الهودج فقال: يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت ما تأمريني، فقلت ألزم عليا؟ فسكتت. فقال: اعقروا الجمل فعقروه، فنزلت أنا وأخوها محمد فاحتملنا هودجها فوضعناه بين يدي علي، فأمر بها فأدخلت بيتا. وأخرج أيضا بسند صحيح عن زيد بن وهب قال فكف على يده حتى بدءوه بالقتال فقاتلهم بعد الظهر فما غربت الشمس وحول الجمل أحد، فقال علي: لا تتمموا جريحا ولا تقتلوا مدبرا ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو أمن. وأخرج الشافعي من رواية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: دخلت على مروان بن الحكم فقال: ما رأيت أحدا أكرم غلبة من أبيك - يعني عليا - ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح. وأخرج الطبري وابن أبي شيبة وإسحاق من طريق عمرو بن جاوان عن الأحنف قال: حججت سنة قتل عثمان فدخلت المدينة فذكر كلام عثمان في تذكيرهم بمناقبه، وقد تقدم في " باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما " ثم ذكر اعتزاله الطائفتين قال: ثم التقوا فكان أول قتيل طلحة ورجع الزبير فقتل. وأخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال قلت للأشتر: قد كنت كارها لقتل عثمان فكيف قاتلت يوم الجمل؟ قال: إن هؤلاء بايعوا عليا ثم

(13/57)


نكثوا عهده، وكان الزبير هو الذي حرك عائشة على الخروج فدعوت الله أن يكفينيه، فلقيني كفه بكفه فما رضيت لشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه ضربة فصرعته، فذكر القصة في أنهما سلما. قوله: "بعث على عمار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة" ذكر عمر بن شبة والطبري سبب ذلك بسندهما إلى ابن أبي ليلى قال: كان علي أقر أبا موسى على إمرة الكوفة، فلما خرج من المدينة أرسل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إليه أن أنهض من قبلك من المسلمين وكن من أعواني على الحق، فاستشار أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فقال: اتبع ما أمرك به، قال: إني لا أرى ذلك، وأخذ في تخذيل الناس عن النهوض، فكتب هاشم إلى علي بذلك وبعث بكتابه مع عقل بن خليفة الطائي، فبعث على عمار ابن ياسر والحسن بن علي يستنفران الناس، وأمر قرظة بن كعب على الكوفة، فلما قرأ كتابه على أبي موسى اعتزل ودخل الحسن وعمار المسجد. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: أقبل طلحة والزبير حتى نزلا البصرة فقبضا على عامل علي عليها ابن حنيف، وأقبل علي حتى نزل بذي قار، فأرسل عبد الله بن عباس إلى الكوفة فأبطؤوا عليه، فأرسل إليهم عمارا فخرجوا إليه. قوله: "فصعد المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن، فاجتمعنا إليه فسمعت عمارا يقول" زاد الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي بكر بن عياش " صعد عمار المنبر فحض الناس في الخروج إلى قتال عائشة " وفي رواية إسحاق بن راهويه عن يحيى بن آدم بالسند المذكور " فقال عمار: إن أمير المؤمنين بعثنا إليكم لنستنفركم، فإن أمنا قد سارت إلى البصرة " وعند عمر بن شبة عن حبان ابن بشر عن يحيى بن آدم في حديث الباب: "فكان عمار يخطب والحسن ساكت " ووقع في رواية ابن أبي ليلى في القصة المذكورة " فقال الحسن: إن عليا يقول إني أذكر الله رجلا رعى لله حقا إلا نفر، فإن كنت مظلوما أعانني وإن كنت ظالما أخذلني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني ثم نكثا، ولم أستأثر بمال ولا بدلت حكما " قال فخرج إليه اثنا عشر ألف رجل. قوله: "إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة؛ ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي" في رواية إسحاق " ليعلم أنطيعه أم إياها " وفي رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش بعد قوله قد سارت إلى البصرة " ووالله إني لأقول لكم هذا ووالله إنها لزوجة نبيكم " زاد عمر بن شبة في روايته: "وأن أمير المؤمنين بعثنا إليكم وهو بذي قار " ووقع عند ابن أبي شيبة من طريق شمر بن عطية عن عبد الله بن زياد قال: "قال عمار إن أمنا سارت مسيرها هذا، وإنها والله زوج محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أو إياها " ومراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي وأن عائشة مع ذلك لم تخرج بذلك عن الإسلام ولا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال: "قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكم " يشير إلى قوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فقالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم. قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك. وقوله: "ليعلم إياه تطيعون أم هي " قال بعض الشراح: الضمير في إياه لعلي، والمناسب أن يقال أم إياها لا هي، وأجاب الكرماني بأن الضمائر يقوم بعضها مقام بعض انتهى وهو على بعض الآراء. وقد وقع في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن يحيى بن آدم بسند حديث الباب: "ولكن الله ابتلانا بها ليعلم أنطيعه أم إياها " فظهر أن ذلك من تصرف الرواة

(13/58)


وأما قوله إن الضمير في إياه لعلي فالظاهر خلافه، وأنه لله تعالى، والمراد إظهار المعلوم كما في نظائره. قوله: "عن ابن أبي غنية" بفتح الغين المعجمة وكسر النون وتشديد التحتانية هو عبد الملك بن حميد، ماله في البخاري إلا هذا الحديث، وصرح بذلك أبو زرعة الدمشقي في روايته عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في مستخرجه، والحكم هو ابن عيينة، والسند كله كوفيون. قوله: "قام عمار على منبر الكوفة" هذا طرف من الحديث الذي قبله، وأراد البخاري بإيراده تقوية حديث أبي مريم لكونه مما انفرد به عنه أبو حصين، وقله رواه أيضا عن الحكم شعبة أخرجه الإسماعيلي وزاد في أوله قال: "لما بعث على عمارا والحسن إلى الكوفة يستنفرهم خطب عمار " فذكره قال ابن هبيرة: في هذا الحديث أن عمارا كان صادق اللهجة وكان لا تستخفه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب انتهى. وفيه جواز ارتفاع ذي الأمر فوق من هو أسن منه وأعظم سابقة في الإسلام وفضلا، لأن الحسن ولد أمير المؤمنين فكان حينئذ هو الأمير على من أرسلهم علي وعمار من جملتهم، فصعد الحسن أعلى المنبر فكان فوق عمار وإن كان في عمار من الفضل ما يقتضي رجحانه فضلا عن مساواته. ويحتمل أن يكون عمار فعل ذلك تواضعا مع الحسن وإكراما له من أجل جده صلى الله عليه وسلم وفعله الحسن مطاوعة له لا تكبرا عليه. حديث أبي موسى وأبي مسعود وعمار بن ياسر فيما يتعلق بوقعة الجمل أخرجه من طريقين. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن مرة، وصرح به في رواية أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر وكذا الإسماعيلي في روايته من طريق عبد الله بن المبارك كلاهما عن شعبة. قوله: "حيث بعثه على إلى أهل الكوفة يستنفرهم" في رواية الكشميهني: "حين " بدل " حيث " وفي رواية الإسماعيلي: "يستنفر أهل الكوفة إلى أهل البصرة". قوله: "ما رأيناك أتيت أمرا أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت" زاد في الرواية الثانية أن الذي تولى خطاب عمار ذلك هو أبو مسعود وهو عقبة بن عمرو الأنصاري، وكان يومئذ يلي لعلي بالكوفة كما كان أبو موسى يلي لعثمان. قوله: "وكساهما حلة" في رواية الإسماعيلي: "فكساهما حلة حلة " وبين في الرواية التي تلي هذه أن فاعل كسا هو أبو مسعود، وهو في هذه الرواية محتمل فيحمل على ذلك. قوله: "ثم راحوا إلى المسجد" في رواية الإسماعيلي: "ثم خرجوا إلى الصلاة يوم الجمعة " وفي رواية محمد ابن جعفر " فقام أبو مسعود فبعث إلى كل واحد منهما حلة " قال ابن بطال: فيما دار بينهم دلالة على أن كلا من الطائفتين كان مجتهدا ويرى أن الصواب معه قال: وكان أبو مسعود موسرا جوادا، وكان اجتماعهم عند أبي مسعود في يوم الجمعة فكسا عمارا حلة ليشهد بها الجمعة لأنه كان في ثياب السفر وهيئة الحرب، فكره أن يشهد الجمعة في تلك الثياب وكره أن يكسوه بحضرة أبي موسى ولا يكسو أبا موسى فكسا أبا موسى أيضا. وقوله: "أعيب " بالعين المهملة والموحدة أفعل تفضيل من العيب، وجعل كل منهم الإبطاء والإسراع عيبا بالنسبة لما يعتقده، فعمار لما في الإبطاء من مخالفة الإمام وترك امتثال "فقاتلوا التي تبغي" والآخران لما ظهر لهما من ترك مباشرة القتال في الفتنة، وكان أبو مسعود على رأي أبي موسى في الكف عن القتال تمسكا بالأحاديث الواردة في ذلك وما في حمل السلاح على المسلم من الوعيد، وكان عمار على رأي علي في قتال الباغين والناكثين والتمسك بقوله تعالى :{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وحمل الوعيد الوارد في القتال على من كان متعديا على صاحبه. "تنبيه": وقع في رواية النسفي وكذا الإسماعيلي قبل سياق سند ابن أبي غنية " باب " بغير ترجمة، وسقط للباقين وهو الصواب لأن فيه الحديث الذي قبله، وإن كان فيه زيادة في القصة.

(13/59)


19 - باب إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا
7108 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ"
قوله: "باب إذا أنزل الله بقوم عذابا" حذف الجواب اكتفاء بما وقع في الحديث. قوله: "عبد الله بن عثمان" هو عبدان، وعبد الله شيخه هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "إذا أنزل الله بقوم عذابا" أي عقوبة لهم على سيئ أعمالهم. قوله: "أصاب العذاب من كان فيهم" في رواية أبي النعمان عن ابن المبارك " أصاب به من بين أظهرهم " أخرجه الإسماعيلي، والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم. قوله: "ثم بعثوا على أعمالهم" أي بعث كل واحد منهم على حسب عمله إن كان صالحا فعقباه صالحة وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين ونقمة على الفاسقين. وفي صحيح ابن حبان عن عائشة مرفوعا: "إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون قبضوا معهم ثم بعثوا على نياتهم وأعمالهم " وأخرجه البيهقي في " الشعب " وله من طريق الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عنها مرفوعا: "إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه فيهم، قيل: يا رسول الله وفيهم أهل طاعته؟ قال: نعم، ثم يبعثون إلى رحمة الله تعالى " قال ابن بطال: هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش حيث قالت: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث " فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي. قلت: الذي يناسب كلامه الأخير حديث أبي بكر الصديق " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان، وأما حديث ابن عمر في الباب وحديث زينب بنت جحش فمتناسبان، وقد أخرجه مسلم عقبه، ويجمعهما أن الهلاك يعم الطائع مع العاصي، وزاد حديث ابن عمر أن الطائع عند البعث يجازي بعمله، ومثله حديث عائشة مرفوعا: "العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد تجمع الناس، قال: نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم " أخرجه مسلم. وله من حديث أم سلمة نحوه ولفظه: "فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارها؟ قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته " وله من حديث جابر رفعه: "يبعث كل عبد على ما مات عليه " وقال الداودي: معنى حديث ابن عمر أن الأمم التي تعذب على الكفر يكون بينهم أهل أسواقهم ومن ليس منهم فيصاب جميعهم بآجالهم ثم يبعثون على أعمالهم، ويقال إذا أراد الله عذاب أمة أعقم نساءهم خمس عشرة سنة قبل أن يصابوا لئلا يصاب الولدان الذين لم يجر عليهم القلم انتهى. وهذا ليس له أصل وعموم حديث عائشة يرده، وقد شوهدت السفينة ملأى من الرجال والنساء والأطفال تغرق فيهلكون جميعا، ومثله الدار الكبيرة تحرق، والرفقة الكثيرة تخرج عليها قطاع الطريق فيهلكون جميعا أو أكثرهم، والبلد من بلاد المسلمين يهجمها الكفار فيبذلون السيف في أهلها، وقد وقع ذلك من الخوارج قديما ثم من القرامطة ثم من الططر أخيرا والله المستعان. قال القاضي عياض: أورد مسلم حديث جابر " يبعث كل عبد على ما مات عليه " تعقب حديث جابر أيضا رفعه

(13/60)


"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " يشير إلى أنه مفسر له، ثم أعقبه بحديث: "ثم بعثوا على أعمالهم " مشيرا إلى أنه وإن كان مفسرا لما قبله لكنه ليس مقصورا عليه بل هو عام فيه وفي غيره، ويؤيده الحديث الذي ذكره بعده " ثم يبعثهم الله على نياتهم " انتهى ملخصا. والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب بل يجازي كل أحد بعمله على حسب نيته. وجنح ابن أبي جمرة إلى أن الذين يقع لهم ذلك إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقا لا يرسل الله عليهم العذاب بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله تعالى:{وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" وقوله تعالى:{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر وإن لم يتعطاه قوله تعالى :{فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم بالإسراع في الخروج من ديار ثمود. وأما بعثهم على أعمالهم فحكم عدل لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيرا لما قدموه من عمل سيئ، فكان العذاب المرسل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم ولم ينكر عليهم فكان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يبعث كل منهم فيجازى بعمله. وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن، فكيف بمن رضي، فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة. قلت: ومقتضى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، وإلى ذلك جنح القرطبي في " التذكرة " وما قدمناه قريبا أشبه بظاهر الحديث. وإلى نحوه مال القاضي ابن العربي، وسيأتي ذلك في الكلام على حديث زينب بنت جحش " أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث " في آخر كتاب الفتن.

(13/61)


20 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ
وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
7109 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ أَبُو مُوسَى وَلَقِيتُهُ بِالْكُوفَةِ وَجَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ فَقَالَ أَدْخِلْنِي عَلَى عِيسَى فَأَعِظَهُ فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ "لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ أَرَى كَتِيبَةً لاَ تُوَلِّي حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ أَنَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ: الصُّلْحَ قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ, فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ, وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"
7110 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ عَمْرٌو قَدْ رَأَيْتُ حَرْمَلَةَ قَالَ أَرْسَلَنِي أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ وَقَالَ إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الْآنَ فَيَقُولُ:

(13/61)


مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ لَوْ كُنْتَ فِي شِدْقِ الأَسَدِ لاَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: إن ابني هذا لسيد" في رواية المروزي والكشميهني: "سيد " بغير لام وكذا لهم في مثل هذه الترجمة في كتاب الصلح وبحذف إن وساق المتن هناك بلفظ: "إن ابني هذا سيد " وساقه هنا بحذفها فأشار في كل من الموضعين إلى ما وقع في الآخر، وقد أخرجه هناك عن عبد الله بن محمد عن سفيان بتمامه، ثم نقل عن علي بن عبد الله ما يتعلق بسماع الحسن من أبي بكرة وساقه هنا عن علي بن عبد الله فلم يذكر ذلك ولم أر في شيء من طرق المتن " لسيد " باللام كما وقع في هذه الترجمة، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية سبعة أنفس عن سفيان بن عيينة وبين اختلاف ألفاظهم وذكر في الباب الحديث المذكور وحديثا لأسامة بن زيد. قوله: "حدثنا إسرائيل أبو موسى" هي كنية إسرائيل واسم أبيه موسى فهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه فيؤمن فيه من التصحيف، وهو بصري كان يسافر في التجارة إلى الهند وأقام بها مدة. قوله: "ولقيته بالكوفة" قائل ذلك هو سفيان بن عيينة والجملة حالية. قوله: "وجاء إلى ابن شبرمة" هو عبد الله قاضي الكوفة في خلافة أبي جعفر المنصور ومات في خلافته سنة أربع وأربعين ومائة وكان صارما عفيفا ثقة فقيها. قوله: "فقال أدخلني على عيسى فأعظه" بفتح الهمزة وكسر العين المهملة وفتح الظاء المشالة من الوعظ، وعيسى هو ابن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ابن أخي المنصور وكان أميرا على الكوفة إذ ذاك. قوله: "فكأن" بالتشديد "ابن شبرمة خاف عليه" أي على إسرائيل "فلم يفعل" أي فلم يدخله على عيسى بن موسى، ولعل سبب خوفه عليه أنه كان صادعا بالحق فخشي أنه لا يتلطف بعيسى فيبطش به لما عنده من غرة الشباب وغرة الملك، قال ابن بطال: دل ذلك من صنيع ابن شبرمة على أن من خاف على نفسه سقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت وفاة عيسى المذكور في خلافة المهدي سنة ثمان وستين ومائة. قوله: "قال حدثنا الحسن" يعني البصري والقائل " حدثنا " هو إسرائيل المذكور، قال البزار في مسنده بعد أن أخرج هذا الحديث عن خلف بن خليفة عن سفيان بن عيينة: لا نعلم رواه عن إسرائيل غير سفيان، وتعقبه مغلطاي بأن البخاري أخرجه في علامات النبوة من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى وهو إسرائيل هذا، وهو تعقب جيد ولكن لم أر فيه القصة وإنما أخرج فيه الحديث المرفوع فقط. قوله: "لما سار الحسن بن علي إلى معاوية بالكتائب" في رواية عبد الله بن محمد عن سفيان في كتاب الصلح " استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال " والكتائب بمثناة وآخره موحدة جمع كتيبة بوزن عظيمة وهي طائفة من الجيش تجتمع وهي فعيلة بمعنى مفعولة لأن أمير الجيش إذا رتبهم وجعل كل طائفة على حدة كتبهم في ديوانه كذلك، ذكر ذلك ابن التين عن الداودي، ومنه قيل: مكتب بني فلان، قال وقوله: "أمثال الجبال " أي لا يرى لها طرف لكثرتها كما لا يرى من قابل الجبل طرفه، ويحتمل أن يريد شدة البأس. وأشار الحسن البصري بهذه القصة إلى ما اتفق بعد قتل علي رضي الله عنه، وكان علي لما انقضى أمر التحكيم ورجع إلى الكوفة تجهز لقتال أهل الشام مرة بعد أخرى فشغله أمر الخوارج بالنهروان كما تقدم وذلك في سنة ثمان وثلاثين، ثم تجهز في سنة تسع وثلاثين فلم يتهيأ ذلك لافتراق آراء أهل العراق عليه، ثم وقع الجد منه في ذلك في سنة أربعين فأخرج

(13/62)


إسحاق من طريق عبد العزيز بن سياه بكسر المهملة وتخفيف الياء آخر الحروف قال: لما خرج الخوارج قام علي فقال: أتسيرون إلى الشام أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في دياركم؟ قالوا: بل نرجع إليهم، فذكر قصة الخوارج قال فرجع علي إلى الكوفة، فلما قتل واستخلف الحسن وصالح معاوية كسب إلى قيس بن سعد بذلك فرجع عن قتال معاوية. وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس ابن يزيد عن الزهري قال: جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت، فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة، وكان لا يحب القتال ولكن كان يريد أن يشترط على معاوية لنفسه، فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه على الصلح فنزعه وأمر عبد الله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن. وأخرج الطبري والطبراني من طريق إسماعيل بن راشد قال: بعث الحسن قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفا - يعني من الأربعين - فسار قيس إلى جهة الشام. وكان معاوية لما بلغه قتل علي خرج في عساكر من الشام، وخرج الحسن بن علي حتى نزل المدائن، فوصل معاوية إلى مسكن وقال ابن بطال: ذكر أهل العلم بالأخبار أن عليا لما قتل سار معاوية يريد العراق وسار الحسن يريد الشام فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة من معه فنادى: يا معاوية إني اخترت ما عند الله، فإن يكن هذا الأمر لك فلا ينبغي لي أن أنازعك فيه وإن يكن لي فقد تركته لك فكبر أصحاب معاوية. وقال المغيرة عند ذلك: أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ابني هذا سيد " الحديث وقال في آخره: فجزاك الله عن المسلمين خيرا انتهى وفي صحة هذا نظر من أوجه: الأول أن المحفوظ أن معاوية هو الذي بدأ بطلب الصلح كما في حديث الباب الثاني أن الحسن ومعاوية لم يتلاقيا بالعسكرين حتى يمكن أن يتخاطبا وإنما تراسلا، فيحمل قوله: "فنادى يا معاوية " على المراسلة، ويجمع بأن الحسن راسل معاوية بذلك سرا فراسله معاوية جهرا، والمحفوظ أن كلام الحسن الأخير إنما وقع بعد الصلح والاجتماع كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في " الدلائل " من طريقه ومن طريق غيره بسندهما إلى الشعبي قال: لما صالح الحسن بن علي معاوية؛ قال له معاوية قم فتكلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أكيس الكيس التقى وإن أعجز العجز الفجور، ألا وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق لامرئ كان أحق به مني، أو حق لي تركته لإرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم استغفر ونزل. وأخرج يعقوب بن سفيان ومن طريقه أيضا البيهقي في " الدلائل " من طريق الزهري فذكر القصة وفيها: فخطب معاوية ثم قال: قم يا حسن فكلم الناس، فتشهد ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول. وذكر بقية الحديث. والثالث أن الحديث لأبي بكرة لا للمغيرة، لكن الجمع ممكن بأن يكون المغيرة حدث به عندما سمع مراسلة الحسن بالصلح وحدث به أبو بكرة بعد ذلك، وقد روى أصل الحديث جابر أورده الطبراني والبيهقي في " الدلائل " من فوائد يحيى بن معين بسند صحيح إلى جابر، وأورده الضياء في " الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين " وعجبت للحاكم في عدم استدراكه مع شدة حرصه على مثله، قال ابن بطال: سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله وسنة نبيه، ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب. وبايع معاوية كل من كان معتزلا للقتال كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد ابن مسلمة، وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل، وانصرف إلى المدينة، وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة والبصرة عبد

(13/63)


الله بن عامر ورجع إلى دمشق. قوله: "قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرى كتيبة لا تولى" بالشديد أي لا تدبر. قوله: "حتى تدبر أخراها" أي التي تقابلها، ونسبها إليها لتشاركهما في المحاربة، وهذا على أن يدبر من أدبر رباعيا، ويحتمل أن يكون من دبر يدبر بفتح أوله وضم الموحدة أي يقوم مقامها يقال دبرته إذا بقيت بعده، وتقدم في رواية عبد الله بن محمد في الصلح " إني لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها " وهي أبين، قال عياض: هي الصواب، ومقتضاه أن الأخرى خطأ وليس كذلك بل توجيهها ما تقدم. وقال الكرماني: يحتمل أيضا أن تراد الكتيبة الأخيرة التي هي من جملة تلك الكتائب، أي لا ينهزمون بأن ترجع الأخرى أولى. قوله: "قال معاوية من لذراري المسلمين" أي من يكفلهم إذا قتل آباؤهم؟ زاد في الصلح " فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين - يعني معاوية -: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم " يشير إلى أن رجال العسكرين معظم من في الإقليمين فإذا قتلوا ضاع أمر الناس وفسد حال أهلهم بعدهم وذراريهم، والمراد بقوله: "ضيعتهم " الأطفال والضعفاء سموا باسم ما يؤول إليه أمرهم لأنهم إذا تركوا ضاعوا لعدم استقلالهم بأمر المعاش. وفي رواية الحميدي عن سفيان في هذه القصة " من لي بأمورهم، من لي بدمائهم، من لي بنسائهم " وأما قوله هنا في جواب قول معاوية " من لذراري المسلمين؟ فقال: أنا " فظاهره يوهم أن المجيب بذلك هو عمرو بن العاص، ولم أر في طرق الخبر ما يدل على ذلك، فإن كانت محفوظة فلعلها كانت " فقال أني " بتشديد النون المفتوحة قالها عمرو على سبيل الاستبعاد. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في بعث ذات السلاسل " فذكر أخبارا كثيرة من التاريخ إلى أن قال: "وكان قيس بن سعد ابن عبادة على مقدمة الحسن بن علي، فأرسل إليه معاوية سجلا قد ختم في أسفله فقال: اكتب فيه ما تريد فهو لك، فقال له عمرو بن العاص: بل نقاتله، فقال معاوية - وكان خير الرجلين -: على رسلك يا أبا عبد الله، لا تخلص إلى قتل هؤلاء حتى يقتل عددهم من أهل الشام، فما خير الحياة بعد ذلك؟ وإني والله لا أقاتل حتى لا أجد من القتال بدا. قوله: "فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة: نلقاه فنقول له الصلح" أي تشير عليه بالصلح، وهذا ظاهره أنهما بدا بذلك، والذي تقدم في كتاب الصلح أن معاوية هو الذي بعثهما، فيمكن الجمع بأنهما عرضا أنفسهما فوافقهما ولفظه هناك " فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس " أي ابن عبد مناف بن قصي " عبد الرحمن بن سمرة " زاد الحميدي في مسنده عن سفيان بن حبيب بن عبد شمس " قال سفيان وكانت له صحبة " قلت: وهو راوي حديث: "لا تسأل الإمارة " وسيأتي شيء من خبره في كتاب الأحكام. وعبد الله بن عامر بن كريز بكاف وراء ثم زاي مصغر زاد الحميدي " ابن حبيب بن عبد شمس " وقد مضى له ذكر في كتاب الحج وغيره، وهو الذي ولاه معاوية البصرة بعد الصلح، وبنو حبيب ابن عبد شمس بنو عم بني أمية بن عبد شمس، ومعاوية هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية "فقال معاوية: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه" أي ما شاء من المال "وقولا له" أي في حقن دماء المسلمين بالصلح "واطلبا إليه" أي اطلبا منه خلعه نفسه من الخلافة وتسليم الأمر لمعاوية وابذلا له في مقابلة ذلك ما شاء "قال فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به فما سألهما شيئا إلا قالا نحن لك به، فصالحه" قال ابن بطال: هذا يدل على أن معاوية كان هو الراغب في

(13/64)


الصلح وأنه عرض على الحسن المال ورغبه فيه وحثه على رفع السيف وذكره ما وعده به جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الإصلاح به، فقال له الحسن: إنا بنو عبد المطلب أصبنا من هذا المال، أي إنا جبلنا على الكرم والتوسعة على أتباعنا من الأهل والموالى وكنا نتمكن من ذلك بالخلافة حتى صار ذلك لنا عادة وقوله إن هذه الأمة أي العسكرين الشامي والعراقي " قد عاثت " بالمثلثة أي قتل بعضها بعضا فلا يكفون عن ذلك إلا بالصفح عما مضى منهم والتألف بالمال. وأراد الحسن بذلك كله تسكين الفتنة وتفرقة المال على من لا يرضيه إلا المال، فوافقاه على ما شرط من جميع ذلك والتزما له من المال في كل عام والثياب والأقوات ما يحتاج إليه لكل من ذكر. وقوله: "من لي بهذا " أي من يضمن لي الوفاء من معاوية؟ فقالا: نحن نضمن لأن معاوية كان فوض لهما ذلك، ويحتمل أن يكون قوله: "أصبنا من هذا المال " أي فرقنا منه في حياة علي وبعده ما رأينا في ذلك صلاحا فنبه على ذلك خشية أن يرجع عليه بما تصرف فيه. وفي رواية إسماعيل ابن راشد عند الطبري " فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة بن حبيب " كذا قال عبد الله وكذا وقع عند الطبراني، والذي في الصحيح أصح، ولعل عبد الله كان مع أخيه عبد الرحمن، قال فقدما على الحسن بالمدائن فأعطياه ما أراد وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها. ومن طريق عوانة بن الحكم نحوه وزاد وكان الحسن صالح معاوية على أن يجعل له ما في بيت مال الكوفة وأن يكون له خراج دار أبجرد، وذكر محمد بن قدامة في " كتاب الخوارج " بسند قوي إلى أبي بصرة أنه سمع الحسن بن علي يقول في خطبته عند معاوية إني اشترطت على معاوية لنفسي الخلافة بعده. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح إلى الزهري قال: كاتب الحسن بن علي معاوية واشترط لنفسه فوصلت الصحيفة لمعاوية وقد أرسل إلى الحسن يسأله الصلح ومع الرسول صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط ما شئت فهو لك، فاشترط الحسن أضعاف ما كان سأل أولا، فلما التقيا وبايعه الحسن سأله أن يعطيه ما اشترط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله فتمسك معاوية إلا ما كان الحسن سأله أولا، واحتج بأنه أجاب سؤاله أول ما وقف عليه فاختلفا في ذلك فلم ينفذ للحسن من الشرطين شيء. وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق عبد الله بن شوذب قال: لما قتل علي سار الحسن بن علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام فالتقوا، فكره الحسن القتال وبايع معاوية على أن يجعل العهد للحسن من بعده فكان أصحاب الحسن يقولون له يا عار المؤمنين فيقول العار خير من النار. قوله: "قال الحسن" هو البصري وهو موصول بالسند المتقدم ووقع في رجال البخاري لأبي الوليد الباجي في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ما نصه " أخرج البخاري قول الحسن سمعت أبا بكرة " فتأوله الدار قطني وغيره على أنه الحسن بن علي لأن الحسن البصري عندهم لم يسمع من أبي بكرة، وحمله ابن المديني والبخاري على أنه الحسن البصري، قال الباجي: وعندي أن الحسن الذي قال: "سمعت هذا من أبي بكرة " إنما هو الحسن بن علي انتهى، وهو عجيب منه فإن البخاري قد أخرج متن هذا الحديث في علامات النبوة مجردا عن القصة من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى - وهو إسرائيل بن موسى - عن الحسن عن أبي بكرة، وأخرجه البيهقي في " الدلائل " من رواية مبارك بن فضالة ومن رواية علي بن زيد كلاهما عن الحسن عن أبي بكرة وزاد في آخره: "قال الحسن: فلما ولى ما أهريق في سببه محجمة دم " فالحسن القائل هو البصري، والذي ولى هو الحسن بن علي، وليس للحسن بن علي في هذا رواية، وهؤلاء الثلاثة - إسرائيل ابن موسى ومبارك بن فضالة وعلي بن زيد - لم يدرك واحد منهم الحسن بن علي، وقد صرح إسرائيل بقوله: "سمعت الحسن " وذلك

(13/65)


فيما أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن الصلت بن مسعود عن سفيان ابن عيينة عن أبي موسى وهو إسرائيل " سمعت الحسن سمعت أبا بكرة " وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح، والصلت من شيوخ مسلم، وقد استشعر ابن التين خطأ الباجي فقال: قال الداودي الحسن مع قربه من النبي صلى الله عليه وسلم بحيث توفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين لا يشك في سماعه منه وله مع ذلك صحبة. قال ابن التين: الذي في البخاري إنما أراد سماع الحسن بن أبي الحسن البصري من أبي بكرة. قلت: ولعل الداودي إنما أراد رد توهم من يتوهم أنه الحسن بن علي فدفعه بما ذكر وهو ظاهر وإنما قال ابن المديني ذلك لأن الحسن كان يرسل كثيرا عمن لم يلقهم بصيغة " عن " فخشي أن تكون روايته عن أبي بكرة مرسلة فلما جاءت هذه الرواية مصرحة بسماعه من أبي بكرة ثبت عنده أنه سمعه منه، ولم أر ما نقله الباجي عن الدار قطني من أن الحسن هنا هو ابن علي في شيء من تصانيفه، وإنما قال في " التتبع لما في الصحيحين ": أخرج البخاري أحاديث عن الحسن عن أبي بكرة، والحسن إنما روى عن الأحنف عن أبي بكرة، وهذا يقتضي أنه عنده لم يسمع من أبي بكرة، لكن لم أر من صرح بذلك ممن تكلم في مراسيل الحسن كابن المديني وأبي حاتم وأحمد والبزار وغيرهم، نعم كلام ابن المديني يشعر بأنهم كانوا يحملونه على الإرسال حتى وقع هذا التصريح. قوله: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال" وقع في رواية علي بن زيد عن الحسن في " الدلائل " للبيهقي " يخطب أصحابه يوما إذ جاء الحسن بن علي فصعد إليه المنبر " وفي رواية عبد الله ابن محمد المذكورة " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "ومثله في رواية ابن أبي عمر عن سفيان لكن قال: "وهو يلتفت إلى الناس مرة وإليه أخرى". قوله: "ابني هذا سيد" في رواية عبد الله بن محمد " إن ابني هذا سيد " وفي رواية مبارك بن فضالة " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضم الحسن بن علي إليه وقال: إن ابني هذا سيد " وفي رواية علي ابن زيد " فضمه إليه وقال: ألا إن ابني هذا سيد". قوله: "ولعل الله أن يصلح به" كذا استعمل " لعل " استعمال عسى لاشتراكهما في الرجاء، والأشهر في خبر " لعل " بغير " أن " كقوله تعالى :{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ} قوله: "بين فئتين من المسلمين" زاد عبد الله بن محمد في روايته: "عظيمتين " وكذا في رواية مبارك ابن فضالة وفي رواية علي بن زيد كلاهما عن الحسن عند البيهقي. وأخرج من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن كالأول لكنه قال: "وإني لأرجو أن يصلح الله به " وجزم في حديث جابر ولفظه عند الطبراني والبيهقي " قال للحسن: إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين " قال البزار: روى هذا الحديث عن أبي بكرة وعن جابر، وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادا، وحديث جابر غريب. وقال الدار قطني: اختلف على الحسن فقيل عنه عن أم سلمة، وقيل عن ابن عيينة عن أيوب عن الحسن، وكل منهما وهم. ورواه داود بن أبي هند وعوف الأعرابي عن الحسن مرسلا. وفي هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة. وفيها رد على الخوارج الذين كانوا يكفرون عليا ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين، ومن ثم كان سفيان ابن عيينة يقول عقب هذا الحديث: قوله: "من المسلمين " يعجبنا جدا أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الحميدي وسعيد بن منصور عنه. وفيه فضيلة الإصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك،

(13/66)


ونظره في العواقب. وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل لأن الحسن ومعاوية ولى كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان قاله ابن التين. وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحا للمسلمين والنزول عن الوظائف الدينية والدنيوية بالمال، وجواز أخذ المال على ذلك وإعطائه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل وأن يكون المبذول من مال الباذل. فإن كان في ولاية عامة وكان المبذول من بيت المال اشترط أن تكون المصلحة في ذلك عامة، أشار إلى ذلك ابن بطال قال: يشترط أن يكون لكل من الباذل والمبذول له سبب في الولاية يستند إليه، وعقد من الأمور يعول عليه. وفيه أن السيادة لا تختص بالأفضل بل هو الرئيس على القوم والجمع سادة، وهو مشتق من السؤدد وقيل من السواد لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس أي الأشخاص الكثيرة وقال المهلب الحديث دال على أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس، لكونه علق السيادة بالإصلاح. وفيه إطلاق الابن علي ابن البنت، وقد انعقد الإجماع على أن امرأة الجد والد الأم محرمة على ابن بنته، وأن امرأة ابن البنت محرمة على جده، وإن اختلفوا في التوارث. واستدل به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي وإن كان علي أحق بالخلافة وأقرب إلى الحق، وهو قول سعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسائر من اعتزل تلك الحروب. وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى :{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} الآية ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليا كانوا بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يذم واحد من هؤلاء بل يقولون اجتهدوا فأخطؤوا، وذهب طائفة قليلة من أهل السنة - وهو قول كثير من المعتزلة - إلى أن كلا من الطائفتين مصيب، وطائفة إلى أن المصيب طائفة لا بعينها. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "قال قال عمرو" هو ابن دينار. قوله: "أخبرني محمد بن علي" أي ابن الحسن بن علي وهو أبو جعفر الباقر. وفي رواية محمد بن عباد عند الإسماعيلي عن سفيان " عن عمرو عن أبي جعفر". قوله: "أن حرملة قال" في رواية محمد بن عباد " أن حرملة مولى أسامة أخبره " وحرملة هذا في الأصل مولى أسامة بن زيد، وكان يلازم زيد بن ثابت حتى صار يقال له مولى زيد بن ثابت، وقيل هما اثنان. وفي هذا السند ثلاثة من التابعين في نسق: عمرو وأبو جعفر وحرملة. قوله: "أن عمرو" ابن دينار "قال قد رأيت حرملة" فيه إشارة إلى أن عمرا كان يمكنه الأخذ عن حرملة لكنه لم يسمع منه هذا. قوله: "أرسلني أسامة" أي من المدينة "إلى علي" أي بالكوفة، لم يذكر مضمون الرسالة ولكن دل مضمون قوله: "فلم يعطني شيئا " على أنه كان أرسله يسأل عليا شيئا من المال. قوله: "وقال إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك إلخ" هذا هيأه أسامة اعتذارا عن تخلفه عن علي لعلمه أن عليا كان ينكر على من تخلف عنه ولا سيما مثل أسامة الذي هو من أهل البيت، فاعتذر بأنه لم يتخلف ضنا منه بنفسه عن علي ولا كراهة له، وأنه لو كان في أشد الأماكن هو لا لأحب أن يكون معه فيه ويواسيه بنفسه، ولكنه إنما تخلف لأجل كراهيته في قتل المسلمين، وهذا معنى قوله: "ولكن هذا أمر لم أره". قوله: "لو كنت في شدق الأسد" بكسر المعجمة ويجوز فتحها وسكون الدال المهملة بعدها قاف أي جانب فمه من داخل، ولكل فم شدقان إليهما ينتهي شق الفم وعند مؤخرهما ينتهي الحنك الأعلى والأسفل، ورجل أشدق واسع الشدقين، ويتشدق في كلامه إذا فتح فمه وأكثر القول فيه واتسع فيه، وهو كناية عن الموافقة حتى في حالة الموت، لأن الذي

(13/67)


يفترسه الأسد بحيث يجعله في شدقه في عداد من هلك، ومع ذلك فقال: لو وصلت إلى هذا المقام لأحببت أن أكون معك فيه مواسيا لك بنفسي. ومن المناسبات اللطيفة تمثيل أسامة بشيء يتعلق بالأسد. ووقع في " تنقيح الزركشي " أن القاضي - يعني عياضا - ضبط الشدق بالذال المعجمة قال: وكلام الجوهري يقتضي أنه بالدال المهملة. وقال لي بعض من لقيته من الأئمة: إنه غلط على القاضي، قلت: وليس كذلك فإنه ذكره في " المشارق " في الكلام على حديث سمرة الطويل في الذي يشرشر شدقه فإنه ضبط الشدق بالذال المعجمة، وتبعه ابن قرقول في " المطالع". نعم هو غلط فقد ضبط في جميع كتب اللغة بالدال المهملة والله أعلم. قال ابن بطال: أرسل أسامة إلى علي يعتذر عن تخلفه عنه في حروبه، ويعلمه أنه من أحب الناس إليه، وأنه يحب مشاركته في السراء والضراء، إلا أنه لا يرى قتال المسلم، قال: والسبب في ذلك أنه لما قتل ذلك الرجل - يعني الماضي ذكره في " باب ومن أحياها " في أوائل الديات ولامه النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك، آلى على نفسه أن لا يقاتل مسلما. فذلك سبب تخلفه عن علي في الجمل وصفين انتهى ملخصا. وقال ابن التين: إنما منع عليا أن يعطى رسول أسامة شيئا لأنه لعله سأله شيئا من مال الله فلم ير أن يعطيه لتخلفه عن القتال معه، وأعطاه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر لأنهم كانوا يرونه واحدا منهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلسه على فخذه ويجلس الحسن على الفخذ الآخر ويقول: "اللهم إني أحبهما " كما تقدم في مناقبه. قوله: "فلم يعطني شيئا" هذه الفاء هي الفصيحة والتقدير فذهبت إلى علي فبلغته ذلك فلم يعطني شيئا. ووقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان عند الإسماعيلي: "فجئت بها - أي المقالة - فأخبرته فلم يعطني شيئا". قوله: "فذهبت إلى حسن وحسين وابن جعفر فأوقروا لي راحلتي" أي حملوا لي على راحلتي ما أطاقت حمله، ولم يعين في هذه الرواية جنس ما أعطوه ولا نوعه، والراحلة التي صلحت للركوب من الإبل ذكرا كان أو أنثى، وأكثر ما يطلق الوقر وهو بالكسر على ما يحمل البغل والحمار، وأما حمل البعير فيقال له الوسق، وابن جعفر هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وصرح بذلك في رواية محمد بن عباد وابن أبي عمر المذكورة، وكأنهم لما علموا أن عليا لم يعطه شيئا عوضوه من أموالهم من ثياب ونحوها قدر ما تحمله راحلته التي هو راكبها.

(13/68)


21 - باب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلاَفِهِ
7111 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ إِلاَّ كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ"
7112 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ "لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ

(13/68)


حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَأَنْشَأَ أَبِي يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ يَا أَبَا بَرْزَةَ أَلاَ تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ فَأَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلاَلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإِسْلاَمِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا وَإِنْ ذَاكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا"
[الحديث 7112 – طرفه في: 7271]
7113 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ"
7114 - حَدَّثَنَا خَلاَدٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإِيمَانِ"
قوله: "باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه" ذكر فيه حديث ابن عمر " ينصب لكل غادر لواء " وفيه قصة لابن عمر في بيعة يزيد بن معاوية، وحديث أبي برزة في إنكاره على الذين يقاتلون على الملك من أجل الدنيا، وحديث حذيفة في المنافقين، ومطابقة الأخير للترجمة ظاهرة، ومطابقة الأول لها من جهة أن في القول في الغيبة بخلاف ما في الحضور نوع غدر، وسيأتي في كتاب الأحكام ترجمة ما يكره من ثناء السلطان فإذا خرج قال غير ذلك، وذكر فيه قول ابن عمر لمن سأله عن القول عند الأمراء بخلاف ما يقال بعد الخروج عنهم: كنا نعده نفاقا، وقد وقع في بعض طرقه أن الأمير المسئول عنه يزيد بن معاوية كما سيأتي في الأحكام، ومطابقة الثاني من جهة أن الذين عابوا أبو برزة كانوا يظهرون أنهم يقاتلون لأجل القيام بأمر الدين ونصر الحق وكانوا في الباطن إنما يقاتلون لأجل الدنيا. ووقع لابن بطال هنا شيء فيه نظر فقال: وأما قول أبي برزة فوجه موافقته للترجمة أن هذا القول لم يقله أبو برزة عند مروان حين بايعه بل بايع مروان واتبعه ثم سخط ذلك لما بعد عنه، ولعله أراد منه أن يترك ما نوزع فيه طلبا لما عند الله في الآخرة ولا يقاتل عليه كما فعل عثمان يعني من عدم المقاتلة لا من ترك الخلافة فلم يقاتل من نازعه بل ترك ذلك، وكما فعل الحسن بن علي حين ترك قتال معاوية حين نازعه الخلافة، فسخط أبو برزة على مروان تمسكه بالخلافة والقتال عليها فقال لأبي المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع له. قلت: ودعواه أن أبا برزة بايع مروان ليس بصحيح، فإن أبا برزة كان مقيما بالبصرة ومروان إنما طلب الخلافة بالشام، وذلك أن يزيد بن معاوية لما مات دعا ابن الزبير إلى نفسه وبايعوه بالخلافة فأطاعه أهل الحرمين ومصر والعراق وما وراءها، وبايع له الضحاك بن قيس الفهري بالشام كلها إلا الأردن ومن بها من بني أمية ومن كان على هواهم، حتى هم مروان أن يرحل إلى ابن الزبير ويبايعه فمنعوه وبايعوا له بالخلافة، وحارب الضحاك بن قيس

(13/69)


فهزمه وغلب على الشام، ثم توجه إلى مصر فغلب عليها، ثم مات في سنته فبايعوا بعده ابنه عبد الملك وقد أخرج ذلك الطبري واضحا. وأخرج الطبراني بعضه من رواية عروة بن الزبير وفيه أن معاوية بن يزيد بن معاوية لما مات دعا مروان لنفسه فأجابه أهل فلسطين وأهل حمص فقاتله الضحاك بن قيس بمرج راهط فقتل الضحاك ثم مات مروان وقام عبد الملك، فذكر قصة الحجاج في قتاله عبد الله بن الزبير وقتله ثم قال ابن بطال: وأما يمينه يعني أبا برزة على الذي بمكة يعني ابن الزبير فإنه لما وثب بمكة بعد أن دخل فيما دخل فيه المسلمون جعل أبو برزة ذلك نكثا منه وحرصا على الدنيا وهو أي أبو برزة في هذه - أي قصة ابن الزبير - أقوى رأيا منه في الأولى أي قصة مروان قال: وكذلك القراء بالبصرة: لأن أبا برزة كان لا يرى قتال المسلمين أصلا، فكان يرى لصاحب الحق أن يترك حقه لمن نازعه فيه ليؤجر على ذلك ويمدح بالإيثار على نفسه لئلا يكون سببا لسفك الدماء انتهى ملخصا ومقتضى كلامه أن مروان لما ولى الخلافة بايعه الناس أجمعون، ثم نكث ابن الزبير بيعته ودعا إلى نفسه، وأنكر عليه أبو برزة قتاله على الخلافة بعد أن دخل في طاعته وبايعه، وليس كذلك والذي ذكرته هو الذي توارد عليه أهل الأخبار بالأسانيد الجيدة، وابن الزبير لم يبايع لمروان قط بل مروان هم أن يبايع لابن الزبير ثم ترك ذلك ودعا إلى نفسه. قوله: "لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية" في رواية أبي العباس السراج في تاريخ عن أحمد بن منيع وزياد بن أيوب عن عفان عن صخر بن جويرية عن نافع " لما انتزى أهل المدينة مع عبد الله بن الزبير وخلعوا يزيد بن معاوية جمع عبد الله بن عمر بنيه " ووقع عند الإسماعيلي من طريق مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد في أوله من الزيادة عن نافع " أن معاوية أراد ابن عمر على أن يبايع ليزيد فأبى وقال لا أبايع لأميرين، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدس إليه رجلا فقال له ما يمنعك أن تبايع؟ فقال: إن ذاك لذاك - يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة - إن ديني عندي إذا لرخيص، فلما مات معاوية كتب ابن عمر إلى يزيد ببيعته، فلما خلع أهل المدينة " فذكره. قلت: وكان السبب فيه ما ذكره الطبري مسندا أن يزيد ابن معاوية كان أمر على المدينة ابن عمه عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فأوفد إلى يزيد جماعة من أهل المدينة منهم عبد الله بن غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي في آخرين فأكرمهم وأجازهم، فرجعوا فأظهروا عيبه ونسبوه إلى شرب الخمر وغير ذلك، ثم وثبوا على عثمان فأخرجوه، وخلعوا يزيد ابن معاوية، فبلغ ذلك يزيد فجهز إليهم جيشا مع مسلم بن عقبة المري وأمره أن يدعوهم ثلاثا فإن رجعوا وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت فأبحها للجيش ثلاثا ثم أكفف عنهم. فتوجه إليهم فوصل في ذي الحجة سنة ثلاثين فحاربوه، وكان الأمير على الأنصار عبد الله بن حنظلة وعلى قريش عبد الله بن مطيع وعلى غيرهم من القبائل معقل بن يسار الأشجعي، وكانوا اتخذوا خندقا، فلما وقعت الوقعة انهزم أهل المدينة، فقتل ابن حنظلة، وفر ابن مطيع، وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا، فقتل جماعة صبرا، منهم معقل بن سنان ومحمد بن أبي الجهم ابن حذيفة ويزيد بن عبد الله بن زمعة وبايع الباقين على أنهم خول ليزيد. وأخرج أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له " إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته " فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد وعابه ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه. فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة،

(13/70)


فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير، وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوما من الشاميين من جانب الخندق، فترك أهل المدينة القتال ودخلوا المدينة خوفا على أهلهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل وبايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء. وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن رمانة أن معاوية لما حضره الموت قال ليزيد قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت نصيحته، قال فلما كان من خلافهم عليه ما كان دعاه فوجهه فأباحها ثلاثا. ثم دعاهم إلى بيعة يزيد وأنهم أعبد له قن في طاعة الله ومعصيته. ومن رواية عروة بن الزبير قال: لما مات معاوية أظهر عبد الله بن الزبير الخلاف على يزيد بن معاوية، فوجه يزيد مسلم ابن عقبة في جيش أهل الشام وأمره أن يبدأ بقتال أهل المدينة ثم يسير إلى ابن الزبير بمكة، قال فدخل مسلم ابن عقبة المدينة وبها بقايا من الصحابة فأسرف في القتل، ثم سار إلى مكة فمات في بعض الطريق. وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنه "ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها" يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرة. قال يعقوب: وكانت وقعة الحرة في ذي القعدة سنة ثلاث وستين. قوله: "حشمه" بفتح المهملة ثم المعجمة، قال ابن التين: الحشمة العصبة والمراد هنا خدمه ومن يغضب له. وفي رواية صخر بن جويرية عن نافع عند أحمد " لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال: أما بعد". قوله: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة" زاد في رواية مؤمل " بقدر غدرته " وزاد في رواية صخر " فقال هذه غدرة فلان " أي علامة غدرته؛ والمراد بذلك شهرته وأن يفتضح بذلك على رءوس الأشهاد، وفيه تعظيم الغدر سواء كان من قبل الآمر أو المأمور وهذا القدر هو المرفوع من هذه القصة وقد تقدم معناه في " باب إثم الغادر للبر والفاجر " في أواخر كتاب الجزية والموادعة قبيل بدء الخلق. قوله: "على بيع الله ورسوله" أي على شرط ما أمر الله ورسوله به من بيعة الإمام، وذلك أن من بايع أميرا فقد أعطاه الطاعة وأخذ منه العطية فكان شبيه من باع سلعة وأخذ ثمنها، وقيل إن أصله أن العرب كانت إذا تبايعت تصافقت بالأكف عند العقد، وكذا كانوا يفعلون إذا تحالفوا، فسمو معاهدة الولاة والتماسك فيه بالأيدي بيعة. ووقع في رواية مؤمل وصخر " على بيعة الله " وقد أخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر". قوله: "ولا غدر أعظم" في رواية صخر بن جويرية عن نافع المذكور " وإن من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ثم ينكث بيعته". قوله: "ثم ينصب له القتال" بفتح أوله. وفي رواية مؤمل " نصب له يقاتله". قوله: "خلعه" في رواية مؤمل " خلع يزيد " وزاد: "أو خف في هذا الأمر " وفي رواية صخر ابن جويرية " فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسعى في هذا الأمر". قوله: "ولا تابع في هذا الأمر" كذا للأكثر بمثناة فوقانية ثم موحدة، وللكشميهني بموحدة ثم تحتانية. قوله: "إلا كانت الفيصل بيني وبينه" أي القاطعة وهي فيعل من فصل الشيء إذا قطعه. وفي رواية مؤمل " فيكون الفيصل فيما بيني وبينه " وفي رواية صخر بن جويرية " فيكون صيلما بيني وبينه " والصيلم بمهملة مفتوحة وياء آخر الحروف ثم لام مفتوحة القطيعة. وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه ولو

(13/71)


جار في حكمه وأنه لا ينخلع بالفسق، وقد وقع في نسخة شعيب ابن أبي حمزة عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصة الرجل الذي سأله عن قول الله تعالى:َ {وإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية أن ابن عمر قال: "ما وجدت في نفسي في شيء من أمر هذه الأمة ما وجدت في نفسي أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمر الله " زاد يعقوب بن سفيان في تاريخه من وجه آخر عن الزهري " قال حمزة فقلنا له: ومن ترى الفئة الباغية؟ قال: ابن الزبير بغى على هؤلاء القوم - يعني بني أمية - فأخرجهم من ديارهم ونكث عهدهم". قوله: "أبو شهاب" هو عبد ربه بن نافع وعوف هو الأعرابي، والسند كله بصريون إلا ابن يونس، وأبو المنهال هو سيار بن سلامة. قوله: "لما كان ابن زياد ومروان بالشام وثب ابن الزبير بمكة ووثب القراء بالبصرة" ظاهره أن وثوب ابن الزبير وقع بعد قيام ابن زياد ومروان بالشام، وليس كذلك، وإنما وقع في الكلام حذف، وتحريره ما وقع عند الإسماعيلي من طريق يزيد بن زريع عن عوف قال: "حدثنا أبو المنهال قال: لما كان زمن أخرج ابن زياد يعني من البصرة وثب مروان بالشام ووثب ابن الزبير بمكة ووثب الذين يدعون القراء بالبصرة غم أبي غما شديدا " وكذا أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق عبد الله بن المبارك عن عوف ولفظه: "وثب مروان بالشام حيث وثب " والباقي مثله، ويصحح ما وقع في رواية أبي شهاب بأن تزاد واو قبل قوله: "وثب ابن الزبير " فإن ابن زياد لما أخرج من البصرة توجه إلى الشام فقام مع مروان، وقد ذكر الطبري بأسانيده ما ملخصه: أن عبيد الله بن زياد كان أميرا بالبصرة ليزيد بن معاوية، وأنه لما بلغته وفاته خطب لأهل البصرة وذكر ما وقع من الاختلاف بالشام، فرضى أهل البصرة أن يستمر أميرا عليهم حتى يجتمع الناس على خليفة فمكث على ذلك قليلا، ثم قام سلمة بن ذؤيب بن عبد الله اليربوعي يدعو إلى ابن الزبير فبايعه جماعة، فبلغ ذلك ابن زياد وأراد منهم كف سلمة عن ذلك فلم يجيبوه، فلما خشي على نفسه القتل استجار بالحارث ابن قيس بن سفيان فأردفه ليلا إلى أن أتى به مسعود بن عمرو بن عدي الأزدي فأجاره، ثم وقع بين أهل البصرة اختلاف فأمروا عليهم عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الملقب ببه بموحدتين الثانية ثقيلة وأمه هند بنت أبي سفيان، ووقعت الحرب وقام مسعود بأمر عبيد الله بن زياد فقتل مسعود وهو على المنبر في شوال سنة أربع وستين، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فهرب، فتبعوه وانتبهوا ما وجدوا له، وكان مسعود رتب معه مائة نفس يحرسونه فقدموا به الشام قبل أن يبرموا أمرهم فوجدوا مروان قد هم أن يرحل إلى ابن الزبير ليبايعه ويستأمن لبني أمية، فثنى رأيه عن ذلك، وجمع من كان يهوى بني أمية وتوجهوا إلى دمشق وقد بايع الضحاك بن قيس بها لابن الزبير، وكذا النعمان بن بشير بحمص، وكذا ناتل بنون ومثناة ابن قيس بفلسطين، ولم يبق على رأي الأمويين إلا حسان بن بحدل بموحدة ومهملة وزن جعفر وهو خال يزيد ابن معاوية وهو بالأردن فيمن أطاعه، فكانت الوقعة بين مروان ومن معه وبين الضحاك بن قيس بمرج راهط، فقتل الضحاك وتفرق جمعه وبايعوا حينئذ مروان بالخلافة في ذي القعدة منها. وقال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه: حدثنا أبو مسهر عبد الأعلى قال: بويع لمروان بن الحكم، بايع له أهل الأردن وطائفة من أهل دمشق، وسائر الناس زبيريون، ثم اقتتل مروان وشعبة بن الزبير بمرج راهط فغلب مروان وصارت له الشام ومصر، وكانت مدته تسعة أشهر فهلك بدمشق وعهد لعبد الملك.
وقال خليفة بن خياط في تاريخه: حدثنا الوليد بن هشام عن أبيه عن

(13/72)


جده وأبو اليقظان وغيرهما قالوا: قدم ابن الزياد الشام وقد بايعوا ابن الزبير ما خلا هل الجابية، ثم ساروا إلى مرج راهط فذكر نحوه، وهذا يدفع ما تقدم عن ابن بطال أن ابن الزبير بايع مروان ثم نكث. قوله: "ووثب القراء بالبصرة" يريد الخوارج، وكانوا قد ثاروا بالبصرة بعد خروج ابن زياد ورئيسهم نافع بن الأزرق، ثم خرجوا إلى الأهواز، وقد استوفى خبرهم الطبري وغيره، ويقال إنه أراد الذين بايعوا على قتال من قتل الحسين وساروا مع سليمان بن صرد وغيره من البصرة إلى جهة الشام فلقيهم عبيد الله بن زياد في جيش الشام من قبل مروان فقتلوا بعين الوردة، وقد قص قصتهم الطبري وغيره.
قوله: "فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي" في رواية يزيد بن زريع " فقال لي أبي وكان يثنى عليه خيرا انطلق بنا إلى هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي برزة الأسلمي، فانطلقت معه حتى دخلنا عليه " وفي رواية عبد الله بن المبارك عن عوف " فقال أبي انطلق بنا لا أبالك إلى هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي برزة " وعند يعقوب بن سفيان عن سكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي المنهال قال: "دخلت مع أبي على أبي برزة الأسلمي، وإن في أذني يومئذ لقرطين وإني لغلام. قوله: "في ظل علية له من قصب" زاد في رواية يزيد بن زريع " في يوم حار شديد الحر " والعلية بضم المهملة وبكسرها وكسر اللام وتشديد التحتانية هي الغرفة وجمعها علالي، والأصل عليوة فأبدلت الواو ياء وأدغمت. وفي رواية ابن المبارك " في ظل علولة". قوله: "يستطعمه الحديث" في رواية الكشميهني: "بالحديث: "أي يستفتح الحديث ويطلب منه التحديث. قوله: "إني احتسبت عند الله" في رواية الكشميهني: "أحتسب " وكذا في رواية يزيد بن زريع ومعناه أنه يطلب بسخطه على الطوائف المذكورين من الله الأجر على ذلك لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان. قوله: "ساخطا" في رواية سكين " لائما". قوله: "إنكم يا معشر العرب" في رواية ابن المبارك " العريب". قوله: "كنتم على الحال الذي علمتم" في رواية يزيد بن زريع " على الحال التي كنتم عليها في جاهليتكم " قوله: "وإن الله قد أنقذكم بالإسلام وبمحمد عليه الصلاة والسلام" في رواية يزيد بن زريع " وإن الله نعشكم " بفتح النون والمهملة ثم معجمة، وسيأتي في أوائل الاعتصام من رواية معتمر بن سليمان عن عوف أن أبا المنهال حدثه أنه سمع أبا برزة قال: "إن الله يغنيكم " قال أبو عبد الله هو البخاري: وقع هنا " يغنيكم " يعني بضم أوله وسكون المعجمة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة قال وإنما هو " نعشكم " ينظر في أصل الاعتصام، كذا وقع عند المستملي، ووقع عند ابن السكن " نعشكم " على الصواب، ومعنى نعشكم رفعكم وزنه ومعناه، وقيل عضدكم وقواكم. قوله: "إن ذاك الذي بالشام" زاد يزيد بن زريع " يعني مروان " وفي رواية سكين " عبد الملك ابن مروان " والأول أولى. قوله: "وإن هؤلاء الذين بين أظهركم" في رواية يزيد بن زريع وابن المبارك نحوه " إن الذين حولكم الذين تزعمون أنهم قراؤكم " وفي رواية سكين وذكر نافع بن الأزرق وزاد في آخره: "فقال أبي: فما تأمرني إذا؟ فإني لا أراك تركت أحدا، قال لا أرى خير الناس اليوم إلا عصابة خماص البطون من أموال الناس خفاف الظهور من دمائهم " وفي رواية سكين " إن أحب الناس إلى لهذه العصابة الخمصة بطونهم من أموال الناس الخفيفة ظهورهم من دمائهم " وهذا يدل على أن أبا برزة كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين ولا سيما إذا كان ذلك في طلب الملك. وفيه استشارة أهل العلم والدين عند نزول الفتن وبذل العالم النصيحة لمن يستشيره، وفيه الاكتفاء في إنكار المنكر بالقول ولو في غيبة من ينكر عليه ليتعظ من يسمعه فيحذر من

(13/73)


الوقوع فيه. قوله: "وإن ذاك الذي بمكة" زاد يزيد بن زريع " يعني ابن الزبير". قوله: "عن واصل الأحدب" هو ابن حيان بمهملة ثم تحتانية ثقيلة أسدي كوفي يقال له بياع السابري بمهملة وموحدة من طبقة الأعمش ولكنه قديم الموت. قوله: "إن المنافقين اليوم شر منهم" في رواية إبراهيم بن الحسين عن آدم شيخ البخاري فيه: "إن المنافقين اليوم شر منهم " أخرجه أبو نعيم. قوله: "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الكرماني: هو متعلق بمقدر نحو الناس، إذ لا يجوز أن يقال إنه متعلق بالضمير القائم مقام المنافقين لأن الضمير لا يعمل. قال ابن بطال: إنما كانوا شرا ممن قبلهم لأن الماضين كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، وأما الآخرون فصاروا يجهرون بالخروج على الأئمة ويوقعون الشر بين الفرق فيتعدى ضررهم لغيرهم. قال: ومطابقته للترجمة من جهة أن جهرهم بالنفاق وشهر السلاح على الناس هو القول بخلاف ما بذلوه من الطاعة حين بايعوا أولا من خرجوا عليه آخرا انتهى. وقال ابن التين: أراد أنهم أظهروا من الشر ما لم يظهر أولئك، غير أنهم لم يصرحوا بالكفر، وإنما هو النفث يلقونه بأفواههم فكانوا يعرفون به. كذا قال، ويشهد لما قال ابن بطال ما أخرجه البزار من طريق عاصم عن أبي وائل " قلت لحذيفة: النفاق اليوم شر أم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه، هو اليوم ظاهر، إنهم كانوا يستخفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "عن أبي الشعثاء" هو بفتح المعجمة وسكون المهملة بعدها مثلثة واسمه سليم ابن أسود المحاربي. قوله: "عن حذيفة" لم أر لأبي الشعثاء عن حذيفة في الكتب الستة إلا هذا الحديث، ولم أره إلا معنعنا، وكأنه تسمح فيه لأنه بمعنى حديث زيد بن وهب عن حذيفة وهو المذكور قبله، أو ثبت عنده لقيه حذيفة في غير هذا. قوله: "إنما كان النفاق" أي موجودا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية يحيى بن آدم عن مسعر عند الإسماعيلي: "كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان" كذا للأكثر. وفي رواية: "فإنما هو الكفر أو الإيمان " وكذا حكى الحميدي في جمعه أنهما روايتان، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن مسعر " فإنما هو اليوم الكفر بعد الإيمان " قال وزاد محمد بن بشر في روايته عن مسعر " فضحك عبد الله قال حبيب فقلت لأبي الشعثاء: مم ضحك عبد الله؟ قال: لا أدري". قلت: لعله عرف مراده فتبسم تعجبا من حفظه أو فهمه، قال ابن التين: كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وأما من جاء بعدهم فإنه ولد في الإسلام وعلى فطرته فمن كفر منهم فهو مرتد، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدين انتهى. والذي يظهر أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع وإنما أراد نفي اتفاق الحكم، لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئا فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التألف لعدم الاحتياج إلى ذلك، وقيل غرضه أن الخروج عن طاعة الإمام جاهلية ولا جاهلية في الإسلام، أو تفريق للجماعة فهو بخلاف قول الله تعالى :{ولا تفرقوا} ، وكل ذلك غير مستور فهو كالكفر بعد الإيمان.

(13/74)


22 - باب لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُغْبَطَ أَهْلُ الْقُبُورِ
7115 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(13/74)


قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ"
قوله: "باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور" بضم أوله وفتح ثالثه على البناء للمجهول بغين معجمة ثم موحدة ثم مهملة، قال ابن التين: غبطه بالفتح يغبطه بالكسر غبطا وغبطة بالسكون، والغبطة تمني مثل حال المغبوط مع بقاء حاله. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أويس. قوله: "عن أبي الزناد" وافق مالكا شعيب بن أبي حمزة عنه كما سيأتي بعد بابين في أثناء حديث. قوله: "حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه" أي كنت ميتا. قال ابن بطال: تغبط أهل القبور وتمني الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين بغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي والمنكر انتهى. وليس هذا عاما في حق كل أحد وإنما هو خاص بأهل الخير، وأما غيرهم فقد يكون لما يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه، ويؤيده ما أخرجه في رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند مسلم: "لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء " وذكر الرجل فيه للغالب وإلا فالمرأة يتصور فيها ذلك، والسبب في ذلك ما ذكر في رواية أبي حازم أنه " يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده " وبهذا جزم القرطبي، وذكره عياض احتمالا، وأغرب بعض شراح " المصابيح " فقال: المراد بالدين هنا العبادة، والمعنى أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت في حالة ليس المتمرغ فيها من عادته وإنما الحامل عليه البلاء، وتعقبه الطيبي بأن حمل الدين على حقيقته أولى، أي ليس التمني والتمرغ لأمر أصابه من جهة الدين بل من جهة الدنيا. وقال ابن عبد البر. ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، وإنما في هذا أن هذا القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه لا لضرر ينزل في الجسم، كذا قال، وكأنه يريد أن النهي عن تمني الموت هو حيث يتعلق بضرر الجسم، وأما إذا كان لضرر يتعلق بالدين فلا. وقد ذكره عياض احتمالا أيضا وقال غيره: ليس بين هذا الخبر وحديث النهي عن تمني الموت معارضة، لأن النهي صريح وهذا إنما فيه إخبار عن شدة ستحصل ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه تعرض لحكمه، وإنما سيق للإخبار عما سيقع. قلت: ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله: "وليس به الدين إنما هو البلاء " فإنه سيق مساق الذم والإنكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسبب الدين لكان محمودا، ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف. قال النووي لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف منهم عمر بن الخطاب وعيسى الغفاري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. ثم قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين ويقل الاعتناء بأمره ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه وما يتعلق به، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار رفعه: "العبادة في الهرج كهجرة إلى " ويؤخذ من قوله: "حتى يمر الرجل بقبر الرجل " أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مرادا بل فيه إشارة إلى قوة هذا التمني لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمني أو يخف عند مشاهدة القبر والمقبور فيتذكر هول المقام فيضعف تمنيه، فإذا تمادى على ذلك دل على تأكد أمر تلك الشدة عنده حيث لم يصرفه ما شاهده من وحشة القبر وتذكر ما فيه من الأهوال عن استمراره على تمني الموت. وقد أخرج الحاكم من طريق

(13/75)


أبي سلمة قال: "عدت أبا هريرة فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمت، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمان الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر. وليأتين أحدهم قبر أخيه فيقول: ليتني مكانه " وفي كتاب الفتن من رواية عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: "يوشك أن تمر الجنازة في السوق على الجماعة فيراها الرجل فيهز رأسه فيقول: يا ليتني مكان هذا، قلت: يا أبا ذر إن ذلك لمن أمر عظيم، قال: أجل"

(13/76)


23 - باب تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الأَوْثَانُ
7116 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ: وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
7117 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ"
قوله: "باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان" ذكر فيه حديثين: قوله: "عن الزهري" في إحدى روايتي الإسماعيلي: "حدثني الزهري". قوله: "حتى تضطرب" أي يضرب بعضها بعضا. قوله: "أليات" بفتح الهمزة واللام جمع ألية بالفتح أيضا مثل جفنة وجفنات، والألية العجيزة وجمعها أعجاز. قوله: "على ذي الخلصة" في رواية معمر عن الزهري عند مسلم: "حول ذي الخلصة". قوله: "وذو الخلصة طاغية دوس" أي صنمهم، وقوله: "التي كانوا يعبدون " كذا فيه بحذف المفعول. ووقع في رواية معمر " وكان صنما تعبدها دوس". قوله: "في الجاهلية" زاد معمر " بتبالة " وتبالة بفتح المثناة وتخفيف الموحدة وبعد الألف لام ثم هاء تأنيث قرية بين الطائف واليمن بينهما ستة أيام، وهي التي يضرب بها المثل فيقال: "أهون من تبالة على الحجاج " وذلك أنها أول شيء وليه، فلما قرب منها سأل من معه عنها فقال: هي وراء تلك الأكمة. فرجع فقال: لا خير في بلد يسترها أكمة، وكلام صاحب " المطالع " يقتضي أنهما موضعان: وأن المراد في الحديث غير تبالة الحجاج، وكلام ياقوت يقتضي أنها هي ولذلك لم يذكرها في " المشترك " وعند ابن حبان من هذا الوجه: قال معمر إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا، وقد تقدم ضبط ذي الخلصة في أواخر المغازي وبيان الاختلاف في أنه واحد أو اثنان. قال ابن التين: فيه الإخبار بأن نساء دوس يركبن الدواب من البلدان إلى الصنم المذكور، فهو المراد باضطراب ألياتهن. قلت: ويحتمل أن يكون المراد أنهن يتزاحمن بحيث تضرب عجيزة بعضهن الأخرى عند الطواف حول الصنم المذكور. وفي معنى هذا الحديث ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمر قال: "لا تقوم الساعة حتى تدافع مناكب نساء بني عامر على ذي الخلصة " وابن عدي من رواية أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة رفعه: "لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى " قال ابن بطال: هذا الحديث وما أشبهه ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شيء، لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة، إلا أنه يضعف

(13/76)


ويعود غريبا كما بدأ. ثم ذكر حديث: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق " الحديث قال: فتبين في هذا الحديث تخصيص الأخبار الأخرى، وأن الطائفة التي تبقى على الحق تكون ببيت المقدس إلى أن تقوم الساعة. قال فبهذا تأتلف الأخبار. قلت: ليس فيما احتج به تصريح إلى بقاء أولئك إلى قيام الساعة، وإنما فيه: "حتى يأتي أمر الله " فيحتمل أن يكون المراد بأمر الله ما ذكر من قبض من بقي من المؤمنين، وظواهر الأخبار تقتضي أن الموصوفين بكونهم ببيت المقدس أن آخرهم من كان مع عيسى عليه السلام، ثم إذا بعث الله الريح الطيبة فقبضت روح كل مؤمن لم يبق إلا شرار الناس. وقد أخرج مسلم من حديث ابن مسعود رفعه: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وسائر الآيات العظام، وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة، وهو عند أحمد وفي مرسل أبي العالية " الآيات كلها في ستة أشهر " وعن أبي هريرة في " ثمانية أشهر " وقد أورد مسلم عقب حديث أبي هريرة من حديث عائشة ما يشير إلى بيان الزمان الذي يقع فيه ذلك ولفظه: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى " وفيه: "يبعث الله ريحا طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم " وعنده في حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "يخرج الدجال في أمتي " الحديث وفيه: "فيبعث الله عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال حبة من خير أو إيمان إلا قبضته " وفيه: "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم ينفخ في الصور " فظهر بذلك أن المراد بأمر الله في حديث: "لا تزال طائفة " وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة ولا يتخلف عنها إلا شيئا يسيرا، ويؤيده حديث عمران بن حصين رفعه: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال " أخرجه أبو داود والحاكم، ويؤخذ منه صحة ما تأولته، فإن الذين يقاتلون الدجال يكونون بعد قتله مع عيسى، ثم يرسل عليهم الريح الطيبة فلا يبقى بعدهم إلا الشرار كما تقدم. ووجدت في هذا مناظرة لعقبة بن عامر ومحمد بن مسلمة، فأخرج الحاكم من رواية عبد الرحمن بن شماسة أن عبد الله بن عمرو قال: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر: عبد الله أعلم ما يقول، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك " فقال عبد الله " أجل، ويبعث الله ريحا ريحها ريح المسك ومسها مس الحرير فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة " فعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة " حتى تأتيهم الساعة " ساعتهم هم وهي وقت موتهم بهبوب الريح والله أعلم. وقد تقدم بيان شيء من هذا في أواخر الرقاق عند الكلام على حديث طلوع الشمس من المغرب. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي، وسليمان هو ابن بلال، وثور هو ابن زيد، وأبو الغيث هو سالم، والسند كله مدنيون. قوله: "حتى يخرج رجل من قحطان" تقدم شرحه في أوائل مناقب قريش، قال القرطبي في التذكرة: قوله: "يسوق الناس بعصاه " كناية عن غلبته عليهم وانقيادهم له، ولم يرد نفس العصا، لكن في ذكرها إشارة إلى خشونته عليهم وعسفه بهم، قال: وقد قيل إنه يسوقهم بعصاه حقيقة كما تساق الإبل والماشية لشدة عنفه وعدوانه، قال: ولعله

(13/77)


جهجاه المذكور في الحديث الآخر واصل الجهجاه الصياح وهي صفة تناسب ذكر العصا. قلت: ويرد هذا الاحتمال إطلاق كونه من قحطان فظاهره أنه من الأحرار، وتقييده في جهجاه بأنه من الموالي ما تقدم أنه يكون بعد المهدي وعلى سيرته وأنه ليس دونه. ثم وجدت في كتاب " التيجان لابن هشام " ما يعرف منه - إن ثبت - اسم القحطاني وسيرته وزمانه، فذكر أن عمران بن عامر كان ملكا متوجا وكان كاهنا معمرا وأنه قال لأخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا لما حضرته الوفاة: إن بلادكم ستخرب، وإن لله في أهل اليمن سخطتين ورحمتين: فالسخطة الأولى هدم سد مأرب وتخرب البلاد بسببه، والثانية غلبة الحبشة على أرض اليمن. والرحمة الأولى بعثة نبي من تهامة اسمه محمد يرسل بالرحمة ويغلب أهل الشرك، والثانية إذا خرب بيت الله يبعث الله رجلا يقال له شعيب بن صالح فيهلك من خربه ويخرجهم حتى لا يكون بالدنيا إيمان إلا بأرض اليمن انتهى. وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج، وتقدم الجمع بينه وبين حديث: " لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة " فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم القحطاني فأهلكهم، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها، ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله: "الإيمان يمان " أي يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض. وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا، وسيأتي في أواخر الأحكام في الكلام على حديث جابر بن سمرة في الخلفاء الاثني عشر شيء يتعلق بالقحطاني. وقال الإسماعيلي هنا: ليس هذا الحديث من ترجمة الباب في شيء. وذكر ابن بطال أن المهلب أجاب بأن وجهه أن القحطاني إذا قام وليس من بيت النبوة ولا من قريش الذين جعل الله فيهم الخلافة فهو من أكبر تغير الزمان وتبديل الأحكام بأن يطاع في الدين من ليس أهلا لذلك انتهى. وحاصله أنه مطابق لصدر الترجمة وهو تغير الزمان، وتغيره أعم من أن يكون فيما يرجع إلى الفسق أو الكفر، وغايته أن ينتهي إلى الكفر، فقصة القحطاني مطابقة للتغير بالفسق مثلا، وقصة ذي الخلصة للتغير بالكفر، واستدل بقصه القحطاني عن أن الخلافة يجوز أن تكون في غير قريش، وأجاب ابن العربي بأنه إنذار بما يكون من الشر في آخر الزمان من تسور العامة على منازل الاستقامة، فليس فيه حجة لأنه لا يدل على المدعي، ولا يعارض ما ثبت من أن الأئمة من قريش انتهى. وسيأتي بسط القول في ذلك في " باب الأمراء من قريش " أول كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.

(13/78)


24 - باب خُرُوجِ النَّارِ
وَقَالَ أَنَسٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ
7118 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى"
7119 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَدِّهِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ

(13/78)


عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ فَمَنْ حَضَرَهُ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا قَالَ عُقْبَةُ وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ" إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ "يَحْسِرُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ"
قوله: "وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب" وتقدم في أواخر " باب الهجرة " في قصة إسلام عبد الله بن سلام موصولا من طريق حميد عن أنس ولفظه: "وأما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب " ووصله في أحاديث الأنبياء من وجه آخر عن حميد بلفظ: "نار تحشر الناس " والمراد بالأشراط العلامات التي يعقبها قيام الساعة، وتقدم في " باب الحشر " من كتاب الرقاق صفة حشر النار لهم. قوله: "عن الزهري قال سعيد بن المسيب" في رواية أبي نعيم في المستخرج " عن سعيد بن المسيب". قوله: "حتى تخرج نار من أرض الحجاز" قال القرطبي في " التذكرة ": قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج ومآذن، وترى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور بين يديه وينتهي إلى محط الركب العراقي، واجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر. وقال لي بعض أصحابنا: رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى. وقال النووي: تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام. وقال أبو شامة في " ذيل الروضتين ": وردت في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين كتب من المدينة الشريفة فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين، فذكر هذا الحديث، قال: فأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب، فمن الكتب. فذكر نحو ما تقدم، ومن ذلك أن في بعض الكتب: ظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة في شرقي المدينة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد. وفي كتاب آخر: انبجست الأرض من الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد المدينة وهي برأي العين من المدينة، وسال منها واد يكون مقداره أربع فراسخ وعرضه أربع أميال يجري على وجه الأرض ويخرج منه مهاد وجبال صغار. وفي كتاب آخر: ظهر ضوؤها إلى أن رأوها من مكة، قال ولا أقدر أصف عظمها، ولها دوى. قال أبو شامة: ونظم الناس في هذا أشعارا، ودام أمرها أشهرا، ثم خمدت. والذي ظهر لي أن النار المذكورة في حديث الباب هي التي ظهرت بنواحي المدينة كما فهمه القرطبي وغيره، وأما النار التي تحشر الناس فنار أخرى. وقد وقع في بعض بلاد الحجاز في الجاهلية نحو هذه النار التي ظهرت بنواحي المدينة في زمن خالد بن سنان العبسي، فقام في أمرها حتى أخمدها ومات بعد ذلك في قصة له ذكرها أبو عبيدة معمر بن المثنى في " كتاب الجماجم " وأوردها الحاكم في " المستدرك " من طريق يعلى ابن مهدي عن أبي عوانة عن أبي يونس عن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا من بني عبس يقال له خالد ابن سنان قال

(13/79)


لقومه إني أطفي عنكم نار الحدثان فذكر القصة وفيها فانطلق وهي تخرج من شق جبل من حرة يقال لها حرة أشجع فذكر القصة في دخوله الشق والنار كأنها جبل سقر " فضربها بعصاه حتى أدخلها وخرج " وقد أوردت لهذه القصة طرفا من ترجمته في كتابي في الصحابة. قوله: "تضيء أعناق الإبل ببصرى" قال ابن التين: يعني من آخرها يبلغ ضوؤها إلى الإبل التي تكون ببصرى وهي من أرض الشام " وأضاء يجيء لازما ومتعديا، يقال أضاءت النار وأضاءت النار غيرها " وبصرى بضم الموحدة وسكون المهملة مقصور بلد بالشام وهي حوران. وقال أبو البقاء: أعناق بالنصب على أن تضيء متعد والفاعل النار أي تجعل على أعناق الإبل ضوءا، قال: ولو روى بالرفع لكان متجها أي تضيء أعناق الإبل به كما جاء في حديث آخر " أضاءت له قصور الشام " وقد وردت في هذا الحديث زيادة من وجه آخر أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق عمر بن سعيد التنوخي عن ابن شهاب عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمر بن الخطاب يرفعه: "لا تقوم الساعة حتى يسيل واد من أودية الحجاز بالنار تضيء له أعناق الإبل ببصرى " وعمر ذكره ابن حبان في الثقات ولينه ابن عدي والدار قطني، وهذا ينطبق على النار المذكورة التي ظهرت في المائة السابعة. وأخرج أيضا الطبراني في آخر حديث حذيفة بن أسيد الذي مضى التنبيه عليه " وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من رومان أو ركوبة تضيء منها أعناق الإبل ببصرى" . قلت: وركوبة ثنية صعبة المرتقى في طريق المدينة إلى الشام مر بها النبي في غزوة تبوك ذكره البكري، ورومان لم يذكره البكري ولعل المراد رومة البئر المعروفة بالمدينة، فجمع في هذا الحديث بين النارين وأن إحداهما تقع قبل قيام الساعة مع جملة الأمور التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم؛ والأخرى هي التي يعقبها قيام الساعة بغير تخلل شيء آخر، وتقدم الثانية على الأولى في الذكر لا يضر والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي" هو أبو سعيد الأشج مشهور بكنيته وصفته وهو من الطبقة الوسطى الثالثة من شيوخ البخاري وعاش بعد البخاري سنة واحدة، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري. قوله: "عن خبيب بن عبد الرحمن" بمعجمة وموحدتين مصغر وهو ابن عبد الرحمن بن خبيب بن يساف الأنصاري. قوله: "عن جده حفص بن عاصم" أي ابن عمر بن الخطاب، والضمير لعبيد الله بن عمر لا لشيخه. قوله: "يوشك" بكسر المعجمة أي يقرب. قوله: "أن يحسر" بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه والحاء والسين مهملتان أي ينكشف. قوله: "الفرات" أي النهر المشهور وهو بالتاء المجرورة على المشهور ويقال يجوز أنه يكتب بالهاء كالتابوت والتابوه والعنكبوت والعنكبوه أفاده الكمال بن العديم في تاريخه نقلا عن إبراهيم بن أحمد بن الليث. قوله: "فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا" هذا يشعر بأن الأخذ منه ممكن، وعلى هذا فيجوز أن يكون دنانير ويجوز أن يكون قطعا ويجوز أن يكون تبرا. قوله: "قال عقبة" هو ابن خالد، وهو موصول بالسند المذكور، وقد أخرجه هو والذي قبله الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان وأبي القاسم البغوي والفضل بن عبد الله المخلدي ثلاثتهم عن أبي سعيد الأشج عن الشيخين. قوله: "وحدثنا عبيد الله" هو ابن عمر المذكور. قوله: "قال حدثنا أبو الزناد" يعني أن لعبيد الله في هذا الحديث إسنادين. قوله: "يحسر جبل من ذهب" يعني أن الروايتين اتفقتا إلا في قوله كنز فقال الأعرج جبل، وقد ساق أبو نعيم في المستخرج الحديثين بسند واحد من رواية بكر بن أحمد بن مقبل عن أبي سعيد الأشج وفرقهما ولفظهما واحد إلا لفظ كنز وجبل، وتسميته كنزا باعتبار حاله قبل أن ينكشف، وتسميته جبلا للإشارة إلى كثرته، ويؤيده

(13/80)


ما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا " قال ابن التين: إنما نهى عن الأخذ منه لأنه للمسلمين فلا يؤخذ إلا بحقه، قال: ومن أخذه وكثر المال ندم لأخذه ما لا ينفعه، وإذا ظهر جبل من ذهب كسد الذهب ولم يرد. قلت: وليس الذي قاله ببين، والذي يظهر أن النهي عن أخذه لما ينشأ عن أخذه من الفتنة والقتال عليه وقوله: "وإذا ظهر جبل من ذهب إلخ " في مقام المنع، وإنما يتم ما زعم من الكساد أن لو اقتسمه الناس بينهم بالسوية ووسعهم كلهم فاستغنوا أجمعين فحينئذ تبطل الرغبة فيه، وأما إذا حواه قوم دون قوم فحرص من لم يحصل له منه شيء باق على حاله، ويحتمل أن تكون الحكمة في النهي عن الأخذ منه لكونه يقع في آخر الزمان عند الحشر الواقع في الدنيا وعند عدم الظهور أو قلته فلا ينتفع بما أخذ منه ولعل هذا هو السر في إدخال البخاري له في ترجمة خروج النار. ثم ظهر لي رجحان الاحتمال الأول لأن مسلما أخرج هذا الحديث أيضا من طريق أخرى عن أبي هريرة بلفظ: "يحسر الفرات عن جبل من ذهب فيقتل عليه الناس، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو " وأخرج مسلما أيضا عن أبي بن كعب قال: "لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال فيقتتلون عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون " فبطل ما تخيله ابن التين، وتوجه التعقب عليه ووضح أن السبب في النهي عن الأخذ منه ما يترتب على طلب الأخذ منه من الاقتتال فضلا عن الأخذ ولا مانع أن يكون ذلك عند خروج النار للمحشر، لكن ليس ذلك السبب في النهي عن الأخذ منه. وقد أخرج ابن ماجه عن ثوبان رفعه قال: "يقتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة " فذكر الحديث في المهدي فهذا إن كان المراد بالكنز فيه الكنز الذي في حديث الباب دل على أنه إنما يقع عند ظهور المهدي وذلك قبل نزول عيسى وقبل خروج النار جزما والله أعلم. "تنبيه": وقع عند أحمد وابن ماجه من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مثل حديث الباب إلى قوله: "من ذهب فيقتتل عليه الناس فيقتل من كل عشرة تسعة " وهي رواية شاذة، والمحفوظ ما تقدم من عند مسلم وشاهده من حديث أبي بن كعب " من كل مائة تسعة وتسعون " ويمكن الجمع باختلاف تقسيم الناس إلى قسمين.

(13/81)


25 – باب
7120 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا مَعْبَدٌ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تَصَدَّقُوا فَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا" قَالَ مُسَدَّدٌ حَارِثَةُ أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِأُمِّهِ قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
7121 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاَثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ

(13/81)


الزَّلاَزِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لاَ أَرَبَ لِي بِهِ وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ يَعْنِي آمَنُوا أَجْمَعُونَ فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يَتَبَايَعَانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلاَ يَطْعَمُهُ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلاَ يَسْقِي فِيهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُهَا"
قوله "باب" كذا للجميع بغير ترجمة, لكن سقط من شرح بن بطال وذكر أحاديثه في الباب الذي قبله وعلى الأول فهو كالفصل من الذي قبله وتعلقه به من جهة الاحتمال الذي تقدم وهو ان ذلك يقع في الزمان الذي يستغني فيه الناس عن المال اما لاشتغال كل منهم بنفسه ثم طروق الفتنة فلا يلوي على الأهل فضلا عن المال وذلك في زمن الدجال واما بحصول الأمن المفرط والعدل البالغ بحيث يستغني كل أحد بما عنده عما في يد غيره وذلك في زمن المهدي ونصف بن مريم واما ثم خروج النار التي تسوقهم الى المحشر فيعز حينئذ الظهر وتباع الحديقة بالبعير الواحد ولا يلتفت أحد حينئذ الى ما يثقله من المال بل يقصد نجاة نفسه من يقدر عليه من ولده واهله وهذا أظهر الاحتمالات وهو المناسب لصنيع البخاري والعلم ثم الله تعالى وذكر بن بطال من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن بن عمر عن كعب الأحبار قال تخرج نار تحشر الناس فإذا سمعتم بها فأخرجوا الى الشام قال وفي حديث أبي سريحة بمهملات وزن عظيمة واسمه حذيفة بن أسد بفتح أوله ان آخر الآيات المؤذنة بقيام الساعة خروج النار قلت ولفظه ثم مسلم في بعض الإشارة يتحقق النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذاكرون قالوا نذكر الساعة قال انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن فتطرد الناس الى محشرهم قلت وهذا في الظاهر يعارض حديث أنس المشار اليه في أول الباب فان فيه ان أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق الى المغرب وفي هذا انها آخر الأشراط ويجمع بينهما بأن آخريتها باعتبار ما ذكر معها من الآيات وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلا بل يقع بانتهائها النفخ في الصور بخلاف ما ذكر معها فإنه يبقى بعد كل آية منها أشياء من أمور الدنياقوله: "حدثنا مسدد حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان عن شعبة، ولمسدد فيه شيخ آخر أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق يوسف بن يعقوب القاضي عن مسدد " حدثنا بشر بن المفضل حدثنا شعبة". قوله: "حدثنا معبد" يعني ابن خالد، تقدم في الزكاة عن آدم " حدثنا شعبة حدثنا معبد بن خالد". قوله: "حارثة بن وهب" أي الخزاعي. قوله: "تصدقوا فسيأتي على الناس زمان" تقدم الكلام على ألفاظه في أوائل الزكاة وقوله قال مسدد هو شيخه في هذا الحديث. قوله: "يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها" يحتمل

(13/82)


أن يكون ذلك وقع كما ذكر في خلافة عمر بن عبد العزيز فلا يكون من أشراط الساعة، وهو نظير ما وقع في حديث عدي بن حاتم الذي تقدم في علامات النبوة وفيه: "ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه ذهبا يلتمس من يقبله فلا يجد " وأخرج يعقوب ابن سفيان في تاريخه من طريق عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بسند جيد قال: "لا والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجد فيرجع به، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس". قلت: وهذا بخلاف حديث أبي هريرة الذي بعده كما سيأتي البحث فيه، وقد تقدم في ترجمة عيسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء حديث: "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم - وفيه - ويفيض المال " وفي رواية أخرى " حتى لا يقبله أحد " فيحتمل أن يكون المراد، والأول أرجح لأن الذي رواه عدي ثلاثة أشياء أمن الطرق، والاستيلاء على كنوز كسرى، وفقد من يقبل الصدقة من الفقراء. فذكر عدي أن الأولين وقعا وشاهدهما وأن الثالث سيقع فكان كذلك لكن بعد موت عدي في زمن عمر بن عبد العزيز، وسببه بسط عمر العدل وإيصال الحقوق لأهلها حتى استغنوا وأما فيض المال الذي يقع في زمن عيسى عليه السلام فسببه كثرة المال وقلة الناس واستشعارهم بقيام الساعة، وبيان ذلك في حديث أبي هريرة الذي بعده. قوله: "حارثة" يعني ابن وهب صحابي هذا الحديث. قوله: "أخو عبيد الله بن عمر" بالتصغير. قوله: "لأمه" هي أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيب بن ربيعة بن أصرم الخزاعية ذكرها ابن سعد قال: وكان الإسلام فرق بينها وبين عمر. قلت: وقد تقدم ذكر ذلك في كتاب الشروط في آخر " باب الشروط في الجهاد " وقد أخرج الطبراني من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق حدثنا حارثة بن وهب الخزاعي وكانت أمه تحت عمر فولدت له عبيد الله بن عمر قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعني في حجة الوداع الحديث، وأصله عند مسلم وأبي داود من رواية زهير، وتقدم للبخاري من طريق شعبة عن أبي إسحاق بدون الزيادة. قوله: "عن عبد الرحمن" هو الأعرج، ووقع في رواية الطبراني لهذه النسخة " عن الأعرج " وكذا تقدم في الاستسقاء بعض هذا الحديث بهذا الإسناد وفيه: "عن عبد الرحمن الأعرج". قوله: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان" الحديث: "وحتى يبعث دجالون " الحديث: "وحتى يقبض العلم إلخ " هكذا ساق هذه الأشراط السبعة مساق الحديث الواحد هنا، وأورده البيهقي في البعث من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبيه فقال في كل واحد منها " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم قال: أخرج البخاري هذه الأحاديث السبعة عن أبي اليمان عن شعيب. قلت، فسماها سبعة مع أن في بعضها أكثر من واحد كقوله: "حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج " فإذا فصلت زادت على العشرة، وقد أفرد البخاري من هذه النسخة حديث قبض العلم فساقه كالذي هنا في كتاب الاستسقاء ثم قال: "وحتى يكثر فيكم المال فيفيض " اقتصر على هذا القدر منه، ثم ساقه في كتاب الزكاة بتمامه، وذكر في علامات النبوة بهذا السند حديث: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر " الحديث وفيه أشياء غير ذلك من هذا النمط، وهذه المذكورات وأمثالها مما أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع بعد قبل أن تقوم الساعة، لكنه على أقسام: أحدها ما وقع على وفق ما قال، والثاني ما وقعت مباديه ولم يستحكم، والثالث ما لم يقع منه شيء ولكنه سيقع، فالنمط الأول تقدم معظمه في علامات النبوة، وقد استوفى البيهقي في " الدلائل " ما ورد من ذلك بالأسانيد المقبولة، والمذكور منه هنا اقتتال

(13/83)


الفئتين العظيمتين وظهور الفتن وكثرة الهرج وتطاول الناس في البنيان وتمنى بعض الناس الموت وقتال الترك وتمنى رؤيته صلى الله عليه وسلم ومما ورد منه حديث المقبري عن أبي هريرة أيضا: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها " الحديث وسيأتي في الاعتصام، وله شواهد، ومن النمط الثاني تقارب الزمان وكثرة الزلازل وخروج الدجالين الكذابين، وقد تقدمت الإشارة في شرح حديث أبي موسى في أوائل كتاب الفتن إلى ما ورد في معنى تقارب الزمان، ووقع في حديث أبي موسى عند الطبراني " يتقارب الزمان وتنقص السنون والثمرات " وتقدم في " باب ظهور الفتن". " ويلقى الشح " ومنها حديث ابن مسعود " لا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة " أخرجه مسلم، وحديث حذيفة بن أسيد الذي نبهت عليه آنفا لا ينافي أن قبل الساعة يقع عشر آيات فذكر منها " وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب " أخرجه مسلم، وذكر منها الدخان وقد اختلف فيه وتقدم ذلك في حديث ابن مسعود في سورة الدخان، وقد أخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث صحارى بضم الصاد وتخفيف الحاء المهملتين حديث: "لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل من العرب " الحديث، وقد وجد الخسف في مواضع، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدرا زائدا على ما وجد كان يكون أعظم منه مكانا أو قدرا وحديث ابن مسعود " لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها " أخرجه الطبراني، وفي لفظ: "رذالها " وأخرج البزار عن أبي بكرة نحوه، وعند الترمذي من حديث أبي هريرة " وكان زعيم القوم أرذلهم وساد القبيلة فاسقهم " وقد تقدم في كتاب العلم حديث أبي هريرة " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " وحديث ابن مسعود " لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظا، والمطر قيظا، وتفيض الأيام فيضا " أخرجه الطبراني. وعن أم الضراب مثله وزاد: "ويجترئ الصغير على الكبير واللئيم على الكريم ويخرب عمران الدنيا ويعمر خرابها " ومن النمط الثالث طلوع الشمس من مغربها؛ وقد تقدم من طرق أخرى عن أبي هريرة، وفي بدء الخلق من حديث أبي ذر وحديث: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر " الحديث أخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة، وقد تقدم في علامات النبوة من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة، واتفقا عليه من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر، ومضى شرحه في علامات النبوة وأن ذلك يقع قبل الدجال كما ورد في حديث سمرة عند الطبراني، وحديث أنس " أن أمام الدجال سنون خداعات يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن ويتكلم فيها الرويبضة " الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار وسنده جيد، ومثله لابن ماجه من حديث أبي هريرة وفيه: "قيل وما الرويبضة؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة " وحديث سمرة " لا تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تحدثوا بها أنفسكم " وفي لفظ: "يتفاقم شأنها في أنفسكم وتسألون هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا " الحديث وفيه: "وحتى تروا الجبال تزول عن أماكنها " أخرجه أحمد والطبراني في حديث طويل وأصله عند الترمذي دون المقصود منه هنا، وحديث عبد الله بن عمرو " لا تقوم الساعة حتى يتسافد في الطريق تسافد الحمر " أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حبان والحاكم، ولأبي يعلى عن أبي هريرة " لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذ من يقول لو واريناها وراء هذا الحائط " وللطبراني في " الأوسط " من حديث أبي ذر نحوه وفيه: "يقول أمثلهم لو اعتزلتم الطريق " وفي حديث أبي أمامة

(13/84)


عند الطبراني قوله: "وحتى تمر المرأة بالقوم فيقوم إليها أحدهم فيرفع بذيلها كما يرفع ذنب النعجة فيقول بعضهم ألا واريتها وراء الحائط، فهو يومئذ فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم " وحديث حذيفة ابن اليمان عند ابن ماجه: "يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ويقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها " وحديث أنس " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله " أخرجه أحمد بسند قوي، وهو عند مسلم بلفظ: "الله الله " وله من حديث ابن مسعود " لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " ولأحمد مثله من حديث علباء السلمي بكسر العين المهملة وسكون اللام بعدها موحدة خفيفة ومد بلفظ: "حثالة " بدل " شرار " وقد تقدمت شواهده في " باب إذا بقي حثالة من الناس " وللطبراني من وجه آخر عنه " لا تقوم الساعة على مؤمن " ولأحمد بسند جيد عن عبد الله بن عمر " لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى عجاج لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا " وللطيالسي عن أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى الأوثان يعبدونها من دون الله " وقد تقدم حديثه في ذكر ذي الخلصة قريبا، ولابن ماجه من حديث حذيفة " ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها " ولمسلم وأحمد من حديث ثوبان " ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان " ولمسلم أيضا عن عائشة " لا تذهب الأيام والليالي حتى تعبد اللات والعزى من دون الله " الحديث وفيه: "ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى بها كل مؤمن في قلبه مثقال حبة من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم " وفي حديث حذيفة بن أسيد شاهده وفيه أن ذلك بعد موت عيسى بن مريم " قال البيهقي وغيره: الأشراط منها صغار وقد مضى أكثرها ومنها كبار ستأتي. قلت: وهي التي تضمنها حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم وهي الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها كالحامل المتم ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج والريح التي تهب بعد موت عيسى فتقبض أرواح المؤمنين " وقد استشكلوا على ذلك حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله " فإن ظاهر الأول أنه لا يبقى أحد من المؤمنين فضلا عن القائم بالحق، وظاهر الثاني البقاء، ويمكن أن يكون المراد بقوله: "أمر الله " هبوب تلك الريح فيكون الظهور قبل هبوبها، فبهذا الجمع يزول الإشكال بتوفيق الله تعالى، فأما بعد هبوبها فلا يبقى إلا الشرار وليس فيهم مؤمن فعليهم تقوم الساعة، وعلى هذا فآخر الآيات المؤذنة بقيام الساعة هبوب تلك الريح، وسأذكر في آخر الباب قول عيسى عليه السلام " إن الساعة حينئذ تكون كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تضع". "فصل" وأما قوله: "حتى تقتتل فئتان " الحديث تقدم في كتاب الرقاق أن المراد بالفئتين على ومن معه ومعاوية ومن معه، ويؤخذ من تسميتهم مسلمين ومن قوله دعوتهما واحدة الرد على الخوارج ومن تبعهم في تكفيرهم كلا من الطائفتين، ودل حديث: "تقتل عمارا الفئة الباغية " على أن عليا كان المصيب في تلك الحرب لأن أصحاب معاوية قتلوه، وقد أخرج البزار بسند جيد عن زيد بن وهب قال: "كنا عند حذيفة فقال: كيف أنتم وقد خرج أهل دينكم يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف؟ قالوا. فما تأمرنا؟ قال: انظروا الفرقة التي تدعو إلى أمر علي فالزموها فإنها على الحق " وأخرج يعقوب بن سفيان بسند جيد عن الزهري قال: "لما بلغ معاوية غلبة علي على أهل الجمل دعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه أهل الشام فسار إليه علي

(13/85)


فالتقيا بصفين"، وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في " كتاب صفين " في تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليا في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلى، فامتنع معاوية فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار معاوية حتى نزل هناك وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فتراسلوا فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال إلى أن قتل من الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه نحو سبعين ألفا، وقيل كانوا أكثر من ذلك، ويقال كان بينهم أكثر من سبعين زحفا، وقد تقدم في تفسير سورة الفتح ما زادها أحمد وغيره في حديث سهل بن حنيف المذكور هناك من قصة التحكيم بصفين وتشبيه سهل بن حنيف ما وقع لهم بها بما وقع يوم الحديبية. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي الرضا سمعت عمارا يوم صفين يقول: من سره أن يكتنفه الحور العين فليتقدم بين الصفين محتسبا. ومن طريق زياد بن الحارث: كنت إلى جنب عمار فقال رجل: كفر أهل الشام، فقال عمار: لا تقولوا ذلك نبينا واحد، ولكنهم قوم حادوا عن الحق فحق علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا. وذكر ابن سعد أن عثمان لما قتل وبويع علي أشار ابن عباس عليه أن يقر معاوية على الشام حتى يأخذ له البيعة ثم يفعل فيه ما شاء، فامتنع. فبلغ ذلك معاوية فقال: والله لا ألى له شيئا أبدا. فلما فرغ علي من أهل الجمل أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس فامتنع، فأرسل أبا مسلم كما تقدم فلم ينتظم الأمر، وسار علي في الجنود إلى جهة معاوية فالتقيا بصفين في العشر الأول من المحرم وأول ما اقتتلوا في غرة صفر، فلما كاد أهل الشام أن يغلبوا رفعوا المصاحف بمشورة عمرو بن العاص ودعوا إلى ما فيها، فآل الأمر إلى الحكمين فجرى ما جرى من اختلافهما واستبداد معاوية بملك الشام واشتغال علي بالخوارج وعند أحمد من طريق حبيب بن أبي ثابت: أتيت أبا وائل فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية أرسل إلى علي المصحف فادعه إلى كتاب الله فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون" فقال علي نعم أنا أولى بذلك، فقال القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا أمير المؤمنين ما ننظر بهؤلاء القوم، ألا نمشي عليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا؟ فقال سهل بن حنيف يا أيها الناس اتهموا أنفسكم فقد رأيتنا يوم الحديبية، فذكر قصة الصلح مع المشركين، وقد تقدم بيان ذلك من هذا الوجه عن سهل بن حنيف، وقد أشرت إلى قصة التحكيم في " باب قتل الخوارج والملحدين " من كتاب استتابة المرتدين. وقد أخرج ابن عساكر في ترجمة معاوية من طريق ابن منده ثم من طريق أبي القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي قال: جاء رجل إلى عمي فقال له إني أبغض معاوية، قال له لم؟ قال لأنه قاتل عليا بغير حق؛ فقال له أبو زرعة: رب معاوية رب رحيم وخصم معاوية خصم كريم فما دخولك بينهما؟ قوله: "وحتى يبعث دجالون" جمع دجال، وسيأتي تفسيره في الباب الذي بعده، والمراد ببعثهم إظهارهم، لا البعث بمعنى الرسالة. ويستفاد منه أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأن جميع الأمور بتقديره. قوله: "قريب من ثلاثين" وقع في بعض الأحاديث بالجزم، وفي بعضها بزيادة على ذلك وفي بعضها بتحرير ذلك، فأما الجزم ففي حديث ثوبان " وأنه سيكون في أمتي كذابون

(13/86)


ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي " أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان وهو طرف من حديث أخرجه مسلم ولم يسق جميعه، ولأحمد وأبي يعلى من حديث عبد الله بن عمرو " بين يدي الساعة ثلاثون دجالا كذابا " وفي حديث علي عند أحمد ونحوه وفي حديث ابن مسعود عند الطبراني نحوه وفي حديث سمرة المصدر أوله بالكسوف وفيه: "ولا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا آخرهم الأعور الدجال " أخرجه أحمد والطبراني، وأصله عند الترمذي وصححه، وفي حديث ابن الزبير " إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا منهم الأسود العنسي صاحب صنعاء وصاحب اليمامة يعني مسيلمة. قلت: وخرج في زمن أبي بكر طليحة بالتصغير ابن خويلد وادعى النبوة ثم تاب ورجع إلى الإسلام، وتنبأت أيضا سجاح ثم تزوجها مسيلمة ثم رجعت بعده، وأما الزيادة ففي لفظ لأحمد وأبي يعلى في حديث عبد الله بن عمرو ثلاثون كذابون أو أكثر قلت: ما آيتهم؟ قال: يأتونكم بسنة لم تكونوا عليها يغيرون بها سنتكم، فإذا رأيتموهم فاجتنبوهم " وفي رواية عبد الله بن عمرو عند الطبراني " لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذابا " وسندها ضعيف، وعند أبي يعلى من حديث أنس نحوه وسنده ضعيف أيضا، وهو محمول إن ثبت على المبالغة في الكثرة لا على التحديد، وأما التحرير ففيما أخرجه أحمد عن حذيفة بسند جيد " سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي " وهذا يدل على أن رواية الثلاثين بالجزم على طريق جبر الكسر، ويؤيده قوله في حديث الباب: "قريب من ثلاثين". قوله: "كلهم يزعم أنه رسول الله" ظاهر في أن كلا منهم يدعي النبوة، وهذا هو السر في قوله في آخر الحديث الماضي " وإني خاتم النبيين " ويحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذابا فقط لكن يدعو إلى الضلالة كغلاة الرافضة والباطنية وأهل الوحدة والحلولية وسائر الفرق الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أن في حديث علي عند أحمد " فقال علي لعبد الله بن الكواء: وإنك لمنهم " وابن الكواء لم يدع النبوة وإنما كان يغلو في الرفض. قوله: "وحتى يقبض العلم" تقدم في كتاب العلم ويأتي أيضا في " كتاب الأحكام". قوله: "وتكثر الزلازل" قد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولها ودوامها، وقد وقع في حديث سلمة بن نفيل عند أحمد " وبين يدي الساعة سنوات الزلازل " وله عن أبي سعيد " تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة" . قوله: "ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج" تقدم البحث في ذلك قريبا. قوله: "وحتى يكثر فيكم المال فيفيض" تقدم شرحه في كتاب الزكاة والتقييد بقوله: "فيكم " يشعر بأنه محمول على زمن الصحابة فيكون إشارة إلى ما وقع من الفتوح واقتسامهم أموال الفرس والروم ويكون قوله: "فيفيض حتى يهم رب المال " إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز فقد تقدم أنه وقع في زمنه أن الرجل كان يعرض ماله للصدقة فلا يجد من يقبل صدقته: ويكون قوله: "وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به " إشارة إلى ما سيقع في زمن عيسى بن مريم. فيكون في هذا الحديث إشارة إلى ثلاثة أحوال: الأولى إلى كثرة المال فقط وقد كان ذلك في زمن الصحابة ومن ثم قيل فيه: "يكثر فيكم " وقد وقع في حديث عوف بن مالك الذي مضى في " كتاب الجزية " ذكر علامة أخرى مباينة لعلامة الحالة الثانية في حديث عوف بن مالك رفعه: "اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، وموتان ثم استفاضة المال حتى يعطي الرجل منه مائة دينار فيظل ساخطا " الحديث. وقد أشرت إلى شيء من هذا عند

(13/87)


شرحه الحالة الثانية الإشارة إلى فيضه من الكثرة بحيث أن يحصل استغناء كل أحد عن أخذ مال غيره، وكان ذلك في آخر عصر الصحابة وأول عصر من بعدهم ومن ثم قيل " يهم رب المال " وذلك ينطبق على ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز. الحالة الثالثة فيه الإشارة إلى فيضه وحصول الاستغناء لكل أحد حتى يهتم صاحب المال بكونه لا يجد من يقبل صدقته ويزداد بأنه يعرضه على غيره ولو كان ممن لا يستحق الصدقة فيأبى أخذه فيقول لا حاجة لي فيه: وهذا في زمن عيسى عليه السلام. ويحتمل أن يكون هذا الأخير خروج النار واشتغال الناس بأمر الحشر فلا يلتفت أحد حينئذ إلى المال بل يقصد أن يتخفف ما استطاع. قوله: "وحتى يتطاول الناس في البنيان" تقدم في كتاب الإيمان من وجه آخر عن أبي هريرة في سؤال جبريل عن الإيمان قوله في أشراط الساعة ويتطاول الناس في البنيان، وهي من العلامات التي وقعت عن قرب في زمن النبوة، ومعنى التطاول في البنيان أن كلا ممن كان يبني بيتا يريد أن يكون ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر، ويحتمل أن يكون المراد المباهاة به في الزينة والزخرفة أو أعم من ذلك، وقد وجد الكثير من ذلك وهو في ازدياد. قوله: "وحتى يمر الرجل بقبر الرجل" تقدم شرحه قبل ببابين. قوله: "وحتى تطلع الشمس من مغربها" تقدم شرحه في آخر كتاب الرقاق: وذكرت هناك ما أبداه البيهقي ثم القرطبي احتمالا أن الزمن الذي لا ينفع نفسا إيمانها يحتمل أن يكون وقت طلوع الشمس من المغرب، ثم إذا تمادت الأيام وبعد العهد بتلك الآية عاد نفع الإيمان والتوبة، وذكرت من جزم بهذا الاحتمال وبينت أوجه الرد عليه. ثم وقفت على حديث لعبد الله بن عمرو ذكر فيه طلوع الشمس من المغرب وفيه: "فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل " الآية، أخرجه الطبراني والحاكم، وهو نص في موضع النزاع وبالله التوفيق. قوله: "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه" وقع عند مسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد ويتبايعان الثوب فلا يتبايعانه حتى تقوم وللبيهقي في البعث من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة " ولتقومن الساعة على رجلين قد نشرا بينهما ثوبا يتبايعانه فلا يتبايعانه ولا يطويانه " ونسبة الثوب إليهما في الرواية الأولى باعتبار الحقيقة في أحدهما والمجاز في الآخر لأن أحدهما مالك والآخر مستام، وقوله في الرواية الأخرى " يتبايعانه " أي يتساومان فيه مالكه والذي يريد شراءه فلا يتم بينهما ذلك من بغتة قيام الساعة فلا يتبايعانه ولا يطويانه، وعند عبد الرزاق عن معمر عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: "إن الساعة تقوم على الرجلين وهما ينشران الثوب فما يطويانه " ووقع في حديث عقبة بن عامر عند الحاكم لهذه القصة وما بعدها مقدمة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع حتى تملأ السماء، ثم ينادي مناديا أيها الناس - ثلاثا يقول في الثالثة - أتى أمر الله. قال: والذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب بينهما فما يطويانه " الحديث. قوله: "ولتقومن الساعة وهو" أي الرجل. قوله: "يليط حوضه" بفتح أوله من الثلاثي وبضمه من الرباعي والمعنى يصلحه بالطين والمدر فيسد شقوقه ليملأه ويسقى منه دوابه يقال لاط الحوض يليطه إذ أصلحه بالمدر ونحوه، ومنه قيل اللائط لمن يفعل الفاحشة، وجاء في مضارعه يلوط تفرقة بينه وبين الحوض. وحكى القزاز في الحوض أيضا يلوط، والأصل في اللوط اللصوق ومنه " كان عمر يليط أهل الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام " كذا قال، والذي يتبادر أن فاعل الفاحشة نسب إلى قوم لوط والله أعلم. ووقع في حديث عقبة بن عامر المذكور " وإن الرجل ليمدر حوضه فما يسقى منه شيئا " وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم

(13/88)


وأصله في مسلم: "ثم ينفخ في الصور فيكون أول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق " ففي هذا بيان السبب في كونه لا يسقى من حوضه شيئا، ووقع عند مسلم: "والرجل يليط في حوضه فما يصدر - أي يفرغ أو ينفصل عنه - حتى تقوم" . قوله: "فلا يسقى فيه" أي تقوم القيامة من قبل أن يستقى منه. قوله: "ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته" بالضم أي لقمته إلى فيه "فلا يطعمها" أي تقوم الساعة من قبل أن يضع لقمته في فيه، أو من قبل أن يمضغها، أو من قبل أن يبتلعها. وقد أخرجه البيهقي في البعث من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: "تقوم الساعة على رجل أكلته في فيه يلوكها فلا يسيغها ولا يلفظها " وهذا يؤيد الاحتمال الأخير وتقدم في أواخر " كتاب الرقاق " في " باب طلوع الشمس من مغربها " بسند حديث الباب طرف منه وهو من قوله: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها " وذكر بعده " ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما " وبعده " ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه " وبعده " ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه " وبعده " ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته " فزاد واحدة وهي الحلب، وما أدري لم حذفها هنا مع أنه أورد الحديث هنا بتمامه إلا هذه الجملة وقد أوردها الطبراني في جملة الحديث على التفصيل الذي ذكرته في أول الكلام على هذا الحديث، ثم وجدتها ثابتة في الأصل في رواية كريمة والأصيلي وسقطت لأبي ذر والقابسي، وقد أخرجه البيهقي من رواية بشر بن شعيب عن أبيه بلفظ: "بلبن لقحته من تحتها لا يطعمه " وأخرج معه الثلاثة الأخرى. واللقحة بكسر اللام وسكون القاف بعدها مهملة الناقة ذات الدر، وهي إذا نتجت لقوح شهرين أو ثلاثة ثم لبون، وهذا كله إشارة إلى أن القيامة تقوم بغتة وأسرعها رفع اللقمة إلى الفم. وقد أخرج مسلم منه في آخر " كتاب الفتن " هذه الأمور الأربعة إلا رفع اللقمة من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بسنده هذا ولفظه: "تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم، والرجلان يتبايعان الثوب، والرجل يليط في حوضه " وقد ذكرت لفظه فيهما. وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو ما يعرف منه المراد من التمثيل بصاحب الحوض ولفظه: "ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى، وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق " أخرجه مسلم. وأخرج ابن ماجه وأحمد وصححه الحاكم عن ابن مسعود قال: "لما كان ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فرد الحديث إلى عيسى فقال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها، فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله " فذكر خروج الدجال، قال: فأنزل إليه فأقتله ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج ثم دعاءه بموتهم ثم بإرسال المطر فيلقى جيفهم في البحر ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم، فعهد إلي إذا كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا كان أو نهارا.

(13/89)


26 - باب ذِكْرِ الدَّجَّالِ
7122 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ "قَالَ لِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مَا: سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ, وَإِنَّهُ قَالَ لِي مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ قَالَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ"

(13/89)


7123 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ "عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ"
7124 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: يَجِيءُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَنْزِلَ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ, ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ"
7125 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ"
7126 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ قَالَ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرَةَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا"
7127 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنِّي لاَنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ, وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ, إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ"
7128 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يَنْطُفُ - أَوْ يُهَرَاقُ - رَأْسُهُ مَاءً: قُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ, ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ, أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ"
7129 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ"
7130 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ "عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(13/90)


قَالَ فِي الدَّجَّالِ: إِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا, فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ وَمَاؤُهُ نَارٌ" قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7131 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلاَّ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ, أَلاَ إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ, وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ" فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 7131 – طرفه في: 7408]
قوله: "باب ذكر الدجال" هو فعال بفتح أوله والتشديد من الدجل وهو التغطية، وسمي الكذاب دجالا لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال دجل البعير بالقطران إذا غطاه والإناء بالذهب إذا طلاه. وقال ثعلب: الدجال المموه سيف مدجل إذا طلى. وقال ابن دريد. سمي دجالا لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل لضربه نواحي الأرض، يقال دجل مخففا ومشددا إذا فعل ذلك، وقيل بل قيل ذلك لأنه يغطي الأرض فرجع إلى الأول. وقال القرطبي في " التذكرة ": اختلف في تسميته دجالا على عشرة أقوال. ومما يحتاج إليه في أمر الدجال أصله وهل هو ابن صياد أو غيره، وعلى الثاني فهل كان موجودا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا، ومتى يخرج، وما سبب خروجه، ومن أين يخرج، وما صفته، وما الذي يدعيه، وما الذي يظهر عند خروجه من الخوارق حتى تكثر أتباعه، ومتى يهلك ومن يقتله؟ فأما الأول فيأتي بيانه في " كتاب الاعتصام " في شرح حديث جابر أنه كان يحلف أن ابن صياد هو الدجال، وأما الثاني فمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم الداري الذي أخرجه مسلم أنه كان موجودا في العهد النبوي وأنه محبوس في بعض الجزائر، وسيأتي بيان ذلك عند شرح حديث جابر أيضا. وأما الثالث ففي حديث النواس عند مسلم أنه يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية. وأما سبب خروجه فأخرج مسلم في حديث ابن عمر عن حفصة أنه يخرج من غضبة يغضبها. وأما من أين يخرج؟ فمن قبل المشرق جزما. ثم جاء في رواية أنه يخرج من خراسان، أخرج ذلك أحمد والحاكم من حديث أبي بكر، وفي أخرى أنه يخرج من أصبهان أخرجها مسلم. وأما صفته فمذكورة في أحاديث الباب. وأما الذي يدعيه فإنه يخرج أولا فيدعي الإيمان والصلاح ثم يدعي النبوة ثم يدعي الإلهية كما أخرج الطبراني من طريق سليمان بن شهاب قال: "نزل علي عبد الله بن المعتمر وكان صحابيا فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فيتبع ويظهر، فلا يزال حتى يقدم الكوفة فيظهر الدين ويعمل به فيتبع ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك فيقول: أنا الله، فتغشى عينه وتقطع أذنه ويكتب بين عينيه كافر فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " وسنده ضعيف. "تنبيه": اشتهر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن مع ما ذكر عنه من الشر وعظم الفتنة به وتحذير الأنبياء منه والأمر بالاستعاذة منه حتى في الصلاة، وأجيب بأجوبة أحدها أنه ذكر في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} فقد أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة رفعه: "ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفسا

(13/91)


إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها " الثاني قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى بن مريم في قوله تعالى :{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وفي قوله تعالى :{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} وصح أنه الذي قتل الدجال فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب المسيح كعيسى؛ لكن الدجال مسيح الضلالة وعيسى مسيح الهدى. الثالث أنه ترك ذكره احتقارا، وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج وليست الفتنة بهم بدون الفتنة بالدجال والذي قبله، وتعقب بأن السؤال باق وهو ما الحكمة في ترك التنصيص عليه؟ وأجاب شيخنا الإمام البلقيني بأنه اعتبر كل من ذكر في القرآن من المفسدين فوجد كل من ذكر إنما هم ممن مضى وانقضى أمره وأما من لم يجيء بعد فلم يذكر منهم أحدا انتهى. وهذا ينتقض بيأجوج ومأجوج. وقد وقع في تفسير البغوي أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى :{لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل على البعض. وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه والعلم عند الله تعالى. وأما ما يظهر على يده من الخوارق فسيذكر هنا. وأما متى يهلك ومن يقتله؟ فإنه يهلك بعد ظهوره على الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ثم يقصد بيت المقدس فينزل عيسى فيقتله أخرجه مسلم أيضا. وسأذكر لفظه. وفي حديث هشام بن عامر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال " أخرجه الحاكم. وعند الحاكم من طريق قتادة عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رفعه أنه " يخرج - يعني الدجال - في نقص من الدنيا وخفة من الدين وسوء ذات بين، فيرد كل منهل وتطوى له الأرض " الحديث. وأخرج نعيم بن حماد في كتاب الفتن من طريق كعب الأحبار قال: يتوجه الدجال فينزل عند باب دمشق الشرقي. ثم يلتمس فلا يقدر عليه؛ ثم يرى عند المياه التي عند نهر الكسوة، ثم يطلب فلا يدري أين توجه، ثم يظهر بالمشرق فيعطى الخلافة، ثم يظهر السحر، ثم يدعي النبوة فتتفرق الناس عنه، فيأتي النهر فيأمره أن يسيل إليه فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس ويأمر جبل طور وجبل زيتا أن ينتطحا فينتطحا، ويأمر الريح أن تثير سحابا من البحر فتمطر الأرض ويخوض البحر في يوم ثلاث خوضات فلا يبلغ حقويه، وإحدى يديه أطول من الأخرى، فيمد الطويلة في البحر فتبلغ قعره فيخرج من الحيتان ما يريد. وأخرج أبو نعيم في ترجمة حسان ابن عطية أحد ثقات التابعين من الحلية بسند حسن صحيح إليه قال: لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة، وهذا لا يقال من قبل الرأي فيحتمل أن يكون مرفوعا أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب. وذكر المصنف في الباب أحد عشر حديثا: قوله: "يحيى" هو القطان " وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم". قوله: "قال لي المغيرة بن شعبة" عند مسلم من رواية إبراهيم بن حميد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم " عن المغيرة بن شعبة". قوله: "ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته" في رواية مسلم: "أكثر مما سألته". قوله: "وأنه قال لي ما يضرك منه" في رواية مسلم قال: "وما ينصبك منه " بنون وصاد مهملة ثم موحدة من النصب بمعنى التعب، ومثله عنده من رواية يزيد بن هارون عن إسماعيل وزاد: "فقال لي أي بني وما ينصبك منه " وعنده من طريق هشيم عن إسماعيل " وما سؤالك عنه، أي وما سبب سؤالك عنه " وقال أبو نعيم في المستخرج: معنى قوله ما ينصبك أي ما الذي يغمك منه من الغم حتى يهولك أمره قلت وهو تفسير باللازم وإلا فالنصب التعب وزنه ومعناه

(13/92)


ويطلق على المرض فيه تعبا. قال ابن دريد: يقال نصبه المرض وأنصبه، وهو تغير الحال من تعب أو وجع. قوله: "قلت لأنهم يقولون" هو متعلق بمحذوف تقديره الخشية منه مثلا في رواية المستملي أنهم يقولون وهي رواية مسلم والضمير في أنهم للناس أو لأهل الكتاب. قوله: "جبل خبز" بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة بعدها زاي والمراد أن معه من الخبز قدر الجبل، وأطلق الخبز وأراد به أصله وهو القمح مثلا، زاد في رواية هشيم عند مسلم "معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء " وفي رواية إبراهيم بن حميد " إن معه الطعام والأنهار " وفي رواية يزيد بن هارون " أن معه الطعام والشراب".قوله: "ونهر ماء" بسكون الهاء وبفتحها. قوله: "قال بل هو أهون على الله من ذلك" سقط لفظ: "بل " من رواية مسلم. وقال عياض: معناه هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويرتاب الذين في قلوبهم مرض فهو مثل قول الذي يقتله ما كنت أشد بصيرة مني فيك، لا أن قوله: "هو أهون على الله من ذلك " أنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد أهون من أن يجعل شيئا من ذلك آية على صدقه، ولا سيما وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره يقرأها من قرأ ومن لا يقرأ زائدة على شواهد كذبه من حدثه ونقصه. قلت: الحامل على هذا التأويل أنه ورد في حديث آخر مرفوع " ومعه جبل من خبز ونهر من ماء " أخرجه أحمد والبيهقي في البعث من طريق جنادة بن أبي أمية عن مجاهد قال: "انطلقنا إلى رجل من الأنصار فقلنا حدثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال ولا تحدثنا عن غيره: "فذكر حديثا فيه: "تمطر الأرض ولا ينبت الشجر، ومعه جنة ونار فناره جنة وجنته نار ومعه جبل خبز " الحديث بطوله ورجاله ثقات، ولأحمد من وجه آخر عن جنادة عن رجل من الأنصار " معه جبال الخبز وأنهار الماء " ولأحمد من حديث جابر " معه جبال من خبز والناس في جهد إلا من تبعه، ومعه نهران " الحديث، فدل ما ثبت من ذلك على أن قوله: "هو أهون على الله من ذلك " ليس المراد به ظاهره وأنه لا يجعل على يديه شيئا من ذلك، بل هو على التأويل المذكور، وسيأتي في الحديث الثامن أن معه جنة ونارا، وغفل القاضي ابن العربي فقال في الكلام على حديث المغيرة عند مسلم لما قال له لن يضرك قال: إن معه ماء ونارا. قلت: ولم أر ذلك في حديث المغيرة. قال ابن العربي: أخذ بظاهر قوله: "هو أهون على الله من ذلك " من رد من المبتدعة الأحاديث الثابتة أن معه جنة ونارا وغير ذلك قال: وكيف يرد بحديث محتمل ما ثبت في غيره من الأحاديث الصحيحة: فلعل الذي جاء في حديث المغيرة جاء قبل أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم أمره ويحتمل أن يكون قوله: "هو أهون " أي لا يجعل له ذلك حقيقة وإنما هو تخييل وتشبيه على الأبصار فيثبت المؤمن ويزل الكافر، ومال ابن حبان في صحيحه إلى الآخر فقال: هذا لا يضاد خبر أبي مسعود، بل معناه أنه أهون على الله من أن يكون نهر ماء يجري، فإن الذي معه يرى أنه ماء وليس بماء. الحديث الثاني, قوله: "حدثنا سعد بن حفص" بسكون العين، وفي بعض النسخ بكسرها وزيادة ياء وهو تحريف. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن نسبه عباس الدوري عن سعد بن حفص شيخ البخاري فيه أخرجه الإسماعيلي، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "يجيء الدجال حتى ينزل في ناحية المدينة" في حديث أبي سعيد الآتي بعد باب " ينزل بعض السباخ التي في المدينة: وفي رواية حماد بن سلمة عن إسحاق عن أنس " فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه فيخرج إليه كل منافق ومنافقة " والجرف بضم الجيم والراء بعدها فاء مكان بطريق المدينة من جهة الشام على ميل وقيل على ثلاثة أميال، والمراد بالرواق الفسطاط. ولابن ماجه من حديث أبي أمامة " نزل عند الطريق

(13/93)


الأحمر عند منقطع السبخة". قوله: "ترجف ثلاث رجفات" في رواية الدوري " فترجف " وهي أوجه؛ وقد تقدم في آخر كتاب الحج من طريق الأوزاعي عن إسحاق أتم من هذا وفيه: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة " وتقدم شرحه هناك، والجمع بين قوله: "ترجف ثلاث رجفات " وبين قوله في الحديث الذي يلي هذا " لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال " وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد والحاكم رفعه: "يجيء الدجال فيصعد أحدا فيتطلع فينظر إلى المدينة فيقول لأصحابه: ألا ترون إلى هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد. ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب من نقابها ملكا مصلتا سيفه، فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه. ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه فتخلص المدينة، فذلك يوم الخلاص " وفي حديث أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الذي تقدمت الإشارة إليه أول الباب: "وتطوى له الأرض طي فروة الكبش حتى يأتي المدينة فيغلب على خارجها ويمنع داخلها، ثم يأتي إيليا فيحاصر عصابة من المسلمين " وحاصل ما وقع به الجمع أن الرعب المنفي هو الخوف والفزع حتى لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله قربها شيء منه، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة الأرفاق وهو إشاعة مجيئه وأنه لا طاقة لأحد به، فيسارع حينئذ إليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق، فيظهر حينئذ تمام أنها تنفى خبثها. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن عبد الله إلخ" ثبت هذا للمستملي وحده هنا وسقط لسائرهم، وقد مضى في آخر كتاب الحج سندا ومتنا. وإبراهيم بن سعد أي ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وسعد هو الذي روى عنه محمد بن بشر في السند الثاني. قوله: "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال" تقدم ضبط المسيح في باب الدعاء قبل السلام من كتاب الصلاة وهو قبيل كتاب الجمعة، وتقدم فيه أيضا أن من قاله بالخاء المعجمة صحف، والقول في سبب تسميته المسيح بما يغني عن إعادته هنا. وحكى شيخنا مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس في اللغة أنه اجتمع له من الأقوال في سبب تسمية الدجال المسيح خمسون قولا، وبالغ القاضي ابن العربي فقال: ضل قوم فرووه المسيخ بالخاء المعجمة، وشدد بعضهم السين ليفرقوا بينه وبين المسيح عيسى بن مريم بزعمهم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله في الدجال " مسيح الضلالة " فدل على أن عيسى مسيح الهدى، فأراد هؤلاء تعظيم عيسى فحرفوا الحديث. قوله: "لها يومئذ سبعة أبواب" قال عياض: هذا يؤيد أن المراد بالأنقاب في حديث أبي هريرة يعني ثاني أحاديث الباب الذي يليه الأبواب وفوهات الطريق. قوله: "على كل باب ملكان" كذا في رواية إبراهيم بن سعد. وفي رواية محمد بن بشر " لكل باب ملكان " وأخرجه الحاكم من رواية الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن عياض بن مسافع عن أبي بكرة قال: "أكثر الناس في شأن مسيلمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كذاب من ثلاثين كذابا قبل الدجال، وأنه ليس بلد إلا يدخله رعب الدجال إلا المدينة، على كل نقب من أنقابها ملكان يذبان عنها رعب المسيح"الحديث الرابع, قوله: "حدثنا وهيب" بالتصغير وأيوب هو السختياني. قوله: "عن ابن عمر أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم" القائل " أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هو البخاري، وقد سقط قوله: "أراه إلخ " للمستملي ولأبي زيد المروزي وأبي أحمد الجرجاني فصارت صورته موقوفا، وبذلك جزم الإسماعيلي فقال بعد أن أورده من رواية أحمد بن منصور الرمادي عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رواه البخاري عن موسى فلم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو نعيم في المستخرج عن الطبراني عن أحمد بن داود المكي عن موسى

(13/94)


وصرح برفعه أيضا، واقتصر المزي على ما وقع في رواية السرخسي وغيره بلفظ: "أراه " والحديث في الأصل مرفوع فقد أخرجه مسلم من رواية حماد بن زيد عن أيوب فقال فيه: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة عيسى بن مريم من طريق موسى بن عقبة عن نافع قال: "قال عبد الله هو ابن عمر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الناس المسيح الدجال " فذكر هذا الحديث وسياقه هناك أتم. قوله: "أعور العين اليمنى" في رواية غير أبي ذر " أعور عين اليمنى " بغير ألف ولام، ومثله في رواية الطبراني، وقد تقدم في ترجمة عيسى بلفظه: "أعور عينه اليمنى " وتقدم توجيهه والبحث في إعرابه. قوله: "كأنها عنبة طافية" يأتي الكلام عليه في الحديث السادس، هكذا وقع في هذا الموضع عند الجميع لم يذكر الموصوف بذلك، ومثله في رواية الإسماعيلي لكن قال في آخره: "يعني الدجال " ووقع في رواية الطبراني في أوله " الدجال أعور عين اليمنى". قوله: "وقال ابن إسحاق" هو محمد صاحب المغازي. قوله: "عن صالح بن إبراهيم" أي ابن عبد الرحمن بن عوف وهو أخو سعد بن إبراهيم. قوله: "عن أبيه قال قدمت البصرة" أراد بهذا التعليق ثبوت لقاء إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف لأبي بكرة لأن إبراهيم مدني وقد تستنكر روايته عن أبي بكرة لأنه نزل البصرة من عهد عمر إلى أن مات. قوله: "فقال لي أبو بكرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بهذا" هذا التعليق وصله الطبراني في " الأوسط " من رواية محمد بن مسلمة الحراني عن محمد بن إسحاق بهذا السند وبقيته بعد قوله: "فلقيت أبا بكرة ": فقال أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل قرية يدخلها فزع الدجال إلا المدينة يأتيها ليدخلها فيجد على بابها ملكا مصلتا بالسيف فيرده عنها " قال الطبراني: لم يروه عن صالح إلا ابن إسحاق. قلت: وصالح المذكور ثقة مقل أخرجا له في الصحيحين حديثا واحدا غير هذا، وقوله: "بهذا " يريد أصل الحديث، وإلا فبين لفظ صالح بن إبراهيم ولفظ سعد بن إبراهيم مغايرات تظهر من سياقهما. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي، وإبراهيم هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، وابن شهاب هو الزهري. قوله: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال" هكذا أورده هنا، وطوله في كتاب الجهاد من طريق معمر عن الزهري بهذا السند وأوله " أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد " القصة بطولها وفيه: "خبأت لك خبيا " وفيه: "فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنقه " ثم ذكر بعده قال ابن عمر: "انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد " فذكر القصة الأخرى وفيها " وهو مضطجع في قطيفة " وفيها " لو تركته بين " ثم ذكر بعده " قال ابن عمر ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس " الحديث، فجمع هذه الأحاديث الثلاثة في أواخر " كتاب الجهاد " في " باب كيف يعرض الإسلام على الصبي " وكذا صنع في " كتاب الأدب " أورده فيه من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، واقتصر في أواخر " كتاب الجنائز " على الأولين ولم يذكر الثالث أورده فيه من طريق يونس بن يزيد عن الزهري وكذا صنع في الشهادات أورده فيه من طريق شعيب وقد شرحتهما هناك، وأورده مسلم من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بسنده في هذا الباب بتمامه مشتملا على الأحاديث الثلاثة. قوله: "وما من نبي إلا وقد أنذره قومه" زاد في رواية معمر " لقد أنذره نوح قومه " وفي حديث أبي عبيدة بن الجراح عند أبي داود والترمذي وحسنه " لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر قومه الدجال " وعند أحمد " لقد أنذره نوح أمته والنبيون من بعده " أخرجه من وجه آخر عن ابن عمر، وقد استشكل إنذار نوح قومه بالدجال مع أن الأحاديث قد

(13/95)


ثبتت أنه يخرج بعد أمور ذكرت، وأن عيسى يقتله بعد أن ينزل من السماء فيحكم بالشريعة المحمدية، والجواب أنه كان وقت خروجه أخفى على نوح ومن بعده فكأنهم أنذروا به ولم يذكر لهم وقت خروجه فحذروا قومهم من فتنته، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرقه: "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه " فإنه محمول على أن ذلك كان قبل أن يتبين له وقت خروجه وعلاماته، فكان يجوز أن يخرج في حياته صلى الله عليه وسلم ثم بين له بعد ذلك حاله ووقت خروجه فأخبر به، فبذلك تجتمع الأخبار. وقال ابن العربي إنذار الأنبياء قومهم بأمر الدجال تحذير من الفتن وطمأنينة لها حتى لا يزعزعها عن حسن الاعتقاد، وكذلك تقريب النبي صلى الله عليه وسلم له زيادة في التحذير، وأشار مع ذلك إلى أنهم إذا كانوا على الإيمان ثابتين دفعوا الشبه باليقين. قوله: "ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه" قيل إن السر في اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالتنبيه المذكور، مع أنه أوضح الأدلة في تكذيب الدجال أن الدجال إنما يخرج في أمته دون غيرها ممن تقدم من الأمم، ودل الخبر على أن علم كونه يختص خروجه بهذه الأمة كأن طوى عن غير هذه الأمة كما طوى عن الجميع علم وقت قيام الساعة. قوله: "أنه أعور وإن الله ليس بأعور" إنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة الحدوث في الدجال ظاهرة لكون العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية، فإذا ادعى الربوبية وهو ناقص الخلقة والإله يتعالى عن النقص علم أنه كاذب، وزاد مسلم في رواية يونس والترمذي في رواية معمر: قال الزهري فأخبرني عمرو بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ للناس وهو يحذرهم " تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت " وعند ابن ماجه نحو هذه الزيادة من حديث أبي أمامة، وعند البزار من حديث عبادة بن الصامت، وفيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كذب لأن رؤية الله تعالى مقيدة بالموت والدجال يدعي أنه الله ويراه الناس مع ذلك، وفي هذا الحديث رد على من يزعم أنه يرى الله تعالى في اليقظة تعالى الله عن ذلك ولا يرد على ذلك رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله تعالى في الدنيا القوة التي ينعم بها على المؤمنين في الآخرة. قوله: "عن عقيل" بالضم هو ابن خالد. قوله: "بينا أنا نائم أطوف بالكعبة" زاد في ذكر عيسى من أحاديث الأنبياء عن أحمد بن محمد المكي عن إبراهيم بن سعد بهذا السند إلى ابن عمر قال: "لا والله ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعيسى أحمر، ولكن قال بينما " الحديث وزاد في رواية شعيب عن ابن شهاب " رأيتني " قبل قوله: "أطوف " وهو بضم المثناة، وتقدم في التعبير من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر " أراني الليلة عند الكعبة " وهو بفتح الهمزة وكل ذلك يقتضي أنها رؤيا منام، والذي نفاه ابن عمر في هذه الرواية جاء عنه إثباته في رواية مجاهد عنه قال: "رأيت عيسى وموسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى " فذكر الحديث وتقدم القول في ذلك في ترجمته مستوفى وأن الصواب أن مجاهدا إنما روى هذا عن ابن عباس. قوله: "فإذا رجل آدم" بالمد، في رواية مالك " رأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال " بضم الهمزة وسكون الدال. قوله: "سبط الشعر" بفتح المهملة وكسر الموحدة وسكونها أيضا. قوله: "ينطف" بكسر الطاء المهملة "أو يهراق" كذا بالشك، ولم يشك في رواية شعيب، وزاد في رواية مالك " له لمة " بكسر اللام وتشديد الميم " كأحسن ما أنت راء من اللمم " وفي رواية موسى بن عقبة عن نافع " تضرب به لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء". قوله: "قد رجلها" بتشديد الجيم "يقطر ماء" ووقع في رواية شعيب " بين رجلين " وفي رواية مالك " متكئا على عواتق رجلين يطوف

(13/96)


بالبيت " وفي حديث ابن عباس " ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس " زاد في حديث أبي هريرة بنحوه " كأنما خرج من ديماس " يعني الحمام. وفي رواية حنظلة عن سالم عن ابن عمر " يسكب رأسه أو يقطر " وفي حديث جابر عند مسلم: " فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود". قوله: "قلت من هذا؟ قالوا: ابن مريم" في رواية مالك " فسألت من هذا؟ فقيل: المسيح ابن مريم " وفي رواية حنظلة " فقالوا عيسى بن مريم". قوله: "ثم ذهبت ألتفت فإذا رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين" زاد في رواية مالك " جعد قطط أعور " وزاد شعيب " أعور العين اليمنى " وقد تقدم القول فيه أول الباب. وفي رواية حنظلة " ورأيت وراءه رجلا أحمر جعد الرأس أعور العين اليمنى " ففي هذه الطرق أنه أحمر ووقع في حديث عبد الله بن مغفل عند الطبراني أنه آدم جعد، فيمكن أن تكون أدمته صافية، ولا ينافي أن يوصف مع ذلك بالحمرة لأن كثيرا من الأدم قد تحمر وجنته. ووقع في حديث سمرة عند الطبراني وصححه ابن حبان والحاكم " ممسوح العين اليسرى كأنها عين أبي يحيى شيخ من الأنصار " انتهى. وهو بكسر المثناة الفوقانية ضبطه ابن ماكولا عن جعفر المستغفري ولا يعرف إلا من هذا الحديث. قوله: "كأن عينه عنبة طافية" بياء غير مهموزة أي بارزة، ولبعضهم بالهمز أي ذهب ضوؤها، قال القاضي عياض: رويناه عن الأكثر بغير همز، وهو الذي صححه الجمهور وجزم به الأخفش ومعناه أنها ناتئة نتوء حبة العنب من بين أخواتها، قال وضبطه بعض الشيوخ بالهمز وأنكره بعضهم ولا وجه لإنكاره، فقد جاء في آخر أنه ممسوح العين مطموسة وليست جحراء ولا ناتئة، وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها، وهو يصحح رواية الهمز. قلت: الحديث المذكور عند أبي داود يوافقه حديث عبادة بن الصامت ولفظه: " رجل قصير أفحج " بفاء ساكنة ثم مهملة مفتوحة ثم جيم من الفحج وهو تباعد ما بين الساقين أو الفخذين، وقيل تدانى صدور القدمين مع تباعد العقبين، وقيل هو الذي في رجله اعوجاج، وفي الحديث المذكور " جعد أعور مطموس العين ليست بناتئة " بنون ومثناة " ولا جحراء " بفتح الجيم وسكون المهملة ممدود أي عميقة، وبتقديم الحاء أي ليست متصلبة، وفي حديث عبد الله بن مغفل " ممسوح العين " وفي حديث سمرة مثله وكلاهما عند الطبراني ولكن في حديثهما " أعور العين اليسرى " ومثله لمسلم من حديث حذيفة، وهذا بخلاف قوله في حديث الباب: "أعور العين اليمنى " وقد اتفقا عليه من حديث ابن عمر فيكون أرجح، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر لكن جمع بينهما القاضي عياض فقال: تصحح الروايتان معا بأن تكون المطموسة والممسوحة هي العوراء الطافئة بالهمز أي التي ذهب ضوؤها وهي العين اليمنى كما في حديث ابن عمر، وتكون الجاحظة التي كأنها كوكب وكأنها نخاعة في حائط هي الطافية بلا همز وهي العين اليسرى كما جاء في الرواية الأخرى، وعلى هذا فهو أعور العين اليمنى واليسرى معا فكل واحدة منهما عوراء أي معيبة، فإن الأعور من كل شيء المعيب، وكلا عيني الدجال معيبة فإحداهما معيبة بذهاب ضوئها حتى ذهب إدراكها، والأخرى بنتوئها انتهى. قال النووي: هو في نهاية الحسن. وقال القرطبي في " المفهم ": حاصل كلام القاضي أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها والأخرى بأصل خلقها معيبة، لكن يبعد هذا التأويل أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الرواية بمثل ما وصفت به الأخرى من العور فتأمله. وأجاب صاحبه القرطبي في التذكرة بأن الذي تأوله القاضي صحيح، فإن المطموسة وهي التي ليست ناتئة ولا جحراء هي التي فقدت الإدراك، والأخرى وصفت بأن

(13/97)


عليها ظفرة غليظة وهي جلدة تغشى العين وإذا لم تقطع عميت العين، وعلى هذا فالعور فيهما لأن الظفرة مع غلظها تمنع الإدراك أيضا، فيكون الدجال أعمى أو قريبا منه إلا أنه جاء ذكر الظفرة في العين اليمنى في حديث سفينة وجاء في العين الشمال في حديث سمرة فالله أعلم. قلت: وهذا هو الذي أشار إليه شيخه بقوله إن كل واحدة منهما جاء وصفها بمثل ما وصفت الأخرى ثم قال في " التذكرة " يحتمل أن تكون كل واحدة منهما عليها ظفرة فإن في حديث حذيفة أنه ممسوح العين عليها ظفرة غليظة قال: وإذا كانت الممسوحة عليها ظفرة فالتي ليست كذلك أولى، قال: وقد فسرت الظفرة بأنها لحمة كالعلقة. قلت: وقع في حديث أبي سعيد عند أحمد " وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخاعة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري " فوصف عينيه معا، ووقع عند أبي يعلى من هذا الوجه " أعور ذو حدقة جاحظة لا تخفى كأنها كوكب دري " ولعلها أبين لأن المراد بوصفها بالكوكب شدة اتقادها، وهذا بخلاف وصفها بالطمس ووقع في حديث أبي بن كعب عند أحمد والطبراني " إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء " وهو يوافق وصفها بالكوكب، ووقع في حديث سفينة عند أحمد والطبراني " أعور عينه اليسرى بعينه اليمنى ظفرة غليظة " والذي يتحصل من مجموع الأخبار أن الصواب في طافية أنه بغير همز فإنها قيدت في رواية الباب بأنها اليمنى " وصرح في حديث عبد الله بن مغفل وسمرة وأبي بكرة بأن عينه اليسرى ممسوحة والطافية هي البارزة وهي غير الممسوحة، والعجب ممن يجوز رواية الهمز في " طافية " وعدمه مع تضاد المعنى في حديث واحد فلو كان ذلك في حديثين لسهل الأمر، وأما الظفرة فجائز أن تكون في كلا عينيه لأنه لا يضاد الطمس ولا النتوء، وتكون التي ذهب ضوؤها هي المطموسة والمعيبة مع بقاء ضوئها هي البارزة، وتشبيهها بالنخاعة في الحائط لمجصص في غاية البلاغة، وأما تشبيهها بالزجاجة الخضراء وبالكوكب الدري فلا ينافي ذلك فإن كثيرا ممن يحدث له في عينه النتوء يبقى معه الإدراك فيكون الدجال من هذا القبيل والله أعلم. قال ابن العربي: في اختلاف صفات الدجال بما ذكر من النقص بيان أنه لا يدفع النقص عن نفسه كيف كان، وأنه محكوم عليه في نفسه. وقال البيضاوي: الظفرة لحمة تنبت عند الماق، وقيل جلدة تخرج في العين من الجانب الذي يلي الأنف، ولا يمنع أن تكون في العين السالمة بحيث لا توارى الحدقة بأسرها بل تكون على حدتها. قوله: "هذا الدجال" في رواية شعيب " قلت من هذا؟ قالوا " وكذا في رواية حنظلة. وفي رواية مالك " فقيل المسيح الدجال " ولم أقف على اسم القائل معينا. قوله: "أقرب الناس به شبها ابن قطن" زاد في رواية شعيب " وابن قطن رجل من بني المصطلق من خزاعة " وفي رواية حنظلة " أشبه من رأيت به ابن قطن " وزاد أحمد بن محمد المكي في روايته: "قال الزهري هلك في الجاهلية " وقدمت هناك سياق نسبه إلى خزاعة من فوائد الدمياطي، وسأذكر اسمه في آخر الباب مع بقية صفته إن شاء الله تعالى، واستشكل كون الدجال يطوف بالبيت وكونه يتلو عيسى بن مريم، وقد ثبت أنه إذا رآه يذوب، وأجابوا عن ذلك بأن الرؤيا المذكورة كانت في المنام، ورؤيا الأنبياء وإن كانت وحيا لكن فيها ما يقبل التعبير. وقال عياض: لا إشكال في طواف عيسى بالبيت، وأما الدجال فلم يقع في رواية مالك أنه طاف وهي أثبت ممن روى طوافه. وتعقب بأن الترجيح مع إمكان الجمع مردود، لأن سكوت مالك عن نافع عن ذكر الطواف لا يرد رواية الزهري عن سالم، وسواء ثبت أنه طاف أم لم يطف فرؤيته إياه بمكة مشكلة مع ثبوت أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، وقد انفصل عنه القاضي عياض بأن منعه من دخولها إنما هو عند خروجه في آخر

(13/98)


الزمان. قلت: ويؤيده ما دار بين أبي سعيد وبين ابن صياد فيما أخرجه مسلم وأن ابن صياد قال له ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يدخل مكة ولا المدينة وقد خرجت من المدينة أريد مكة، فتأوله من جزم بأن ابن صياد هو الدجال، على أن المنع إنما هو حيث يخرج، وكذا الجواب عن مشيه وراء عيسى عليه السلام. حديث عائشة " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال " وهو مختصر من حديث تقدم بتمامه في " باب الدعاء قبل السلام " وهو قبيل كتاب الجمعة أورده من طريق شعيب عن الزهري بهذا السند مطولا ثم قال: "وعن الزهري " فذكر هذا الحديث هنا. قوله: "أخبرني أبي" هو عثمان بن جبلة بفتح الجيم والموحدة ابن أبي رواد بفتح الراء وتشديد الواو. قوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير، ونسب عند مسلم في رواية محمد بن جعفر عن شعبة فقال: "عن عبد الملك بن عمير". قوله: "ربعي" بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة اسم بلفظ النسب، وهو ابن حراش بمهملة وآخره معجمة، وحذيفة هو ابن اليمان. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال إن معه" كذا ذكره شعبة مختصرا، وتقدم في أول ذكر بني إسرائيل من طريق أبي عوانة عن عبد الملك عن ربعي قال: "قال عقبة بن عمرو لحذيفة ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعته يقول إن مع الدجال إذا خرج " وكذا لمسلم من طريق شعيب بن صفوان عن عبد الملك. قوله: "إن معه ماء ونارا" عند مسلم من طريق نعيم بن أبي نعيم بن أبي هند عن ربعي " اجتمع حذيفة وأبو مسعود فقال حذيفة لأنا بما مع الدجال أعلم منه " وفي رواية أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج " وفي رواية شعيب بن صفوان " فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد " الحديث، وفي حديث سفينة عند أحمد والطبراني " معه واديان أحدهما جنة والآخر نار، فناره جنة وجنته نار " وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه: " وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما". قوله: "فناره ماء بارد وماؤه نار" زاد محمد بن جعفر في روايته: "فلا تهلكوا " وفي رواية أبي مالك " فإن أدركه أحد فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب " وفي رواية شعيب ابن صفوان " فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب " وكذا في رواية أبي عوانة وفي حديث أبي سلمة عن أبي هريرة " وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار " أخرجه أحمد، وهذا كله يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرائي، فإما أن يكون الدجال ساحرا فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارا وباطن النار جنة، وهذا الراجح. وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار فيظنها جنة وبالعكس. قوله: "عن قتادة عن أنس" يأتي في التوحيد عن حفص بن عمر عن شعبة أنبأنا قتادة سمعت أنسا. قوله: "ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب" في رواية حفص " ما بعث الله من نبي " وقد تقدم بيانه في الحديث الخامس. قوله: "ألا إنه أعور" بتخفيف اللام وهي حرف تنبيه. قوله: "وإن ربكم ليس بأعور" تقدم بيان الحكمة فيه في الحديث الخامس بما فيه مقنع. قوله: "وإن بين عينيه مكتوب كافر" كذا

(13/99)


للأكثر والجمهور " مكتوبا " ولا إشكال فيه لأنه إما اسم إن وإما حال، وتوجيه الأول أنه حذف اسم إن والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر إن والاسم المحذوف إما ضمير الشأن أو يعود على الدجال، ويجوز أن يكون كافر مبتدأ والخبر بين عينيه، وعند مسلم من رواية محمد ابن جعفر عن شعبة " مكتوب بين عينيه ك ف ر " ومن طريق هشام عن قتادة حدثني أنس بلفظ: "الدجال مكتوب بين عينيه ك ف ر " أي كافر، ومن طريق شعيب بن الحبحاب عن أنس " مكتوب بين عينيه كافر ثم تهاجها ك ف ر يقرؤه كل مسلم: "وفي رواية عمر بن ثابت عن بعض الصحابة " يقرؤه كل من كره عمله " أخرجه الترمذي، وهذا أخص من الذي قبله. وفي حديث أبي بكرة عند أحمد " يقرؤه الأمي والكاتب " ونحوه في حديث معاذ عند البزار. وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه: "يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " ولأحمد عن جابر " مكتوب بين عينيه كافر " مهجاة ومثله عند الطبراني من حديث أسماء بنت عميس، قال ابن العربي: في قوله ك ف ر إشارة إلى أن فعل وفاعل من الكفر إنما يكتب بغير ألف وكذا هو في رسم المصحف وإن كان أهل الخط أثبتوا في فاعل ألفا فذاك لزيادة البيان، وقوله: "يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " إخبار بالحقيقة " وذلك أن الإدراك في البصر يخلقه الله للعبد كيف شاء ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بغير بصره وإن كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه الكافر ولو كان يعرف الكتابة كما يرى المؤمن الأدلة بعين بصيرته ولا يراها الكافر فيخلق الله للمؤمن الإدراك دون تعلم لأن ذلك الزمان تنخرق فيه العادات في ذلك " ويحتمل قوله يقرؤه من كره عمله أن يراد به المؤمنون عموما ويحتمل أن يختص ببعضهم ممن قوي إيمانه. وقال النووي: الصحيح الذي عليه المحققون أن الكتابة المذكورة حقيقة جعلها الله علامة قاطعة بكذب الدجال فيظهر الله المؤمن عليها ويخفيها على من أراد شقاوته. وحكى عياض خلافا وأن بعضهم قال: "هي مجاز عن سمة الحدوث عليه " وهو مذهب ضعيف، ولا يلزم من قوله: "يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " أن لا تكون الكتابة حقيقة بل يقدر الله على غير الكاتب علم الإدراك فيقرأ ذلك وإن لم يكن سبق له معرفة الكتابة، وكأن السر اللطيف في أن الكاتب وغير الكاتب يقرأ ذلك لمناسبة أن كونه أعور يدركه كل من رآه فالله أعلم. الحديث العاشر والحادي عشر، قوله: "فيه أبو هريرة وابن عباس" أي يدخل في الباب حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس، فيحتمل أن يريد أصل الباب فيتناول كلامه كل شيء ورد مما يتعلق بالدجال من حديث المذكورين، ويحتمل أن يريد خصوص الحديث الذي قبله وهو أن كل نبي أنذر قومه الدجال وهو أقرب، فمما ورد عن أبي هريرة في ذلك ما تقدم في ترجمة نوح من أحاديث الأنبياء من رواية يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة " قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجيء معه تمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه " وأخرج البزار بسند جيد عن أبي هريرة " سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق يقول: يخرج مسيح الضلالة فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يوما، فيلقى المؤمنون منه شدة شديدة " الحديث، ومما ورد في ذلك من حديث ابن عباس ما تقدم أيضا في الملائكة من طريق أبي العالية عن ابن عباس في ذكر صفة موسى عليه السلام وفيه: "وذكر أنه رأى الدجال " ووقع عند أحمد والطبراني من طريق أخرى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدجال " أعور هجان - بكسر أوله وتخفيف الجيم أي أبيض أزهر - كأن رأسه أصلة أشبه الناس بعبد العزى بن قطن، فأما هلك الهلك فإن ربكم ليس بأعور " وفي لفظ للطبراني " ضخم فيلماني

(13/100)


- بفتح الفاء وسكون التحتانية وفتح اللام وبعد الألف نون - أي عظيم الجثة كأن رأسه أغصان شجرة " يريد أن شعر رأسه كثير متفرق قائم " أشبه الناس بعبد العزى بن قطن رجل من خزاعة " وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم والترمذي وابن ماجه: "شاب قطط عينه قائمة " ولابن ماجه: "كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن " وعند البزار من حديث الغلتان بن عاصم " أجلي الجبهة عريض النحر ممسوح العين اليسرى كأنه عبد العزى بن قطن " وقد تقدم في ترجمة عيسى سياق نسب عبد العزى بن قطن، ووقع في حديث أبي هريرة عند أحمد نحوه لكن قال: "كأنه قطن بن عبد العزى " وزاد: "فقال يا رسول الله هل يضرني شبهه؟ قال: لا؛ أنت مؤمن وهو كافر " وهذه الزيادة ضعيفة فإن في سنده المسعودي وقد اختلط والمحفوظ أنه عبد العزى بن قطن وأنه هلك في الجاهلية كما قال الزهري، والذي قال: "هل يضرني شبهه " هو أكتم بن أبي الجون، وإنما قاله في حق عمرو بن لحي كما أخرجه أحمد والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه: "عرضت على النار فرأيت فيها عمرو بن لحي " الحديث وفيه: "وأشبه من رأيت به أكتم بن أبي الجون. فقال أكتم: يا رسول الله أيضرني شبهه؟ قال: لا؛ إنك مسلم وهو كافر " فأما الدجال فشبهه بعبد العزى بن قطن وشبه عينه الممسوحة بعين أبي يحيى الأنصاري كما تقدم والله أعلم، وفي حديث حذيفة عند مسلم: "جفال الشعر " وهو بضم الجيم وتخفيف الفاء أي كثيرة

(13/101)


27 - باب لاَ يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ
7132 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَنَّهُ قَالَ يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ فَيَقُولُونَ لاَ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ
7133 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ
7134 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلاَئِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلاَ يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ قَالَ وَلاَ الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
قوله: "باب لا يدخل الدجال المدينة" أي المدينة النبوية، ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول قوله: "حدثنا النبي

(13/101)


صلى الله عليه وسلم يوما حديثا طويلا عن الدجال " كذا ورد من هذا الوجه مبهما وقد ورد من غير هذا الوجه عن أبي سعيد ما لعله يؤخذ منه ما لم يذكر كما في رواية أبي نضرة عن أبي سعيد أنه يهودي وأنه لا يولد له وأنه لا يدخل المدينة ولا مكة أخرجه مسلم. وفي رواية عطية عن ابن أبي سعيد رفعه في صفة عين الدجال كما تقدم وفيه: "ومعه مثل الجنة والنار، وبين يديه رجلان ينذران أهل القرى، كلما خرجا من قرية دخل أوائله " أخرجه أبو يعلى والبزار وهو عند أحمد بن منيع مطول وسنده ضعيف. وفي رواية أبي الوداك عن أبي سعيد رفعه في صفة عين الدجال أيضا وفيه: "معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة الخضراء يجري فيها الماء وصورة النار سوداء تدخن". قوله: "يأتي الدجال" أي إلى ظاهر المدينة. قوله: "فينزل بعض السباخ" بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سبخة بفتحتين وهي الأرض الرملة التي لا تنبت لملوحتها، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرة. قوله: "التي تلي المدينة" أي من قبل الشام. قوله: "فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خيار الناس" في رواية صالح عن ابن شهاب عند مسلم: "أو من خير الناس " وفي رواية أبي الوداك عن أبي سعيد عند مسلم: "فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فيلقاه مسالح الدجال فيقولون أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول ما بربنا خفاء، فينطلقون به إلى الدجال بعد أن يريدوا قتله، فإذا رآه قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية عطية " فيدخل القرى كلها غير مكة والمدينة حرمتا عليه، والمؤمنون متفرقون في الأرض، فيجمعهم الله فيقول رجل منهم: والله لأنطلقن فلأنظرن هذا الذي أنذرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمنعه أصحابه خشية أن يفتتن به، فيأتي حتى إذا أتى أدنى مسلحة من مسالحه أخذوه فسألوه ما شأنه فيقول: أريد الدجال الكذاب " فيكتبون إليه بذلك فيقول أرسلوا به إلي، فلما رآه عرفه. قوله: "فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه" في رواية عطية " أنت الدجال الكذاب الذي أنذرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وزاد: "فيقول له الدجال لتطيعني فيما آمرك به أو لأشقنك شقتين، فينادي: يا أيها الناس هذا المسيح الكذاب". قوله: "فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا" في رواية عطية " ثم يقول الدجال لأوليائه " وهذا يوضح أن الذي يجيبه بذلك أتباعه، ويرد قول من قال: إن المؤمنين يقولون له ذلك تقية، أو مرادهم لا نشك أي في كفرك وبطلان قولك. قوله: "فيقتله ثم يحييه" في رواية أبي الوداك " فيأمر به الدجال فيشبح فيشبع ظهره وبطنه ضربا " فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به فيوشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول: قم، فيستوي قائما " وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم: " فيدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك " وفي رواية عطية " فيأمر به فيمد برجليه ثم يأمر بحديدة فتوضع على عجب ذنبه ثم يشقه شقتين، ثم قال الدجال لأوليائه: أرأيتم إن أحييت لكم هذا، ألستم تعلمون أني ربكم؟ فيقولون: نعم، فيأخذ عصا فضرب أحد شقيه فاستوى قائما فلما رأى ذلك أولياؤه صدقوه وأحبوه وأيقنوا بذلك أنه ربهم " وعطية ضعيف. قال ابن العربي هذا اختلاف عظيم يعني في قتله بالسيف وبالميشار، قال فيجمع بأنهما رجلان يقتل كلا منهما قتلة غير قتلة الآخر، كذا قال، والأصل عدم التعدد، ورواية الميشار تفسر رواية الضرب بالسيف، فلعل السيف كان فيه فلول فصار كالميشار وأراد المبالغة في تعذيبه بالقتلة المذكورة، ويكون قوله: "فضربه بالسيف " مفسرا لقوله إنه نشره وقوله

(13/102)


"فيقطعه جزلتين " إشارة إلى آخر أمره لما ينتهي نشره. قال ابن العربي: وقد وقع في قصة الذي قتله الخضر أنه وضع يده في رأسه فاقتلعه، وفي أخرى فأضجعه بالسكين فذبحه، فلم يكن بد من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى لكون القصة واحدة. قلت: وقد تقدم في تفسير الكهف بيان التوفيق بين الروايتين أيضا بحمد الله تعالى. قال الخطابي: فإن قيل كيف يجوز أن يجري الله الآية على يد الكافر؟ فإن إحياء الموتى آية عظيمة من آيات الأنبياء فكيف ينالها الدجال وهو كذاب مفتر يدعي الربوبية؟ فالجواب أنه على سبيل الفتنة للعباد إذ كان عندهم ما يدل على أنه مبطل غير محق في دعواه وهو أنه أعور مكتوب على جبهته كافر يقرؤه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسم الكفر ونقص الذات والقدر، إذ لو كان إلها لأزال ذلك عن وجهه، وآيات الأنبياء سالمة من المعارضة فلا يشتبهان وقال الطبري: لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل لأهل الكذب والإفك في الحالة التي لا سبيل لمن عاين ما أتى به فيها إلا الفصل بين المحق منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى علم الصادق من الكاذب فمن ظهر ذلك على يده فلا ينكر إعطاء الله ذلك للكذابين، فهذا بيان الذي أعطيه الدجال من ذلك فتنة لمن شاهده ومحنة لمن عاينه انتهى. وفي الدجال مع ذلك دلالة بينة لمن عقل على كذبه. لأنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأثير الصنعة فيه ظاهر مع ظهور الآفة به من عور عينيه، فإذا دعا الناس إلى أنه ربهم فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوي خلق غيره ويعدله ويحسنه ولا يدفع النقص عن نفسه، فأقل ما يجب أن يقول: يا من يزعم أنه خالق السماء والأرض صور نفسك وعدلها وأزل عنها العاهة، فإن زعمت أن الرب لا يحدث في نفسه شيئا فأزل ما هو مكتوب بين عينيك. وقال المهلب: ليس في اقتدار الدجال على إحياء المقتول المذكور ما يخالف ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "هو أهون على الله من ذلك " أي من أن يمكن من المعجزات تمكينا صحيحا، فإن اقتداره على قتل الرجل ثم إحيائه لم يستمر له فيه ولا في غيره ولا استضر به المقتول إلا ساعة تألمه بالقتل مع حصول ثواب ذلك له، وقد لا يكون وجد للقتل ألما لقدرة الله تعالى على دفع ذلك عنه. وقال ابن العربي: الذي يظهر على يدي الدجال من الآيات من إنزال المطر والخصب على من يصدقه والجدب على من يكذبه واتباع كنوز الأرض له وما معه من جنة ونار ومياه تجري كل ذلك محنة من الله واختبار ليهلك المرتاب وينجو المتيقن، وذلك كله أمر مخوف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " لا فتنة أعظم من فتنة الدجال " وكان يستعيذ منها في صلاته تشريعا لأمته، وأما قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "غير الدجال أخوف لي عليكم " فإنما قال ذلك للصحابة لأن الذي خافه عليهم أقرب إليهم من الدجال فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف عليه يشتد الخوف منه على البعيد المظنون وقوعه به ولو كان أشد. قوله: "فيقول والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم" في رواية أبي الوداك " ما ازددت فيك إلا بصيرة " ثم يقول: "يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس " وفي رواية عطية " فيقول له الدجال أما تؤمن بي؟ فيقول: أنا الآن أشد بصيرة فيك مني. ثم نادى في الناس: يا أيها الناس هذا المسيح الكذاب، من أطاعه فهو في النار، ومن عصاه فهو في الجنة " ونقل ابن التين عن الداودي أن الرجل إذا قال ذلك للدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، كذا قال، والمعروف أن ذلك إنما يحصل للدجال إذا رأى عيسى بن مريم. قوله: "فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه" في رواية أبي الوداك " فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاس فلا يستطيع إليه سبيلا " وفي رواية عطية " فقال له الدجال: لتطيعني أو لأذبحنك، فقال: والله لا أطيعك أبدا، فأمر به فاضجع فلا يقدر

(13/103)


عليه ولا يتسلط عليه مرة واحدة " زاد في رواية عطية " فأخذ يديه ورجليه فألقى في النار وهي غبراء ذات دخان " وفي رواية أبي الوداك " فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنه قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة " زاد في رواية عطية " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الرجل أقرب أمتي مني وأرفعهم درجة " وفي رواية أبي الوداك " هذا أعظم شهادة عند رب العالمين " ووقع عند أبي يعلى وعبد بن حميد من رواية حجاج بن أرطأة عن عطية أنه " يذبح ثلاث مرات ثم يعود ليذبحه الرابعة فيضرب الله على حلقه بصفيحة نحاس فلا يستطيع ذبحه " والأول هو الصواب. ووقع في حديث عبد الله بن عمرو رفعه في ذكر الدجال " يدعو برجل لا يسلطه الله إلا عليه " فذكر نحو رواية أبي الوداك وفي آخره: "فيهوى إليه بسيفه فلا يستطيعه فيقول: أخروه عني " وقد وقع في حديث عبد الله بن معتمر ثم يدعو برجل فيما يرون فيؤمر به فيقتل ثم يقطع أعضاءه كل عضو على حدة فيفرق بينها حتى يراه الناس ثم يجمعها ثم يضرب بعصاه فإذا هو قائم فيقول: أنا الله الذي أميت وأحيي، قال وذلك كله سحر سحر أعين الناس ليس يعمل من ذلك شيئا، وهو سند ضعيف جدا. وفي رواية أبي يعلى من الزيادة " قال أبو سعيد كنا نرى ذلك الرجل عمر بن الخطاب لما نعلم من قوته وجلده " ووقع في صحيح مسلم عقب رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة " قال أبو إسحاق: يقال إن هذا الرجل هو الخضر " كذا أطلق فظن القرطبي أن أبا إسحاق المذكور هو السبيعي أحد الثقات من التابعين ولم يصب في ظنه فإن السند المذكور لم يجر لأبي إسحاق فيه ذكر، وإنما أبو إسحاق الذي قال ذلك هو إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد راوي صحيح مسلم عنه كما جزم به عياض والنووي وغيرهما وقد ذكر ذلك القرطبي في تذكرته أيضا قبل، فكأن قوله في الموضع الثاني السبيعي سبق قلم، ولعل مستنده في ذلك ما قاله معمر في جامعه بعد ذكر هذا الحديث: "قال معمر بلغني أن الذي يقتل الدجال الخضر " وكذا أخرجه ابن حبان من طريق عبد الرزاق عن معمر قال: "كانوا يرون أنه الخضر " وقال ابن العربي سمعت من يقول: إن الذي يقتله الدجال هو الخضر، وهذه دعوى لا برهان لها. قلت: وقد تمسك من قاله بما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي عبيدة بن الجراح رفعه في ذكر الدجال " لعله أن يدركه بعض من رآني أو سمع كلامي " الحديث. ويعكر عليه قوله في رواية لمسلم تقدم التنبيه عليها " شاب ممتلئ شبابا " ويمكن أن يجاب بأن من جملة خصائص الخضر أن لا يزال شابا، ويحتاج إلى دليل. حديث نعيم عن أبي هريرة " على أنقاب المدينة ملائكة " تقدم شرحه في فضائل المدينة أواخر " كتاب الحج " وتقدم هناك من حديث أنس " ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة " وكذا وقع في حديث جابر " يسيح في الأرض أربعين يوما يرد كل بلدة غير هاتين البلدتين مكة والمدينة حرمهما الله تعالى عليه يوم من أيامه كالسنة ويوم كالشهر ويوم كالجمعة وبقية أيامه كأيامكم هذه " أخرجه الطبراني وهو عند أحمد بنحوه بسند جيد ولفظه: "تطوى له الأرض في أربعين يوما إلا ما كان من طيبة " الحديث وأصله عند مسلم من حديث النواس بن سمعان بلفظ: "قلنا يا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما " فذكره وزاد: "قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كالسنة يكفينا فيه صلاة يوم، قال: لا أقدروا له قدره .قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح " وله عن عبد الله بن عمرو " يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما " الحديث، والجزم بأنها أربعون يوما مقدم على هذا الترديد، فقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "يخرج - يعني

(13/104)


الدجال - فيمكث في الأرض أربعين صباحا يرد فيها كل منهل إلا الكعبة والمدينة وبيت المقدس " الحديث ووقع في حديث سمرة المشار إليه قبل " يظهر على الأرض كلها إلا الحرمين وبيت المقدس فيحصر المؤمنين فيه ثم يهلكه الله " وفي حديث جنادة بن أبي أمية " أتينا رجلا من الأنصار من الصحابة قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنذركم المسيح " الحديث وفيه: "يمكث في الأرض أربعين صباحا، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد الكعبة ومسجد الرسول ومسجد الأقصى والطور " أخرجه أحمد ورجاله ثقات.
حديث أنس، قوله: "يأتيها الدجال" أي المدينة "فيجد الملائكة يحرسونها" في حديث محجن بن الأدرع عند أحمد والحاكم في ذكر المدينة " ولا يدخلها الدجال إن شاء الله كلما أراد دخولها تلقاه بكل نقب من أنقابها ملك مصلت سيفه يمنعه عنها " وعند الحاكم من طريق أبي عبد الله القراظ سمعت سعد بن مالك وأبا هريرة يقولان " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لأهل المدينة " الحديث وفيه: "إلا أن الملائكة مشتبكة بالملائكة، على كل نقب من أنقابها ملكان يحرسانها لا يدخلها الطاعون ولا الدجال " قال ابن العربي: يجمع بين هذا وبين قوله: "على كل نقب ملكان " أن سيف أحدهما مسلول والآخر بخلافه.
قوله: "فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله" قيل هذا الاستثناء محتمل للتعليق ومحتمل للتبرك وهو أولى، وقيل إنه يتعلق بالطاعون فقط وفيه نظر، وحديث محجن بن الأدرع المذكور آنفا يؤيد أنه لكل منهما.
وقال القاضي عياض: في هذه الأحاديث حجة لأهل السنة في صحة وجود الدجال وأنه شخص معين يبتلي الله به العباد ويقدره على أشياء كإحياء الميت الذي يقتله وظهور الخصب والأنهار والجنة والنار واتباع كنوز الأرض له وأمره السماء فتمطر والأرض فتنبت وكل ذلك بمشيئة الله، ثم يعجزه الله فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ثم يبطل أمره ويقتله عيسى بن مريم وقد خالف في ذلك بعض الخوارج والمعتزلة والجهمية فأنكروا وجوده وردوا الأحاديث الصحيحة، وذهب طوائف منهم كالجبائي إلى أنه صحيح الوجود لكن كل الذي معه مخاريق وخيالات لا حقيقة لها، وألجأهم إلى ذلك أنه لو كان ما معه بطريق الحقيقة لم يوثق بمعجزات الأنبياء، وهو غلط منهم لأنه لم يدع النبوة فتكون الخوارق تدل على صدقه، وإنما ادعى الإلهية وصورة حاله تكذبه لعجزه ونقصه فلا يغتر به إلا رعاع الناس إما لشدة الحاجة والفاقة وإما تقية وخوفا من أذاه وشره مع سرعة مروره في الأرض فلا يمكث حتى يتأمل الضعفاء حاله، فمن صدقه في تلك الحال لم يلزم منه بطلان معجزات الأنبياء، ولهذا يقول له الذي يحييه بعد أن يقتله " ما ازددت فيك إلا بصيرة". قلت: ولا يعكر على ذلك ما ورد في حديث أبي أمامة عند ابن ماجه أنه " يبدأ فيقول أنا نبي، ثم يثنى فيقول أنا ربكم " فإنه يحمل على أنه، إنما يظهر الخوارق بعد قوله الثاني. ووقع في حديث أبي أمامة المذكور " وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول نعم، فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه يقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، ويمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر والأرض أن تنبت فتمطر وتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظم وأمدة خواصر وأدرة ضروعا".

(13/105)


28 - باب يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

(13/105)


7135 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ
7136 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُفْتَحُ الرَّدْمُ رَدْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ وُهَيْبٌ تِسْعِينَ
قوله: "باب يأجوج ومأجوج" تقدم شيء من خبرهم في ترجمة ذي القرنين من أحاديث الأنبياء وأنهم من بني آدم ثم بني يافث بن نوح. وبه جزم وهب وغيره، وقيل إنهم من الترك قاله الضحاك، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الديلم وعن كعب: هم من ولد آدم من غير حواء وذلك أن آدم نام فاحتلم فامتزجت نطفته بالتراب فخلق منها يأجوج ومأجوج، ورد بأن النبي لا يحتلم، وأجيب عنه بأن المنفى أن يرى في المنام أنه يجامع فيحتمل أن يكون دفق الماء فقط وهو جائز كما يجوز أن يبول، والأول المعتمد، وإلا فأين كانوا حين الطوفان ويأجوج ومأجوج بغير همز لأكثر القراء، وقرأ عاصم بالهمزة الساكنة فيهما وهي لغة بني أسد، وقرأ العجاج وولده رؤبة أأجوج بهمزة بدل الياء وهما اسمان أعجميان عند الأكثر منعا من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل بل عربيان، واختلف في اشتقاقهما فقيل من أجيج النار وهو التهابها، وقيل من الأجة بالتشديد وهي الاختلاط أو شدة الحر وقيل من الأج وهو سرعة العدو، وقيل من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، ووزنهما يفعول ومفعول وهو ظاهر قراءة عاصم وكذا الباقين إن كانت الألف مسهلة من الهمزة، فقيل فاعول من يج مج، وقيل مأجوج من ماج إذا اضطرب، ووزنه أيضا مفعول قاله أبو حاتم، قال والأصل موجوج، وجميع ما ذكر من الاشتقاق مناسب لحالهم، ويؤيد الاشتقاق وقول من جعله من ماج إذا اضطرب قوله تعالى :{وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} وذلك حين يخرجون من السد، وجاء في صفتهم ما أخرجه ابن عدي وابن أبي حاتم والطبراني في " الأوسط " وابن مردويه من حديث حذيفة رفعه قال: "يأجوج أمة ومأجوج أمة كل أمة أربعمائة ألف لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح " وهو من رواية يحيى بن سعيد العطار عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، والعطار ضعيف جدا، ومحمد بن إسحاق قال ابن عدي ليس هو صاحب المغازي بل هو العكاشي، قال والحديث موضوع. وقال ابن أبي حاتم منكر، قلت: لكن لبعضه شاهد صحيح أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود رفعه: "إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفا من الذرية " وللنسائي من رواية عمرو ابن أوس عن أبيه رفعه: "إن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاءوا ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا " وأخرج الحاكم وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمرو " أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم،

(13/106)


ووراءهم ثلاث أمم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا " وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عبد الله بن سلام مثله. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو قال: "الجن والإنس عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس " ومن طريق شريح بن عبيد عن كعب قال: هم ثلاثة أصناف صنف أجسادهم كالأرز بفتح الهمزة وسكون الراء ثم زاي هو شجر كبار جدا، وصنف أربعة أذرع في أربعة أذرع وصنف يفترشون آذانهم ويلتحفون بالأخرى. ووقع نحو هذا في حديث حذيفة. وأخرج أيضا هو والحاكم من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس يأجوج ومأجوج شبرا شبرا وشبرين شبرين وأطولهم ثلاثة أشبار وهم من ولد آدم ومن طريق أبي هريرة رفعه: "ولد لنوح سام وحام ويافث، فولد لسام العرب وفارس والروم، وولد لحام القبط والبربر والسودان، وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالية " وفي سنده ضعف. ومن رواية سعيد بن بشير عن قتادة قال: يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة، بني ذو القرنين السد على إحدى وعشرين " وكانت منهم قبيلة غائبة في الغزو وهم الأتراك فبقوا دون السد " وأخرج ابن مردويه من طريق السدي قال: الترك سرية من سرايا يأجوج ومأجوج خرجت تغير فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجا. ووقع في " فتاوى الشيخ محيي الدين " يأجوج ومأجوج من أولاد آدم لا من حواء عند جماهير العلماء فيكون إخواننا لأب كذا قال ولم نر هذا عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح ونوح من ذرية حواء قطعا. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أويس عبد الله الأصبحي، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال. ومحمد بن أبي عتيق نسب لجده وهو محمد بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي بكرة، وهذا السند كله مدنيون، وهو أنزل من الذي قبله بدرجتين، ويقال إنه أطول سندا في البخاري فإنه تساعى، وغفل الزركشي فقال: فيه أربع نسوة صحابيات، وليس كما قال، بل فيه ثلاثة كما قدمت إيضاحه في أوائل الفتن في " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ويل للعرب " وذكرت هناك الاختلاف على سفيان بن عيينة في زيادة حبيبة بنت أم حبيبة في الإسناد. قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا" بفتح الفاء وكسر الزاي، في رواية ابن عيينة " استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمرا وجهه يقول: "فيجمع على أنه دخل عليها بعد أن استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فزعا، وكانت حمرة وجهه من ذلك الفزع، وجمع بينهما في رواية سليمان ابن كثير عن الزهري عند أبي عوانة فقال: "فزعا محمرا وجهه". قوله: "ويل للعرب من شر قد اقترب" خص العرب بذلك لأنهم كانوا حينئذ معظم من أسلم، والمراد بالشر ما وقع بعده من قتل عثمان، ثم توالت الفتن حتى صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكلة كما وقع في الحديث الآخر " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها " وأن المخاطب بذلك العرب، قال القرطبي: ويحتمل أن يكون المراد بالشر ما أشار إليه في حديث أم سلمة " ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا أنزل من الخزائن " فأشار بذلك إلى الفتوح التي فتحت بعده فكثرت الأموال في أيديهم فوقع التنافس الذي جر الفتن، وكذلك التنافس على الإمرة، فإن معظم ما أنكروه على عثمان تولية أقاربه من بني أمية وغيرهم حتى أفضى ذلك أن قتله، وترتب على قتله من القتال بين المسلمين ما اشتهر واستمر. قوله: "فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج" المراد بالردم السد الذي بناه ذو القرنين، وقد قدمت صفته في ترجمته من أحاديث الأنبياء. قوله: "مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها" أي جعلهما مثل الحلقة، وقد تقدم في رواية سفيان ابن عيينة " وعقد سفيان تسعين أو مائة " وفي رواية

(13/107)


سليمان بن كثير عن الزهري عند أبي عوانة وابن مردويه مثل هذه " وعقد تسعين " ولم يعين الذي عقد أيضا. وفي رواية مسلم عن عمرو الناقد عن ابن عيينة " وعقد سفيان عشرة " ولابن حبان من طريق شريح بن يونس عن سفيان " وحلق بيده عشرة " ولم يعين أن الذي حلق هو سفيان، وأخرجه من طريق يونس عن الزهري بدون ذكر العقد، وكذا تقدم في علامات النبوة من رواية شعيب وفي ترجمة ذي القرنين من طريق عقيل، وسيأتي في الحديث الذي بعده " وعقد وهيب تسعين " وهو عند مسلم أيضا، قال عياض وغيره: هذه الروايات متفقة إلا قوله عشرة.قلت: وكذا الشك في المائة لأن صفاتها عند أهل المعرفة بعقد الحساب مختلفة وإن اتفقت في أنها تشبه الحلقة، فعقد العشرة أن يجعل طرف السبابة اليمنى في باطن طي عقدة الإبهام العليا وعقد التسعين أن يجعل طرف السبابة اليمنى في أصلها ويضمها ضما محكما بحيث تنطوي عقدتاها حتى تصير مثل الحية المطوقة. ونقل ابن التين عن الداودي أن صورته أن يجعل السبابة في وسط الإبهام، ورده ابن التين بما تقدم فإنه المعروف وعقد المائة مثل عقد التسعين لكن بالخنصر اليسرى، فعلى هذا فالتسعون والمائة متقاربان، ولذلك وقع فيهما الشك. وأما العشرة فمغايرة لهما. قال القاضي عياض: لعل حديث أبي هريرة متقدم فزاد الفتح بعده القدر المذكور في حديث زينب. قلت: وفيه نظر لأنه لو كان الوصف المذكور من أصل الرواية لاتجه، ولكن الاختلاف فيه من الرواة عن سفيان ابن عيينة ورواية من روى عنه تسعين أو مائة أتقن وأكثر من رواية من روى عشرة، وإذا اتحد مخرج الحديث ولا سيما في أواخر الإسناد بعد الحمل على التعدد جدا. قال ابن العربي: في الإشارة المذكورة دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم عقد الحساب حتى أشار بذلك لمن يعرفه وليس في ذلك ما يعارض قوله في الحديث الآخر " أنا أمة لا نحسب ولا نكتب " فإن هذا إنما جاء لبيان صورة معينة خاصة. قلت: والأولى أن يقال المراد بنفي الحساب ما يتعاناه أهل صناعته من الجمع والفذلكة والضرب ونحو ذلك، ومن ثم قال: "ولا نكتب " وأما عقد الحساب فإنه اصطلاح للعرب تواضعوه بينهم ليستغنوا به عن التلفظ، وكان أكثر استعمالهم له عند المساومة في البيع فيضع أحدهما يده في يد الآخر فيفهمان المراد من غير تلفظ لقصد ستر ذلك عن غيرهما ممن يحضرهما، فشبه صلى الله عليه وسلم قدر ما فتح من السد بصفة معروفة عندهم، وقد أكثر الشعراء التشبيه بهذه العقود ومن ظريف ما وقفت عليه من النظم في ذلك قول بعض الأدباء: -
رب برغوث ليلة بت منه ... وفؤادي في قبضة التسعين
أسرته يد الثلاثين حتى ... ذاق طعم الحمام في السبعين
وعقد الثلاثين أن يضم طرف الإبهام إلى طرف السبابة مثل من يمسك شيئا لطيفا كالإبرة وكذلك البرغوث. وعقد السبعين أن يجعل طرف ظفر الإبهام بين عقدتي السبابة من باطنها ويلوى طرف السبابة عليها مثل ناقد الدينار عند النقد، وقد جاء في خبر مرفوع " إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم " وهو فيما أخرجه الترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وصححاه من طريق قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة رفعه في السد " يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان، حتى إذا بلغ مدتهم وأراد الله أن يبعثهم قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله واستثنى، قال فيرجعون فيجدونه كهيئته

(13/108)


حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس " الحديث. قلت: أخرجه الترمذي والحاكم من رواية أبي عوانة وعبد بن حميد من رواية حماد بن سلمة وابن حبان من رواية سليمان التيمي كلهم عن قتادة ورجاله رجال الصحيح إلا أن قتادة مدلس، وقد رواه بعضهم عنه فأدخل بينهما واسطة أخرجه ابن مردويه، لكن وقع التصريح في رواية سليمان التيمي عن قتادة بأن أبا رافع حدثه وهو في صحيح ابن حبان، وأخرجه ابن ماجه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: "حدث أبو رافع " وله طريق آخر عن أبي هريرة أخرجه عبد بن حميد من طريق عاصم عن أبي صالح عنه لكنه موقوف " قال ابن العربي: في هذا الحديث ثلاث آيات: الأولى أن الله منعهم أن يوالوا الحفر ليلا ونهارا، الثانية منعهم أن يحاولوا الرقي على السد بسلم أو آلة فلم يلهمهم ذلك ولا علمهم إياه ويحتمل أن تكون أرضهم لا خشب فيها ولا آلات تصلح لذلك. قلت: وهو مردود، فإن في خبرهم عند وهب في المبتدأ أن لهم أشجارا وزروعا وغير ذلك من الآلات فالأول أولى. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن عمرو بن أوس عن جده رفعه: "أن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا وشجر يلقحون ما شاءوا " الحديث. الثالثة أنه صدهم عن أن يقولوا إن شاء الله حتى يجيء الوقت المحدود. قلت: وفيه أن فيهم أهل صناعة وأهل ولاية وسلاطة ورعية تطيع من فوقها، وأن فيهم من يعرف الله ويقر بقدرته ومشيئته، ويحتمل أن تكون تلك الكلمة تجري على لسان ذلك الوالي من غير أن يعرف معناها فيحصل المقصود ببركتها. وقد أخرج عبد بن حميد من طريق كعب الأحبار نحو حديث أبي هريرة وقال فيه: "فإذا بلغ الأمر ألقى على بعض ألسنتهم نأتي إن شاء الله غدا فنفرغ منه " وأخرج ابن مردويه من حديث حذيفة نحو حديث أبي هريرة وفيه: "فيصبحون وهو أقوى منه بالأمس حتى يسلم رجل منهم حين يريد الله أن يبلغ أمره فيقول المؤمن غدا نفتحه إن شاء الله، فيصبحون ثم يغدون عليه فيفتح " الحديث وسنده ضعيف جدا. قوله: "قالت زينب بنت جحش" هذا يخصص رواية سليمان بن كثير بلفظ: "قالوا أنهلك " ويعين أن اللافظ بهذا السؤال هي زينب بنت جحش راوية الحديث. قوله: "أنهلك" بكسر اللام في رواية يزيد بن الأصم عن ميمونة عن زينب بنت جحش في نحو هذا الحديث: "فرج الليلة من ردم يأجوج ومأجوج فرجة، قلت: يا رسول الله أيعذبنا الله وفينا الصالحون؟". وله: "وفينا الصالحون" كأنها أخذت ذلك من قوله تعالى :{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قوله: "قال: نعم إذا كثر الخبث" بفتح المعجمة والموحدة ثم مثلثة، فسروه بالزنا وبأولاد الزنا وبالفسوق والفجور، وهو أولى لأنه قابله بالصلاح. قال ابن العربي: فيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير إذا لم يغير عليه خبثه، وكذلك إذا غير عليه لكن حيث لا يجدي ذلك ويصر الشرير على عمله السيء؛ ويفشو ذلك ويكثر حتى يعم الفساد فيهلك حينئذ القليل والكثير، ثم يحشر كل أحد على نيته. وكأنها فهمت من فتح القدر المذكور من الردم أن الأمر إن تمادى على ذلك اتسع الخرق بحيث يخرجون، وكان عندها علم أن في خروجهم على الناس إهلاكا عاما لهم وقد ورد في حالهم عند خروجهم ما أخرجه مسلم من حديث النواس ابن سمعان بعد ذكر الدجال وقتله على يد عيسى قال: "ثم يأتيه قوم قد عصمهم الله من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس

(13/109)


الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار، فيرغب عيسى نبي الله وأصحابه إلى الله فيرسل عليهم النغف - بفتح النون والغين المعجمة ثم فاء - في رقابهم فيصبحون فرسى، بفتح الفاء وسكون الراء بعدها مهملة مقصور كموت نفس واحدة؛ ثم يهبط عيسى نبي الله وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون تحتها، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن ومسلم، فيبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة" . قلت: والزلفة بفتح الزاي واللام وقيل بتسكينها وقيل بالقاف هي المرآة بكسر الميم، وقيل المصنع الذي يتخذ لجمع الماء، والمراد أن الماء يعم جميع الأرض فينظفها حتى تصير بحيث يرى الرائي وجهه فيها. وفي رواية لمسلم أيضا: "فيقولون لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيردها الله عليهم مخضوبة دما " وأخرج الحاكم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة نحوه في قصة يأجوج ومأجوج وسنده صحيح، وعند عبد بن حميد من حديث عبد الله بن عمرو " فلا يمرون بشيء إلا أهلكوه " ومن حديث أبي سعيد رفعه: "يفتح يأجوج ومأجوج فيعمون الأرض، وتنحاز منهم المسلمون فيظهرون على أهل الأرض؛ فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم فيهز آخر حربته إلى السماء فترجع مخضبة بالدم، فيقولون قد قتلنا أهل السماء، فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم دواب كنغف الجراد فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد يركب بعضهم بعضا" . قوله: "وهيب" هو ابن خالد، وابن طاوس هو عبد الله. قوله: "يفتح الردم" كذا هنا، وتقدم في ترجمة ذي القرنين عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب " فتح " بضم الفاء وكسر المثناة وهي رواية أحمد عن عفان عن وهيب. قوله: "مثل هذه وعقد وهيب تسعين" أخرجه أبو عوانة من طريق أحمد بن إسحاق الحضرمي عن وهيب فقال فيه: "وعقد تسعين " ولم يعين الذي عقد فأوهم أنه مرفوع، وقد تبين من رواية عفان ومن وافقه أن الذي عقد تسعين هو وهيب؛ وهو موافق لما تقدم في حديث أم حبيبة من رواية شريح بن يونس عند ابن حبان، وسبق الكلام على ذلك مفصلا، وقد جاء عن أبي هريرة مثل أول حديث أم حبيبة لكن فيه زيادة رواها الأعمش عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال الأعمش لا أراه إلا قد رفعه: "ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح من كف يده " قال أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش بهذا، قال ووقفه أبو معاوية يعني عن الأعمش بهذا السند عن أبي هريرة.
"خاتمة": اشتمل " كتاب الفتن " من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وحديث، الموصول منها سبعة وثمانون والباقية معلقات ومتابعات، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانون والخالص إحدى وعشرون وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن مسعود " شر الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء " وحديث أنس " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه " وحديث عمار وابن مسعود في قصة الجمل، وحديث أبي برزة في الإنكار على من يقاتل للدنيا، وحديث حذيفة في المنافقين، وحديثه في النفاق، وحديث أنس في المدينة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم خمسة عشر أثرا، والله أعلم.

(13/110)


كتاب الأحكام
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
93 - كِتَاب الأَحْكَامِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأحكام" كذا للجميع، وسقط لفظ: "باب " بعده لغير أبي ذر والأحكام جمع حكم، والمراد بيان آدابه وشروطه، وكذا الحاكم ويتناول لفظ الحاكم الخليفة والقاضي، فذكر ما يتعلق بكل منهما. والحكم الشرعي عند الأصوليين خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير ومادة الحكم من الإحكام وهو الإتقان للشيء ومنعه من العيب.
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}
7137 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي
7138 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قوله: "باب قول الله تعالى :{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافا لمن قال نزلت في العلماء، وقد رجح ذلك أيضا الطبري، وتقدم في تفسيرها في سورة النساء بسط القول في ذلك. وقال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها؛ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" الآية فقال: هذه في الولاة، والنكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة، فكأن التقدير أطيعوا الله فيما نص عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن وما ينصه عليكم من السنة. أو المعنى أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن. ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فقال له: أليس قد نزعت عنكم - يعني الطاعة - إذا خالفتم الحق بقوله: " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " قال الطيبي:

(13/111)


أعاد الفعل في قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة؛ ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته. ثم بين ذلك بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. وذكر فيه حديثين: قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. ويونس هو ابن يزيد. قوله: "من أطاعني فقد أطاع الله" هذه الجملة منتزعة من قوله تعالى :{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَمَنْ أي لأني لا آمر إلا بما أمر الله به، فمن فعل ما آمره به فإنما أطاع من أمرني أن آمره، ويحتمل أن يكون المعنى لأن الله أمر بطاعتي فمن أطاعني فقد أطاع أمر الله له بطاعتي، وفي المعصية كذلك. والطاعة هي الإتيان بالمأمور به والانتهاء عن المنهي عنه، والعصيان بخلافه. قوله: "ومن أطاع أميري فقد أطاعني" في رواية همام والأعرج وغيرهما عند مسلم: " ومن أطاع الأمير " ويمكن رد اللفظين لمعنى واحد، فإن كل من يأمر بحق وكان عادلا فهو أمير الشارع لأنه تولى بأمره وبشريعته، ويؤيده توحيد الجواب في الأمرين وهو قوله: "فقد أطاعني " أي عمل بما شرعته، وكأن الحكمة في تخصيص أميره بالذكر أنه المراد وقت الخطاب، ولأنه سبب ورود الحديث. وأما الحكم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ووقع في رواية همام أيضا: "ومن يطع الأمير فقد أطاعني " بصيغة المضارعة، وكذا " ومن يعص الأمير فقد عصاني " وهو أدخل في إرادة تعميم من خوطب ومن جاء من بعد ذلك. قال ابن التين: قيل كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة فكانوا يمتنعون على الأمراء، فقال هذا القول يحثهم على طاعة من يؤمرهم عليهم والانقياد لهم إذا بعثهم في السرايا وإذا ولاهم البلاد فلا يخرجوا عليهم لئلا تفترق الكلمة. قلت: هي عبارة الشافعي في " الأم " ذكره في سبب نزولها، وعجبت لبعض شيوخنا الشراح من الشافعية كيف قنع بنسبة هذا الكلام إلى ابن التين معبرا عنه بصيغة " قيل " وابن التين إنما أخذه من كلام الخطابي، ووقع عند أحمد وأبي يعلى والطبراني من حديث ابن عمر " قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أن من أطاعني فقد أطاع الله وإن من طاعة الله طاعتي قالوا: بلى نشهد، قال فإن من طاعتي أن تطيعوا أمراءكم " وفي لفظ: "أئمتكم". وفي الحديث وجوب طاعة ولاة الأمور وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية كما تقدم في أوائل الفتن، والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة لما في الافتراق من الفساد. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع هنا وكذا في العتق من طريق يحيى القطان عن عبيد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر كذلك، ووقع عند الطبراني من طريق محمد بن إبراهيم بن دينار عن عبيد الله ابن عمر بهذا فقال عن ابن عمر أن أبا لبابة بن عبد المنذر أخبره فذكر حديث النهي عن قتل الجنان التي في البيوت وقال: "كلكم راع " الحديث، هكذا أورده في مسند أبي لبابة، ولكن تقدم في العتق أيضا من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر حديث الباب، فدل على أن قوله: "وقال: "معطوف على ابن عمر لا على أبي لبابة، وثبت أنه من مسند ابن عمر لا من مرسله. قوله: "ألا كلكم راع" كذا فيه، و " ألا " بتخفيف اللام حرف افتتاح، وسقطت من رواية نافع وسالم عن ابن عمر، والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه. قوله: "فالإمام الذي على الناس". أي الإمام الأعظم، ووقع في رواية عبيد الله بن عمر الماضية في العتق " فالأمير " بدل الإمام " وكذا في رواية موسى بن عقبة في النكاح، ولم يقل " الذي على الناس".

(13/112)


قوله: "راع وهو مسئول عن رعيته" في رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه الماضية في الجمعة " الإمام راع ومسئول عن رعيته " وكذا في الجميع بحذف " وهو " وهي مقدرة، وثبتت في الاستقراض. قوله: "والرجل راع على أهل بيته" في رواية سالم " في أهل بيته". قوله: "والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده" في رواية عبيد الله بن عمر " على بيت بعلها " وفي رواية سالم " في بيت زوجها " ومثله لموسى لكن قال: "علي". قوله: "وعبد الرجل راع على مال سيده" في رواية سالم " والخادم راع في مال سيده " وفي رواية عبيد الله " والعبد " بدل الخادم، وزاد سالم في روايته: "وحسبت أنه قال: "وفي رواية الاستقراض " سمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته " قال الخطابي: اشتركوا أي الإمام والرجل ومن ذكر في التسمية أي في الوصف بالراعي ومعانيهم مختلفة، فرعاية الإمام الأعظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وإيصالهم حقوقهم، ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك، ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من خدمته. قوله: "ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" في رواية أيوب في النكاح مثله. وفي رواية سالم في الجمعة " وكلكم " وفي الاستقراض " فكلكم " ومثله في رواية نافع. قال الطيبي في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوبا لذاته وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه وهو تمثيل ليس في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه، فإنه أجمل أولا ثم فصل وأتى بحرف التنبيه مكررا، قال والفاء في قوله: "ألا فكلكم " جواب شرط محذوف، وختم ما يشبه الفذلكة إشارة إلى استيفاء التفصيل. وقال غيره دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلا ونطقا واعتقادا فجوارحه وقواه وحواسه رعيته، ولا يلزم من الاتصاف بكونه راعيا أن لا يكون مرعيا باعتبار آخر. وجاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر فزاد في آخره: "فأعدوا للمسألة جوابا، قالوا: وما جوابها؟ قال: أعمال البر " أخرجه ابن عدي والطبراني في " الأوسط " وسنده حسن، وله من حديث أبي هريرة " ما من راع إلا يسأل يوم القيامة أقام أمر الله أم أضاعه " ولابن عدي بسند صحيح عن أنس " إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه " واستدل به على أن المكلف يؤاخذ بالتقصير في أمر من هو في حكمه، وترجم له في النكاح " باب قوا أنفسكم وأهليكم نارا " وعلى أن للعبد أن يتصرف في مال سيده بإذنه وكذا المرأة والولد، وترجم لكراهة التطاول على الرقيق وتقدم توجيهه هناك وفي هذا الحديث بيان كذب الخبر الذي افتراه بعض المتعصبين لبني أمية قرأت في " كتاب القضاء " لأبي علي الكرابيسي أنبأنا الشافعي عن عمه هو محمد بن علي قال دخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فسأله عن حديث: "إن الله إذا استرعى عبدا الخلافة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات " فقال له: هذا كذب، ثم تلا: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض - إلى قوله :{- بما نسوا يوم الحساب} فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا.

(13/113)


2 - باب الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ
7139 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ

(13/113)


"بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلاَ تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ" تَابَعَهُ نُعَيْمٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ
7140 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ
قوله: "باب" بالتنوين "الأمراء من قريش" كذا للأكثر. وفي رواية نقلها عياض عن ابن أبي صفرة " الأمر بسكون الميم - أمر قريش " قال وهو تصحيف. قلت: ووقع في نسخة لأبي ذر عن الكشميهني مثل ما نقل عن ابن أبي صفرة والأول هو المعروف، ولفظ الترجمة لفظ حديث أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو يعلى والطبراني من طريق سكين بن عبد العزيز حدثنا سيار بن سلامة أبو المنهال قال: "دخلت مع أبي على أبي برزة الأسلمي " فذكر الحديث الذي أوله " إني أصبحت ساخطا على أحياء قريش " وفيه: "أن ذاك الذي بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا " وفي آخره: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الأمراء من قريش " الحديث، وقد تقدم التنبيه عليه في الفتن في " باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه " وفي لفظ للطبراني " الأئمة " بدل " الأمراء " وله شاهد من حديث على رفعه: "ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثا " الحديث أخرجه الطبراني وأخرجه الطيالسي والبزار والمصنف في التاريخ من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس بلفظ: "الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا " الحديث، وأخرجه النسائي والبخاري أيضا في التاريخ وأبو يعلى من طريق بكير الجزري عن أنس؛ وله طرق متعددة عن أنس منها للطبراني من رواية قتادة عن أنس بلفظ: "إن الملك من قريش " الحديث. وأخرج أحمد هذا اللفظ مقتصرا عليه من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي بكر الصديق بلفظ: "الأئمة من قريش " ورجاله رجال الصحيح، لكن في سنده انقطاع، وأخرجه الطبراني والحاكم من حديث علي بهذا اللفظ الأخير ولما لم يكن شيء منها على شرط المصنف في الصحيح اقتصر على الترجمة، وأورد الذي صح على شرطه مما يؤدي معناه في الجملة. وذكر فيه حديثين؛ قوله: "كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث" قال صالح جزرة الحافظ: لم يقل أحد في روايته عن الزهري عن محمد بن جبير، إلا ما وقع في رواية نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك " يعني التي ذكرها البخاري عقب هذا " قال صالح: ولا أصل له من حديث ابن المبارك، وكانت عادة الزهري إذا لم يسمع الحديث يقول: كان فلان يحدث وتعقبه البيهقي بما أخرجه من طريق يعقوب بن سفيان عن حجاج بن أبي منيع الرصافي عن جده عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، وأخرجه الحسن بن رشيق في فوائده من طريق عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن محمد بن جبير. قوله: "أنه بلغ معاوية" لم أقف على اسم الذي بلغه ذلك. قوله: "وهم عنده" أي محمد بن جبير ومن كان وفد معه على معاوية بالشام حينئذ، وكأن ذلك كان لما بويع بالخلافة عندما سلم له

(13/114)


الحسن بن علي، فأرسل أهل المدينة جماعة منهم إليه ليبايعوه. قوله: "في وفد من قريش" لم أقف على أسمائهم؛ قال ابن التين: وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا، والوفد بالسكون جمع وافد كصحب وصاحب. قلت: ورويناه في " فوائد أبي يعلى الموصلي " قال: حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان عن شعيب فقال فيه عن محمد بن جبير أيضا، وكذا هو في مسند الشاميين للطبراني من رواية بشر بن شعيب عن أبيه. قوله: "أن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص. قوله: "أنه يكون ملك من قحطان" لم أقف على لفظ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك وهل هو مرفوع أو موقوف، وقد مضى في الفتن قريبا من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " أورده في باب " تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان " وفي ذلك إشارة إلى أن ملك القحطاني يقع في آخر الزمان عند قبض أهل الإيمان ورجوع كثير ممن يبقى بعدهم إلى عباده الأوثان وهم المعبر عنهم بشرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة كما تقدم تقريره هناك، وذكرت له هناك شاهدا من حديث ابن عمر، فإن كان حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا موافقا لحديث أبي هريرة فلا معنى لإنكاره أصلا، وإن كان لم يرفعه وكان فيه قدر زائد يشعر بأن خروج القحطاني يكون في أوائل الإسلام فمعاوية معذور في إنكار ذلك عليه، وقد ذكرت نبذة من أخبار القحطاني في شرح حديث أبي هريرة في الفتن. وقال ابن بطال: سبب إنكار معاوية أنه حمل حديث عبد الله بن عمرو على ظاهره، وقد يكون معناه أن قحطانيا يخرج في ناحية من النواحي فلا يعارض حديث معاوية، والمراد بالأمر في حديث معاوية الخلافة كذا قال، ونقل عن المهلب أنه يجوز أن يكون ملك يغلب على الناس من غير أن يكون خليفة، وإنما أنكر معاوية خشية أن يظن أحد أن الخلافة تجوز في غير قريش، فلما خطب بذلك دل على أن الحكم عندهم كذلك إذ لم ينقل أن أحدا منهم أنكر عليه. قلت: ولا يلزم من عدم إنكارهم صحة إنكار معاوية ما ذكره عبد الله بن عمرو، فقد قال ابن التين الذي أنكره معاوية في حديثه ما يقويه لقوله: "ما أقاموا الدين " فربما كان فيهم من لا يقيمه فيتسلط القحطاني عليه وهو كلام مستقيم. قوله: "فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر" أي تنقل "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في هذا الكلام أن معاوية كان يراعي خاطر عمرو بن العاص، فما آثر أن ينص على تسمية ولده بل نسب ذلك إلى رجال بطريق الإبهام، ومراده بذلك عبد الله بن عمرو ومن وقع منه التحديث بما يضاهي ذلك، وقوله: "ليست في كتاب الله " أي القرآن، وهو كذلك فليس فيه تنصيص على أن شخصا بعينه أو بوصفه يتولى الملك في هذه الأمة المحمدية، وقوله: "لا يؤثر " فيه تقوية، لأن عبد الله ابن عمرو لم يرفع الحديث المذكور إذ لو رفعه لم يتم نفي معاوية أن ذلك لا يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل أبا هريرة لم يحدث بالحديث المذكور حينئذ فإنه كان يتوقى مثل ذلك كثيرا، وإنما يقع منه التحديث به في حالة دون حالة وحيث يأمن الإنكار عليه ويحتمل أن يكون مراد معاوية غير عبد الله بن عمرو فلا يكون ذلك نصا على أن عبد الله بن عمرو لم يرفعه. قوله: "وأولئك جهالكم" أي الذين يتحدثون بأمور من أمور الغيب لا يستندون فيها إلى الكتاب ولا السنة. قوله: "فإياكم والأماني" بالتشديد ويجوز التخفيف. قوله: "التي تضل أهلها" بضم أول " تضل " من الرباعي و " أهلها " بالنصب على المفعولية وروى بفتح أول تضل ورفع أهلها " والأماني " جمع أمنية راجع إلى التمني، وسيأتي تفسيره في آخر " كتاب الأحكام " ومناسبة ذكر ذلك تحذير من يسمع من القحطانيين من التمسك بالخبر المذكور فتحدثه نفسه أن يكون هو القحطاني، وقد تكون له

(13/115)


قوة وعشيرة فيطمع في الملك ويستند إلى هذا الحديث فيضل لمخالفته الحكم الشرعي في أن الأئمة من قريش. قوله: "فإني سمعت" لما أنكر وحذر أراد أن يبين مستنده في ذلك. قوله: "إن هذا الأمر في قريش" قد ذكرت شواهد هذا المتن في الباب الذي قبله. قوله: "لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه" أي لا ينازعهم أحد في الأمر إلا كان مقهورا في الدنيا معذبا في الآخرة. قوله: "ما أقاموا الدين" أي مدة إقامتهم أمور الدين، قيل يحتمل أن يكون مفهومه فإذا لم يقيموه لا يسمع لهم، وقيل يحتمل أن لا يقام عليهم وإن كان لا يجوز إبقاؤهم على ذلك ذكرهما ابن التين، ثم قال: "وقد أجمعوا أنه أي الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة أنه يقام عليه واختلفوا إذا غصب الأموال وسفك الدماء وانتهك هل يقام عليه أو لا " انتهى. وما ادعاه من الإجماع على القيام فيما إذا دعا الخليفة إلى البدعة مردود، إلا أن حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر، وإلا فقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة؟ وما نقله من الاحتمال في قوله: "ما أقاموا الدين " خلاف ما تدل عليه الأخبار الواردة في ذلك الدالة على العمل بمفهومه أو أنهم إذا لم يقيموا الدين يخرج الأمر عنهم. وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق نظير ما وقع في حديث معاوية ذكره محمد بن إسحاق في " الكتاب الكبير " فذكر قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر وفيها " فقال أبو بكر: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره " وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء: الأول وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال: "الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثا: ما حكموا فعدلوا " الحديث وفيه: "فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله " وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم. الثاني وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم، فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه: "يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب " ورجاله ثقات، إلا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد الله بن مسعود ولم يدركه، هذه رواية صالح بن كيسان عن عبيد الله، وخالفه حبيب بن أبي ثابت فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه: "لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته " الحديث أخرجه أحمد وفي سماع عبيد الله من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ولفظه: "قال لقريش: أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق، إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة " وليس في هذا أيضا تصريح بخروج الأمر عنه وإن كان فيه إشعار به. الثالث الإذن في القيام عليهم وقتالهم والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان رفعه: "استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء " ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا لأن راويه سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان.
وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه.
وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم وصيره في قريش وسيعود إليهم " وسنده جيد وهو شاهد قوي

(13/116)


لحديث القحطاني، فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان، وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية ما أقاموا الدين أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم، ويؤخذ من بقية الأحاديث أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من اللعن أولا وهو الموجب للخذلان وفساد التدبير، وقد وقع ذلك في صدر الدولة العباسية، ثم التهديد بتسليط من يؤذيهم عليهم، ووجد ذلك في غلبة مواليهم بحيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه يقتنع بلذاته ويباشر الأمور غيره، ثم اشتد الخطب فغلب عليهم الديلم فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة، واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم، ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار. قوله: "تابعه نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن محمد بن جبير" يعني عن معاوية به، وقد رويناه موصولا في معجم الطبراني الكبير والأوسط قال حدثنا بكر بن سهل حدثنا نعيم بن حماد فذكره مثل رواية شعيب، إلا أنه قال بعد قوله فغضب " فقال سمعت " ولم يذكر ما قبل قوله سمعت. وقال في روايته: "كب على وجهه " بضم الكاف مبنيا لما لم يسم فاعله، قال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن معمر إلا ابن المبارك تفرد به نعيم وكذا أخرجه الذهلي في " الزهريات " عن نعيم وقال: "كبه الله". قوله: "عاصم بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر. قوله: "قال ابن عمر" هو جد الراوي عنه. قوله: "لا يزال هذا الأمر في قريش" أي الخلافة، يعني لا يزال الذي يليها قرشيا. قوله: "ما بقي منهم اثنان" قال ابن هبيرة: يحتمل أن يكون على ظاهره وأنهم لا يبقى منهم في آخر الزمان إلا اثنان أمير ومؤمر عليه والناس لهم تبع. قلت: في رواية مسلم عن شيخ البخاري في هذا الحديث: "ما بقي من الناس اثنان " وفي رواية الإسماعيلي: "ما بقي في الناس اثنان وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " وليس المراد حقيقة العدد، وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش ويحتمل أن يحمل المطلق على المقيد في الحديث الأول ويكون التقدير لا يزال هذا الأمر، أي لا يسمى بالخليفة إلا من يكون من قريش إلا أن يسمى به أحد من غيرهم غلبة وقهرا وإما أن يكون المراد بلفظ الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض، فإن بالبلاد اليمنية وهي النجود منها طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل مملكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة، وأما من بالحجاز من ذرية الحسن بن علي وهم أمراء مكة وأمراء ينبع ومن ذرية الحسين بن علي وهم أمراء المدينة فإنهم وإن كانوا من صميم قريش لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك الديار المصرية، فبقى الأمر في قريش بقطر من الأقطار في الجملة، وكبير أولئك أي أهل اليمن يقال له الإمام، ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالما متحريا للعدل. وقال الكرماني: لم يخل الزمان عن وجود خليفة من قريش إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل وكذا في مصر. قلت: الذي في مصر لا شك في كونه قرشيا لأنه من ذرية العباس، والذي في صعدة وغيرها من اليمن لا شك في كونه قرشيا لأنه من ذرية الحسين ابن علي، وأما الذي في المغرب فهو حفصي من ذرية أبي حفص صاحب ابن تومرت وقد انتسبوا إلى عمر بن الخطاب وهو قرشي. ولحديث ابن عمر شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البزار بلفظ: "لا يزال هذا الدين واصبا ما بقي من قريش عشرون رجلا " وقال النووي: حكم حديث ابن عمر مستمر إلى يوم القيامة ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك، ومن تغلب على الملك بطريق الشركة لا ينكر أن الخلافة في قريش وإنما يدعي أن ذلك بطريق النيابة عنهم انتهى. وقد

(13/117)


أورد عليه أن الخوارج في زمن بني أمية تسموا بالخلافة واحدا بعد واحد ولم يكونوا من قريش، وكذلك ادعى الخلافة بنو عبيد وخطب لهم بمصر والشام والحجاز ولبعضهم بالعراق أيضا وأزيل الخلافة ببغداد قدر سنة، وكانت مدة بني عبيد بمصر سوى ما تقدم لهم بالمغرب تزيد على مائتي سنة، وادعى الخلافة عبد المؤمن صاحب ابن تومرت وليس بقرشي وكذلك كل من جاء بعده بالمغرب إلى اليوم، والجواب عنه أما عن بني عبيد فإنهم كانوا يقولون إنهم من ذرية الحسين بن علي ولم يبايعوه إلا على هذا الوصف، والذين أثبتوا نسبتهم ليسوا بدون من نفاه، وأما سائر من ذكر ومن لم يذكر فهم من المتغلبين وحكمهم حكم البغاة فلا عبرة بهم وقال القرطبي: هذا الحديث خبر عن المشروعية أي لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وجد منهم أحد، وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر، وقد ورد الأمر بذلك في حديث جبير بن مطم رفعه: "قدموا قريشا ولا تقدموها " أخرجه البيهقي، وعند الطبراني من حديث عبد الله بن حنطب ومن حديث عبد الله بن السائب مثله، وفي نسخة أبي اليمان عن شعيب عن أبي هريرة عن أبي، بكر بن سليمان بن أبي حثمة مرسلا أنه بلغه مثله، وأخرجه الشافعي من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه مثله، وفي الباب حديث أبي هريرة رفعه: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن " أخرجاه في الصحيحين من رواية المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم أيضا من رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة، وتقدم في مناقب قريش، وأخرجه مسلم أيضا من رواية همام عن أبي هريرة ولأحمد من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن قال: "في هذا الأمر " وشاهده عند مسلم عن جابر كالأول، وعند الطبراني من حديث سهل بن سعد، وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث معاوية، وعند البزار من حديث علي. وأخرج أحمد من طريق عبد الله بن أبي الهزيل قال: "لما قدم معاوية الكوفة قال رجل من بكر بن وائل: لئن لم تنته قريش لنجعلن هذا الأمر في جمهور من جماهير العرب غيرهم، فقال عمرو بن العاص: كذبت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قريش قادة الناس " قال ابن المنير: وجه الدلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر فإنه يكون مفهوم لقب ولا حجة فيه عند المحققين، وإنما الحجة وقوع المبتدأ معرفا باللام الجنسية لأن المبتدأ بالحقيقة هاهنا هو الأمر الواقع صفة لهذا وهذا لا يوصف إلا بالجنس، فمقتضاه حصر جنس الأمر في قريش، فيصير كأنه قال: لا أمر إلا في قريش، وهو كقوله: "الشفعة فيما لم يقسم " والحديث وإن كان بلفظ الخبر فهو بمعنى الأمر كأنه قال ائتموا بقريش خاصة، وبقية طرق الحديث تؤيد ذلك، ويؤخذ منه أن الصحابة اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر خلافا لمن أنكر ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيا، وقيد ذلك طوائف ببعض قريش فقالت طائفة لا يجوز إلا من ولد علي وهذا قول الشيعة ثم اختلفوا اختلافا شديدا في تعيين بعض ذرية علي. وقالت طائفة يختص بولد العباس وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه. ونقل ابن حزم أن طائفة قالت: لا يجوز إلا في ولد جعفر بن أبي طالب وقالت أخرى في ولد عبد المطلب، وعن بعضهم لا يجوز إلا في بني أمية، وعن بعضهم لا يجوز إلا في ولد عمر، قال ابن حزم ولا حجة لأحد من هؤلاء الفرق. وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة: يجوز أن يكون الإمام غير قرشي، وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة سواء كان عربيا أم عجميا، وبالغ ضرار ابن عمرو فقال: تولية غير القرشي أولى لأنه يكون أقل عشيرة فإذا عصى كان أمكن لخلعه. وقال أبو بكر ابن الطيب: لم يعرج المسلمون على

(13/118)


هذا القول بعد ثبوت حديث: "الأئمة من قريش " وعمل المسلمون به قرنا بعد قرن وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف. قلت: قد عمل بقول ضرار من قبل أن يوجد من قام بالخلافة من الخوارج على بني أمية كقطري بفتح القاف والطاء المهملة ودامت فتنتهم حتى أبادهم المهلب بن أبي صفرة أكثر من عشرين سنة، وكذا تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج ممن قام على الحجاج كابن الأشعث، ثم تسمى بالخلافة من قام في قطر من الأقطار في وقت ما فتسمى بالخلافة وليس من قريش كبني عباد وغيرهم بالأندلس كعبد المؤمن وذريته ببلاد المغرب كلها، وهؤلاء ضاهوا الخوارج في هذا ولم يقولوا بأقوالهم ولا تمذهبوا بآرائهم بل كانوا من أهل السنة داعين إليها. وقال عياض: اشتراط كون الإمام قرشيا مذهب العلماء كافة وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار، قال: ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة لما فيه من مخالفة المسلمين. قلت: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: "إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته " فذكر الحديث وفيه: "فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل " الحديث ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش، فيحتمل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيا أو تغير اجتهاد عمر في ذلك والله أعلم، وأما ما احتج به من لم يعين الخلافة في قريش من تأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب فليس من الإمامة العظمى في شيء، بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير القرشي في حياته والله أعلم واستدل بحديث ابن عمر على عدم وقوع ما فرضه الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه إذا لم يوجد قرشي يستخلف كناني فإن لم يوجد فمن بني إسماعيل فإن لم يوجد منهم أحد مستجمع الشرائط فعجمي وفي وجه جرهمي وإلا فمن ولد إسحاق، قالوا: وإنما فرض الفقهاء ذلك على عادتهم في ذكر ما يمكن أن يقع عقلا وإن كان لا يقع عادة أو شرعا. قلت والذي حمل قائل هذا القول عليه أنه فهم منه الخبر المحض وخبر الصادق لا يتخلف، وأما من حمله على الأمر فلا يحتاج إلى هذا التأويل، واستدل بقوله: "قدموا قريشا ولا تقدموها " وبغيره من أحاديث الباب على رجحان مذهب الشافعي لورود الأمر بتقديم القرشي على من ليس قرشيا. قال عياض: ولا حجة فيها لأن المراد بالأئمة في هذه الأحاديث الخلفاء، وإلا فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم سالما مولى أبي حذيفة في إمامة الصلاة ووراءه جماعة من قريش، وقدم زيد بن حارثة وابنه أسامة ابن زيد ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص في التأمير في كثير من البعوث والسرايا ومعهم جماعة من قريش. وتعقبه النووي وغيره بأن في الأحاديث ما يدل على أن للقرشي مزية على غيره، فيصح الاستدلال به لترجيح الشافعي على غيره، وليس مراد المستدل به أن الفضل لا يكون إلا للقرشي بل المراد أن كونه قرشيا من أسباب الفضل والتقدم كما أن من أسباب الفضل والتقدم الورع والفقه والقراءة والسن وغيرها، فالمستويان في جميع الخصال إذا اختص أحدهما بخصلة منها دون صاحبه ترجح عليه فيصح الاستدلال على تقديم الشافعي على من ساواه في العلم والدين من غير قريش لأن الشافعي قرشي، وعجب قول القرطبي في " المفهم " بعد أن ذكر ما ذكره عياض: أن المستدل بهذه الأحاديث على ترجيح الشافعي صحبته غفلة قارنها من صميم التقليد طيشه، كذا قال ولعل الذي أصابته الغفلة من لم يفهم مراد المستدل والعلم عند الله تعالى.

(13/119)


3 - باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}
7141 - حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ "عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ, وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا"
قوله: "باب أجر من قضى بالحكمة" سقط لفظ: "أجر " من رواية أبي زيد المروزي، وعلى تقدير ثبوتها فليس في الباب ما يدل عليه فيمكن أن يؤخذ من لازم الإذن في تغبيط من قضى بالحكمة، فإنه يقتضي ثبوت الفضل فيه، وما ثبت فيه الفضل ترتب عليه الأجر والعلم عند الله. قوله: "لقوله تعالى :{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وجه الاستدلال بالآية لما ترجم به أن منطوق الحديث دل على أن من قضى بالحكمة كان محمودا حتى أنه لا حرج على من تمنى أن يكون له مثل الذي له من ذلك ليحصل له مثل ما يحصل له من الأجر وحسن الذكر، ومفهومه يدل على أن من لم يفعل ذلك فهو على العكس من فاعله، وقد صرحت الآية بأنه فاسق، واستدلال المصنف بها يدل على أنه يرجح قول من قال إنها عامة في أهل الكتاب وفي المسلمين، وحكى ابن التين عن الداودي أن البخاري اقتصر على هذه الآية دون ما قبلها عملا بقول من قال إن الآيتين قبلها نزلتا في اليهود والنصارى، وتعقبه ابن التين بأنه لا قائل بذلك، قال: ونسق الآية لا يقتضي ما قال، قلت: وما نفاه ثابت عن بعض التابعين في تفسير الطبري وغيره؛ ويظهر أن يقال إن الآيات وإن كان سببها أهل الكتاب لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة أن مرتكب المعصية لا يسمى كافرا ولا يسمى أيضا ظالما لأن الظلم قد فسر بالشرك، بقيت الصفة الثالثة، فمن ثم اقتصر عليها. وقال إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " بعد أن حكى الخلاف في ذلك: ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا واخترع حكما يخالف به حكم الله وجعله دينا يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكما كان أو غيره. وقال ابن بطال: مفهوم الآية أن من حكم بما أنزل الله استحق جزيل الأجر، ودل الحديث على جواز منافسته فاقتضى أن ذلك من أشرف الأعمال وأجل ما يتقرب به إلى الله، ويؤيده حديث عبد الله بن أبي أوفي رفعه: "الله مع القاضي ما لم يجر " الحديث أخرجه ابن المنذر. قلت: وأخرجه أيضا ابن ماجه والترمذي واستغربه، وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: "حدثنا شهاب بن عباد" هو ابن عمر العبدي، وإبراهيم بن حميد هو الرؤاسي بضم الراء وتخفيف الهمزة ثم مهملة، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وعبد الله هو ابن مسعود، والسند كله كوفيون. قوله: "لا حسد إلا في اثنتين" رجل بالجر ويجوز الرفع على الاستئناف والنصب بإضمار أعني. قوله: "على هلكته" بفتحات أي على إهلاكه أي إنفاقه "في الحق" قوله: "وآخر آتاه الله حكمة" في رواية ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد الماضية في كتاب العلم " ورجل آتاه الله الحكمة " وقد مضى شرحه مستوفى هناك وأن المراد بالحكمة القرآن في حديث ابن عمر، أو أعم من ذلك، وضابطها ما منع الجهل وزجر عن القبح. قال ابن المنير: المراد بالحسد هنا الغبطة، وليس المراد بالنفي

(13/120)


حقيقته وإلا لزم الخلف، لأن الناس حسدوا في غير هاتين الخصلتين وغبطوا من فيه سواهما فليس هو خبرا، وإنما المراد به الحكم ومعناه حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين فكأنه قال هما آكد القربات التي يغبط بها، وليس المراد نفي أصل الغبطة مما سواهما فيكون من مجاز التخصيص، أي لا غبطة كاملة التأكيد لتأكيد أجر متعلقها إلا الغبطة بهاتين الخصلتين. وقال الكرماني: الخصلتان المذكورتان هنا غبطة لا حسد؛ لكن قد يطلق أحدهما على الآخر، أو المعنى لا حسد إلا فيهما، وما فيهما ليس بحسد فلا حسد فهو كما قيل في قوله تعالى :{لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لمن استجمع شروطه وقوي على أعمال الحق ووجد له أعوانا لما فيه من الأمر بالمعروف ونصر المظلوم وأداء الحق لمستحقه وكف يد الظالم والإصلاح بين الناس وكل ذلك من القربات، ولذلك تولاه الأنبياء ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين، ومن ثم اتفقوا على أنه من فروض الكفاية، لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فقد أخرج البيهقي بسند قوي: أن أبا بكر لما ولي الخلافة ولى عمر القضاء، وبسند آخر قوي أن عمر استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء، وكتب عمر إلى عماله: استعملوا صالحيكم على القضاء وأكفوهم. وبسند آخر لين أن معاوية سأل أبا الدرداء وكان يقضي بدمشق، من لهذا الأمر بعدك، قال فضالة بن عبيد: وهؤلاء من أكابر الصحابة وفضلائهم. وإنما فر منه من فر خشية العجز عنه وعند عدم المعين عليه. وقد يتعارض أمر حيث يقع تولية من يشتد به الفساد إذا ا امتنع المصلح والله المستعان. وهذا حيث يكون هناك غيره، ومن ثم كان السلف يمتنعون منه ويفرون إذا طلبوا له. واختلفوا هل يستحب لمن استجمع شرائطه وقوى عليه أو لا؟ والثاني قول الأكثر لما فيه من الخطر والغرر، ولما ورد فيه من التشديد. وقال بعضهم: إن كان من أهل العلم وكان خاملا بحيث لا يحمل عنه العلم أو كان محتاجا وللقاضي رزق من جهة ليست بحرام استحب له ليرجع إليه في الحكم بالحق وينتفع بعلمه، وإن كان مشهورا فالأولى له الإقبال على العلم والفتوى، وأما إن لم يكن في البلد من يقوم مقامه فإنه يتعين عليه لكونه من فروض الكفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه. وعن أحمد: لا يأثم لأنه لا يجب عليه إذا أضر به نفع غيره ولا سيما من لا يمكنه عمل الحق لانتشار الظلم.

(13/121)


4 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً
7142 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ
7143 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً
7144 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ

(13/121)


سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ
7145 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوْقَدُوا نَارًا فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنْ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ
قوله: "باب السمع والطاعة لإمام ما لم تكن معصية" إنما قيده بالإمام وإن كان في أحاديث الباب الأمر بالطاعة لكل أمير ولو لم يكن إماما لأن محل الأمر بطاعة الأمير أن يكون مؤمرا من قبل الإمام. وذكر فيه الأربعة أحاديث: الأول قوله: "عن أبي التياح" بمثناه مفتوحة وتحتانية مشددة وآخره مهملة وهو يزيد بن حميد الضبعي، وتقدم في الصلاة من وجه آخر التصريح بقول شعبة " حدثني أبو التياح". قوله: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل" بضم المثناة على البناء للمجهول أي جعل عاملا بأن أمر إمارة عامة على البلد مثلا أو ولى فيها ولاية خاصة كالإمامة في الصلاة أو جباية الخراج أو مباشرة الحرب، فقد كان في زمن الخلفاء الراشدين من يجتمع له الأمور الثلاثة ومن يختص ببعضها. قوله: "حبشي" بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة منسوب إلى الحبشة، ومضى في الصلاة في " باب إمامة العبد " عن محمد بن بشار عن يحيى القطان بلفظ: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي " وفيه بعد باب من رواية غندر عن شعبة بلفظ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي ذر " اسمع وأطع ولو لحبشي " وقد أخرج مسلم من طريق غندر عن شعبة بإسناد آخر إلى أبي ذر أنه انتهى إلى الربذة فإذا عبد يؤمهم فذهب يتأخر لأجل أبي ذر فقال أبو ذر " أوصاني خليلي " فذكر نحوه. وظهرت بهذه الرواية الحكمة في تخصيص أبي ذر بالأمر في هذه الرواية، وقد جاء في حديث آخر الأمر بذلك عموما؛ ولمسلم أيضا من حديث أم الحصين " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله". قوله: "كان رأسه زبيبة" واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف، وإنما شبه رأس الحبشي بالزبيبة لتجمعها ولكون شعره أسود، وهو تمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتداد بها، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في " كتاب الصلاة " ونقل ابن بطال عن المهلب قال: قوله: "اسمعوا وأطيعوا " لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشي، لما تقدم أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، وأجمعت الأمة على أنها لا تكون في العبيد. قلت: ويحتمل أن يسمى عبدا باعتبار ما كان قبل العتق، وهذا كله إنما هو فيما يكون بطريق الاختيار، وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة فإن طاعته تجب إخمادا للفتنة ما لم يأمر بمعصية كما تقدم تقريره، وقيل المراد أن الإمام الأعظم إذا استعمل العبد الحبشي على إمارة بلد مثلا وجبت طاعته، وليس فيه أن العبد الحبشي يكون هو الإمام الأعظم. وقال الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود، يعني وهذا من ذاك أطلق العبد الحبشي مبالغة في الأمر بالطاعة وإن كان لا يتصور شرعا أن

(13/122)


يلي ذلك. قوله: "حماد" هو ابن زيد، والجعد هو أبو عثمان، وأبو رجاء هو العطاردي، وتقدم الكلام على هذا السند في أوائل الفتن. قوله: "يرويه" هو في معنى قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم كذلك في أوائل الفتن من طريق عبد الوارث عن الجعد وتقدمت مباحثه هناك. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري، وعبد الله صحابيه هو ابن عمر. قوله: "فيما أحب وكره" في رواية أبي ذر " فيما أحب أو كره". قوله: "ما لم يؤمر بمعصية" هذا يقيد ما أطلق في الحديثين الماضيين من الأمر بالسمع والطاعة ولو لحبشي، ومن الصبر على ما يقع من الأمير مما يكره، والوعيد على مفارقة الجماعة. قوله: "فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أي لا يجب ذلك بل يحرم على من كان قادرا على الامتناع، وفي حديث معاذ عند أحمد " لا طاعة لمن لم يطع الله " وعنده وعند البزار في حديث عمران بن حطين والحكم ابن عمرو الغفاري " لا طاعة في معصية الله " وسنده قوي، وفي حدث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني " لا طاعة لمن عصى الله تعالى " وقد تقدم البحث في هذا الكلام على حديث عبادة في الأمر بالسمع والطاعة " إلا أن تروا كفرا بواحا " بما يغني عن إعادته وهو في " كتاب الفتن " وملخصه أنه ينعزل بالكفر إجماعا " فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض. الحدث الرابع. قوله: "عن أبي عبد الرحمن" هو السلمي، وعلي هو ابن أبي طالب. قوله: "وأمر عليهم رجلا من الأنصار" تقدم البحث فيه والجواب عمن غلط راويه في " كتاب المغازي". قوله: "فأوقدوا نارا" كذا وقع، وتقدم بيانه في المغازي والأحكام أن أميرهم غضب منهم فقال أوقدوا نارا، وقوله: "قد عزمت عليكم لما " بالتخفيف وجاء بالتشديد والتثقيل إنها بمعنى " إلا " وقوله: "خمدت " بالمعجمة وفتح الميم وضبط في بعض الروايات بكسر الميم لا يعرف في اللغة قاله ابن التين. قال: ومعنى خمدت سكن لهبها وإن لم يطفأ جمرها فإن طفئ قيل همدت. وقوله: "لو دخلوها ما خرجوا منها " قال الداودي: يريد تلك النار لأنهم يموتون بتحريقها فلا يخرجون منها أحياء، قال: وليس المراد بالنار نار جهنم ولا أنهم مخلدون فيها لأنه قد ثبت في حديث الشفاعة " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان " قال: وهذا من المعاريض التي فيها مندوحة، يريد أنه سيق مساق الزجر والتخويف ليفهم السامع أن من فعل ذلك خلد في النار، وليس ذلك مرادا وإنما أريد به الزجر والتخويف، وقد تقدم له توجيهات في " كتاب المغازي " وكذا قوله: "إنما الطاعة في المعروف " وتقدم شرحه مستوفى في " باب سرية عبد الله بن حذافة " من " كتاب المغازي " وتقدم شيء منه أيضا في تفسير سورة النساء في قوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وقد قيل إنه لم يقصد دخولهم النار حقيقة وإنما أشار لهم بذلك إلى أن طاعة الأمير واجبة ومن ترك الواجب دخل النار، فإذا شق عليكم دخول هذه النار فكيف بالنار الكبرى، وكأن قصده أنه لو رأى منهم الجد في ولوجها لمنعهم.

(13/123)


5 - باب مَنْ لَمْ يَسْأَلْ الإِمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا
7146 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ: لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لاَ تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا

(13/123)


عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ

(13/124)


6 - باب مَنْ سَأَلَ الإِمَارَةَ وُكِلَ إِلَيْهَا
7147 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لاَ تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ
قوله: "باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها" ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن سمرة " لا تسأل الإمارة " ثم قال بعده " باب من سأل الإمارة وكل إليها " وذكر الحديث المذكور، وقد تقدم الكلام على سنده في " كتاب كفارة الأيمان " حديث عبد الرحمن بن سمرة " لا تسأل الإمارة " ثم قال بعده " باب من سأل الإمارة وكل إليها " وذكر الحديث المذكور، وقد تقدم الكلام على سنده في " كتاب كفارة الأيمان " وعلى قوله: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر " وأما قوله: "لا تسأل الإمارة " فهو الذي في أكثر طرق الحديث، ووقع في رواية يونس بن عبيد عن الحسن لفظ: "لا يتمنين " بصيغة النهي عن التمني مؤكدا بالنون الثقيلة، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب. قوله: "عن مسألة" أي سؤال. قوله: "وكلت إليها" بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام، ومعنى المخفف أي صرف إليها ومن وكل نفسه هلك، ومنه في الدعاء " ولا تكلني إلى نفسي " ووكل أمره إلى فلان صرفه إليه؛ ووكله بالتشديد استحفظه، ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه، ويستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك وأن من حرص على ذلك لا يعان، ويعارضه في الظاهر ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار " والجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولى " أو يحمل الطلب هنا على القصد وهناك على التولية " وقد تقدم من حديث أبي موسى " إنا لا نولي من حرص " ولذلك عبر في مقابله بالإعانة، فإن من لم يكن له من الله عون على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل فلا ينبغي أن يجاب سؤاله، ومن المعلوم أن ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلا، بل إذا كان كافيا وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة، ولا يخفي ما في ذلك من الفضل. قال المهلب: جاء تفسير الإعانة عليها في حديث بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس رفعه: "من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده " أخرجه ابن المنذر. قلت: وكذا أخرجه الترمذي من طريق أبي عوانة عن عبد الأعلى الثعلبي، وأخرجه هو وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي عوانة ومن طريق إسرائيل عن عبد الأعلى فأسقط خيثمة من السند، قال الترمذي. ورواية أبي عوانة أصح. وقال في رواية أبي عوانة حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل وصححه، وتعقب بأن ابن معين لين خيثمة وضعف عبد الأعلى، وكذا

(13/124)


قال الجمهور في عبد الأعلى: ليس بقوي. قال المهلب: وفي معنى الإكراه عليه أن يدعي إليه فلا يرى نفسه أهلا لذلك هيبة له وخوفا من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدد؛ والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله. وقال ابن التين: هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} وقال سليمان { وهب لي ملكا} قال: ويحتمل أن يكون في غير الأنبياء.

(13/125)


7 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الإِمَارَةِ
7148 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ
7149 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ
قوله: "باب ما يكره من الحرص على الإمارة" أي على تحصيلها، ووجه الكراهة مأخوذ مما سبق في الباب الذي قبله. قوله: "عن سعيد المقبري عن أبي هريرة" هكذا رواه ابن أبي ذئب مرفوعا، وأدخل عبد الحميد ابن جعفر بين سعيد وأبي هريرة رجلا ولم يرفعه، وابن أبي ذئب أتقن من عبد الحميد وأعرف بحديث المقبري منه فروايته هي المعتمدة، وعقبه البخاري بطريق عبد الحميد إشارة منه إلى إمكان تصحيح القولين فلعله كان عند سعيد عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة موقوفا على ما رواه عنه عبد الحميد؛ وكان عنده عن أبي هريرة بغير واسطة مرفوعا، إذ وجدت عند كل من الراويين عن سعيد زيادة؛ ورواية الوقف لا تعارض رواية الرفع لأن الراوي قد ينشط فيسند وقد لا ينشط فيقف. قوله: "إنكم ستحرصون" بكسر الراء ويجوز فتحها، ووقع في رواية شبابة عن ابن أبي ذئب " ستعرضون " بالعين وأشار إلى أنها خطأ. قوله: "على الإمارة" دخل فيه الإمارة العظمى وهي الخلافة، والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بالشيء قبل وقوعه فوقع كما أخبر. قوله: "وستكون ندامة. يوم القيامة" أي لمن لم يعمل فيها بما ينبغي، وزاد رواية شبابة " وحسرة " ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ: "أولها ملامة؛ وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل " وفي الطبراني الأوسط من رواية شريك عن عبد الله ابن عيسى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شريك: لا أدري رفعه أم لا " قال: "" الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة " وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ: "أولها ملامة وثانيها ندامة " أخرجه الطبراني وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه: "نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير

(13/125)


حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة " وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله، ويقيده أيضا ما أخرج مسلم عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها " قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف. وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها والله أعلم. قوله: "فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" قال الدوادي: نعم المرضعة أي الدنيا، وبئست الفاطمة أي بعد الموت، لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغنى فيكون في ذلك هلاكه. وقال غيره: نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها التبعات في الآخرة. "تنبيه": ألحقت التاء في " بئست " دون نعم، والحكم فيهما إذا كان فاعلهما مؤنثا جواز الإلحاق وتركه، فوقع التفنن في هذا الحديث بحسب ذلك " وقال الطيبي: إنما لم يلحقها بنعم لأن المرضعة مستعارة للإمارة وتأنيثها غير حقيقي فترك إلحاق التاء بها وإلحاقها بئس نظرا إلى كون الإمارة حينئذ داهية دهياء. قال: وإنما أتي بالتاء في الفاطمة والمرضعة إشارة إلى تصوير تينك الحالتين المتجددتين في الإرضاع والفطام. قوله: "وقال محمد بن بشار" هو بندار، ووقع مستخرج أبي نعيم أن البخاري قال: "حدثنا محمد ابن بشار " وعبد الله بن حمرن هو بصري صدوق وقد قال ابن حبان في الثقات: يخطئ وماله في الصحيح إلا هذا الموضع. وعبد الحميد بن جعفر هو المدني لم يخرج له البخاري إلا تعليقا، وعمر بن الحكم أي ابن ثوبان مدني ثقة أخرج له البخاري في غير هذا الموضع تعليقا، كما تقدم في الصيام. قوله: "عن أبي هريرة" أي موقوفا عليه. قوله في حديث أبي موسى "ولا من حرص عليه" بفتح المهملة والراء، وقد تقدم مطولا من وجه آخر عن أبي بردة عن أبي موسى في استتابة المرتدين وذكرت شرحه هناك. وفي الحديث أن الذي يناله المتولي عن النعماء والسراء دون ما يناله من البأساء والضراء، إما بالعزل في الدنيا فيصير خاملا وإما بالمؤاخذة في الآخرة وذلك أشد، نسأل الله العفو. قال القاضي البيضاوي: فلا ينبغي لعاقل أن يفرح بلذة يعقبها حسرات، قال المهلب: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض بذلك ووجه الندم أنه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها لأنه يطالب بالتبعات التي ارتكبها وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته، قال: ويستثنى من ذلك من تعين عليه كأن يموت الوالي ولا يوجد بعده من يقوم بالأمر غيره، وإذا لم يدخل في ذلك يحصل الفساد بضياع الأحوال. قلت: وهذا لا يخالف ما فرض في الحديث الذي قبله من الحصول بالطلب أو بغير طلب بل في التعبير بالحرص إشارة إلى أن من قام بالأمر عند خشية الضياع يكون كمن أعطى بغير سؤال لفقد الحرص غالبا عمن هذا شأنه. وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجبا عليه، وتولية القضاء على الإمام فرض عين وعلى القاضي فرض كفاية إذا كان هناك غيره.

(13/126)


8 - باب مَنْ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ
7150 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ

(13/126)


فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلاَّ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ
7151 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ قَالَ زَائِدَةُ ذَكَرَهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَتَيْنَا مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ نَعُودُهُ فَدَخَلَ عَلَيْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
قوله: "باب من استرعى" بضم المثناة على البناء للمجهول. قوله: "رعية فلم ينصح" أي لها. قوله: "أبو الأشهب" هو جعفر بن حبان بمهملة وتحتانية ثقيلة. قوله: "عن الحسن" هو البصري. وفي رواية الإسماعيلي من طريق شيبان عن أبي الأشهب " حدثنا الحسن". قوله: "أن عبيد الله بن زياد" يعني أم البصرة في زمن معاوية وولده يزيد، ووقع في رواية هشام المذكورة بعد هذه ما يدل على أن الحسن حضر ذلك من عبيد الله بن زياد عند معقل. قوله: "عاد معقل بن يسار" بتحتانية ثم مهملة خفيفة هو المزني الصحابي المشهور. قوله: "في مرضه الذي مات فيه" كانت وفاة معقل بالبصرة فيما ذكره البخاري في الأوسط ما بين الستين إلى السبعين وذلك في خلافة يزيد بن معاوية. قوله: "فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي الأشهب " لو علمت أن لي حياة ما حدثتك". قوله: "يسترعيه الله" في نسخة الصغاني " استرعاه". قوله: "فلم يحطها" بفتح أوله وضم الحاء وسكون الطاء المهملتين أي يكلؤها أو يصنها وزنه ومعناه والاسم الحياطة يقال حاطه إذا استولى عليه وأحاط به مثله. قوله: "بنصحه" كذا للأكثر بهاء الضمير. وفي رواية المستملي: "بالنصيحة " ووقع لمسلم في رواية شيبان " يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته". قوله: "لم يجد" في نسخة الصغاني " إلا لم يجد " بزيادة إلا "رائحة الجنة" زاد في رواية الطبراني من حديث عبد الله بن مغفل " وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاما " ووقع رواية مسلم: "إلا حرم الله عليه الجنة " وله مثله من طريق يونس بن عبيد عن الحسن. قال الكرماني مفهوم الحديث أنه يجدها، وهو عكس المقصود، والجواب أن " إلا " مقدرة أي إلا لم يجد، والخبر محذوف والتقدير ما من عبد فعل كذا إلا حرم الله عليه الجنة ولم يجد رائحة الجنة استئناف كالمفسر له، أو ليست ما للنفي، وجازت زيادة من للتأكيد في الإثبات عند بعض النحاة، وقد ثبت " إلا " في بعض النسخ. قلت: لم يقع الجمع بين اللفظين المتوعد بهما في طريق واحدة، فقوله: "لم يجد رائحة الجنة " وقع في رواية أبي الأشهب، وقوله: "حرم الله عليه الجنة " وقع في رواية هشام، فكأنه أراد أن الأصل في الحديث الجمع بين اللفظين فحفظ بعض ما لم يحفظ بعض وهو محتمل، لكن الظاهر أنه لفظ واحد تصرفت فيه الرواة. وزاد مسلم في آخره قال: "ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم؟ قال: لم أكن لأحدثك " قيل سبب ذلك هو ما وصفه به الحسن البصري من سفك الدماء، ووقع في رواية الإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه مسلم: "لولا أني ميت ما حدثتك " فكأنه كان يخشى بطشه، فلما نزل به الموت أراد أن يكف بذلك بعض شره عن المسلمين، وإلى ذلك وقعت الإشارة في رواية لمسلم من طريق أبي المليح " أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار " فقال له معقل: "لولا أني في الموت ما حدثتك " وقد أخرج

(13/127)


الطبراني في الكبير من وجه آخر عن الحسن قال: "لما قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرا أمره علينا معاوية غلاما سفيها يسفك الدماء سفكا شديدا وفينا عبد الله بن مغفل المزني، فدخل عليه ذات يوم فقال له: انته عما أراك تصنع، فقال له: وما أنت وذاك؟ قال ثم خرج إلى المسجد فقلنا له: ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رءوس الناس؟ فقال إنه كان عندي علم فأحببت أن لا أموت حتى أقول به على رءوس الناس، ثم قام فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده " فذكر نحو حديث الباب، فيحتمل أن تكون القصة وقعت للصحابيين. قوله: "قال زائدة ذكره هشام" هو بحذف قال الثانية والتقدير: قال الحسين الجعفي قال زائدة ذكره أي الحديث الذي سيأتي هشام وهو ابن حسان، ووقع في رواية مسلم عن القاسم بن زكريا عن الحسين الجعفي بالعنعنة في جميع السند، وحاصل الروايتين أنه أثبت الغش في إحداهما، ونفى النصيحة في الأخرى فكأنه لا واسطة بينهما، ويحصل ذلك بظلمه لهم بأخذ أموالهم أو سفك دمائهم أو انتهاك أعراضهم وحبس حقوقهم وترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم وبإهمال إقامة الحدود فيهم وردع المفسدين منهم وترك حمايتهم ونحو ذلك. قوله: "فقال له معقل أحدثك حديثا" قد ذكرت زيادة أبي المليح عند مسلم. قوله: "ما من وال يلي رعية من المسلمين إلخ" وقع في رواية أبي المليح " ما من أمير " بدل " وال " وقال فيه: "ثم لا يجد له " بجيم ودال مشددة من الجد بالكسر ضد الهزل. وقال فيه: "إلا لم يدخل معهم الجنة " وللطبراني في الأوسط " فلم يعدل فيهم إلا كبه الله على وجهه في النار " قال ابن التين: يلي جاء على غير القياس لأن ماضيه ولي بالكسر ومستقبله يولى بالفتح وهو مثل ورث يرث. وقال ابن بطال: هذا وعيد شديد على أئمة الجور فمن ضيع من استرعاه الله أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد " يوم القيامة " فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة ومعنى " حرم الله عليه الجنة " أي أنفذ الله عليه الوعيد ولم يرض عنه المظلومين. ونقل ابن التين عن الداودي نحوه قال: ويحتمل أن يكون هذا في حق الكافر لأن المؤمن لا بد له من نصيحة. قلت: وهو احتمال بعيد جدا، والتعليل مردود، فالكافر أيضا قد يكون ناصحا فيما تولاه ولا يمنعه ذلك الكفر. وقال غيره: يحمل على المستحل، والأولى أنه محمول على غير المستحل وإنما أريد به الزجر والتغليظ، وقد وقع في رواية لمسلم بلفظ: "لم يدخل معهم الجنة " وهو يؤيد أن المراد أنه لا يدخل الجنة وقت دون وقت: وقال الطيبي: الفاء في قوله: "فلم يحطها " وفي قوله: "فيموت " مثل اللام في قوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} وقوله وهو غاش " قيد للفعل مقصود بالذكر يريد أن الله إنما ولاه على عباده ليديم لهم النصيحة لا ليغشهم حتى يموت على ذلك، فلما قلب القضية استحق أن يعاقب.

(13/128)


9 - باب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
7452 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ فَقَالُوا هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقْ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالُوا أَوْصِنَا فَقَالَ إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ

(13/128)


مِنْ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُنْدَبٌ قَالَ نَعَمْ جُنْدَبٌ
قوله: "باب من شاق شق الله عليه" في رواية النسفي " من شق " بغير ألف، والمعنى من أدخل على الناس المشقة أدخل الله عليه المشقة فهو من الجزاء بجنس العمل. قوله: "خالد" هو ابن عبد الله الطحان. قوله: "عن الجريري" بضم الجيم هو سعيد بن إياس، ولم يخرج البخاري للعباس الجريري شيئا وهو من هذه الطبقة، وخالد الطحان معدود فيمن سمع من سعيد الجريري قبل الاختلاط، وكانت وفاة الجريري سنة أربع وأربعين ومائة واختلط قبل موته بثلاث سنين. وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: من أدرك أيوب فسماعه من الجريري جيد. قلت: وخالد قد أدرك أيوب فإن أيوب لما مات كان خالد المذكور ابن إحدى وعشرين سنة. قوله: "عن طريف" بالطاء المهملة وزن عظيم. قوله: "أبي تميمة" بالمثناة وزن عظيمة، هو ابن مجالد بضم الميم وتخفيف الجيم الهجيمي بالجيم مصغر نسبة إلى بني الهجيم بطن من تيمم وكان مولاهم، وهو بصري ماله في البخاري عن أحد من الصحابة إلا هذا الحديث، وله حديث آخر تقدم في الأدب من روايته عن أبي عثمان النهدي. قوله: "شهدت صفوان" هو ابن محرز بن زياد التابعي الثقة المشهور من أهل البصرة. قوله: "وجندبا" هو ابن عب الله البجلي الصحابي المشهور وكان من أهل الكوفة ثم تحول إلى البصرة قاله الكلاباذي. قوله: "وأصحابه" أي أصحاب صفوان. قوله: "وهو" أي جندب "يوصيهم" ذكره المزي في الأطراف بلفظ: "شهدت صفوان وأصحابه وجندبا يوصيهم " ووقع في صحيح مسلم من طريق خالد بن عبد الله بن محرز عن عمه صفوان بن محرز أن جندب بن عبد الله بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير فقال: اجمع لي نفرا من إخواني حتى أحدثهم، فذكر القصة في تحديثه لهم بقصة الذي حمل على رجل فقال لا إله إلا الله فقتله، وأظن أن القصتين واحدة، ويجمعهما أنه حذرهم من التعرض لقتل المسلم، وزمن فتنة ابن الزبير كانت عقب موت يزيد ابن معاوية. ووقع عند الطبراني من طريق ليث بن أبي سليم عن صفوان بن محرز عن جندب بن عبد الله أنه مر بقوم فقال: ائتني بنفر من قراء القرآن وليكونوا شيوخا، قال فأتيته بنافع بن الأزرق وأبي بلال مرداس ونفر معهما ستة أو ثمانية فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الحديث. قلت: وأخرجه أيضا من طريق الأعمش عن أبي تميمة أنه انطلق مع جندب إلى البصرة فقال: هل كنت تدارس أحدا القرآن؟ قلت: نعم، قال فائتني بهم، قال فأتيته بنافع وأبي بلال مرداس ونجدة وصالح بن مشرح فأنشأ يحدث. قلت: وهؤلاء الأربعة من رءوس الخوارج الذين خرجوا إلى مكة لنصر ابن الزبير لما جهز إليه يزيد ابن معاوية الجيوش فشهدوا معه الحصار الأول، فلما جاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية سألوا ابن الزبير عن قوله في عثمان فأثنى عليه فغضبوا وفارقوه، فحجوا. وخرج نجدة باليمامة فغلب عليها وعلى بعض بلاد الحجاز، وخرج نافع بن الأزرق بالعراق فدامت فتنته مدة. وأما أبو بلال مرداس فكان خرج على عبيد الله ابن زياد قبل ذلك فقتله. قوله: "من سمع سمع الله به يوم القيامة" قلت تقدم هذا المتن من حديث جندب من وجه آخر مع شرحه في " باب الرياء والسمعة " من " كتاب الرقاق " وفيه: "ومن رايا " ولم يقع فيه مقصود هذا الباب. قوله: "ومن شاق شق

(13/129)


الله عليه" كذا للكشميهني، وللسرخسي والمستملي: "ومن يشاقق يشقق الله عليه " بصيغة المضارعة وبفك القاف في الموضعين. وفي رواية الطبراني عن أحمد بن زهير التستري عن إسحاق ابن شاهين شيخ البخاري فيه: "ومن يشاقق يشق الله عليه". قوله: "فقالوا: أوصنا، فقال: إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه" يعني بعد الموت، وصرح به في رواية صفوان بن محرز عن جندب ولفظه: "واعلموا أن أول ما ينتن من أحدكم إذا مات بطنه". قوله: "فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل" في رواية صفوان " فلا يدخل بطنه إلا طيبا " هكذا وقع هذا الحديث من هذا الوجه موقوفا، وكذا أخرجه الطبراني من طريق قتادة عن الحسن - هو البصري - عن جندب موقوفا، وأخرجه من طريق صفوان بن محرز وسياقه يحتمل الرفع والوقف فإنه صدر بقوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سمع " الحديث: "واعلموا أن أول ما ينتن " وينتن بنون ومثناة وضم أوله من الرباعي وماضيه أنتن ونتن والنتن الرائحة الكريهة. قوله: "ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة بملء كف" في رواية الكشميهني: "يحول " وبلفظ: "ملء " بغير موحدة، ووقع في رواية كريمة والأصيلي: "كفه". قوله: "من دم هراقه" أي صبه "فليفعل" قال ابن التين: وقع في روايتنا " أهراقه " وهو بفتح الهمزة وكسرها. قلت: هي لمن عدا أبا ذر، كذا وقع هذا المتن أيضا موقوفا، وكذا أخرجه الطبراني من طريق صفوان بن محرز ومن طريق قتادة عن الحسن عن جندب موقوفا، وزاد الحسن بعد قوله يهريقه " كأنما يذبح دجاجة، كلما تقدم لباب من أبواب الجنة حال بينه وبينه " ووقع مرفوعا عند الطبراني أيضا من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب ولفظه: "تعلمون أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحولن بين أحدكم وبين الجنة وهو يراها ملء كف دم من مسلم أهراقه بغير حله " وهذا لو لم يرد مصرحا برفعه لكان في حكم المرفوع لأنه لا يقال بالرأي، وهو وعيد شديد لقتل المسلم بغير حق. قال الكرماني: في معنى قوله: "ملء كف من دم " هو عبارة عن مقدار دم إنسان واحد، كذا قال ومن أين هذا الحصر؟ والمتبادر أن ذكر ملء الكف كالمثال وإلا فلو كان دون ذلك لكان الحكم كذلك. وعند الطبراني من حديث الأعمش عن أبي تميمة " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحولن بين أحدكم وبين الجنة " فذكر نحو رواية الجريري وزاد في آخره: "قال فبكى القوم، فقال جندب: لم أر كاليوم قط قوما أحق بالنجاة من هؤلاء إن كانوا صادقين " قلت: ولعل هذا هو السر في تصديره كلامه بحديث: "من سمع " وكأنه تفرس فيهم ذلك، ولهذا قال: "إن كانوا صادقين " ولقد صدقت فراسته فإنهم لما خرجوا بذلوا السيف في المسلمين وقتلوا الرجال والأطفال وعظم البلاء بهم، كما تقدمت إليه الإشارة في " كتاب المحاربين " قال ابن بطال: المشاقة في اللغة مشتقة من الشقاق وهو الخلاف، ومنه قوله تعالى :{ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى} والمراد بالحديث النهي عن القول القبيح في المؤمنين وكشف مساويهم وعيوبهم وترك مخالفة سبيل المؤمنين ولزوم جماعتهم والنهي عن إدخال المشقة عليهم والإضرار بهم، قال صاحب العين: شق الأمر عليك مشقة أضر بك انتهى وظاهره أنه جعل المشقة والمشاقة بمعنى واحد، وليس كذلك فقد جوز الخطابي في هذا أن تكون المشقة من الإضرار فيحمل الناس على ما يشق عليهم، وأن تكون من الشقاق وهو الخلاف ومفارقة الجماعة وهو أن يكون في شق أي ناحية عن الجماعة، ورجح الداودي الثاني، ومن الأول قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه " أخرجه مسلم، ووقع لغير أبي ذر في آخر هذا الحديث. قلت: لأبي عبد الله من يقول سمعت رسول الله

(13/130)


صلى الله عليه وسلم جندب؟ قال: نعم جندب انتهى. وأبو عبد الله المذكور هو المصنف، والسائل له الفربري، وقد خلت رواية النسفي عن ذلك. وقد سيق من الطرق التي أوردتها ما يصرح بأن جندبا هو القائل، وليس فيمن سمى في هذه القصة أحد من الصحابة غيره.

(13/131)


10 - باب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِي الطَّرِيقِ
وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الطَّرِيقِ وَقَضَى الشَّعْبِيُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ
7153 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ وَلاَ صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ
قوله: "باب القضاء والفتيا في الطريق" كذا سوى بينهما، والأثران المذكوران في الترجمة صريحان فيما يتعلق بالقضاء، والحديث المرفوع يؤخذ منه جواز الفتيا فيلحق به الحكم. قوله: "وقضى يحيى بن يعمر" بفتح الميم هو التابعي الجليل المشهور، وكان من أهل البصرة فانتقل إلى مرو بأمر الحجاج فولى قضاء مرو لقتيبة بن مسلم، وكان من أهل الفصاحة والورع، قال الحاكم: قضى في أكثر مدن خراسان، وكان إذا تحول إلى بلد استخلف في التي انتقل منها. قوله: "في الطريق" وصله محمد بن سعد في الطبقات عن شبابة عن موسى بن يسار قال: رأيت يحيى ابن يعمر على القضاء بمرو فربما رأيته يقضي في السوق وفي الطريق، وربما جاءه الخصمان وهو على حمار فيقضي بينهما. وأخرج البخاري في التاريخ من طريق حميد بن أبي حكيم أنه رأى يحيى بن يعمر يقضي في الطريق. قوله: "وقضى الشعبي على باب داره" قال ابن سعد في الطبقات أخبرنا أبو نعيم حدثنا أبو إسرائيل رأيت الشعبي يقضي عند باب الفيل بالكوفة. وأخرج الكرابيسي في القضاء من وجه آخر عن الشعبي أن عليا قضى في السوق. وأخرج من طريق القاسم بن عبد الرحمن أنه مر على قوم وهو على راحلته فتظلموا من كرى لهم فنزل فقضى بينهم ثم ركب فمضى إلى منزله. حديث سالم بن أبي الجعد عن أنس في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة، وقد تقدم من وجه آخر عن سالم في " كتاب الأدب " مشروحا، وقوله هنا " فلقينا رجل عند سدة المسجد " السدة بضم السين وتشديد الدال المهملتين هي باب الدار " وقيل لإسماعيل بن عبد الرحمن: السدي " لأنه كان يبيع المقانع عند سدة مسجد الكوفة وهي ما يبقى من الطاق المسدود، وقيل هي المظلة على الباب: "لوقاية المطر والشمس " وقيل هي الباب نفسه وقيل عتبته وقيل الساحة أمام الباب. وقوله: "ما أعددت لها " كذا لأبي، ذر، ولغيره: "عددت " وهو بالتشديد مثل {جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} أي هيأه، وقوله: "استكان " أي خضع وهو استفعل من السكون الدال على الخضوع. قال ابن التين: لعل سبب سؤال الرجل عن الساعة إشفاقا مما يكون فيها، ولو سأل استعجالا لدخل في قوله تعالى :{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} وقوله: "كبير عمل " بالموحدة للأكثر وبالمثلثة لبعضهم؛ قال ابن بطال: في حديث أنس جواز سكوت العالم عن جواب السائل والمستفتي إذا كانت المسألة لا تعرف، أو كانت

(13/131)


مما لا حاجة بالناس إليها، أو كانت مما يخشى منها الفتنة. أو سوء التأويل. ونقل عن المهلب الفتيا في الطريق وعلى الدابة، ونحو ذلك من التواضع، فإن كانت لضعيف فهو محمود وإن كانت لرجل من أهل الدنيا أو لمن يخشى لسانه فهو مكروه. قلت: والمثال الثاني ليس بجيد فقد يترتب على المسئول من ذلك ضرر فيجيب ليأمن شره فيكون هذه الحالة محمودا قال: واختلف في القضاء سائرا أو ماشيا فقال أشهب: لا بأس به إذا لم يشغله عن الفهم. وقال سحنون: لا ينبغي. وقال ابن حبيب: لا بأس بما كان يسيرا، وأما الابتداء بالنظر ونحوه فلا. قال ابن بطال: وهو حسن. وقول أشهب أشبه بالدليل. وقال ابن التين: لا يجوز الحكم في الطريق فيما يكون غامضا كذا أطلق والأشبه التفصيل. وقال ابن المنير: لا تصح حجة من منع الكلام في العلم في الطريق، وأما الحكاية التي تحكى عن مالك في تعزيره الحاكم الذي سأله في الطريق ثم حدثه فكان يقول: وددت لو زادني سياطا وزادني تحديثا، فلا يصح. ثم قال: ويحتمل أن يفرق بين حالة النبي صلى الله عليه وسلم وحالة غيره، فإن غيره في مظنة أن يتشاغل بلغو الطرقات وقد تقدم في " كتاب العلم " ترجمة الفتيا على الدابة، ووقع في حديث جابر الطويل في حجة الوداع عند مسلم: "وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ليراه الناس وليشرف لهم ليسألوه " والأحاديث في سؤال الصحابة وهو سائر ماشيا وراكبا كثيرة.

(13/132)


11 - بَاب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ
7154 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ تَعْرِفِينَ فُلاَنَةَ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهَا وَهِيَ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَقَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِي قَالَ فَجَاوَزَهَا وَمَضَى فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ فَقَالَ مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا عَرَفْتُهُ قَالَ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ
قوله "باب ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن له بواب"ذكر فيه حديث أنس في قصة المرأة التي جاءت تعتذر عن قولها " إليك عني " لما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم - ووجدها تبكي عند قبر - بالصبر، ففي الحديث: "فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا". قوله: "إن الصبر عند أول صدمة" في رواية الكشميهني هنا " إن الصبر عند الصدمة الأولى " وقد تقدم شرحه مستوفى في " باب زيارة القبور " من " كتاب الجنائز " وأن المرأة لم تسم، وأن المقبور كان ولدها ولم يسم أيضا، وأن الذي ذكر لها أن الذي خاطبها هو النبي صلى الله عليه وسلم هو الفضل بن العباس. ووقع هنا أن أنس بن مالك قال لامرأة من أهله: هل تعرفين فلانة، يعني صاحبة هذه القصة، ولم أعرف اسم المرأة التي من أهل أنس أيضا، وقولها " إليك عني " أي كف نفسك ودعني، وقولها " فإنك خلو " بكسر المعجمة وسكون اللام أي خال من همي قال المهلب: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بواب راتب، يعني فلا يرد ما تقدم في المناقب من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على القف، قال: فالجمع بينهما أنه إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد لشيء من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطال الحاجة إليه. وقال الطبري: دل حديث عمر حين استأذن له الأسود

(13/132)


- يعني في قصة حلفه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا كما تقدم في النكاح - أنه صلى الله عليه وسلم كان في وقت خلوته بنفسه يتخذ بوابا، ولولا ذلك لاستأذن عمر لنفسه ولم يحتج إلى قوله: "يا رباح استأذن لي". قلت: ويحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون وجد عليه بسبب ابنته فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلما أذن له اطمأن وتبسط في القول كما تقدم بيانه. وقال الكرماني ملخصا لما تقدم: معني قوله: "لم يجد عليه بوابا " أنه لم يكن له بواب راتب، أو في حجرته التي كانت مسكنا له، أو لم يكن البواب بتعيينه بل باشرا ذلك بأنفسهما، يعني أبا موسى ورباحا. قلت: الأول كاف، وفي الثاني نظر لأنه إذا انتفى في الحجرة مع كونها مظنة الخلوة فانتفاؤه في غيرها أولى، وإن أراد إثبات البواب في الحجرة دون غيرها كان بخلاف حديث الباب، فإن المرأة إنما جاءت إليه وهو في منزل سكنه فلم تجد عليه بوابا، وفي الثالث أيضا نظر لأنه على تقدير أنهما فعلا ذلك من قبل أنفسهما بغير أمره لكن تقريره لهما على ذلك يفيد مشروعيته، فيمكن أن يؤخذ منه الجواز مطلقا، ويمكن أن يقيد بالحاجة وهو الأولى وقد اختلف في مشروعية الحجاب للحكام فقال الشافعي وجماعة: ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبا، وذهب آخرون إلى جوازه، وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم. وقال آخرون: بل يستحب ذلك حينئذ ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل ويدفع الشرير، ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي أحدثه بعض القضاة من شدة الحجاب وإدخال بطائق الخصوم لم يكن من فعل السلف انتهى. فأما اتخاذ الحاجب فقد ثبت في قصة عمر في منازعة العباس وعلى أنه كان له حاجب يقال له يرفا ومضى ذلك في فرض الخمس واضحا. ومنهم من قيد جوازه بغير وقت جلوسه للناس لفصل الأحكام. ومنهم من عمم الجواز كما مضى. وأما البطائق فقال ابن التين: إن كان مراده البطائق التي فيها الإخبار بما جرى فصحيح، يعني أنه حادث قال: وأما البطائق التي تكتب للسبق ليبدأ بالنظر خصومة من سبق فهو من العدل في الحكم. وقال غيره: وظيفة البواب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال من حضر ولا سيما من الأعيان " لاحتمال أن يجيء مخاصما والحاكم يظن أنه جاء زائرا فيعطيه حقه من الإكرام الذي لا يجوز لمن يجيء مخاصما " وإيصال الخبر للحاكم بذلك إما بالمشافهة وإما بالمكاتبة ويكره دوام الاحتجاب وقد يحرم فقد أخرج أبو داود والترمذي بسند جيد عن أبي مريم الأسدي أنه قال لمعاوية " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولاه الله من أمر الناس شيئا فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عن حاجته يوم القيامة " وفي هذا الحديث وعيد شديد لمن كان حاكما بين الناس فاحتجب عنهم لغير عذر، لما في ذلك من تأخير إيصال الحقوق أو تضييعها. واتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الأسبق فالأسبق والمسافر على المقيم ولا سيما إن خشي فوات الرفقة، وأن من اتخذ بوابا أو حاجبا أن يتخذه ثقة عفيفا أمينا عارفا حسن الأخلاق غارفا بمقادير الناس.

(13/133)


12 - باب الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الإِمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ
7155 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الذُّهْلِيُّ حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِة مِنْ الأَمِيرِ"

(13/133)


7156 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ
7157 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ مَا لِهَذَا قَالَ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ قَالَ لاَ أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الذي فوقه" أي الذي ولاه من غير احتياج إلى استئذانه في خصوص ذلك. قوله: "حدثنا محمد بن خالد" قال الحاكم والكلاباذي: أخرج البخاري عن محمد بن يحيى الذهلي فلم يصرح به وإنما يقول: "حدثنا محمد " وتارة " محمد بن عبد الله " فينسبه لجده وتارة " حدثنا محمد بن خالد " فكأنه نسبه إلى جد أبيه لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس. قلت: ويؤيده أنه وقع منسوبا في حديث آخر أخرجه عند الأكثر في الطب " عن محمد بن خالد حدثنا محمد بن وهب بن عطية " فوقع في رواية الأصيلي: "حدثنا محمد بن خالد الذهلي " وكذا هو في نسخة الصغاني. وأخرج ابن الجارود الحديث المذكور عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن وهب المذكور. وقال خلف في " الأطراف ": هو محمد بن خالد بن جبلة الرافقي، وتعقبه ابن عساكر فقال: عندي أنه الذهلي. وقال المزي في " التهذيب ": قول خلف إنه الرافقي ليس بشيء. قلت: قد ذكر أبو أحمد بن عدي في شيوخ البخاري محمد بن خالد ابن جبلة، لكن عرفه بروايته عنه عن عبيد الله بن موسى، والحديث الذي أشار إليه وقع في التوحيد لكن قال فيه: "حدثنا محمد بن خالد " فقط ولم ينسبه لجده جبلة، وهو بفتح الجيم والموحدة. ولا لبلده الرافقة وهي بفاء ثم قاف. وقد ذكر الدار قطني أيضا في شيوخ البخاري محمد بن خالد الرافقي. وأخرج النسائي عنه فنسبه لجده فقال أخبرنا محمد بن جبلة فقال المزي في ترجمته هو محمد بن خالد بن جبلة الرافقي وقد أخرج البخاري عن محمد بن خالد عن محمد بن موسى بن أعين حديثا فقال المزي في " التهذيب ": قيل هو الرافقي، وقيل هو الذهلي وهو أشبه وسقط محمد بن خالد من هذا السند من أطراف أبي مسعود فقال: "خ" في الأحكام عن محمد بن عبد الله الأنصاري نفسه عن أبيه، قال المزي في " الأطراف ": كذا قال أبو مسعود، يعني والصواب ما وقع في جميع النسخ أن بين البخاري وبين الأنصاري في هذا الحديث واسطة وهو محمد بن خالد المذكور، وبه جزم خلف في " الأطراف " أيضا كما تقدم والله أعلم. قلت: ويؤيد كونه عن الذهلي أن الترمذي أخرجه في المناقب عن محمد بن يحيى وهو الذهلي به.قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري" هكذا للأكثر. وفي رواية أبي زيد المروزي " حدثنا الأنصاري محمد " فقدم النسبة على الاسم ولم يسم أباه. قوله: "حدثني أبي" في رواية أبي زيد " حدثنا " وهو عبد الله بن المثني بن عبد الله بن أنس، وثمامة شيخه هو عم أبيه وقد أخرج البخاري عن الأنصاري بلا واسطة عدة أحاديث في الزكاة والقصاص وغيرهما، وروي عنه بواسطة في عدة في الاستسقاء وفي بدء الخلق وفي شهود الملائكة بدرا وغيرها. قوله: "إن قيس بن سعد" زاد في رواية المروزي " ابن عبادة " وهو الأنصاري الخزرجي الذي كان

(13/134)


والده رئيس الخزرج. وصنيع الترمذي يوهم أنه قيس بن سعد بن معاذ، فإنه أخرج حديث الباب في مناقب سعد بن معاذ فلا يغتر بذلك. قوله: "كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم" قال الكرماني: فائدة تكرار لفظ الكون إرادة بيان الدوام والاستمرار انتهى. وقد وقع في رواية الترمذي وابن حبان والإسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم من طرق عن الأنصاري بلفظ: "كان قيس بن سعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم: "فظهر أن ذلك من تصرف الرواة. قوله: "بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير" زاد الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن مرزوق عن الأنصاري " لما ينفذ من أموره " وهذه الزيادة مدرجة من كلام الأنصاري، بين ذلك الترمذي، فإنه أخرج الحديث عن محمد بن مرزوق إلى قوله: "الأمير " ثم قال: "قال الأنصاري لما يلي من أموره " وقد خلت سائر الروايات عنها، وقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث: "احتراز المصطفى من المشركين في مجلسه إذا دخلوا عليه " وهذا يدل على أنه فهم من الحديث أن ذلك وقع لقيس بن سعد على سبيل الوظيفة الراتبة، وهو الذي فهمه الأنصاري راوي الحديث؛ لكن يعكر عليه ما زاده الإسماعيلي فقال حدثنا الهيثم بن خلف عن محمد بن المثني عن الأنصاري حدثني أبي عن ثمامة. قال الأنصاري: ولا أعلمه إلا عن أنس قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم كان قيس بن سعد في مقدمته بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم في قيس أن يصرفه من الموضع الذي وضعه فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك " ثم أخرجه الإسماعيلي عن أبي يعلى ومحمد بن أبي سويد جميعا عن محمد بن المثني عن الأنصاري بمثل لفظ محمد بن مرزوق بدون الزيادة التي في آخره، قال: ولم يشك في كونه عن أنس. قلت: وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق بشر بن آدم ابن بنت السمان عن الأنصاري لكن لم ينفرد الهيثم ولا شيخه محمد بن المثني بالزيادة المذكورة، فقد أخرجه ابن منده في " المعرفة " عن محمد بن عيسى قال: حدثنا أبو حاتم الرازي عن الأنصاري بطوله، فكأن القدر المحقق وصله من الحديث هو الذي اقتصر عليه البخاري، وأكثر من أخرج الحديث، وأما الزيادة فكان الأنصاري يتردد في وصلها، وعلى تقدير ثبوتها فلم يقع ذلك لقيس بن سعد إلا في تلك المرة ولم يستمر مع ذلك فيها. والشرطة بضم المعجمة والراء والنسبة إليها شرطي بضمتين وقد تفتح الراء فيهما هم أعوان الأمير، والمراد بصاحب الشرطة كبيرهم، فقيل سموا بذلك لأنهم رذالة الجند، ومنه في حديث الزكاة " ولا الشرط اللئيمة " أي رديء المال، وقيل لأنهم الأشداء الأقوياء من الجند، منه في حديث الملاحم " وتشترط شرطة للموت " أي متعاقدون على أن لا يفروا ولو ماتوا. قال الأزهري: شرط كل شيء خياره ومنه الشرط لأنهم نخبة الجند. وقيل هم أول طائفة تتقدم الجيش وتشهد الوقعة، وقيل سموا شرطا لأن لهم علامات يعرفون بها من هيئة وملبس وهو اختيار الأصمعي، وقيل لأنهم أعدوا أنفسهم لذلك يقال أشرط فلان نفسه لأمر كذا إذا أعدها قاله أبو عبيد، وقيل مأخوذ من الشريط وهو الحبل المبرم لما فيه من الشدة. وقد استشكلت مطابقة الحديث للترجمة فأشار الكرماني إلى أنها تؤخذ من قوله: "دون الحاكم " لأن معناه عند، وهذا جيد إن ساعدته اللغة، وعلى هذا فكأن قيسا كان من وظيفته أن يفعل ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بأمره سواء كان خاصا أم عاما. قال الكرماني: ويحتمل أن تكون " دون " بمعنى " غير " قال: وهو الذي يحتمله الحديث الثاني لا غير. قلت: فيلزم أن يكون استعمل في الترجمة " دون " في معنيين. وفي الحديث تشبيه ما مضى بما حدت بعده، لأن صاحب الشرطة لم يكن موجودا في العهد النبوي عند أحد من العمال " وإنما حدث في دولة بني أمية فأراد أنس تقريب

(13/135)


حال قيس بن سعد عند السامعين فشبهه بما يعهدونه". قوله: "عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وأتبعه بمعاذ" هذه قطعة من حديث طويل تقدم في استتابة المرتدين بهذا السند وأوله " أقبلت ومعي رجلان من الأشعريين " الحديث، وفيه بعد قوله لا نستعمل على عملنا من أراده " ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، ثم أتبعه معاذ بن جبل " وفيه قصة اليهودي الذي أسلم ثم ارتد، وهي التي اقتصر عليها هنا بعد هذا. قوله: "محبوب" بمهملة وموحدتين ابن الحسن بن هلال، بصري واسمه محمد ومحبوب لقب له وهو به أشهر، وهو مختلف الاحتجاج به، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وهو في حكم المتابعة لأنه تقدم في استتابة المرتدين من وجه آخر عن حميد بن هلال. قوله: "حدثنا خالد" هو الحذاء. قوله: "أن رجلا أسلم. ثم تهود" قد تقدم شرحه هناك مستوفى. قوله: "لا أجلس حتى أقتله قضاء الله ورسوله" قد تقدم هناك " فأمر به فقتل " وبذلك يتم مراد الترجمة والرد على من زعم أن الحدود لا يقيمها عمال البلاد إلا بعد مشاورة الإمام الذي ولاهم. قال ابن بطال: اختلف العلماء في هذا الباب فذهب الكوفيون إلى أن القاضي حكمه حكم الوكيل لا يطلق يده إلا فيما أذن له فيه، وحكمه عند غيرهم حكم الوصي له التصرف في كل شيء ويطلق يده على النظر في جميع الأشياء إلا ما استثنى. ونقل الطحاوي عنهم أن الحدود لا يقيمها إلا أمراء الأمصار ولا يقيمها عامل السواد ولا نحوه. ونقل ابن القاسم " لا تقام الحدود في المياه بل تجلب إلى الأمصار، ولا يقام القصاص في القتل في مصر كلها إلا بالفسطاط، يعني لكونها منزل متولي مصر " قال: أو يكتب إلى والي الفسطاط بذلك أي يستأذنه. وقال أشهب: بل من فوض له الوالي ذلك من عمال المياه جاز له أن يفعله. وعن الشافعي نحوه. قال ابن بطال: والحجة في الجواز حديث معاذ فإنه قتل المرتد دون أن يرفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(13/136)


13 - باب هَلْ يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ يُفْتِي وَهُوَ غَضْبَانُ ؟
7158 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ بِأَنْ لاَ تَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ
7159 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لاَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ
7160 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ,

(13/136)


فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا
قوله: "باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان" في رواية الكشميهني: "الحاكم " ذكر فيه ثلاث أحاديث قوله: "كتب أبو بكرة" يعني والد عبد الرحمن الراوي المذكور. قوله: "إلى ابنه" كذا وقع هنا غير مسمى، ووقع في أطراف المزي " إلى ابنه عبيد الله " وقد سمى في رواية مسلم ولكن بغير هذا اللفظ أخرجه من طريق أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن قال: "كتب أبي وكتبت له إلى عبيد الله بن أبي بكرة " ووقع في العمدة " كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبيد الله وقد سمى إلخ " وهو موافق لسياق مسلم إلا أنه زاد لفظ: "ابنه " قيل معناه كتب أبو بكرة بنفسه مرة وأمر ولده عبد الرحمن أن يكتب لأخيه فكتب له مرة أخرى. قلت: ولا يتعين ذلك، بل الذي يظهر أن قوله: "كتب أبي " أي أمر بالكتابة، وقوله: "وكتبت له " أي باشرت الكتابة التي أمر بها، والأصل عدم التعدد، ويؤيده قوله في المتن المكتوب " إني سمعت " فإن هذه العبارة لأبي بكرة لا لابنه عبد الرحمن، فإنه لا صحبة له وهو أول مولود ولد بالبصرة كما تقدم في الكلام على قول أبي بكرة " لو دخلوا على ما بهشت لهم بقصبة". قوله: "وكان بسجستان" في رواية مسلم: "وهو قاض بسجستان " وهي جملة حالية وسجستان بكسر المهملة والجيم على الصحيح بعدهما مثناة ساكنة وهي إلى جهة الهند بينها وبين كرمان مائة فرسخ منها أربعون فرسخا مفازة ليس فيها ماء وينسب إليها سجستاني وسجزتي بزاي بدل السين الثانية والتاء وهو على غير قياس، وسجستان لا تصرف للعلمية والعجمة أو زيادة الألف والنون، قال ابن سعد في الطبقات: كان زياد في ولايته على العراق قرب أولاد أخيه لأمه أبي بكرة وشرفهم وأقطعهم وولى عبيد الله بن أبي بكر سجستان، قال ومات أبو بكرة في ولاية زياد. قوله: "أن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان" في رواية مسلم: "أن لا تحكم". قوله: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" في رواية مسلم: "لا يحكم أحد " والباقي سواء. وفي رواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير بسنده " لا يقضي القاضي أو لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان " ولم يذكر القصة. والحكم بفتحتين هو الحاكم، وقد يطلق على القيم بما يسند إليه. قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار. وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه قال: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر، وهو قياس مظنة على مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره. وقد أخرج البيهقي بسند ضيف عن أبي سعيد رفعه: "لا يقض القاضي إلا وهو شبعان ريان " وقول الشيخ " وهو قياس مظنة على مظنة " صحيح، وهو استنباط معنى دل عليه النص فإنه لما نهى عن الحكم حالة الغضب فهم منه أن الحكم لا يكون إلا في حالة استقامة الفكر، فكانت علة النهي المعنى المشترك وهو تغير الفكر، والوصف بالغضب يسمى علة بمعنى أنه مشتمل عليه فألحق به ما في معناه كالجائع " قال الشافعي

(13/137)


في " الأم ": أكره للحاكم أن يحكم وهو جائع أو تعب أو مشغول القلب فإن ذلك يغير القلب". "فرع": لو خالف فحكم في حال الغضب صح إن صادف الحق مع الكراهة، هذا قول الجمهور، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بشراج الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير، لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره لعصمته صلى الله عليه وسلم فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضا. قال النووي في حديث اللقطة: "فيه جواز الفتوى في حال الغضب " وكذلك الحكم وينفذ ولكنه مع الكراهة في حقنا ولا يكره في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف على غيره، وأبعد من قال: يحمل على أنه تكلم في الحكم قبل وصوله في الغضب إلى تغير الفكر، ويؤخذ من الإطلاق أنه لا فرق بين مراتب الغضب ولا أسبابه، وكذا أطلقه الجمهور، وفصل إمام الحرمين والبغوي فقيدا الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله، واستغرب الروياني هذا التفصيل واستبعده غيره لمخالفته لظواهر الحديث وللمعنى الذي لأجله نهى عن الحكم حال الغضب. وقال بعض الحنابلة لا ينفذ الحكم في حالة الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقضي الفساد " وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف، وهو تفصيل معتبر " وقال ابن المنير: أدخل البخاري حدث أبي بكرة الدال على المنع ثم حديث أبي مسعود الدال على الجواز تنبيها منه على طريق الجمع بأن يجعل الجواز خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لوجود العصمة في حقه والأمن من التعدي، أو أن غضبه إنما كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع، وهو كما قيل في شهادة العدو إن كانت دنيوية ردت وإن كانت دينية لم ترد قاله ابن دقيق العبد وغيره. وفي الحديث أن الكتابة بالحديث كالسماع من الشيخ في وجوب العمل، وأما في الرواية فمنع منها قوم إذا تجردت عن الإجازة، والمشهور الجواز. نعم الصحيح عند الأداء أن لا يطلق الإخبار بل يقول كتب إلى أو كاتبني أو أخبرني في كتابه، وفيه ذكر الحكم مع دليله في التعليم، ويجيء مثله في الفتوى. وفيه شفقة الأب على ولده وإعلامه بما ينفعه وتحذيره من الوقوع فيما ينكر. وفيه نشر العلم للعمل به والاقتداء وإن لم يسأل العالم عنه. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "جاء رجل" تقدم في " باب تخفيف الإمام " من أبواب الإمامة أنه لم يسم، ووهم من قال إنه حزم بن كعب وإن المراد هنا بفلان هو معاذ بن جبل، وتقدم شرح الحديث هناك مستوفى، وتقدم القول في الغضب في " باب الغضب في الموعظة " من " كتاب العلم". قوله: "يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "فتغيظ فيه" وفي رواية الكشميهني: "عليه " والضمير في قوله: "فيه: "يعود للفعل المذكور وهو الطلاق الموصوف، وفي " عليه " للفاعل وهو ابن عمر، وقد تقدم الحديث مشروحا في " كتاب الطلاق"

(13/138)


14 - باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ
كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِهِنْدٍ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا
7161 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ

(13/138)


يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لَهَا لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ
قوله: "باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة" أشار إلى قول أبي حنيفة ومن وافقه. أن للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود لأنها مبنية على المسامحة، وله في حقوق الناس تفصيل، قال: إن كان ما علمه قبل ولايته لم يحكم لأنه بمنزلة ما سمعه من الشهود وهو غير حاكم، بخلاف ما علمه في ولايته. وأما قوله: "إذا لم يخف الظنون والتهمة " فقيد به قول من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه لأن الذين منعوا ذلك مطلقا اعتلوا بأنه غير معصوم فيجوز أن تلحقه التهمة إذا قضى بعلمه أن يكون حكم لصديقه على عدوه فحسمت المادة فجعل المصنف محل الجواز ما إذا لم يخف الحاكم الظنون والتهمة، وأشار إلى أنه يلزم من المنع من أجل حسم المادة أن يسمع مثلا رجلا طلق امرأته طلاقا بائنا. ثم رفعته إليه فأنكر فإذا حلفه فحلف لزم أن يديمه على فرج حرام فيفسق به فلم يكن له بد من أن لا يقبل قوله ويحكم عليه بعلمه، فإن خشي التهمة فله أن يدفعه ويقيم شهادته عليه عند حاكم آخر، وسيأتي مزيد لذلك في " باب الشهادة تكون عند الحاكم " وقال الكرابيسي: الذي عندي أن شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهورا بالصلاح والعفاف والصدق ولم يعرف بكبير زلة ولم يؤخذ عليه خربة بحديث تكون أسباب التقى فيه موجودة وأسباب التهم فيه مفقودة فهذا الذي يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقا. قلت: وكأن البخاري أخذ ذلك عنه فإنه من مشايخه. قوله: "كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لهند. خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" هذا اللفظ وصله المؤلف في النفقات من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وقد ساق القصة في هذا الباب بغير هذا اللفظ من طريق الزهري عن عروة وقوله: "وذلك إذا كان أمرا مشهورا " هذا تفسير قول من قال يقضي بعلمه مطلقا، ويحتمل أن يكون المراد بالمشهور الشيء المأمور بأخذه. قوله: "ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلخ" تقدم في السيرة النبوية في المناقب والكلام عليه، وتقدم شرح ما تضمنه الحديث المذكور في " كتاب النفقات " وفيه بيان استدلال من استدل به على جواز حكم الحاكم بعلمه ورد قول المستدل به على الحكم على الغائب. قال ابن بطال: احتج من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه بحديث الباب فإنه صلى الله عليه وسلم قضى لها بوجوب النفقة لها ولولدها لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان ولم يلتمس على ذلك بينة، ومن حيث النظر أن علمه أقوى من الشهادة لأنه يتيقن ما علمه، والشهادة قد تكون كذبا، وحجة من منع قوله حديث أم سلمة " إنما أقضي له بما أسمع " ولم يقل بما أعلم. وقال للحضرمي " شاهداك أو يمينه " وفيه: "وليس لك إلا ذلك " ولما يخشى من قضاة السوء أن يحكم أحدهم بما شاء ويحيل على علمه احتج من منع مطلقا بالتهمة، واحتج من فصل بأن الذي علمه الحاكم قبل القضاء كان على طريق الشهادة فلو حكم به لحكم بشهادة نفسه فصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضا فيكون كالحاكم يشاهد واحد، وقد تقدم له تعليل آخر وأما في حال القضاء ففي حديث أم سلمة " فإنما أقضي له على نحو ما أسمع " ولم يفرق بين سماعه من شاهد أو مدع، وسيأتي تفصيل المذاهب في الحكم بالعلم في " باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء"

(13/139)


وقال ابن المنير: لم يتعرض ابن بطال المقصود الباب، وذلك أن البخاري احتج لجواز الحكم بالعلم بقصة هند، فكان ينبغي للشارح أن يتعقب ذلك بأن لا دليل فيه لأنه خرج مخرج الفتيا وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة إنهاء المستفتي، فكأنه قال: إن ثبت أنه يمنعك حقك جاز لك استيفاؤه مع الإمكان. قال: وقد أجاب بعضهم بأن الأغلب من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الحكم والإلزام، فيجب تنزيل لفظه: "عليه " لكن يرد عليه أنه صلى الله عليه وسلم ما ذكر في قصة هند أنه يعلم صدقها، بل ظاهر الأمر أنه لم يسمع هذه القصة إلا منها فكيف يصح الاستدلال به على حكم الحاكم بعلمه؟. قلت: وما ادعى نفيه بعيد، فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالأخذ؛ واطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه فلا بد من سبق علم، ويؤيد اطلاعه على حالها من قبل أن تذكر ما ذكرت من المصاهرة، ولأنه قبل قولها إنها زوجة أبي سفيان بغير بينة واكتفي فيه بالعلم، ولأنه لو كانت فتيا لقال مثلا تأخذ، فلما أتي بصيغة الأمر بقوله: "خذي " دل على الحكم، وسيأتي لهذا مزيد في " باب القضاء على الغائب " ثم قال ابن المنير أيضا: لو كان حكما لاستدعى معرفة المحكوم به، والواقع أن المحكوم به غير معين، كذا قال والله أعلم.

(13/140)


15 - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ عَلَيْهِ
وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ وَالْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ ثُمَّ قَالَ إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِي الْجَارُودِ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَاضِي وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِيَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلاَلَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيَّ وَعَامِرَ بْنَ عَبِيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ إِنَّهُ زُورٌ قِيلَ لَهُ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِي عِنْدَ فُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلاَبَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا لِأَنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ وَإِلاَ فَلاَ تَشْهَدْ

(13/140)


7162 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قَالُوا: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا, فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"
قوله: "باب الشهادة على الخط المختوم" كذا للأكثر بمعجمة ثم مثناة. وفي رواية الكشميهني: "المحكوم " بمهملة ثم كاف أي المحكوم به، وسقطت هذه اللفظة لابن بطال، ومراده هل تصح الشهادة على الخط أي بأنه خط فلان، وقيد بالمختوم لأنه أقرب إلى عدم التزوير على الخط. قوله: "وما يجوز من ذلك وما يضيق عليه" يريد أن القول بذلك لا يكون على التعميم إثباتا ونفيا، بل لا يمنع ذلك مطلقا فتضيع الحقوق، ولا يعمل بذلك مطلقا فلا يؤمن فيه التزوير فيكون جائزا بشروط. قوله: "وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي" يشير إلى الرد على من أجاز الشهادة على الخط ولم يجزها في " كتاب القاضي " و " كتاب الحاكم " وسيأتي بيان من قاله والبحث معه فيه. قوله: "وقال بعض الناس: كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود؛ ثم قال: إن كان القتل خطأ فهو جائز لأن هذا مال بزعمه، وإنما صار ما لا بعد أن ثبت القتل" قال ابن بطال: حجة البخاري على من قال ذلك من الحنفية واضحة لأنه إذا لم يجز الكتاب بالقتل فلا فرق بين الخطأ والعمد في أول الأمر، وإنما يصير مالا بعد الثبوت عند الحاكم، والعمد أيضا ربما آل إلى المال فاقتضى النظر التسوية. قوله: "وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود" في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني: "في الجارود " بجيم خفيفة وبعد الألف راء مضمومة وهو ابن المعلى ويقال ابن عمرو بن المعلي العبدي، ويقال كان اسمه بشرا والجارود لقبه، وكان الجارود المذكور قد أسلم وصحب ثم رجع إلى البحرين فكان بها، وله قصة مع قدامة بن مظعون عامل عمر على البحرين أخرجها عبد الرزاق من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة قال استعمل عمر قدامة ابن مظعون فقدم الجارود سيد عبد القيس على عمر فقال إن قدامة شرب فسكر فكتب عمر إلى قدامة في ذلك، فذكر القصة بطولها في قدوم قدامة وشهادة الجارود وأبي هريرة عليه، وفي احتجاج قدامة بآية المائدة وفي رد عمر عليه وجلده الحد وسندها صحيح، وقد تقدم في آخر الحدود، ونزول الجارود البصرة بعد ذلك واستشهد في خلافة عمر سنة عشرين. قوله: "وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت" وصله أبو بكر الخلال في " كتاب القصاص والديات من طريق عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق عن أبيه قال: "كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتابا أجاز فيه شهادة رجل على سن كسرت". قوله: "وقال إبراهيم: كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف الكتاب والخاتم" وصله ابن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عبيدة عن إبراهيم. قوله: "وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي" وصله أبو بكر بن أبي شيبة من طريق عيسى ابن أبي عزة قال: "كان عامر يعني الشعبي يجيز الكتاب المختوم يجيئه من القاضي " وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن الشعبي قال: "لا يشهد ولو عرف الكتاب والخاتم حتى يذكر " ويجمع بينهما بأن الأول إذا كان من القاضي إلى القاضي والثاني، في حق الشاهد. قوله: "ويروي عن ابن عمر نحوه" قلت: لم يقع لي هذا الأثر عن ابن عمر إلى الآن. قوله: "وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي" هو المعروف بالضال بضاد معجمة ولام ثقيلة، سمى بذلك لأنه ضل في طريق مكة، قاله عبد الغني بن سعيد المصري، ووثقه أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي، ومات سنة ثمانين ومائة، وكان معمرا

(13/141)


أدرك أبا رجاء العطاردي، وقد وصل أثره هذا وكيع في مصنفه عنه. قوله: "شهدت" أي حضرت "عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة" هو الليثي تابعي ثقة، وكان يزيد ابن هبيرة ولاه قضاء البصرة لما ولى إمارتها من قبل يزيد بن عبد الملك بن مروان، ذكر ذلك عمر بن شبة في أخبار البصرة وقال: إنه مات وهو على القضاء، وأرخه ابن حبان في الثقات سنة مائة فوهم، وذكر ابن سعد أنه كان قاضيا قبل الحسن ومات في خلافة عمر بن عبد العزيز، والصواب بعد الحسن، وقول عمر بن شبة هو المعتمد وأن ابن هبيرة هو الذي ولاه ومات على القضاء بعد ذلك بعد المائة بسنتين أو ثلاث، ويقال بل عاش إلى خلافة هشام بن عبد الملك فعزله خالد بن عبد الله القسري وولى ثمامة بن عبد الله بن أنس. قوله: "وإياس بن معاوية" بكسر الهمزة وتخفيف التحتانية هو المزني المعروف بالذكاء وكان قد ولى قضاء البصرة في خلافة عمر بن عبد العزيز ولاه عدي بن أرطاة عامل عمر عليها بعد امتناعه منه، وله في ذلك أخبار، منها ما ذكره الكرابيسي في " أدب القضاء " قال: حدثنا عبيد الله بن عائشة حدثنا عبد الله بن عمر القيسي قال: قالوا لإياس لما امتنع من الولاية يا أبا واثلة اختر لنا، قال: لا أتقلد ذلك، قيل له لو وجدت رجلا ترضاه أكنت تشير به؟ قال: نعم، قيل وترضى له أن يلي إذا كان رضا؟ قال: نعم، قيل له فإنك خيار، رضا، فلم يزالوا به حتى ولى. قلت: ثم وقع بينهما فركب إياس إلى عمر بن عبد العزيز، فبادر عدي فولى الحسن البصري القضاء، فكتب عمر ينكر على عدي ما ذكره عنه إياس ويوفق صنعه في تولية الحسن القضاء، ذكر ذلك عمر بن شبة، ومات إياس سنة اثنتين وعشرين ومائة، وهو ثقة عند الجميع. قوله: "والحسن" هو ابن أبي الحسن البصري الإمام المشهور، وكان ولى قضاء البصرة مدة لطيفة ولاه عدي أميرها لما ذكرنا، ومات الحسن سنة عشر ومائة. قوله: "وثمامة بن عبد الله بن أنس" هو الراوي المشهور، وكان تابعيا ثقة، ناب في القضاء بالبصرة عن أبي بردة، ثم ولى قضاء البصرة أيضا في أوائل خلافة هشام بن عبد الملك ولاه خالد القسري سنة ست ومائة وعزله سنة عشر وقيل سنة تسع، وولى بلال بن أبي بردة، ومات ثمامة بعد ذلك. قوله: "وبلال بن أبي بردة" أي ابن أبي موسى الأشعري، وكان صديق خالد بن عبد الله القسري فولاه قضاء البصرة لما ولى إمرتها من قبل هشام بن عبد الملك، وضم إليه الشرطة، فكان أميرا قاضيا، ولم يزل قاضيا إلى أن قتله يوسف بن عمر الثقفي. لما ولى الإمرة بعد خالد، وعذب خالدا وعماله ومنهم بلال، وذلك في سنة عشرين ومائة، ويقال إنه مات في حبس يوسف، وقد أخرج له الترمذي حديثا واحدا، ولم يكن محمودا في أحكامه، ويقال إنه كان يقول أن الرجلين ليختصمان إلي فأجد أحدهما أخف على قلبي فاقضي له، ذكر ذلك أبو العباس المبرد في الكامل. قوله: "وعبد الله بن بريدة الأسلمي" هو التابعي المشهور، وكان ولى قضاء مرو بعد أخيه سليمان سنة خمس عشرة ومائة إلى أن مات وهو على قضائها سنة خمس عشرة ومائة، وذلك في ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان وهو أخو خالد القسري، وحديث عبد الله بن بريدة بن الخصيب هذا في الكتب الستة. قوله: "وعامر بن عبدة" هو بفتح الموحدة وقيل بسكونها ذكره ابن ماكولا بالوجهين، وقيل فيه أيضا عبيدة بكسر الموحدة وزيادة ياء، وجميع من في البخاري بالسكون إلا بجالة بن عبدة المقدم ذكره في " كتاب الجزية " فإنه بالتحريك، وعامر هو البجلي أبو إياس الكوفي ووثقه ابن معين وغيره، وهو من قدماء التابعين له رواية عن ابن مسعود، وروي عنه المسيب بن رافع وأبو إسحاق، وحديثه عند النسائي، وكان ولي القضاء بالكوفة مرة وعمر. قوله: "وعباد بن منصور" أي الناجي

(13/142)


بالنون والجيم يكني أبا سلمة بصري، قال أبو داود: ولي قضاء البصرة خمس مرات " وذكر عمر بن شبة أنه أول ما ولى سنة سبع وعشرين ولاه يزيد بن عمر بن هبيرة " فلما غزل وولى مسلم بن قتيبة عزله وولى معاوية بن عمرو، ثم استعفى فأعفاه مسلم، وأعاد عباد بن منصور، وكان عباد يرمي بالقدر ويدلس فضعفوه بسبب ذلك، ويقال إنه تغير، وحديثه في السنن الأربعة، وعلق له البخاري شيئا، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائة. قوله: "يجيزون كتب القضاة بغير محضر من الشهود إلخ" يعني قوله: "فالتمس المخرج " وهو بفتح الميم وسكون المعجمة وآخره جيم أطلب الخروج من عهدة ذلك إما بالقدح في البينة بما يقبل فتبطل الشهادة، وإما بما يدل على البراءة من المشهود به. قوله: "وأول من سأل علي " كتاب القاضي " البينة ابن أبي ليلى" هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة وإمامها، وليها في زمن يوسف بن عمر الثقفي في خلافة الوليد بن يزيد ومات سنة ثمان وأربعين ومائة وهو صدوق، اتفقوا على ضعف حديثه من قبل سوء حفظه. وقال الساجي: كان يمدح في قضائه، فإما في الحديث فليس بحجة. وقال أحمد: فقه ابن أبي ليلى أحب إلي من حديثه، وحديثه في السنن الأربعة، وأغفل المزي أن يعلم له في " التهذيب " علامة تعليق البخاري، كما أغفل أن يترجم لسوار بن عبد الله المذكور بعده أصلا مع أنه أعلم لكل من ذكره معاوية بن عبد الكريم هنا ممن لم يخرج له شيئا موصولا. قوله: "وسوار بن عبد الله" بفتح المهملة وتشديد الواو وهو العنبري نسبة إلى بني العنبر من بني تميم، قال ابن حبان في الثقات: كان فقيها: ولاه المنصور قضاء البصرة سنة ثمان وثلاثين ومائة فبقى على قضائها إلى أن مات في ذي القعدة سنة ست وخمسين، وحفيده سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله ولي قضاء الرصافة ببغداد والجانب الشرقي، وحديثه في السنن الثلاثة، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين. قوله: "وقال لنا أبو نعيم" هو الفضل بن دكين. قوله: "حدثنا عبيد الله" بالتصغير "ابن محرز" بضم الميم وسكون المهملة وكسر الراء بعدها زاي هو كوفي، ما رأيت له راويا غير أبي نعيم، وما له في البخاري سوى هذا الأثر، ولم يزد المزي في ترجمته على ما تضمنه هذا الأثر. قوله: "جئت بكتاب من موسى بن أنس قاضي البصرة" أي ابن مالك التابعي المشهور، وكان ولي قضاء البصرة في ولاية الحكم بن أيوب الثقفي، وهو ثقة حديثه في الكتب الستة. وقال ابن حبان في الثقات: مات بعد أخيه النضر بالبصرة، وكانت وفاة النضر قبل وفاة الحسن البصري سنة ثمان أو تسع ومائة. قوله: "فجئت به القاسم بن عبد الرحمن" أي ابن عبد الله بن مسعود المسعودي يكنى أبا عبد الرحمن. وقال العجلي: ثقة وكان على قضاء الكوفة زمن عمر بن عبد العزيز، " وكان لا يأخذ على القضاء أجرا، وكان ثقة صالحا " وهو تابعي. قال ابن المديني: لم يلق من الصحابة إلا جابر بن سمرة، ويقال إنه مات سنة ست عشرة ومائة. قوله: "فأجازه" بجيم وزاي أي أمضاه وعمل به. "تنبيه": وقع في المغني لابن قدامة: يشترط في قول أئمة الفتوى أن يشهد " بكتاب القاضي إلى القاضي " شاهدان عدلان ولا تكفي معرفة خط القاضي وختمه، وحكى عن الحسن وسوار والحسن العنبري أنهم قالوا: إذا كان يعرف خطه وختمه قبله، وهو قول أبي ثور. قلت: وهو خلاف ما نقله البخاري عن سوار أنه أول من سأل البينة، وينضم إلى من ذكرهم ابن قدامة سائر من ذكرهم البخاري من قضاة الأمصار من التابعين فمن بعدهم. قوله: "وكره الحسن" هو البصري، وأبو قلابة هو الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء.
قوله: "أن يشهد" بفتح أوله والفاعل محذوف أي الشاهد.
قوله: "على وصية حتى يعلم ما فيها" أما أثر الحسن فوصله الدارمي من رواية هشام بن حسان=

42.

 مجلد42. فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

= عنه قال: لا تشهد على وصية حتى تقرأ عليك، ولا 

 تشهد على من لا تعرف، وأخرجه سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عن الحسن نحوه. وأما أثر أبي قلابة فوصله ابن أبي شيبة ويعقوب بن سفيان جميعا من طريق حماد بن زيد عن أيوب قال: قال أبو قلابة في الرجل يقول اشهدوا على ما في هذه الصحيفة، قال: لا حتى يعلم ما فيها زاد يعقوب وقال: لعل فيها جورا. وفي هذه الزيادة بيان السبب في المنع المذكور. وقد وافق الداودي من المالكية هذا القول فقال: هذا هو الصواب أنه لا يشهد على وصية حتى يعرف ما فيها. وتعقبه ابن التين بأنها إذا كان فيها جور لم يمنع التحمل، لأن الحاكم قادر على رده إذا أوجب حكم الشرع رده، وما عداه يعمل به فليس خشية الجور فيها مانعا من التحمل، وإنما المانع الجهل بما يشهد به. قال: ووجه الجور أن كثيرا من الناس يرغب في إخفاء أمره لاحتمال أن لا يموت فيحتاط بالإشهاد ويكون حاله مستمرا على الإخفاء. قوله: "وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر إلخ" هذا طرف من حديث سهل بن أبي حثمة في قصة حويصة ومحيصة وقتل عبد الله بن سهل بخيبر؛ وقد تقدم شرحه مستوفى في الديات في " باب القسامة " ويأتي بهذا اللفظ في " باب كتابة الحاكم إلى عماله " بعد أحد وعشرين بابا. قوله: "وقال الزهري في الشهادة على المرأة من الستر" أي من ورائه. قوله: "إن عرفتها فاشهد" وصله أبو بكر بن أبي شيبة من طريق جعفر بن برقان عن الزهري بنحوه، ومقتضاه أنه لا يشترط أن يراها حالة الإشهاد بل يكفي أن يعرفها بأي طريق فرض، وفي ذلك خلاف أشير إليه في " كتاب الشهادات". قوله: "لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم" كان ذلك في سنة ست كما تقدم بيانه في شرح حديث أبي سفيان الطويل المذكور في بدء الوحي. قوله: "قالوا إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما" لم أعرف اسم القائل بعينه. قوله: "فاتخذ خاتما إلخ" تقدم شرحه مستوفى في أواخر اللباس، وجملة ما تضمنته هذه الترجمة بآثارها ثلاثة أحكام: الشهادة على الخط، " وكتاب القاضي إلى القاضي " والشهادة على الإقرار بما في الكتاب. وظاهر صنيع البخاري جواز جميع ذلك، فأما الحكم الأول فقال ابن بطال: اتفق العلماء على أن الشهادة لا تجوز للشاهد إذا رأى خطه إلا إذا تذكر تلك الشهادة، فإن كان لا يحفظها فلا يشهد، فإنه من شاء انتقش خاتما ومن شاء كتب كتابا، وقد فعل مثله في أيام عثمان في قصة مذكورة في سبب قتله، وقد قال الله تعالى :{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وأجاز مالك الشهادة على الخط، ونقل ابن شعبان عن ابن وهب أنه قال: لا آخذ بقول مالك في ذلك. وقال الطحاوي: خالف مالكا جميع الفقهاء في ذلك وعدوا قوله في ذلك شذوذا، لأن الخط قد يشبه الخط، وليست شهادة على قول منه ولا معاينة. وقال محمد بن الحارث: الشهادة على الخط خطأ، فقد قال مالك في رجل قال: سمعت فلانا يقول رأيت فلانا قتل فلانا أو طلق امرأته أو قذف: لا يشهد على شهادته إلا أن أشهده. قال: فالخط أبعد من هذا وأضعف، قال: والشهادة على الخط في الحقيقة استشهاد الموتى.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: لا يقضي في دهرنا بالشهادة على الخط، لأن الناس قد أحدثوا ضروبا من الفجور. وقد قال مالك: يحدث للناس أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور. وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضي ثم رأى مالك أن ذلك لا يجوز فهذه أقوال الجماعة من أئمة المالكية توافق الجمهور. وقال أبو علي الكرابيسي في " كتاب أدب القضاء " له أجاز الشهادة على الخط قوم لا نظر لهم، فإن الكتاب يشبهون الخط بالخط حتى يشكل ذلك على أعلمهم انتهى، وإذا كان هذا في ذلك العصر فكيف بمن جاء بعدهم وهم أكثر مسارعة إلى الشر ممن مضى وأدق نظرا فيه

(13/144)


وأكثر هجوما عليه، وأما الحكم الثاني فقال ابن بطال: اختلفوا في " كتب القضاة " فذهب الجمهور إلى الجواز، واستثنى الحنفية الحدود، وهو قول الشافعي، والذي احتج به البخاري على الحنفية قوي لأنه لم يصر مالا إلا بعد ثبوت القتل قال: وما ذكره عن القضاة من التابعين من إجازة ذلك حجتهم فيه ظاهرة من الحديث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الملوك ولم ينقل أنه أشهد أحدا على كتابه. قال: ثم أجمع فقهاء الأمصار على ما ذهب إليه سوار وابن أبي ليلى من اشتراط الشهود لما دخل الناس من الفساد فاحتيط للدماء والأموال. وقد روى عبد الله بن نافع عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتيم حتى أن القاضي ليكتب للرجل الكتاب، فما يزيد على ختمه فيعمل به. حتى اتهموا فصار لا يقبل إلا بشاهدين. وأما الحكم الثالث فقال ابن بطال: اختلفوا إذا أشهد القاضي شاهدين على ما كتبه ولم يقرأه عليهما ولا عرفهما بما فيه، فقال مالك: يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز لقوله تعالى :{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} قال: وحجة مالك أن الحاكم إذا أقر أنه كتابه فالغرض من الشهادة عليه أن يعلم القاضي المكتوب إليه أن هذا " كتاب القاضي " إليه، وقد يثبت عند القاضي من أمور الناس ما لا يجب أن يعلمه كل أحد كالوصية إذا ذكر الموصي ما فرط فيه مثلا. قال: وقد أجاز مالك أيضا أن يشهدا على الوصية المختومة وعلى الكتاب المطوي، ويقولان للحاكم نشهد على إقراره بما في هذا الكتاب، والحجة في ذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عماله من غير أن يقرأها على من حملها؛ وهي مشتملة على الأحكام والسنن. وقال الطحاوي: يستفاد من حديث أنس أن الكتاب إذا لم يكن مختوما فالحجة بما فيه قائمة لكونه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إليهم، وإنما اتخذ الخاتم لقولهم إنهم لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختوما، فدل على أن " كتاب القاضي " حجة مختوما كان أو غير مختوم. واختلف في الحكم بالخط المجرد كأن يرى القاضي خطه بالحكم فيطلب منه المحكوم له العمل به، فالأكثر ليس له أن يحكم حتى يتذكر الواقعة كما في الشاهد وهو قول الشافعي؛ وقيل: إن كان المكتوب في حرز الحاكم أو الشاهد منذ حكم فيه أو تحمل إلى أن طلب منه الحكم أو الشهادة جاز ولو لم يتذكر وإلا فلا، وقيل: إذا تيقن أنه خطه ساغ له الحكم والشهادة وإن لم يتذكر، والأوسط أعدل المذاهب وهو قول أبي يوسف ومحمد ورواية عن أحمد رجحها كثير من أتباعه، والأول قول مالك ورواية عن أحمد. قال ابن المنير: لم يتعرض الشارح لمقصود الباب لأن البخاري استدل على الخط بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الروم ولقائل أن يقول: إن مضمون " الكتاب " دعاؤهم إلى الإسلام وذلك أمر قد اشتهر لثبوت المعجزة والقطع بصدقه فيما دعا إليه، فلم يلزمهم بمجرد الخط فإنه عند القائل به إنما يفيد ظنا والإسلام لا يكتفي فيه بالظن إجماعا فدل على أن العلم حصل بمضمون الخط مقرونا بالتواتر السابق على الكتاب، فكان الكتاب كالتذكرة والتوكيد في الإنذار، مع أن حامل الكتاب قد يحتمل أن يكون اطلع على ما فيه وأمر بتبليغه. والحق أن العمدة على أمره المعلوم مع قرائن الحال المصاحبة لحامل الكتاب، ومسألة الشهادة على الخط مفروضة في الاكتفاء بمجرد الخط، قال: والفرق بين الشهادة على الخط وبين " كتاب القاضي إلى القاضي " في أن القائل بالأول أقل من القائل بالثاني تطرق الاحتمال في الأول وندوره في الثاني لبعد احتمال التزوير على القاضي ولا سيما حيث تمكن المراجعة، ولذلك شاع العمل به فيما بين القضاة ونوابهم والله أعلم.

(13/145)


16 - باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ ؟

(13/145)


وَقَالَ الْحَسَنُ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لاَ يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلاَ يَخْشَوْا النَّاسَ وَلاَ يَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ثُمَّ قَرَأَ {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ, إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . وَقَرَأَ {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا, وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} بِمَا اسْتُحْفِظُوا: اسْتُوْدِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ, فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ وَلَوْلاَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا, حَلِيمًا, عَفِيفًا, صَلِيبًا, عَالِمًا, سَئُولًا عَنْ الْعِلْمِ
قوله: "باب متى يستوجب الرجل القضاء" ؟ أي متى يستحق أن يكون قاضيا. قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في " كتاب آداب القضاء " له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، قارئا لكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله حافظا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف وأقوال فقهاء التابعين يعرف الصحيح من السقيم يتبع في النوازل الكتاب فإن لم يجد فالسنن فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به؛ ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه وبطنه وفوجه، فهما بكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم. وقال المهلب: لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك بل أن يراه الناس أهلا لذلك. وقال ابن حبيب عن مالك " لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا". قال ابن حبيب فإن لم يكن علم فعقل وورع، لأنه بالورع يقف وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده وإذا طلب العقل لم يجده. قال ابن العربي: واتفقوا على أنه لا يشترط أن يكون غنيا، والأصل قوله تعالى :{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} الآية. قال: والقاضي لا يكون في حكم الشرع إلا غنيا لأن غناه في بيت المال فإذا منع من بيت المال واحتاج كان تولية من يكون غنيا أولى من تولية من يكون فقيرا، لأنه يصير في مظنة من يتعرض لتناول ما لا يجوز تناوله قلت: وهذا قاله بالنسبة إلى الزمان الذي كان فيه ولم يدرك زمانه هذا الذي صار من يطلب القضاء فيه يصرح بأن سبب طلبه الاحتياج إلى ما يقوم بأوده، مع العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال. واتفقوا على اشتراط الذكورية في القاضي إلا عن

(13/146)


الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير، وحجة الجمهور الحديث الصحيح " ما أفلح قوم ولوا أمورهم امرأة " وقد تقدم؛ ولأن القاضي يحتاج إلى كمال الرأي ورأي المرأة ناقص ولا سيما في محافل الرجال. قوله: "وقال الحسن" هو البصري. قوله: "أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس" ولا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ثم قرأ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ - إلى - يَوْمَ الْحِسَابِ} وقرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ - إلى قوله - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قلت: فأراد من آية {يَا دَاوُدُ} قوله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وأراد من آية المائدة بقية ما ذكر وأطلق على هذه المناهي أمرا إشارة إلى أن النهي عن الشيء أمر بضده، ففي النهي عن الهوى أمر بالحكم بالحق، وفي النهي عن خشية الناس أمر بخشية الله، ومن لازم خشية الله الحكم بالحق، وفي النهي عن بيع آياته الأمر باتباع ما دلت عليه، وإنما وصف الثمن بالقلة إشارة إلى أنه وصف لازم له بالنسبة للعوض فإنه أغلى من جميع ما حوته الدنيا. قوله: "بما استحفظوا: استودعوا من كتاب الله الآية" ثبت هذا للمستملي، وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى :{مَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أي بما استودعوا، استحفظته كذا استودعته إياه. قوله: "وقرأ" أي الحسن البصري المذكور " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى آخرها " رويناه موصلا في " حلية الأولياء لأبي نعيم " من رواية محمد بن إبراهيم الحافظ المعروف بمربع بموحدة ومهملة وزن محمد، قال حدثنا سعيد هو ابن سليمان الواسطي حدثنا أبو العوام هو عمران القطان عن قتادة عن الحسن وهو ابن أبي الحسن البصري فذكره، ومعنى أخذ الله على الحكام عهد إليهم. قوله: "فحمد سليمان ولم يلم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين" يعني داود وسليمان، وقوله: "لرأيت " في رواية الكشميهني: "لرويت أن القضاة هلكوا " يعني لما تضمنته الآيتان الماضيتان أن من لم يحكم بما أنزل الله كافر، فدخل في عمومه العامد والمخطئ، وكذا قوله تعالى :{إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يشمل العامد والمخطئ، فاستدل بالآية الأخرى في قصة الحرث أن الوعيد خاص بالعامد، فأشار إلى ذلك بقوله: "فإنه أثنى على هذا بعلمه " أي بسب علمه أي معرفته وفهمه وجه الحكم والحكم به، وعذر بفتح الذال المعجمة هذا باجتهاده. وروينا بعضه في تفسير ابن أبي حاتم وفي المجالسة لأبي بكر الدينوري وفي أمالي الصولي جميعا يزيد بعضهم على بعض من طريق حماد بن سلمة عن حميد الطويل قال: دخلنا مع الحسن على إياس ابن معاوية حين استقضى قال فبكى إياس وقال: يا أبا سعيد - يعني الحسن البصري المذكور يقولون: القضاة ثلاثة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال مع الهوى فهو في النار؛ ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة فقال الحسن: إن فيما قص الله عليك من نبأ سليمان ما يرد على من قال هذا وقرأ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ - إلى قوله – شَاهِدِينَ} قال: فحمد سليمان لصوابه ولم يذم داود لخطئه. ثم قال: إن الله أخذ على الحكام عهدا بأن لا يشتروا به ثمنا ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحدا، ثم تلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} إلى آخر الآية. قلت: والحديث الذي أشار إليه إياس أخرجه أصحاب السنن من حديث بريدة، ولكن عندهم الثالث قضى بغير علم، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد، وليس في شيء منها أنه اجتهد فأخطأ، وسيأتي حكم من اجتهد فأخطأ بعد أبواب، واستدل بهذه القصة على أن للنبي أن يجتهد في الأحكام ولا ينتظر نزول الوحي، لأن داود عليه السلام على ما ورد اجتهد في المسألة المذكورة قطعا، لأنه لو كان قضى فيها بالوحي ما خص الله سليمان بفهمها دونه. وقد اختلف من أجاز للنبي أن يجتهد هل يجوز عليه الخطأ في اجتهاده؟ فاستدل من أجاز

(13/147)


ذلك بهذه القصة. وقد اتفق الفريقان على أنه لو أخطأ في اجتهاده لم يقر على الخطأ " وأجاب من منع الاجتهاد أنه ليس في الآية دليل على أن داود اجتهد ولا أخطأ، وإنما ظاهرها أن الواقعة اتفقت فعرضت على داود وسليمان فقضى فيها سليمان لأن الله فهمه حكمها، ولم يقض فيها داود بشيء، ويرد على من تمسك بذلك بما ذكره أهل النقل في صورة هذه الواقعة. وقد تضمن أثر الحسن المذكور أنهما جميعا حكما. وقد تعقب ابن المنير قول الحسن البصري، ولم يذم داود بأن فيه نقصا لحق، داود، وذلك أن الله تعالى قد قال: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فجمعهما في الحكم والعلم، وميز سليمان بالفهم، وهو علم خاص زاد على العام بفصل الخصومة. قال: والأصح في الواقعة أن داود أصاب الحكم وسليمان أرشد إلى الصلح، ولا يخلو قوله تعالى :{وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} أن يكون عاما أو في واقعة الحرث فقط " وعلى التقديرين يكون أثنى على داود فيها بالحكم والعلم فلا يكون من قبيل عذر المجتهد إذا أخطأ، لأن الخطأ ليس حكما ولا علما وإنما هو ظن غير مصيب " وإن كان في غير الواقعة فلا يكون تعالى أخبر في هذه الواقعة بخصوصها عن داود بإصابة ولا خطأ، وغايته أنه أخبر بتفهيم سليمان ومفهومه لقب والاحتجاج به ضعيف فلا يقال فهمها سليمان دون داود، وإنما خص سليمان بالتفهيم لصغر سنه فيستغرب ما يأتي به. قلت: ومن تأمل ما نقل في القصة ظهر له أن الاختلاف بين الحكمين كان في الأولوية لا في العمد والخطأ، ويكون معنى قول الحسن " حمد سليمان " أي لموافقته الطري الأرجح " ولم يذم داود " لاقتصاره على الطريق، الراجح وقد وقع لعمر رضي الله عنه قريب مما وقع لسليمان، وذلك أن بعض الصحابة مات وخلف مالا له نماء وديونا، فأراد أصحاب الديون بيع المال في وفاء الدين لهم فاسترضاهم عمر بأن يؤخروا التقاضي حتى يقبضوا ديونهم من النماء ويتوفر لأيتام المتوفي أصل المال؛ فاستحسن ذلك من نظره. ولو أن الخصوم امتنعوا لما منعهم من البيع. وعلى هذا التفصيل يمكن تنزيل قصة أصحاب الحرث والغنم والله أعلم. وتقدم في أحاديث الأنبياء شرح القصة التي وقعت لداود وسليمان في المرأتين اللتين أخذ الذئب ابن إحداهما واختلاف حكم داود وسليمان في ذلك، وتوجيه حكم داود بما يقرب مما ذكر هنا في هذه القصة ووقعت لهما قصة ثالثة في التفرقة بين الشهود في قصة المرأة التي اتهمت بأنها تحمل على نفسها فشهد عليها أربعة بذلك، فأمر داود برجمها، فعمد سليمان وهو غلام فصور مثل قصتها بين الغلمان ثم فرق بين الشهود وامتحنهم فتخالفوا فدرأ عنها، ووقعت لهما رابعة في قصة المرأة التي صب في دبرها ماء البيض وهي نائمة، وقيل إنها زنت فأمر داود برجمها، فقال سليمان: يشوي ذلك الماء فإن اجتمع فهو بيض، وإلا فهو مني، فشوى فاجتمع. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن مسروق قال: كان حرثهم عنبا نفشت فيه الغنم أي رعت ليلا، فقضى داود بالغنم لهم، فمروا على سليمان فأخبروه الخبر فقال سليمان: لا، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها ومنفعتها ويقوم هؤلاء على حرثهم، حتى إذا عاد كان ردوا عليهم غنمهم. وأخرجه الطبري من وجه آخر لين فقال: فيه عن مسروق عن ابن مسعود وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من وجه آخر عن ابن مسعود وسنده حسن، وعن معمر عن قتادة: قضى داود أن يأخذوا الغنم، ففهمها الله سليمان فقال: خذوا الغنم فلكم ما خرج من رسلها وأولادها وصوفها إلى الحول. وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، فحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث وعليهم رعايتها ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون كهيئة يوم أكل، ثم يدفع لأهله ويأخذون غنمهم. وأخرج الطبري القصة من طريق علي بن

(13/148)


زيد عن خليفة عن ابن عباس نحوه، ومن طريق قتادة قال: ذكر لنا فذكر نحوه. ومن طريق العوفي عن عطية عن ابن عباس ولكن قال فيها: قال سليمان إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وصوفها حتى يستوفي ثمن حرثه، فقال داود: قد أصبت وأخرج ابن مردويه من طريق الحسن عن الأحنف بن قيس نحو الأول. قال ابن التين: قيل علم سليمان أن قيمة ما أفسدت الغنم مثل ما يصير إليهم من لبنها وصوفها. وقال أيضا: ورد في قصة ناقة البراء التي أفسدت في حائط أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وإن الذي أفسدت المواشي بالليل ضمانه على أهلها أي ضمان قيمته، هذا خلاف شرع سليمان قال: فلو تراضيا بالدفع " عن قيمة ما أفسدت فالمشهور أنه لا يجوز حتى يعرفا القيمة " قلت: ورواية العوفي إن كانت محفوظة ترفع الإشكال، وإلا فالجواب ما نقل ابن التين أولا، ولا يكون بين الشرعين مخالفة. قوله: "وقال مزاحم" بضم الميم وتخفيف الزاي وبعد الألف حاء مهملة "ابن زفر" بزاي وفاء وزن عمر. هو الكوفي، ويقال مزاحم بن أبي مزاحم ثقة أخرج له مسلم. قوله: "قال لنا عمر بن عبد العزيز" أي الخليفة المشهور العادل. قوله: "خمس إذا أخطأ القاضي منهن خصلة" بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء، كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني، وله عنه " خصلة " بفتح أوله وسكون الصاد المهملة، وكذا في رواية الباقين وهما بمعنى. قوله: "وصمة" بفتح الواو وسكون الصاد المهملة أي عيبا. قوله: "أن يكون" تفسير لحال القاضي المذكور. قوله: "فهما" بفتح الفاء وكسر الهاء وهو من صيغ المبالغة، ويجوز تسكين الهاء أيضا، ووقع في رواية المستملي: "فقيها " والأول أولى لأن خصلة الفقه داخلة في خصلة العلم وهي مذكورة بعد. قوله: "حليما" أي يغضي على من يؤذيه ولا يبادر إلى الانتقام ولا ينافي ذلك قوله بعد ذلك " صليبا " لأن الأول في حق نفسه والثاني في حق غيره. قوله: "عفيفا" أي يعف عن الحرام فإنه إذ كان عالما ولم يكن عفيفا كان ضرره أشد من ضرر الجاهل. قوله: "صليبا" بصاد مهملة وباء موحدة من الصلابة بوزن عظيم، أي قويا شديدا يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى، ويستخلص حق المحق من المبطل ولا يجابيه. قوله: "عالما سئولا عن العلم" هي خصلة واحدة أي يكون مع ما يستحضره من العلم مذاكرا له غيره، لاحتمال أن يظهر له ما هو أقوى مما عنده. وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور في السنن عن عباد بن عباد ومحمد بن سعد في الطبقات عن عفان كلاهما قال: "حدثنا مزاحم بن زفر قال قدمنا على عمر بن عبد العزيز في خلافته وفد من أهل الكوفة، فسألنا عن بلادنا وقاضينا وأمره. وقال: خمس إذا أخطأ " ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمر بن عبد العزيز بلفظ آخر أخرجه أيضا محمد بن سعد في الطبقات عن محمد ابن عبد الله الأسدي هو أحمد الزبيري عن سفيان هو الثوري عن يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال: "عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي، بملامة الناس " وجاء في استحباب الاستشارة آثار جياد. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند جيد عن الشعبي قال: من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر، فإنه كان يستشير.

(13/149)


17 - باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا
وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ

(13/149)


ق7163 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ "أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلاَفَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِيَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالًا فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا فَقُلْتُ بَلَى فَقَالَ عُمَرُ فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ قُلْتُ إِنَّ لِي أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ عُمَرُ لاَ تَفْعَلْ فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي, فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَإِلاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ
7164 - وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَالاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ
قوله: "باب رزق الحاكم والعاملين عليها" هو من إضافة المصدر إلى المفعول، والرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين وقال المطرزي: الرزق ما يخرجه الإمام شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يخرجه عام ويحتمل أن يكون قوله: "والعاملين عليها " عطفا على الحاكم أي ورزق العاملين عليها أي على الحكومات، ويحتمل أن يكون أورد الجملة على الحكاية يريد الاستدلال على جواز أخذ الرزق بآية الصدقات وهم من جملة المستحقين لها لعطفهم على الفقراء والمساكين بعد قوله: {إنما الصدقات} قال الطبري: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك ولم يحرموه مع ذلك. وقال أبو علي الكرابيسي: لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهما اختلافا، وقد كره ذلك قوم منهم مسروق ولا أعلم أحدا منهم حرمه. وقال المهلب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه {قل لا أسألكم عليه أجرا} فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وضعه الله لنبيه، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس. وقال غيره: أخذ الرزق على القضاء إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائزا إجماعا، ومن تركه إنما تركه تورعا، وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك جزما، ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختلف إذا كان الغالب حراما: وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطا لا بد منها، وقد جر القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذر إزالة ذلك والله المستعان. قوله: "وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرا" هو شريح بن الحارث بن قيس النخعي الكوفي قاضي الكوفة، ولاه عمر ثم قضى لمن بعده بالكوفة دهرا طويلا،

(13/150)


وله مع علي أخبار في ذلك. وهو ثقة مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ويقال إن له صحبة، مات قبل الثمانين وقد جاوز المائة. وهذا الأثر وصله عبد الرزاق وسعيد ابن منصور من طريق مجالد عن الشعبي بلفظ: "كان مسروق لا يأخذ على القضاء أجرا، وكان شريح يأخذ". قوله: "وقالت عائشة يأكل الوصي بقدر عمالته" قلت: وصله ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله تعالى:َ {مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قالت أنزل الله ذلك في والي مال اليتيم يقوم عليه بما يصلحه إن كان محتاجا أن يأكل منه. قوله: "وأكل أبو بكر وعمر" أما أثر أبي بكر فوصله أبو بكر بن أبي شيبة من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: "لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين " الحديث وفيه قصة عمر وقد أسنده البخاري في البيوع من هذا الوجه، وبقيته " فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين فيه: "وفيه: "أن عمر لما ولى أكل هو وأهله من المال، واحترف في مال نفسه". وأما أثر عمر فوصله ابن أبي شيبة وابن سعد من طريق حارثة بن مضرب بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء بعدها موحدة قال: قال عمر " إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف " وسنده صحيح. وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: "كنا بباب عمر - فذكر قصة وفيها - فقال عمر: أنا أخبركم بما أستحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ، وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا أسفلهم " ورخص الشافعي وأكثر أهل العلم، وعن أحمد: لا يعجبني، وإن كان فبقدر عمله مثل ولي اليتيم، واتفقوا على أنه لا يجوز الاستئجار عليه. قوله: "ابن أخت نمر" بفتح النون وكسر الميم بعدها راء، هو الصحابي المشهور، تقدم ذكره مرارا من أقربها في الحدود، وأدرك من زمان النبي صلى الله عليه وسلم ست سنين وحفظ عنه، وهو من أواخر الصحابة موتا، وآخر من مات منهم بالمدينة، وقيل محمود بن الربيع، وقيل محمود بن لبيد. قوله: "إن حويطب بن عبد العزى" أي ابن أبي قيس بن عبد شمس القرشي العامري، كان من أعيان قريش. وأسلم في الفتح، وكان حميد الإسلام، وكانت وفاته بالمدينة سنة أربع وخمسين من الهجرة وهو ابن مائة وعشرين سنة؛ وهو ممن أطلق عليه أنه عاش ستين في الجاهلية وستين في الإسلام تجوزا، ولا يتم ذلك تحقيقا لأنه إن أريد بزمان الإسلام أول البعثة فيكون عاش فيها سبعا وستين، أو الهجرة فيكون عاش فيه أربعا وخمسين، أو زمن إسلامه هو فيكون ستا وأربعين، والأول أقرب إلى الإطلاق على طريقة جبر الكسر تارة وإلغائه أخرى. قوله: "أن عبد الله بن السعدي" هو عبد الله بن وقدان بن عبد شمس، ويقال اسم أبيه عمر ووقدان جده " ويقال قدامة بدل وقدان، وعبد شمس هو ابن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر " وهو أيضا من بني عامر بن لؤي من قريش، وإنما قيل له ابن السعدي لأن أباه كان مسترضعا في بني سعد " ومات عبد الله بالمدينة سنة سبع وخمسين بعد حويطب الراوي عنه بثلاث سنين، ويقال بل مات في خلافة عمر والأول أقوى " وليس له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد ووقع عند مسلم في رواية الليث عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي، وخالفه عمرو بن الحارث عن بكير فقال: "عن ابن السعدي " وهو المحفوظ. "تنبيه": أخرج مسلم أيضا هذا الحديث من طريق عمرو بن الحارث عن الزهري عن السائب بن يزيد عن عبد الله بن السعدي عن عمر، فلم يسق لفظه بل أحال على سياق رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وسقط من السند حويطب بن عبد

(13/151)


العزى بين السائب وابن السعدي، ووهم المزي في " الأطراف " تبعا لخلف فأثبت حويطب بن عبد العزى في السند في رواية مسلم، وزعم أنه وقع في روايته: "ابن الساعدي " بزيادة ألف " وليس ذلك في شيء من نسخ صحيح مسلم لا إثبات حويطب ولا الألف في الساعدي " وقد نبه على سقوط حويطب من سند مسلم أبو علي الجياني والمازري وعياض وغيرهم، ولكنه ثابت في رواية عمرو ابن الحارث في غير كتاب مسلم أخرجه أبو نعيم في المستخرج، ووقع عند ابن خزيمة من طريق سلامة عن عقيل عن ابن شهاب " حدثني السائب أن حويطبا أخبره أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخبره " فذكره، وهو وهم من سلامة قاله الرهاوي. قوله: "أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدث" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الدال. قوله: "أنك تلي من أعمال الناس" أي الولايات من إمرة أو قضاء، ووقع في رواية بسر بن سعيد عند مسلم: "استعملني عمر على الصدقة " فعين الولاية. قوله: "العمالة" بضم المهملة وتخفيف الميم أي أجرة العمل، وأما العمالة بفتح العين فهي نفس العمل. قوله: "ما تريد إلى ذلك" أي ما غاية قصدك بهذا الرد. وقد فسره بقوله: "وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين". قوله: "فقلت: أن لي أفراسا" بفاء ومهملة جمع فرس. قوله: "وأعبدا" للأكثر بضم الموحدة، وللكشميهني بمثناة بدل الموحدة جمع عتيد وهو المال المدخر، وقد تقدم تفسيره في " كتاب الزكاة". ووقع عند ابن حبان في صحيحه من طريق قبيصة بن ذؤيب أن عمر أعطى ابن السعدي ألف دينار، فذكر بقية الحديث نحو الذي هنا، ورويناه الجزء الثالث من " فوائد أبي بكر النيسابوري " الزيادات من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله بن السعدي قال: "قدمت على عمر فأرسل إلي ألف دينار، فرددتها وقلت أنا عنها غني " فذكره أيضا بنحوه، واستفيد منه قدر العمالة المذكورة. قوله: "فإني كنت أردت الذي أردت" بالفتح على الخطاب. قوله: "يعطيني العطاء" أي المال الذي يقسمه الإمام في المصالح، ووقع في رواية بسر بن سعيد عند مسلم: "فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي فقلت مثل قولك". قوله: "فأقول أعطه أفقر إليه مني" في رواية سالم " فأقول يا رسول الله " والباقي سواء. قال الكرماني: جاز الفصل بين أفعل التفضيل وبين كلمة " من " لأن الفاصل ليس أجنبيا بل هو ألصق به من الصلة لأنه يحتاج إليه بحسب جوهر اللفظ، والصلة محتاج إليها بحسب الصيغة. قوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذه فتموله وتصدق به" في رواية سالم بن عبد الله " أو تصدق به " بلفظ: "أو " بدل الواو، وهو أمر إرشاد على الصحيح. قال ابن بطال: أشار صلى الله عليه وسلم على عمر بالأفضل، لأنه وإن كان مأجورا بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه فإن أخذه للعطاء ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظيم فضل الصدقة بعد التمول لما في النفوس من الشح على المال. قوله: "غير مشرف" بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الراء بعدها فاء أي متطلع إليه، يقال أشرف الشيء علاه، وقد تقدم بيانه في " كتاب الزكاة " في " باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة". قوله: "ولا سائل" أي طالب، قال النووي: فيه النهي عن السؤال، وقد اتفق العلماء على النهي عنه لغير الضرورة، واختلف في مسألة القادر على الكسب والأصح التحريم، وقيل يباح بثلاث شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد شرط من هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق. قوله: "فخذه وإلا فلا تتبعه نفسك" أي إن لم يجيء إليك فلا تطلبه بل اتركه وليس المراد منعه من الإيثار، بل لأن أخذه ثم مباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره كما تقدم. قال النووي: هذا الحديث منقبة

(13/152)


لعمر وبيان فضله وزهده وإيثاره. قلت: وكذا لابن السعد فقد طابق فعله فعل عمر سواء، وفي سند الزهري عن السائب أربعة من الصحابة في نسق السائب وحويطب وابن السعدي وعمر، وقد أشرت إلى ذلك في الباب المذكور من " كتاب الزكاة " وذكرت أن مسلما أخرجه من طريق عمرو بن الحارث عن الزهري، وأوهم كلام المزي في " الأطراف " أن رواية شعيب وعمرو بن الحارث متفقتان، وليس كذلك فإن حويطب بن عبد العزى سقط من رواية عمرو بن الحارث عند مسلم، وقد وقعت المقارضة لمسلم والبخاري في هذين الحديثين الرباعيين، فأورد مسلم الرباعي الذي في سنده أربع نسوة بتمام الأربع، وأورده البخاري بنقصان واحدة تقدم في أوائل " كتاب الفتن " وأورد البخاري الرباعي الذي في سنده أربعة رجال بتمام الأربعة، وأورده مسلم بنقصان رجل، وهذا من لطائف ما اتفق. وقد وافق شعيبا على زيادة حويطب في السند الزبيدي عند النسائي وسفيان بن عيينة عنده ومعمر عند الحميدي في مسنده ثلاثتهم عن الزهري، وقد جزم النسائي وأبو علي بن السكن بأن السائب لم يسمعه من ابن السعدي، قال النووي: روينا عن الحافظ عبد القادر الرهاوي في كتابه الرباعيات أن الزبيدي وشعيب بن حمزة وعقيل بن خالد ويونس بن يزيد وعمرو ابن الحارث رووه عن الزهري بذكر حويطب، ثم ذكر طوقهم بأسانيد مطولة. قال: ورواه النعمان بن راشد عن الزهري فأسقط ذكر حويطب، واختلف على معمر فرواه ابن المبارك عنه كالنعمان، ورواه سفيان بن عيينة وموسى بن أعين عنه كالجماعة، ورواه عبد الرزاق عن معمر فأسقط اثنين جعله عن السائب عن عمر، قال: والصحيح الأول. قلت: ومقتضاه أن يكون سقوط حويطب من رواية مسلم وهما منه أو من شيخه، وإلا فذكره ثابت من رواية غيره كما تقدم والله أعلم. وقد نظم بعضهم السند المذكور في بيتين فقال:
وفي العمالة إسناد بأربعة ... من الصحابة فيه عنهم ظهرا
السائب بن زيد عن حويطب ... عبد الله حدثه بذلك عن عمرا
قوله: "وعن الزهري قال حدثني سالم" هو موصول بالسند المذكور أولا إلى الزهري، وقد أخرج النسائي عن عمرو بن منصور عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه الحديثين المذكورين بالسندين المذكورين إلى عمر، وأما مسلم فإنه لما أخرجه من طريق يونس عن ابن شهاب ساقه على رواية سالم عن أبيه ثم عقبه برواية ابن شهاب عن السائب بن يزيد فقال مثل ذلك، وليس بين السياقين تفاوت إلا في قصة ابن السعدي عن عمر فلم يسقها مسلم وإلا ما بينته، وزاد سالم " فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه " قلت: وهذا بعمومه ظاهر في أنه كان لا يرد ما فيه شبهة، وقد ثبت أنه كان يقبل هدايا المختار بن أبي عبيد الثقفي وهو أخو صفية زوج ابن عمر بنت أبي عبيد، وكان المختار غلب على الكوفة وطرد عمال عبد الله ابن الزبير وأقام أميرا عليها مدة في غير طاعة خليفة وتصرف فيما يتحصل منها من المال على ما يراه، ومع ذلك فكان ابن عمر يقبل هداياه وكان مستنده أن له حقا في بيت المال فلا يضره على أي كيفية وصل إليه، أو كان يرى أن التبعة في ذلك على الآخذ الأول، أو أن للمعطى المذكور مالا آخر في الجملة وحقا ما في المال المذكور، فلما لم يتميز وأعطاه له عن طيب نفس دخل في عموم قوله: "ما أتاك من هذا المال من غير سؤال ولا استشراف فخذه " فرأى أنه لا يستثني من ذلك إلا ما علمه

(13/153)


حراما محضا قال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة وشبههم، لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله، وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء، واحتج أبو عبيد في جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها، وحكى الطبري عن العلماء هل الأمر في قوله في هذا الحديث: "خذه وتموله " للوجوب أو للندب، ثالثها إن كانت العطية من السلطان فهي حرام أو مكروهة أو مباحة، وإن كانت من غيره فمستحبة. قال النووي: والصحيح أنه إن غلب الحرام حرمت، وكذا إن كان مع عدم الاستحقاق وإن لم يغلب الحرام وكان الآخذ مستحقا فيباح، وقيل يندب في عطية السلطان دون غيره والله أعلم. وقال ابن المنذر: وحديث ابن السعدي حجة في جواز أرزاق القضاة من وجوهها. وقال ابن بطال: في الحديث أن أخذ ما جاء من المال عن غير سؤال أفضل من تركه لأنه يقع في إضاعة المال، وقد ثبت النهي عن ذلك. وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من الإضاعة في شيء لأن الإضاعة التبذير بغير وجه صحيح، وأما الترك توفيرا على المعطى تنزيها عن الدنيا وتحرجا أن لا يكون قائما بالوظيفة على وجهها فليس من الإضاعة. ثم قال: والوجه في تعليل الأفضلية أن الآخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، لأنه إن لم يأخذ كان عند نفسه متطوعا بالعمل فقد لا يجد جد من أخذ ركونا إلى أنه غير ملتزم بخلاف الذي يأخذ فإنه يكون مستشعرا بأن العمل واجب عليه فيجد جد فيها وقال ابن التين: وفي هذا الحديث كراهة أخذ الرزق على القضاء مع الاستغناء وأن المال طيبا، كذا قال: قال وفيه جواز الصدقة بما لم يقبض إذا كان للمتصدق واجبا، ولكن قوله: "خذه فتموله وتصدق به " يدل على أن التصدق به إنما يكون بعد القبض، لأن المال إذا ملكه الإنسان وتصدق به طيبة به نفسه كان أفضل من تصدقه به قبل قبضه، لأن الذي يحصل بيده هو أحرص عليه مما لم يدخل في يده، فإن استوت عند أحد الحالان فمرتبته أعلى، ولذلك أمره بأخذه وبين له جواز تموله إن أحب أو التصدق به، قال: وذهب بعض الصوفية إلى أن المال إذا جاء بغير سؤال فلم يقبله فإن الراد له يعاقب بحرمان العطاء. وقال القرطبي في " المفهم " فيه ذم التطلع إلى ما في أيدي الأغنياء والتشوف إلى فضوله وأخذه منهم، وهي حالة مذمومة تدل على شدة الرغبة في الدنيا والركون إلى التوسع فيها، فنهى الشارع عن الأخذ على هذه الصورة المذمومة قمعا للنفس ومخالفة لها في هواها انتهى. وتقدمت سائر مباحثه وفوائده في الباب المذكور من " كتاب الزكاة " ولله الحمد.

(13/154)


18 - باب مَنْ قَضَى وَلاَعَنَ فِي الْمَسْجِدِ وَلاَعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ
7165 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ شَهِدْتُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا"
7166 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ

(13/154)


أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ
قوله: "باب من قضى ولاعن في المسجد" الظرف يتعلق بالأمرين فهو من تنازع الفعلين، ويحتمل أن يتعلق بقضى لدخول " لاعن " فيه فإنه من عطف الخاص على العام، ومعنى قوله: "ولاعن " حكم بإيقاع التلاعن بين الزوجين فهو مجاز، ولا يشترط أن يباشر تلقينهما ذلك بنفسه. قوله: "ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم" هذا أبلغ في التمسك به على جواز اللعان في المسجد، وإنما خص عمر المنبر لأنه كان يرى التحليف عند المنبر أبلغ في التغليظ وورد في التحليف عنده حديث جابر " لا يحلف عند منبري " الحديث، ويؤخذ منه التغليظ في الأيمان بالمكان، وقاسوا عليه الزمان، وإنما كان كذلك مع أن المحلوف به عظيم لأن للمعظم الذي يشاهده الحالف تأثيرا في التوقي عن الكذب. قوله: "وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر" في رواية الكشميهني: "على المنبر " وهذا طرف من أثر مضى في " كتاب الشهادات " وذكرت هناك من وصله، وهو في الموطأ ولفظه: "على المنبر " كما في رواية الكشميهني. قوله: "وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد" أما أثر شريح فوصله ابن أبي شيبة ومحمد بن سعد من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: "رأيت شريحا يقضي في المسجد وعليه برنس خز " وقال عبد الرزاق " أنبأنا معمر عن الحكم بن عتيبة أنه رأى شريحا يقضي في المسجد". وأما أثر الشعبي فوصله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي في " جامع سفيان " من طريق عبد الله بن شبرمة " رأيت الشعبي جلد يهوديا في قرية في المسجد " وكذا أخرجه عبد الرزاق عن سفيان. وأما أثر يحيى بن يعمر فوصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الرحمن بن قيس قال: "رأيت يحيى بن يعمر يقضي في المسجد " وأخرج الكرابيسي في " أدب القضاء " من طريق أبي الزناد قال: "كان سعد بن إبراهيم وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابنه ومحمد بن صفوان ومحمد بن مصعب بن شرحبيل يقضون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذكر ذلك جماعة آخرون. قوله: "وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد" الرحبة بفتح الراء والحاء المهملة بعدها موحدة هي بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه، هذه رحبة المسجد، ووقع فيها الاختلاف، والراجح أن لها حكم المسجد فيصح فيها الاعتكاف وكل ما يشترط له المسجد، فإن كانت الرحبة منفصلة فليس لها حكم المسجد. وأما الرحبة بسكون الحاء فهي مدينة مشهورة. والذي يظهر من مجموع هذه الآثار أن المراد بالرحبة هنا الرحبة المنسوبة للمسجد، فقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق المثنى ابن سعيد قال: "رأيت الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في المسجد " وأخرج الكرابيسي في " أدب القضاء " من وجه آخر أن الحسن وزرارة وإياس بن معاوية كانوا إذا دخلوا المسجد للقضاء صلوا ركعتين قبل أن يجلسوا. ثم ذكر حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين مختصرا من طريقين. رواية سفيان وهو ابن عيينة قال: قال الزهري " عن سهل بن سعد " فذكره مختصرا ولفظه: "شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة سنة فرق بينهما " وقد أخرجه في كتاب اللعان مطولا وتقدمت فوائده هناك: رواية ابن جريج أخبرني ابن شهاب وهو الزهري فذكره مختصرا أيضا ولفظه: "أن رجلا من الأنصار جاء " فذكره إلى قوله: "أيقتله فتلاعنا في المسجد " وقد تقدم مطولا وشرحه هناك أيضا. قال ابن بطال: استحب القضاء في المسجد طائفة. وقال مالك

(13/155)


هو الأمر القديم، لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس لإمكان الاحتجاب قال: وبه قال أحمد وإسحاق: وكرهت ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد فإنه يأتيك الحائض والمشرك. وقال الشافعي: أحب إلي أن يقضى في غير المسجد لذلك. وقال الكرابيسي: كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك فيدخل المشرك المسجد، قال ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره. ثم ساق في ذلك آثارا كثيرة. قال ابن بطال: وحديث سهل بن سعد حجة للجواز، وإن كان الأولى صيانة المسجد. وقد قال مالك: كان من مضى يجلسون في رحاب المسجد إما في موضع الجنائز وإما في رحبة دار مروان، قال: وإني لأستحب ذلك في الأمصار ليصل إليه اليهودي والنصراني والحائض والضعيف، وهو أقرب إلى التواضع وقال ابن المنير لرحبة المسجد حكم المسجد إلا إن كانت منفصلة عنه والذي يظهر أنها كانت منفصلة عنه، ويمكن أن يكون جلوس القاضي في الرحبة المتصلة وقيام الخصوم خارجا عنها أو في الرحبة المتصلة، وكأن التابعي المذكور يرى أن الرحبة لا تعطى حكم المسجد ولو اتصلت بالمسجد، وهو خلاف مشهور، فقد وقع للشافعية في حكم رحبة المسجد اختلاف في التعريف مع اتفاقهم على صحة صلاة من في الرحبة المتصلة بالمسجد بصلاة من في المسجد قال: والفرق بين الحريم والرحبة أن لكل مسجد حريما وليس لكل مسجد رحبة، فالمسجد الذي يكون أمامه قطعة من البقعة هي الرحبة وهي التي لها حكم المسجد. والحريم هو الذي يحيط بهذه الرحبة وبالمسجد، وإن كان سور المسجد محيطا بجميع البقعة فهو مسجد بلا رحبة ولكن له حريم كالدور انتهى ملخصا. وسكت عما إذا بنى صاحب المسجد قطعة منفصلة عن المسجد هل هي رحبة تعطى حكم المسجد؟ وعما إذا كان في الحائط القبلي من المسجد رحاب بحيث لا تصح صلاة من صلى فيها خلف إمام المسجد هل تعطى حكم المسجد، والذي يظهر أن كلا منهما يعطى حكم المسجد فتصح الصلاة في الأولى ويصح الاعتكاف في الثانية، وقد يفرق حكم الرحبة من المسجد في جواز اللغط ونحوه فيها بخلاف المسجد مع إعطائها حكم المسجد في الصلاة فيها، فقد أخرج مالك في الموطأ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال: "بنى عمر إلى جانب المسجد رحبة فسماها البطحاء فكان يقول: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة".

(13/156)


19 - باب مَنْ حَكَمَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ
وَقَالَ عُمَرُ أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ
7167 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا قَالَ أَبِكَ جُنُونٌ قَالَ لاَ قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى رَوَاهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجْمِ

(13/156)


قوله: "باب من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام" كأنه يشير بهذه الترجمة إلى من خص جواز الحكم في المسجد بما إذا لم يكن هناك شيء يتأذى به من في المسجد أو يقع به للمسجد نقص كالتلويث. قوله: "وقال عمر أخرجاه من المسجد وضربه، ويذكر عن على نحوه" أما أثر عمر فوصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق كلاهما من طريق طارق بن شهاب قال: "أتي عمر بن الخطاب برجل في حد فقال: أخرجاه من المسجد ثم اضرباه " وسنده على شرط الشيخين، وأما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن معقل - وهو بمهملة ساكنة وقاف مكسورة - أن رجلا جاء إلى عمر فساره فقال: يا قنبر أخرجه من المسجد فأقم عليه الحد، وفي سنده من فيه مقال. ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة الذي أقر " أنه زنى فأعرض عنه وفيه أبك جنون؟ قال: لا. قال: اذهبوا به فارجموه " وهذا القدر هو المراد في الترجمة ولكنه لا يسلم من خدش لأن الرجم يحتاج إلى قدر زائد من حفر وغيره مما لا يلائم المسجد فلا يلزم من تركه فيه ترك إقامة غيره من الحدود، وقد تقدم شرحه في " باب رجم المحصن " من " كتاب الحدود". قوله: "رواه يونس ومعمر وابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر" يريد أنهم خالفوا عقيلا في الصحابي، فإنه جعل أصل الحديث من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وقول ابن شهاب " أخبرني من سمع جابر بن عبد الله: كنت فيمن رجمه بالمصلى " وهؤلاء جعلوا الحديث كله عن جابر، ورواية معمر وصلها المؤلف في الحدود، وكذلك رواية يونس، وأما رواية ابن جريج فوصلها وتقدمت الإشارة إليها هناك أيضا حيث قال عقب رواية معمر " لم يقل يونس وابن جريج فصلى عليه " وتقدم شرحه مستوفى هناك ولله الحمد. قال ابن بطال: ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق، وأجازه الشعبي وابن أبي ليلى. وقال مالك: لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد. قال ابن بطال: وقول من نزه المسجد عن ذلك أولى. وفي الباب حديثان ضعيفان في النهي عن إقامة الحدود في المساجد انتهى. والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة مرفوعا: "جنبوا مساجدكم صبيانكم " الحديث، وفيه: "وإقامة حدودكم " أخرجه البيهقي في الخلافيات، وأصله في ابن ماجه من حديث واثلة فقط وليس فيه ذكر الحدود وسنده ضعيف، ولابن ماجه من حديث ابن عمر رفعه: "خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقا " الحديث وفيه: "ولا يضرب فيه حد " وسنده ضعيف أيضا. وقال ابن المنير: من كره إدخال الميت المسجد للصلاة عليه خشية أن يخرج منه شيء أولى بأن يقول لا يقام الحد في المسجد، إذ لا يؤمن خروج الدم من المجلود، وينبغي أن يكون في القتل أولى بالمنع.

(13/157)


20 - باب مَوْعِظَةِ الإِمَامِ لِلْخُصُومِ
7169 - حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار

(13/157)


قوله: "باب موعظة الإمام الخصوم" ذكر فيه حديث أم سلمة " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " وسيأتي شرحه بعد سبعة أبواب، ومناسبته للترجمة ظاهرة وبالله التوفيق.

(13/158)


21 - باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ ائْتِ الأَمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ فَقَالَ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ صَدَقْتَ قَالَ عُمَرُ لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ وَقَالَ حَمَّادٌ إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ وَقَالَ الْحَكَمُ أَرْبَعًا
7170 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ حُنَيْنٍ مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلاَحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي قَالَ فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلاَ لاَ يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ اللَّيْثِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ الْحَاكِمُ لاَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلاَيَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لِآخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الأَمْوَالِ وَلاَ يَقْضِي فِي غَيْرِهَا وَقَالَ الْقَاسِمُ لاَ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِي الظُّنُونِ وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّنَّ فَقَالَ إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ
7171 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَلَمَّا رَجَعَتْ انْطَلَقَ مَعَهَا فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنْ الأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا

(13/158)


فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء أو قبل ذلك للخصم" أي هل يقضي له على خصمه بعلمه ذلك أو يشهد له عند حاكم آخر؟ هكذا أورد الترجمة مستفهما بغير جزم لقوة الخلاف في المسألة " وإن كان آخر كلامه يقتضي اختيار أن لا يحكم بعلمه فيها". قوله: "وقال شريح القاضي" هو ابن الحارث الماضي ذكره قريبا. قوله: "وسأله إنسان الشهادة فقال: ائت الأمير حتى أشهد لك" وصله سفيان الثوري في جامعه عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبي قال: "أشهد رجل شريحا جاء فخاصم إليه فقال: ائت الأمير وأنا أشهد لك " وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن شبرمة قال: قلت للشعبي: يا أبا عمرو أرأيت رجلين استشهدا على شهادة فمات أحدهما واستقضى الآخر، فقال: أتى شريح فيها وأنا جالس فقال: "ائت الأمير وأنا أشهد لك". قوله: "وقال عكرمة قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلا على حد إلخ" وصله الثوري أيضا عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة به، ووقع في الأصل " لو رأيت - بالفتح - وأنت أمير " وفي الجواب فقال: "شهادتك " ووقع في الجامع بلفظ: "أرأيت - بالفتح - لو رأيت بالضم - رجلا سرق أو زنا، قال: أرى شهادتك " وقال: "أصبت " بدل قوله: "صدقت " وأخرجه ابن أبي شيبة عن شريك عن عبد الكريم بلفظ: أرأيت لو كنت القاضي أو الوالي وأبصرت إنسانا على حد أكنت تقيمه عليه؟ قال: لا، حتى يشهد معي غيري، قال أصبت لو قلت غير ذلك لم تجد وهو بضم المثناة وكسر الجيم وسكون الدال من الإجادة. قلت: وقد جاء عن أبي بكر الصديق نحو هذا وسأذكره بعد، وهذا السند منقطع بين عكرمة ومن ذكره عنه لأنه لم يدرك عبد الرحمن فضلا عن عمر، وهذا من المواضع التي ينبه عليها من يغتر بتعميم قولهم إن التعليق الجازم صحيح، فيجب تقييد ذلك بأن يزاد إلى من علق عنه ويبقى النظر فيما فوق ذلك. قوله: "وقال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في " كتاب الله " لكتبت آية الرجم بيدي" هذا طرف من حديث آخر أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر كما تقدم التنبيه عليه في " باب الاعتراف بالزنا " في شرح حديثه الطويل في قصة الرجم الذي هو طرف من قصة بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، قال المهلب: استشهد البخاري لقول عبد الرحمن بن عوف المذكور قبله بقول عمر هذا أنه كانت عنده شهادة في آية الرجم أنها من القرآن فلم يلحقها بنص المصحف بشهادته وحده، وأفصح في العلة في ذلك بقوله: لولا أن يقال زاد عمر في " كتاب الله " فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع لئلا تجد حكام السوء سبيلا إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء. قوله: "وأقر ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا أربعا فأمر برجمه، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أشهد من حضره" هذا طرف من الحديث الذي ذكر قبل بباب، وقد تقدم موصولا من حديث أبي هريرة وحكاية الخلاف على أبي سلمة في اسم صحابيه. قوله: "وقال حماد" هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة. قوله: "إذا أقر مرة عند الحاكم رجم" وقال الحكم، هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر وهو فقيه الكوفة أيضا. قوله: "أربعا" أي لا يرجم حتى يصر أربع مرات كما في حديث ماعز، وقد وصله ابن أبي شيبة من طريق شعبة قال: "سألت حمادا

(13/159)


عن الرجل يقر بالزنا كم يرد؟ قال: مرة. قال: وسألت الحكم فقال: أربع مرات " وقد تقدم البحث في ذلك في شرح قصة ماعز في أبواب الرجم. ثم ذكر حديث أبي قتادة في قصة سلب القتيل الذي قتله في غزوة حنين، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك وقوله هنا " قال فأرضه منه " هي رواية الأكثر، وعند الكشمهيني " مني " وقوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي " في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "فعلم " بفتح المهملة وكسر اللام بدل " فقام " وكذا لأكثر رواة الفربري، وكذا أخرجه أبو نعيم من رواية الحسن بن سفيان عن قتيبة، وهو المحفوظ في رواية قتيبة هذه، ومن ثم عقبها البخاري بقوله: "وقال لي عبيد الله عن الليث: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي " ووقع في رواية كريمة: "فأمر " بفتح الهمزة والميم بعدها راء، وعبد الله المذكور هو ابن صالح أبو صالح وهو كاتب الليث والبخاري يعتمده في الشواهد، ولو كانت رواية قتيبة بلفظ: "فقام " لم يكن لذكر رواية عبد الله بن صالح معنى. قال المهلب: قوله في رواية قتيبة " فعلم النبي صلى الله عليه وسلم: "يعني علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل المذكور، قال وهي وهم قال: والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح بلفظ: "فقام " قال وقد رد بعض الناس الحجة المذكورة فقال: ليس في إقرار ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا حكمه بالرجم دون أن يشهد من حضره ولا في إعطائه السلب لأبي قتادة حجة للقضاء بالعلم لأن ماعزا إنما كان إقراره عند النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة، إذ معلوم أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يقعد وحده فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهدهم على إقراره لسماعهم منه ذلك، وكذلك قصة أبي قتادة انتهى. وقال ابن المنير: لا حجة في قصة أبي قتادة، لأن معنى قوله: "فعلم النبي صلى الله عليه وسلم: "علم بإقرار الخصم فحكم عليه، فهي حجة للمذهب، يعني الصائر إلى جواز القضاء بالعلم فيما يقع في مجلس الحكم. وقال غيره: ظاهر أول القصة يخالف آخرها، لأنه شرط البينة بالقتل على استحقاق السلب ثم دفع السلب لأبي قتادة بغير بينة وأجاب الكرماني بأن الخصم اعترف، يعني فقام مقام البينة، وبأن المال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي منه من شاء ويمنع من شاء. قلت: والأول أولى، والبينة لا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق يسمى بينة. قوله: "وقال أهل الحجاز: الحاكم لا يقضي بعلمه، شهد بذلك في ولايته أو قبلها" هو قول مالك، قال أبو علي الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة، إذ لا يؤمن على التقى أن يتطرق إليه التهمة قال: وأظنه ذهب إلى ما رواه ابن شهاب عن زبيد بن الصلت " أن أبا بكر الصديق قال: لوجدت رجلا على حد ما أقمته عليه حتى يكون معي غيري " ثم ساقه بسند صحيح عن ابن شهاب قال: ولا أحسب مالكا ذهب عليه هذا الحديث، فإن كان كذلك فقد قلد أكثر هذه الأمة فضلا وعلما. قلت: ويحتمل أن يكون ذهب إلى الأثر المقدم ذكره عن عمر وعبد الرحمن بن عوف، قال: ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب، ومن ثم قال الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه انتهى. وإذا كان هذا في الزمان الأول فما الظن بالمتأخر، فيتعين حسم مادة تجويز القضاء بالعلم في هذه الأزمان المتأخرة لكثرة من يتولى الحكم ممن لا يؤمن على ذلك، والله أعلم. قوله: "ولو أقر خصم عنده لآخر بحق في مجلس القضاء فإنه لا يقضي عليه في قول بعضهم حتى يدعو بشاهدين فيحضرهما إقراره" قال ابن التين: ما ذكر عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه. وقال بعض أصحابه: يحكم بما علمه فيما

(13/160)


أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم. وقال ابن القاسم: وأشهب لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد به عنده. وقال ابن المنير: مذهب مالك أن من حكم بعلمه يقضي على المشهور، إلا إن كان علمه حادثا بعد الشروع في المحاكمة فقولان، وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره وقبل الحكم عليه فإن ابن القاسم قال: لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدا. وقال ابن الماجشون: يحكم بعلمه. وفي المذهب تفاريع طويلة في ذلك. ثم قال ابن المنير: وقول من قال لا بد أن يشهد عليه في المجلس شاهدان يؤول إلى الحكم بالإقرار لأنه لا يخلوا أن يؤديا أو لا؛ إن أديا فلا بد من الأعذار، فإن أعذر احتيج إلى الإثبات وتسلسلت القضية، وإن لم يحتج رجع إلى الحكم بالإقرار، وإن لم يؤديا كالعدم. وأجاب غيره أن فائدة ذلك ردع الخصم عن الإنكار، لأنه إذا عرف أن هناك من يشهد امتنع من الإنكار خشية التعزير، بخلاف ما إذا أمن ذلك. قوله: "وقال بعض أهل العراق: ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضى به وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره" بضم أوله من الرباعي. قلت: وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه، ويوافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية. قال ابن التين: وجرى به العمل، ويوافقه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن سيرين قال: "اعترف رجل عند شريح بأمر ثم أنكره فقضى عليه باعترافه، فقال: أتقضي علي بغير بينة " فقال شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني نفسه. قوله: "وقال آخرون منهم: بل يقضي به لأنه مؤتمن" بفتح الميم اسم مفعول، وإنما يراد بالشهادة معرفة الحق، فعلمه أكبر من الشهادة وهو قول أبي يوسف ومن تبعه ووافقهم الشافعي. قال أبو علي الكرابيسي قال الشافعي بمصر فيما بلغني عنه: إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل أن يلي القضاء أو بعدما ولي، فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل بطريق التغلب. قوله: "وقال بعضهم" يعني أهل العراق "يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي غيرها" هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيما نقله الكرابيسي عنه إذا رأى الحاكم رجلا يزني مثلا لم يقض بعلمه حتى تكون بينة تشهد بذلك عنده، وهي رواية عن أحمد، قال أبو حنيفة: القياس أنه بحكم في ذلك كله بعلمه، ولكن أدع القياس وأستحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه. "تنبيه": اتفقوا على أنه يقضي في قبول الشاهد ورده بما يعلمه منه من تجريح أو تزكية. ومحصل الآراء في هذه المسألة سبعة، ثالثها في زمن قضائه خاصة، رابعها في مجلس حكمه، خامسها في الأموال دون غيرها، سادسها مثله وفي القذف أيضا وهو عن بعض المالكية، سابعها في كل شيء إلا في الحدود وهذا هو الراجح عند الشافعية. وقال ابن العربي: لا يقضي الحاكم بعلمه، والأصل فيه عندنا الإجماع على أنه لا يحكم بعلمه في الحدود، ثم أحدث بعض الشافعية قولا مخرجا أنه يجوز فيها أيضا حين رأوا أنها لازمة لهم، كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف. قوله: "وقال القاسم: لا ينبغي للحاكم أن يقضي قضاء بعلمه" في رواية الكشمهيني يمضي. قوله: "دون علم غيره" أي إذا كان وحده عالما به لا غيره. قوله: "ولكن" بالتشديد وفي نسخة بالتخفيف وتعرض بالرفع. قوله: "وإيقاعا" عطف على تعرضا أو نصب على أنه مفعول معه والعامل فيه متعلق الظرف، والقاسم المذكور كنت أظنه أنه ابن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة لأنه إذا أطلق في الفروع الفقهية انصرف الذهن إليه، لكن رأيت في رواية عن أبي ذر أنه القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وهو الذي

(13/161)


تقدم ذكره قريبا في " باب الشهادة على الخط " فإن كان كذلك فقد خالف أصحابه الكوفيين ووافق أهل المدينة في هذا الحكم والله أعلم. قوله: " وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم الظن فقال: إنما هذه صفية" هو طرف من الحديث الذي وصله بعد، وقوله في الطريق الموصولة عن علي بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب وهو الملقب بزين العابدين. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته صفية بنت حيي" هذا صورته مرسل، ومن ثم عقبه البخاري بقوله: "رواه شعيب وابن مسافر وابن أبي عتيق وإسحاق بن يحيى عن الزهري عن علي - أي ابن الحسين - عن صفية " يعني فوصلوه، فتحمل رواية إبراهيم بن سعد على أن علي بن حسين تلقاه عن صفية، وقد تقدم مثل ذلك في رواية سفيان عن الزهري مع شرح حديث صفية مستوفى في " كتاب الاعتكاف " فإنه ساقه هناك تاما وأورده هنا مختصرا. ورواية شعيب وهو ابن أبي حمزة وصلها المصنف في الاعتكاف أيضا وفي " كتاب الأدب " ورواية ابن مسافر وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي وصلها أيضا في الصوم وفي فرض الخمس، ورواية ابن أبي عتيق وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وصلها المصنف في الاعتكاف وأوردها في الأدب أيضا مقرونة برواية شعيب ورواية إسحاق بن يحيى وصلها الذهلي في " الزهريات " ورواه عن الزهري أيضا معمر فاختلف عليه في وصله وإرساله تقدم موصولا في صفة إبليس من رواية عبد الرزاق عنه ومرسلا في فرض الخمس من رواية هشام بن يوسف عن معمر وأوردها النسائي موصولة من رواية موسى بن أعين عن معمر ومرسلة من رواية ابن المبارك عنه ووصله أيضا عن الزهري عثمان ابن عمر بن موسى التيمي عند ابن ماجه وأبي عوانة في صحيحه، وعبد الرحمن بن إسحاق عند أبي عوانة أيضا، وهشيم عند سعيد بن منصور وآخرون. ووجه الاستدلال بحديث صفية لمن منع الحكم بالعلم أنه صلى الله عليه وسلم كره أن يقع في قلب الأنصاريين من وسوسة الشيطان شيء، فمراعاة نفي التهمة عنه مع عصمته تقتضي مراعاة نفي التهمة عمن هو دونه، وقد تقدم في " باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه " بيان حجة من أجاز ومن منع بما يعني عن إعادته هنا.

(13/162)


22 - باب أَمْرِ الْوَالِي إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلاَ يَتَعَاصَيَا
7172 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِي وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى إِنَّهُ يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا الْبِتْعُ فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَقَالَ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَوَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا" بمهملتين وياء تحتانية ولبعضهم بمعجمتين وموحدة. ذكر فيه حديث أبي بردة " بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبي يعني أبا موسى ومعاذ بن جبل " وقد تقدم الكلام عليه في " كتاب الديات " وقبل ذلك في أواخر المغازي. قوله: "بشرا" تقدم شرحه في المغازي. قوله: "وتطاوعا" أي توافقا في الحكم ولا تختلفا لأن ذلك يؤدي إلى اختلاف أتباعكما، فيفضي إلى العداوة ثم المحاربة، والمرجع في الاختلاف إلى ما جاء في " الكتاب والسنة " كما قال تعالى :{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله

(13/162)


والرسول} وسيأتي مزيد بيان لذلك في " كتاب الاعتصام " إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال النضر وأبو داود ويزيد بن هارون ووكيع عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده" يعني موصولا، ورواية النضر وأبي داود ووكيع تقدم الكلام عليها في أواخر المغازي في " باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن " ورواية يزيد بن هارون وصلها أبو عوانة في صحيحه والبيهقي، قال ابن بطال وغيره: في الحديث الحض على الاتفاق لما فيه من ثبات المحبة والألفة والتعاون على الحق، وفيه جواز نصب قاضيين في بلد واحد فيقعد كل منهما في ناحية وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشركهما فيما ولاهما، فكان ذلك أصلا في تولية اثنين قاضيين مشتركين في الولاية كذا جزم به؛ قال: وفيه نظر لأن محل ذلك فيما إذا نفذ حكم كل منهما فيه، لكن قال ابن المنير: يحتمل أن يكون ولاهما ليشتركا في الحكم في كل واقعة، ويحتمل أن يستقل كل منهما بما يحكم به، ويحتمل أن يكون لكل منهما عمل يخصه والله أعلم كيف كان. وقال ابن التين: الظاهر اشتراكهما، لكن جاء في غير هذه الرواية أنه أقر كلا منهما على مخلاف، والمخلاف الكورة، وكان اليمين مخلافين. قلت: وهذا هو المعتمد، والرواية التي أشار إليها تقدمت في غزوة حنين باللفظ المذكور، وتقدم في المغازي أن كلا منهما كان إذا سار في عمله زار رفيقه، وكان عمل معاذ النجود وما تعالى من بلاد اليمن، وعمل أبي موسى التهائم وما انخفض منها، فعلى هذا فأمره صلى الله عليه وسلم لهما بأن يتطاوعا ولا يتخالفا محمول على ما إذا اتفقت قضية يحتاج الأمر فيها إلى اجتماعهما، وإلى ذلك أشار في الترجمة، ولا يلزم من قوله: "تطاوعا ولا تختلفا " أن يكونا شريكين كما استدل به ابن العربي. وقال أيضا: فإذا اجتمعا فإن اتفقا في الحكم وإلا تباحثا حتى يتفقا على الصواب وإلا رفعا الأمر لمن فوقهما. وفي الحديث الأمر بالتيسير في الأمور والرفق بالرعية وتحبيب الإيمان إليهم وترك الشدة لئلا تنفر قلوبهم ولا سيما فيمن كان قريب العهد بالإسلام أو قارب حد التكليف من الأطفال ليتمكن الإيمان من قلبه ويتمرن عليه، وكذلك الإنسان في تدريب نفسه على العمل إذا صدقت إرادته لا يشدد عليها بل يأخذها بالتدريج والتيسير حتى إذا أنست بحالة داومت عليها نقلها لحال آخر وزاد عليها أكثر من الأولى حتى يصل إلى قدر احتمالها ولا يكلفها بما لعلها تعجز عنه. وفيه مشروعية الزيارة وإكرام الزائر وأفضلية معاذ في الفقه على أبي موسى، وقد جاء " أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " أخرجه الترمذي وغيره من حديث أنس.

(13/163)


23 - باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
7173 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ
قوله: "باب إجابة الحاكم الدعوة" الأصل فيه عموم الخبر ورود الوعيد في الترك من قوله ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله وقد تقدم شرحه في أواخر النكاح. وقال العلماء لا يجيب الحاكم دعوة شخص بعينه دون غيره من الرعية لما في ذلك من كسر قلب من لم يجبه، إلا أن كان له عذر في ترك الإجابة كرؤية المنكر الذي لا يجاب إلى إزالته، فلو كثرت بحيث تشغله عن الحكم الذي تعين عليه ساغ له أن لا يجيب. قوله: "وقد أجاب عثمان بن عفان عبدا للمغيرة بن شعبة" لم أقف على اسم العبد المذكور، والأثر رويناه موصولا في " فوائد أبي محمد

(13/163)


ابن صاعد " وفي " زوائد البر والصلة لابن المبارك " بسند صحيح إلى أبي عثمان النهدي " إن عثمان بن عفان أجاب عبدا للمغيرة بن شعبة دعاه وهو صائم فقال: أردت أن أجيب الداعي وأدعو بالبركة" حديث أبي موسى "فكوا العاني" بمهملة ثم نون هو الأسير " وأجيبوا الداعي " وهو طرف من حديث تقدم في الوليمة وغيرها بأتم من هذا. قال ابن بطال: عن مالك، لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة إلا في الوليمة خاصة، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحب إلينا لأنه أنزه، إلا أن يكون لأخ في الله أو خالص قرابة أو مودة. وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم انتهى. وقد تقدم تفصيل أحكام إجابة الدعوة في الوليمة وغيرها بما يعني عن إعادته.

(13/164)


24 - باب هَدَايَا الْعُمَّالِ
7174 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي فَهَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا قَالَ سُفْيَانُ قَصَّهُ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ وَزَادَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعَ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ مَعِي وَلَمْ يَقُلْ الزُّهْرِيُّ سَمِعَ أُذُنِي خُوَارٌ صَوْتٌ وَالْجُؤَارُ مِنْ تَجْأَرُونَ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ
قوله: "باب هدايا العمال" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وأبو عوانة من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن عروة عن أبي حميد رفعه: "هدايا العمال غلول " وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن يحيى وهو من رواية إسماعيل عن الحجازيين وهي ضعيفة ويقال إنه اختصره من حديث الباب كما تقدم بيان ذلك في الهبة، وأورد فيه قصة ابن اللتبية وقد تقدم بعض شرحها في الهبة وفي الزكاة وفي ترك الحيل وفي الجمعة، وتقدم شيء مما يتعلق بالغلول في " كتاب الجهاد". قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن الزهري" قد ذكر في آخره ما يدل على أن سفيان سمعه من الزهري وهو قوله: "قال سفيان قصه علينا الزهري " ووقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان " حدثنا الزهري " وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وعند الإسماعيلي من طريق محمد بن منصور عن سفيان قال قصه علينا الزهري وحفظناه. قوله: "أنه سمع عروة" في رواية شعيب عن الزهري في الأيمان والنذور: أخبرني عروة. قوله: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسد" بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، كذا وقع هنا وهو يوهم أنه بفتح السين نسبة إلى بني أسد بن خزيمة القبيلة المشهورة أو إلى بني أسد بن عبد العزى بطن من قريش. وليس كذلك وإنما قلت إنه يوهمه لأن الأزدي تلازمه الألف واللام في الاستعمال أسماء وأنسابا، بخلاف بني أسد فبعير ألف ولام في الاسم، ووقع

(13/164)


في رواية الأصيلي هنا " من بني الأسد " بزيادة الألف واللام ولا إشكال فيها مع سكون السين، وقد وقع في الهبة عن عبد الله بن محمد الجعفي عن سفيان " استعمل رجلا من الأزد " وكذا قال أحمد والحميدي في مسنديهما عن سفيان ومثله لمسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة وغيره عن سفيان، وفي نسخة بالسين المهملة بدل الزاي، ثم وجدت ما يزيل الإشكال إن ثبت، وذلك أن أصحاب الأنساب ذكروا أن في الأزد بطنا يقال لهم بنو أسد بالتحريك ينسبون إلى أسد ابن شريك بالمعجمة مصغرا ابن مالك بن عمرو بن مالك بن فهم، وبنو فهم بطن شهير من الأزد فيحتمل أن ابن الأتبية كان منهم فيصح أن يقال فيه الأزدي بسكون الزاي والأسدي بسكون السين وبفتحها من بني أسد بفتح السين ومن بني الأزد أو الأسد بالسكون فيهما لا غير، وذكروا ممن ينسب كذلك مسددا شيخ البخاري. قوله: "يقال له ابن الأتبية" كذا في رواية أبي ذر بفتح الهمزة والمثناة وكسر الموحدة، وفي الهامش باللام بدل الهمزة، كذلك ووقع كالأول لسائرهم وكذا تقدم في الهبة. وفي رواية مسلم باللام المفتوحة ثم المثناة الساكنة وبعضهم يفتحها، وقد اختلف على هشام بن عروة عن أبيه أيضا أنه باللام أو بالهمزة كما سيأتي قريبا في " باب محاسبة الإمام عماله " بالهمزة، ووقع لمسلم باللام. وقال عياض: ضبطه الأصيلي بخطه في هذا الباب بضم اللام وسكون المثناة، وكذا قيده ابن السكن، قال: وهو الصواب، وكذا قال ابن السمعاني ابن اللتبية بضم اللام وفتح المثناة ويقال بالهمز بدل اللام، وقد تقدم أن اسمه عبد الله واللتبية أمه لم نقف على تسميتها. قوله: "على صدقة" وقع في الهبة " على الصدقة " وكذا لمسلم، وتقدم في الزكاة تعيين من استعمل عليهم. قوله: "فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي" في رواية معمر عن الزهري عند مسلم: "فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي " وفي رواية هشام الآتية قريبا " فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاسبه قال: هذا الذي لكم، وهذه هدية أهديت لي " وفي رواية أبي الزناد عن عروة عند مسلم: "فجاء بسواد كثير " وهو بفتح المهملة وتخفيف الواو " فجعل يقول هذا لكم وهذا أهدي لي " وأوله عند أبي عوانة " بعث مصدقا إلى اليمن " فذكره. والمراد بالسواد الأشياء الكثيرة والأشخاص البارزة من حيوان وغيره، ولفظ السواد يطلق على كل شخص ولأبي نعيم في المستخرج من هذا الوجه " فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتوفى منه " وهذا يدل على أن قوله في الرواية المذكورة " فلما جاء حاسبه " أي أمر من يحاسبه ويقبض منه. وفي رواية أبي نعيم أيضا: "فجعل يقول هذا لكم وهذا لي " حتى ميزه " قال يقولون من أين هذا لك؟ قال: أهدي لي، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم". قوله: "فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر" زاد في رواية هشام قبل ذلك " فقال ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟ ثم قام فخطب". قوله: "قال سفيان: أيضا فصعد المنبر" يريد أن سفيان كان تارة يقول: "قام " وتارة " صعد " ووقع في رواية شعيب " ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم عشية بعد الصلاة " وفي رواية معمر عند مسلم: "ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا " وفي رواية أبي الزناد عند أبي نعيم " فصعد المنبر وهو مغضب". قوله: "ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول" في رواية الكشميهني: "يقول: "بحذف الفاء. وفي رواية شعيب " فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول: "ووقع في رواية هشام بن عروة " فإني أستعمل الرجل منكم على أمور مما ولاني الله". قوله: "هذا لك وهذا لي" في رواية عبد الله بن محمد " هذا لكم وهذا أهدي لي " وفي رواية هشام " فيقول هذا الذي لكم وهذه هدية أهديت لي " وقد تقدم ما في رواية أبي الزناد من الزيادة.
قوله: "فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي له أم لا" ؟ في

(13/165)


رواية هشام " حتى تأتيه هديته إن كان صادقا". قوله: "والذي نفسي بيده" تقدم شرحه في أوائل " كتاب الأيمان والنذور". قوله: "لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة" يعني لا يأتي بشيء يحوزه لنفسه، ووقع في رواية عبد الله ابن محمد " لا يأخذ أحد منها شيئا " وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة: "لا ينال أحد منكم منها شيئا " وفي رواية أبي الزناد عند أبي عوانة " لا يغل منه شيئا إلا جاء به " وكذا وقع في رواية شعيب عند المصنف وفي رواية معمر عند الإسماعيلي كلاهما بلفظ: "لا يغل " بضم الغين المعجمة من الغلول وأصله الخيانة في الغنيمة، ثم استعمل في كل خيانة. قوله: "يحمله على رقبته" في رواية أبي بكر " على عنقه " وفي رواية هشام " لا يأخذ أحدكم منها شيئا " قال هشام " بغير حقه " ولم يقع قوله: "قال هشام " عند مسلم في رواية أبي أسامة المذكورة، وأورده من رواية ابن نمير عن هشام بدون قوله: "بغير حقه " وهذا مشعر بإدراجها. قوله: "إن كان" أي الذي غله "بعيرا له رغاء" بضم الراء وتخفيف المعجمة مع المد هو صوت البعير. قوله: "خوار" يأتي ضبطه. قوله: "أو شاة تيعر" بفتح المثناة الفوقانية وسكون التحتانية بعدها مهملة مفتوحة ويجوز كسرها، ووقع عند ابن التين " أو شاة لها يعار " ويقال: "يعار " قال وقال القزاز: هو يعار بغير شك يعني بفتح التحتانية وتخفيف المهملة وهو صوت الشاة الشديد " قال: واليعار ليس بشيء كذا فيه وكذا لم أره هنا في شيء من نسخ الصحيح. وقال غيره: اليعار بضم أوله صوت المعز، يعرت العنز تيعر بالكسر وبالفتح يعارا إذا صاحت. قوله: "ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه" وفي رواية عبد الله بن محمد " عفرة إبطه " بالإفراد، ولأن ذر " عفر " بفتح أوله ولبعضهم بفتح الفاء أيضا بلا هاء، وكالأول في رواية شعيب بلفظ: "حتى إنا لننظر إلى " والعفرة بضم المهملة وسكون الفاء تقدم شرحها في " كتاب الصلاة " وحاصله أن العفر بياض ليس بالناصع. قوله: "ألا" بالتخفيف "هل بلغت" بالتشديد "ثلاثا" أي أعادها ثلاث مرات. وفي رواية عبد الله بن محمد في الهبة " اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ثلاثا " وفي رواية مسلم: "قال اللهم هل بلغت مرتين " ومثله لأبي داود ولم يقل " مرتين " وصرح في رواية الحميدي بالثالثة " اللهم بلغت " والمراد بلغت حكم الله إليكم امتثالا لقوله تعالى له "بلغ" وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياؤهم ما أرسلوا به إليهم. قوله: "وزاد هشام" هو من مقول سفيان وليس تعليقا من البخاري، وقد وقع في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا الزهري وهشام بن عروة قالا حدثنا عروة بن الزبير " وساقه عنهما مساقا واحدا وقال في آخره: "قال سفيان: زاد فيه هشام". قوله: "سمع أذني" بفتح السين المهملة وكسر الميم وأذني بالإفراد بقرينة قوله: "وأبصرته عيني " قال عياض: بسكون الصاد المهملة والميم وفتح الراء والعين للأكثر وحكى عن سيبويه قال العرب تقول سمع أذني زيدا بضم العين، قال عياض والذي في ترك الحيل وجهه النصب على المصدر لأنه لم يذكر المفعول وقد تقدم القول في ذلك في ترك الحيل ووقع عند مسلم في رواية أبي أسامة " بصر وسمع " بالسكون فيهما والتثنية في أذني وعيني، وعنده في رواية ابن نمير بصر عيناي وسمع أذناي. وفي رواية ابن جريج عن هشام عند أبي عوانة " بصر عينا أبي حميد وسمع أذناه". قلت: وهذا يتعين أن يكون بضم الصاد وكسر الميم وفي رواية مسلم من طريق أبي الزناد عن عروة قلت لأبي حميد أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال من فيه إلى أذني، قال النووي: معناه إنني أعلمه علما يقينا لا أشك في علمي به. قوله: "وسلوا زيد بن ثابت فإنه سمعه معي" في رواية الحميدي " فإنه كان حاضرا معي " وفي رواية الإسماعيلي

(13/166)


من طريق معمر عن هشام " يشهد على ما أقول زيد بن ثابت يحك منكبه منكبي، رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي رأيت وشهد مثل الذي شهدت " وقد ذكرت في الأيمان والنذور أني لم أجده من حديث زيد بن ثابت. قوله: "ولم يقل الزهري سمع أذني" هو مقول سفيان أيضا. قوله: "خوار صوت، والجؤار من تجأرون كصوت البقرة" هكذا وقع هنا وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني والأول بضم الخاء المعجمة يفسر قوله في حديث أبي حميد " بقرة لها خوار " وهو في الرواية بالخاء المعجمة ولبعضهم بالجيم، وأشار إلى ما في سورة طه {عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} وهو صوت العجل، ويستعمل في غير البقر من الحيوان. وأما قوله: "والجؤار " فهو بضم الجيم وواو مهموزة ويجوز تسهيلها، وأشار بقوله: "يجأرون " إلى ما في سورة قد أفلح {بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قال أبو عبيدة: أي يرفعون أصواتهم كما يجأر الثور. والحاصل أنه بالجيم وبالخاء المعجمة بمعنى، إلا أنه بالخاء للبقر وغيرها من الحيوان وبالجيم للبقر والناس قال الله تعالى {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} وفي قصة موسى " له جؤار إلى الله بالتلبية " أي صوت عال، وهو عند مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي العالية عن ابن عباس، وقيل أصله في البقر واستعمل في الناس، ولعل المصنف أشار أيضا إلى قراءة الأعمش، عجلا جسدا له جؤار بالجيم، وفي الحديث من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال " أما بعد " في الخطبة كما تقدم في الجمعة، ومشروعية محاسبة المؤتمن، وقد تقدم البحث فيه في الزكاة، ومنع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم وتقدم تفصيل ذلك في ترك الحيل، ومحل ذلك إذا لم يأذن له الإمام في ذلك، لما أخرجه الترمذي من رواية قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول " وقال المهلب: فيه أنها إذا أخذت تجعل في بيت المال ولا يختص العام منها إلا بما أذن له فيه الإمام، وهو مبني على أن ابن اللتبية أخذ منه ما ذكر أنه أهدى له وهو ظاهر السياق، ولا سيما في رواية معمر قبل، ولكن لم أر ذلك صريحا. ونحوه قول ابن قدامة في " المغني " لما ذكر الرشوة: وعليه ردها لصاحبها ويحتمل أن تجعل في بيت المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها. وقال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه. وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله: "هلا جلس في بيت أبيه وأمه " جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك، كذا قال، ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطئ، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع وأبلغ في طمأنينته والله أعلم.

(13/167)


25 - باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِي وَاسْتِعْمَالِهِمْ
7175 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ"

(13/167)


قوله: "باب استقضاء الموالي" أي توليتهم القضاء "واستعمالها" أي على إمرة البلاد حربا أو خراجا أو صلاة. قوله: "كان سالم مولى أبي حذيفة" تقدم التعريف به في الرضاع. قوله: "يؤم المهاجرين الأولين" أي الذين سبقوا بالهجرة إلى المدينة. قوله: "فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة" أي ابن عبد الأسد المخزومي زوج أم سلمة أم المؤمنين قبل النبي صلى الله عليه وسلم وزيد أي ابن حارثة وعامر بن ربيعة أي العنزي بفتح المهملة والنون بعدها زاي وهو مولى عمر، وقد تقدم في " كتاب الصلاة " في أبواب الإمامة من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا، فأفاد سبب تقديمه للإمامة. وقد تقدم شرحه مستوفى هناك في " باب إمامة المولى " والجواب عن استشكال عد أبي بكر الصديق فيهم لأنه إنما هاجر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في حديث ابن عمر أن ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت جواب البيهقي بأنه يحتمل أن يكون سالم استمر يؤمهم بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها، فيحتمل أن يقال فكان أبو بكر يصلي خلفه إذا جاء إلى قباء. وقد تقدم في " باب الهجرة إلى المدينة " من حديث البراء بن عازب " أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، ثم قدم بلال وسعد وعمار، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين " وذكرت هناك أن ابن إسحاق سمى منهم ثلاثة عشر نفسا وأن البقية يحتمل أن يكونوا من الذين ذكرهم ابن جريج، وذكرت هناك الاختلاف فيمن قدم مهاجرا من المسلمين وأن الراجح أنه أبو سلمة بن عبد الأسد، فعلى هذا لا يدخل أبو بكر ولا أبو سلمة في العشرين المذكورين، وقد تقدم أيضا في أول الهجرة أن ابن إسحاق ذكر أن عامر بن ربيعة أول من هاجر ولا ينافي ذلك حديث الباب لأنه كان يأتم بسالم بعد أن هاجر سالم. ومناسبة الحديث للترجمة من جهة تقديم سالم وهو مولى على من ذكر من الأحرار في إمامة الصلاة، ومن كان رضا في أمر الدين فهو رضا في أمور الدنيا، فيجوز أن يولي القضاء والإمرة على الحرب وعلى جباية الخراج، وأما الإمامة العظمى فمن شروط صحتها أن يكون الإمام قرشيا، وقد مضى البحث في ذلك في أول " كتاب الأحكام " ويدخل في هذا ما أخرجه مسلم من طريق أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال: من استعملت عليهم؟ فقال: ابن أبزى يعني ابن عبد الرحمن، قال: استعملت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: إن نبيكم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين".

(13/168)


26 - باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ
7176, 7177 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "حِينَ أَذِنَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي عِتْقِ سَبْيِ هَوَازِنَ إِنِّي لاَ أَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا

(13/168)


قوله: "باب العرفاء للناس" بالمهملة والفاء جمع عريف بوزن عظيم، وهو القائم بأمر طائفة من الناس من عرفت بالضم وبالفتح على القوم أعرف بالضم فأنا عارف وعريف، أي وليت أمر سياستهم وحفظ أمورهم، وسمي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يعرف بها من فوقه عند الاحتياج. وقيل العريف دون المنكب وهو دون الأمير. قوله: "إسماعيل بن إبراهيم" هو ابن عقبة، والسند كله مدنيون. قوله: "قال ابن شهاب" في رواية محمد بن فليح عن موسى بن عقبة " قال لي ابن شهاب " أخرجها أبو نعيم. قوله: "حين أذن لهم المسلمون في عتق سبي هوازن" في رواية النسائي من طريق محمد بن فليح " حتى أذن له " بالأفراد وكذا للإسماعيلي وأبي نعيم، ووجه الأول أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه أو من أقامه في ذلك. وهذه القطعة مقتطعة من قصة السبي الذي غنمه المسلمون في وقعة حنين " ونسبوا إلى هوازن لأنهم كانوا رأس تلك الوقعة " وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك وتفصيل الأمر فيه في وقعة حنين، وأخرجها هناك مطولة من رواية عقيل عن ابن شهاب وفيه: "وإني رأيت أني أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب بذلك فليفعل، وفيه فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال إنا لا ندري إلخ". قوله: "من أذن فيكم" في رواية الكشميهني: "منكم " وكذا للنسائي والإسماعيلي. قوله: "فأخبروه أن الناس فد طيبوا وأذنوا" تقدم في غزوة حنين ما يؤخذ منه أن نسبة الإذن وغيره إليهم حقيقة: ولكن سبب ذلك مختلف فالأغلب الأكثر طابت أنفسهم أن يردوا السبي لأهله بغير عوض، وبعضهم رده بشرط التعويض، ومعنى " طيبوا " وهو بالتشديد حملوا أنفسهم على ترك السبايا حتى طابت بذلك، يقال طيبت نفسي بكذا إذا حملتها على السماح به من غير إكراه فطابت بذلك، ويقال طيبت بنفس فلان إذا كلمته بكلام يوافقه، وقيل هو من قولهم طاب الشيء إذا صار حلالا، وإنما عداه بالتضعيف، ويؤيده قوله: "فمن أحب أن يطيب ذلك " أي يجعله حلالا، وقولهم " طيبنا " فيحمل عليه قول العرفاء أنهم طيبوا. قال ابن بطال: في الحديث مشروعية إقامة العرفاء لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر جميع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه، قال: والأمر والنهي إذا توجه إلى الجميع يقع التوكل فيه من بعضهم فربما وقع التفريط، فإذا أقام على كل قوم عريفا لم يسع كل أحد إلا القيام بما أمر به. وقال ابن المنير في الحاشية يستفاد منه جواز الحكم بالإقرار بغير إشهاد، فإن العرفاء ما أشهدوا على كل فرد فرد شاهدين بالرضا، وإنما أقر الناس عندهم وهم نواب للإمام فاعتبر ذلك وفيه أن الحاكم يرفع حكمه إلى حاكم آخر مشافهة فينفذه إذا كان كل منهما في محل ولايته. قلت: وقع في سير الواقدي أن أبارهم الغفاري كان يطوف على القبائل حتى جمع العرفاء واجتمع الأمناء على قول واحد. وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنح إقامة العرفاء لأنه محمول - إن ثبت - على أن الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية، والحديث المذكور أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معد يكرب رفعه: "العرافة حق، ولا بد للناس من عريف، والعرفاء في النار " ولأحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن أبي علي عن أبي حازم عن أبي هريرة رفعه: "ويل للأمراء، ويل للعرفاء " قال الطيبي: قوله: "والعرفاء في النار " ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير آمن من الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار. قلت: ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الأمراء بما توعد به العرفاء،

(13/169)


فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم وأن الكل على خطر، والاستثناء مقدر في الجميع. وأما قوله: "العرافة حق " فالمراد به أصل نصبهم، فإن المصلحة تقتضيه لما يحتاج إليه الأمير من المعاونة على ما يتعاطاه بنفسه، ويكفي في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث الباب.

(13/170)


27 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ
7178 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُنَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ قَالَ كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا
7179 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ
قوله: "ما يكره من ثناء السلطان" الإضافة فيه للمفعول أي من الثناء على السلطان بحضرته، بقرينة قوله: "وإذا خرج - أي من عنده - قال غير ذلك " ووقع عند ابن بطال " من الثناء على السلطان " وكذا عند أبي نعيم عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري، وقد تقدم معنى هذه الترجمة في أواخر " كتاب الفتن". " إذا قال عند قوم شيئا، ثم خرج فقال بخلافه " وهذه أخص من تلك. قوله: "قال أناس لابن عمر" قلت سمي منهم عروة بن الزبير ومجاهد وأبو إسحاق الشيباني، ووقع عند الحسن بن سفيان من طريق معاذ عن عاصم عن أبيه " دخل رجل على ابن عمر " أخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "إنا ندخل على سلطاننا" في رواية الطيالسي عن عاصم " سلاطيننا " بصيغة الجمع. قوله: "فيقول لهم" أي نثني عليهم، في رواية الطيالسي فنتكلم بين أيديهم بشيء ووقع عند ابن أبي شيبة من طريق أبي الشعثاء قال دخل قوم على ابن عمر فوقعوا في يزيد بن معاوية فقال: "أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا بل نمدحهم ونثني عليهم " وفي رواية عروة بن الزبير عند الحارث بن أبي أسامة والبيهقي قال: "أتيت ابن عمر فقلت إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم " لفظ البيهقي في رواية الحارث " يا أبا عبد الرحمن إنا ندخل على الإمام يقضي بالقضاء نراه جورا فنقول تقبل الله، فقال: إنا نحن معاشر محمد " فذكر نحوه. وفي " كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الأصبهاني بسنده عن عريب الهمداني " قلت لابن عمر " فذكر نحوه وعريب بمهملة وموحدة وزن عظيم، وللخرائطي في " المساوي " من طريق الشعبي " قلت لابن عمر: إنا ندخل على أمرائنا فنمدحهم، فإذا خرجنا قلنا لهم خلاف ذلك فقال كنا نعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاقا " وفي مسند مسدد من رواية يزيد بن أبي زياد عن مجاهد " أن رجلا قدم على ابن عمر فقال له: كيف أنتم وأبو أنيس الضحاك بن قيس قال: إذا لقيناه قلنا له ما يحب، وإذا ولينا عنه قلنا له غير ذلك، قال: ذاك ما كنا نعده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق " وفي الأوسط للطبراني من طريق الشيباني يعني أبا إسحاق وسليمان بن فيروز الكوفي. قوله: "كنا نعدها" بضم العين من العد هكذا اختصره أبو ذر، وله عن الكشميهني: "نعد هذا " وعند غير أبي ذر مثله وزادوا " نفاقا " وعند ابن بطال " ذلك " بدل " هذا ومثله للإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون عن عاصم بن محمد " وعنده " من النفاق " وزاد: قال عاصم: فسمعني

(13/170)


أخي - يعني عمر - أحدث بهذا الحديث: "فقال: قال أبي قال ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكذا أخرجه الطيالسي في مسنده عن عاصم بن محمد إلى قوله: "نفاقا " قال عاصم: فحدثني أخي عن أبي أن ابن عمر قال: "كنا نعده نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ووقع في " الأطراف للمزي " ما نصه " خ في الأحكام عن أبي نعيم عن عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه به " قال ورواه معاذ بن معاذ عن عاصم وقال في آخره: "فحدثت به أخي عمر فقال: إن أباك كان يزيد فيه: في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قوله: "وقال معاذ إلى آخره: لم يذكره أبو مسعود، فيحتمل أن يكون نقله من كتاب خلف، ولم أره في شيء من الروايات التي وقعت لنا عن الفربري ولا غيره عن البخاري وقد قال الإسماعيلي: عقب الزيادة المذكورة ليس في حديث البخاري " على عهد رسول الله". قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" هو المصري من صغار التابعين. قوله: "عن عراك" بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وآخره كاف هو ابن مالك الغفاري المدني، فالسند دائر بين مصري ومدني. قوله: "إن شر الناس ذو الوجهين" تقدم في " باب ما قيل في ذي الوجهين " من " كتاب الأدب " من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "من شر الناس " وتقدم شرحه وسائر فوائده هناك. وتعرض ابن بطال هنا لذكر ما يعارض ظاهره من قوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذن عليه " بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له القول " وتكلم على الجمع بينهما، وحاصله أنه حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله وحيث تلقاه بالبشر كان لتأليفه أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين. ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح، وقد تقدم الكلام عليه أيضا في " باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا " من " كتاب الأدب " وتقدم فيه أيضا بيان ما يجوز من الاغتياب في " باب آخر بعد ذلك".

(13/171)


28 - باب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
7180- حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن هندا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح فأحتاج أن آخذ من ماله قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
قوله: "القضاء على الغائب" أي في حقوق الآدميين دون حقوق الله بالاتفاق، حتى لو قامت البينة على غائب بسرقة مثلا، حكم بالمال دون القطع، قال ابن بطال: أجاز مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبره، وأنكر ابن الماجشون صحة ذلك عن مالك وقال: "العمل بالمدينة على الحكم على الغائب مطلقا حتى لو غاب بعد أن توجه عليه الحكم قضي عليه " وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: "لا يقضي على الغائب مطلقا. وأما من هرب أو استتر بعد إقامة البينة فينادي القاضي عليه ثلاثا فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه " وقال ابن قدامة: أجازه أيضا ابن شبرمة والأوزاعي وإسحاق وهو أحد الروايتين عن أحمد، ومنعه أيضا الشعبي والثوري وهي الرواية الأخرى عن أحمد قال: "واستثنى أبو حنيفة من له وكيل مثلا، فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى على وكيله " واحتج من منع بحديث على رفعه: "لا تقضي لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر " وهو حديث حسن، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وبحديث: "الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم تسمع بينة المدعي حتى يسأل

(13/171)


المدعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبا عليه " وأجاب من أجاز: بأن ذلك كله لا يمنع الحكم على الغائب لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم السابق، وحديث على محمول على الحاضرين. وقال ابن العربي: حديث علي، إنما هو مع إمكان السماع فأما مع تعذره بمغيب فلا يمنع الحكم، كما لو تعذر بإغماء أو جنون أو حجر أو صغر، وقد عمل الحنفية بذلك في الشفعة والحكم على من عنده للغائب مال أن يدفع منه " نفقة زوج الغائب". ثم ذكر المصنف حديث عائشة في قصة هند، وقد احتج بها الشافعي وجماعة لجواز القضاء على الغائب، وتعقب بأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد، وتقدم بيان ذلك مستوفى في " كتاب النفقات " مع شرح الحديث المذكور ولله الحمد. وذكر ابن التين فيه من الفوائد غير ما تقدم " خروج المرأة في حوائجها، وإن صوتها ليس بعورة". قلت: وفي كل منهما نظر، وأما الأول فلأنه جاء أن هندا كانت جاءت للبيعة فوقع ذكر النفقة تبعا. وأما الثاني فحال الضرورة مستثنى وإنما النزاع حيث لا ضرورة.

(13/172)


29 - باب مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْهُ
فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لاَ يُحِلُّ حَرَامًا وَلاَ يُحَرِّمُ حَلاَلًا
7181 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا
7182 - حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن بن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال بن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام إليه عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله بن أخي كان عهد إلي فيه وقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله تعالى قوله: "باب" بالتنوين " من قضى له " بضم أوله " بحق أخيه " أي خصمه فهي أخوة بالمعنى الأعم وهو الجنس لأن المسلم والذمي والمعاهد والمرتد في هذا الحكم سواء، فهو مطرد في الأخ من النسب ومن الرضاع وفي الدين وغير ذلك، ويحتمل أن يكون تخصيص الأخوة بالذكر من باب التهييج، وإنما عبر بقوله بحق أخيه مراعاة للفظ الخبر ولذلك قال: "فلا يأخذه " لأنه بقية الخبر، وهذا اللفظ وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه، وقد تقدم في ترك الحيل من طريق الثوري عنه"
قوله "باب" بالتنوين من قضي له بضم أوله بحق أخيه أي خصمه فهي أخوة بالمعنى الأعم وهو

(13/172)


الجنس لأن المسلم والذمي والمعاهد والمرتد في هذا الحكم سواء فهو مطرد في الأخ من النسب ومن الرضاع وفي الدين وغير ذلك ويحتمل ان يكون تخصيص الأخوة بالذكر من باب التهييج وانما عبر بقوله بحق أخيه مراعاة للفظ الخبر ولذلك قال فلا يأخذه لأنه بقية الخبر وهذا اللفظ وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه وقد تقدم في ترك الحيل من طريق الثوري عنه قوله: "فإن قضاء الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا" هذا الكلام أخذه من قول الشافعي فإنه لما ذكر هذا الحديث قال: "فيه دلالة على أن الأمة، إنما كلفوا القضاء على الظاهر " وفيه: "أن قضاء القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما". قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان وصرح به في رواية الإسماعيلي. قوله: "سمع خصومة" في رواية شعيب عن الزهري " سمع جلبة خصام " والجلبة بفتح الجيم واللام: اختلاط الأصوات، ووقع في رواية يونس عند مسلم: "جلبة خصم " بفتح الخاء وسكون الصاد، وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمثنى مذكرا ومؤنثا ويجوز جمعه وتثنيته كما في رواية الباب: "خصوم " وكما في قوله تعالى :{هذان خصمان} ولمسلم من طريق معمر عن هشام " لجبة " بتقديم اللام على الجيم، وهي لغة فيها فأما الخصوم فلم أقف على تعيينهم ووقع التصريح بأنهما كانا اثنين في رواية عبد الله بن رافع عن أم سلمة عند أبي داود ولفظه: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان " وأما الخصومة فبين في رواية عبد الله بن رافع أنها كانت " في مواريث لهما " وفي لفظ عنده " في مواريث وأشياء قد درست". قوله: "بباب حجرته" في رواية شعيب ويونس عند مسلم: "عند بابه " والحجرة المذكورة هي منزل أم سلمة ووقع عند مسلم في رواية معمر " بباب أم سلمة". قوله: "إنما أنا بشر" البشر الخلق يطلق على الجماعة والواحد، بمعنى أنه منهم والمراد أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته وصفاته، والحصر هنا مجازي لأنه يختص بالعلم الباطن ويسمى " قصر قلب " لأن أتى به ردا على من زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم. قوله: "وأنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض" في رواية سفيان الثوري " في ترك الحيل، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " ومثله لمسلم من طريق أبي معاوية وتقدم البحث في المراد بقوله ألحن في ترك الحيل. قوله: "فأحسب أنه صادق" هذا يؤذن أن في الكلام حذفا تقديره " وهو في الباطن كاذب " وفي رواية معمر " فأظنه صادقا". قوله: "فأقضي له بذلك" في رواية أبي داود من طريق الثوري " فأقضى له عليه على نحو مما أسمع " ومثله في رواية أبي معاوية وفي رواية عبد الله بن رافع " إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه". قوله: "فمن قضيت له بحق مسلم" في رواية مالك ومعمر " فمن قضيت له بشيء من حق أخيه " وفي رواية الثوري " فمن قضيت له من أخيه شيئا " وكأنه ضمن قضيت معنى " أعطيت " ووقع عند أبي داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه: "فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه " وفي رواية عبد الله بن رافع عند الطحاوي والدار قطني " فمن قضيت له بقضية أراها يقطع بها قطعة ظلما فإنما يقطع له بها قطعة من نار إسطاما يأتي بها في عنقه يوم القيامة " والإسطام بكسر الهمزة وسكون المهملة والطاء المهملة " قطعة " فكأنها للتأكيد. قوله: "فإنما هي" الضمير للحالة أو القصة. قوله: "قطعة من النار" أي " الذي قضيت له به " بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يئول به إلى النار، وقوله قطعة من النار، تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى {إنما يأكلون في بطونهم نارا} . قوله: "فيأخذها أو ليتركها" في رواية يونس " فليحملها

(13/173)


أو ليذرها " وفي رواية مالك عن هشام " فلا يأخذه " فإنما أقطع له " قطعة من النار " قال الدار قطني: هشام وإن كان ثقة لكن الزهري أحفظ منه، وحكاه الدار قطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري. قلت: ورواية الزهري ترجع إلى رواية هشام فإن الأمر فيه للتهديد لا لحقيقة التخيير، بل هو كقوله. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} قال ابن التين: هو خطاب للمقضي له، ومعناه: أنه أعلم من نفسه، هل هو محق أو مبطل؟ فإن كان محقا فليأخذ، وإن كان مبطلا فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه. "تنبيه": زاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث: "فبكى الرجلان. وقال كل منهما حقي لك فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحاللا " وفي هذا الحديث من الفوائد إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطل حرام عليه وفيه: "أن من ادعى مالا ولم يكن له بينة، فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف، أنه لا يبرأ في الباطن، وأن المدعي لو أقام بينة بعد ذلك تنافي دعواه سمعت وبطل الحكم " وفيه: "أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم " وفيه: "أن المجتهد قد يخطئ فيرد به على من زعم أن كل مجتهد مصيب " وفيه: "أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر " كما سيأتي وفيه: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء وخالف في ذلك قوم " وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم، وفيه: "أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته " واحتج من منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه، حتى قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية: وبأن الإجماع معصوم من الخطأ، فالرسول أولى بذلك لعلو رتبته والجواب عن الأول: "أن الأمر إذا استلزم إيقاع الخطأ لا محذور فيه، لأنه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ " والجواب عن الثاني: "أن الملازمة مردودة فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول، فرجع الاتباع إلى الرسول لا إلى نفس الإجماع " والحديث حجة لمن أثبت " أنه قد يحكم بالشيء في الظاهر، ويكون الأمر في الباطن بخلافه " ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلا ولا نقلا، وأجاب من منعه بأن الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنية على الإقرار أو البينة، ولا مانع من وقوع ذلك فيها، ومع ذلك فلا يقر على الخطأ، وإنما الممتنعة أن يقع فيه الخطأ " أن يخبر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا ويكون ذلك ناشئا عن اجتهاده " فإنه لا يكون إلا حقا، لقوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} الآية. وأجيب بأن ذلك يستلزم الحكم الشرعي فيعود الإشكال كما كان، ومن حجج من أجاز ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم " فيحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين - ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك - والحكمة في ذلك مع أنه كان يمكن اطلاعه بالوحي على كل حكومة أنه لما كان مشرعا، كان يحكم بما شرع للمكلفين ويعتمده الحكام بعده، ومن ثم قال: "إنما أنا بشر " أي " في الحكم بمثل ما كلفوا به " وإلى هذه النكتة أشار المصنف بإيراده حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة حيث حكم صلى الله عليه وسلم بالولد لعبد بن زمعة وألحقه بزمعة، ثم لما رأى شبهة بعتبة أمر سودة أن

(13/174)


تحتجب منه احتياطا، ومثله قوله في قصة المتلاعنين لما وضعت التي لو عنت ولدا يشبه الذي رميت به " لولا الإيمان لكان لي ولها شأن " فأشار البخاري إلى أنه صلى الله عليه وسلم حكم في ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو كان في نفس الأمر ليس من زمعة ولا يسمى ذلك خطأ في الاجتهاد، ولا هو من موارد الاختلاف في ذلك، وسبقه إلى ذلك الشافعي فإنه لما تكلم على حديث الباب قال: "وفيه أن الحكم بين الناس يقع على ما يسمع من الخصمين بما لفظوا به وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك، وأنه لا يقضي على أحد بغير ما لفظ به " فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب الله وسنة نبيه قال: "ومثل هذا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة، فلما رأى الشبه بينا بعتبة قال احتجبي منه يا سودة انتهى. ولعل السر في قوله {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} امتثال قول الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي في إجراء الأحكام على الظاهر الذي يستوي فيه جميع المكلفين، فأمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به، ليتم الاقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، والحاصل أن هنا مقامين أحدهما " طريق الحكم " وهو الذي كلف المجتهد بالتبصر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصواب. وفيه البحث، والآخر " ما يبطنه الخصم ولا يطلع عليه إلا الله ومن شاء من رسله " فلم يقع التكليف به. قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك، إن كان في الباطن كما هو في الظاهر نفذ على ما حكم به، وإن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبا للتمليك ولا الإزالة ولا النكاح ولا الطلاق ولا غيرها، وهو قول الجمهور، ومعهم أبو يوسف، وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كان في مال، وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر، لم يكن ذلك موجبا لحله للمحكوم له وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه ينفذ باطنا وظاهرا، وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما عداه بقصة المتلاعنين فإنه صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به، قال: فيؤخذ من هذا أن " كل قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه " وأن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الأموال، وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب، وهو أصل برأسه فلا يقاس عليه، وأجاب غيره من الحنفية بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين، وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على الشهادة وبأن " من " في قوله فمن قضيت له شرطية - وهي لا تستلزم الوقوع - فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما تعلق به غرض وهو هنا محتمل لأن يكون للتهديد والزجر عن الإقدام على أخذ أموال الناس باللسن والإبلاغ في الخصومة، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا في العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون فيه حجة لمن منع وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم يقر على الخطأ لأنه لا يكون ما قضى به " قطعة من النار " إلا إذا استمر الخطأ، وإلا فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه، وظاهر الحديث يخالف ذلك، فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم، وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو باطل، والجواب عن الأول: أنه خلاف الظاهر، وكذا الثاني، والجواب عن الثالث: أن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم الصادر منه بناء على شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للاتفاق على وجوب العمل

(13/175)


بالشهادة وبالإيمان، وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك، كما تقدمت الإشارة إليه في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وحديث: "إني لم أؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس " وعلى هذا فالحجة من الحديث ظاهرة في شمول الخبر: الأموال والعقود والفسوخ والله أعلم. ومن ثم قال الشافعي " إنه لا فرق في دعوى حل الزوجة لمن أقام بتزويجها بشاهدي زور وهو يعلم بكذبهما، وبين من ادعى على حر أنه في ملكه " وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حريته، فإذا حكم له الحاكم بأنه ملكه لم يحل له أن يسترقه بالإجماع قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يحل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح، وللإجماع السابق على قائلة ولقاعدة أجمع العلماء عليها ووافقهم القائل المذكور، وهو " أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال " وقال ابن العربي: إن كان حاكما نفذ على المحكوم له أو عليه " وإن كان مفتيا لم يحل، فإن كان المفتى له مجتهدا يرى بخلاف ما أفتاه به لم يجز، وإلا جاز " والله أعلم. قال: ويستفاد من قوله: "وتوخيا الحق جواز الإبراء من المجهول، لأن التوخي لا يكون في المعلوم " وقال القرطبي: شنعوا على من قال ذلك قديما وحديثا لمخالفة الحديث الصحيح؛ " ولأن فيه صيانة المال وابتذال الفروج، وهي أحق أن يحتاط لها وتصان " واحتج بعض الحنفية بما جاء عن علي " أن رجلا خطب امرأة فأبت فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين، فقالت المرأة أنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه فقد رضيت، فقال: شهداك زوجاك، وأمضى عليها النكاح " وتعقب بأنه لم يثبت عن علي، واحتج المذكور من حيث النظر بأن الحاكم قضى بحجة شرعية فيما له ولاية الإنشاء فيه فجعل الإنشاء تحرزا عن الحرام، والحديث صريح في المال وليس النزاع فيه، فإن القاضي لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، ويملك إنشاء العقود والفسوخ، فإنه يملك بيع أمة زيد مثلا من عمرو حال خوف الهلاك للحفظ وحال الغيبة، ويملك إنشاء النكاح على الصغيرة، والفرقة على العينين، فيجعل الحكم إنشاء احترازا عن الحكم، ولأنه لو لم ينفذ باطنا فلو حكم بالطلاق لبقيت حلالا للزوج الأول باطنا وللثاني ظاهرا، فلو ابتلى الثاني مثل ما ابتلى الأول حلت للثالث، وهكذا فتحل لجمع متعدد في زمن واحد، ولا يخفى فحشة بخلاف ما إذا قلنا بنفاذه باطنا فإنها لا تحل إلا لواحد، انتهى وتعقب بأن الجمهور إنما قالوا في هذا: تحرم على الثاني مثلا إذا علم أن الحكم ترتب على شهادة الزور، فإذا اعتمد الحكم وتعمد الدخول بها فقد ارتكب محرما كما لو كان الحكم بالمال فأكله، ولو ابتلى الثاني كان حكم الثالث كذلك والفحش إنما لزم من الإقدام على تعاطي المحرم، فكان كما لو زنوا ظاهرا واحدا بعد واحد. وقال ابن السمعاني: شرط صحة الحكم وجود الحجة وإصابة المحل، وإذا كانت البينة في نفس الأمر شهود زور لم تحصل الحجة، لأن حجة الحكم هي البينة العادلة فإن حقيقة الشهادة إظهار الحق؛ وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإن كان الشهود كذبة لم تكن شهادتهم حقا، قال: "فإن احتجوا بأن القاضي حكم بحجة شرعية أمر الله بها وهي البينة العادلة في علمه ولم يكلف بالإطلاع على صدقهم في باطن الأمر، فإذا حكم بشهادتهم فقد امتثل ما آمر به فلو قلنا لا ينفذ في باطن الأمر للزم إبطال ما وجب بالشرع لأن صيانة الحكم عن الأبطال مطلوبة فهو بمنزلة القاضي في مسألة اجتهادية على مجتهد لا يعتقد ذلك فإنه يجيب عليه قبول ذلك وإن كان لا يعتقده صيانة للحكم " وأجاب ابن السمعاني. بأن هذه الحجة للنفوذ ولهذا لا يأثم القاضي وليس من ضرورة وجوب القضاء نفوذ القضاء حقيقة في باطن الأمر، وإنما يجب صيانة القضاء عن الإبطال إذا

(13/176)


صادف حجة صحيحة والله أعلم. فرع: لو كان المحكوم له يعتقد خلاف ما حكم له به الحاكم، هل يحل له أخذ ما حكم له به أو لا؟ كمن مات ابن ابنه وترك أخا شقيقا فرفعه لقاض يرى في الجد رأى أبي بكر الصديق، فحكم له بجميع الإرث دون الشقيق، وكان الجد المذكور يرى رأي الجمهور، نقل ابن المنذر عن الأكثر أنه " يجب على الجد أن يشارك الأخ الشقيق " عملا بمعتقده والخلاف في المسألة مشهور، واستدل بالحديث لمن قال: "إن الحاكم لا يحكم بعلمه " بدليل الحصر في قوله: "إنما أقضي له بما أسمع " وقد تقدم البحث فيه قبل، وفيه: إن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله: "أبلغ " أي أكثر بلاغة " ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق، فالبلاغة إذن لا تذم لذاتها وإنما تذم بحسب التعلق الذي يمدح بسببه وهي في حد ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره ممن لم يصل إلى درجته ولا سيما إن كان الغير من أهل الصلاح فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجية عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها بل كل فتنة توصل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها وقد تذم أو تمدح بحسب متعلقها، واختلف في تعريف البلاغة فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ، وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار، وقيل: قليل لا يبهم وكثير لا يسأم؛ وقيل: إجمال اللفظ واتساع المعنى، وقيل: تقليل اللفظ وتكثير المعنى، وقيل: حسن الإيجاز مع إصابة المعنى، وقيل: سهولة اللفظ مع البديهة، وقيل: لمحة دالة أو كلمة تكشف عن البغية، وقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ، وقيل: النطق في موضعه والسكوت في موضعه، وقيل معرفة الفصل والوصل، وقيل: الكلام الدال أوله على آخره وعكسه. وهذا كله عن المتقدمين، وعرف أهل المعاني والبيان البلاغة: بأنها " مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحة " وهي خلوه عن التعقيد. وقالوا المراد بالمطابقة: ما يحتاج إليه المتكلم بحسب تفاوت المقامات، كالتأكيد وحذفه، والحذف وعدمه، أو الإيجاز والإسهاب ونحو ذلك، والله أعلم. وفيه الرد على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها، واحتج بأن الشاهد المتصل به أقوى من المنفصل عنه ووجه الرد عليه كونه صلى الله عليه وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقا، ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر في الأمور العامة فلو كان المدعي صحيحا لكان الرسول أحق بذلك، فإنه أعلم إنه تجري الأحكام على ظاهرها، ولو كان يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية، وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك. نعم: لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه علما حسيا بمشاهدة أو سماع، يقينيا أو ظنيا راجحا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة، ونقل بعضهم الاتفاق وإن وقع الاختلاف في القضاء بالعلم، كما تقدم في " باب الشهادة " تكون عند الحاكم في ولايته القضاء، وفي الحديث أيضا: موعظة الإمام الخصوم ليعتمدوا الحق والعمل بالنظر الراجح وبناء الحكم عليه وهو أمر إجماعي للحام والمفتي، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(13/177)


30 - باب الْحُكْمِ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا
7183 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِي

(13/177)


وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ فَجَاءَ الأَشْعَثُ وَعَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ فِيَّ نَزَلَتْ وَفِي رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِي بِئْرٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ قُلْتُ لاَ قَالَ فَلْيَحْلِفْ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ فَنَزَلَتْ {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه} الْآيَةَ"
قول "باب الحكم في البئر ونحوها" ذكر فيه حديث عبد الله - وهو ابن مسعود - في نزول قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} وفيه قول الأشعث " في نزلت، وفي رجل خاصمته في بئر، وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الأيمان والنذور" قال ابن بطال: هذا الحديث حجة في أن حكم الحاكم في الظاهر لا يحل الحرام ولا يبيح المحظور، لأنه صلى الله عليه وسلم حذر أمته عقوبة من اقتطع من حق أخيه شيئا بيمين فاجرة، والآية المذكورة من أشد وعيد جاء في القرآن، فيؤخذ من ذلك أن من تحيل على أخيه وتوصل إلى شيء من حقه بالباطل فإنه لا يحل له لشدة الإثم فيه، قال ابن المنير: وجه دخول هذه الترجمة في القصة مع أنه لا فرق بين البئر والدار والعبد حتى ترجم على البئر وحدها، أنه أراد الرد على من زعم أن الماء لا يملك، فحقق بالترجمة أنه يملك لوقوع الحكم بين المتخاصمين فيها، انتهى. وفيه نظر من وجهين أحدهما: أنه لم يقتصر في الترجمة على البئر بل قال ونحوها، والثاني: لو اقتصر لم يكن فيه حجة على من منع بيع الماء لأنه يجوز بيع البئر ولا يدخل الماء، وليس في الخبر تصريح بالماء فكيف يصح الرد.

(13/178)


31 - باب الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ
7185 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته عن أمها أم سلمة قالت "سمع النبي صلى الله عليه وسلم جلبة خصام ثم بابه فخرج عليهم فقال إنما أن بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضا أن يكون أبلغ من بعض أقضي له بذلك وأحسب أنه صادق فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها"
قوله: "باب" بالتنوين "القضاء في قليل المال وكثيره سواء" قال ابن المنير: كأنه خشي غائلة لتخصيص في الترجمة التي قبل هذه " فترجم بأن القضاء عام في كل شيء: قل أو جل " ثم ذكر فيه حديث أم سلمة المذكور قبل بباب، لقوله فيه فمن قضيت له بحق مسلم وهو يتناول القليل والكثير، وكأنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال: "إن للقاضي أن يستنيب بعض من يريد في بعض الأمور دون بعض، بحسب قوة معرفته ونفاذ كلمته في ذلك " وهو منقول عن بعض المالكية، أو على من قال: "لا يجب اليمين إلا في قدر معين من المال، ولا تجب في الشيء

(13/178)


التافه أو على من كان من القضاة لا يتعاطى الحكم في الشيء التافه، بل إذا رفع إليه رده إلى نائبه مثلا " قاله ابن المنير، قال: وهو نوع من الكبر، والأول أليق بمراد البخاري. قوله: "وقال ابن عيينة" هو سفيان الهلالي "عن ابن شبرمة" هو عبد الله الضبي "القضاء في قليل المال وكثيره سواء" ولم يقع لي هذا الأثر موصولا.

(13/179)


32 - باب بَيْعِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ
وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ
7186 - حدثنا بن نمير حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسماعيل حدثنا سلمة بن كهيل عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه"
قوله: "باب بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم" قال ابن المنير: "أضاف البيع إلى الإمام ليشير إلى أن ذلك يقع في مال السفيه أو في وفاء دين الغائب أو من يمتنع أو غير ذلك " ليتحقق أن للإمام التصرف في عقود الأموال في الجملة. قوله: "وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم مدبرا من نعيم بن النحام" قال ابن المنير: ذكر في الترجمة الضياع ولم يذكر إلا بيع العبد، فكأنه أشار إلى قياس العقار على الحيوان ثم أسند حديث جابر قال: "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه " وقد مضى شرحه في " كتاب العتق " ووقع هنا للكشميهني: "عن دين " بفتح الدال وسكون التحتانية بعدها نون، بدل قوله: "عن دبر " بضم الدال والموحدة بعدها راء، والثاني هو المعروف والمشهور في الروايات كلها والأول تصحيف، قال المهلب: إنما يبيع الإمام على الناس أموالهم إذا رأى منهم سفها في أموالهم، وأما من ليس بسفيه فلا يباع عليه شيء من ماله إلا في حق يكون عليه، يعني إذا امتنع من أداء الحق وهو كما قال: لكن قصة بيع المدبر ترد على هذا الحصر وقد أجاب عنها " بأن صاحب المدبر لم يكن له مال غيره، فلما رآه أنفق جميع ماله، وأنه تعرض بذلك للتهلكة نقض عليه فعله ولو كان لم ينفق جميع ماله لم ينقض فعله " كما قال للذي كان يخدع في البيوع " قل لا خلابة " لأنه لم يفوت على نفسه جميع ماله انتهى. فكأنه كان في حكم السفيه: "فلذلك باع عليه ماله " والله أعلم.

(13/179)


33 - باب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لاَ يَعْلَمُ فِي الأُمَرَاءِ حَدِيثًا
7187 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطُعِنَ فِي إِمَارَتِهِ وَقَالَ إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمْرَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ"
قوله: "باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء حديثا" أي " لم يلتفت " وزنه ومعناه وهو افتعال من

(13/179)


34 - باب الأَلَدِّ الْخَصِمِ وَهُوَ الدَّائِمُ فِي الْخُصُومَةِ لُدًّا: عُوجًا. الد: أعوج
7188 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج سمعت بن أبي مليكة يحدث عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"
قوله: "باب الألد الخصم" بفتح المعجمة وكسر الصاد المهملة، وقد تقدم بيان المراد به في " كتاب المظالم " وفي تفسير سورة البقرة، وقوله: "وهو الدائم في الخصومة " من تفسير المصنف، ويحتمل أن يكون المراد " الشديد الخصومة " فإن الخصم من صيغ المبالغة فيحتمل الشدة ويحتمل الكثرة، وقوله: "لدا " عوجا، وقع في رواية الكشميهني: "ألد " أعوج وهو يرد على ابن المنير حيث صحف هذه اللفظة فقال: قوله: "إدا " عوجا، لا أعلم لهذا في هذه الترجمة وجها إلا إن كان أراد أن " الألد " مشتق من اللدد، وهو الاعوجاج والانحراف عن الحق، وأصله من " اللديد " وهو جانب الوادي ويطلق على جانب الفم، ومنه " اللدود " وهو صب الدواء منحرفا عن وسط الفم إلى جانبه، فأراد أن يبين أن العوج يستعمل في المعاني كما يستعمل في الأعيان فمن استعماله في المعاني " اللدود والإد " وهو قوله تعالى {لقد جئتم شيئا إدا " أي شيئا منحرفا عن الصواب ومعوجا عن سمة الاعتدال. قلت: ولم أرها في شيء من نسخ البخاري هنا إلا باللام، وقد تقدم في تفسير سورة مريم نقله عن ابن عباس أنه قال: "إدا

(13/180)


عظيما " وعن مجاهد أنه قال: "لدا عوجا " وذكرت هناك من وصلهما، ووجدت في تفسير عبد بن حميد من طريق معمر عن قتادة في قوله تعالى {قَوْماً لُدّاً} قال جدلا بالباطل، ومن طريق سليمان التيمي عن قتادة قال: "الجدل: الخصم " ومن طريق مجاهد قال: "لا يستقيمون " وهذا نحو قوله: "عوجا " وأسند ابن أبي حاتم من طريق إسماعيل ابن أبي خالد عن أبي صالح في قوله: "وتنذر به قوما لدا " قال: "عوجا عن الحق " وهو بضم العين وسكون الواو وفيه تقوية لما وقع في نسخ الصحيح " واللد " بضم اللام وتشديد الدال، جمع ألد وقد أسند ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: "اللد: الخصم " وكأنه تفسير باللازم لأن من اعوج عن الحق كان كأنه لم يسمع وعن محمد بن كعب قال: "الألد: الكذاب " وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة يقع في الكذب كثيرا، وتفسير " الألد بالأعوج " على ما وقع عند الكشميهني يحمل على انحرافه عن الحق وتفسير " الألد بالشديد الخصومة " لأنه كلما أخذ عليه جانب من الحجة أخذ في آخر أو لأعماله لديديه، وهما جانبا فمه في المخاصمة. وقال أبو عبيدة في " كتاب المجاز " في قوله {قوما لدا} واحدهم ألد " وهو الذي يدعي الباطل ولا يقبل الحق " وذكر حديث عائشة في " الألد " وقد سبق شرحه وقوله: "أبغض الرجال " إلخ قال الكرماني " الأبغض هو الكافر " فمعنى الحديث: "أبغض الرجال الكفار " الكافر: المعاند أو بعض الرجال الخاصمين. قلت: والثاني هو المعتمد وهو أعم من أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا فأفعل التفضيل في حقه على حقيقتها في العموم، وإن كان مسلما فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تفضي غالبا إلى ما يذم صاحبه أو يخص في حق المسلمين بمن خاصم في باطل ويشهد للأول حديث: "كفي بك إثما أن لا تزال مخاصما " أخرجه الطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف وورد الترغيب في ترك الخاصمة، فعند أبي داود من طريق سليمان بن حبيب عن أبي أمامة رفعه: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا " وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل " والربض " بفتح البراء والموحدة بعدها ضاد معجمة " الأسفل".

(13/181)


35 - باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلاَفِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ
7189 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدًا ح و حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَقَالُوا صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ
قوله: "باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد" أى مردود. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وقوله: "وحدثني أبو عبد الله نعيم بن حماد " كذا لأبي ذر عن ابن عمر، ولغيره قال أبو عبد الله وهو المصنف " حدثني نعيم " وساق غير أبي ذر أيضا السند إلى قوله عن ابن عمر بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالدا ووقع في رواية

(13/181)


عبد الرزاق بسنده إلى سالم - وهو ابن عبد الله بن عمر - عن أبيه، وقد تقدم شرح هذا الحديث في المغازي في " باب بعث خالد إلى بني جذيمة " والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " يعني من قتله الذين قالوا: صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين به وقال الخطابي: الحكمة في تبرئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدا أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله ا هـ ملخصا. وقال ابن بطال: الإثم وإن كان ساقطا عن المجتهد في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند الأكثر مع الاختلاف، هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أم بيت المال، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في " كتاب الديات " والذي يظهر: أن التبرأ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة، فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود.

(13/182)


36 - باب الإِمَامِ يَأْتِي قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ
7190 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِي عَمْرٍو فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ فَأَذَّنَ بِلاَلٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلاَةِ فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ قَالَ وَصَفَّحَ الْقَوْمُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْرُغَ فَلَمَّا رَأَى التَّصْفِيحَ لاَ يُمْسَكُ عَلَيْهِ الْتَفَتَ فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ أَنْ امْضِهْ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ هُنَيَّةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَشَى الْقَهْقَرَى فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ إِذْ أَوْمَأْتُ إِلَيْكَ أَنْ لاَ تَكُونَ مَضَيْتَ قَالَ لَمْ يَكُنْ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِلْقَوْمِ إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّحْ النِّسَاءُ قوله: "باب الإمام يأتي قوما فيصلح بينهم" في رواية الكشمهيني " ليصلح " باللام بدل الفاء. قوله: "كان قتال بين بني عمرو" في رواية مالك عن أبي حازم الماضية في أبواب الإمامة " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم " وقد تقدم شرحه مستوفى هناك وذكره هناك بلفظ: "فليصفق والتصفيق " ووقع هنا بلفظ: "فليصفح والتصفيح " وهما بمعنى وقوله في هذه الطريق " فلما حضرت صلاة العصر فأذن وأقام " قال الكرماني جواب الفاء في قوله: "فلما " محذوف سواء كانت لما شرطية أو ظرفية والتقدير " جاء المؤذن " قلت: إنما اختصره البخاري وقد أخرجه أبو داود عن عمرو بن عوف عن حماد فقال فيه بعد قوله: "ثم أتاهم ليصلح بينهم فقال لبلال إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام " فذكره، وقوله: "أن أمضه " فعل أمر بالمضي والهاء للسكت، وقوله: "هكذا " أي إشارة إليه بالمكث في مكانه،

(13/182)


وقوله: "يحمد الله " في رواية الكشميهني: "فحمد الله " بالفاء بدل التحتانية وفي قوله: "لم يكن لابن أبي قحافة " هضم لنفسه وتواضع حيث لم يقل لي ولا لأبي بكر وعادة العرب إذا عظمت الرجل ذكرته باسمه وكنيته أو لقبه، وفي غير ذلك تنسبه إلى أبيه ولا تسميه، قال ابن المنير: فقه الترجمة التنبيه على جواز مباشرة الحاكم الصلح بين الخصوم ولا يعد ذلك تصحيفا في الحكم، وعلى جواز ذهاب الحاكم إلى موضع الخصوم للفصل بينهم إما عند عظم الخطب وإما ليكشف ما لا يحاط به إلا بالمعاينة، ولا يعد ذلك تخصيصا ولا تمييزا ولا وهنا. "تنبيه": وقع في نسخة الصغاني في آخر هذا الحديث قال أبو عبد الله لم يقل هذا الحرف " يا بلال فمر أبا بكر " غير حماد.

(13/183)


37 - باب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلًا
7191 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو ثَابِتٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَيَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ فَوَجَدْتُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إِلَى آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا وَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ اللِّخَافُ يَعْنِي الْخَزَفَ
قوله: "باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا" أي كاتب الحكم وغيره، ذكر فيه حديث زيد ابن ثابت في قصته مع أبي بكر وعمر في جمع القرآن، وقد تقدم شرحه مستوفى في فضائل القرآن. حديث زيد ابن ثابت في قصته مع أبي بكر وعمر في جمع القرآن، وقد تقدم شرحه مستوفى في فضائل القرآن، والغرض منه قول أبي بكر لزيد " إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك " وقوله في آخره قال: "محمد بن عبيد الله " بالصغير وهو شيخ البخاري الذي روى عنه هذا الحديث فسر " اللخاف " التي ذكرت في هذا الحديث، وهي بكسر اللام وتخفيف الخاء المعجمة بالخزف، وهي بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها فاء، وقد تقدم بيان الاختلاف في تفسيرها هناك، وحكى ابن بطال عن المهلب في هذا الحديث: "أن العقل أصل الخلال المحمودة " لأنه لم يصف زيدا بأكثر من العقل وجعله سببا لائتمانه ورفع التهمة عنه. قلت: وليس كما قال فإن أبا بكر ذكر عقب الوصف المذكور " وقد كنت تكتب الوحي

(13/183)


لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن ثم اكتفى بوصفه " بالعقل " لأنه لو لم تثبت أمانته وكفايته وعقله لما استكتبه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وإنما وصفه " بالعقل وعدم الاتهام " دون ما عداهما إشارة إلى استمرار ذلك له، وإلا فمجرد قوله: "لا نتهمك " مع قوله: "عاقل"، لا يكفي في ثبوت الكفاية والأمانة فكم من بارع في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة قال وفيه: "اتخاذ الكاتب للسلطان والقاضي " وأن من سبق له علم بأمر يكون أولى به من غيره إذا وقع، وعند البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن الزبير " أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم، فكان يكتب له إلى الملوك فبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرؤه، ثم استكتب زيد بن ثابت فكان يكتب الوحي ويكتب إلى الملوك، وكان إذا غابا كتب جعفر بن أبي طالب وكتب له أيضا أحيانا جماعة من الصحابة " ومن طريق عياض الأشعري عن أبي موسى " أنه استكتب نصرانيا فانتهره عمر " وقرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية. فقال أبو موسى " والله ما توليته وإنما كان يكتب " فقال: "أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب لا تدنهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله، ولا تعزهم بعد أن ذلهم الله".

(13/184)


38 - باب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِي إِلَى أُمَنَائِهِ
7191 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى ح حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا مَا قَتَلْنَاهُ وَاللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ يُرِيدُ السِّنَّ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ بِهِ فَكُتِبَ مَا قَتَلْنَاهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ قَالُوا لاَ قَالَ أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ قَالُوا لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ الدَّارَ قَالَ سَهْلٌ فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ
قول "باب " كتاب الحاكم " إلى عماله" بضم العين وتشديد الميم جمع عامل، وهو الوالي على بلد مثلا لجمع خراجها أو زكواتها أو الصلاة بأهلها أو التأمير على جهاد عدوها". قوله: "والقاضي إلى أمنائه" أي الذين يقيمهم في ضبط أمور الناس ذكر فيه حديث سهل بن أبي حثمة في قصة عبد الله بن سهل وقتله بخيبر وقيام حويصة ومن معه في ذلك حديث سهل بن أبي حثمة في قصة عبد الله بن سهل وقتله بخيبر وقيام حويصة ومن معه في ذلك، والغرض منه قوله فيه: "فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم - أي إلى أهل خيبر - به " أي بالخبر الذي نقل إليه، وقد تقدم بيانه مع شرح الحديث في " باب القسامة " وقوله هنا " فكتب " ما قتلناه، في

(13/184)


رواية الكشميهني: "فكتبوا " بصيغة الجمع وهو أولى ووجه الكرماني الأول بأن المراد به " الحي المسمى باليهود " قال وفيه تكلف. قلت: وأقرب منه أن يراد " الكاتب عنهم " لأن الذي يباشر الكتابة إنما هو واحد فالتقدير " فكتب كاتبهم " قال ابن المنير: ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نائبه ولا إلى أمينه وإنما كتب إلى الخصوم أنفسهم لكن يؤخذ من مشروعية مكانته الخصوم والبناء على ذلك جواز مكاتبة النواب والكتاب في حق غيرهم بطريق الأولى.

(13/185)


39 - باب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِي الأُمُورِ؟
7193, 7194 - حدثنا آدم حدثنا بن أبي ذئب حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا جاء أعرابي فقال "يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه فقال صدق فاقض بيننا بكتاب الله فقال الأعرابي إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فقالوا لي على ابنك الرجم ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة ثم سألت أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هذا فارجمها فغدا عليها أنيس فرجمها باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه وقال عمر وعنده علي وعبد الرحمن وعثمان ماذا تقول هذه قال عبد الرحمن بن حاطب فقلت تخبرك بصاحبها الذي صنع بها وقال أبو جمرة كنت أترجم بين بن عباس وبين الناس وقال بعض الناس لا بد للحاكم من مترجمين "
قوله: "باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور" كذا للأكثر وفي رواية المستملي والكشميهني: "ينظر " وكذا عند أبي نعيم ذكر فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في " قصة العسيف " وقد مضى شرحه مستوفي والغرض منه قوله عليه الصلاة والسلام " واغد يا أنيس على امرأة هذا " وقد تقدم الاختلاف في أن أنيسا كان حاكما أو مستخبرا، والحكمة في إيراده الترجمة بصيغة الاستفهام الإشارة إلى خلاف محمد ابن الحسن فإنه قال: "لا يجوز للقاضي أن يقول أقر عندي فلان بكذا لشيء يقضي به عليه من قتل أو مال أو عتق أو طلاق، حتى يشهد معه على ذلك غيره: "وادعى أن مثل هذا الحكم الذي في حديث الباب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال: "وينبغي أن يكون في مجلس القاضي أبدا عدلان يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك فينفذ الحكم بشهادتهما " نقله ابن بطال وقال المهلب: فيه حجة لمالك في جواز إنفاذ الحاكم رجلا واحدا في الأعذار، وفي أن يتخذ واحدا يثق به يكشف عن حال الشهود في السر، كما يجوز قبول الفرد فيما طريقه الخبر لا الشهادة، قال: وقد استدل به قوم في جواز تنفيذ الحكم دون إعذار إلى المحكوم عليه؛ قال: وهذا ليس بشيء، لأن الإعذار يشترط فيما كان الحكم فيه بالبينة، لا ما كان بالإقرار كما في هذه القصة، لقوله: "فإن اعترفت " قلت: وقد تقدم شيء من مسألة الإعذار عند شرح هذا الحديث.

(13/185)


40 - باب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ
7195 - وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ

(13/185)


41 - باب مُحَاسَبَةِ الإِمَامِ عُمَّالَهُ
7197 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ ابْنَ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاسَبَهُ قَالَ هَذَا الَّذِي لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلاَ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلاَنِي اللَّهُ فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي فَهَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ هِشَامٌ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ فَلاَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟
قوله: "باب محاسبة الإمام عماله" ذكر فيه حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية، وقد مضى شرحه مستوفى في " باب هدايا العمال " حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية، وقد مضى شرحه وقوله حدثنا محمد حدثنا عبدة " محمد " هو ابن سلام، " وعبدة " هو ابن سليمان، وقوله: "فهلا " في رواية غير الكشميهني في الموضعين " ألا " بفتح الهمزة وهما بمعنى؛ والمقصود هنا قوله: "فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاسبه " أي على ما قبض وصرف

(13/189)


42 - باب بِطَانَةِ الإِمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلاَءُ
7198 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِهَذَا وَعَنْ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَمُوسَى عَنْ ابْنِ شِهَابٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ

(13/189)


43 - باب كَيْفَ يُبَايِعُ الإِمَامُ النَّاسَ
7199 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ "
7200 – "وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ"
7201 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَأَجَابُوا:

(13/192)


نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
7202 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ
7203 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا عبد الله بن دينار قال "شهدت بن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك قال كتب إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت وإن بني قد أقروا بمثل ذلك"
[الحديث 7203 – طرفاه في: 7205, 7272]
7204 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي عن جرير بن عبد الله قال "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم والطاعة فلقنني فيما استطعت والنصح لكل مسلم"
7205 - حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني عبد الله بن دينار قال "لما بايع الناس عبد الملك كتب إليه عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت وإن بني قد أقروا بذلك"
7206 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ "قُلْتُ لِسَلَمَةَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ عَلَى الْمَوْتِ"
7207 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاَهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ قَالَ الْمِسْوَرُ طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَقَالَ أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ ادْعُ لِي عَلِيًّا فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي عُثْمَانَ فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا

(13/193)


الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ
قوله: "باب كيف يبايع الإمام الناس" المراد بالكيفية: الصيغ القولية لا الفعلية، بدليل ما ذكره فيه من الأحاديث الستة " وهي البيعة على السمع والطاعة وعلى الهجرة وعلى الجهاد وعلى الصبر وعلى عدم الفرار ولو وقع الموت وعلى بيعة النساء وعلى الإسلام " وكل ذلك وقع عند البيعة بينهم فيه بالقول. حديث عبادة بن الصامت " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة " الحديث وقد تقدم شرحه في أوائل " كتاب الفتن " مستوفى. حديث أنس والمراد منه قوله: "نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا". وقد تقدم بأتم مما هنا مشروحا في " غزوة الخندق " من " كتاب المغازي". حديث ابن عمر في البيعة على السمع والطاعة وفيه يقول لنا " فيما استطعتم " ووقع في رواية المستملي والسرخسي " فيما استطعت " بالإفراد، والأول هو الذي في الموطأ وهو يقيد ما أطلق في الحديثين قبله وكذلك حديث جرير وهو الرابع، وسيار في السند بفتح المهملة وتشديد التحتانية هو ابن وردان، وأما حديث ابن عمر فذكر له طريقا قبل حديث جرير وآخر بعده وفيهما معا " أقر بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت " وهو منتزع من حديثه الأول، فالثلاثة في حكم حديث واحد، وقوله في رواية مسدد عن يحيى هو القطان، أن ابن عمر قال: "إني أقر " إلخ بين في رواية عمرو بن علي أنه كتب بذلك إلى عبد الملك ومن ثم قال في آخره: "وإن بنى قد أقروا بمثل ذلك " فهو إخبار من ابن عمر عن بنيه بأنه سبق منهم الإقرار المذكور بحضرته؛ كتب به ابن عمر إلى عبد الملك وقوله: "قد أقروا بمثل ذلك " زاد الإسماعيلي من طريق بندار عن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان في آخره: "والسلام " وقوله في الرواية الثانية كتب إليه عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين " إني أقر بالسمع والطاعة " إلخ، ووقع في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن سفيان بلفظ: "رأيت ابن عمر يكتب، وكان إذا كتب يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فإني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك " وقال في آخره أيضا: "والسلام " قال الكرماني: قال أولا " إليه " وثانيا " إلى عبد الملك " ثم بالعكس وليس تكرارا، والثاني هو المكتوب لا المكتوب إليه أي كتب. هذا وهو إلى عبد الملك، وتقديره " من ابن عمر إلى عبد الملك " وقوله: "حيث اجتمع الناس على عبد الملك " يريد ابن مروان بن الحكم، والمراد بالاجتماع اجتماع الكلمة وكانت قبل ذلك مفرقة، وكان في الأرض قبل ذلك اثنان كل منهما يدعى له بالخلافة، وهما عبد الملك بن مروان وعبد الله ابن الزبير، فأما ابن الزبير فكان أقام بمكة وعاذ بالبيت بعد موت معاوية، وامتنع من المبايعة ليزيد بن معاوية، فجهز إليه يزيد الجيوش مرة بعد أخرى فمات يزيد وجيوشه محاصرون ابن الزبير، ولم يكن ابن الزبير ادعى الخلافة حتى

(13/194)


مات يزيد في ربيع الأول سنة أربع وستين، فبايعه الناس بالخلافة بالحجاز، وبايع أهل الآفاق لمعاوية بن يزيد بن معاوية فلم يعش إلا نحو أربعين يوما ومات، فبايع معظم الآفاق لعبد الله بن الزبير وانتظم له ملك الحجاز واليمن ومصر والعراق والمشرق كله وجميع بلاد الشام حتى دمشق، ولم يتخلف عن بيعته إلا جميع بني أمية ومن يهوى هواهم وكانوا بفلسطين، فاجتمعوا على مروان بن الحكم فبايعوه بالخلافة، وخرج بمن أطاعه إلى جهة دمشق والضحاك بن قيس قد بايع فيها لابن الزبير، فاقتتلوا " بمرج راهط " فقتل الضحاك وذلك في ذي الحجة منها وغلب مروان على الشام، ثم لما انتظم له ملك الشام كله توجه إلى مصر فحاصر بها عبد الرحمن بن جحدر عامل ابن الزبير حتى غلب عليها في ربيع الآخر سنة خمس وستين ثم مات في سنته، فكانت مدة ملكه ستة أشهر؛ وعهد إلى ابنه عبد الملك بن مروان فقام مقامه وكمل له ملك الشام ومصر والمغرب، ولابن الزبير ملك الحجاز والعراق والمشرق إلا أن المختار بن أبي عبيد غلب على الكوفة، وكان يدعو إلى المهدى من أهل البيت فأقام على ذلك نحو السنتين، ثم سار إليه مصعب بن الزبير أمير البصرة لأخيه فحاصره حتى قتل في شهر رمضان سنة سبع وستين، وانتظم أمر العراق كله لابن الزبير فدام ذلك إلى سنة إحدى وسبعين، فسار عبد الملك إلى مصعب فقاتله حتى قتله في جمادى الآخرة منها وملك العراق كله، ولم يبق مع ابن الزبير إلا الحجاز واليمن فقط، فجهز إليه عبد الملك الحجاج فحاصره في سنة اثنتين وسبعين إلى أن قتل عبد الله بن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان عبد الله بن عمر في تلك المدة امتنع أن يبايع لابن الزبير أو لعبد الملك كما كان امتنع أن يبايع لعلي أو معاوية، ثم بايع لمعاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع عليه الناس، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه، ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف إلى أن قتل ابن الزبير وانتظم الملك كله لعبد الملك فبايع له حينئذ، فهذا معنى قوله: "لما اجتمع الناس على عبد الملك " وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق سعيد بن حرب العبدي قال: "بعثوا إلى ابن عمر لما بويع ابن الزبير فمد يده وهي ترعد فقال: والله ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة، ولا أمنعها من جماعة " ثم لم يلبث ابن عمر أن توفى في تلك السنة بمكة، وكان عبد الملك وصى الحجاج أن يقتدى به في مناسك الحج كما تقدم في " كتاب الحج " فدس الحجاج عليه الحربة المسمومة، كما تقدم بيان ذلك في " كتاب العيدين " فكان ذلك سبب موته رضي الله عنه. حديث سلمة " في المبايعة على الموت " ذكره مختصرا وقد تقدم بتمامه في " كتاب الجهاد " في باب البيعة على الحرب أن لا يفروا. قوله: "حدثنا جويرية" بالجيم مصغر جارية هو ابن أسماء الضبعي وهو عم عبد الله بن محمد بن أسماء الراوي عنه. قوله: "أن الرهط الذين ولاهم عمر" أي عينهم فجعل الخلافة شورى بينهم أي ولاهم التشاور فيمن يعقد له الخلافة منهم، وقد تقدم بيان ذلك مفصلا في " مناقب عثمان " في الحديث الطويل الذي أورده من طريق عمرو بن ميمون الأودي أحد كبار التابعين في ذكر قتل عمر، وقولهم لعمر - لما طعنه أبو لؤلؤة - استخلف فقال: "ما أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء الرهط فسمى: عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن " وفيه: "فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط " وأورده الدار قطني في " غرائب مالك " من طريق سعيد بن عامر عن جويرية مطولا وأوله عنده " لما طعن عمر قيل له: استخلف قال، وقد رأيت من حرصهم ما رأيت - إلى أن قال - هذا الأمر بين ستة رهط من قريش، فذكرهم وبدأ بعثمان ثم قال: وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص، وانتظروا أخاكم

(13/195)


طلحة ثلاثا، فإن قدم فيهم فهو شريكهم في الأمر. وقال: إن الناس لن يعدوكم أيها الثلاثة، فإن كنت يا عثمان في شيء من أمر الناس فاتق الله، ولا تحملن بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وإن كنت يا علي فاتق الله ولا تحملن بني هاشم على رقاب الناس، وإن كنت يا عبد الرحمن فاتق الله ولا تحملن أقاربك على رقاب الناس، قال: ويتبع الأقل الأكثر، ومن تأمر من غير أن يؤمر فاقتلوه " قال الدار قطني: أغرب سعيد بن عامر عن جويرية بهذه الألفاظ، وقد رواه عبد الله ابن محمد بن أسماء عن عمه فلم يذكرها، يشير إلى رواية البخاري، قال وتابع عبد الله بن محمد إبراهيم ابن طهمان وسعيد بن الزبير وحبيب ثلاثتهم عن مالك. قلت: وساق الثلاثة لكن رواية حبيب مختصرة والآخرين موافقتان لرواية عبد الله بن محمد بن أسماء، وقد أخرج ابن سعد بسند صحيح من طريق الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: دخل الرهط على عمر قبل أن ينزل به، فسمى الستة. فذكر قصة، إلى أن قال: "فإنما الأمر إلى ستة: إلى عبد الرحمن وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد " وكان طلحة غائبا في أمواله بالسراة، وهو بفتح المهملة وراء خفيفة، بلاد معروفة بين الحجاز والشام، فبدأ في هذه بعبد الرحمن قبل الجميع وبعثمان قبل علي، فدل على أنه في السياق الأول لم يقصد الترتيب. قوله: "فقال لهم عبد الرحمن إلخ" تقدم بيان ذلك في " مناقب عثمان " بأتم من سياقه وفيه ما يدل على حضور طلحة، وأن سعدا جعل أمره إلى عبد الرحمن، والزبير إلى علي، وطلحة إلى عثمان وفيه قول عبد الرحمن أيكم يبرأ من هذا الأمر ويكون له الاختيار فيمن بقي، فاتفقوا عليه فتروى بعد ذلك في عثمان أو علي، وقوله: "أنافسكم " بالنون والفاء المهملة أي أنازعكم فيه، إذ ليس لي في الاستقلال في الخلافة رغبة، وقوله: "عن هذا الأمر " أي من جهته ولأجله. وفي رواية الكشميهني: "علي " بدل " عن " وهي أوجه. قوله: "فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم" يعني أمر الاختيار منهم. قوله: "فمال الناس" في رواية سعيد بن عامر فانثال الناس، وهي بنون ومثلثة أي قصدوه كلهم شيئا بعد شيء وأصل " النثل " الصب يقال: "نثل كنانته " أي صب ما فيها من السهام. قوله: "ولا يطأ عقبه" بفتح العين وكسر القاف بعدها موحدة أي " يمشي خلفه " وهي كناية عن الأعراض. قوله: "ومال الناس على عبد الرحمن" أعادها لبيان سبب الميل وهو قوله: "يشاورونه تلك الليالي " زاد الزبيدي في روايته عن الزهري " يشاورونه ويناجونه تلك الليالي، لا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحدا". قوله: "بعد هجع" بفتح الهاء وسكون الجيم بعدها عين مهملة أي " بعد طائفة من الليل " يقال: لقيته بعد هجع من الليل كما تقول بعد هجعة والهجع والهجعة والهجيع والهجوع بمعنى، وقد أخرجه البخاري في " التاريخ الصغير " من طريق يونس عن الزهري بلفظ: "بعد هجيع " بوزن عظيم. قوله: "فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث" كذا للأكثر وللمستملي: "الليلة " ويؤيد الأول قوله في رواية سعيد بن عامر " والله ما حملت فيها غمضا منذ ثلاث " وفي رواية إبراهيم بن طهمان عند الإسماعيلي: "في هذه الليالي " وقوله: "بكثير نوم " بالمثلثة وبالموحدة أيضا، وهو مشعر بأنه لم يستوعب الليل سهرا بل نام لكن يسيرا منه " والاكتحال " كناية عن دخول النوم جفن العين كما يدخلها الكحل ووقع في رواية يونس " ما ذاقت عيناي كثير النوم". قوله: "فادع الزبير وسعدا، فدعوتهما له فشاورهما" في رواية المستملي: "فسارهما " بمهملة وتشديد الراء، ولم أر في هذه الرواية لطلحة ذكرا فلعله كان شاوره قبلهما. قوله: "حتى إبهار الليل" بالموحدة ساكنة وتشديد الراء ومعناه " انتصف " وبهرة كل شيء وسطه، وقيل معظمه وقد تقدم القول فيه في " كتاب الصلاة " زاد سعيد بن عامر في روايته: "فجعل يناجيه ترتفع أصواتهما أحيانا فلا يخفى علي

(13/196)


شيء مما يقولان ويخفيان أحيانا". قوله: "ثم قام علي من عنده وهو على طمع" أي أن يوليه، وقوله: "وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئا " قال ابن هبيرة: أظنه أشار إلى الدعاية التي كانت في علي أو نحوها، ولا يجوز أن يحمل على أن عبد الرحمن خاف من علي على نفسه. قلت: والذي يظهر لي أنه خاف إن بايع لغيره أن لا يطاوعه، وإلى ذلك الإشارة بقوله فيما بعد " فلا تجعل على نفسك سبيلا " ووقع في رواية سعيد بن عامر " فأصبحنا وما أراه يبايع إلا لعلي " يعني مما ظهر له من قرائن تقديمه. قوله: "ثم قال ادع لي عثمان" ظاهر في أنه تكلم مع علي في تلك الليلة قبل عثمان، ووقع في رواية سعيد ابن عامر عكس ذلك، وأنه قال له أولا " اذهب فادع عثمان " وفيه: "فخلابه " وفيه: "لا أفهم من قولهما شيئا " فإما أن تكون إحدى الروايتين وهما، وإما أن يكون ذلك تكرر منه في تلك الليلة فمرة بدا بهذه ومرة بدأ بهذا. قوله: "وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر" أي قدموا إلى مكة فحجوا مع عمر ورافقوه إلى المدينة، وهم معاوية أمير الشام، وعمير بن سعيد أمير حمص، والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة، وأبو موسى الأشعري أمير البصرة، وعمرو بن العاص أمير مصر. قوله: "فلما اجتمعوا تشهد عمد الرحمن" وفي رواية إبراهيم بن طهمان " جلس عبد الرحمن على المنبر " وفي رواية سعيد بن عامر " فلما صلى صهيب بالناس صلاة الصبح، جاء عبد الرحمن يتخطى حتى صعد المنبر، فجاءه رسول سعد يقول لعبد الرحمن: ارفع رأسك وانظر لأمة محمد وبايع لنفسك". قوله: "أما بعد" زاد سعيد بن عامر " فأعلن عبد الرحمن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال أما بعد، يا علي إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان " أي لا يجعلون له مساويا بل يرجحونه. قوله: "فلا تجعلن على نفسك سبيلا" أي من الملامة إذا لم توافق الجماعة، وهذا ظاهر في أن عبد الرحمن لم يتردد عند البيعة في عثمان، لكن قد تقدم في رواية عمرو بن ميمون التصريح بأنه " بدأ بعلي فأخذ بيده فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، والله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه وبايع له علي " وطريق الجمع بينهما أن عمرو بن ميمون حفظ ما لم يحفظه الآخر ويحتمل أن يكون الآخر حفظه لكن طوى بعض الرواة ذكره ويحتمل أن يكون ذلك وقع في الليل لما تكلم معهما واحد بعد واحد، فأخذ على كل منهما العهد والميثاق، فلما أصبح عرض على علي فلم يوافقه على بعض الشروط، وعرض على عثمان فقبل، ويؤيده رواية عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن ابن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا فقال: "ما ذنبي بدأت بعلي فقلت له أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، فقال فيما استطعت. وعرضتها على عثمان فقبل " أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند عن سفيان بن وكيع عن أبي بكر بن عياش عنه، وسفيان بن وكيع ضعيف. وقد أخرج أحمد من طريق زائدة عن عاصم عن أبي وائل قال: قال الوليد بن عقبة لعبد الرحمن بن عوف: مالك جفوت أمير المؤمنين يعني عثمان فذكر قصة وفيها قول عثمان، وأما قوله: سيرة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، وفي هذا إشارة إلى أنه بايعه على أن يسير سيرة عمر فعاتبه على تركها ويمكن أن يأخذ من هذا ضعف رواية سفيان ابن وكيع إذ لو كان استخلف بشرط أن يسير بسيرة عمر لم يكن ما أجاب به عذرا في الترك، قال ابن التين وإنما قال لعلي ذلك دون من سواه، لأن غيره لم يكن يطمع في الخلافة مع وجوده ووجود عثمان، وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليل على تصديقهم عبد الرحمن فيما قال وعلى الرضا بعثمان. قلت: وقد أخرج بن أبي

(13/197)


شيبة من طريق حارثة بن مضرب قال: "حججت في خلافة عمر فلم أرهم يشكون أن الخيفة بعده عثمان " وأخرج يعقوب بن شبة في مسنده من طريق صحيح إلى حذيفة قال: قال لي عمر من ترى قومك يؤمرون بعدي. قال. قلت: قد نظر الناس إلى عثمان وشهروه لها. وأخرج البغوي في معجمه وخيثمة في " فضائل الصحابة " بسند صحيح عن حارثة بن مضرب، حججت مع عمر فكان الحادي يحدو أن الأمير بعده عثمان بن عفان. قوله: "فقال" أي " عبد الرحمن " مخاطبا لعثمان "أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن" في الكلام حذف تقديره فقال: نعم، فبايعه عبد الرحمن. وأخرج الذهلي في " الزهريات " وابن عساكر في " ترجمة عثمان " من طريقه ثم من رواية عمران بن عبد العزيز عن محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري عن الزهري عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبيه قال: "كنت أعلم الناس بأمر الشورى لأني كنت رسول عبد الرحمن بن عوف " فذكر القصة وفي آخره. فقال: هل أنت يا علي مبايعي إن وليتك هذا الأمر على سنة الله وسنة رسوله وسنة الماضين قبل؟ قال: لا، ولكن على طاقتي، فأعادها ثلاثا. فقال عثمان: أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك، قالها ثلاثا فقام عبد الرحمن واعتم ولبس السيف فدخل المسجد ثم رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أشار إلى عثمان فبايعه " فعرفت إن خالي أشكل عليه أمرهما فأعطاه أحدهما وثيقة ومنعه الآخر إياها، واستدل بهذه القصة الأخيرة على جواز تقليد المجتهد، وإن عثمان وعبد الرحمن كانا يريان ذلك بخلاف علي، وأجاب من منعه وهم الجمهور بأن المراد بالسيرة ما يتعلق بالعدل ونحوه لا التقليد في الأحكام الشرعية. وإذا فرعنا على جواز تجزئ الاجتهاد احتمل أن يراد بالاقتداء بهما فيما لم يظهر للتابع فيه الاجتهاد فيعمل بقولهما للضرورة، قال الطبري: لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، فإن قيل كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض وكان رأى عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم دينا، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل، فالجواب أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك؛ فجعلها في ستة متقاربين في الفضل، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول، ولا يألون المسلمين نصحا في النظر والشورى، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضا الأمة بمن رضى به الستة. ويؤخذ منه بطلان قول الرافضة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الإمامة في أشخاص بأعيانهم، إذ لو كان كذلك لما أطاعوا عمر في جعلها شورى، ولقال قائل منهم ما وجه التشاور في أمر كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسول، ففي رضا الجميع بما أمرهم به دليل على أن الذي كان عندهم من العهد في الإمامة أوصاف من وجدت فيه استحقها، وإدراكها يقع بالاجتهاد، وفيه أن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد التشاور والاجتهاد لم يكن لغيرهم أن يحل ذلك العقد، إذ لو كان العقد لا يصح إلا باجتماع الجميع، لقال قائل لا معنى لتخصيص هؤلاء الستة، فلما لم يعترض منهم معترض بل رضوا وبايعوا، دل ذلك على صحة ما قلناه، انتهى ملخصا من كتاب ابن بطال، ويتحصل منه جواب من ظن أنه يلزم منه أن عمر كان يرى جواز ولاية المفضول مع وجود الفاضل، والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعى الأفضل في الدين فقط بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فلأجل هذا استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم،

(13/198)


كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة، وفيه أن الشركاء في الشيء إذا وقع بينهم التنازع في أمر من الأمور يسندون أمرهم إلى واحد ليختار لهم بعد أن يخرج نفسه من ذلك الأمر، وفيه أن من أسند إليه ذلك يبذل وسعه في الاختيار، ويهجر أهله وليله اهتماما بما هو فيه حتى يكمله. وقال ابن المنير: في الحديث دليل على أن الوكيل المفوض له أن يوكل وإن لم ينص له على ذلك، لأن الخمسة أسندوا الأمر لعبد الرحمن وأفردوه به فاستقل مع أن عمر لم ينص لهم على الانفراد، قال: وفيه تقوية لقول الشافعي في المسألة الفلانية قولان، أي انحصر الحق عندي فيهما، وأنا في مهلة النظر في التعيين، وفيه أن إحداث قول زائد على ما أجمع عليه لا يجوز، وهو كإحداث سابع في أهل الشورى، قال وفي تأخير عبد الرحمن مؤامرة عثمان عن مؤامرة علي سياسة حسنة، منتزعة من تأخير يوسف تفتيش رجل أخيه في قصة الصاع، إبعادا للتهمة وتغطية للحدس، لأنه رأى أن لا ينكشف اختياره لعثمان قبل وقوع البيعة.

(13/199)


44 - باب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ
7208 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ "عَنْ سَلَمَةَ قَالَ بَايَعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لِي يَا سَلَمَةُ أَلاَ تُبَايِعُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُ فِي الأَوَّلِ قَالَ وَفِي الثَّانِي"
قوله: "باب من بايع مرتين" أي في حالة واحدة. قوله: "عن سلمة" تقدم في " باب البيعة " في الحرب من " كتاب الجهاد " من رواية المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بأتم من هذا السياق وفيه بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ثم عدلت إلى ظل شجرة فلما خف الناس قال: "يا ابن الأكوع ألا تبايع". قوله: "قد بايعت في الأول قال وفي الثاني" والمراد بذلك الوقت. وفي رواية الكشميهني: "في الأولى " بالتأنيث قال: "وفي الثانية " والمراد الساعة أو الطائفة، ووقع في رواية مكي " فقلت قد بايعت يا رسول الله، قال: وأيضا فبايعته الثانية وزاد فقلت له: يا أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ، قال: على الموت " وقد تقدم البحث في ذلك هناك. وقال المهلب فيما ذكره ابن بطال أراد أن يؤكد بيعة سلمة لعلمه بشجاعته وعنائه في الإسلام وشهرته بالثبات، فلذلك أمره بتكرير المبايعة ليكون له في ذلك فضيلة. قلت: ويحتمل أن يكون سلمة لما بادر إلى المبايعة ثم قعد قريبا، واستمر الناس يبايعون إلى أن خفوا، أراد صلى الله عليه وسلم منه أن يبايع للتوالي المبايعة معه ولا يقع فيها تخلل، لأن العادة في مبدأ كل أمر أن يكثر من يباشره فيتوالى، فإذا تناهى قد يقع بين من يجيء آخرا تخلل، ولا يلزم من ذلك اختصاص سلمة بما ذكر والواقع أن الذي أشار إليه ابن بطال من حال سلمة في الشجاعة وغيرها لم يكن ظهر بعد، لأنه إنما وقع منه بعد ذلك في " غزوة ذي قرد " حيث استعاد السرح الذي كان المشركون أغاروا عليه فاستلب ثيابهم، وكان آخر أمره أن أسهم له النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل، فالأولى أن يقال تفرس فيه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فبايعه مرتين، وأشار بذلك إلى أنه سيقوم في الحرب مقام رجلين فكان كذلك. وقال ابن المنير: يستفاد من هذا الحديث أن إعادة لفظ العقد في النكاح وغيره ليس فسخا للعقد الأول خلافا لمن زعم ذلك من الشافعية. قلت: الصحيح عندهم أنه لا يكون فسخا كما قال الجمهور.

(13/199)


45 - باب بَيْعَةِ الأَعْرَابِ
7209 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَصَابَهُ وَعْكٌ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ
قوله: "باب بيعة الأعراب" أي مبايعتهم على الإسلام والجهاد. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا" قوله: "أن أعرابيا" تقدم التنبيه على اسمه في " فضل المدينة أواخر الحج". قوله: "على الإسلام" ظاهر في أن طلبه الإقالة كان فيما يتعلق بنفس الإسلام، ويحتمل أن يكون في شيء من عوارضه كالهجرة، وكانت في ذلك الوقت واجبة، ووقع الوعيد على من رجع أعرابيا بعد هجرته، كما تقدم التنبيه عليه قريبا " والوعك " بفتح الواو وسكون المهملة وقد تفتح بعدها كاف الحمى وقيل ألمها وقيل أرعادها. وقال الأصمعي: أصله شدة الحر، فأطلق على حر الحمى وشدتها. قوله: "أقلني بيعتي فأبى" تقدم في " فضل المدينة " من رواية الثوري عن ابن المنكدر أنه أعاد ذلك ثلاثا وكذا سيأتي بعد باب. قوله: "فخرج" أي من المدينة راجعا إلى البدو. قوله: "المدينة كالكير إلخ" ذكر عبد الغني بن سعيد في " كتاب الأسباب " له عند ذكر حديث المدينة " تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد " أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في هذه القصة وفيه نظر، والأشبه أنه قاله " في قصة الذين رجعوا عن القتال معه يوم أحد " كما تقدم بيان ذلك في غزوة أحد من " كتاب المغازي". قوله: "تنفي" بفتح أوله "خبثها" بمعجمة وموحدة مفتوحتين. قوله: "وتنصع" تقدم ضبطه في فضل المدينة وبيان الاختلاف فيه، قال ابن التين: إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن فخروجه عصيان. قال: وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل فتح مكة على كل من أسلم ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله تعالى :{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح " ففي هذا إشعار بأن مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح. وقال ابن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة وهو مشكل فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها، كما فعل الأعرابي المذكور وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها، وسيأتي شيء من هذا في " كتاب الاعتصام " إن شاء الله تعالى.

(13/200)


46 - باب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ
7210 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو صغير، فمسحَ رأسه ودعا له كان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله".

(13/200)


قوله: "باب بيعة الصغير" أي هل تشرع أو لا؟ قال ابن المنير: الترجمة موهمة، والحديث يزيل إيهامها، فهو دال على عدم انعقاد بيعة الصغير ذكر فيه حديث عبد الله بن هشام التيمي، وهو طرف من حديث تقدم بكماله في " كتاب الشركة " من رواية عبد الله بن وهب عن سعيد بن أبي أيوب، وفيه فقالت يا رسول الله بايعه، فقال: "هو صغير فمسح رأسه ودعا له". فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ وَكَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ" قوله: "وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله" هو عبد الله بن هشام المذكور، وهذا الأثر الموقوف صحيح بالسند المذكور إلى عبد الله، وقد تقدم الحكم المذكور في " باب الأضحية عن المسافر والنساء " والنقل عمن قال: "لا يجزئ أضحية الرجل عن نفسه وعن أهل بيته " وإنما ذكره البخاري مع أن من عادته أنه يحذف الموقوفات غالبا، لأن المتن قصير، وفيه إشارة إلى أن عبد الله بن هشام عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ببركة دعائه له وقد تقدم ما يتعلق به من ذلك في " كتاب الدعوات".

(13/201)


47 - باب مَنْ بَايَعَ ثُمَّ اسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ
7211 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله "أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أقلني بيعتي فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها"
قوله: "باب من بايع ثم استقال البيعة" ذكر فيه حديث جابر في قصة الأعرابي، وقد تقدم شرحه قبل بباب

(13/201)


48 - باب مَنْ بَايَعَ رَجُلًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا
7212 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَاهُ إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلاَ لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا
قوله: "باب من بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا" أي ولا يقصد طاعة الله في مبايعة من يستحق الإمامة.
قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري. قوله: "عن أبي صالح" في رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش " سمعت أبا صالح يقول سمعت أبا هريرة كما تقدم في " كتاب الشرب". قوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة" زاد جرير عن الأعمش " ولا ينظر إليهم " وسقط من روايته: "يوم القيامة " وقد مر في الشهادات وفي رواية عبد الواحد " لا ينظر الله إليهم يوم القيامة " وسقط من روايته ولا يكلمهم وثبت الجميع لأبي معاوية عن الأعمش عند مسلم على وفق الآية التي في آل عمران. وقال: في آخر الحديث. ثم قرأ هذه الآية " {إِنَّ الَّذِينَ

(13/201)


49 - باب بَيْعَةِ النِّسَاءِ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7213 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسٍ تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ
7214 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلاَمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ { لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } قَالَتْ وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ إِلاَّ امْرَأَةً يَمْلِكُهَا
7215 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ بَايَعْنَا النَّبِيَّ

(13/203)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا { أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا فَقَالَتْ فُلاَنَةُ أَسْعَدَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ فَمَا وَفَتْ امْرَأَةٌ إِلاَّ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ الْعَلاَءِ وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ أَوْ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ
قوله: "باب بيعة النساء" ذكر فيه الله أربعة أحاديث، الأول: قوله: "رواه ابن عباس" كأنه يريد ما تقدم في العيدين من طريق الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس شهدت الفطر فذكر الحديث وفيه خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} الآية ثم قال حين فرغ منها " أنتن على ذلك " وقد تقدم فوائده هناك في تفسير الممتحنة. حديث عبادة ابن الصامت في مبايعتهم النبي صلى الله عليه وسلم على مثل ما في هذه الآية، وقد تقدم الكلام عليه في " كتاب الأيمان " أوائل الكتاب ووقع في بعض، طرقه عن عبادة قال: "أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني " الحديث أخرجه مسلم من طريق الأشعث الصنعاني عن عبادة وإلى هذه الطريق أشار في هذه الترجمة قال ابن المنير أدخل حديث عبادة في ترجمة بيعة النساء لأنها وردت في القرآن في حق النساء فعرفت بهن، ثم استعملت في الرجال. حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {لا يشركن بالله شيئا} كذا أورده مختصرا وقد أخرجه البزار من طريق عبد الرزاق بسند حديث الباب إلى عائشة قالت. " جاءت فاطمة بنت عتبة - أي ابن ربيع بن عبد شمس أخت هند بنت عقبة - تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها أن لا تزني، فوضعت يدها على رأسها حياء، فقالت لها عائشة: بايعي أيتها المرأة، فوالله ما بايعناه إلا على هذا قالت: فنعم إذا " وقد تقدمت فوائد هذا الحديث في تفسير سورة الممتحنة وفي أول هذا الحديث هناك زيادة غير الزيادة التي ذكرتها هنا من عند البزار. قوله: "قالت وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها" هذا القدر أفرده النسائي فأخرجه عن محمد بن يحيى عن عبد الرزاق بسند حديث الباب بلفظ لكن ما مس وقال: يد امرأة قط، وكذا أفرده مالك عن الزهري بلفظ، ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، إلا أن يأخذ عليها فإذا أخذ عليها فأعطته قال: اذهبي فقد بايعتك أخرجه مسلم قال النووي: هذا الاستثناء منقطع وتقدير الكلام ما مس يد امرأة قط ولكن يأخذ عليها البيعة. ثم يقول لها اذهبي إلخ. قال: وهذا التقدير مصرح به في الرواية الأخرى فلا بد منه انتهى. وقد ذكرت في تفسير الممتحنة من خالف ظاهر ما قالت عائشة، من اقتصاره في مبايعته صلى الله عليه وسلم النساء على الكلام؛ وما ورد أنه بايعهن بحائل أن بواسطة بما يغني عن إعادته، ويعكر على ما جزم به من التقدير، وقد يؤخذ من قول أم عطية في الحديث الذي بعده فقبضت امرأة يدها، أن بيعة النساء كانت أيضا بالأيدي فتخالف ما نقل عن عائشة من هذا الحصر، وأجيب بما ذكر من الحائل، ويحتمل أنهن كن يشرن بأيديهن عند المبايعة بلا مماسة، وقد أخرج إسحاق بن راهويه بسند حسن عن أسماء بنت يزيد مرفوعا إني لا أصافح النساء وفي الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة، ومنع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك. قوله: "عن أيوب" هو السختياني و "حفصة" هي بنت سيرين أخت محمد والسند كله بصريون، وتقدم

(13/204)


شرح حديث أم عطية هذا في " كتاب الجنائز " مستوفى، وفيه تسمية النسوة المذكورات في هذا الحديث، وتقدم ما يتعلق بالكلام على قولها أسعدتني في تفسير سورة الممتحنة.

(13/205)


50 - باب مَنْ نَكَثَ بَيْعَةً
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} قوله: "باب من نكث بيعة" في رواية الكشميهني: "بيعته " بزيادة الضمير. قوله: "وقال الله تعالى" في رواية غير أبي ذر " وقوله تعالى". قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} الآية" ساق في رواية أبي ذر إلى قوله: "فإنما ينكث على نفسه " ثم قال إلى قوله {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً عظيما} وساق في رواية كريمة الآية كلها
7216 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَايِعْنِي عَلَى الإِسْلاَمِ فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ ثُمَّ جَاءَ الْغَدَ مَحْمُومًا فَقَالَ أَقِلْنِي فَأَبَى فَلَمَّا وَلَّى قَالَ الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا
حديث جابر في قصة الأعرابي وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا في " باب بيعة الأعرابي " وورد في الوعيد على نكث البيعة حديث ابن عمر " لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله. ثم ينصب له القتال " وقد تقدم في أواخر " كتاب الفتن " وجاء نحوه عنه مرفوعا بلفظ: "من أعطى بيعة ثم نكثها لقي الله وليست معه يمينه " أخرجه الطبراني بسند جيد وفيه حديث أبي هريرة رفعه: "الصلاة كفارة إلا من ثلاث: الشرك بالله ونكث الصفقة " الحديث. وفيه تفسير نكث الصفقة " أن تعطي رجلا بيعتك ثم تقاتله " أخرجه أحمد.

(13/205)


51 - باب الِاسْتِخْلاَفِ
7217 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَارَأْسَاهْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَاثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لاَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ
7218 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قِيلَ لِعُمَرَ أَلاَ تَسْتَخْلِفُ قَالَ إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ رَاغِبٌ رَاهِبٌ وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا

(13/205)


52 - باب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنْ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ
7224 - حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" قال محمد بن يوسف قال يونس قال محمد بن سليمان قال أبو عبد الله. مرماة: بين ظلف الشاة من اللحم مثل منساة وميضاة, الميم مخفوضة
قوله: "باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة، وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت" تقدمت هذه الترجمة والأثر المعلق فيها والحديث في " كتاب الأشخاص " وقال فيه: "المعاصي " بدل " أهل الريب " وساق الحديث من وجه آخر عن أبي هريرة وتقدم شرحه مستوفى في أوائل باب " صلاة الجماعة " وقوله في

(13/215)


آخر الباب قال محمد بن يوسف. قال يونس، قال محمد بن سليمان، قال أبو عبد الله " مرماة ما بين ظلف الشاة من اللحم " مثل منساة وميضاة الميم مخفوضة وقد تقدم شرح " المرماتين " هناك ومحمد بن يوسف هذا هو الفربري راوي " الصحيح " عن البخاري، ويونس هو ابن(1)0 ومحمد بن سليمان هو أبو أحمد الفارسي راوي " التاريخ الكبير " عن البخاري، وقد نزل الفربري في هذا التفسير درجتين، فإنه أدخل بينه وبين شيخه البخاري رجلين، أحدهما عن الآخر وثبت هذا التفسير في رواية أبي ذر عن المستملي وحده وقوله: "مثل منساة وميضاة " أما منساة بالوزن الذي ذكره بغير همز فهي قراءة أبي عمرو ونافع في قوله تعالى: {تأكل منسأته} . وقال الشاعر:
إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغز
أنشده أبو عبيدة ثم قال: وبعضهم يهمزها فيقول: منسأته. قلت: وهي قواءة الباقين بهمزة مفتوحة إلا ابن ذكوان فسكن الهمزة، وفيها قراآت أخر في الشواذ، والمنساة: العصا اسم آلة من أنسا الشيء إذا أخره، وقوله الميم مخفوضة أي في كل المنساة والميضاة، وفي " الميضاة " اللغات المذكورة.

(13/216)


53 - باب هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الْكَلاَمِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ
قوله: "باب هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه" في رواية أبي أحمد الجرجاني " المحبوس " بدل المجرمين، وكذا ذكر ابن التين والإسماعيلي وهو أوجه لأن المحبوس قد لا يتحقق عصيانه والأول يكون من عطف العام على الخاص، وهو المطابق لحديث الباب ظاهرا وذكر فيه طرفا من حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن تبوك وتوبته وقد تقدم شرحها مستوفى في أواخر " كتاب المغازي " بحمد الله تعالى.
ـــــــ
(1)هكذا بياض بالأصل

(13/216)


كتاب التمني
مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ
...
94- كِتَاب التَّمَنِّي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ
7226 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ
7227 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُهُنَّ ثَلاَثًا أَشْهَدُ بِاللَّهِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب التمني". كذا لأبي ذر عن المستملي، وكذا لابن بطال لكن " بغير بسملة " وأثبتها ابن التين لكن حذف لفظ: "باب " وللنسفي " بعد البسملة ما جاء في التمني " وللقابسي " بحذف الواو والبسملة وكتاب " ومثله لأبي نعيم عن الجرجاني ولكن أثبت " الواو " وزاد بعد قوله كتاب التمني " والأماني " واقتصر الإسماعيلي على " باب ما جاء في تمني الشهادة " والتمني تفعل من الأمنية والجمع أماني، والتمني إرادة تتعلق بالمستقبل فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة. وقد قيل أن بين التمني والترجي عموما وخصوصا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل التمني يتعلق بما فات وعبر عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله وقال الراغب قد يتضمن التمني معنى الود، لأنه يتمنى حصول ما يود، وقوله: "عبد الرحمن بن خالد " هو ابن مسافر الفهمي المصري ونصف السند مصريون ونصفه الأعلى مدنيون، والمقصود منه هنا قوله: "لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا " ووقع في الطريق الثانية " وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل " وهي أبين، ووقع في رواية الكشميهني: "لأقاتل " بزيادة لام التأكيد، و " وددت " من الودادة وهي إرادة وقوع الشيء على وجه مخصوص يراد وقال الراغب " الود: محبة الشيء وتمني حصوله " فمن الأول {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} الآية ومن الثاني {ودت طائفة من أهل الكتاب} الآية وقد تقدم شرح حديث الباب وتوجيه تمني الشهادة مع ما يشكل على ذلك في " باب تمني الشهادة من كتاب الجهاد " والله أعلم.

(13/217)


2 - باب تَمَنِّي الْخَيْرِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا
دثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة عن النبي

(13/217)


صلى الله عليه وسلم قال " لو كان عندي أحد ذهبا لأحببت أن لا يأتي علي ثلاث وعندي منه دينار ليس شيء أرصده في دين علي أجد من يقبله"
قوله: "باب تمني الخير" هذه الترجمة أعم من التي قبلها لأن " تمني الشهادة في سبيل الله تعالى من جملة الخير " وأشار بذلك إلى أن التمني المطلوب لا ينحصر في طلب الشهادة وقوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم لو كان لي أحد ذهبا " أسنده في الباب بلفظ: "لو كان عندي " واللفظ المعلق وصله في الرقاق بلفظ: "لو كان لي مثل أحد ذهبا " وقوله في الموصول " وعندي منه دينار ليس شيء أرصده في دين علي أجد من يقبله " كذا وقع، وذكر الصغاني أن الصواب " ليس شيئا " بالنصب. وقال عياض: في هذا السياق نظر، والصواب تقديم " أجد من يقبله " وتأخير " ليس " وما بعدها، وقد اعترض الإسماعيلي فقال هذا لا يشبه التمني، وغفل عن قوله في سياق رواية همام عن أبي هريرة " لأحببت " فإنها بمعنى وددت، وقد جرت عادة البخاري أن يترجم ببعض ما ورد من طرق بعض الحديث المذكور، وتقدم شرح الحديث مستوفى في " كتاب الرقاق " وتقدم كلام ابن مالك في ذلك هناك.

(13/218)


3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ
7229 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب حدثني عروة أن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت مع الناس حين حلوا"
7230 - حدثنا الحسن بن عمر حدثنا يزيد عن حبيب عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبينا بالحج وقدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نطوف بالبيت وبالصفا والمروة وأن نجعلها عمرة ولنحل إلا من كان معه هدي قال ولم يكن مع أحد منا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وجاء علي من اليمن معه الهدي فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لحللت قال ولقيه سراقة وهو يرمي جمرة العقبة فقال يا رسول الله ألنا هذه خاصة قال لا بل لأبد قال وكانت عائشة قدمت مكة وهي حائض فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنسك المناسك أنها لا تطوف ولا تصلي حتى تطهر فلما نزلوا البطحاء قالت عائشة يا رسول الله أتنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحجة قال ثم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أن ينطلق معها إلى التنعيم فاعتمرت عمرة في ذي الحجة بعد أيام الحج
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت" ذكر فيه حديث عائشة بلفظه وبعده " ما سقت الهدي " وقد مضى من وجه آخر أتم من هذا في " كتاب الحج " ثم ذكر بعده حديث جابر وفيه: "إني لو استقبلت

(13/218)


4 - باب قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْتَ كَذَا وَكَذَا
7231 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ أَرِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلاَحِ قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَحْرُسُكَ فَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ قَ الَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ بِلاَلٌ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ فَأَخْبَرْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ليت كذا وكذا" ليت حرف من حروف التمني يتعلق بالمستحيل غالبا وبالممكن قليلا، ومنه حديث الباب فإن كلا من الحراسة والمبيت بالمكان الذي تمناه قد وجد. قوله: "أرق" بفتح أوله وكسر الراء أي " سهر " وزنه ومعناه وقد تقدم بيانه في باب الحراسة في الغزو مع شرحه، وقوله: "من هذا؟ قيل سعد " في رواية الكشميهني: "قال سعد " وهو أولى فقد تقدم في الجهاد بلفظ: "فقال أنا سعد بن أبي وقاص " ويستفاد منه تعيينه. تنبيه: ذكرت في " باب الحراسة " من " كتاب الجهاد " ما أخرجه الترمذي من طريق عبد الله بن شقيق " عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت: والله يعصمك من الناس " وهو يقتضي أنه لم يحرس بعد ذلك بناء على سبق نزول الآية لكن ورد في عدة أخبار أنه حرس في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي رجوعه من خيبر وفي وادي القرى وفي عمرة القضية وفي حنين، فكأن الآية نزلت متراخية عن وقعة حنين، ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الصغير من حديث أبي سعيد " كان العباس فيمن يحرس النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت هذه الآية ترك " والعباس إنما لازمه بعد فتح مكة، فيحمل على أنها نزلت بعد حنين، وحديث حراسته ليلة حنين أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث سهل بن الحنظلية أن أنس بن أبي مرثد حرس النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وتتبع بعضهم أسماء من حرس النبي صلى الله عليه وسلم فجمع منهم سعد بن معاذ ومحمد ابن مسلمة والزبير وأبو أيوب وذكوان بن عبد القيس والأدرع السلمي وابن الأدرع واسمه محجن ويقال سلمة وعباد ابن بشر والعباس وأبو ريحانة وليس كل واحد من هؤلاء في الوقائع التي تقدم ذكرها حرس النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل ذكر في مطلق الحرس فأمكن أن يكون خاصا به كأبي أيوب حين بنائه بصفية بعد الرجوع من خيبر وأمكن أن يكون حرس أهل تلك الغزوة كأنس بن أبي مرثد، والعلم عند الله تعالى. قوله: "وقالت عائشة قال بلال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة، إلخ" هذا حديث آخر تقدم موصولا بتمامه في مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من " كتاب الهجرة " وموضع الدلالة منه قولها فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك اقتصر من الحديث عليها والذي في الرواية الموصولة قالت عائشة: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته.

(13/219)


5 - باب تَمَنِّي الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ
7232 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحَاسُدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ بِهَذَا
قوله: "باب تمني القرآن والعلم" ذكر فيه حديث أبي هريرة " لا تحاسد إلا في اثنتين " وهو ظاهر في تمني القرآن وأضاف العلم إليه بطريق الإلحاق به في الحكم، وقد تقدم في العلم من وجه آخر عن الأعمش وتقدم شرحه مستوفى في " كتاب العلم " وقوله هنا " فهو يتلوه آناء الليل " وقع في رواية الكشميهني: "من آناء الليل " بزيادة " من". قوله: "يقول لو أوتيت" كذا فيه بحذف القائل وظاهره الذي أوتي القرآن وليس كذلك بل هو السامع وأفصح به في الرواية التي في " فضائل القرآن " ولفظه؛ فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت إلخ، ولفظ هذه الرواية أدخل في التمني لكنه جرى على عادته في الإشارة.

(13/220)


6 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَنِّي {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}
7233 - حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُ
7234 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ أَتَيْنَا خَبَّابَ بْنَ الأَرَتِّ نَعُودُهُ وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا فَقَالَ لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ
7235 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ - اسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ
قوله: "باب ما يكره من التمني" قال ابن عطية: يجوز تمني ما لا يتعلق بالغير أي مما يباح وعلى هذا فالنهي عن التمني بخصوص بما يكون داعية إلى الحسد والتباغض وعلى هذا محصل قول الشافعي " لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون كذا " ولم يرد أن كل التمني يحصل به الإثم. قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} - إلى قوله:- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة الآية كلها، ذكر فيه ثلاثة أحاديث كلها في الزجر عن تمني الموت، وفي مناسبتها للآية غموض، إلا إن كان أراد أن المكروه من التمني هو جنس ما دلت عليه الآية وما دل

(13/220)


عليه الحديث، وحاصل ما في الآية الزجر عن الحسد، وحاصل ما له في الحديث الحث على الصبر" لأن تمني الموت غالبا ينشأ عن وقوع أمر يختار الذي يقع به الموت على الحياة، فإذا نهى عن تمني الموت كأن أمر بالصبر على ما نزل به، ويجمع الحديث والآية الحث على الرضا بالقضاء والتسليم لأمر الله تعالى. ووقع في حديث أنس من طريق ثابت عنه في " باب تمني المريض الموت من كتاب المرضى " بعد النهي عن تمني الموت؛ فإن كان لا بد فاعلا فليقل " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، الحديث ولا يرد على ذلك مشروعية الدعاء بالعافية مثلا، لأن الدعاء بتحصيل الأمور الأخروية يتضمن الإيمان بالغيب مع ما فيه من إظهار الافتقار إلى الله تعالى والتذلل له والاحتياج والمسكنة بين يديه، والدعاء بتحصيل الأمور الدنيوية لاحتياج الداعي إليها فقد تكون قدرت له إن دعا بها فكل من الأسباب والمسببات مقدر، وهذا كله بخلاف الدعاء بالموت فليست فيه مصلحة ظاهرة بل فيه مفسدة. وهي طلب إزالة نعمة الحياة وما يترتب عليها من الفوائد، لا سيما لمن يكون مؤمنا، فإن استمرار الإيمان من أفضل الأعمال، والله أعلم. وقوله: "عاصم " هو ابن سليمان المعروف بالأحول وقد سمع من أنس، وربما أدخل بينهما واسطة كهذا، ووقع عند مسلم في هذا الحديث من رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم عن النضر بن أنس قال قال أنس، وأنس يومئذ حي، فذكره. وقوله: "لا تمنوا " بفتح أوله وثانيه وثالثه مشددا وهي على حذف إحدى التاءين، وثبتت في رواية الكشميهني: "لا تتمنوا " وزاد في رواية ثابت المذكورة عن أنس " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به " الحديث. وقد مضى الكلام عليه في " كتاب المرضى " وأورد نحوه من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس في " كتاب الدعوات " و " محمد" " محمد " هو ابن سلام و " عبدة " هو ابن سليمان و " ابن أبي خالد " هو إسماعيل و " قيس " هو ابن أبي حازم، والسند كله كوفيون إلا شيخ البخاري وقد مضى الكلام عليه في " كتاب المرضى" وقوله: "عن الزهري " كذا لهشام بن يوسف عن معمر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أخرجه مسلم والطريقان محفوظان لمعمر، وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وتابعه فيه عن الزهري، شعيب وابن أبي حفصة ويونس بن يزيد، وقوله: "عن أبي عبيد " هو سعد بن عبيد مولى ابن أزهر وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق إبراهيم ابن سعد عبد الزهري فقال: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، لكن قال النسائي إن الأول هو الصواب. قوله: "لا يتمنى" كذا للأكثر بلفظ النفي، والمراد به النهي أو هو للنهي وأشبعت الفتحة، ووقع في رواية الكشميهني: "لا يتمنين " بزيادة نون التأكيد، ووقع في رواية همام المشار إليها لا يتمن أحدكم الموت، ولا يدع به قبل أن يأتيه " فجمع في النهي عن ذلك بين القصد والنطق. وفي قوله: "قبل أن يأتيه " إشارة إلى الزجر عن كراهيته إذا حضر لئلا يدخل فيمن كره لقاء الله تعالى، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم عند حضور أجله " اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى " وكلامه صلى الله عليه وسلم بعدما خير بين، البقاء في الدنيا والموت فاختار ما عند الله وقد خطب بذلك وفهمه عنه أبو بكر الصديق كما تقدم بيانه في المناقب، وحكمة النهي عن ذلك أن في طلب الموت قيل حلوله نوع اعتراض ومراغمة للقدر وإن كانت الآجال لا تزيد ولا تنقص، فإن تمنى الموت لا يؤثر في زيادتها ولا نقصها، ولكنه أمر قد غيب عنه، وقد تقدم في " كتاب الفتن " ما يدل عل ذم ذلك في حديث أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل يقول يا ليتني مكانه " وليس به الدين إلا البلاء، وقد تقدم شرح ذلك مستوفى في " باب

(13/221)


تمني المريض الموت من كتاب المرضى " قال النووي في الحديث التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من فاقة أو محنة بعدو ونحوه من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررا أو فتنة في دينه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث، وقد فعله خلائق من السلف بذلك وفيه أن من خالف فلم يصبر على الضر وتمنى الموت لضر نزل به فليقل الدعاء المذكور. قلت: ظاهر الحديث المنع مطلقا والاقتصار على الدعاء مطلقا، لكن الذي قاله الشيخ لا بأس به لمن وقع منه التمني ليكون عونا على ترك التمني. قوله: "إما محسنا فلعله يزداد وإما مسيئا فلعله يستعتب" كذا لهم بالنصب فيهما وهو على تقدير عامل نصب نحو يكون، ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بالرفع فيهما، وكذا في رواية إبراهيم بن سعد المذكورة وهي واضحة، وقوله: "يستعتب " أي يسترضى الله بالإقلاع والاستغفار والاستعتاب طلب الإعتاب والهمزة للإزالة أي يطلب إزالة العتاب، عاتبه: لامه، وأعتبه: أزال عتابه: قال الكرماني وهو مما جاء على غير القياس إذ الاستفعال إنما ينبني من الثلاثي لا من المزيد فيه انتهى، وظاهر الحديث انحصار حال المكلف في هاتين الحالتين، وبقي قسم ثالث وهو أن يكون مخلطا فيستمر على ذلك أو يزيد إحسانا أو يزيد إساءة أو يكون محسنا فينقلب مسيئا أو يكون مسيئا فيزداد إساءة، والجواب أن ذلك خرج مخرج الغالب لأن غالب حال المؤمنين ذلك، ولا سيما والمخاطب بذلك شفاها الصحابة، وقد تقدم بيان ذلك مبسوطا مع شرحه هناك، وقد خطر لي في معنى الحديث أن فيه إشارة إلى تغبيط المحسن بإحسانه وتحذير المسيء من إساءته، فكأنه يقول: من كان محسنا فليترك تمني الموت وليستمر على إحسانه والازدياد منه، ومن كان مسيئا فليترك تمني الموت وليقلع عن الإساءة لئلا يموت على إساءته فيكون على خطر، وأما من عدا ذلك ممن تضمنه التقسيم فيؤخذ حكمه من هاتين الحالتين إذ لا انفكاك عن أحدهما والله أعلم. تنبيه: أورد البخاري في " كتاب الأدب " في هذه الترجمة حديث أبي هريرة رفعه: "إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يعطي وهو عنده " من رواية عمر بن أبي سلمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وليس على شرطه فلم يعرج عليه في الصحيح.

(13/222)


7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ "لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا"
7236 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الأَحْزَابِ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ يَقُولُ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا نَحْنُ وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إِنَّ الأُلَى وَرُبَّمَا قَالَ الْمَلاَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا أَبَيْنَا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ
قوله: "باب قول الرجل" كذا للأكثر وللمستملي والسرخسي " قول النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "لولا أنت ما اهتدينا" إشارة إلى رواية مختصرة أوردها في " باب حفر الخندق " في أوائل الجهاد من وجه آخر عن شعبة بلفظ كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل ويقول: "لولا أنت ما اهتدينا " وأورده في " غزوة الخندق " من وجه آخر عن شعبة أتم سياقا وقوله هنا " لولا أنت ما اهتدينا " وفي بعضها " لو لا الله " هكذا وقع بحذف بعض الجزء الأول ويسمى " الخرم " بالخاء المعجمة والراء الساكنة، وتقدم في " غزوة الخندق " من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "والله لولا الله ما اهتدينا "

(13/222)


وهو موافق للفظ الترجمة؛ ومن وجه آخر عن أبي إسحاق " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " وفي أول هذا الجزء زيادة سبب خفيف وهو " الخزم " بالزاي، وتقدمت الإشارة إلى هذا في " كتاب الأدب " والرواية الوسطى سالمة من الخرم والخزم معا. وقوله هنا " إن الألى " وربما قال: "إن الملأ قد بغوا علينا " تقدم في غزوة الخندق " إن الألى قد بغوا علينا " ولم يتردد و " الألى " بهمزة مضموما غير ممدودة واللام بعدها مفتوحة وهي بمعنى " الذين " وإنما يتزن بلفظ الذين فكأن أحد الرواة ذكرها بالمعنى، ومضى في الجهاد من وجه آخر عن أبي إسحاق بلفظ إن العدا " وهو غير موزون أيضا ولو كان الأعادي " لا تزن، وعند النسائي من وجه آخر عن سلمة بن الأكوع " والمشركون قد بغوا علينا " وهذا موزون، ذكره في رجز عامر بن الأكوع، وتقدم شرحه مستوفى في " غزوه خيبر". قوله: "قبل ذلك ولقد رأيته وأرى التراب" بسكون الألف وفتح الراء بلفظ الفعل الماضي من المواراة، أي " غطى " وزنه ومعناه كذا للجميع إلا الكشميهني فوقع في روايته: "وإن التراب لموار". قوله: "بياض بطنه" كذا للجميع إلا الكشميهني فقال: "بياض إبطيه " تثنية الإبط ووقع في الرواية التي في المغازي حتى " اغبر بطنه " وفي الرواية الأخرى " رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وأرى عني التراب جلدة بطنه " فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، يعني عبد الله الشاعر الأنصاري الصحابي المشهور، وقد تقدم في غزوة خيبر أنه من شعر عامر بن الأكوع، وذكرت وجه الجمع بينهما هناك وما في الأبيات المذكورة من زحاف وتوجيهه. وتقدم ما يتعلق بحكم الشعر إنشادا وإنشاء في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق من دونه في أواخر " كتاب الأدب " بحمد الله تعالى، قال ابن بطال " لولا " عند العرب يمتنع بها الشيء لوجود غيره تقول " لولا زيد ما صرت إليك " أي كان مصيري إليك من أجل زيد وكذلك " لولا الله ما اهتدينا " أي كانت هدايتنا من قبل الله تعالى وقال الراغب لوقوع غيره، ويلزم خبره الحذف ويستغنى بجوابه عن الخبر " قال: "وتجيء بمعنى " هلا " نحو " لولا أرسلت إلينا رسولا " ومثله " لوما " بالميم بدل اللام وقال ابن هشام " لولا " تجيء على ثلاثة أوجه أحدها: أن تدخل على جملة لتربط امتناع الثانية بوجود الأولى نحو " لولا زيد لأكرمتك " أي لولا وجوده، وأما حديث: "لو لا أن أشق " فالتقدير " لولا مخافة أن أشق " لأمرت أمر إيجاب وإلا لانعكس معناها، إذ الممتنع المشقة؛ والموجود الأمر. والوجه الثاني: أنها تجيء " للحض " وهو طلب بحث وإزعاج و " للعرض " وهو طلب بلين وأدب، فتختص بالمضارع نحو "لولا تستغفرون الله" والوجه الثالث: أنها تجيء " للتوبيخ والتندم " فتختص بالماضي نحو "لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء" أي " هلا " انتهى، وذكر أبو عبيد الهروي في الغريبين أنها تجيء بمعنى " لم لا " وجعل منه قوله تعالى :{فلولا كانت قوية آمنت} والجمهور أنها من القسم الثالث وموقع الحديث من الترجمة أن هذه الصيغة إذا علق بها القول الحق، لا يمنع بخلاف ما لو علق بها ما ليس بحق، كمن يفعل شيئا فيقع في محذور فيقول: لولا فعلت كذا ما كان كذا، فلو حقق لعلم أن الذي قدره الله لا بد من وقوعه، سواء فعل أم ترك فقولها واعتقاد معناها يفضي إلى التكذيب بالقدر.

(13/223)


8 - باب كَرَاهِيَةِ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَرَوَاهُ الأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن موسى بن عقبة عن سالم

(13/223)


أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته فإذا فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية"
قوله: "باب كراهية تمني لقاء العدو" تقدم في أواخر الجهاد " باب لا تتمنوا لقاء العدو " وتقدم هناك توجيهه مع جواز تمني الشهادة، وطريق الجمع بينهما لأن ظاهرهما التعارض، لأن تمني الشهادة محبوب، فكيف ينهي عن تمني لقاء العدو وهو يفضي إلى المحبوب؟ وحاصل الجواب أن حصول الشهادة أخص من اللقاء لإمكان تحصيل الشهادة مع نصرة الإسلام ودوام عزه بكسرة الكفار، واللقاء قد يفضي إلى عكس ذلك فنهى عن تمنيه ولا ينافي ذلك تمني الشهادة، أو لعل الكراهية مختصة بمن يثق بقوته ويعجب بنفسه ونحو ذلك. قوله: "ورواه الأعرج عن أبي هريرة" علقه في الجهاد لأبي عامر وهو العقدي عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج، وقد ذكرت هناك من وصله ثم ذكرت حديث عبد الله بن أبي أوفى موصولا مختصرا، وتقدم هناك موصولا تاما في " كتاب الجهاد"

(13/224)


9 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ اللَّوْ, وَقَوْلِهِ {تَعَالَى لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}
7238 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ "ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ أَهِيَ الَّتِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ قَالَ لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ"
7239 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِشَاءِ فَخَرَجَ عُمَرُ فَقَالَ الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ يَقُولُ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا عَلَى أُمَّتِي لاَمَرْتُهُمْ بِالصَّلاَةِ هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الصَّلاَةَ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ فَخَرَجَ وَهُوَ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ يَقُولُ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنَا عَطَاءٌ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ وَقَالَ عَمْرٌو لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7240 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لاَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ
7241 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(13/224)


قَالَ وَاصَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ الشَّهْرِ وَوَاصَلَ أُنَاسٌ مِنْ النَّاسِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ مُدَّ بِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُغِيرَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7242 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ أَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلاَلَ فَقَالَ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ
7243 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ فَعَلَ ذَاكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أَلْصِقْ بَابَهُ فِي الأَرْضِ
7244 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ
7245 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا تَابَعَهُ أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ
قوله: "باب ما يجوز من اللو" قال القاضي عياض يريد " ما يجوز من قول الراضي بقضاء الله لو كان كذا لكان كذا " فأدخل على " لو " الألف واللام التي للعهد وذلك غير جائز عند أهل العربية، لأن لو حرف وهما لا يدخلان على الحروف، وكذا وقع عند بعض رواة مسلم: "إياك واللو فإن اللو من الشيطان " والمحفوظ " إياك ولو فإن لو " بغير ألف ولام فيهما، قال: ووقع لبعض الشعراء تشديد واو " لو " وذلك لضرورة الشعر انتهى. وقال صاحب المطالع: لما أقامها مقام الاسم صرفها فصارت عنده كالندم والتمني. وقال صاحب النهاية: الأصل لو ساكنة الواو، وهي حرف من حروف المعاني، يمتنع بها الشيء لامتناع غيره غالبا، فلما سمي بها زيد فيها فلما أراد إعرابها أتى فيها

(13/225)


بالتعريف ليكون علامة لذلك، ومن ثم شدد الواو وقد سمع بالتشديد منونا قال الشاعر:
ألام على لو ولو كنت عالما ... بأدبار لو لم تفتني أوائله
وقال آخر:
ليت شعري وأين منى ليت ... إن ليتا وإن لوا عناء
وقال آخر:
حاولت لوا فقلت لها ... إن لوا ذاك أعيانا
وقال ابن مالك إذا نسب إلى حرف أو غيره حكم هو للفظه دون معناه، جاز أن يحكي وجاز أن يعرب بما يقتضيه العامل، وإن كانت على حرفين ثانيهما حرف لين وجعلت اسما ضعف ثانيهما، فمن ثم قيل في " لو لو " وفي " في في " وقال ابن مالك: أيضا الأداة التي حكم لها بالاسمية في هذا الاستعمال إن أولت " بكلمة " منع صرفها إلا إن كانت ثلاثية ساكنة الوسط فيجوز صرفها وإن أولت " بلفظ: "صرفت قولا واحدا. قلت: ووقع في بعض النسخ المعتمدة من رواية أبي ذر عن مشايخه ما يجوز من أن لو فجعل أصلها " أن لو " بهمزة مفتوحة بعدها نون ساكنة ثم حرف لو فأدغمت النون في اللام وسهلت همزة أن فصارت تشبه أداة التعريف. وذكر الكرماني أن في بعض النسخ ما يجوز من لو بغير ألف ولام ولا تشديد على الأصل، والتقدير ما يجوز من قول " لو ثم رأيته " في شرح ابن التين، كذلك فلعله من إصلاح بعض الرواة لكونه لم يعرف وجهه، وإلا فالنسخ المعتمدة من الصحيح وشروحه متواردة على الأول. وقال السبكي الكبير " لو " إنما لا تدخلها الألف ولا اللام إذا بقيت على الحرفية، أما إذا سمي بها فهي من جملة الحروف التي سمعت التسمية بها من حروف الهجاء وحروف المعاني ومن شواهده قوله:
وقدما أهلكته لو كثيرا ... وقبل اليوم عالجها قدار
فأضاف إليها واوا أخرى وأدغمها وجعلها فاعلا، وحكى سيبويه أن بعض العرب يهمز لوا أي سواء كانت باقية على حرفيتها أو سمي بها، وأما حديث: "إياك ولو فإن لو تفتح عمل الشيطان " فلا يلزم من جعلها اسم " إن " أن تكون خرجت عن الحرفية بل هو إخبار لفظي يقع في الاسم والفعل والحرف؛ كقولهم حرف عن ثنائي، وحرف إلى ثلاثي هو إخبار عن اللفظ على سبيل الحكاية، وأما إذا أضيف إليها الألف واللام فإنها تصير اسما أو تكون إخبارا عن المعنى المسمى بذلك اللفظ. قال ابن بطال " لو " تدل عند العرب على امتناع الشيء لامتناع غيره تقول " لو جاءني زيد لأكرمتك " معناه إني امتنعت من إكرامك لامتناع مجيء زيد، وعلى هذا جرى أكثر المتقدمين. وقال سيبويه " لو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره: "أي يقتضي فعلا ماضيا كان يتوقع ثبوته لثبوت غيره فلم يقع وإنما عبر بقوله: لما كان سيقع دون قوله: لما لم يقع مع أنه أخصر، لأن " كان " للماضي و " لو " للامتناع و " لما " للوجوب و " السين " للتوقع. وقال بعضهم: هي لمجرد الربط في الماضي مثل " إن " في المستقبل وقد تجيء بمعنى إن الشرطية نحو "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" أي " وإن أعجبتكم " وترد للتقليل، نحو " التمس ولو خاتما من حديد " قاله صاحب المطالع وتبعه ابن هشام الخضراوي، ومثل " فاتقوا النار ولو بشق تمرة " وتبعه ابن السمعاني في القواطع، ومثل بقوله: "ولو بظلف محرق " وهو أبلغ في التقليل، وترد للعرض نحو " لو تنزل عندنا فتصيب خيرا " وللحض نحو " لو فعلت كذا " بمعنى افعل، والأول طلب بأدب ولين، والثاني طلب

(13/226)


بقوة وشدة، وذكر ابن التين عن الداودي أنها تأتي بمعنى " هلا " ومثل بقوله: "لو شئت لاتخذت عليه أجرا" وتعقب بأنه تفسير معنى لأن اللفظ لا يساعده، وتأتي بمعنى " التمني " نحو "فلو أن لنا كرة" أي فليت لنا، ولهذا نصب فتكون في جوابها كما انتصب فأفوز في جواب ليت، واختلفوا هل هي الامتناعية أشربت معنى التمني أو المصدرية أو قسم برأسه، رجح الأخير ابن مالك ولا يعكر عليه ورودها مع فعل التمني، لأن محل مجيئها للتمني أن لا يصحبها فعل التمني، قال القاضي شهاب الدين الخوبي لو الشرطية لتعليق الثاني بالأول في الماضي، فتدل على انتفاء الأول إذ لو كان ثابتا للزم ثبوت الثاني لأنها لثبوت الثاني على تقدير الأول، فمتى كان الأول لازما للثاني دل على امتناع الثاني لامتناع الأول ضرورة انتقاء الملزوم، وإن لم يكن الأول لازما للثاني لم يدل إلا على مجرد الشرط وقال التفتازاني قد تستعمل للدلالة على أن الجزاء لازم الوجود دائما في قصد المتكلم وذلك إذا كان الشرط مما يستبعد استلزامه لذلك الجزاء، ويكون نقيض ذلك الشرط المثبت أولى باستلزامه ذلك الجزاء، فيلزم وجود استمرار الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه نحو " لو لم تكن تكرمني لأثني عليك " فإذا ادعى لزوم وجود الجزاء لهذا الشرط مع استبعاد لزومه له فوجوده عند عدم هذا الشرط بالطريق الأولى انتهى. ومن أمثلة ذلك الشعرية قول المعري. لو اختصرتم من الإحسان زرتكم " البيت فإن الإحسان يستدعي استدامة الزيارة لا تركها لكنه أراد المبالغة في وصف الممدوح بالكرم، ووصف نفسه بالعجز عن شكره. قوله: "وقوله تعالى { لو أن لي بكم قوة} قال ابن بطال: جواب " لو " محذوف كأنه قال: "لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد " قال: وحذفه أبلغ لأنه يحصر بالنفي ضروب المنع، وإنما أراد لوط عليه السلام العدة من الرجال، وإلا فهو يعلم أن له من الله ركنا شديدا؛ ولكنه جرى على الحكم الظاهر، قال وتضمنت الآية البيان عما يوجبه حال المؤمن إذا رأى منكرا لا يقدر على إزالته، أنه يتحسر على فقد المعين على دفعه، ويتمنى وجوده حرصا على طاعة ربه وجزعا من استمرار معصيته، ومن ثم وجب أن ينكر بلسانه ثم بقلبه إذا لم يطلق الدفع انتهى. والحديث الذي ذكره السبكي هو الذي رمز إليه البخاري بقوله ما يجوز من اللو فإن فيه إشارة إلى أنها في الأصل " لا يجوز إلا ما استثنى، وهو مخرج عند النسائي وابن ماجه والطحاوي من طريق محمد بن عجلان عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل قدر الله وما شاء الله، وإياك واللو فإن اللو تفتح عمل الشيطان " لفظ ابن ماجه ولفظ النسائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والباقي سواء إلا أنه قال: "وما شاء وإياك واللو " وأخرجه الطبري من هذا الوجه بلفظ: "احرص " إلخ ولم يذكر ما قبله. وقال: "فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، لكن قدر الله وما شاء فعل، فإن لو مفتاح الشيطان " وأخرجه النسائي والطبري من طريق فضيل بن سليمان عن ابن عجلان فأدخل بينه وبين الأعرج أبا الزناد، ولفظه: "مؤمن قوي خير وأحب " وفيه: "فقل قدر الله وما شاء صنع " قال النسائي فضيل بن سليمان ليس بقوي، وأخرجه النسائي والطبري والطحاوي من طريق عبد الله بن المبارك عن ابن عجلان فأدخل بينه وبين الأعرج ربيعة بن عثمان ولفظ النسائي كالأول، لكن قال: "وأفضل " وقال: "وما شاء صنع " وأخرجه من وجه آخر عن ابن المبارك عن ربيعة قال: سمعته من ربيعة وحفظي له عن ابن عجلان عن ربيعة، وكذا أخرجه الطحاوي وقال: دلسه ابن عجلان عن الأعرج وإنما سمعه من ربيعة ثم رواه الثلاثة أيضا من طريق عبد

(13/227)


الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان، فقال: عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج بدل محمد بن عجلان ولفظ النسائي: "وفي كل خير " وفيه: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل " وهذه الطريق أصح طرق هذا الحديث، وقد أخرجها مسلم من طريق عبد الله ابن إدريس أيضا، واقتصر عليها ولم يخرج بقية الطرق من أجل الاختلاف على ابن عجلان في سنده، ويحتمل أن يكون ربيعة سمعه من ابن حبان ومن ابن عجلان، فإن ابن المبارك حافظ كابن إدريس، وليس في هذه الرواية لفظ: "اللو " بالتشديد. قال الطبري طريق الجمع بين هذا النهي وبين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز، أن النهي مخصوص بالجزم بالفعل الذي لم يقع، فالمعنى: لا تقل لشيء لم يقع لو أني فعلت كذا لوقع قاضيا بتحتم ذلك غير مضمر في نفسك شرط مشيئة الله تعالى، وما ورد من قول " لو " محمول على ما إذا كان قائله موقنا بالشرط المذكور وهو أنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله وإرادته، وهو كقول أبي بكر في الغار " لو أن أحدكم رفع قدمه لأبصرنا " فجزم بذلك مع تيقنه أن الله قادر على أن يصرف أبصارهم عنهما بعمى أو غيره، لكن جرى على حكم العادة الظاهرة وهو موقن بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروهما إلا بمشيئة الله تعالى، انتهى ملخصا. وقال عياض الذي يفهم من ترجمة البخاري ومما ذكره في الباب من الأحاديث أنه يجوز استعمال " لو ولولا " فيما يكون للاستقبال مما فعله لوجود غيره وهو من باب لو لكونه لم يدخل في الباب إلا ما هو للاستقبال، وما هو حق صحيح متيقن، بخلاف الماضي والمنقضي أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق. قال: والنهي إنما هو حيث قاله معتقدا ذلك حتما وأنه لو فعل ذلك لم يصبه ما أصابه قطعا، فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى، وأنه لولا أن الله أراد ذلك ما وقع فليس من هذا قال والذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه لكنه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله: "فإن لو تفتح عمل الشيطان " أي يلقي في القلب معارضة القدر فيوسوس به الشيطان، وتعقبه النووي بأنه جاء من استعمال لو في الماضي مثل قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت " فالظاهر أن النهي عنه إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، وأما من قاله تأسفا على ما فات من طاعة الله أو ما هو معتذر عليه منه ونحو هذا فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث. وقال القرطبي في " المفهم " المراد من الحديث الذي أخرجه مسلم أن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضى بما قدر والإعراض عن الالتفات لما فات، فإنه إذا ذكر فيما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا، جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله: "فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان " وليس المراد ترك النطق بلو مطلقا إذ قد نطق النبي صلى الله عليه وسلم بها في عدة أحاديث، ولكن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أطلقت معارضة للقدر، مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور، لا ما إذا أخبر بالمانع على جهة أن يتعلق به فائدة في المستقبل فإن مثل هذا لا يختلف في جواز إطلاقه، وليس فيه فتح لعمل الشيطان ولا ما يفضي إلى تحريم. وذكر المصنف في هذا الباب تسعة أحاديث في بعضها النطق بلو وفي بعضها بلولا فمن الأول الحديث الأول والثاني والثالث والسادس والثامن والتاسع ومن الثاني: الرابع والخامس والسابع. حديث القاسم بن محمد قال: "ذكر ابن عباس المتلاعنين " الحديث وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب اللعان " والمراد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت

(13/228)


راجما أحدا بغير بينة " الحديث. قوله: "حدثنا علي" هو ابن عبد الله بن المديني " وسفيان " هو ابن عيينة و " عمرو " هو ابن دينار و " عطاء " هو ابن أبي رباح. قوله: "اعتم النبي صلى الله عليه وسلم" تقدم شرح المتن في " كتاب الصلاة " مستوفى وهو من رواية عمرو عن عطاء مرسل، ومن رواية ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مسند؛ كما بينه سفيان وهو القائل: قال ابن جريج عن عطاء إلخ، وهو موصول بالسند المذكور وليس بمعلق، وسياق الحميدي له في مسنده أوضح من سياق علي بن المديني، فإنه أخرجه عن سفيان قال: حدثنا عمرو عن عطاء، قال سفيان وحدثناه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، فساق الحديث ثم قال الحميدي: كان سفيان ربما حدث بهذا الحديث عن عمرو وابن جريج فأدرجه عن ابن عباس، فإذا ذكر فيه الخبر فقال: حدثنا أو سمعت أخبر بهذا يعني عن عمرو عن عطاء مرسلا وعن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس موصولا. قلت: وقد رواه علي هنا بالعنعنة ومع ذلك فصله فلم يدرجه، وزاد فيه تفصيل سياق المتن عنهما أيضا حيث قال أما عمرو فقال: "رأسه يقطر " وقال ابن جريج " يمسح الماء عن شقه " إلخ، وقوله: وقال إبراهيم بن المنذر إلخ يريد أن محمد بن مسلم وهو الطائفي رواه عن عمرو، وهو ابن دينار عن عطاء موصولا بذكر ابن عباس فيه، وهو مخالف لتصريح سفيان بن عيينة عن عمرو بأن حديثه عن عطاء ليس فيه ابن عباس فهذا يعد من أوهام الطائفي، وهو موصوف بسوء الحفظ وقد وصل حديثه الإسماعيلي من وجهين عنه هكذا، وذكر أن من جملة من حدث به عن سفيان مدرجا كما قال الحميدي: عبد الأعلى بن حماد وأحمد بن عبدة الضبي وأبو خيثمة، وأن عبدة بن عبد الرحيم وعمار بن الحسن روياه عن سفيان فاقتصرا على طريق عمرو وذكرا فيه ابن عباس فوهما في ذلك أشد من وهم عبد الأعلى. وأن ابن أبي عمر رواه في موضعين عن ابن عيينة مفصلا على الصواب. قلت: وكذلك أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان مفصلا. حديث أبي هريرة " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " هكذا ذكره مختصرا من رواية جعفر بن ربيعة وهو المصري، عن عبد الرحمن وهو الأعرج، ونسبه الإسماعيلي في رواية شعيب بن الليث عن أبيه ولم يزد على ما هناك؛ فدل على أن هذا القدر هو الذي وقع في هذه الطريق. وقد أورده المزي في " الأطراف " فزاد فيه: "عند كل صلاة " ولم أر هذه الزيادة في هذه الطريق عند أحد ممن أخرجها وإنما ثبتت عند البخاري في رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، أورده في " كتاب الجمعة " ونسبه المزي إلى الصلاة بغير قيد الجمعة وهو مما يتعقب عليه أيضا، وعنده فيه مع بدل " عند " وثبت عند مسلم بلفظ عند من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد، وقد تقدم الكلام على هذا المتن مستوفى هناك ولله الحمد. "تنبيه": وقع هنا في نسخة الصغاني: تابعه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وهو خطأ. والصواب ما وقع عند غيره ذكر هذا عقب حديث أنس المذكور عقبه. حديث أنس " في النهي عن الوصال " ذكر من طريق حميد وهو الطويل عن ثابت عن أنس، وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الصيام " وقوله: "تابعه سليمان بن المغيرة عن ثابت " إلخ. وصله مسلم من طريق أبي النضر عن سليمان بن المغيرة " ووقع لنا بعلو في مسند عبد بن حميد " ووقع هذا التعليق في رواية كريمة سابقا على حديث حميد عن أنس فصار كأنه طريق أخرى معلقة لحديث: "لولا أن أشق " وهو غلط فاحش، والصواب ثبوته هنا كما وقع في رواية الباقين. حديث أبي هريرة في المعنى وفيه: "فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم " الحديث. وقد تقدم شرحه مستوفى في " الصيام " أيضا.

(13/229)


وقوله في السند وقال الليث " حدثني عبد الرحمن بن خالد " يعني ابن مسافر الفهمي أمير مصر وطريقه المذكورة وصلها الدار قطني في بعض فوائده من طريق أبي صالح عنه. حديث عائشة في الجدر بفتح الجيم وسكون الدال والمراد الحجر بكسر المهملة وسكون الجيم وقد تقدم شرحه في " كتاب الحج " مستوفى. والمراد منه هنا " ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية وأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت " كذا وقع محذوف الجواب وتقديره " لفعلت". حديث أبي هريرة " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار " الحديث وفيه: "ولو سلك الناس واديا أو شعبا " وقد تقدم شرحه في غزوة حنين عند شرح حديث عبد الله بن زيد المذكور هنا بعده، وهو الحديث الثامن. حديث أنس في بعض ذلك أورده مختصرا معلقا قائلا تابعه أبو التياح عن أنس في الشعب؛ يعني في قوله: "لو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم " وقد تقدم موصولا في غزوة حنين أيضا بعد حديث عبد الله بن زيد المشار إليه مع الكلام عليه، وتقدم شيء من ذلك في مناقب الأنصار ولله الحمد. قال السبكي الكبير مقصود البخاري بالترجمة وأحاديثها أن النطق بلو لا يكره على الإطلاق، وإنما يكره في شيء مخصوص يؤخذ ذلك من قوله: "من اللو " فأشار إلى " التبعيض " وورودها في الأحاديث الصحيحة ولذا قال الطحاوي بعد ذكر حديث: "وإياك واللو " دل قول الله تعالى لنبيه أن يقول: "ولو كنت أعلم الغيب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت " وقوله في الحديث الآخر " ورجل يقول لو أن الله آتاني مثل ما آتى فلانا لعملت مثل ما عمل " على أن " لو " ليست مكروهة في كل الأشياء ودل قوله تعالى عن المنافقين { لو كان لنا من الأمر شيء} ورده عليهم بقوله: {لو كنتم في بيوتكم} على ما يباح من ذلك قال: "ووجدنا العرب تذم اللو وتحذر منه " فتقول أحذر اللو وإياك ولو، يريدون قوله: "لو علمت أن هذا خير لعملته " وفي حديث سلمان " الإيمان بالقدر: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تقولن لشيء أصابك لو فعلت كذا " أي لكان كذا. قال السبكي: وقد تأملت اقتران قوله: "احرص على ما ينفعك " بقوله: "وإياك واللو " فوجدت الإشارة إلى محل لو المذمومة وهي نوعان: أحدهما في الحال ما دام فعل الخير ممكنا فلا يترك لأجل فقد شيء آخر، فلا تقول " لو أن كذا كان موجودا لفعلت كذا " مع قدرته على فعله ولو لم يوجد ذاك، بل يفعل الخير ويحرص على عدم فواته والثاني من فاته أمر من أمور الدنيا فلا يشغل نفسه بالتلهف عليه لما في ذلك من الاعتراض على المقادير وتعجيل تحسر لا يغني شيئا ويشتغل به عن استدراك ما لعله يجدي، فالذم راجع فيما يؤل في الحال إلى التفريط وفيما يؤل في الماضي إلى الاعتراض على القدر وهو أقبح من الأول، فإن انضم إليه الكذب فهو أقبح، مثل قول المنافقين {لو استطعنا لخرجنا معكم} وقولهم { لو نعلم قتالا لا تبعناكم} وكذا قولهم { لو أطاعونا ما قتلوا} ثم قال وكل ما في القرآن من لو التي من كلام الله تعالى كقوله تعالى :{قل لو كنتم في بيوتكم} ، {ولو كنتم في بروج مشيدة} ونحوهما فهو صحيح لأنه تعالى عالم به، وأما التي للربط فليس الكلام فيها ولا المصدرية إلا أن كان متعلقها مذموما كقوله تعالى:{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا" لأن الذي ودوه وقع خلافه. انتهى ملخصا.

(13/230)


كتاب أخبار الأحاد
مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ فِي الأَذَانِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
95 - كتاب الآحاد
1 - باب مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ فِي الأَذَانِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَلَوْ اقْتَتَلَ رَجُلاَنِ دَخَلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ
7246 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ قَالَ أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ
7247 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ قَالَ يُنَادِي لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَجَمَعَ يَحْيَى كَفَّيْهِ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَمَدَّ يَحْيَى إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ
7248 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ بِلاَلًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
7249 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ
7250 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(13/231)


انْصَرَفَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ ثُمَّ رَفَعَ
7251 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ
7252 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فَوُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّى مَعَهُ رَجُلٌ الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَانْحَرَفُوا وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ
7253 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَهُوَ تَمْرٌ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا قَالَ أَنَسٌ فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى انْكَسَرَتْ
7254 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ لاَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ
7255 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ
7256 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُهُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَهُ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(13/232)


7257 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ ادْخُلُوهَا فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ
7259,7258 - حدثنا زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن بن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن أبا هريرة وزيد بن خالد أخبراه "أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم"
7260 - و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَعْرَابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ فَقَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ وَأَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرُدُّوهَا وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا
قوله: "باب ما جاء في إجازة خبر الواحد" هكذا عند الجميع بلفظ: "باب " إلا في نسخة الصغاني فوقع فيها " كتاب أخبار الآحاد " ثم قال: "باب ما جاء " إلى آخرها فاقتضى أنه من جملة " كتاب الأحكام " وهو واضح وبه يظهر أن الأولى في التمني أن يقال باب لا كتاب أو يؤخر عن هذا الباب وقد سقطت البسملة لأبي ذر والقابسي والجرجاني، وثبتت هنا قبل الباب في رواية كريمة والأصيلي، ويحتمل أن يكون هذا من جملة أبواب الاعتصام فإنه من جملة متعلقاته فلعل بعض من بيض الكتاب قدمه عليه، ووقع في بعض النسخ قبل البسملة " كتاب خبر الواحد " وليس بعمدة والمراد " بالإجازة " جواز العمل به والقول بأنه حجة و " بالواحد " هنا حقيقة الوحدة وأما في اصطلاح الأصوليين فالمراد به ما لم يتواتر، وقصد الترجمة الرد به على من يقول: إن الخبر لا يحتج به إلا إذا رواه أكثر من شخص واحد حتى يصير كالشهادة، ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر. فقد نقل الأستاذ أبو منصور البغدادي أن بعضهم اشترط في قبول خبر الواحد أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه، واشترط بعضهم أربعة عن أربعة، وبعضهم خمسة عن خمسة، وبعضهم سبعة عن سبعة انتهى. وكأن كل قائل منهم يرى أن العدد المذكور يفيد التواتر، أو يرى تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد ومتوسط بينهم، وفات الأستاذ ذكر من اشترط اثنين عن اثنين كالشهادة على الشهادة وهو منقول عن بعض المعتزلة. ونقله المازري وغيره عن أبي علي الجبائي

(13/233)


ونسب إلى الحاكم أبي عبد الله وأنه ادعى أنه شرط الشيخين، ولكنه غلط على الحاكم كما أوضحته في الكلام على علوم الحديث، وقوله الصدوق قيد لا بد منه وإلا فمقابله وهو الكذوب لا يحتج به اتفاقا، وأما من لم يعرف حاله فثالثها يجوز أن اعتضد وقوله: "والفرائض " بعد قوله: "في الأذان والصلاة والصوم " من عطف العام على الخاص، وأفرد الثلاثة بالذكر للاهتمام بها. قال الكرماني ليعلم إنما هو في العمليات لا في الاعتقاديات " والمراد بقبول خبره في الأذان " أنه إذا كان مؤتمنا فأذن تضمن دخول الوقت فجازت صلاة ذلك الوقت، وفي " الصلاة " الإعلام بجهة القبلة وفي " الصوم " الإعلام بطلوع الفجر أو غروب الشمس وقوله: "والأحكام " بعد قوله: "والفرائض " من عطف العام على عام أخص منه لأن الفرائض فرد من الأحكام. قوله: "وقول الله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الآية" وقع في رواية كريمة سياق الآية إلى قوله: " " وهو المراد بقوله في رواية غيرها الآية، وهذا مصير منه إلى أن لفظ: "طائفة " يتناول الواحد فما فوقه ولا يختص بعدد معين، وهو منقول عن ابن عباس وغيره كالنخعي ومجاهد نقله الثعلبي وغيره، وعن عطاء وعكرمة وابن زيد أربعة، وعن ابن عباس أيضا من أربعة إلى أربعين، وعن الزهري ثلاثة، وعن الحسن عشرة، وعن مالك أقل الطائفة أربعة كذا أطلق ابن التين ومالك إنما قاله فيمن يحضر رجم الزاني، وعن ربيعة خمسة وقال الراغب: لفظ طائفة يراد بها الجمع والواحد طائف، ويراد بها الواحد فيصح أن يكون كراوية وعلامة، ويصح أن يراد به الجمع وأطلق على الواحد. وقال عطاء الطائفة اثنان فصاعدا، وقواه أبو إسحاق لزجاج بأن لفظ طائفة يشعر بالجماعة وأقلها اثنان، وتعقب بأن الطائفة في اللغة القطعة من الشيء فلا يتعين فيه العدد، وقرر بعضهم الاستدلال بالآية الأولى على وجه آخر فقال لما قال: {فلولا نفر من كل فرقة} وكان أقل الفرقة ثلاثة. وقد علق النفر بطائفة منهم فأقل من ينفر واحد ويبقى اثنان وبالعكس. قوله: "ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، فلو اقتتل رجلان" في رواية الكشميهني: "الرجلان". "دخلا في معنى الآية" وهذا الاستدلال سبقه إلى الحجة به الشافعي وقبله مجاهد ولا يمنع ذلك قوله: "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" لكون سياقه يشعر بأن المراد أكثر من واحد لأنا لم نقل أن الطائفة لا تكون إلا واحدا. قوله: "وقوله إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وجه الدلالة منها يؤخذ من مفهومي الشرط والصفة فإنهما يقتضيان قبول خبر الواحد، وهذا الدليل يورد للتقوى لا للاستقلال لأن المخالف قد لا يقول بالمفاهيم واحتج الأئمة أيضا بآيات أخرى وبالأحاديث المذكورة في الباب، واحتج من منع بأن ذلك لا يفيد إلا الظن وأجيب بأن مجموعها يفيد القطع كالتواتر المعنوي، وقد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول، ولا يقال لعلهم عملوا بغيرها أو عملوا بها لكنها أخبار مخصوصة بشيء مخصوص لأنا نقول العلم حاصل من سياقها بأنهم إنما عملوا بها لظهورها لا لخصوصها. قوله: "وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدا بعد واحد فإن سها أحد منهم رد إلى السنة" سيأتي في أواخر الكلام على خبر الواحد " باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث من الأمراء والرسل واحدا بعد واحد " فزاد فيه: "بعث الرسل " والمراد بقوله: "واحدا بعد واحد " تعدد الجهات المبعوث إليها بتعدد المبعوثين، وحمله الكرماني على ظاهره فقال فائدة بعث الآخر بعد الأول ليرده إلى الحق عند سهوه، ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد وهو استدلال قوي لثبوت خبر الواحد من فعله صلى الله عليه وسلم لأن خبر الواحد لو لم يكف قبوله ما كان في إرساله معنى، وقد نبه عليه

(13/234)


الشافعي أيضا كما سأذكره وأيده بحديث: "ليبلغ الشاهد الغائب " وهو في الصحيحين، وبحديث: "نضر الله امرأ سمع مني حديثا فأداه " وهو في السنن، واعترض بعض المخالفين بأن إرسالهم إنما كان لقبض الزكاة والفتيا ونحو ذلك وهي مكابرة، فإن العلم حاصل بإرسال الأمراء لأعم من قبض الزكاة وإبلاغ الأحكام وغير ذلك، ولو لم يشتهر من ذلك إلا تأمير معاذ بن جبل وأمره له وقوله له " إنك تقدم على قوم أهل كتاب فأعلمهم أن الله فرض عليهم " إلخ والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم ويقبلون خبره ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة، وفي أحاديث هذا الباب كثير من ذلك واحتج بعض الأئمة بقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} مع أنه كان رسولا إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاها، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم وهو مسلك جيد ينضم إلى ما احتج به الشافعي ثم البخاري، واحتج من رد خبر الواحد بتوقفه صلى الله عليه وسلم في قبول خبر ذي اليدين ولا حجة فيه لأنه عارض علمه " وكل خبر واحد إذا عارض العلم لم يقبل " وبتوقف أبي بكر وعمر في حديثي المغيرة " في الجدة وفي ميراث الجنين " حتى شهد بهما محمد بن مسلمة، وبتوقف عمر في خبر أبي موسى " في الاستئذان " حتى شهد أبو سعيد، وبتوقف عائشة في خبر ابن عمر " في تعذيب الميت ببكاء الحي " وأجيب بأن ذلك إنما وقع منهم إما عند الارتياب كما في قصة أبي موسى فإنه أورد الخبر عند إنكار عمر عليه رجوعه بعد الثلاث وتوعده فأراد عمر الاستثبات خشية أن يكون دفع بذلك عن نفسه، وقد أوضحت ذلك بدلائله في " كتاب الاستئذان " وأما عند معارضة الدليل القطعي كما في إنكار عائشة حيث استدلت بقوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى" وهذا كله إنما يصح أن يتمسك به من يقول لا بد من اثنين عن اثنين وإلا فمن يشترط أكثر من ذلك فجميع ما ذكر قبل عائشة حجة عليه لأنهم قبلوا الخبر من اثنين فقط، ولا يصل ذلك إلى التواتر والأصل عدم وجود القرينة إذ لو كانت موجودة ما احتيج إلى الثاني، وقد قبل أبو بكر خبر عائشة في أن " النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الاثنين " وقبل عمر خبر عمرو بن حزم في أن " دية الأصابع سواء " وقبل خبر الضحاك بن سفيان في " توريث المرأة من دية زوجها " وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في " أمر الطاعون، وفي أخذ الجزية من المجوس " وقبل خبر سعد بن أبي وقاص في " المسح على الخفين " وقبل عثمان خبر الفريعة بنت سنان أخت أبي سعيد في " إقامة المعتمد عن الوفاة في بيتها " إلى غير ذلك. ومن حيث النظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لتبليغ الأحكام وصدق خبر الواحد ممكن فيجب العمل به احتياطا، وأن إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر فلا تترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة، وأن مبنى الأحكام على العمل بالشهادة وهي لا تفيد القطع بمجردها وقد رد بعض من قبل خبر الواحد ما كان منه زائدا على القرآن، وتعقب بأنهم قبلوه " في وجوب غسل المرفق في الوضوء " وهو زائد وحصول عمومه بخبر الواحد " كنصاب السرقة " ورده بعضهم بما تعم به البلوى وفسروا ذلك بما يتكرر، وتعقب بأنهم عملوا به في مثل ذلك " كإيجاب الوضوء بالقهقهة في الصلاة وبالقيء والرعاف " وكل هذا مبسوط في أصول الفقه اكتفيت هنا بالإشارة إليه. وجملة ما ذكره المصنف هنا اثنان وعشرون حديثا. حديث مالك بن الحويرث بمهملة ومثلثة مصغر ابن حشيش بمهملة ومعجمتين وزن عظيم، ويقال ابن أشيم بمعجمة وزن أحمر من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حجازي سكن البصرة ومات بها

(13/235)


سنة أربعة وسبعين بتقديم السين على الصواب. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي " وأيوب " هو السختياني والسند كله بصريون. قوله: "أتينا النبي صلى الله عليه وسلم" أي وافدين عليه سنة الوفود، وقد ذكر ابن سعد ما يدل على أن وفادة بني ليث رهط مالك بن الحويرث المذكور كانت قبل غزوة تبوك وكانت تبوك في شهر رجب سنة تسع قوله: "ونحن شببة" بمعجمة وموحدتين وفتحات جمع شاب وهو من كان دون الكهولة، وتقدم بيان أول الكهولة، في " كتاب الأحكام " وفي رواية وهيب في الصلاة " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي " والنفر عدد لا واحد له من لفظه وهو من ثلاثة إلى عشرة، ووقع في رواية في الصلاة " أنا وصاحب لي " وجمع القرطبي باحتمال تعدد الوفادة وهو ضعيف لأن مخرج الحديثين واحد والأصل عدم التعدد، والأولى في الجمع أنهم حين أذن لهم في السفر كانوا جميعا، فلعل مالكا ورفيقه عاد إلى توديعه فأعاد عليهما بعض ما أوصاهم به تأكيدا، وأفاد ذلك زيادة بيان أقل ما تنعقد به الجماعة. قوله: "متقاربون" أي في السن بل في أعم منه، فقد وقع عند أبي داود من طريق مسلمة بن محمد عن خالد الحذاء " وكنا يومئذ متقاربين في العلم " ولمسلم: "كنا متقاربين في القراءة " ومن هذه الزيادة يؤخذ الجواب عن كونه قدم الأسن، فليس المراد تقديمه على الأقرأ بل في حال الاستواء في القراءة ولم يستحضر الكرماني هذه الزيادة فقال يؤخذ استواؤهم في القراءة من القصة لأنهم أسلموا وهاجروا معا وصحبوا ولازموا عشرين ليلة فاستووا في الأخذ. وتعقب بأن ذلك لا يستلزم الاستواء في العلم للتفاوت في الفهم إذ لا تنصيص على الاستواء. قوله: "رقيقا" بقافين، وبفاء ثم قاف، ثبت ذلك عند رواة البخاري على الوجهين، وعند رواة مسلم بقافين فقط وهما متقاربان في المعنى المقصود هنا. قوله: "اشتهينا أهلنا" في رواية الكشميهني: "أهلينا " بكسر اللام وزيادة ياء وهو جمع أهل، ويجمع مكسرا على أهال بفتح الهمزة مخففا، ووقع في رواية في الصلاة " اشتقنا إلى أهلنا " بدل " اشتهينا أهلنا " وفي رواية وهيب " فلما رأى شوقنا إلى أهلنا " والمراد بأهل كل منهم زوجته أو أعم من ذلك. قوله: "سألنا" بفتح اللام أي النبي صلى الله عليه وسلم سأل المذكورين. قوله: "ارجعوا إلى أهليكم" إنما أذن لهم في الرجوع لأن الهجرة كانت قد انقطعت بفتح مكة فكانت الإقامة بالمدينة باختيار الوافد فكان منهم من يسكنها ومنهم من يرجع بعد أن يتعلم ما يحتاج إليه. قوله: "وعلموهم ومروهم" بصيغة الأمر ضد النهي، والمراد به أعم من ذلك لأن النهي عن الشيء أمر بفعل خلاف ما نهي عنه اتفاقا، وعطف الأمر على التعليم لكونه أخص منه أو هو استئناف كأن سائلا قال: ماذا نعلمهم؟ فقال مروهم بالطاعات وكذا وكذا. ووقع في رواية حماد بن زيد عن أيوب كما تقدم في أبواب الإمامة " مروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا " فعرف بذلك المأمور المبهم في رواية الباب، ولم أر في شيء من الطرق بيان الأوقات في حديث مالك بن الحويرث فكأنه ترك ذلك لشهرتها عندهم. قوله: "وذكر أشياء أحفظها ولا أحفظها" قائل هذا هو أبو قلابة راوي الخبر، ووقع في رواية أخرى " أو لا أحفظها " وهو للتنويع لا للشك. قوله: "وصلوا كما رأيتموني أصلي" أي ومن جملة الأشياء التي يحفظها أبو قلابة عن مالك قوله صلى الله عليه وسلم هذا، وقد تقدم في رواية وهيب " وصلوا " فقط ونسبت إلى الاختصار وتمام الكلام هو الذي وقع هنا، وقد تقدم أيضا تاما في رواية إسماعيل بن علية في " كتاب الأدب " قال ابن دقيق العيد استدل كثير من الفقهاء في مواضع كثيرة على الوجوب بالفعل مع هذا القول، وهو " صلوا كما رأيتموني أصلي " قال وهذا إذا أخذ مفردا عن ذكر سببه وسياقه أشعر بأنه خطاب للأمة بأن يصلوا كما كان

(13/236)


يصلي، فيقوى الاستدلال به على كل فعل ثبت أنه فعله في الصلاة، لكن هذا الخطاب إنما وقع لمالك بن الحويرث وأصحابه بأن يوقعوا الصلاة على الوجه الذي رأوه صلى الله عليه وسلم يصليه، نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة بشرط أن يثبت استمراره صلى الله عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستدل به دائما حتى يدخل تحت الأمر ويكون واجبا، وبعض ذلك مقطوع باستمراره عليه وأما ما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها، فلا نحكم بتناول الأمر له، والله أعلم. قوله: "فإذا حضرت الصلاة" أي دخل وقتها. قوله: "فليؤذن لكم أحدكم" هو موضع الترجمة وقد تقدم سائر شرحه في " أبواب الأذان " وفي " أبواب الإمامة " بعون الله تعالى. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد القطان و " التيمي " هو سليمان بن طرخان و " أبو عثمان " هو النهدي والسند كله إلى ابن مسعود بصريون، وقوله: "وليس الفجر أن يقول هكذا وجمع يحيى كفيه: "يحيى هو القطان راويه، وقد تقدم في " باب الأذان " قبل الفجر من أبواب الأذان من طريق زهير بن معاوية على سليمان، وفيه: "وليس الفجر أن تقول هكذا وقال: بإصبعيه إلى فوق " وبينت هناك أن أصل الرواية بالإشارة المقرونة بالقول، وأن الرواة عن سليمان تصرفوا في حكاية الإشارة، واستوفيت هناك الكلام على شرحه بحمد الله تعالى. وقوله فيه: "من سحوره " وقع في بعض النسخ " من سجوده " بجيم ودال وهو تحريف.حديث ابن عمر في نداء بلال بليل، وقد تقدم شرحه مستوفى في الباب المذكور أيضا. حديث عبد الله وهو ابن مسعود في صلاته صلى الله عليه وسلم بهم خمسا والحكم في السند هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس وقوله: "فقيل له أزيد في الصلاة " تقدم إن قائل ذلك جماعتهم، وإنه بعد أن سلم تسارروا فقال: "ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ " ولم أقف على تعيين المخاطب له بذلك، وقد تقدمت سائر مباحثه هناك بحمد الله تعالى. قال ابن التين: بوب لخبر الواحد وهذا الخبر ليس بظاهر فيما ترجم له لأن المخبرين له بذلك جماعة انتهى، وسيأتي جوابه في الكلام على الحديث الذي بعده. حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين في سجود السهو، ومحمد في السند هو ابن سيرين وفيه: "فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة " وفيه: "فقال أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم " وقد تقدم شرحه في أبواب سجود السهو أيضا. ووجه إيراد هذا الحديث والذي قبله في إجازة خبر الواحد التنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يقنع في الأخبار بسهوه بخبر واحد لأنه عارض فعل نفسه. فلذلك استفهم في قصة ذي اليدين، فلما أخبره الجم الغفير بصدقه رجع إليهم، وفي القصة التي قبلها أخبروه كلهم وهذا على طريقة من يرى رجوع الإمام في السهو إلى أخبار من يفيد خبره العلم عنده وهو رأي البخاري، ولذلك أورد الخبرين هنا بخلاف من يحمل الأمر على أنه تذكر فلا يتجه إيراده في هذا المحل والعلم عند الله. وقال الكرماني لم يخرج عن كونه خبر الواحد وإن كان قد صار يفيد العلم بسبب ما حفه من القرائن.وقال غيره إنما استثبت النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين لأنه انفرد دون من صلى معه بما ذكر مع كثرتهم، فاستبعد حفظه دونهم وجوز عليه الخطأ ولا يلزم من ذلك رد خبر الواحد مطلقا. حديث ابن عمر في " تحويل القبلة " وقد تقدم شرحه في أبواب استقبال القبلة في أوائل " كتاب الصلاة " والحجة منه بالعمل بخبر الواحد ظاهرة لأن الصحابة الذين كانوا يصلون إلى جهة بيت المقدس تحولوا عنه بخبر الذي قال لهم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستقبل الكعبة فصدقوا خبره وعملوا به في تحولهم عن جهة بيت المقدس، وهي شامية إلى جهة الكعبة، وهي يمانية على العكس من التي قبلها، واعترض

(13/237)


بعضهم بأن خبر المذكور أفادهم العلم بصدقه لما عندهم من قرينة ارتقاب النبي صلى الله عليه وسلم وقوع ذلك لتكرر دعائه به والبحث إنما هو في خبر الواحد إذا تجرد عن القرينة، والجواب أنه إذا سلم أنهم اعتمدوا على خبر الواحد كفى في صحة الاحتجاج به والأصل عدم القرينة، وأيضا فليس العمل بالخبر المحفوف بالقرينة متفقا عليه فيصح الاحتجاج به على من اشترط العدد وأطلق، وكذا من اشترط القطع. وقال إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن ما لم يتواتر. حديث البراء بن عازب في تحويل القبلة أيضا، وقد تقدم شرحه في " كتاب العلم " وفي أبواب استقبال القبلة أيضا وبينت هناك أن الراجح أن الذي أخبر في حديث البراء بالتحويل لم يعرف اسمه، " ويحيى " شيخ البخاري فيه هو ابن موسى البلخي، " وإسرائيل " هو ابن يونس، " وأبو إسحاق " هو السبيعي وهو جد إسرائيل المذكور. حديث أنس " كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح " الحديث، وفيه: "فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت " وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الأشربة " وأن الآتي المذكور لم يسم وأن من جملة ما ورد في بعض طرقه: "فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل " وهو حجة قوية في قبول خبر الواحد لأنهم أثبتوا به نسخ الشيء الذي كان مباحا حتى أقدموا من أجله على تحريمه والعمل بمقتضى ذلك.حديث حذيفة وأبو إسحاق في السند هو السبيعي وشيخه صلة بكسر المهملة وتخفيف اللام هو ابن زفر يكنى أبا ا لعلاء كوفي عبسي بالموحدة من رهط حذيفة. قوله: "قال لأهل نجران" تقدم بيانه في أواخر المغازي مع شرحه، وقوله: "استشرف " بمعجمة بعد مهملة أي تطلعوا إليها ورغبوا فيها بسبب الوصف المذكور. حديث أنس " لكل أمة أمين " تقدم أيضا مع الذي قبله. حديث عمر " كان رجل من الأنصار " تقدم بيان اسمه في " كتاب العلم " والقدر المذكور هنا طرف من حديث ساقه بتمامه في تفسير سورة التحريم ويستفاد منه أن عمر كان يقبل خبر الشخص الواحد، وقوله: "وإذا غبت وشهد " في رواية الكشميهني والمستملي: "وشهده " أي حضر ما يكون عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقل بعض العلماء لقبول خبر الواحد أن كل صاحب وتابع سئل عن نازله في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم، أنه لم يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به من ذلك حتى يسأل غيره، فضلا عن أن يسأل الكواف، بل كان كل منهم يخبره بما عنده فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. قوله: "وأمر عليهم رجلا" هو عبد الله بن حذافة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر " المغازي " وتقدم القول في وجوب طاعة الأمير فيما فيه طاعة، لا فيما فيه معصية في أوائل " الأحكام". وقوله فيه: "لا طاعة في المعصية " في رواية الكشميهني: "في معصية " وخفيت مطابقة هذا الحديث للترجمة على ابن التين فقال ليس فيه ما بوب له لأنهم لم يطيعوه في دخول النار. قلت: لكنهم كانوا مطيعين له في غير ذلك وبه يتم المراد. حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في " قصة العسيف " أورده من رواية: "صالح " وهو ابن كيسان ومن رواية: "شعبة " وهو ابن أبي حمزة كلاهما عن الزهري " ويعقوب بن إبراهيم " في السند الأول هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب المحاربين " وبينت فيه الذي قال: "والعسيف الأجير " وأنه مدرج في هذه الطريق قال ابن القيم في الرد على من رد خبر الواحد إذا كان زائدا على القرآن، ما ملخصه: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها أن توافقه من كل وجه فيكون من توارد الأدلة، ثانيها أن

(13/238)


تكون بيانا لما أريد بالقرآن، ثالثها أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن، وهذا ثالث يكون حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم فتجب طاعته فيه ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطاع إلا فيما وافق القرآن، لم تكن له طاعة خاصة، وقد قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقد تناقض من قال: إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن إلا إن كان متواترا أو مشهورا. فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط والشفعة والرهن في الحضر، وميراث الجدة، وتخيير الأمة إذا عتقت، ومنع الحائض من الصوم والصلاة ووجوب الكفارة على من جامع وهو صائم في رمضان، ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، وإيجاب الوتر وأن أقل الصداق عشرة دراهم، وتوريث بنت الابن السدس مع البنت، واستبراء المسببة بحيضة، وأن أعيان بني الأم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رجل السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وغيرهما مما يطول شرحه، وهذه الأحاديث كلها آحاد وبعضها ثابت وبعضها غير ثابت ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحل بسطها أصول الفقه، وبالله التوفيق.

(13/239)


2 - باب بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ طَلِيعَةً وَحْدَهُ
7561 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثَلاَثًا فَقَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْهُمْ عَنْ جَابِرٍ فَإِنَّ الْقَوْمَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ عَنْ جَابِرٍ فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ سَمِعْتُ جَابِرًا فَتَابَعَ بَيْنَ أَحَادِيثَ سَمِعْتُ جَابِرًا قُلْتُ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَقَالَ كَذَا حَفِظْتُهُ مِنْهُ كَمَا أَنَّكَ جَالِسٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَالَ سُفْيَانُ هُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَتَبَسَّمَ سُفْيَانُ
قوله: "باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير طليعة وحده" ذكر فيه حديث جابر وهو الحديث الرابع عشر من إجازة خبر الواحد؛ وقد تقدم شرحه في " كتاب الجهاد" حديث جابر وهو الحديث الرابع عشر من إجازة خبر الواحد؛ وقد تقدم شرحه في " كتاب الجهاد " وقوله: "حفظته من ابن المنكدر " يعني محمدا " وقال له أيوب " يعني السختياني " يا أبا بكر " هي كنية محمد بن المنكدر ويكنى أيضا أبا عبد الله وله أخ آخر يقال له أبو بكر بن المنكدر اسمه كنيته، وقوله: "ندب " أي دعا وطلب؛ وقوله: "انتدب " أي أجاب فأسرع، وقوله: "فتتابع " كذا لهم بمثناتين، وللكشميهني: "فتابع " بتاء واحدة، وقوله: "بين أحاديث " في رواية الكشميهني: "أربعة أحاديث". قوله: "قلت لسفيان" يعني ابن عيينة والقائل هو علي بن المديني شيخ البخاري فيه. قوله: "فإن الثوري يقول يوم قريظة" قلت لم أره عند أحد ممن أخرجه من رواية سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر بلفظ: "يوم قريظة " إلا عند ابن ماجه فإنه أخرجه عن علي بن محمد عن وكيع كذلك فلعل ابن المديني حمله عن وكيع فقال وقد أخرجه البخاري في " الجهاد " عن أبي نعيم، وفي " المغازي " عن محمد بن كثير، وأخرجه مسلم في " المناقب " وابن ماجه من طريق وكيع والترمذي من رواية أبي داود الحفري، ومسلم أيضا والنسائي من رواية أبي أسامة كلهم عن سفيان

(13/239)


الثوري بهذه القصة، فأما مسلم فلم يسق لفظه بل أحال به على رواية سفيان بن عيينة، وأما البخاري فقال في كل منهما يوم الأحزاب وكذا الباقون، ووقع في رواية هشام بن عروة عن ابن المنكدر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق " من يأتيني بخبر بني قريظة " فلعل هذا سبب الوهم ثم وجدت الإسماعيلي نبه على ذلك فقال: إنما طلب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق خبر بني قريظة ثم ساق من طريق فليح بن سليمان عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: "ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من يأتيه بخبر بني قريظة " قال فالحديث صحيح يعني تحمل رواية من قال يوم قريظة أي اليوم الذي أراد أن يعلم فيه خبرهم لا اليوم الذي غزاهم فيه وذلك مراد سفيان بقوله إنه " يوم واحد". قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة "هو يوم واحد" يعني " يوم الخندق ويوم قريظة " وهذا إنما يصح على إطلاق اليوم على الزمان الذي يقع فيه الأمر الكبير سواء قلت أيامه أو كثرت كما يقال: "يوم الفتح " ويراد به الأيام التي أقام فيها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لما فتحها وكذا وقعة الخندق دامت أياما آخرها لما انصرفت الأحزاب ورجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى منازلهم جاءه جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر فأمره بالخروج إلى بني قريظة فخرجوا وقال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ثم حاصرهم أياما حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقد تقدم جميع ذلك مبينا في " كتاب المغازي".

(13/240)


3 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} فَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ
7262 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَائِطًا وَأَمَرَنِي بِحِفْظِ الْبَابِ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ
7263 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي
قوله: باب قول الله {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} كذا للجميع. قوله: "فإذا أذن له واحد جاز" وجه الاستدلال به أنه لم يقيده بعدد فصار الواحد من جملة ما يصدق عليه وجود الإذن، وهو متفق على العمل به عند الجمهور حتى اكتفوا فيه بخبر من لم تثبت عدالته لقيام القرينة فيه بالصدق، ثم ذكر فيه حديثي حديث أبي موسى في استئذانه على النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الحائط لأبي بكر، ثم لعمر ثم لعثمان وفي كل منهما قال: "ائذن له " وهو الحديث الخامس عشر. حديث عمر في قصة المشربة، وفيه فقلت أي للغلام الأسود " قل هذا عمر بن الخطاب فأذن لي " وهو طرف من حديث طويل تقدم في تفسير سورة التحريم وهو السادس عشر، وأراد البخاري أن صيغة يؤذن لكم على البناء للمجهول تصح للواحد فما فوقه، وأن الحديث الصحيح بين الاكتفاء بالواحد على مقتضى ما تناوله لفظ الآية فيكون فيه حجة لقبول خبر الواحد، وقد تقدم شرح حديث أبي موسى في

(13/240)


" المناقب " وتقدم شرح ما يتعلق بآية الاستئذان مستوعبا في تفسير سورة الأحزاب. وقال ابن التين قوله هنا في حديث أبي موسى " وأمرني بحفظ الباب: "مغاير لقوله في الرواية الماضية " ولم يأمرني بحفظه " فأحدهما وهم. قلت: بل هما جميعا محفوظان فالنفي كان في أول ما جاء " فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الحائط فجلس أبو موسى في الباب. وقال لأكونن اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم: "فقوله: "ولم يأمرني بحفظه " كان في تلك الحالة ثم لما جاء أبو بكر واستأذن له فأمره أن يأذن له أمره حينئذ بحفظ الباب، تقريرا له على ما فعله ورضا به، إما تصريحا فيكون الأمر له بذلك حقيقة، وإما لمجرد التقرير فيكون الأمر مجازا، وعلى الاحتمالين لا وهم، وقد تقدم له توجيه آخر في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

(13/241)


4 - باب مَا كَانَ يَبْعَثُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الأُمَرَاءِ وَالرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ
7264 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ
7265 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ أَوْ فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ
قوله: "باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحدا بعد واحد" تقدم بيانه في أول هذه الأبواب مجملا وقد سبق إلى ذلك أيضا الشافعي فقال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وعلى كل سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك إلى كل ملك واحد، ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره، وكذا كان الخلفاء بعده " انتهى فإما أمراء السرايا فقد استوعبهم محمد بن سعد في " الترجمة النبوية " وعقد لهم بابا سماهم فيه على الترتيب. وأما " أمراء البلاد " التي فتحت فإنه صلى الله عليه وسلم أمر على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان عمرو بن العاص، وعلى نجران أبا سفيان بن حرب وأمر على صنعاء وسائر جبال اليمن بأذان ثم ابنه شهر وفيروز والمهاجر بن أبي أمية وأبان بن سعيد بن العاص وأمر على السواحل أبا موسى، وعلى الجند وما معها معاذ بن جبل وكان كل منهما يقضي في عمله ويسير فيه، وكانا ربما التقيا كما تقدم، وأمر أيضا عمرو بن سعيد بن العاص على وادي القرى، ويزيد بن أبي سفيان على تيماء، وثمامة بن أثال على اليمامة. فأما " أمراء السرايا والبعوث " فكانت إمرتهم تنتهي بانتهاء تلك الغزوة. وأما " أمراء القرى " فإنهم استمروا فيها " ومن أمرائه أبو بكر على الحج سنة تسع، وعلى لقسمة الغنيمة وأفراد الخمس باليمن وقراءة سورة

(13/241)


براءة على المشركين في حجة أبي بكر، وأبو عبيدة لقبض الجزية من البحرين، وعبد الله بن رواحة لخرص خيبر إلى أن استشهد في غزوة مؤتة، ومنهم عماله لقبض الزكوات، كما تقدم قريبا في قصة ابن اللتيبة. وأما " رسوله إلى الملوك " فسمى منهم دحية وعبد الله ابن حذافة وهما في هذه الترجمة. وأخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رسله إلى الملوك يعني الذين كانوا في عصره. قلت: قد استوعبهم محمد بن سعد أيضا وأفردهم بعض المتأخرين في جزء تتبعهم من " أسد الغابة " لابن الأثير ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث، الأول: قوله: "وقال ابن عباس بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي بكتابه إلى عظيم بصرى أن يدفعه إلى قيصر" هو طرف من الحديث الطويل المذكور " في بدء الوحي " وتقدم شرحه هناك وتسميته " عظيم بصرى " وكيفية إرساله الكتاب المذكور إلى هرقل وهذا التعليق ثبت في رواية الكشميهني وحده هنا. قوله: "يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "بعث بكتابه إلى كسرى فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين" كذا هنا والضمير في قوله: "فأمره " للمبعوث الذي دل عليه قوله: "بعث " وقد تقدم في أواخر المغازي، وإن الرسول عبد الله بن حذافة السهمي الذي تقدمت قصته قريبا في السرية، وقوله: "فحسبت أن ابن المسيب " القائل هو ابن شهاب كما تقدم بيانه هناك. قوله: "أن يمزقوا كل ممزق" فيه تلميح بما أخبر الله تعالى أنه فعل بأهل سبأ وأجاب الله تعالى هذه الدعوة، فسلط شيرويه على والده كسرى أبرويز الذي مزق الكتاب فقتله. وملك بعده فلم يبق إلا يسيرا حتى مات والقصة مشهورة. تنبيه: وقع للزركشي هنا خبط، فإنه قال عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى كذا وقع في الأمهات ولم يذكر فيه: "دحية " بعد قوله: "بعث " والصواب إثباته وقد ذكره في رواية الكشميهني تعليقا فقال: قال ابن عباس " بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية بكتابه إلى عظيم بصرى وأن يدفعه إلى قيصر " وهو الصواب انتهى، وكأنه توهم أن القصتين واحدة وحمله على ذلك كونهما من رواية ابن عباس؛ والحق أن المبعوث لعظيم بصرى هو دحية، والمبعوث لعظيم البحرين وإن لم يسم في هذه الرواية فقد سمي في غيرها وهو عبد الله بن حذافة، ولو لم يكن في الدليل على المغايرة بينهما إلا بعدما بين بصرى والبحرين فإن بينهما نحو شهر، وبصرى كانت في مملكة هرقل ملك الروم، والبحرين كانت في مملكة كسرى ملك الفرس، وإنما نبهت على ذلك مع وضوحه خشية أن يغتر به من ليس له اطلاع على ذلك. حديث سلمة بن الأكوع في صيام يوم عاشوراء، وقد تقدم شرحه في " كتاب الصيام " و " يحيى " المذكور في السند هو ابن سعيد القطان، " والرجل من أسلم " هو هند بن أسماء بن حارثة كما تقدم، والله أعلم.

(13/242)


5 - باب وَصَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُفُودَ الْعَرَبِ أَنْ يُبَلِّغُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ قَالَهُ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ
7266 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقْعِدُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ لِي إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ الْوَفْدُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ أَوْ الْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارَ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَسَأَلُوا عَنْ الأَشْرِبَةِ فَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ وَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ

(13/242)


إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَظُنُّ فِيهِ صِيَامُ رَمَضَانَ وَتُؤْتُوا مِنْ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ قَالَ احْفَظُوهُنَّ وَأَبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ
قوله: "باب وصاة النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب أن يبلغوا من وراءهم" الوصاة بالقصر بمعنى الوصية والواو مفتوحة ويجوز كسرها وقد تقدم بيان ذلك في أوائل " كتاب الوصايا " وذكر فيه حديثين أحدهما: قوله: "قال مالك بن الحويرث" يشير إلى حديثه المذكور قريبا أول هذه الأبواب. قوله: "وحدثني إسحاق" هو ابن راهويه كذا ثبت في رواية أبي ذر فأغنى عن تردد الكرماني هل هو إسحاق ابن منصور أو ابن إبراهيم، و " النضر " هو ابن شميل " وأبو جمرة " بالجيم. قوله: "كان ابن عباس يقعدني على سريره" قد تقدم السبب في ذلك في باب ترجمان الحاكم وإنه كان يترجم بينه وبين الناس لما يستفتونه، ووقع في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده أن النضر بن شميل وعبد الله بن إدريس قالا " حدثنا شعبة " فذكره وفيه: "يجلسني معه على السرير فأترجم بينه وبين الناس". قوله: "إن وفد عبد القيس" تقدم شرح قصتهم في " كتاب الإيمان " ثم في " كتاب الأشربة " والغرض منه قوله في آخره: "احفظوهن وأبلغوهن من وراءكم " فإن الأمر بذلك يتناول كل فرد، فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما حضهم عليه.

(13/243)


6 - باب خَبَرِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ
7267 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ هَذَا قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ سَعْدٌ فَذَهَبُوا يَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمٍ فَنَادَتْهُمْ امْرَأَةٌ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَأَمْسَكُوا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا أَوْ اطْعَمُوا فَإِنَّهُ حَلاَلٌ أَوْ قَالَ لاَ بَأْسَ بِهِ شَكَّ فِيهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي
قوله: "باب خبر المرأة الواحدة" ذكر فيه حديث ابن عمرو به وبما في البابين قبله تكمل الأحاديث اثنين وعشرين حديثا. قوله: "عن توبة" بمثناة مفتوحة وسكون الواو بعدها موحدة هو " ابن كيسان " يسمى أبا المورع بتشديد الراء والإهمال و " العنبري " بفتح المهملة والموحدة بينهما نون ساكنة نسبة إلى بني العنبر بطن شهير من بني تميم. قوله: "أرأيت حديث الحسن" أي البصري، والرؤيا هنا بصرية، والاستفهام للإنكار، كان الشعبي ينكر على من يرسل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الحامل لفاعل ذلك طلب الإكثار من التحديث عنه وإلا لكان يكتفي بما سمعه موصولا. وقال الكرماني مراد الشعبي أن الحسن مع كونه تابعيا كان يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر مع كونه صحابيا يحتاط ويقل من ذلك مهما أمكن. قلت: وكأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك. فإنه كان يحض على قلة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين أحدهما: خشية الاشتغال عن تعلم القرآن

(13/243)


وتفهم معانيه، والثاني: خشية أن يحدث عنه بما لم يقله، لأنهم لم يكونوا يكتبون فإذا طال العهد لم يؤمن النسيان وقد أخرج سعيد بن منصور بسند آخر صحيح عن الشعبي عن قرظة بن كعب عن عمر قال: "أقلوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم " وتقدم شيء مما يتعلق بهذا في " كتاب العلم " وقوله: "وقاعدت ابن عمر " الجملة حالية والمراد أنه جلس معه المدة المذكورة، وقوله: "قريبا من سنتين أو سنة ونصف " ووقع عند ابن ماجه من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: "جالست ابن عمر سنة " فيجمع بأن مدة مجالسته كانت سنة وكسرا فألغى الكسر تارة وجبره أخرى، وكان الشعبي جاور بالمدينة أو بمكة وإلا فهو كوفي، وابن عمر لم تكن له إقامة بالكوفة. قوله: "فلم أسمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا" أشار إلى الحديث الذي يريد أن يذكره وكأنه استحضره بذهنه إذ ذاك. قوله: "كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد فذهبوا يأكلون من لحم" هكذا أورد القصة مختصرة، وأوردها في الذبائح مبينة، وتقدم لفظه هناك، وعند الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة " فأتوا بلحم ضب". قوله: "فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" هي ميمونة وقد تقدم بيانه في " كتاب الأطعمة". قوله: "فإنه حلال أو قال لا بأس به شك فيه" هو قول شعبة والذي شك في أي اللفظين قال: هو توبة الراوي عن ابن عمر بين ذلك محمد بن جعفر في روايته عن شعبة، أخرجه أحمد في مسنده عنه وقد تقدم الكلام على لحم الضب في " كتاب الصيد والذبائح " مستوفى في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر في الضب لا أحله ولا أحرمه، وأنها لا تخالف قوله هنا فإنه حلال " ولكنه ليس من طعامي " أي ليس من المألوف له فلذلك ترك أكله لا لكونه حراما. خاتمة: اشتمل " كتاب الأحكام " وما بعده من التمني وإجازة خبر الواحد من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وثلاثة وستين حديثا، المعلق منها وما في حكمه سبعة وثلاثون طريقا وسائرها موصول، المكرر منه فيه وفيما مضى مائة حديث وتسعة وأربعون حديثا؛ والخالص أربعة عشر حديثا شاركه مسلم في تخريجها سوى حديث أبي هريرة " إنكم ستحرصون " وحديث أبي أيوب في البطانة، وحديث أبي هريرة فيها وحديث ابن عمر في بيعة عبد الملك وحديث عمر في بيعة أبي بكر الثانية، وحديث أبي بكر في قصة وفد بزاخة. وفي التمني سبعة وعشرون حديثا كلها مكررة منها ستة طرق معلقة وفي خبر الواحد اثنان وعشرون حديثا كلها مكررة منها طريق واحد معلق وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية وخمسون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(13/244)


كتاب الإعتصام بالسنة
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
96 - كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
7268 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ لِعُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لاَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ سَمِعَ سُفْيَانُ مِنْ مِسْعَرٍ وَمِسْعَرٌ قَيْسًا وَقَيْسٌ طَارِقًا
7269 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ
7270 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
7271 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ عَوْفًا أَنَّ أَبَا الْمِنْهَالِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَرْزَةَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ أَوْ نَعَشَكُمْ بِالإِسْلاَمِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَعَ هَاهُنَا يُغْنِيكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ نَعَشَكُمْ يُنْظَرُ فِي أَصْلِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ
7272 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ وَأُقِرُّ لَكَ بِذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، " الاعتصام " افتعال من العصمة والمراد امتثال قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} الآية. قال الكرماني هذه الترجمة منتزعة من قوله تعالى :{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} لأن المراد بالحبل: الكتاب والسنة على سبيل الاستعارة، والجامع كونهما سببا للمقصود وهو الثواب والنجاة من العذاب، كما أن الحبل سبب لحصول المقصود به من السقي وغيره. والمراد " بالكتاب " القرآن المتعبد بتلاوته و " بالسنة " ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما هم بفعله. والسنة في أصل اللغة الطريقة وفي اصطلاح الأصوليين والمحدثين ما تقدم، وفي اصطلاح بعض الفقهاء ما يرادف

(13/245)


المستحب، قال ابن بطال: لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله أو في إجماع العلماء على معنى في أحدهما، ثم تكلم على السنة باعتبار ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي بيانه بعد باب، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث. قوله: "سفيان عن مسعر وغيره" أما " سفيان " فهو ابن عيينة و " مسعر " هو ابن كدام بكسر الكاف وتخفيف الدال، و " الغير " الذي أبهم معه لم أر من صرح به إلا أنه يحتمل أن يكون سفيان الثوري، فإن أحمد أخرجه من روايته عن " قيس بن مسلم: "وهو الجدلي بفتح الجيم والمهملة كوفي يكنى أبا عمرو، كان عابدا ثقة ثبتا وقد نسب إلى الأرجاء، وفي الرواة قيس بن مسلم آخر لكنه شامي غير مشهور، روى عن عبادة بن الصامت وحديثه عنه في " كتاب خلق الأفعال " للبخاري و " طارق بن شهاب " هو الأحمسي معدود في الصحابة لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كبير لكن لم يثبت له منه سماع. قوله: "قال رجل من اليهود" تقدم الكلام عليه في " كتاب الإيمان " وفي تفسير سورة المائدة مع شرح سائر الحديث، وحاصل جواب عمر " أنا اتخذنا ذلك اليوم عيدا " على وفق ما ذكرت. قوله: "سمع سفيان مسعرا ومسعر قيسا وقيس طارقا" هو كلام البخاري يشير إلى أن العنعنة المذكورة في هذا السند محمولة عنده على السماع لاطلاعه على سماع كل منهم من شيخه، وقوله سبحانه "اليوم أكملت لكم دينكم" ظاهره يدل على أن أمور الدين كملت عند هذه المقالة وهي قبل موته صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوما فعلى هذا لم ينزل بعد ذلك من الأحكام شيء وفيه نظر، وقد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال ما يتعلق بأصول الأركان لا ما يتفرع عنها، ومن ثم لم يكن فيها متمسك لمنكري القياس، ويمكن دفع حجتهم على تقدير تسليم الأول بأن استعمال القياس في الحوادث متلقى من أمر الكتاب، ولو لم يكن إلا عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقد ورد أمره بالقياس وتقريره عليه فاندرج في عموم ما وصف بالكمال، ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال في قوله تعالى: {َأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} قال أنزل سبحانه وتعالى كثيرا من الأمور مجملا، ففسر نبيه ما احتيج إليه في وقته وما لم يقع في وقته وكل تفسيره إلى العلماء بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . قوله: "أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الغد حين بايع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه" حين يتعلق بسمع، والذي يتعلق بالغد محذوف وتقديره من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في باب الاستخلاف في أواخر " كتاب الأحكام " وسياقه هناك أتم، وزاد في هذه الرواية: "فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم " أي الذي عنده من الثواب والكرامة على الذي عندكم من النصب. حديث ابن عباس تقدم شرحه في " كتاب العلم " وبيان من رواه بلفظ التأويل ويأتي معنى التأويل في باب قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} من " كتاب التوحيد " إن شاء الله تعالى. حديث أبي برزة وهو مختصر من الحديث الطويل المذكور في أوائل " كتاب فتن " في باب " إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه " وقد تقدم شرحه مستوفى هناك، وقوله هنا " إن الله يغنيكم بالإسلام " كذا وقع بضم أوله ثم غين معجمة ساكنة ثم نون ونبه " أبو عبد الله " وهو المصنف على أن الصواب بنون ثم عين مهملة مفتوحتين ثم شين معجمة. قوله: "ينظر في أصل كتاب الاعتصام" فيه إشارة إلى أنه صنف " كتاب الاعتصام " مفردا وكتب منه هنا ما يليق بشرطه في هذا الكتاب كما صنع في " كتاب الأدب المفرد " فلما رأى هذه اللفظة مغايرة لما عنده أنه الصواب أحال على مراجعة ذلك الأصل وكأنه كان في هذه الحالة غائبا عنه فأمر بمراجعته وأن يصلح منه وقد وقع

(13/246)


له نحو هذا في تفسير {أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} ونبهت عليه في تفسير سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} ونقل ابن التين عن الداودي أن ذكر حديث أبي برزة هذا هنا إنما يستفاد منه تثبيت خبر الواحد وهو غفلة منه، فإن حكم تثبيت خبر الواحد انقضى وعقب بالاعتصام بالكتاب والسنة ومناسبة حديث أبي برزة للاعتصام بالكتاب من قوله: "إن الله نعشكم بالكتاب " ظاهرة جدا والله أعلم. حديث ابن عمر في مكاتبته لعبد الملك بالبيعة له وقد تقدم بأتم من هذا السياق مع شرحه في باب كيف يبايع الإمام من أواخر " كتاب الأحكام " ومن ثم يظهر المعطوف عليه بقوله هنا " وأقر لك " وبينت هناك أن ذلك كان بعد قتل عبد الله بن الزبير والغرض منه هنا استعمال سنة الله ورسوله في جميع الأمور
1 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ
7273 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا أَوْ تَرْغَثُونَهَا أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا
7274 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم" وذكر فيه حديثين لأبي هريرة أحدهما بلفظ الترجمة وزاد: "ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض " وتقدم تفسير جوامع الكلم في باب المفاتيح في اليد من " كتاب التعبير " وفيه تفسيرها عن الزهري وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني، وجزم غير الزهري بأن المراد " بجوامع الكلم " القرآن بقرينة قوله: "بعثت"، والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني، وتقدم شرح " نصرت بالرعب " في " كتاب التيمم". قوله: "فوضعت في يدي" أي المفاتيح وتقدم تفسير المراد بها في باب النفخ في المنام من " كتاب التعبير". قوله: "قال أبو هريرة" هو موصول بالسند المذكور أولا وقوله: "فذهب " أي مات، وقوله: "وأنتم تلغثونها أو ترغثونها أو كلمة تشبهها " فالأولى بلام ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة ثم مثلثة والثانية مثلها لكن بدل اللام راء وهي من الرغث كناية عن سعة العيش وأصله من رغث الجدي أمه إذا ارتضع منها وأرغثته هي أرضعته ومن ثم قيل رغوث وأما باللام فقيل إنها لغة فيها وقيل تصحيف وقيل مأخوذة من اللغيث بوزن عظيم وهو الطعام المخلوط بالشعير، ذكره صاحب المحكم عن ثعلب والمراد يأكلونها كيفما اتفق وفيه بعد. وقال ابن بطال: وأما اللغث باللام فلم أجده فيما تصفحت من اللغة انتهى، ووجدت في حاشية من كتابه هما لغتان صحيحتان فصيحتان معناهما الأكل بالنهم وأفاد الشيخ مغلطاي عن كتاب " المنتهى " لأبي المعالي اللغوي لغث طعامه ولغث بالغين والعين أي المعجمة والمهملة إذا فرقه، قال وألغيت ما يبقى في الكيل من

(13/247)


الحب، فعلى هذا فالمعنى وأنتم تأخذون المال فتفرقونه بعد أن تحوزوه واستعار للمال ما للطعام لأن الطعام أهم ما يقتنى لأجله المال، وزعم أن في بعض نسخ الصحيح وأنتم تلعقونها بمهملة ثم قاف. قلت: وهو تصحيف ولو كان له بعض اتجاه، والثالثة جاءت من رواية عقيل في " كتاب الجهاد " بلفظ تنتثلونها بمثناة ثم نون ساكنة ثم مثناة ولبعضهم بحذف المثناة الثانية من النثل بفتح النون وسكون المثلثة وهو الاستخراج نثل كنانته استخرج ما فيها من السهام، وجرابه نفض ما فيه والبئر أخرج ترابها فمعنى تنتثلونها تستخرجون ما فيها وتتمتعون به، قال ابن التين عن الداودي هذا المحفوظ في هذا الحديث، قال النووي: يعني ما فتح على المسلمين من الدنيا وهو يشمل الغنائم والكنوز، وعلى الأول اقتصر الأكثر ووقع عند بعض رواة مسلم بالميم بدل النون الأولى وهو تحريف. قوله: "عن سعيد" هو ابن أبي سعيد المقبري واسم أبي سعيد كيسان. قوله: "ما مثله أومن أو آمن عليه البشر" أو شك من الراوي، فالأولى بضم الهمزة وسكون الواو وكسر الميم من الأمن، والثانية بالمد وفتح الميم من الإيمان، وحكى ابن قرقول أن في رواية القابسي بفتح الهمزة وكسر الميم بغير مد من الأمان وصوبها ابن التين فلم يصب، وقوله: "وإنما كان الذي أوتيته " في رواية المستملي: "أوتيت " بحذف الهاء، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في أوائل فضائل القرآن بحمد الله تعالى، ومعنى الحصر في قوله: "إنما كان الذي أوتيته " أن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر، فلما كان لا شيء يقاربه فضلا عن أن يساويه كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع، قيل يؤخذ من إيراد البخاري هذا الحديث عقب الذي قبله أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن وليس ذلك بلازم، فإن دخول القرآن في قوله: "بعثت بجوامع الكلم " لا شك فيه وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟ وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلام في القرآن قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} وقوله: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} إلى غير ذلك ومن أمثلة جوامع الكلم من الأحاديث النبوية حديث عائشة " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وحديث: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " متفق عليهما، وحديث أبي هريرة " وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " وسيأتي شرحه قريبا، وحديث المقدام " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه " الحديث أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع، إنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تقل مخارج الحديث وتتفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث إذا كثرت قل أن تتفق ألفاظه لتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى بحسب ما يظهر لأحدهم أنه واف به، والحامل لأكثرهم على ذلك أنهم كانوا لا يكتبون ويطول الزمان فيتعلق المعنى بالذهن فيرتسم قيه ولا يستحضر اللفظ فيحدث بالمعنى لمصلحة التبليغ، ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه أنه لم يوف بالمعنى.

(13/248)


2 - باب الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ أَيِمَّةً نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلِإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ

(13/248)


7275 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قُلْتُ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ قَالَ لِمَ قُلْتُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ قَالَ هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا
7276 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَأَلْتُ الأَعْمَشَ فَقَالَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ
7277 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لاَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
7278, 7279 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ
7280 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى
7281 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ فَقَالُوا أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ

(13/249)


جَابِرٍ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7282 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا
7283 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ
7284, 7285 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ فَقَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ عَنْ اللَّيْثِ عَنَاقًا وَهُوَ أَصَحُّ
7286 - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ} فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ

(13/250)


7287 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ آيَةٌ قَالَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُسْلِمُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا عَلِمْنَا أَنَّكَ مُوقِنٌ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ
7288 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ
قوله: "باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي قبولها والعمل بما دلت عليه فأما أقواله صلى الله عليه وسلم فتشتمل على أمر ونهي وإخبار، وسيأتي حكم الأمر والنهي في باب مفرد، وأما أفعاله فتأتي أيضا في باب مفرد قريبا. قوله: "وقول الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} . قال أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا" كذا للجميع بإبهام القائل، وقد ثبت ذلك من قول مجاهد أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما من طريقه بهذا اللفظ بسند صحيح، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريقه بسند صحيح أيضا، قال يقول: اجعلنا أئمة في التقوى حتى نأتم بمن كان قبلنا ويأتم بنا من بعدنا، وللطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى " اجعلنا أئمة التقوى لأهله يقتدون بنا " لفظ الطبري. وفي رواية ابن أبي حاتم " اجعلنا أئمة هدى ليهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة " لأنه قال تعالى لأهل السعادة {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} وقال لأهل الشقاوة {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} ورجح الطبري أنهم سألوا أن يكونوا للمتقين أئمة ولم يسألوا أن يجعل المتقين لهم أئمة، ثم تكلم الطبري على إفراد " إماما " مع أن المراد جماعة بما حاصله أن الإمام اسم جنس فيتناول الواحد فما فوقه. وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن قتادة في قوله: {واجعلنا للمتقين إماما} أي قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي ليس المراد أن نؤم الناس وإنما أرادوا اجعلنا أئمة لهم في الحلال والحرام يقتدون بنا فيه، ومن طريق جعفر بن محمد معناه اجعلني رضا فإذا قلت صدقوني وقبلوا مني. "تنبيه" اقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه تبعا لمن تقدمه على عزو التفسير المذكور أولا للحسن البصري ولم أر له عنه سندا، والثاني للضحاك وقد صح عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير ونقله ابن أبي حاتم أيضا عن أبي صالح وعبد الله بن شوذب. قوله: "وقال ابن عون" هو عبد الله البصري من صغار التابعين "ثلاث احبهن لنفسي إلخ" وصله محمد بن

(13/251)


نصر المروزي في " كتاب السنة " والجوزقي من طريقه قال محمد بن نصر حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا سليم ابن أخضر سمعت ابن عون يقول: غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث " ثلاث أحبهن لنفسي " الحديث ووصله ابن القاسم اللالكائي في " كتاب السنة " من طريق القعنبي سمعت حماد بن زيد يقول قال ابن عون. قوله: "ولإخواني" في رواية حماد " ولأصحابي " قوله: "هذه السنة" أشار إلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة نوعية لا شخصية، وقوله: "أن يتعلموها ويسألوا عنها " في رواية يحيى بن يحيى هذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعه ويعمل بما فيه. قوله: "والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه" في رواية يحيى " فيتدبروه " بدل فيتفهموه وهو المراد. قوله: "ويدعوا الناس إلا من خير" كذا للأكثر بفتح الدال من يدعوا وهو من الودع بمعنى الترك، ووقع في رواية الكشميهني بسكون الدال من الدعاء، وكذا هو في نسخة الصغاني، ويؤيد الأول أن في رواية يحيى بن يحيى " ورجل أقبل على نفسه ولها عن الناس إلا من خير " لأن في ترك الشر خيرا كثيرا قال الكرماني قال: في القرآن يتفهموه وفي السنة يتعلموها لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه انتهى، ويحتمل أن يكون السبب أن القرآن قد جمع بين دفتي المصحف ولم تكن السنة يومئذ جمعت، فأراد بتعلمها جمعها ليتمكن من تفهمها، بخلاف القرآن فإنه مجموع فليبادر لتفهمه ثم ذكر فيه ثلاثة عشر حديثا: قوله: "عمرو بن عباس" بموحدة ثم مهملة هو الباهلي بصري يكنى أبا عثمان من طبقة علي ابن المديني، و " عبد الرحمن " هو ابن مهدي و " سفيان " هو الثوري و " واصل " هو ابن حبان وتقدم تصريح الثوري عنه بالتحديث في " كتاب الحج " و " أبو وائل " هو شقيق بن سلمة. قوله: "جلست إلى شيبة" هو ابن عثمان بن طلحة العبدري حاجب الكعبة وقد تقدم نسبه عند شرح حديثه في باب كسوة الكعبة من " كتاب الحج " وليس له في الصحيحين إلا هذا الحديث عند البخاري وحده، قوله: "أن لا أدع فيها" الضمير للكعبة وإن لم يجر لها ذكر لأن المراد بالمسجد في قول أبي وائل " جلست إلى شيبة في هذا المسجد " نفس الكعبة فكأنه أشار إليها فقد تقدم في رواية الحج في هذا الحديث: "على كرسي في الكعبة " أي عند بابها كما جرت به عادة الحجبة؛ قال ابن بطال: أراد عمر قسمة المال في مصالح المسلمين فلما ذكره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب. قلت: وتمامه أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم منزل منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره فيجب الاقتداء به في ذلك لعموم قوله تعالى:{واتبعوه" وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله صلى الله عليه وسلم ولا من فعله ما يعارض التقرير المذكور، ولو ظهر له لفعله لا سيما مع احتياجه للمال لقلته في مدته فيكون عمر مع وجود كثرة المال في أيامه أولى بعدم التعرض. حديث حذيفة في الأمانة تقدم شرحه في " كتاب الفتن".قوله: "حدثنا عمرو بن مرة" هو الجملي بفتح الجيم وتخفيف الميم و " مرة " شيخه هو ابن شراحيل ويقال له مرة الطيب بالتشديد وهو الهمداني بسكون الميم، وليس هو والد عمرو الراوي عنه. قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد" بفتح الهاء وسكون الدال للأكثر، وللكشميهني بضم الهاء مقصور ومعنى الأول الهيئة والطريقة والثاني ضد الضلال. قوله: "وشر الأمور محدثاتها إلخ" تقدم هذا الحديث بدون هذه الزيادة في " كتاب الأدب " وذكرت ما يدل على أن البخاري اختصره هناك ومما أنبه عليه هنا قبل شرح هذه الزيادة أن ظاهر سياق هذا الحديث أنه موقوف، لكن القدر الذي له حكم الرفع منه قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم: "فإن فيه إخبارا عن صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم وهو أحد

(13/252)


أقسام المرفوع وقل من نبه على ذلك، وهو كالمتفق عليه لتخريج المصنفين المقتصرين على الأحاديث المرفوعة الأحاديث الواردة في شمائله صلى الله عليه وسلم فإن أكثرها يتعلق بصفة خلقه وذاته كوجهه وشعره، وكذا بصفة خلقه كحلمه وصفحه، وهذا مندرج في ذلك مع أن الحديث المذكور جاء عن ابن مسعود مصرحا فيه بالرفع من وجه آخر، أخرجه أصحاب السنن لكن ليس هو على شرط البخاري، وأخرجه مسلم من حديث جابر مرفوعا أيضا بزيادة فيه، وليس هو على شرطه أيضا، وقد بينت ذلك في " كتاب الأدب " في باب الهدي الصالح، و " المحدثات " بفتح الدال جمع محدثة والمراد بها ما أحدث، وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع " بدعة " وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما، وكذا القول في المحدثة وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " كما تقدم شرحه ومضى بيان ذلك قريبا في " كتاب الأحكام " وقد وقع في حديث جابر المشار إليه " وكل بدعة ضلالة " وفي حديث العرباض بن سارية " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " وهو حديث أوله " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة " فذكره وفيه هذا أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه وابن حبان والحاكم، وهذا الحديث في المعنى قريب من حديث عائشة المشار إليه وهو من جوامع الكلم قال الشافعي " البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم " أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي، وجاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال: "المحدثات ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة " انتهى. وقسم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة وهو واضح، وثبت عن ابن مسعود أنه قال: قد أصبحتم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول، فمما حدث تدوين الحديث ثم تفسير القرآن ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة عن الرأي المحض ثم تدوين ما يتعلق بأعمال القلوب، فأما الأول فأنكره عمر وأبو موسى وطائفة ورخص فيه الأكثرون وأما الثاني فأنكره جماعة من التابعين كالشعبي، وأما الثالث فأنكره الإمام أحمد وطائفة يسيرة وكذا اشتد إنكار أحمد للذي بعده، ومما حدث أيضا تدوين القول في أصول الديانات فتصدى لها المثبتة والنفاة، فبالغ الأول حتى شبه وبالغ الثاني حتى عطل، واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء - يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية - وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق.وقد أخرج أحمد بسند جيد عن غضيف بن الحارث قال بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة،

(13/253)


وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" . انتهى وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة فما ظنك بما لا أصل له فيها، فكيف بما يشتمل على ما يخالفها. وقد مضى في " كتاب العلم " أن ابن مسعود كان يذكر الصحابة كل خميس لئلا يملوا ومضى في " كتاب الرقاق " أن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة فإن أبيت فمرتين، ونحوه وصية عائشة لعبيد بن عمير، والمراد بالقصص التذكير والموعظة، وقد كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يكن يجعله راتبا كخطبة الجمعة بل بحسب الحاجة، وأما قوله في حديث العرباض " فإن كل بدعة ضلالة " بعد قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور " فإنه يدل على أن المحدث يسمى بدعة وقوله: "كل بدعة ضلالة " قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال: "حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة " فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدي، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله: "كل بدعة ضلالة " ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام. وقوله في آخر حديث ابن مسعود "إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزتين" أراد ختم موعظته بشيء من القرآن يناسب الحال. وقال ابن عبد السلام: في أواخر " القواعد " البدعة خمسة أقسام " فالواجبة " كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك فيكون من مقدمة الواجب، وكذا شرح الغريب وتدوين أصول الفقه والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم " والمحرمة " ما رتبه من خالف السنة من القدرية والمرجئة والمشبهة " والمندوبة " كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي كالاجتماع عن التراويح وبناء المدارس والربط والكلام في التصوف المحمود وعقد مجالس المناظرة إن أريد بذلك وجه الله " والمباحة " كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، والتوسع في المستلذات من أكل وشرب وملبس ومسكن.وقد يكون بعض ذلك مكروها أو خلاف الأول والله أعلم. حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في قصة العسيف قالا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لأقضين بينكما بكتاب الله " وهذا يوهم أن الخطاب لهما وليس كذلك، وإنما هو لوالد العسيف والذي استأجره لما تحاكما بسبب زنا العسيف بامرأة الذي استأجره، والقدر المذكور هنا طرف من القصة المذكورة، واقتصر البخاري هنا عليه لدخوله في غرضه من أن السنة يطلق عليها " كتاب الله " لأنها بوحيه وتقديره، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقد تقدم تقرير ذلك مع شرح الحديث في " كتاب المحاربين " المتعلق ببيان الحدود. قوله: "فليح" بالفاء والمهملة مصغر هو ابن سليمان المدني، وشيخه " هلال بن علي " هو الذي يقال له ابن أبي ميمونة. قوله: "كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى" بفتح الموحدة أي امتنع وظاهره أن العموم مستمر لأن كلا منهم لا يمتنع من دخول الجنة ولذلك قالوا " ومن يأبى " فبين لهم أن إسناد الامتناع إليهم عن الدخول مجاز عن الامتناع عن سنته وهو عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في أول الأحكام حديث أبي هريرة أيضا مرفوعا: "من أطاعني فقد أطاع الله " وتقدم شرحه مستوفى وأخرج أحمد والحاكم من طريق صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه: "لتدخلن الجنة إلا من أبى وشرد على الله شراد البعير " وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن أبي أمامة عند الطبراني وسنده جيد، والموصوف بالإباء وهو الامتناع إن كان كافرا فهو لا يدخل الجنة أصلا وإن كان مسلما فالمراد منعه من دخولها مع أول داخل إلا من شاء

(13/254)


الله تعالى.الحديث السابع قوله: "محمد بن عبادة" بفتح المهملة وتخفيف الموحدة، واسم جده البختري بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة من فوق، ثقة واسطي يكنى أبا جعفر ما له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في " كتاب الأدب " وهو من الطبقة الرابعة من شيوخ البخاري، و " يزيد " شيخه هو ابن هارون، قوله: "حدثنا سليم بن حيان وأثنى عليه" أما سليم فبفتح المهملة وزن عظيم وأبوه بمهملة ثم تحتانية ثقيلة والقائل " وأثنى عليه " هو محمد وفاعل أثنى هو يزيد. قوله: "قال حدثنا أوسمعت" القائل ذلك سعيد بن ميناء والشاك هو سليم بن حيان، شك في أي الصيغتين قالها شيخه سعيد، ويجوز في جابر أن يقرأ بالنصب وبالرفع والنصب أولى. قوله: "جاءت ملائكة" لم أقف على أسمائهم ولا أسماء بعضهم، ولكن في رواية سعيد بن أبي هلال المعلقة عقب هذا عند الترمذي أن الذي حضر في هذه القصة جبريل وميكائيل، ولفظه: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي " فيحتمل أنه كان مع كل منهما غيره. واقتصر في هذه الرواية على من باشر الكلام منهم ابتداء وجوابا، ووقع في حديث ابن مسعود عند الترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توسد فخذه فرقد، وكان إذا نام نفخ؛ قال فبينا أنا قاعد إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم بما بهم من الجمال، فجلست طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطائفة منهم عند رجليه. قوله: "إن لصاحبكم هذا مثلا قال فاضربوا له مثلا" كذا للأكثر وسقط لفظ: "قال: "من رواية أبي ذر. قوله: "فقال بعضهم إنه نائم إلى قوله يقظان" قال الرامهرمزي هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال رجل يقظ إذا كان ذكي القلب؛ وفي حديث ابن مسعود فقالوا بينهم: ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا. وفي رواية سعيد بن أبي هلال،. فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا، فقال: "اسمع سمع أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك " ونحوه في حديث ربيعة الجرشي عند الطبراني زاد أحمد في حديث ابن مسعود فقالوا اضربوا له مثلا ونؤول أو نضرب وأولوا، وفيه ليعقل قلبك. قوله: "مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة" في حديث ابن مسعود " مثل سيد بنى قصرا " وفي رواية أحمد " بنيانا حصينا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه - أو قال - عذبه " وفي رواية أحمد " عذب عذابا شديدا " والمأدبة بسكون الهمزة وضم الدال بعدها موحدة وحكى الفتح. وقال ابن التين: عن أبي عبد الملك الضم والفتح لغتان فصيحتان. وقال الرامهرمزي نحوه في حديث: "القرآن مأدبة الله " قال: وقال لي أبو موسى الحامض من قاله بالضم أراد الوليمة، ومن قاله بالفتح أراد أدب الله الذي أدب به عباده. قلت: فعلى هذا يتعين الضم. قوله: "وبعث داعيا" في رواية سعيد " ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه". قوله: "فقال بعضهم أولوها له يفقهها" قيل يؤخذ منه حجة لأهل التعبير أن التعبير إذا وقع في المنام اعتمد عليه " قال ابن بطال: قوله: "أولوها له " يدل على أن الرؤيا على ما عبرت في النوم " انتهى. وفيه نظر لاحتمال الاختصاص بهذه القصة لكون الرائي النبي صلى الله عليه وسلم والمرئي الملائكة، فلا يطرد ذلك في حق غيرهم. قوله: "فقال بعضهم إنه نائم" هكذا وقع ثالث مرة. قوله: "فقالوا الدار الجنة" أي الممثل بها زاد في رواية سعيد بن أبي هلال " فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول الله " وفي حديث ابن مسعود عند أحمد " أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام والطعام الجنة ومحمد الداعي " فمن

(13/255)


اتبعه كان في الجنة. قوله: "فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله" أي لأنه رسول صاحب المأدبة فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة، وهو كناية عن دخول الجنة ووقع بيان ذلك في رواية سعيد ولفظه: "وأنت يا محمد رسول الله فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها " قوله: "ومحمد فرق بين الناس" كذا لأبي ذر بتشديد الراء فعلا ماضيا، ولغيره بسكون الراء والتنوين وكلاهما متجه. قال الكرماني: ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركب بالمركب، مع قطع النظر عن مطابقة المفردات من الطرفين انتهى، وقد وقع في غير هذه الطريق ما يدل على المطابقة المذكورة، زاد في حديث ابن مسعود " فلما استيقظ قال: سمعت ما قال هؤلاء، هل تدرى من هم؟. قلت: الله ورسوله أعلم، قال هم الملائكة، والمثل الذي ضربوا الرحمن بنى الجنة ودعا إليها عباده " الحديث. "تنبيه" تقدم في " كتاب المناقب " من وجه آخر عن سليم بن حيان بهذا الإسناد " قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة " الحديث، وهو حديث آخر وتمثيل آخر، فالحديث الذي في المناقب يتعلق بالنبوة وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وهذا يتعلق بالدعاء إلى الإسلام وبأحوال من أجاب أو امتنع، وقد وهم من خلطهما كأبي نعيم في " المستخرج " فإنه لما ضاق عليه مخرج حديث الباب ولم يجده مرويا عنده أورد حديث اللبنة ظنا منه أنهما حديث واحد وليس كذلك لما بينته، وسلم الإسماعيلي من ذلك فإنه لما لم يجده في مروياته أورده من روايته عن الفربري بالإجازة عن البخاري بسنده، وقد روى يزيد بن هارون بهذا السند حديث اللبنة أخرجه أبو الشيخ في " كتاب الأمثال " من طريق أحمد ابن سنان الواسطي عنه، وساق بهذا السند حديث: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا " الحديث، لكنه عن أبي هريرة لا عن جابر وقد ذكر الرامهرمزي، حديث الباب في " كتاب الأمثال " معلقا فقال: وروى يزيد ابن هارون فساق السند ولم يوصل سنده بيزيد وأورد معناه من مرسل الضحاك بن مزاحم. قوله: "تابعه قتيبة عن ليث" يعني ابن سعد "عن خالد" يعني ابن يزيد وهو أبو عبد الرحيم المصري أحد الثقات. قوله: "عن سعيد بن أبي هلال عن جابر قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث وظاهره أن بقية الحديث مثله، وقد بينت ما بينهما من الاختلاف، وقد وصله الترمذي عن قتيبة بهذا السند ووصله أيضا الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، وأبو نعيم من طريق أبي العباس السراج، كلاهما عن قتيبة ونسب السراج في روايته الليث وشيخه كما ذكرته، قال الترمذي بعد تخريجه: هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله. قلت: وفائدة إيراد البخاري له رفع التوهم عمن يظن أن طريق سعيد بن ميناء موقوفة، لأنه لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بهذه الطريق لتصريحها؛ ثم قال الترمذي وجاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصح من هذا. قال وفي الباب عن ابن مسعود، ثم ساقه بسنده إلى ابن مسعود وصححه، وقد بينت ما فيه أيضا بحمد الله تعالى. ووصف الترمذي له بأنه مرسل: يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني فإنه بنحو سياقه وسنده جيد، وسعيد بن أبي هلال غير سعيد بن ميناء الذي في السند الأول، وكل منهما مدني لكن ابن ميناء تابعي بخلاف ابن أبي هلال، والجمع بينهما إما بتعدد المرئي وهو واضح أو بأنه منام واحد حفظ فيه بعض الرواة ما لم يحفظ غيره، وتقدم طريق الجمع بين اقتصاره على جبريل وميكائيل في حديث وذكره الملائكة بصيغة الجمع في الجانبين الدال على الكثرة في آخر، وظاهر رواية سعيد بن

(13/256)


أبي هلال أن الرؤيا كانت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "خرج علينا فقال إني رأيت في المنام " وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان بعد أن خرج إلى الجن فقرأ عليهم، ثم أغفى عند الصبح فجاءوا إليه حينئذ، ويجمع بأن الرؤيا كانت على ما وصف ابن مسعود، فلما رجع إلى منزله خرج على أصحابه فقصها، وما عدا ذلك فليس بينهما منافاة إذ وصف الملائكة برجال حسان، يشير إلى أنهم تشكلوا بصورة الرجال، وقد أخرج أحمد والبزار والطبراني من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس نحو أول حديث سعيد بن أبي هلال لكن لم يسم الملكين، وساق المثل على غير سياق من تقدم قال: إن مثل هذا ومثل أمته، كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل فقال أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء، أتتبعوني؟ قالوا: نعم؛ فانطلق بهم فأوردهم، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم إن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة صدق والله لنتبعنه. وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه " وهذا إن كان محفوظا قوي الحمل على التعدد إما للمنام وإما لضرب المثل، ولكن علي بن زيد ضعيف من قبل حفظه. قال ابن العربي في حديث ابن مسعود: إن المقصود " المأدبة " وهو ما يؤكل ويشرب ففيه رد على الصوفية الذين يقولون لا مطلوب في الجنة إلا الوصال، والحق أن لا وصال لنا إلا بانقضاء الشهوات الجثمانية والنفسانية والمحسوسة والمعقولة وجماع ذلك كله في الجنة انتهى، وليس ما ادعاه من الرد بواضح، قال وفيه من أجاب الدعوة أكرم ومن لم يجبها أهين، وهو خلاف قولهم من دعوناه فلم يجبنا فله الفضل علينا فإن أجابنا فلنا الفضل عليه. فإنه مقبول في النظر، وأما حكم العبد مع المولى فهو كما تضمنه هذا الحديث. قوله: "سفيان" هو الثوري " وإبراهيم " هو النخعي " وهمام " هو ابن الحارث، ورجال السند كلهم كوفيون. قوله: "يا معشر القراء" بضم القاف وتشديد الراء مهموز جمع قارئ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العباد، وسيأتي إيضاحه في الحديث الحادي عشر. قوله: "استقيموا" أي اسلكوا طريق الاستقامة وهي كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلا وتركا، وقوله فيه: "سبقتم " هو بفتح أوله كما جزم به ابن التين وحكى غيره ضمه، والأول المعتمد زاد محمد بن يحيى الذهلي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه: "فإن استقمتم فقد سبقتم " أخرجه أبو نعيم في المستخرج وقوله: "سبقا بعيدا " أي ظاهرا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما. قوله: "فإن أخذتم يمينا وشمالا" أي خالفتم الأمر المذكور، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على الاستقامة فاستشهدوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو عاشوا بعده على طريقته فاستشهدوا أو ماتوا على فرشهم. حديث أبي موسى في " النذير العريان " وقد تقدم شرحه مستوفى في باب الانتهاء عن المعاصي من " كتاب الرقاق " و " بريد " بموحدة وراء مصغر هو ابن عبد الله بن أبي بردة و " أبو بردة " شيخه هو جده وهو ابن أبي موسى الأشعري. حديث أبي هريرة في قصة أبي بكر في قتال أهل الردة وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا. قوله: "في آخره قال ابن بكير" يعني يحيى بن عبد الله بن بكير

(13/257)


المصري "وعبد الله" يعني كاتب الليث وهو أبو صالح إلخ، ومراده أن قتيبة حدثه عن الليث بالسند المذكور فيه بلفظ: "لو منعوني كذا " ووقع هنا في رواية الكشميهني: "كذا وكذا " وحدثه به يحيى وعبد الله عن الليث بالسند المذكور بلفظ: "عناقا " وقوله: "وهو أصح " أي من رواية من روى " عقالا " كما تقدمت الإشارة إليه في " كتاب الزكاة " أو أبهمه كالذي وقع هنا. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي واسم " أبي أويس " عبد الله المدني الأصبحي، و " ابن وهب " هو عبد الله المصري و " يونس " هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "قدم عيينة" بتحتانية ونون مصغرا "ابن حصن" بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين ثم نون "ابن حذيفة بن بدر" يعني الفزاري معدود في الصحابة، وكان في الجاهلية موصوفا بالشجاعة والجهل والجفاء، وله ذكر في " المغازي " ثم أسلم في الفتح وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا فأعطاه مع المؤلفة وإياه عنى العباس بن مرداس السلمي بقوله:
أتجعل نهبي ونهب العبـ ... ـيد بين عيينة والأقرع
وله ذكر مع الأقرع بن حابس سيأتي قريبا في " باب ما يكره من التعمق " وله قصة مع أبي بكر وعمر حين سأل أبا بكر أن يعطيه أرضا يقطعه إياها فمنعه عمر، وقد ذكره البخاري في " التاريخ الصغير " وسماه النبي صلى الله عليه وسلم: "الأحمق المطاع " وكان عيينة ممن وافق طليحة الأسدي لما ادعى النبوة، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردة فر طليحة وأسر عيينة، فأتى به أبو بكر فاستتابه فتاب، وكان قدومه إلى المدينة على عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح، وفيه من جفاء الأعراب شيء. قوله: "على ابن أخيه الحر" بلفظ ضد العبد، و " قيس " والد الحر لم أر له ذكرا في الصحابة، وكأنه مات في الجاهلية، والحر ذكره في الصحابة أبو علي بن السكن وابن شاهين، وفي العتبية عن مالك قدم عيينة ابن حصن المدينة، فنزل على ابن أخ له أعمى فبات يصلي فلما أصبح غدا إلى المسجد فقال عيينة كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا يطيعني، فما أسرع ما أطاع قريشا، وفي هذا إشعار بأن أباه مات في الجاهلية. قوله: "وكان من النفر الذين يدنيهم عمر" بين بعد ذلك السبب ب قوله: "وكان القراء" أي العلماء العباد "أصحاب مجلس عمر" فدل على أن الحر كان متصفا بذلك، وتقدم في آخر سورة الأعراف ضبط قوله: "أو شبانا " وأنه بالوجهين، وقوله: "ومشاورته " بالشين المعجمة وبفتح الواو ويجوز كسرها. قوله: "هل لك وجه عند هذا الأمير" هذا من جملة جفاء عيينة إذ كان من حقه أن ينعته بأمير المؤمنين ولكنه لا يعرف منازل الأكابر. قوله: "فتستأذن لي عليه" أي في خلوة، وإلا فعمر كان لا يحتجب إلا وقت خلوته وراحته، ومن ثم قال له سأستأذن لك عليه، أي حتى تجتمع به وحدك. قوله: "قال ابن عباس فاستأذن لعيينة" أي الحر، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فلما دخل قال يا ابن الخطاب" في رواية شعيب عن الزهري الماضية في آخر تفسير الأعراف، فقال: هي بكسر ثم سكون وفي بعضها " هيه " بكسر الهاءين بينهما تحتانية ساكنة، قال النووي بعد أن ضبطها هكذا هي كلمة تقال في الاستزادة ويقال بالهمزة بدل الهاء الأولى، وسبق إلى ذلك قاسم بن ثابت في " الدلائل " كما نقله صاحب المشارق فقال في قول ابن الزبير أيها قوله: "إيه " بهمز مكسور مع التنوين كلمة استزادة من حديث لا يعرف، وتقول " إيها عنا " بالنصب أي كف، قال وقال يعقوب يعني ابن السكيت تقول لمن استزدته، من عمل أو حديث: "إيه " فإن وصلت نونت فقلت " إيه حدثنا " وحكاه كذا في النهاية وزاد فإذا قلت " إيها " بالنصب

(13/258)


فهو أمر بالسكوت. وقال الليث قد تكون كلمة استزادة وقد تكون كلمة زجر كما قال: إيه عنا أي كف. وقال الكرماني: هيه هنا بكسر الهاء الأولى، وفي بعض النسخ بهمزة بدلها وهو من أسماء الأفعال، تقال لمن تستزيده، كذا قال ولم يضبط الهاء الثانية، ثم قال وفي بعض النسخ هي بحذف الهاء الثانية والمعنى واحد، أو هو ضمير لمحذوف أي هي داهية أو القصة هذه انتهى، واقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه على قوله: "هي يا ابن الخطاب " بمعنى التهديد له ووقع في تنقيح الزركشي فقال: "هئ يا ابن الخطاب " بكسر الهاء وآخره همزة مفتوحة، تقول للرجل إذا استزدته " هيه وإيه " انتهى، وقوله وآخره همزة مفتوحة لا وجه له ولعله من الناسخ أو سقط من كلامه شيء، والذي يقتضيه السياق أنه أراد بهذه الكلمة الزجر وطلب الكف لا الازدياد، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الكلمة في مناقب عمر وقوله: "يا ابن الخطاب " هذا أيضا من جفائه حيث خاطبه بهذه المخاطبة وقوله: "والله ما تعطينا الجزل " بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام أي الكثير، وأصل الجزل ما عظم من الحطب. قوله: "ولا تحكم" في رواية غير الكشميهني: "وما " بالميم بدل اللام. قوله: "حتى هم بأن يقع به" أي يضربه. وفي رواية شعيب عن الزهري في التفسير " حتى هم به " وفي رواية فيه: "حتى هم أن يوقع به". قوله: "فقال الحر يا أمير المؤمنين" في رواية شعيب المذكورة " فقال له الحر " وفي رواية الإسماعيلي من طريق بشر بن شعيب عن أبيه عن الزهري " فقال الحر بن قيس. قلت: يا أمير المؤمنين " وهذا يقتضي أن يكون من رواية ابن عباس عن الحر، وأنه ما حضر القصة بل حملها عن صاحبها وهو الحر، وعلى هذا فينبغي أن يترجم للحر في رجال البخاري ولم أر من فعله. قوله: "إن الله قال لنبيه" فذكر الآية ثم قال: وإن هذا من الجاهلين، أي فأعرض عنه. قوله: "فوالله ما جاوزها" هو كلام ابن عباس فيما أظن وجزم شيخنا ابن الملقن بأنه كلام الحر وهو محتمل ويؤيده رواية الإسماعيلي المشار إليها، ومعنى " ما جاوزها " ما عمل بغير ما دلت عليه بل عمل بمقتضاها ولذلك قال: "وكان وقافا عند كتاب الله " أي يعمل بما فيه ولا يتجاوزه، وفي هذا تقوية لما ذهب إليه الأكثر أن هذه الآية محكمة، قال الطبري بعد أن أورد أقوال السلف في ذلك وأن منهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية القتال، والأولى بالصواب أنها غير منسوخة لأن الله أتبع ذلك تعليمه نبيه محاجة المشركين ولا دلالة على النسخ، فكأنها نزلت لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من لم يؤمر بقتاله من المشركين أو أريد به تعليم المسلمين، وأمرهم بأخذ العفو من أخلاقهم فيكون تعليما من الله لخلقه صفة عشرة بعضهم بعضا فيما ليس بواجب، فأما الواجب فلا بد من عمله فعلا أو تركا انتهى ملخصا. وقال الراغب " خذ العفو " معناه خذ ما سهل تناوله، وقيل تعاط العفو مع الناس، والمعنى خذ ما عفي لك من أفعال الناس وأخلاقهم وسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا، وهو كحديث: "يسروا ولا تعسروا " ومنه قول الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سوأتي حين أغضب
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر وأحمد من حديث عقبة بن عامر لما نزلت هذه الآية " سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك، فذكره قال الطيبي: ما ملخصه أمر الله نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر أمته بنحو ما أمره الله به، ومحصلهما الأمر بحسن المعاشرة مع الناس وبذل الجهد

(13/259)


في الإحسان إليهم والمداراة معهم والإغضاء عنهم وبالله التوفيق. وقد تقدم الكلام على معنى العرف المأمور به في الآية مستوفى في التفسير. قوله: "حين خسفت الشمس" في رواية المستملي: "كسفت " وقوله: "فأجبناه " في رواية الكشميهني: "فأجبنا وآمنا " أي فأجبنا محمدا وآمنا بما جاء به، وقد تقدم شرح حديث أسماء بنت أبي بكر هذا مستوفى في صلاة الكسوف. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما جزم به الحافظ أبو إسماعيل الهروي، وذكر في كتابه ذم الكلام أنه تفرد به عن مالك، وتابعه على روايته عن مالك عبد الله بن وهب كذا قال، وقد ذكر الدار قطني معهما إسحاق بن محمد الفروي وعبد العزيز الأويسي وهما من شيوخ البخاري، وأخرجه في غرائب مالك التي ليست في الموطأ من طرق هؤلاء الأربعة ومن طريق أبي قرة موسى بن طارق، ومن طريق الوليد ابن مسلم، ومن طريق محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، ثلاثتهم عن مالك أيضا فكملوا سبعة، ولم يخرج البخاري هذا الحديث إلا في هذا الموضع من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم من رواية المغيرة بن عبد الرحمن، وسفيان وأبو عوانة من رواية ورقاء ثلاثتهم عن أبي الزناد ومسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي مسلمة بن عبد الرحمن، ومن رواية همام بن منبه، ومن رواية أبي صالح، ومن رواية محمد بن زياد، وأخرجه الترمذي من رواية أبي صالح كلهم عن أبي هريرة وسأذكر ما في روايتهم من فائدة زائدة. قوله: "دعوني" في رواية مسلم: "ذروني " وهي بمعنى دعوني وذكر مسلم سبب هذا الحديث من رواية محمد ابن زياد فقال عن أبي هريرة " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال ذروني ما تركتكم " الحديث وأخرجه الدار قطني مختصرا وزاد فيه فنزلت: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وله شاهد عن ابن عباس عند الطبري في التفسير، وفيه: "لو قلت نعم، لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم " الحديث وفيه فأنزل الله { أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} الآية وسيأتي بسط القول فيما يتعلق بالسؤال في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "ما تركتكم" أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء، وإنما غاير بين اللفظين لأنهم أماتوا الفعل الماضي واسم الفاعل منهما واسم مفعولهما وأثبتوا الفعل المضارع وهو " يذر " وفعل الأمر وهو " ذر " ومثله دع ويدع ولكن سمع ودع كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قرأ بذلك إبراهيم ابن أبي عبلة وطائفة. وقال الشاعر:
ونحن ودعنا آل عمرو بن عامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر
ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة، وإلا لقال اتركوني، والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبا من التعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل، فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة، قال ابن فرج معنى قوله: "ذروني ما تركتكم " لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله: "حجوا " وإن كان صالحا للتكرار فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة، ولا تكثروا التنقيب عن ذلك لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل، إذ أمروا أن يذبحوا البقرة فلو ذبحوا أي بقرة كانت لامتثلوا

(13/260)


ولكنهم شددوا فشدد عليهم، وبهذا تظهر مناسبة قوله: "فإنما هلك من كان قبلكم " إلى آخره بقوله: "ذروني ما تركتكم " وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق أبي رافع عن أبي هريرة مرفوعا: "لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم " وفي السند عباد ابن منصور وحديثه من قبيل الحسن وأورده الطبري عن ابن عباس موقوفا وعن أبي العالية مقطوعا، واستدل به على أن لا حكم قبل ورود الشرع وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب. قوله: "فإنما أهلك" بفتحات وقال بعد ذلك سؤالهم بالرفع على أنه فاعل أهلك. وفي رواية غير الكشميهني: "أهلك " بضم أوله وكسر اللام وقال بعد ذلك " بسؤالهم " أي بسبب سؤالهم، وقوله: "واختلافهم " بالرفع وبالجر على الوجهين، ووقع في رواية همام عند أحمد بلفظ: "فإنما هلك " وفيه بسؤالهم ويتعين الجر في " واختلافهم " وفي رواية الزهري " فإنما هلك " وفيه: "سؤالهم " ويتعين الرفع في " واختلافهم " وأما قول النووي في " أربعينه " واختلافهم برفع الفاء لا بكسرها فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها وهي التي من طريق الزهري. قوله: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" في رواية محمد بن زياد " فانتهوا عنه " هكذا رأيت هذا الأمر على تلك المقدمة والمناسبة فيه ظاهرة، ووقع في أول رواية الزهري المشار إليها " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فاقتصر عليها النووي في الأربعين، وعزا الحديث للبخاري ومسلم، فتشاغل بعض شراح الأربعين بمناسبة تقديم النهي على ما عداه ولم يعلم أن ذلك من تصرف الرواة، وأن اللفظ الذي أورده البخاري هنا أرجح من حيث الصناعة الحديثية لأنهما اتفقا على إخراج طريق أبي الزناد دون طريق الزهري وإن كان سند الزهري مما عد في أصح الأسانيد، فإن سند أبي الزناد أيضا مما عد فيها فاستويا، وزادت رواية أبي الزناد اتفاق الشيخين، وظن القاضي تاج الدين في شرح المختصر أن الشيخين اتفقا على هذا اللفظ، فقال: بعد قول ابن الحاجب الندب أي احتج من قال إن الأمر للندب بقوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فقال الشارح: رواه البخاري ومسلم ولفظهما " وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم " وهذا إنما هو لفظ مسلم وحده ولكنه اغتر بما ساقه النووي في الأربعين، ثم إن هذا النهي عام في جميع المناهي، ويستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله كشرب الخمر وهذا على رأي الجمهور، وخالف قوم فتمسكوا بالعموم فقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، والصحيح عدم المؤاخذة إذا وجدت صورة الإكراه المعتبرة، واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال: لا يتصور الإكراه عليه وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن يتعظ الرجل بغير سبب فيكره على الإيلاج حينئذ فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا لكان زانيا فتصور الإكراه على الزنا، واستدل به من قال لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش به، ولا إساغة لقمة من غص به؛ والصحيح عند الشافعية جواز الثالث حفظا للنفس فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم عن وائل رفعه أنه ليس بدواء ولكنه داء، ولأبي داود عن أبي الدرداء رفعه: "ولا تداووا بحرام " وله عنه أم سلمة مرفوعا إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، وأما العطش فإنه لا ينقطع بشربها ولأنه في معنى التداوي والله أعلم، والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي كأكل الميتة للمضطر. وقال الفاكهاني لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لم يعد ممتثلا بخلاف الأمر - يعني المطلق - فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان ممتثلا انتهى ملخصا. وقد أجاب هنا

(13/261)


ابن فرج بأن النهي يقتضي الأمر فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدا من آحاد ما يتناوله النهي بخلاف الأمر فإنه على عكسه ومن ثم نشأ الخلاف، هل الأمر بالشيء نهي عن ضده، وبأن النهي عن الشيء أمر بضده. قوله: "وإذا أمرتكم بشيء" في رواية مسلم: "بأمر"، "فأتوا منه ما استطعتم" أي افعلوا قدر استطاعتكم، ووقع في رواية الزهري " وما أمرتكم به " وفي رواية همام المشار إليها " وإذا أمرتكم بالأمر فائتمروا ما استطعتم " وفي رواية محمد بن زياد " فافعلوا " قال النووي هذا من جوامع الكلم وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها. وقال غيره فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود، إذ لا يتصور منهما العود عادة فلا معنى للعزم على عدمه، واستدل به على أن من أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن " ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه " ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد، واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد فإن قيل إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به؛ بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي، وعبر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهي عنه قد تتخلف، واستدل له بجواز أكل المضطر الميتة، وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة. وقال ابن فرج في " شرح الأربعين " قوله: "فاجتنبوه " هو على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان كما نطق به القرآن انتهى. والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه؛ وأباح ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه، وادعى بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نسخ بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} والصحيح أن

(13/262)


لا نسخ بل المراد بحق تقاته امتثال أمره واجتناب نهيه مع القدرة لا مع العجز، واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه فشمل الواجب والمندوب، وأجيب بأن قوله: "فاجتنبوه " يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر وهو الأمر. وقال الفاكهاني النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه، وأجيب بأن من قال المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب وإنما أراد بالمعنى الأعم وهو الإذن، واستدل به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه، وقيل يقتضيه وقيل يتوقف فيما زاد على مرة؛ وحديث الباب قد يتمسك به لذلك لما في سببه أن السائل قال في الحج أكل عام؟ فلو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يحسن السؤال ولا العناية بالجواب، وقد يقال إنما سأل استظهارا واحتياطا. وقال المازري يحتمل أن يقال إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة لا من صيغة الأمر، وقد تمسك به من قال بإيجاب العمرة لأن الأمر بالحج إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب إلا مرة فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة، واستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام لقوله: "ولو قلت نعم لوجبت " وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال، واستدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة حتى يثبت المنع من قبل الشارع، واستدل به على النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك، قال البغوي في " شرح السنة " المسائل على وجهين أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما: ما كان على وجه التعنت والتكلف وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم، ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات " قال الأوزاعي هي شداد المسائل. وقال الأوزاعي أيضا: "إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما " وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول: "المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل " وقال ابن العربي " كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع " قال: "وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم " انتهى ملخصا. وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أعم منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان. وفي الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلا عما لا يحتاج إليه في الحال فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع. فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به. ثم يتشاغل بالعمل به فإن كان من العلميات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلا وتركا، فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمة مصروفة عند سماع

(13/263)


الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال. وسيأتي بسط ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.

(13/264)


3 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لاَ يَعْنِيهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى { لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
7290 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ
7291 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ مَا زَالَ بِكُمْ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ
7291 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ سَلُونِي فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
7292 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ
7293 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ:

(13/264)


نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ
7294 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا قَالَ أَنَسٌ فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَالَ أَنَسٌ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ النَّارُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ قَالَ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ
7295 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ فُلاَنٌ وَنَزَلَتْ {َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الْآيَةَ
7296 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللَّه؟
7297 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يُسْمِعُكُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ الرُّوحِ فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ ثُمَّ قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}
قوله: "باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} كأنه يريد أن يستدل بالآية على المدعي من الكراهة وهو مصير منه إلى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها، وقد

(13/265)


ذكرت الاختلاف في سبب نزولها في تفسير سورة المائدة، وترجيح ابن المنير أنه في كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن، وصنيع البخاري يقتضيه، والأحاديث التي ساقها في الباب تؤيده، وقد اشتد إنكار جماعة من الفقهاء ذلك، منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال: اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المسألة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك، انتهى. وهو كما قال لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي؛ ويؤيده حديث سعد الذي صدر به المصنف الباب: "من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته، فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه " ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال: سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا " ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وأخرج الدار قطني من حديث أبي ثعلبة رفعه: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في " كتاب العلم " من طريق ثابت عن أنس قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فذكر الحديث ومضى في قصة اللعان من حديث ابن عمر " فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها " ولمسلم عن النواس بن سمعان قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: "ومراده أنه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم. وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: لما نزلت: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا فرشوناه بردا وقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأبي يعلى عن البراء إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب - أي قدومهم - ليسألوا فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها، وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببا للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب، وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل مسنده لذلك بابا، وأورد فيه عن الجماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك، منها عن ابن عمر " لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن " وعن عمر " أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا " وعن زيد ابن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا فإن قيل لا، قال: دعوه حتى يكون، وعن أبي ابن كعب وعن عمار نحو ذلك. وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعا، ومن

(13/266)


طريق طاوس عن معاذ رفعه: "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل " وهما مرسلان يقوي بعض بعضا، ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا: "لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل " الحديث نحوه قال بعض الأئمة والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين، أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين، ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: "هلك المتنطعون " أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشد من ذلك في كثرة السؤال، البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف. والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، وسيأتي مثال ذلك في حديث أبي هريرة رفعه: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله " وهو ثامن أحاديث هذا الباب. وقال بعض الشراح: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع، بعد أن يفتى بالإذن أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز فإن عاد فقال أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز، وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة منها فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كل شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي " فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم، وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في أيهما أولى، والإنصاف أن يقال كلما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين فالناس فيه على قسمين من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع

(13/267)


المتعدي، ومن وجد في نفسه قصورا فإقباله على العبادة أولى لعسر اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه به عن الثاني والله الموفق. ثم المذكور في الباب تسعة أحاديث: بعضها يتعلق بكثرة المسائل، وبعضها يتعلق بتكليف ما لا يعني السائل، وبعضها بسبب نزول الآية. قوله: "حدثنا سعيد" هو ابن أبي أيوب كذا وقع من وجهين آخرين عند الإسماعيلي، و " أبي نعيم " وهو الخزاعي المصري يكنى أبا يحيى، واسم أبي أيوب مقلاص بكسر الميم وسكون القاف وآخره مهملة كان سعيد ثقة ثبتا. وقال ابن يونس كان فقيها، ونقل عن ابن وهب أنه قال فيه كان فهما. قلت: وروايته عن عقيل وهو ابن خالد تدخل في رواية الأقران فإنه من طبقته، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية معمر ويونس وابن عيينة وإبراهيم بن سعد كلهم عن ابن شهاب، وساقه على لفظ إبراهيم بن سعد ثم ابن عيينة. قوله: "عن أبيه" في رواية يونس أنه سمع سعدا. قوله: "إن أعظم المسلمين جرما" زاد في رواية مسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما " قال الطيبي فيه من المبالغة أنه جعله عظيما ثم فسره بقوله: "جرما " ليدل على أنه نفسه جرم، قال وقوله: "في المسلمين " أي في حقهم. قوله: "عن شيء" في رواية سفيان " أمر". قوله: "لم يحرم" زاد مسلم على الناس وله في رواية إبراهيم بن سعد، لم يحرم على المسلمين، وله في رواية معمر " رجل سأل عن شيء ونقر عنه " وهو بفتح النون وتشديد القاف بعدها راء أي بالغ في البحث عنه والاستقصاء. قوله: "فحرم" بضم أوله وتشديد الراء، وزاد مسلم: "عليهم " وله من رواية سفيان " على الناس " وأخرج البزار من وجه آخر عن سعد بن أبي وقاص، قال: كان الناس يتساءلون عن الشيء من الأمر فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال فلا يزالون يسألونه عنه حتى يحرم عليهم، قال ابن بطال: عن المهلب ظاهر الحديث يتمسك به القدرية في أن الله يفعل شيئا من أجل شيء وليس كذلك، بل هو على كل شيء قدير؛ فهو فاعل السبب والمسبب كل ذلك بتقديره، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر، فعظم جرم من فعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله وقال غيره أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون المقدر الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه فقد سبق القضاء بذلك لا أن السؤال علة للتحريم. وقال ابن التين: قيل الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرة لسؤاله وهي منعهم التصرف فيما كان حلالا قبل مسألته. وقال عياض المراد بالجرم هنا الحدث على المسلمين لا الذي هو بمعنى الإثم المعاقب عليه، لأن السؤال كان مباحا، ولهذا قال: سلوني، وتعقبه النووي فقال هذا الجواب ضعيف بل باطل، والصواب الذي قاله الخطابي والتيمي وغيرهما أن المراد بالجرم الإثم والذنب وحملوه على من سأل تكلفا وتعنتا فيما لا حاجة له به إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال عما يحتاج إليه لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فمن سأل عن نازلة وقعت له لضرورته إليها فهو معذور فلا إثم عليه ولا عتب، فكل من الأمر بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى، قال: ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما، وسبك منه الكرماني سؤالا وجوابا، فقال: السؤال ليس بجريمة، ولئن كانت فليس بكبيرة، ولئن كانت فليس بأكبر الكبائر. وجوابه أن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببا لتحريم شيء مباح هو أعظم الجرم، لأنه صار سببا لتضييق الأمر على جميع المكلفين، فالقتل مثلا كبيرة، ولكن مضرته راجعة إلى المقتول وحده، أو إلى من هو منه بسبيل، بخلاف صورة المسألة

(13/268)


فضررها عام للجميع، وتلقى هذا الأخير من الطيبي استدلالا وتمثيلا، وينبغي أن يضاف إليه أن السؤال المذكور إنما صار كذلك بعد ثبوت النهي عنه. فالإقدام عليه حرام فيترتب عليه الإثم ويتعدى ضرره بعظم الإثم والله أعلم. ويؤيد ما ذهب إليه الجماعة من تأويل الحديث المذكور ما أخرجه الطبري من طريق محمد بن زياد " عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الحج أفي كل عام؟ لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم " وله من طريق أبي عياض عن أبي هريرة " ولو تركتموه لكفرتم " وبسند حسن عن أبي أمامة مثله، وأصله في مسلم عن أبي هريرة بدون الزيادة، وإطلاق الكفر إما على من جحد الوجوب فهو على ظاهره، وإما على من ترك مع الإقرار فهو على سبيل الزجر والتغليظ، ويستفاد منه عظم الذنب بحيث يجوز وصف من كان السبب في وقوعه بأنه وقع في أعظم الذنوب، كما تقدم تقريره والله أعلم. وفي الحديث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور لقوله حدثنا عفان؛ وإسحاق بن راهويه إنما يقول: "أنا " ولأن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي خيثمة عن عفان، ولو كان في مسند إسحاق لما عدل عنه. قوله: "اتخذ حجرة" بالراء للأكثر وللمستملي بالزاي وهما بمعنى. قوله: "من صنيعكم" في رواية السرخسي " صنعكم " بضم أوله وسكون النون وهما بمعنى، وقد تقدم بعض من شرح هذا الحديث في الباب الذي قبل باب إيجاب التكبير، فذكر " أبواب صفة الصلاة " وساقه هناك عن عبد الأعلى عن وهيب، وتقدمت سائر فوائده في شرح حديث عائشة في معناه في " باب ترك قيام الليل " من أبواب التهجد ولله الحمد، والذي يتعلق بهذه الترجمة من هذا الحديث ما يفهم من إنكاره صلى الله عليه وسلم ما صنعوا من تكلف ما لم يأذن لهم فيه من التجميع في المسجد في صلاة الليل. حديث أبي موسى قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها فلما أكثروا عليه المسألة غضب " عرف من هذه الأسئلة ما تقدم في تفسير المائدة في بيان المسائل المرادة بقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} ومنها سؤال من سأل " أين ناقتي " وسؤال من سأل عن البحيرة والسائبة، وسؤال من سأل عن وقت الساعة وسؤال من سأل عن الحج أيجب كل عام وسؤال من سأل أن يحول الصفا ذهبا وقد وقع في حديث أنس من رواية هشام وغيره عن قتادة عنه في الدعوات وفي الفتن: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ومعنى أحفوه وهو بالمهملة والفاء: أكثروا عليه حتى جعلوه كالحافي، يقال أحفاه في السؤال إذا ألح عليه. قوله: "وقال سلوني" في حديث أنس المذكور فصعد المنبر فقال: "لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم " وفي رواية سعيد بن بشير عن قتادة عند أبي حاتم، فخرج ذات يوم حتى صعد المنبر " وبين في رواية الزهري المذكورة في هذا الباب وقت وقوع ذلك وأنه بعد أن صلى الظهر، ولفظه: "خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة ثم قال من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فذكر نحوه". قوله: "فقام رجل فقال: يا رسول الله من أبي" بين في حديث أنس من رواية الزهري اسمه. وفي رواية قتادة سبب سؤاله، قال: فقام رجل كان إذا لاحى - أي خاصم - دعي إلى غير أبيه، وذكرت اسم السائل الثاني، وأنه سعد وإني نقلته من ترجمة سهيل بن أبي صالح من تمهيد ابن عبد البر وزاد في رواية الزهري الآتية بعد حديثين، فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال النار، ولم أقف على اسم هذا الرجل في شيء من الطرق، كأنهم أبهموه عمدا للستر عليه وللطبراني من حديث أبي فراس الأسلمي نحوه وزاد: "وسأله رجل في الجنة أنا؟ قال في الجنة " ولم أقف على اسم هذا الآخر، ونقل ابن

(13/269)


عبد البر عن رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته، ولو سألني عن أبيه، فقام عبد الله بن حذافة وذكر فيه عتاب أمه له وجوابه. وذكر فيه: "فقام رحل فسأل عن الحج " فذكره وفيه فقام سعد مولى شيبة فقال: من أنا يا رسول الله؟ قال أنت سعد بن سالم مولى شيبة، وفيه فقام رجل من بني أسد فقال: أين أنا؟ قال في النار. فذكر قصة عمر قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال " وبهذه الزيادة يتضح أن هذه القصة سبب نزول {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة، بخلافها في حق عبد الله بن حذافة فإنها بطريق الجواز، أي لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه فبين أباه الحقيقي لافتضحت أمه، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال كما تقدم في " كتاب الفتن". قوله: "فلما رأى عمر ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب" بين في حديث أنس أن الصحابة كلهم فهموا ذلك، ففي رواية هشام " فإذا كل رجل لافا رأسه في ثوبه يبكي " وزاد في رواية سعيد ابن بشير " وظنوا أن ذلك بين يدي أمر قد حضر " وفي رواية موسى بن أنس عن أنس الماضية في تفسير المائدة " فغضوا رءوسهم لهم حنين " زاد مسلم من هذا الوجه " فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان أشد منه". قوله: "فقال: إنا نتوب إلى الله عز وجل" زاد في رواية الزهري " فبرك عمر على ركبته فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا " وفي رواية قتادة من الزيادة " نعوذ بالله من شر الفتن " وفي مرسل السدي عند الطبري في نحو هذه القصة " فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: رضينا بالله ربا". فذكر مثله وزاد: "وبالقرآن إماما، فاعف عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي " وفي هذا الحديث غير ما يتعلق بالترجمة، مراقبة الصحابة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وشدة إشفاقهم إذا غضب، خشية أن يكون لأمر يعم فيعمهم، وإدلال عمر عليه، وجواز تقبيل رجل الرجل، وجواز الغضب في الموعظة، وبروك الطالب بين يدي من يستفيد منه، وكذا التابع بين يدي المتبوع إذا سأله في حاجة، ومشروعية التعوذ من الفتن عند وجود شيء قد يظهر منه قرينة وقوعها، واستعمال المزاوجة في الدعاء في قوله: "اعف عفا الله عنك " وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم معفو عنه قبل ذلك. قال ابن عبد البر سئل مالك عن معنى النهي عن كثرة السؤال، فقال ما أدري أنهى عن الذي أنتم فيه من السؤال عن النوازل، أو عن مسألة الناس المال، قال ابن عبد البر: الظاهر الأول، وأما الثاني فلا معنى للتفرقة بين كثرته وقلته لا حيث يجوز ولا حيث لا يجوز قال: وقيل كانوا يسألون عن الشيء ويلحون فيه إلى أن يحرم، قال: وأكثر العلماء على أن المراد كثرة السؤال عن النوازل والأغلوطات والتوليدات كذا قال: وقد تقدم الإلمام بشيء من ذلك في " كتاب العلم". وله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل و " عبد الملك " هو ابن عمير. قوله: "وكتب إليه" هو معطوف على قوله: "فكتب إليه " وهو موصول بالسند المذكور، وقد أفرد كثير من الرواة أحد الحديثين عن الآخر، والغرض من إيراده هنا أنه كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال، وقد تقدم البحث في المراد بكثرة السؤال في " كتاب الرقاق " هل هو خاص بالمال أو بالأحكام أو لأعم من ذلك والأولى حمله على العموم لكن فيما ليس للسائل به احتياج كما تقدم ذكره، وتقدم شرح الحديث الأول في الدعوات، والثاني في الرقاق. قوله: "عن أنس كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف" هكذا أورده مختصرا. وذكر الحميدي أنه جاء في رواية أخرى عن ثابت عن أنس أن عمر قرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: ما الأب؟ ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا.

(13/270)


بهذا.قلت: هو عند الإسماعيلي من رواية هشام عن ثابت وأخرجه من طريق يونس ابن عبيد عن ثابت بلفظ: "أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {َفَاكِهَةً وَأَبّاً} ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف " وهذا أولى أن يكمل به الحديث الذي أخرجه البخاري، وأولى منه ما أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي مسلم الكجي عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، ولفظه عن أنس: "كنا عند عمر وعليه قميص في ظهره أربع رقاع، فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم قال: مه نهينا عن التكلف " وقد أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن سليمان بن حرب بهذا السند مثله سواء، وأخرجه أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة بدل حماد بن زيد. وقال بعد قوله فما الأب، ثم قال: يا ابن أم عمر إن هذا لهو التكلف وما عليك أن لا تدرى ما الأب. وسليمان بن حرب سمع من الحمادين لكنه اختص بحماد بن زيد فإذا أطلق قوله حدثنا حماد فهو ابن زيد وإذا روى عن حماد بن سلمة نسبه. وأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أنس أنه أخبره أنه سمع عمر يقول: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} الآية، إلى قوله وأبا قال كل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم رمى عصا كانت في يده ثم قال: هذا لعمر الله التكلف " اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب " وأخرجه الطبري من وجهين آخرين عن الزهري وقال في آخره: "اتبعوا ما بين لكم في الكتاب " وفي لفظ: "ما بين لكم فعليكم به ومالا فدعوه " وأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن زيد " أن رجلا سأل عمر عن فاكهة وأبا فلما رآهم عمر يقولون أقبل عليهم بالدرة " ومن وجه آخر عن إبراهيم النخعي قال: "قرأ أبو بكر الصديق وفاكهة وأبا فقيل ما الأب؟ فقيل كذا وكذا فقال أبو بكر إن هذا لهو التكلف، أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم " وهذا منقطع بين النخعي والصديق وأخرج أيضا من طريق إبراهيم التيمي " أن أبا بكر سئل عن الأب ما هو فقال: أي سماء تظلني " فذكر مثله، وهو منقطع أيضا لكن أحدهما يقوي الآخر وأخرج الحاكم في تفسير آل عمران من المستدرك من طريق حميد عن أنس قال: قرأ عمر " وفاكهة وأبا " فقال بعضهم كذا وقال بعضهم كذا فقال عمر: دعونا من هذا آمنا به كل من عند ربنا. وأخرج الطبري من طريق موسى ابن أنس نحوه ومن طريق معاوية بن قرة ومن طريق قتادة كلاهما عن أنس كذلك وقد جاء أن ابن عباس فسر " الأب " عند عمر فأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق سعيد بن جبير قال: كان عمر يدنى ابن عباس فذكر نحو القصة الماضية في تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وفي آخرها وقال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} إلى قوله: {وَأَبّاً} قال: فالسبعة رزق لبني آدم " والأب ما تأكل الأنعام " ولم يذكر أن عمر أنكر عليه ذلك وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال: "الأب ما تنبته الأرض مما تأكله الدواب، ولا يأكله الناس " وأخرج عن عدة من التابعين نحو، ثم أخرج من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس بسند صحيح قال: "الأب الثمار الرطبة " وهذا أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ: {وفاكهة وأبا } قال: الثمار الرطبة، وكأنه سقط منه واليابسة، فقد أخرج أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس بسند حسن " الأب الحشيش للبهائم " وفيه قول آخر أخرجاه من طريق عطاء قال: كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو أب، فعلى هذا فهو من العام بعد الخاص، ومن طريق الضحاك قال: الأب كل شيء أنبتت الأرض سوى الفاكهة، وهذا أعم من الأول، وذكر بعض أهل اللغة أن الأب مطلق المرعى، واستشهد بقول الشاعر:

(13/271)


له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل الأب " يابس الفاكهة " وقيل إنه ليس بعربي، ويؤيده خفاؤه على مثل أبي بكر وعمر. "تنبيه": في إخراج البخاري هذا الحديث في آخر الباب مصير منه إلى أن قول الصحابي " أمرنا ونهينا " في حكم المرفوع ولو لم يضفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم اقتصر على قوله: "نهينا عن التكلف " وحذف القصة. حديث أنس وهو في معنى الحديث الرابع، وقد مضى شرحه أورده من وجهين عن الزهري وساقه هنا على لفظ معمر، وفي باب وقت الظهر من " كتاب الصلاة " بلفظ شعيب وهما متقاربان، ووقع هنا " فأكثر الأنصار البكاء " في رواية الكشميهني. وفي رواية غيره: "فأكثر الناس " وهي الصواب، وكذا وقع في رواية معمر وغيره ووقع هنا " فذكر الساعة وذكر أن بين يديها أمورا عظاما " وفي رواية شعيب، وذكر أن فيها أمورا عظاما وزاد هنا " فقام رجل فقال: أين مدخلي " إلخ، ووقع هنا " وبمحمد رسولا " وفي رواية شعيب " ومحمد نبيا " ووقع هنا " فسكت حين قال ذلك عمر ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أولى " وسقط هذا كله من رواية شعيب قال المبرد: يقال للرجل إذا أفلت من معضلة أولى لك، أي كدت تهلك. وقال غيره هي بمعنى التهديد والوعيد. حديث أنس أيضا من رواية ابنه موسى عنه وأورده مختصرا وقد تقدم ما فيه. قوله: "ورقاء" بقاف ممدود هو ابن عمر اليشكري وشيخه " عبد الله بن عبد الرحمن " هو ابن معمر بن حزم الأنصاري أبو طوالة بضم الطاء المهملة مشهور بكنيته. قوله: "لن يبرح الناس يتساءلون" في رواية المستملي: "يسألون " وعند مسلم في رواية عروة عن أبي هريرة " لا يزال الناس يتساءلون". قوله: "هذا الله خالق كل شيء" في رواية عروة " هذا خلق الله الخلق " ولمسلم أيضا وهو في رواية البخاري في بدء الخلق من رواية عروة أيضا: "يأتي الشيطان العبد أو أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول من خلق ربك؟ " وفي لفظ لمسلم: "من خلق السماء من خلق الأرض؟ فيقول الله " ولأحمد والطبراني من حديث خزيمة ابن ثابت مثله، ولمسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة " حتى يقولوا هذا الله خلقنا " وله في رواية يزيد ابن الأصم عنه " حتى يقولوا الله خلق كل شيء " وفي رواية المختار بن فلفل عن أنس " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل إن أمتك لا تزال تقول ما كذا وكذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق " وللبزار من وجه آخر عن أبي هريرة " لا يزال الناس يقولون كان الله قبل كل شيء فمن قبله " قال التوربشتي، قوله: "هذا خلق الله الخلق " يحتمل أن يكون هذا مفعولا والمعنى حتى يقال هذا القول وأن يكون مبتدأ حذف خبره، أي هذا الأمر قد علم، وعلى اللفظ الأول يعني رواية أنس عند مسلم: "هذا الله " مبتدأ وخبر أو " هذا " مبتدأ و " الله " عطف بيان و " خلق الخلق " خبره قال الطيبي: والأول أولى، ولكن تقديره هذا مقرر معلوم وهو أن الله خلق الخلق وهو شيء، وكل شيء مخلوق فمن خلقه فيظهر ترتيب ما بعد الفاء على ما قبلها. قوله: "فمن خلق الله" في رواية بدء الخلق " من خلق ربك " وزاد فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته، وفي لفظ لمسلم: "فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله " وزاد في أخرى و " رسله " ولأبي داود والنسائي من الزيادة فقولوا {للَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} السورة " ثم ليتفل عن يساره ثم ليستعذ " ولأحمد من حديث: "عائشة فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله " فإن ذلك يذهب عنه، ولمسلم في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة نحو الأول وزاد: "فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب " فذكر سؤالهم عن ذلك وأنه رماهم بالحصا وقال: "صدق خليلي " وله في

(13/272)


رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة " صدق الله ورسوله " قال ابن بطال: في حديث أنس الإشارة إلى ذم كثرة السؤال لأنها تفضي إلى المحذور كالسؤال المذكور، فإنه لا ينشأ إلا عن جهل مفرط، وقد ورد بزيادة من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق الله، فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل آمنت بالله " وفي رواية: "ذاك صريح الإيمان " ولعل هذا هو الذي أراد الصحابي فيما أخرجه أبو داود من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: "جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه فقالوا: يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به، فقال أو قد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان " ولابن أبي شيبة من حديث ابن عباس " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحدث نفسي بالأمر لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به " قال: "الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة " ثم نقل الخطابي المراد بصريح الإيمان هو الذي يعظم في نفوسهم إن تكلموا به، ويمنعهم من قبول ما يلقى الشيطان، فلولا ذلك لم يتعاظم في أنفسهم حتى أنكروه، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان بل هي من قبل الشيطان وكيده. وقال الطيبي: قوله: "نجد في أنفسنا الشيء " أي القبيح، نحو ما تقدم في حديث أنس وأبي هريرة، وقوله: "يعظم أن نتكلم به " أي للعلم بأنه لا يليق أن نعتقده، وقوله: "ذاك صريح الإيمان " أي علمكم بقبيح تلك الوساوس وامتناع قبولكم ووجودكم النفرة عنها دليل على خلوص إيمانكم، فإن الكافر يصر على ما في قلبه من المحال ولا ينفر عنه، وقوله في الحديث الآخر " فليستعذ بالله ولينته " أي يترك التفكر في ذلك الخاطر ويستعيذ بالله إذا لم يزل عنه التفكر، والحكمة في ذلك أن العلم باستغناء الله تعالى عن كل ما يوسوسه الشيطان أمر ضروري لا يحتاج للاحتجاج والمناظرة، فإن وقع شيء من ذلك فهو من وسوسة الشيطان وهي غير متناهية فمهما عورض بحجة يجد مسلكا آخر من المغالطة والاسترسال فيضيع الوقت إن سلم من فتنته، فلا تدبير في دفعه أقوى من الإلجاء إلى الله تعالى بالاستعاذة به كما قال تعالى: {َإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية. وقال في شرح الحديث الذي فيه: "فليقل الله الأحد " الصفات الثلاث منبهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقا، أما أحد فمعناه الذي لا ثاني له ولا مثل، فلو فرض مخلوقا لم يكن أحدا على الإطلاق. وسيأتي مزيد لهذا في شرح حديث عائشة في أول " كتاب التوحيد". وقال المهلب: قوله صريح الإيمان، يعني الانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له، فلا بد عند ذلك من إيجاب خالق لا خالق له لأن المتفكر العاقل يجد للمخلوقات كلها خالقا لأثر الصنعة فيها والحدث الجاري عليها والخالق بخلاف هذه الصفة فوجب أن يكون لكل منها خالق لا خالق له فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الذي هو من كيد الشيطان المؤدي إلى الحيرة. وقال ابن بطال: فإن قال الموسوس فما المانع أن يخلق الخالق نفسه، قيل له هذا ينقض، بعضه بعضا، لأنك أثبت خالقا وأوجبت وجوده ثم قلت: يخلق نفسه فأوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجوده على وجود فعله فيستحيل كون نفسه فعلا له. وهذا واضح في حل هذه الشبهة وهو يفضي إلى صريح الإيمان انتهى ملخصا موضحا. وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم فعزوه إليه أولى؛ ولفظه: "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الإيمان " وأخرج بعده من حديث ابن مسعود " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: تلك محض الإيمان " وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وقال ابن التين " لو جاز لمخترع الشيء

(13/273)


أن يكون له مخترع لتسلسل فلا بد من الانتهاء إلى موجد قديم، والقديم من لا يتقدمه شيء ولا يصح عدمه، وهو فاعل لا مفعول، وهو الله تبارك وتعالى " وقال الكرماني " ثبت أن معرفة الله بالدليل فرض عين أو كفاية، والطريق إليها بالسؤال عنها متعين لأنها مقدمتها " لكن لما عرف بالضرورة أن الخالق غير مخلوق أو بالكسب الذي يقارب الصدق كان السؤال عن ذلك تعنتا فيكون الذم يتعلق بالسؤال الذي يكون على سبيل التعنت وإلا فالتوصل إلى معرفة ذلك وإزالة الشبهة عنه صريح الإيمان، إذ لا بد من الانقطاع إلى من يكون له خالق دفعا للتسلسل. وقد تقدم نحو هذا في صفة إبليس من " بدء الخلق " وما ذكره من ثبوت الوجوب يأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في أول " كتاب التوحيد " ويقال إن نحو هذه المسألة وقعت في زمن الرشيد في قصة له مع صاحب الهند، وأنه كتب إليه هل يقدر الخالق أن يخلق مثله فسأل أهل العلم، فبدر شاب فقال: هذا السؤال محال لأن المخلوق محدث والمحدث لا يكون مثل القديم، فاستحال أن يقال يقدر أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما يستحيل أن يقال في القادر العالم يقدر أن يصير عاجزا جاهلا. حديث ابن مسعود في سؤال اليهود عن الروح، وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة سبحان وقوله في هذه الرواية: "فقام ساعة فنظر، فعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي " ظاهر في أنه أجابهم في ذلك الوقت وهو يرد على ما وقع في مغازي موسى بن عقبة، وسير سليمان التيمي أن جوابه تأخر ثلاثة أيام وفي سيرة ابن إسحاق، أنه تأخر خمسة عشر يوما، وسيأتي البحث في شيء منه بعد أربعة أبواب إن شاء الله تعالى.

(13/274)


4 - باب الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7298 - حدثنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ
قوله: "باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم" الأصل فيه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقد ذهب جمع إلى وجوبه لدخوله في عموم الأمر بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وبقوله: {فاتبعوني يحببكم الله} وبقوله تعالى: {َاتَّبِعُوهُ} فيجب اتباعه في فعله كما يجب في قوله حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية. وقال آخرون: يحتمل الوجوب والندب والإباحة فيحتاج إلى القرينة، والجمهور. للندب إذا ظهر وجه القربة، وقيل ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه. وقال آخرون ما يفعله صلى الله عليه وسلم إن كان بيانا لمجمل فحكمه حكم ذلك المجمل وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة، وأما تقريره على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، ويتعلق بها تعارض قوله وفعله، ويتفرع من ذلك حكم الخصائص وقد أفردت بالتصنيف، ولشيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي فيه مصنف جليل، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال أحدها يقدم القول لأن له صيغة تتضمن المعاني بخلاف الفعل، ثانيها الفعل لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالثها يفزع إلى الترجيح، وكل ذلك محله

(13/274)


ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية، وذهب الجمهور إلى الأول، والحجة له أن القول يعبر به عن المحسوس والمعقول بخلاف الفعل فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه بخلاف الفعل فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم الفعل يفضي إلى ترك العمل بالقول والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ وَقَالَ إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري كما جزم به المزي. قوله: "عن ابن عمر" في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي نعيم بسنده سمعت ابن عمر. قوله: "فاتخذ الناس خواتيم من ذهب" وفيه: "فنبذه وقال: إني لم ألبسه أبدا فنبذ الناس خواتيمهم " اقتصر على هذا المثال لاشتماله على تأسيهم به في الفعل والترك، وقد تقدم شرح ما يتعلق بخاتم الذهب في " كتاب اللباس " قال ابن بطال بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله عليه الصلاة والسلام محتجا لمن قال بالوجوب بحديث الباب، لأنه خلع خاتمه فخلعوا خواتمهم، ونزع نعله في الصلاة فنزعوا، ولما أمرهم عام الحديبية بالتحلل وتأخروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل فتابعوه مسرعين، فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول، ولما نهاهم عن الوصال قالوا إنك تواصل، فقال: إني أطعم وأسقى فلولا أن لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عدل عن ذلك وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة انتهى. وليس في جميع ما ذكره ما يدل على المدعي من الوجوب، بل على مطلق التأسي به والعلم عند الله تعالى.

(13/275)


5 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْعِلْمِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالْبِدَعِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}
7299 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُوَاصِلُوا قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ قَالَ فَوَاصَلَ بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ رَأَوْا الْهِلاَلَ
7300 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ وَإِذَا فِيهَا الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا وَإِذَا فِيهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا وَإِذَا فِيهَا مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ

(13/275)


وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا
7301 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً
7302 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ وَأَشَارَ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلاَفِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - إِلَى قَوْلِهِ - عَظِيمٌ} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ
7303 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُوِي إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُنَّ لاَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا
7304 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ جَاءَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلاَنِيُّ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَيَقْتُلُهُ أَتَقْتُلُونَهُ بِهِ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا فَرَجَعَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ الْمَسَائِلَ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَتِيَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ خَلْفَ عَاصِمٍ فَقَالَ لَهُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكُمْ قُرْآنًا فَدَعَا بِهِمَا فَتَقَدَّمَا فَتَلاَعَنَا ثُمَّ قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَفَارَقَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِرَاقِهَا فَجَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا

(13/276)


مِثْلَ وَحَرَةٍ فَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ كَذَبَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأَمْرِ الْمَكْرُوهِ
7305 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ النَّصْرِيُّ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ ذَلِكَ فَدَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ قَالَ نَعَمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَأَذِنَ لَهُمَا قَالَ الْعَبَّاسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ اسْتَبَّا فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَقَالَ اتَّئِدُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ} الْآيَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَقَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكِ وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا وَإِلاَ فَلاَ تُكَلِّمَانِي فِيهَا فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ قَالاَ

(13/277)


6 - باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7306 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالَ نَعَمْ مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ أَوْ آوَى مُحْدِثًا
قوله: "باب إثم من آوى محدثا" بضم أوله وسكون الحاء المهملة وبعد الدال مثلثة، أي أحدث المعصية. قوله: "رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم" تقدم موصولا في الباب الذي قبله، و " عبد الواحد " في حديث أنس هو ابن زياد، و " عاصم " هو ابن سليمان المعروف بالأحول، وقوله: "قال عاصم فأخبرني " هو موصول بالسند المذكور. قوله: "موسى بن أنس" ذكر الدار قطني أن الصواب عن عاصم عن النضر بن أنس لا عن موسى، قال: والوهم فيه من البخاري أو شيخه، قال عياض: وقد أخرجه مسلم على الصواب. قلت: إن أراد أنه قال عن النضر فليس كذلك، فإنه إنما قال لما أخرجه عن حامد بن عمير عن عبد الواحد عن عاصم عن ابن أنس، فإن كان عياض أراد أن الإبهام صواب فلا يخفى ما فيه، والذي سماه النضر هو مسدد عن عبد الواحد كذا أخرجه في مسنده، وأبو نعيم في المستخرج من طريقه، وقد رواه عمرو بن أبي قيس عن عاصم فبين أن بعضه عنده عن أنس نفسه، وبعضه عن النضر بن أنس عن أبيه، أخرجه أبو عوانة في مستخرجه، وأبو الشيخ في " كتاب الترهيب " جميعا من طريقه عن عاصم عن أنس، قال عاصم ولم أسمع من أنس " أو آوى محدثا " فقلت للنضر ما سمعت هذا، يعني القدر الزائد من أنس، قال لكني سمعته منه أكثر من مائة مرة، وقد تقدم شرح حديثي علي وأنس في أواخر الحج في أول فضائل المدينة في باب حرم المدينة، وذكرت هناك رواية من روى هذه الزيادة عن عاصم عن أنس بدون الواسطة، وأنه مدرج وبالله التوفيق، قال ابن بطال: دل الحديث على أن من أحدث محدثا أو آوى محدثا في غير المدينة، أنه غير متوعد بمثل ما توعد به من فعل ذلك بالمدينة، وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي أنه يشاركهم في الإثم فإن من رضى فعل قوم وعملهم التحق بهم، ولكن خصت المدينة بالذكر لشرفها لكونها مهبط الوحي وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على

(13/281)


غيرها. وقال غيره، السر في تخصيص المدينة بالذكر أنها كانت إذ ذاك موطن النبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت موضع الخلفاء الراشدين.

(13/282)


7 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ
{وَلاَ تَقْفُ} لاَ تَقُلْ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
7307 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِي مِنْهُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْهُ فَجِئْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِي بِهِ كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِي فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا فَعَجِبَتْ فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو
7308 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ سَمِعْتُ الأَعْمَشَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ هَلْ شَهِدْتَ صِفِّينَ قَالَ نَعَمْ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ ح و حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأَمْرِ قَالَ وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ شَهِدْتُ صِفِّينَ وَبِئْسَتْ صِفُّونَ
قوله: "باب ما يذكر من ذم الرأي" أي الفتوى بما يؤدي إليه النظر وهو يصدق على ما يوافق النص وعلى ما يخالفه والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه، وأشار بقوله: "من " إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم وهو إذا لم يوجد النص من كتاب أو سنة أو إجماع، وقوله: "وتكلف القياس " أي إذا لم يوجد الأمور الثلاثة واحتاج إلى القياس فلا يتكلفه بل يستعمله على أوضاعه ولا يتعسف في إثبات العلة الجامعة التي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن العلة الجامعة واضحة فليتمسك بالبراءة الأصلية، ويدخل في تكلف القياس ما إذا استعمله على أوضاعه مع وجود النص، وما إذا وجد النص فخالفه وتأول لمخالفته شيئا بعيدا ويشتد الذم فيه لمن ينتصر لمن يقلده مع احتمال أن لا يكون الأول اطلع على النص. قوله: {ولا تقف: لا تقل ما ليس لك به علم} احتج لما ذكره من ذم التكلف بالآية، وتفسير القفو بالقول من كلام ابن عباس فيما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {ولا تقف ما ليس لك به علم} لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع، والمعروف أنه الاتباع، وقد تقدم في حديث موسى والخضر فانطلق يقفو أثره: أي يتبعه، وفي حديث الصيد يقتفي أثره: أي يتبع. وقال أبو عبيدة معناه لا تتبع ما لا تعلم وما لا يعنيك. وقال الراغب الاقتفاء: اتباع

(13/282)


القفا، كما أن الارتداف: اتباع الردف، ويكنى بذلك عن الاغتياب وتتبع المعايب، ومعنى {ولا تقف ما ليس لك به علم} لا تحكم بالقيافة والظن، والقيافة مقلوب عن الاقتفاء نحو جذب وجبذ، وسبقه إلى نحو هذا الأخير الفراء. وقال الطبري بعد أن نقل عن السلف أن المراد شهادة الزور أو القول بغير علم أو الرمي بالباطل هذه المعاني متقاربة، وذكر قول أبي عبيدة، ثم قال أصل القفو: العيب، ومنه حديث الأشعث بن قيس رفعه لا نقفوا منا ولا ننتفي من أبينا، ومنه قول الشاعر: "ولا أقفو الحواضن إن قفينا". ثم نقل عن بعض الكوفيين أن أصله القيافة وهي اتباع الأثر، وتعقب بأنه لو كان كذلك لكانت القراءة بضم القاف وسكون الفاء، لكن زعم أنه على القلب، قال والأولى بالصواب الأول انتهى. والقراءة التي أشار إليها نقلت في الشواذ عن معاذ القاري، واستدل الشافعي للرد على من يقدم القياس على الخبر بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال معناه والله أعلم، اتبعوا في ذلك ما قال الله ورسوله، وأورد البيهقي هنا حديث ابن مسعود " ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام". قوله: "حدثنا سعيد بن تليد" بمثناة ثم لام وزن عظيم، وهو سعيد بن عيسى بن تليد نسب إلى جده يكنى أبا عيسى بن عنى، بمهملة، ثم نون مصغر، وهو من المصريين الثقات الفقهاء وكان يكتب للحكام. قوله: "عبد الرحمن بن شريح" هو أبو شريح الإسكندراني بمعجمة أوله ومهملة آخره، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه. قوله: "وغيره" هو ابن لهيعة أبهمه البخاري لضعفه، وجعل الاعتماد على رواية عبد الرحمن، لكن ذكر الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر في الجزء الذي جمعه في الكلام على حديث معاذ بن جبل في القياس أن عبد الله بن وهب حدث بهذا الحديث عن أبي شريح وابن لهيعة جميعا، لكنه قدم لفظ ابن لهيعة وهو مثل اللفظ الذي هنا ثم عطف عليه رواية أبي شريح فقال بذلك. قلت: وكذلك أخرجه ابن عبد البر في باب العلم من رواية سحنون عن ابن وهب عن ابن لهيعة فساقه، ثم قال ابن وهب: وأخبرني عبد الرحمن بن شريح عن أبي الأسود عن عروة عن عبد الله بن عمرو بذلك، قال ابن طاهر: ما كنا ندري هل أراد بقوله بذلك اللفظ والمعنى أو المعنى فقط، حتى وجدنا مسلما أخرجه عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح وحده، فساقه بلفظ مغاير للفظ الذي أخرجه البخاري، قال فعرف أن اللفظ الذي حذفه البخاري هو لفظ عبد الرحمن ابن شريح الذي أبرزه هنا، والذي أورده هو لفظ الغير الذي أبهمه انتهى. وسأذكر تفاوتهما وليس بينهما في المعنى كبير أمر، وكنت أظن أن مسلما حذف ذكر ابن لهيعة عمدا لضعفه واقتصر على عبد الرحمن بن شريح، حتى وجدت الإسماعيلي أخرجه من طريق حرملة بغير ذكر ابن لهيعة، فعرفت أن ابن وهب هو الذي كان يجمعهما تارة ويفرد ابن شريح تارة وعند ابن وهب فيه شيخان آخران بسند آخر أخرجه ابن عبد البر في بيان العلم من طريق سحنون حدثنا ابن وهب حدثنا مالك وسعيد بن عبد الرحمن كلاهما عن هشام بن عروة باللفظ المشهور، وقد ذكرت في باب العلم أن هذا الحديث مشهور عن هشام بن عروة عن أبيه، رواه عن هشام أكثر من سبعين نفسا وأقول هنا إن أبا القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده ذكر في " كتاب التذكرة " أن الذين رووه عن الحافظ هشام أكثر من ذلك؛ وسرد أسماءهم فزادوا على أربعمائة نفس وسبعين نفسا، منهم من الكبار شعبة ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج ومسعر وأبو حنيفة وسعيد بن أبي عروبة والحمادان ومعمر، بل أكبر منهم

(13/283)


مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة والأعمش ومحمد بن عجلان وأيوب وبكير بن عبد الله ابن الأشج وصفوان بن سليم وأبو معشر ويحيى بن أبي كثير وعمارة بن غزية وهؤلاء العشرة كلهم من صغار التابعين، وهم من أقرانه، ووافق هشاما على روايته عن عروة أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن النوفلي المعروف بيتيم عروة، وهو الذي رواه عنه ابن لهيعة وأبو شريح ورواه عن عروة أيضا ولداه يحيى وعثمان وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهو من أقرانه، والزهري ووافق عروة على روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص عمر بن الحكم بن ثوبان، أخرجه مسلم من طريقه ولم يسق لفظه لكن قال بمثل حديث هشام بن عروة، وكأنه ساقه من رواية جرير بن عبد الحميد عن هشام، وسأذكر ما في رواية بعض من ذكر من فائدة زائدة. قوله: "عن أبي الأسود" في رواية مسلم بسنده إلى ابن شريح أن أبا الأسود حدثه. قوله: "عن عروة" زاد حرملة في روايته: "ابن الزبير". قوله: "حج علينا" أي مر علينا حاجا "عبد الله بن عمرو فسمعته يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم: "قالت لي عائشة يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مارا بنا إلى الحج فألقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا، قال فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال". قوله: "إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه" في رواية أبي ذر عن المستملى والكشميهني: "أعطاهموه " بالهاء ضمير الغيبة بدل الكاف، ووقع في رواية حرملة " لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا " وفي رواية هشام الماضية في " كتاب العلم " من طريق مالك عنه " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد " وفي رواية سفيان بن عيينة عن هشام " من قلوب العباد " أخرجه الحميدي في مسنده عنه. وفي رواية جرير عن هشام عند مسلم مثله لكن قال: "من الناس " وهو الوارد في أكثر الروايات. وفي رواية محمد بن عجلان عن هشام عند الطبراني " إن الله لا ينزع العلم انتزاعا، ينتزعه منهم بعد أن أعطاهم " ولم يذكر على من يعود الضمير. وفي رواية معمر عن هشام عند الطبراني " إن الله لا ينزع العلم من صدور الناس بعد أن يعطيهم إياه " وأظن عبد الله ابن عمرو إنما حدث بهذا جوابا عن سؤال من سأله عن الحديث الذي رواه أبو أمامة قال: لما كان في حجة الوداع قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل آدم فقال: "يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض، وقبل أن يرفع من الأرض " الحديث وفي آخره: "ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته " ثلاث مرات أخرجه أحمد والطبراني والدارمي، فبين عبد الله بن عمرو أن الذي ورد في قبض العلم ورفع العلم إنما هو على الكيفية التي ذكرها، وكذلك أخرج قاسم بن أصبغ ومن طريقه ابن عبد البر أن عمر سمع أبا هريرة يحدث بحديث: "يقبض العلم " فقال: "إن قبض العلم ليس شيئا ينزع من صدور الرجال، لكنه فناء العلماء " وهو عند أحمد والبزار من هذا الوجه. قوله: "ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم" كذا فيه والتقدير ينتزعه بقبص العلماء مع علمهم، ففيه بعض قلب؛ ووقع في رواية حرملة " ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم " وفي رواية هشام " ولكن يقبض العلم بقبض العلماء " وفي رواية معمر " ولكن ذهابهم قبض العلم " ومعانيها متقاربة. قوله: "فيبقى ناس جهال" هو بفتح أول يبقى وفي رواية حرملة " ويبقى في الناس رءوسا جهالا " وهو بضم أول ي بقى وتقدم في " كتاب العلم " ضبط رءوسا هل هو بصيغة جمع رأس وهي رواية الأكثر أو رئيس وفي رواية هشام " حتى إذا لم يبق عالم " هذه رواية أبي ذر من طريق مالك ولغيره: "لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا " وفي رواية جرير عند مسلم: "حتى إذا لم يترك عالما " وكذا في رواية صفوان بن سليم عند الطبراني وهي تؤيد الرواية الثانية. وفي رواية محمد بن عجلان " حتى إذا لم يبق عالم " وكذا في رواية شعبة عن

(13/284)


هشام. وفي رواية محمد ابن هشام بن عروة عن أبيه عند الطبراني " فيصير للناس رءوس جهال " وفي رواية معمر عن الزهري عن عروة عنده: بعد أن يعطيهم إياه، لكن يذهب العلماء كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم. قوله: "يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون" بفتح أوله "ويضلون" بضمه. وفي رواية حرملة " يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون " وفي رواية محمد بن عجلان " يستفتونهم فيفتونهم " والباقي مثله. وفي رواية هشام بن عروة " فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " وهي رواية الأكثر، وخالف الجميع قيس بن الربيع وهو صدوق ضعف من قبل حفظه، فرواه عن هشام بلفظ: لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا، أخرجه البزار وقال تفرد به قيس، قال: والمحفوظ بهذا اللفظ ما رواه غيره عن هشام فأرسله. قلت: والمرسل المذكور أخرجه الحميدي في النوادر والبيهقي في المدخل من طريقه، عن ابن عيينة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه فذكره، كرواية قيس سواء. قوله: "فحدثت به عائشة" زاد حرملة في روايته، فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته. وقالت أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا. قوله: "ثم إن عبد الله بن عمرو حج بعد فقالت يا ابن أختي انطلق إلى عبد الله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه" في رواية حرملة أنه حج من السنة المقبلة ولفظه قال عروة: حتى إذا كان قابل قالت له: إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم. قوله: "فجئته فسألته: في رواية حرملة"، " فلقيته". قوله: "فحدثني به" في رواية حرملة " فذكره لي " قوله: "كنحو ما حدثني" في رواية حرملة " بنحو ما حدثني به في مرته الأولى " ووقع في رواية سفيان ابن عيينة الموصولة " قال عروة ثم لبثت سنة ثم لقيت عبد الله بن عمرو في الطواف فسألته فأخبرني به فأفاد أن لقاءه إياه في المرة الثانية كان بمكة " وكأن عروة كان حج في تلك السنة من المدينة وحج عبد الله من مصر فبلغ عائشة ويكون قولها قد قدم أي من مصر طالبا لمكة لا أنه قدم المدينة، إذ لو دخلها للقيه عروة بها، ويحتمل أن تكون عائشة حجت تلك السنة وحج معها عروة فقدم عبد الله بعد، فلقيه عروة بأمر عائشة. قوله: "فعجبت فقالت والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو" في رواية حرملة " فلما أخبرتها بذلك قالت ما أحسبه إلا صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص". قلت: ورواية الأصل تحتمل أن عائشة كان عندها علم من الحديث، وظنت أنه زاد فيه أو نقص فلما حدث به ثانيا كما حدث به أولا، تذكرت أنه على وفق ما كانت سمعت، ولكن رواية حرملة التي ذكر فيها أنها أنكرت ذلك وأعظمته ظاهرة في أنه لم يكن عندها من الحديث علم، ويؤيد ذلك أنها لم تستدل على أنه حفظه إلا كونه حدث به بعد سنة كما حدث به أولا لم يزد ولم ينقص. قال عياض: لم تتهم عائشة عبد الله ولكن لعلها نسبت إليه أنه مما قرأه من الكتب القديمة لأنه كان قد طالع كثيرا منها، ومن ثم قالت: "أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا " انتهى، وعلى هذا فرواية معمر له عن الزهري عن عروة عن عبد الله بن عمرو هي المعتمدة وهي في مصنف عبد الرزاق، وعند أحمد والنسائي والطبراني من طريقه ولكن الترمذي لما أخرجه من رواية عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة قال: روى الزهري هذا الحديث عن عروة عن عبد الله بن عمرو، وعن عروة عن عائشة، وهذه الرواية التي أشار إليها رواية يونس ابن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة، أخرجه أبو عوانة في صحيحه والبزار من طريق شبيب بن سعيد عن يونس، وشبيب في حفظه شيء وقد شذ بذلك، ولما أخرجه عبد الرزاق من رواية الزهري أردفه برواية معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عبد الله بن عمرو قال: "أشهد

(13/285)


أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يرفع الله العلم بقبضه ولكن يقبض العلماء " الحديث؛ وقال ابن عبد البر في بيان العلم رواه عبد الرزاق أيضا عن معمر عن هشام بن عروة بمعنى حديث مالك. قلت: ورواية يحيى أخرجها الطيالسي عن هشام الدستوائي عنه، ووجدت عن الزهري فيه سندا آخر أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق العلاء بن سليمان الرقي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فذكر مثل رواية هشام سواء، لكن زاد بعد قوله: "وأضلوا عن سواء السبيل " والعلاء ابن سليمان ضعفه ابن عدي وأورده من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ رواية حرملة التي مضت وسنده ضعيف، ومن حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "يقبض الله العلماء، ويقبض العلم معهم، فتنشأ أحداث ينزو بعضهم على بعض نزو العير على العير، ويكون الشيخ فيهم مستضعفا " وسنده ضعيف وأخرج الدارمي من حديث أبي الدرداء. قوله: "رفع العلم ذهاب العلماء " وعن حذيفة " قبض العلم قبض العلماء " وعند أحمد عن ابن مسعود قال: "هل تدرون ما ذهاب العلم؟ ذهاب العلماء " وأفاد حديث أبي أمامة الذي أشرت إليه أولا وقت تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وفي حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة " أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئا " فإن في بقيته " فسأله أعرابي فقال: يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا، فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم " ولهذه الزيادة شواهد من حديث عوف بن مالك وابن عمرو وصفوان بن عسال وغيرهم، وهي عند الترمذي والطبراني والدارمي والبزار بألفاظ مختلفة، وفي جميعها هذا المعنى، وقد فسر عمر قبض العلم بما وقع تفسيره به في حديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة فذكر الحديث، وفيه: "ويرفع العلم " فسمعه عمر فقال: "أما أنه ليس ينزع من صدور العلماء ولكن بذهاب العلماء " وهذا يحتمل أن يكون عند عمر مرفوعا، فيكون شاهدا قويا لحديث عبد الله بن عمرو، واستدل بهذا الحديث على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور خلافا لأكثر الحنابلة، وبعض من غيرهم لأنه صريح في رفع العلم بقبض العلماء، وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم ومن يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد، وعورض هذا بحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله " وفي لفظ: "حتى تقوم الساعة - أو - حتى يأتي أمر الله " ومضى في العلم كالأول بغير شك. وفي رواية مسلم: "ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله " ولم يشك وهو المعتمد، وأجيب أولا بأنه ظاهر في عدم الخلو لا في نفي الجواز، وثانيا بأن الدليل للأول أظهر للتصريح بقبض العلم تارة وبرفعه أخرى بخلاف الثاني، وعلى تقدير التعارض فيبقى أن الأصل عدم المانع. قالوا الاجتهاد فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه الاتفاق على الباطل، وأجيب بأن بقاء فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء، فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء فلا لأن بفقدهم تنتفي القدرة والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورا لم يقع التكليف به، هكذا اقتصر عليه جماعة: وقد تقدم في باب: تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، في أواخر " كتاب الفتن " ما يشير إلى أن محل وجود ذلك عند فقد المسلمين بهبوب الريح التي تهب بعد نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وهو بمعناه عند مسلم كما بينته هناك فلا يرد اتفاق المسلمين على ترك فرض الكفاية والعمل بالجهل لعدم وجودهم، وهو

(13/286)


المعبر عنه بقوله: "حتى يأتي أمر الله " وأما الرواية بلفظ: "حتى تقوم الساعة " فهي محمولة على إشرافها بوجود آخر أشراطها، وقد تقدم هذا بأدلته في الباب المذكور، ويؤيده ما أخرجه أحمد وصححه الحاكم عن حذيفة رفعه: "يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب " إلى غير ذلك من الأحاديث، وجوز الطبري أن يضمر في كل من الحديثين المحل الذي يكون فيه تلك الطائفة، فالموصوفون بشرار الناس الذين يبقون بعد أن تقبض الريح من تقبضه، يكونون مثلا ببعض البلاد كالمشرق الذي هو أصل الفتن، والموصوفون بأنهم على الحق يكونون مثلا ببعض البلاد كبيت المقدس لقوله في حديث معاذ " إنهم بالشام " وفي لفظ: "ببيت المقدس " وما قاله وإن كان محتملا يرده قوله في حديث أنس في صحيح مسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " إلى غير ذلك من الأحاديث التي تقدم ذكرها في معنى ذلك والله أعلم. ويمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع فيكون أولا: رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق ثم المقيد، ثانيا: فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض، ولا سيما إن فرعنا على جواز تجزئ الاجتهاد ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإشارة بقوله: "اتخذ الناس رءوسا جهالا " وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التام، كما لا يمتنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد، وقد أخرج ابن عبد البر في " كتاب العلم " من طريق عبد الله بن وهب سمعت خلاد بن سلمان الحضرمي يقول حدثنا دراج أبو السمح يقول: "يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يسير عليها في الأمصار يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها، فلا يجد إلا من يفتيه بالظن " فيحمل على أن المراد الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وجد هذا مشاهدا ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة ولا يبقى إلا المقلد الصرف، وحينئذ يتصور خلو الزمان عن مجتهد حتى في بعض الأبواب بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل وترئيس أهله، ثم يجوز أن يقبض أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدجال أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينسب إلى العلم أصلا، ثم تهب الريح فتقبض كل مؤمن، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم فضلا عن عالم فضلا عن مجتهد ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، والعلم عند الله تعالى. وقد تقدم في أوائل " كتاب الفتن " كثير من المباحث والنقول المتعلقة بقبض العلم والله المستعان.وفي الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة. وقد يتمسك به من لا يجيز تولية الجاهل بالحكم، ولو كان عاقلا عفيفا، لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق والجاهل العفيف، فالجاهل العفيف أولى لأن ورعه يمنعه عن الحكم بغير علم فيحمله على البحث والسؤال. وفي الحديث أيضا حض أهل العلم وطلبته على أخذ بعضهم عن بعض، وفيه شهادة بعضهم لبعض بالحفظ والفضل، وفيه حض العالم طالبه على الأخذ عن غيره ليستفيد ما ليس عنده، وفيه التثبت فيما يحدث به المحدث إذا قامت قرينة الذهول ومراعاة الفاضل من جهة قول عائشة " اذهب إليه ففاتحه " حتى تسأله عن الحديث ولم تقل له سله عنه ابتداء خشية من استيحاشه.
وقال ابن بطال التوفيق بين الآية والحديث في ذم العمل بالرأي وبين ما فعله السلف من استنباط الأحكام، أن نص الآية ذم القول بغير علم، فخص به من تكلم برأي محمود عن استناد إلى أصل، ومعنى الحديث ذم من أفتى مع الجهل، ولذلك وصفهم بالضلال والإضلال، وإلا فقد مدح من استنبط من الأصل لقوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم،

(13/287)


فالرأي إذا كان مستندا إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم، قال وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضا للنص، فكأنه قال اتهموا الرأي إذا خالف السنة، كما وقع لنا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحلل فأحببنا الاستمرار على الإجرام، وأردنا القتال لنكمل نسكنا ونقهر عدونا، وخفي عنا حينئذ ما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم مما حمدت عقباه، وعمر هو الذي كتب إلى شريح " انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، فإن لم يتبين لك من كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يتبين لك من السنة فاجتهد فيه رأيك " هذه رواية سيار عن الشعبي وفي رواية الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه نحوه. وقال في آخره: "اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك " فهذا عمر أمر بالاجتهاد؛ فدل على أن الرأي الذي ذمه ما خالف الكتاب أو السنة. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن مسعود نحو حديث عمر من رواية الشيباني. وقال في آخره: "فإن جاءه ما ليس في ذلك فليجتهد رأيه فإن الحلال بين والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك". قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان، وعبدان لقب و " أبو حمزة " بالمهملة ثم الزاي هو السكري وساق المتن على لفظ أبي عوانة لأنه ساق لفظ عبدان في " كتاب الجزية " ووقعت رواية أبي عوانة مقدمة على رواية أبي حمزة، وساق المتن ثم عطف عليه رواية أبي حمزة، وفي آخره فسمعت سهل بن حنيف يقول ذلك. قوله: "قال سهل بن حنيف يا أيها الناس" قد تقدم بيان سبب خطبته بذلك في تفسير سورة الفتح، وبيان المراد بقول سهل يوم أبي جندل، وقوله: "يفظعنا " بالظاء المعجمة المكسورة بعد الفاء الساكنة، أي يوقعنا في أمر فظيع، وهو الشديد في القبح ونحوه. وقوله: "إلا أسهلن " بسكون اللام بعد الهاء والنون المفتوحتين، والمعنى أنزلتنا في السهل من الأرض أي أفضين بنا، وهو كناية عن التحول من الشدة إلى الفرج، وقوله: "بنا " في رواية الكشميهني: "بها " ومراد سهل أنهم كانوا إذا وقعوا في شدة يحتاجون فيها إلى القتال في المغازي والثبوت والفتوح العمرية، عمدوا إلى سيوفهم فوضعوها على عواتقهم، وهو كناية عن الجد في الحرب، فإذا فعلوا ذلك انتصروا، وهو المراد بالنزول في السهل، ثم استثنى الحرب التي وقعت بصفين لما وقع فيها من إبطاء النصر وشدة المعارضة من حجج الفريقين، إذ حجة علي ومن معه ما شرع لهم من قتال أهل البغي حتى يرجعوا إلى الحق، وحجة معاوية ومن معه ما وقع من قتل عثمان مظلوما، ووجود قتلته بأعيانهم في العسكر العراقي فعظمت الشبهة حتى اشتد القتال وكثر القتل في الجانبين، إلى أن وقع التحكيم فكان ما كان. قوله: "وقال أبو وائل شهدت صفين وبئست صفين" كذا لأبي ذر ولغيره: "وبئست صفون " وفي رواية النسفي مثله ولكن قال: "وبئست الصفون " بزيادة ألف ولام والمشهور في صفين كسر الصاد المهملة وبعضهم فتحها وجزم بالكسر جماعة من الأئمة والفاء مكسورة مثقلة اتفاقا، والأشهر فيها بالياء قبل النون كماردين وفلسطين وقنسرين وغيرها، ومنهم من أبدل الياء واوا في الأحوال، وعلى هاتين اللغتين فإعرابها إعراب غسلين وعربون، ومنهم من أعربها إعراب جمع المذكر السالم فتتصرف بحسب العوامل، مثل {لفي عليين، وما أدراك ما عليون} ومنهم من فتح النون مع الواو لزوما نقل كل ذلك ابن مالك ولم يذكر فتح النون مع الياء لزوما وقوله: "اتهموا رأيكم على دينكم " أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي

(13/288)


لا يستند إلى أصل من الدين، وهو كنحو قول علي فيما أخرجه أبو داود بسند حسن " لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه " والسبب في قول سهل ذلك ما تقدم بيانه في استتابة المرتدين، أن أهل الشام لما استشعروا أن أهل العراق شارفوا " أن يغلبوهم، وكان أكثر أهل العراق من القراء الذين يبالغون في التدين، ومن ثم صار منهم الخوارج الذين مضى ذكرهم، فأنكروا على علي ومن أطاعه الإجابة إلى التحكيم، فاستند علي إلى قصة الحديبية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب قريشا إلى المصالحة مع ظهور غلبته لهم، وتوقف بعض الصحابة أولا حتى ظهر لهم أن الصواب ما أمرهم به، كما مضى بيانه مفصلا في الشروط، وأول الكرماني كلام سهل بن حنيف بحسب ما احتمله اللفظ فقال: كأنهم اتهموا سهلا بالتقصير في القتال حينئذ، فقال لهم: بل اتهموا أنتم رأيكم فإني لا أقصر كما لم أكن مقصرا يوم الحديبية وقت الحاجة، فكما توقفت يوم الحديبية من أجل أني لا أخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أتوقف اليوم لأجل مصلحة المسلمين. وقد جاء عن عمر نحو قول سهل ولفظه: "اتقوا الرأي في دينكم " أخرجه البيهقي في المدخل هكذا مختصرا، وأخرجه هو والطبري والطبراني مطولا بلفظ: "اتهموا الرأي على الدين؛ فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادا، فوالله ما آلو عن الحق " وذلك يوم أبي جندل حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تراني أرضى وتأبى " والحاصل أن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص، وإلى هذا يومئ قول الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل سمعت الشافعي يقول القياس عند الضرورة، ومع ذلك فليس العامل برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد من الحكم في نفس الأمر، وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ وبالله التوفيق. وأخرج البيهقي في المدخل، وابن عبد البر في بيان العلم عن جماعة من التابعين كالحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي بأسانيد جياد، ذم القول بالرأي المجرد ويجمع ذلك كله حديث أبي هريرة " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات وقد صححه النووي في آخر الأربعين، وأما ما أخرجه البيهقي من طريق الشعبي عن عمرو بن حريث عن عمر قال: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " فظاهر في أنه أراد ذم من قال بالرأي مع وجود النص من الحديث لإغفاله التنقيب عليه فهلا يلام، وأولى منه باللوم من عرف النص وعمل، بما عارضه من الرأي، وتكلف لرده بالتأويل وإلى ذلك الإشارة بقوله في الترجمة وتكلف القياس والله أعلم. وقال ابن عبد البر في بيان العلم بعد أن ساق آثارا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه: اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم في هذه الآثار مرفوعها وموقوفها ومقطوعها، فقالت طائفة: هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في رد الأحاديث، حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر كأحاديث الشفاعة، وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها، وأنكروا الحوض والميزان وعذاب القبر، إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر. وقال أكثر أهل العلم: الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به، هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل، قال: وقال جمهور أهل العلم الرأي المذموم في الآثار المذكورة، هو القول في الأحكام بالاستحسان، والتشاغل بالأغلوطات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصول السنن وأضاف كثير منهم إلى ذلك من يتشاغل بالإكثار منها قبل وقوعها

(13/289)


لما يلزم من الاستغراق في ذلك من تعطيل السنن، وقوى ابن عبد البر هذا القول الثاني واحتج له، ثم قال: ليس أحد من علماء الأمة يثبت عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ثم يرده إلا بادعاء نسخ أو معارضة أثر غيره أو إجماع أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، ثم ختم الباب بما بلغه عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد المشهور قال: ما أحدث أحد في العلم شيئا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فلا.

(13/290)


8 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلاَ بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ
7309 - حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن بن المنكدر سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول "مرضت مرضا فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي علي فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب الدفع علي فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي كيف أقضي في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي" أي كان له إذا سئل عن الشيء الذي لم يوح إليه فيه حالان: إما أن يقول لا أدري وإما أن يسكت حتى يأتيه بيان ذلك بالوحي، والمراد بالوحي أعم من المتعبد بتلاوته ومن غيره، ولم يذكر لقوله: "لا أدري " دليلا فإن كلا من الحديثين المعلق والموصول من أمثلة الشق الثاني، وأجاب بعض المتأخرين بأنه استغنى بعدم جوابه به. وقال الكرماني في قوله في الترجمة لا أدري حزازة إذ ليس في الحديث ما يدل عليه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ذلك كذا قال، وهو تساهل شديد منه في الإقدام على نفي الثبوت كما سأبينه، والذي يظهر أنه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك ولكنه لم يثبت عنده منه شيء على شرطه، وإن كان يصلح للحجة كعادته في أمثال ذلك، وأقرب ما ورد عنده في ذلك حديث ابن مسعود الماضي في تفسير سورة ص " من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم " الحديث لكنه موقوف، والمراد منه إنما هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب " بلا أعلم " أو " لا أدري " وقد وردت فيه عدة أحاديث منها حديث ابن عمر " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي البقاع خير، قال: لا أدري، فأتاه جبريل فسأله فقال: لا أدري، فقال: سل ربك فانتفض جبريل انتفاضة " الحديث أخرجه ابن حبان، وللحاكم نحوه من حديث جبير ابن مطعم، وفي الباب عن أنس عند ابن مردويه، وأما حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا " وهو عند الدار قطني والحاكم فقد تقدم في شرح حديث عبادة من " كتاب العلم " الكلام عليه وطريق الجمع بينه وبين حديث عبادة، ووقع الإلمام بشيء من ذلك في " كتاب الحدود " أيضا. وقال ابن الحاجب: في أوائل مختصره لثبوت لا أدري وقد أوردت من ذلك ما تيسر في الأمالي في تخريج أحاديث المختصر.

(13/290)


قوله: "ولم يقل برأي ولا قياس" قال الكرماني: هما مترادفان، وقيل الرأي التفكر، والقياس الإلحاق، وقيل الرأي أعم ليدخل فيه الاستحسان ونحوه انتهى. والذي يظهر أن الأخير مراد البخاري وهو ما دل عليه اللفظ الذي أورده في الباب الذي قبله من حديث عبد الله بن عمرو. وقال الأوزاعي " العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم " وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال: "لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا " وقال أبو عبيدة معناه أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم، وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي فيقولون للسنة علم ولما عداها رأي، وعن أحمد يؤخذ العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة، فإن لم يكن فهو في التابعين مخير، وعنه ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة وما جاء عن غيرهم من الصحابة ممن قال إنه سنة لم أدفعه، وعن ابن المبارك ليكن المعتمد عليه الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر، والحاصل أن الرأي إن كان مستندا للنقل من الكتاب أو السنة فهو محمود وإن تجرد عن علم فهو مذموم، وعليه يدل حديث عبد الله بن عمرو المذكور، فإنه ذكر بعد فقد العلم أن الجهال يفتون برأيهم. قوله: "لقوله" في رواية المستملى لقول الله تعالى: {مَا أَرَاكَ اللَّهُ} وقد نقل ابن بطال عن المهلب ما معناه إنما سكت النبي صلى الله عليه وسلم في أشياء معضلة ليست لها أصول في الشريعة، فلا بد فيها من اطلاع الوحي وإلا فقد شرع صلى الله عليه وسلم لأمته القياس، وأعلمهم كيفية الاستنباط فيما لا نص فيه، حيث قال: للتي سألته: هل تحج عن أمها فالله أحق بالقضاء، وهذا هو القياس في لغة العرب، وأما عند العلماء فهو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكم في المعنى، وقد شبه الحمر بالخيل فأجاب من سأله عن الحمر بالآية الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} إلى آخرها. كذا قال: ونقل ابن التين عن الداودي ما حاصله أن الذي احتج به البخاري لما ادعاه من النفي حجة في الإثبات، لأن المراد بقوله: "بما أراك الله " ليس محصورا في المنصوص، بل فيه إذن في القول بالرأي، ثم ذكر قصة الذي قال إن امرأتي ولدت غلاما أسود هل لك من إبل؟ إلى أن قال؛ فلعله نزعه عرق. وقال: لما رأى شبها بزمعة، احتجبي منه يا سودة. ثم ذكر آثارا تدل على الإذن في القياس، وتعقبها ابن التين بأن البخاري لم يرد النفي المطلق، وإنما أراد أنه صلى الله عليه وسلم ترك الكلام في أشياء وأجاب بالرأي في أشياء، وقد بوب لكل ذلك بما ورد فيه، وأشار إلى قوله بعد بابين: باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين، وذكر فيه حديث: "لعله نزعه عرق " وحديث: "فدين الله أحق أن يقضى " وبهذا يندفع ما فهمه المهلب والداودي، ثم نقل ابن بطال الخلاف هل يجوز للنبي أن يجتهد فيما لم ينزل عليه. ثالثها: فيما يجري مجرى الوحي من منام وشبهه. ونقل أن لا نص لمالك فيه. قال: والأشبه جوازه، وقد ذكر الشافعي المسألة في الأم وذكر أن حجة من قال: أنه لم يسن شيئا إلا بأمر، وهو على وجهين إما بوحي يتلى على الناس، وإما برسالة عن الله أن أفعل كذا، قول الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية، فالكتاب ما يتلى والحكمة السنة، وهو ما جاء به عن الله بغير تلاوة، ويؤيد ذلك.قوله: "في قصة العسيف " لأقضين بينكما بكتاب الله أي بوحيه ومثله حديث يعلى بن أمية في قصة الذي سأل عن العمرة وهو لابس الجبة، فسكت حتى جاءه الوحي فلما سرى عنه أجابه وأخرج الشافعي من طريق طاوس أن عنده كتابا في العقول نزل به الوحي وأخرج البيهقي بسند صحيح عن حسان بن عطية أحد التابعين من ثقات الشاميين " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن"

(13/291)


ويجمع ذلك كله "وما ينطق عن الهوى" الآية. ثم ذكر الشافعي أن من وجوه الوحي ما يراه في المنام. وما يلقيه روح القدس في روعه. ثم قال: ولا تعدو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وصفت انتهى. واحتج من ذهب إلى أنه كان يجتهد بقول الله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} والأنبياء أفضل أولي الأبصار. ولما ثبت من أجر المجتهد ومضاعفته. والأنبياء أحق بما فيه جزيل الثواب ثم ذكر ابن بطال أمثلة مما عمل فيه صلى الله عليه وسلم بالرأي من أمر الحرب وتنفيذ الجيوش وإعطاء المؤلفة وأخذ الفداء من أسارى بدر، واستدل بقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} قال ولا تكون المشورة إلا فيما لا نص فيه، واحتج الداودي بقول عمر أن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا، وإنما هو منا الظن والتكلف. وقال الكرماني: قال المجوزون كأن التوقف فيما لم يجد له أصلا يقيس عليه، وإلا فهو مأمور به لعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} انتهى. وهو ملخص مما تقدم. واحتج ابن عبد البر لعدم القول بالرأي بما أخرجه من طريق ابن شهاب " أن عمر خطب فقال: يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا، لأن الله عز وجل يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف " وبهذا يمكن التمسك به لمن يقول كان يجتهد، لكن لا يقع فيما يجتهد فيه خطأ أصلا، وهذا في حقه صلى الله عليه وسلم فأما من بعده فإن الوقائع كثرت والأقاويل انتشرت، فكان السلف يتحرزون من المحدثات. ثم انقسموا ثلاث فرق: الأولى تمسكت بالأمر، وعملوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " فلم يخرجوا في فتاويهم عن ذلك، وإذا سئلوا عن شيء لا نقل عندهم فيه أمسكوا عن الجواب وتوقفوا والثانية: قاسوا ما لم يقع على ما وقع وتوسعوا في ذلك، حتى أنكرت عليهم الفرقة الأولى كما تقدم ويجيء. والثالثة: توسطت فقدمت الأثر ما دام موجودا فإذا فقد قاسوا. قوله: "وقال ابن مسعود سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح فسكت حتى نزلت الآية" هو طرف من الحديث الذي مضى قريبا في آخر باب " ما يكره من كثرة السؤال " موصولا إلى ابن مسعود. لكنه ذكره فيه بلفظ: "فقام ساعة ينظر " وأورده بلفظ: "فسكت " في " كتاب العلم " وأورده في تفسير {سُبْحَانَ} بلفظ: "فأمسك " وفي رواية مسلم: "فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا " ثم ذكر حديث جابر في مرضه، وسؤاله كيف أصنع في مالي؟ قال: فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث، وهو ظاهر فيما ترجم له وقد مضى شرحه مستوفي في تفسير سورة النساء.

(13/292)


9 - باب تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ُوَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ
7310 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ فَقَالَ اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ اثْنَيْنِ قَالَ فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ

(13/292)


قوله: "باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل" قال المهلب: مراده أن العالم إذا كان يمكنه أن يحدث بالنصوص، لا يحدث بنظره ولا قياسه انتهى. والمراد بالتمثيل القياس وهو إثبات مثل حكم معلوم في آخر لاشتراكهما في علة الحكم، والرأي أعم وذكر فيه حديث أبي سعيد: في سؤال المرأة قد ذهب الرجال بحديثك، وفيه: "فأتاهن فعلمهن مما علمه الله " وفيه ثم قال: "ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة " وقد مضى شرحه مستوفى في أول " كتاب الجنائز " وفي العلم وقوله: "جاءت امرأة " لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت زيد بن السكن وقوله هنا " فأتاهن فعلمهن مما علمه الله " تقدم هناك بلفظ: "فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن فأمرهن فكان فيما قال لهن " فذكر نحو ما هنا ولم أر في شيء من طرقه بيان ما علمهن، لكن يمكن أن يؤخذ من حديث أبي سعيد الآخر الماضي في " كتاب الزكاة " وفيه: "فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار " الحديث وفيه: "فقامت امرأة فقالت لم " وفيه: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، وأليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم " وقد مضى شرحه مستوفى هناك، وأن المرأة المذكورة هي أسماء قال الكرماني موضع الترجمة من الحديث قوله: "كن لها حجابا من النار " فإنه أمر توقيفي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى لا دخل للقياس والرأي فيه.

(13/293)


10 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ
7311 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ
7312 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ
قوله: "باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم عن ثوبان، وبعده " لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " وله من حديث جابر مثله، لكن قال: "يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة " وله من حديث معاوية المذكور في الباب نحوه. قوله: "وهم أهل العلم" هو من كلام المصنف وأخرج الترمذي حديث الباب ثم قال سمعت محمد ابن إسماعيل هو البخاري يقول، سمعت علي بن المديني يقول هم أصحاب الحديث، وذكر في " كتاب خلق أفعال العباد " عقب حديث أبي سعيد في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} هم الطائفة المذكورة في حديث: "لا تزال طائفة من أمتي " ثم ساقه وقال وجاء نحوه عن أبي هريرة ومعاوية وجابر وسلمة بن نفيل وقرة ابن إياس انتهى. وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، ومن طريق يزيد بن هارون مثله " وزعم بعض الشراح أنه استفاد ذلك من حديث معاوية لأن فيه: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وهو في غاية البعد. وقال الكرماني يؤخذ من الاستقامة المذكورة في الحديث الثاني أن من جملة الاستقامة أن يكون التفقه، لأنه الأصل قال وبهذا ترتبط

(13/293)


الأخبار المذكورة في حديث معاوية، لأن الاتفاق لا بد منه، أي المشار إليه بقوله: "وإنما أنا قاسم ويعطى الله عز وجل". قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى" هو العبسي بالموحدة ثم المهملة الكوفي من كبار شيوخ البخاري، وهو من أتباع التابعين وشيخه في هذا الحديث: "إسماعيل " هو ابن أبي خالد تابعي مشهور، وشيخ إسماعيل " قيس " هو ابن أبي حازم من كبار التابعين، وهو مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ولهذا الإسناد حكم الثلاثيات وإن كان رباعيا، وقد تقدم بعد علامات النبوة ببابين من رواية يحيى القطان عن إسماعيل أنزل من هذا بدرجة، ورجال سند الباب كلهم كوفيون لأن المغيرة ولي إمرة الكوفة غير مرة وكانت وفاته بها وقد اتفق الرواة عن إسماعيل على أنه عن قيس عن المغيرة، وخالفهم أبو معاوية فقال عن سعيد بدل المغيرة فأورده أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام. وقال الصواب قول الجماعة عن المغيرة، وحديث سعد عند مسلم لكن من طريق ابن عثمان عن سعد. قوله: "لا تزال" بالمثناة أوله وفي رواية مسلم من طريق مروان الفزاري عن إسماعيل " لن يزال قوم " وهذه بالتحتانية والباقي مثله لكن زاد: " ظاهرين على الناس" . قوله: "حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" أي على من خالفهم أي غالبون، أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين بل مشهورون والأول أولى، وقد وقع عند مسلم من حديث جابر بن سمرة " لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة " وله في حديث عقبة بن عامر " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة " وقد ذكرت الجمع بينه وبين حديث: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " في أواخر " كتاب الفتن " والقصة التي أخرجها مسلم أيضا من حديث عبد الله بن عمرو " لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم " ومعارضة عقبة بن عامر بهذا الحديث فقال عبد الله أجل، ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته " ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة " وقد أشرت إلى هذا قريبا إلى الكلام على حديث: "قبض العلم " وأن هذا أولى ما يتمسك به في الجمع بين الحديثين المذكورين، وذكرت ما نقله ابن بطال عن الطبري في الجمع بينهما، أن شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة يكونون بموضع مخصوص، وأن موضعا آخر يكون به طائفة يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم، ثم أورد من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب، وزاد فيه: "قيل يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس " وأطال في تقرير ذلك وذكرت أن المراد بأمر الله: هبوب تلك الريح وأن المراد بقيام الساعة: ساعتهم وأن المراد بالذين يكونون ببيت المقدس: الذين يحصرهم الدجال إذا خرج فينزل عيسى إليهم فيقتل الدجال، ويظهر الدين في زمن عيسى، ثم بعد موت عيسى تهب الريح المذكورة، فهذا هو المعتمد في الجمع، والعلم عند الله تعالى. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس " وابن وهب " هو عبد الله و " يونس " هو ابن يزيد و " حميد " هو ابن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب" في رواية عمير بن هانئ " سمعت معاوية على المنبر يقول: "وقد مضى في علامات النبوة، ويأتي في التوحيد وفي رواية يزيد بن الأصم " سمعت معاوية " وذكر حديثا ولم أسمعه " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثا غيره: "أخرجه مسلم. قوله : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" تقدم شرح هذا في " كتاب العلم " وقوله: "وإنما أنا قاسم ويعطي الله " تقدم في العلم بلفظ: "والله المعطي " وفي فرض الخمس من وجه آخر " والله المعطي وأنا القاسم " وتقدم شرحه هناك أيضا. قوله: "ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله" في

(13/294)


رواية عمير بن هانئ " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله " وتقدم بعد بابين من باب علامات النبوة من هذا الوجه بلفظ: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك " وزاد قال عمير فقال مالك بن يخامر قال معاذ " وهم بالشام " وفي رواية يزيد بن الأصم " ولا تزال عصابة من المسلمين ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة " قال صاحب المشارق في قوله: "لا يزال أهل الغرب " يعني الرواية التي في بعض طرق مسلم وهي بفتح الغين المعجمة وسكون الراء، ذكر يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني قال: المراد بالغرب، الدلو أي الغرب بفتح المهملتين لأنهم أصحابها لا يستقي بها أحد غيرهم لكن في حديث معاذ وهم أهل الشام فالظاهر أن المراد بالغرب البلد لأن الشام غربي الحجاز كذا قال: ليس بواضح، ووقع في بعض طرق الحديث: "المغرب " بفتح الميم وسكون المعجمة وهذا يرد تأويل الغرب بالعرب، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه أن المراد الإقليم لا صفة بعض أهله، وقيل المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال في لسانه غرب بفتح ثم سكون أي حدة، ووقع في حديث أبي أمامة عند أحمد أنهم ببيت المقدس، وأضاف بيت إلى المقدس، وللطبراني من حديث النهدي نحوه، وفي حديث أبي هريرة في الأوسط للطبراني " يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين إلى يوم القيامة". قلت: ويمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شامية ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو وحدة وجد. "تنبيه" اتفق الشراح على أن معنى قوله: "على من خالفهم " أن المراد علوهم عليهم بالغلبة وأبعد من أبدع فرد على من جعل ذلك منقبة لأهل الغرب أنه مذمة لأن المراد بقوله: "ظاهرين على الحق " أنهم غالبون له وأن الحق بين أيديهم كالميت، وأن المراد بالحديث ذم الغرب وأهله لا مدحهم، قال النووي فيه أن الإجماع حجة، ثم قال يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين. ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله، انتهى ملخصا مع زيادة فيه، ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعي ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا

(13/295)


11 - باب فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}
7313 - علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول

(13/295)


"ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْ {هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال أعوذ بوجهك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال أعوذ بوجهك فلما نزلت {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال هاتان أهون أو أيسر "
قوله: "باب في قول الله تعالى أو يلبسكم شيعا" ذكر فيه حديث جابر في نزول قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة الأنعام، ووجه مناسبته لما قبله أن ظهور بعض الأمة على عدوهم دون بعض يقتضي أن بينهم اختلافا حتى انفردت طائفة منهم بالوصف، لأن غلبة الطائفة المذكورة إن كانت على الكفار ثبت المدعي، وإن كانت على طائفة من هذه الأمة أيضا فهو أظهر في ثبوت الاختلاف فذكر بعده أصل وقوع الاختلاف وأنه صلى الله عليه وسلم كان يريد أن لا يقع فأعلمه الله تعالى أنه قضى بوقوعه، وإن كل ما قدره لا سبيل إلى رفعه، قال ابن بطال أجاب الله تعالى دعاء نبيه في عدم استئصال أمته بالعذاب، ولم يجبه في أن لا يلبسهم شيعا، أي فرقا مختلفين وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض أي بالحرب والقتل بسبب ذلك، وإن كان ذلك من عذاب الله لكن أخف من الاستئصال وفيه للمؤمنين كفارة.

(13/296)


12 - باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ
7314 - حدثنا أصبغ بن الفرج حدثني بن وهب عن يونس عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "عن أبي هريرة أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال إن فيها لورقا قال فأنى ترى ذلك جاءها قال يا رسول الله عرق نزعها قال ولعل هذا عرق نزعه ولم يرخص له في الانتفاء منه "
7315 - حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته قالت نعم فقال فاقضوا الله الذي له فإن الله أحق بالوفاء"
قوله: "باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمهما ليفهم السائل" في رواية الكشميهني والإسماعيلي والجرجاني قد بين الله بحذف " الواو " وبحذف " النبي " والأول أولى، وحذف الواو يوافق ترجمة المصنف الماضية، قال مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل، أي أن الذي ورد عنه من التمثيل إنما هو تشبيه أصل بأصل، والمشبه أخفى عند السائل من المشبه به، وفائدة التشبيه التقريب لفهم السائل وأورده النسائي بلفظ: "من

(13/296)


شبه أصلا معلوما بأصل مبهم، قد بين الله حكمهما ليفهم السائل " وهذا أوضح في المراد ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة الذي قال: "إن امرأتي ولدت غلاما أسود " وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا، وتقدم شرحه مستوفى في " كتاب اللعان " وحديث ابن عباس في قصة المرأة التي ذكرت أن أمها نذرت أن تحج فماتت، أفأحج عنها، وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا أيضا، وتقدم شرحه مستوفى في الحج، قال ابن بطال التشبيه والتمثيل هو القياس عند العرب، وقد احتج المزني بهذين الحديثين على من أنكر القياس، قال: وأول من أنكر القياس إبراهيم النظام وتبعه بعض المعتزلة، وممن ينسب إلى الفقه داود بن علي، وما اتفق عليه الجماعة هو الحجة، فقد قاس الصحابة فمن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار وبالله التوفيق، وتعقب بعضهم الأولية التي ادعاها بان بطال بأن إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء الكوفة، وعن محمد بن سيرين من فقهاء البصرة وقال الكرماني عقد هذا الباب وما فيه يدل على صحة القياس وأنه ليس مذموما. لكن لو قال من شبه أمرا معلوما لوافق اصطلاح أهل القياس، قال: وأما الباب الماضي المشعر بذم القياس وكراهته، فطريق الجمع بينهما أن القياس على نوعين: صحيح وهو المشتمل على جميع الشرائط؛ وفاسد وهو بخلاف ذلك، فالمذموم هو الفاسد، وأما الصحيح فلا مذمة فيه بل هو مأمور به انتهى، وقد ذكر الشافعي شرط من له أن يقيس فقال: يشترط أن يكون عالما بالأحكام من كتاب الله تعالى وبناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه، ويستدل على ما احتمل التأويل بالسنة وبالإجماع، فإن لم يكن فبالقياس على ما في الكتاب، فإن لم يكن فبالقياس على ما في السنة، فإن لم يكن فبالقياس على ما اتفق عليه السلف وإجماع الناس، ولم يعرف له مخالف قال: ولا يجوز القول في شيء من العلم إلا من هذه الأوجه، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات ولا يعجل، ويستمع ممن خالفه ليتنبه بذلك على غفلة إن كانت، وأن يبلغ غاية جهده وينصف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما قال، والاختلاف على وجهين فما كان منصوصا لم يحل فيه الاختلاف عليه، وما كان يحتمل التأويل أو يدرك قياسا فذهب المتأول أو القائس إلى معنى يحتمل وخالفه غيره، لم أقل أنه يضيق عليه ضيق المخالف للنص، وإذا قاس من له القياس فاختلفوا وسع كلا أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولم يسعه اتباع غيره فيما أداه إليه اجتهاده. وقال ابن عبد البر - في بيان العلم بعد أن ساق هذا الفصل - قد أتى الشافعي رحمه الله في هذا الباب بما فيه كفاية وشفاء والله الموفق؛ وقال ابن العربي وغيره: القرآن هو الأصل، فإن كانت دلالته خفية نظر في السنة فإن بينته وإلا فالجلي من السنة، وإن كانت الدلالة منها خفية نظر فيما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا رجح فإن لم يوجد عمل بما يشبه نص الكتاب السنة ثم السنة ثم الاتفاق ثم الراجح كما سقته عنه في شرح حديث أنس " لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه " في أوائل " كتاب الفتن " وأنشد ابن عبد البر لأبي محمد اليزيدي النحوي المقرئ برواية أبي عمرو بن العلاء من أبيات طويلة في إثبات القياس:
لا تكن كالحمار يحمل أسفا ... را كما قد قرأت في القرآن
إن هذا القياس في كل أمر ... عند أهل العقول كالميزان
لا يجوز القياس في الدين إلا ... لفقيه لدينه صوان

(13/297)


ليس يغني عن جاهل قول راو ... عن فلان وقوله عن فلان
إن أتاه مسترشدا أفتاه ... بحديثين فيهما معنيان
إن من يحمل الحديث ولا يعـ ... ـرف فيه المراد كالصيدلاني
حكم الله في الجزاء ذوي عد ... ل لذي الصيد بالذي يريان
لم يوقت ولم يسم ولكن ... قال فيه فليحكم العدلان
ولنا في النبي صلى عليـ ... ـه الله والصالحون كل أوان
أسوة في مقاله لمعاذ ... اقض بالرأي إن أتى الخصمان
وكتاب الفاروق يرحمه الله ... إلى الأشعري في تبيان
قس إذا أشكلت عليك أمور ... ثم قل بالصواب والعرفان
وتعقب بعضهم الأولية التي ادعاها ابن بطال بأن إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة، ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء الكوفة، وعن محمد بن سيرين من فقهاء البصرة وذلك مشهور عنهم، نقله ابن عبد البر ومن قبله الدارمي وغيره عنهم وعن غيرهم، والمذهب المعتدل ما قاله الشافعي " أن القياس مشروع عند الضرورة " لا أنه أصل برأسه.

(13/298)


13 - باب مَا جَاءَ فِي اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} وَمَدَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لاَ يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ
7316 - حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا
7317 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينًا فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ مَا هُوَ قُلْتُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِي بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ
7318 - فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ

(13/298)


قوله: "باب ما جاء في اجتهاد القضاء" كذا لأبي ذر والنسفي وابن بطال وطائفة، القضاء بفتح أوله والمد وإضافة الاجتهاد إليه بمعنى الاجتهاد فيه والمعنى: الاجتهاد في الحكم بما أنزل الله تعالى، أو فيه حذف تقديره اجتهاد متولي القضاء، ووقع في رواية غيرهم " القضاة " بصيغة الجمع، وهو واضح لكن سيأتي بعد قليل الترجمة لاجتهاد الحاكم فيلزم التكرار، والاجتهاد: بذل الجهد في الطلب واصطلاحا: بذل الوسع للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي. قوله: "بما أنزل الله، ولقوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} " كذا للأكثر، وللنسفي {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية، وترجم في أوائل الأحكام للحديث الأول من الباب: "أجر من قضى بالحكمة " لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وفيه إشارة إلى أن الوصف بالصفتين ليس واحدا خلافا لمن قال إحداهما في النصارى، والأخرى في المسلمين، والأولى لليهود والأظهر العموم، واقتصر المصنف على تلاوة الآيتين لإمكان تناولهما المسلمين بخلاف الأولى. فإنها في حق من استحل الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى، وأما الأخرتان فهما لأعم من ذلك. قوله: "ومدح النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الحكمة حين يقضي بها ويعلمها، ولا يتكلف من قبله" يجوز في مدح فتح الدال على أنه فعل ماض، ويجوز تسكينها على أنه اسم والحاء مجرورة وهو مضاف للفاعل واختلف في ضبط قبله، فللأكثر بفتح الموحدة بعد القاف المكسورة أي من جهته، وللكشميهني بتحتانية ساكنة بدل الموحدة أي من كلامه، وعند النسفي من قبل نفسه. قوله: "ومشاورة الخلفاء وسؤالهم أهل العلم" ذكر فيه حديثين الأول للشق الأول والثاني للثاني. حديث ابن مسعود " لا حسد إلا في اثنتين " وقد تقدم سندا ومتنا في أول " كتاب الأحكام " وترجم له أجر من قضى بالحكمة، وتقدم الكلام عليه ثمة. حديث المغيرة قال: "سأل عمر عن إملاص المرأة " وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر الديات أخرجه عاليا عن عبيد الله بن موسى عن هشام بن عروة، ومن وجهين آخرين عن هشام، وقوله هنا " حدثنا محمد " هو ابن سلام كما جزم به ابن السكن، وقد أخرج البخاري في النكاح حديثا عن محمد بن سلام منسوبا لأبيه عند الجميع عن أبي معاوية، فهذه قرينة تؤيد قول ابن السكن واحتمال كونه محمد بن المثنى بعيد، وإن كان أخرج في الطهارة عن محمد بن خازم بمعجمتين حديثا وهو أبو معاوية، لكن المهمل إنما يحمل على من يكون لمن أهمله به اختصاص، واختصاص البخاري بمحمد بن سلام مشهور، وقوله في آخره: "تابعه ابن أبي الزناد " يعني عبد الرحمن "عن أبيه" وهو عبد الله بن ذكوان وهو بكنيته أشهر وسقط هذا للنسفي. قوله: "عن عروة عن المغيرة" كذا للأكثر وهو الصواب، ووقع في رواية الكشميهني عن الأعرج عن أبي هريرة وهو غلط، فقد رويناه موصولا عن البخاري نفسه، وهو في الجزء الثالث عشر من فوائد الأصبهانيين عن المحاملي، قال: "حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، حدثني بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة عن المغيرة " وكذلك أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد، ولم ينبه الحميدي في الجمع، ولا المزي في الأطراف، ولا أحد من الشراح على هذا الموضع، قال ابن بطال: لا يجوز للقاضي الحكم إلا بعد طلب حكم الحادثة من الكتاب أو السنة، فإن عدمه رجع إلى الإجماع فإن لم يجده نظر هل يصح الحمل على بعض الأحكام المقررة لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها، إلا إن عارضتها علة أخرى فيلزمه الترجيح، فإن لم يجد علة استدل بشواهد الأصول وغلبة الاشتباه، فإن لم يتوجه له شيء من ذلك رجع إلى حكم العقل، قال: هذا قول ابن الطيب، يعني أبا بكر الباقلاني، ثم أشار إلى إنكار

(13/299)


كلامه الأخير بقوله تعالى: {ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقد علم الجميع بأن النصوص لم تحط بجميع الحوادث فعرفنا أن الله قد أبان حكمها بغير طريق النص وهو القياس، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لأن الاستنباط هو الاستخراج وهو بالقياس، لأن النص ظاهر، ثم ذكر في الرد على منكري القياس وألزمهم التناقض، لأن من أصلهم إذا لم يوجد النص الرجوع إلى الإجماع. قال: فيلزمهم أن يأتوا بالإجماع على ترك القول بالقياس ولا سبيل لهم إلى ذلك، فوضح أن القياس إنما ينكر إذا استعمل مع وجود النص أو الإجماع لا عند فقد النص والإجماع. وبالله التوفيق.

(13/300)


14 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
7319 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ فَقَالَ وَمَنْ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ
7320 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ مِنْ الْيَمَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ ؟
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن" بمثناتين مفتوحتين ثم موحدة مكسورة وعين مهملة مضمومة ونون ثقيلة، وأصله تتبعون "سنن" بالمهملة والنون بعدها نون أخرى "من كان قبلكم" بفتح اللام، ولفظ الترجمة مطابق للفظ. قوله: "عن المقبري" هو سعيد وسماه الإسماعيلي في روايته عن إبراهيم بن شريك عن أحمد ابن يونس شيخ البخاري فيه. قوله: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها" كذا هنا بموحدة مكسورة وألف مهموزة وخاء معجمة ثم معجمة، والأخذ بفتح الألف وسكون الخاء على الأشهر هو السيرة، يقال أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته، وما أخذ أخذه، أي ما فعل فعله ولا قصد قصده، وقيل الألف مثلثة وقرأه بعضهم " إخذ " بفتح الخاء جمع إخذة بكسر أوله مثل كسرة كسر، ووقع في رواية الأصيلي على ما حكاه ابن بطال " بما أخذ القرون " بموحدة وما الموصولة، وأخذ بلفظ الفعل الماضي، وهي رواية الإسماعيلي. وفي رواية النسفي " مأخذ " بميم مفتوحة وهمزة ساكنة، و " القرون " جمع قرن بفتح القاف وسكون الراء الأمة من الناس، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب " الأمم والقرون". قوله: "شبرا بشبر وذراعا بذراع" في رواية الكشميهني: "شبرا شبرا وذراعا ذراعا". قوله: "فقيل يا رسول الله" في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الصمد بن النعمان عن ابن أبي ذئب " فقال رجل " ولم أقف عليه مسمى. قوله: "كفارس والروم" يعني الأمتين المشهورتين في ذلك الوقت، وهم الفرس في ملكهم كسرى، والروم في ملكهم قيصر وفي رواية الإسماعيلي المذكورة " كما فعلت فارس والروم". قوله: "ومن الناس إلا أولئك" أي فارس والروم، لكونهم كانوا إذ ذاك

(13/300)


أكبر ملوك الأرض وأكثرهم رعية وأوسعهم بلادا. قوله: "حدثنا محمد بن عبد العزيز" هو الرملي " وأبو عمر الصنعاني " بمهملة ثم نون هو حفص ابن ميسرة، وقوله: "من اليمن " أي هو رجل من اليمن أي هو من صنعاء اليمن لا من صنعاء الشام، وقيل المراد أصله من اليمن وهو من صنعاء الشام ونزل عسقلان. قوله: "لتتبعن سنن" بفتح السين للأكثر. وقال ابن التين قرأناه بضمها. وقال المهلب بالفتح أولى لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشبر وهو الطريق. قلت: وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك. قوله: "شبرا شبرا، وذراعا ذراعا" في رواية الكشميهني: "شبرا بشبر وذراعا بذراع " عكس الذي قبله، قال عياض الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه. قوله: "جحر" بضم الجيم وسكون المهملة، و " الضب " الحيوان المعروف تقدم الكلام عليه في ذكر بني إسرائيل. قوله: "قلنا" لم أقف على تعيين القائل. قوله: "قال فمن" هو استفهام إنكار والتقدير: فمن هم غير أولئك، وقد أخرج الطبراني من حديث المستورد بن شداد رفعه: "لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه " ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الشافعي بسند صحيح " لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرها " قال ابن بطال: أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس. قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك. وقال الكرماني: حديث أبي هريرة مغاير لحديث أبي سعيد لأن الأول فسر بفارس والروم، والثاني باليهود والنصارى، لكن الروم نصارى وقد كان في الفرس يهود، أو ذكر ذلك على سبيل المثال لأنه قال في السؤال كفارس انتهى. وذكر عليه جوابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ومن الناس إلا أولئك " لأن ظاهره الحصر فيهم، وقد أجاب عنه الكرماني بأن المراد حصر الناس المعهود من المتبوعين. قلت: ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث كان ملك البلاد منحصرا في الفرس والروم وجميع من عداهم من الأمم من تحت أيديهم أو كلا شيء بالنسبة إليهم، فصح الحصر بهذا الاعتبار، ويحتمل أن يكون الجواب اختلف بحسب المقام، فحيث قال فارس والروم كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية، وحيث قيل اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات أصولها وفروعها، ومن ثم كان في الجواب عن الأول " ومن الناس إلا أولئك " وأما الجواب في الثاني بالإبهام فيؤيد الحمل المذكور وأنه كان هناك قرينة تتعلق بما ذكرت، واستدل ابن عبد البر في باب ذم القول بالرأي إذا كان على غير أصل بما أخرجه من جامع ابن وهب " أخبرني يحيى بن أيوب عن هشام بن عروة أنه سمع أباه يقول: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأحدثوا فيهم القول بالرأي وأضلوا بني إسرائيل " قال: وكان أبي يقول: "السنن السنن فإن السنن قوام الدين " وعن ابن وهب أخبرني بكر بن مضر عمن سمع ابن شهاب الزهري وهو يذكر ما وقع الناس فيه من الرأي وتركهم السنن، فقال: "إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين استقلوا الرأي وأخذوا فيه: "وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول عن أنس " قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم " وفي مصنف قاسم بن أصبغ بسند صحيح عن عمر " فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير،

(13/301)


وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغير " وذكر أبو عبيد أن المراد بالصغر في هذا صغر القدر لا السن والله أعلم.

(13/302)


15 - باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الْآيَةَ
7321 - حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على بن آدم الأول كفل منها وربما قال سفيان من دمها لأنه أول من سن القتل أولا "
قوله: "باب إثم من دعا إلى ضلالة، أو سن سنة سيئة" لقوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ورد فيما ترجم به حديثان بلفظ: وليسا على شرطه، واكتفى بما يؤدي معناهما وهما ما ذكرهما من الآية والحديث، فأما حديث: "من دعا إلى ضلالة " فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " وأما حديث: "من سن سنة سيئة " فأخرجه مسلم من رواية عبد الرحمن ابن هلال عن جرير بن عبد الله البجلي في حديث طويل قال فيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا " وأخرجه من طريق المنذر بن جرير عن أبيه مثله لكن قال: "شيء " في الموضعين بالرفع، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن جرير بلفظ: "من سن سنة خير، ومن سن سنة شر " وأما الآية فقال مجاهد في قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} قال: حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم شيئا. وأخرج عن الربيع بن أنس أنه فسر الآية المذكورة بحديث أبي هريرة المذكور، ذكره مرسلا بغير سند، وأما حديث الباب عن عبد الله بن مسعود فقد مضى شرحه في أول " كتاب القصاص " وتقدم البحث في المراد بالمفارق للجماعة المذكور فيه، قال المهلب: هذا الباب والذي قبله في معنى التحذير من الضلال، واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين، والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين انتهى. ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر، ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة، وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده، ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها.

(13/302)


16 - باب مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ

(13/302)


17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ
7346 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فِي الأَخِيرَةِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
قوله: "باب قول الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} ذكر فيه حديث ابن عمر في سبب نزولها، وقد تقدم

(13/312)


بيانه في تفسير آل عمران، وتقدم شيء من شرحه وتسميته المدعو عليهم في غزوة أحد، قال ابن بطال: دخول هذه الترجمة في " كتاب الاعتصام " من جهة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المذكورين لكونهم لم يذعنوا للإيمان ليعتصموا به من اللعنة، وأن معنى قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} هو معنى قوله {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} انتهى. ويحتمل أن يكون مراده الإشارة إلى الخلافية المشهورة في أصول الفقه، وهي هل كان له صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام أو لا؟ وقد تقدم بسط ذلك قبل ثمانية أبواب. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك و " سالم " هو ابن عبد الله بن عمر، ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك في تفسير آل عمران " حدثني سالم عن ابن عمر". قوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر، ورفع رأسه" الجملة حالية، أي قال ذلك حال رفع رأسه من الركوع. قوله: "قال اللهم ربنا ولك الحمد" قال الكرماني جعل ذلك القول كالفعل اللازم، أي يفعل القول المذكور أو هناك شيء محذوف. قلت: لم يذكر تقديره ويحتمل أن يكون بمعنى قائلا، أو لفظ قال المذكور زائدا، ويؤيده أنه وقع في رواية حبان بن موسى بلفظ: "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر يقول اللهم " ويؤخذ منه أن محل القنوت عند رفع الرأس من الركوع لا قبل الركوع، وقوله: "قال اللهم ربنا ولك الحمد " معين لكون الرفع من الركوع لأنه ذكر الاعتدال، وقوله: "في الأخيرة " أي الركعة الأخيرة وهي الثانية من صلاة الصبح، كما صرح بذلك في رواية حبان بن موسى وظن الكرماني أن قوله في الآخرة متعلق بالحمد، وأنه بقية الذكر الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتدال، فقال فإن قلت ما وجه التخصيص بالآخرة مع أن له الحمد في الدنيا، ثم أجاب بأن نعيم الآخرة أشرف، فالحمد عليه هو الحمد حقيقة، أو المراد بالآخرة العاقبة أي مآل كل الحمود إليه انتهى. وليس لفظ: "في الآخرة " من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام ابن عمر، ثم ينظر في جمعه الحمد على حمود، قوله: "فلانا وفلانا" قال الكرماني: يعني رعلا وذكوان ووهم في ذلك، وإنما سمى ناسا بأعيانهم لا القبائل كما بينته في تفسير آل عمران.

(13/313)


18 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
7347 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ أَلاَ تُصَلُّونَ فَقَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ مَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ وَيُقَالُ الطَّارِقُ النَّجْمُ وَ الثَّاقِبُ الْمُضِيءُ يُقَالُ أَثْقِبْ نَارَكَ لِلْمُوقِدِ

(13/313)


7348 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا فَقَالُوا قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أُرِيدُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا فَقَالُوا قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أُرِيدُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ اعْلَمُوا أَنَّمَا الأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلاَ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
قوله: "باب {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ، وقوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} "ذكر فيه حديثين: حديث علي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تصلون " وجوابه بقوله: "إنما أنفسنا بيد الله " وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم الآية، وهو متعلق بالركن الأول من الترجمة. وحديث أبي هريرة في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في بيت مدراسهم، وهو متعلق بالركن الثاني منها كما سأذكره. قال الكرماني الجدال: هو الخصام ومنه قبيح وحسن وأحسن، فما كان للفرائض فهو أحسن، وما كان للمستحبات فهو حسن، وما كان لغير ذلك فهو قبيح، قال: أو هو تابع للطريق، فباعتباره يتنوع أنواعا وهذا هو الظاهر انتهى. ويلزم على الأول أن يكون في المباح قبيحا، وفاته تنويع القبيح إلى أقبح وهو ما كان في الحرام، وقد تقدم شرح حديث علي في الدعوات، ويؤخذ منه أن عليا ترك فعل الأولى، وإن كان ما احتج به متجها، ومن ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية ولم يلزمه مع ذلك بالقيام إلى الصلاة، ولو كان امتثل وقام لكان أولى، ويؤخذ منه الإشارة إلى مراتب الجدال فإذا كان فيما لا بد له منه تعين نصر الحق بالحق، فإن جاوز الذي ينكر عليه المأمور نسب إلى التقصير، وإن كان في مباح اكتفى فيه بمجرد الأمر والإشارة إلى ترك الأولى، وفيه أن الإنسان طبع على الدفاع عن نفسه بالقول والفعل، وأنه ينبغي له أن يجاهد نفسه أن يقبل النصيحة ولو كانت في غير واجب. وأن لا يدفع إلا بطريق معتدلة من غير إفراط ولا تفريط، ونقل ابن بطال عن المهلب ما ملخصه: أن عليا لم يكن له أن يدفع ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الصلاة بقوله ذلك، بل كان عليه الاعتصام بقوله، فلا حجة لأحد في ترك المأمور انتهى، ومن أين له أن عليا لم يمتثل ما دعاه إليه فليس في القصة تصريح بذلك، وإنما أجاب على بما ذكر اعتذارا عن تركه القيام بغلبة النوم، ولا يمتنع أنه صلى عقب هذه المراجعة إذ ليس في الخبر ما ينفيه. وقال الكرماني حرضهم النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الكسب والقدرة الكاسبة، وأجاب علي باعتبار القضاء والقدر، قال: وضرب النبي صلى الله عليه وسلم فخذه تعجبا من سرعة جواب علي، ويحتمل أن يكون تسليما لما قال: وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، في هذا الحديث من الفوائد مشروعية التذكير للغافل خصوصا القريب والصاحب، لأن الغفلة من طبع البشر فينبغي للمرء أن يتفقد نفسه ومن يحبه بتذكير الخير والعون عليه، وفيه أن الاعتراض بأثر الحكمة لا يناسبه الجواب. بأثر القدرة، وأن للعالم إذا تكلم بمقتضى الحكمة في أمر غير واجب، أن يكتفي من الذي كلمه في احتجاجه بالقدرة، يؤخذ الأول من ضربه صلى الله عليه وسلم على فخذه، والثاني من عدم إنكاره بالقول صريحا.قال: وإنما لم يشافهه بقوله {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} لعلمه أن عليا

(13/314)


لا يجهل أن الجواب بالقدرة ليس من الحكمة، بل يحتمل أن لهما عذرا يمنعهما من الصلاة فاستحيا على من ذكره، فأراد دفع الخجل عن نفسه وعن أهله فاحتج بالقدرة، ويؤيده رجوعه صلى الله عليه وسلم عنهم مسرعا، قال: ويحتمل أن يكون علي أراد بما قال استدعاء جواب يزداد به فائدة، وفيه جواز محادثة الشخص نفسه فيما يتعلق بغيره، وجواز ضربه بعض أعضائه عند التعجب وكذا الأسف، ويستفاد من القصة أن من شأن العبودية أن لا يطلب لها مع مقتضى الشرع معذرة إلا الاعتراف بالتقصير والأخذ في الاستغفار، وفيه فضيلة ظاهرة لعلي من جهة عظم تواضعه لكونه روى هذا الحديث مع ما يشعر به عند من لا يعرف مقداره أنه يوجب غاية العتاب، فلم يلتفت لذلك بل حدث به لما فيه من الفوائد الدينية انتهى ملخصا. وقوله في السند الثاني " حدثني محمد " وقع عند النسفي غير منسوب، ووقع عند أبي ذر وغيره منسوبا " محمد بن سلام " و " عتاب " بالمهملة وتشديد المثناة وآخره موحدة، وأبوه " بشير " بموحدة ومعجمة وزن عظيم، و " إسحاق " عند النسفي وأبي ذر غير منسوب، ونسب عند الباقين " ابن راشد " وساق المتن على لفظه، ومضى في التهجد على لفظ شعيب بن أبي حمزة، ويأتي في التوحيد من طريق شعيب وابن أبي عتيق مجموعا وساقه على لفظ ابن أبي عتيق. قوله: "طرقه وفاطمة" زاد شعيب " ليلة " قوله: "ألا تصلون" في رواية شعيب " ألا تصليان " بالتثنية، والأول محمول على ضم من يتبعهما إليهما أو للتعظيم أو لأن أقل الجمع اثنان، وقوله: "حين قال له ذلك " فيه التفات، ومضى في رواية شعيب بلفظ: "حين قلت له " وكذا قوله: "سمعه " في رواية شعيب " سمعته " وقوله: "وهو مدبر " بضم أوله وكسر الموحدة أي مول بتشدد اللام كما في رواية شعيب، ووقع هنا عند الكشميهني: "وهو منصرف". قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف "يقال ما أتاك ليلا فهو طارق" كذا لأبي ذر وسقط للنسفي وثبت للباقين لكن بدون " يقال: "وقد تقدم الكلام عليه في سورة الطارق. قوله: "عن سعيد" هو ابن أبي سعيد المقبري. قوله: "بيت المدراس" تقدم الكلام عليه في " كتاب الإكراه " قريبا، وقوله في آخره: "ذلك أريد " بضم أوله بصيغة المضارعة من الإرادة: أي أريد أن تقروا بأني بلغت، لأن التبليغ هو الذي أمر به، ووقع في رواية أبي زيد المروزي فيما ذكره القابسي بفتح أوله وبزاي معجمة، وأطبقوا على أنه تصحيف لكن وجهه بعضهم بأن معناه أكرر مقالتي مبالغة في التبليغ، قال المهلب: بعد أن قرر أنه يتعلق بالركن الثاني من الترجمة وجه ذلك أنه بلغ اليهود ودعاهم إلى الإسلام والاعتصام به، فقالوا بلغت ولم يذعنوا لطاعته فبالغ في تبليغهم وكرره، وهذه مجادلة بالتي هي أحسن، وهو في ذلك موافق لقول مجاهد أنها نزلت فيمن لم يؤمن منهم وله عهد، أخرجه الطبري، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: المراد " ممن ظلم منهم " من استمر على أمره، وعن قتادة هي منسوخة بآية السيف انتهى، والذي أخرجه الطبري بسند صحيح عن مجاهد " إن قالوا شرا فقولوا خيرا إلا الذين ظلموا منهم فانتصروا منهم " وبسند فيه ضعف " قال إلا من ظلم من قاتل ولم يعط الجزية " وأخرج بسند حسن عن سعيد بن جبير قال: هم أهل الحرب من لا عهد له جادله بالسيف، ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المراد: من آمن من أهل الكتاب نهى عن مجادلتهم فيما يحدثون به من الكتاب، لعله يكون حقا لا تعلمه أنت ولا ينبغي أن تجادل إلا المقيم منهم على دينه، وبسند صحيح عن قتادة هي منسوخة بآية براءة، أن يقاتلوا حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله أو يؤدوا الجزية، ورجح الطبري قول من قال: المراد من امتنع من أداء الجزية، قال: ومن

(13/315)


أداها وإن كان ظالما لنفسه باستمراره على كفره، لكن المراد في هذا الآية: من ظلم أهل الإسلام فحاربهم وامتنع من الإسلام " أو بذل الجزية ورد على من ادعى النسخ، لكونه لا يثبت إلا بدليل والله أعلم، وحاصل ما رجحه أنه أمر بمجادلة أهل الكتاب بالبيان والحجة بطريق الإنصاف ممن عاند منهم، فمفهوم الآية: جواز مجادلته بغير التي هي أحسن وهي المجادلة بالسيف والله أعلم.

(13/316)


19 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ
7349 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا – قَالَ: عَدْلًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } , وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
قوله: "باب، وكذلك جعلناكم أمة وسطا، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم" أما الآية فلم يقع التصريح بما وقع التشبيه به، والراجح أنه الهدى المدلول عليه بقوله {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي مثل الجعل القريب الذي اختصصناكم فيه بالهداية كما يقتضيه سياق الآية ووقع التصريح به في حديث البراء الماضي في تفسير سورة البقرة، والوسط العدل كما تقدم في تفسير سورة البقرة، وحاصل ما في الآية الامتنان بالهداية والعدالة، وأما قوله: "وما أمر " إلى آخره فمطابقته لحديث الباب خفية، وكأنه من جهة الصفة المذكورة وهي العدالة لما كانت تعم الجميع لظاهر الخطاب، أشار إلى أنها من العام الذي أريد به الخاص، أو من العام المخصوص، لأن أهل الجهل ليسوا عدولا وكذلك أهل البدع، فعرف أن المراد بالوصف المذكور أهل السنة والجماعة وهم أهل العلم الشرعي ومن سواهم، ولو نسب إلى العلم فهي نسبة صورية لا حقيقية، وورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث منها ما أخرجه الترمذي مصححا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري فذكر حديثا طويلا وفيه: "وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " وفي خطبة عمر المشهورة التي خطبها بالجابية " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد " وفيه: "ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " وقال ابن بطال: مراد الباب الحض على الاعتصام بالجماعة، لقوله {ِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: "وسطا " والوسط العدل، والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر, وقال الكرماني: مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون وهم المراد بقوله: "وهم أهل العلم " والآية التي ترجم بها احتج

(13/316)


بها أهل الأصول لكون الإجماع حجة لأنهم عدلوا بقوله تعالى {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي عدولا؛ ومقتضى ذلك أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولا وفعلا.
قوله: "حدثنا أبو أسامة" قال الأعمش هو بحذف " قال: "الثانية وقوله في آخره: "وعن جعفر بن عون " هو معطوف على قوله: "أبو أسامة " والقائل هو إسحاق بن منصور فروى هذا الحديث عن أبي أسامة بصيغة التحديث، وعن جعفر بن عون بالعنعنة، وهذا مقتضى صنيع صاحب الأطراف وأما أبو نعيم فجزم بأن رواية جعفر بن عون معلقة، فقال بعد أن أخرجه من طريق أبي مسعود الراوي عن أبي أسامة وحده، ومن طريق بندار " عن جعفر بن عون " وحده، أخرجه البخاري عن إسحاق بن منصور بن أبي أسامة، وذكره عن جعفر ابن عون بلا واسطة انتهى، وأخرجه الإسماعيلي من رواية بندار وقال إنه مختصر، وأخرجه من رواية أبي معاوية عن الأعمش مطولا، وقد تقدمت رواية أبي أسامة مقرونة برواية جرير بن عبد الحميد في تفسير سورة البقرة، وساقه هناك على لفظ جرير، وتقدم شرحه هناك، وفيه بيان أن الشهادة لا تخص قوم نوح بل تعم الأمم.

(13/317)


إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوْ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلاَفَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْ
...
قلت: ليس فيها قلق إلا في اللفظ الذي بعد قوله: "فأخطأ " فصار ظاهر التركيب ينافي المقصود، لأن من أخطأ خلاف الرسول لا يذم، بخلاف من أخطأ وفاقه، وليس ذلك المراد وإنما ثم الكلام عند قوله فأخطأ، وهو متعلق بقوله اجتهد، وقوله: "خلاف الرسول " أي فقال خلاف الرسول، وحذف " قال: "يقع في الكلام كثيرا فأي عجرفة في هذا، والشارح من شأنه أن يوجه كلام الأصل مهما أمكن، ويغتفر القدر اليسير من الخلل تارة ويحمله على الناسخ تارة وكل ذلك في مقابلة الإحسان الكثير الباهر ولا سيما مثل هذا الكتاب، ووقع في حاشية نسخة الدمياطي بخطه الصواب في الترجمة " فأخطأ بخلاف الرسول " انتهى، وليس دعوى حذف الباء برافع للإشكال بل إن سلك طريق التغيير فلعل اللام متأخرة، ويكون في الأصل خالف بدل خلاف. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي. قوله: "عن أخيه" هو أبو بكر واسمه عبد الحميد، ولإسماعيل في هذا الحديث شيخ آخر كما تقدم في آخر غزوة خيبر عن إسماعيل عن مالك، ونزل إسماعيل في هذا السند درجة، و " سليمان " هو ابن بلال و " عبد المجيد " بتقديم الميم على الجيم، وذكر أبو علي الجياني أن سليمان سقط من أصل الفربري فيما ذكر أبو زيد المروزي، قال: والصواب إثباته فإنه لا يتصل السند إلا به، وقد ثبت كذلك في رواية إبراهيم بن معقل النسفي، قال: وكذا لم يكن في كتاب ابن السكن، ولا عند أبي أحمد الجرجاني قلت: وهو ثابت عندنا في النسخة المعتمدة من رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة عن الفربري، وكذا في سائر النسخ التي اتصلت لنا عن الفربري، فكأنها سقطت من نسخة أبي زيد فظن سقوطها من أصل شيخه، وقد جزم أبو نعيم في المستخرج بأن البخاري أخرجه عن إسماعيل عن أخيه عن سليمان، وهو يرويه عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري. وأما رواية ابن السكن فلم أقف عليها. قوله: "بعث أخا بني عدي" أي ابن النجار بطن من الأوس، واسم هذا المبعوث " سواد " بفتح المهملة وتخفيف الواو " ابن غزية " بفتح المعجمة كسر الزاي مشددا، وتقدم ذلك في أواخر البيوع وتقدم شرح المتن في المغازي، وفي هذا السياق هنا زيادة قوله: "ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا " إلى آخره، والمذكور هناك قوله: "ولكن بع " إلى آخره، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الصحابي اجتهد فيما فعل فرده النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه عما فعل وعذره لاجتهاده، ووقع في رواية عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد في غير هذه القصة لكن في نظير الحكم، فقال صلى الله عليه وسلم أوه، عين الربا لا تفعل.

(13/218)


21 - باب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ
7352حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ
قوله: "باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ" يشير إلى أنه لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد

(13/318)


فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم كما تقدمت الإشارة إليه، قال ابن المنذر وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا، واستدل بحديث: "القضاة ثلاثة - وفيه - وقاض قضى بغير حق فهو في النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار " وهو حديث أخرجه أصحاب السنن عن بريدة بألفاظ مختلفة، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد، ويؤيد حديث الباب ما وقع في قصة سليمان في حكم داود عليه السلام في أصحاب الحرث، وقد تقدمت الإشارة إليها فيما مضى قريبا. وقال الخطابي: في معالم السنن إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه، ثم إنما يؤجر العالم لأن اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط كذا قال: وكأنه يرى أن قوله: "وله أجر واحد " مجاز عن وضع الإثم. قوله: "عن محمد بن إبراهيم بن الحارث" هو التيمي تابعي مدني ثقة مشهور ولأبيه صحبة، " وبسر " بضم الموحدة وسكون المهملة " وأبو قيس " مولي عمرو بن العاص لا يعرف اسمه كذا قاله البخاري وتبعه الحاكم أبو أحمد، وجزم ابن يونس في تاريخ مصر بأنه عبد الرحمن بن ثابت وهو أعرف بالمصريين من غيره، ونقل عن محمد بن سحنون أنه سمى أباه الحكم وخطأه في ذلك، وحكى الدمياطي أن اسمه سعد وعزاه لمسلم في الكنى، وقد راجعت نسخا من الكنى لمسلم فلم أر ذلك فيها، منها نسخه بخط الدار قطني الحافظ، وقرأت بخط " المنذري " وقع عند السبتي يعني ابن حبان في صحيحه " عن أبي قابوس " بدل أبي قيس كذا جزم به وقد روجعت عدة نسخ من صحيح ابن حبان فوجدت فيها " عن أبي قيس " إحداها صححها ابن عساكر وفي السند أربعة من التابعين في نسق، أولهم يزيد بن عبد الله وهو المعروف بابن الهاد وما لأبي قيس في البخاري إلا هذا الحديث. قوله: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب" في رواية أحمد " فأصاب " قال القرطبي: هكذا وقع في الحديث بدأ بالحكم قبل الاجتهاد والأمر بالعكس، فإن الاجتهاد يتقدم الحكم إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتفاقا، لكن التقدير في قوله: "إذا حكم " إذا أراد أن يحكم فعند ذلك يجتهد، قال ويؤيده أن أهل الأصول قالوا: يجب على المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على ما تقدم له لإمكان أن يظهر له خلاف غيره انتهى، ويحتمل أن تكون الفاء تفسيرية لا تعقيبية وقوله: "فأصاب " أي صادف ما في نفس الأمر من حكم الله تعالى. قوله: "ثم أخطأ" أي ظن أن الحق في جهة، فصادف أن الذي في نفس الأمر بخلاف ذلك، فالأول له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة. والآخر له أجر الاجتهاد فقط، وقد تقدمت الإشارة إلى وقوع الخطأ في الاجتهاد في حديث أم سلمة " إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " وأخرج لحديث الباب سببا من وجه آخر عن عمرو بن العاص من طريق ولده عبد الله بن عمرو عنه، " قال: جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان؛ فقال لعمرو اقض بينهما يا عمرو، قال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال: وإن كان قال فإذا قضيت بينما فمالي " فذكر نحوه لكن قال: في الإصابة " فلك عشر حسنات " وأخرج من حديث عقبة بن عامر نحوه بغير قصة بلفظ: "فلك عشرة أجور " وفي سند كل منهما ضعف، ولم أقف على اسم من أبهم في هذين الحديثين. قوله: "قال فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم" القائل فحدثت هو " يزيد بن عبد الله " أحد رواته، وأبو بكر بن عمرو نسب في هذه الرواية لجده وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وثبت ذكره في رواية مسلم من رواية الداودي

(13/319)


عن يزيد، ونسبه فقال يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد. قوله: "عن أبي هريرة" يريد بمثل حديث عمرو بن العاص. قوله: "وقال عبد العزيز بن المطلب" أي ابن عبد الله بن حنطب المخزومي قاضي المدينة وكنيته أبو طالب وهو من أقران مالك ومات قبله، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع الواحد المعلق، وعبد الله بن أبي بكر هو والد الراوي المذكور في السند الذي قبله أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وكان قاضي المدينة أيضا. قوله: "عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يريد أن عبد الله بن أبي بكر خالف أباه في روايته عن أبي سلمة وأرسل الحديث الذي وصله، وقد وجدت ليزيد بن الهاد فيه متابعا أخرجه عبد الرزاق وأبو عوانة من طريقه عن معمر عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري عن أبي بكر بن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فذكر الحديث مثله بغير قصة وفيه: "فله أجران اثنان " قال أبو بكر بن العربي تعلق بهذا الحديث من قال إن الحق في جهة واحدة للتصريح بتخطئة واحد لا بعينه، قال وهي نازلة في الخلاف عظيمة. وقال المازري تمسك به كل من الطائفتين من قال إن الحق في طرفين، ومن قال إن كل مجتهد مصيب، أما الأولى فلأنه لو كان كل مصيبا لم يطلق على أحدهما الخطأ لاستحالة النقيضين في حالة واحدة؛ وأما المصوبة فاحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم جعل له أجرا فلو كان لم يصب لم يؤجر، وأجابوا عن إطلاق الخطأ في الخبر على من ذهل عن النص أو اجتهد فيما لا يسوغ الاجتهاد فيه من القطعيات فيما خالف الإجماع فإن مثل هذا إن اتفق له الخطأ فيه نسخ حكمه وفتواه ولو اجتهد بالإجماع، وهو الذي يصح عليه إطلاق الخطأ، وأما من اجتهد في قضية ليس فيها نص ولا إجماع فلا يطلق عليه الخطأ، وأطال المازري في تقرير ذلك والانتصار له، وختم كلامه بأن قال إن من قال إن الحق في طرفين هو قول أكثر أهل التحقيق من الفقهاء والمتكلمين؛ وهو مروي عن الأئمة الأربعة وإن حكى عن كل منهم اختلاف فيه. قلت: والمعروف عن الشافعي الأول، قال القرطبي في المفهم: الحكم المذكور ينبغي أن يختص بالحاكم بين الخصمين، لأن هناك حقا معينا في نفس الأمر يتنازعه الخصمان، فإذا قضى به لأحدهما بطل حق الآخر قطعا، وأحدهما فيه مبطل لا محالة، والحاكم لا يطلع على ذلك فهذه الصورة لا يختلف فيها أن المصيب واحد لكون الحق في طرف واحد، وينبغي أن يختص الخلاف بأن المصيب واحد، إذ كل مجتهد مصيب بالمسائل التي يستخرج الحق منها بطريق الدلالة. وقال ابن العربي: عندي في هذا الحديث فائدة زائدة حاموا عليها فلم يسقوا وهي: أن الأجر على العمل القاصر على العامل واحد، والأجر على العمل المتعدي يضاعف، فإنه يؤجر في نفسه وينجر له كل ما يتعلق بغيره من جنسه فإذا قضى بالحق وأعطاه لمستحقه ثبت له أجر اجتهاده وجرى له مثل أجر مستحق الحق، فلو كان أحد الخصمين ألحن بحجته من الآخر فقضي له - والحق في نفس الأمر لغيره - كان له أجر الاجتهاد فقط. قلت: وتمامه أن يقال: ولا يؤاخذ بإعطاء الحق لغير مستحقه لأنه لم يتعمد ذلك بل وزر المحكوم له قاصر عليه، ولا يخفي أن محل ذلك أن يبذل وسعه في الاجتهاد وهو من أهله، وإلا فقد يلحق به الوزر إن أخل بذلك والله أعلم.

(13/320)


21 - باب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ ظَاهِرَةً وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُورِ الإِسْلاَمِ
7353 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن بن جريج حدثني عطاء عن عبيد بن عمير قال "استأذن أبو

(13/320)


موسى على عمر فكأنه وجده مشغولا فرجع فقال عمر ألم عبد الله بن قيس ائذنوا له فدعي له فقال ما حملك على ما صنعت فقال إنا كنا نؤمر بهذا قال فأتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك فانطلق إلى مجلس من الأنصار فقالوا لا يشهد إلا أصاغرنا فقام أبو سعيد الخدري فقال قد كنا نؤمر بهذا فقال عمر خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق"
7354 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الأَعْرَجِ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَكَانَتْ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ
قوله: "باب الحجة على من قال أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة" أي للناس لا تخفي إلا على النادر، وقوله: "وما كان يغيب بعضهم عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام " كذا للأكثر وفي رواية النسفي وعليها شرح ابن بطال " مشاهده " ولبعضهم " مشهد " بالإفراد، ووقع في مستخرج أبي نعيم " وما كان يفيد بعضهم بعضا " بالفاء والدال من الإفادة ولم أره لغيره: "وما " في قوله: "ما كان " موصولة، وجوز بعضهم أن تكون نافية، وأنها من بقية القول المذكور، وظاهر السياق يأباه، وهذه الترجمة معقودة لبيان أن كثيرا من الأكابر من الصحابة كان يغيب عن بعض ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو يفعله من الأعمال التكليفية، فيستمر على ما كان اطلع عليه هو إما على المنسوخ لعدم اطلاعه على ناسخه، وإما على البراءة الأصلية، وإذا تقرر ذلك قامت الحجة على من قدم عمل الصحابي الكبير، ولا سيما إذا كان قد ولى الحكم على رواية غيره متمسكا بأن ذلك الكبير لولا أن عنده ما هو أقوى من تلك الرواية لما خالفها، ويرده أن في اعتماد ذلك ترك المحقق للمظنون وقال ابن بطال أراد الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا يجوز العمل بما لم ينقل متواترا، قال: وقولهم مردود بما صح أن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ورجع بعضهم إلى ما رواه غيره، وانعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد. قلت: وقد عقد البيهقي في المدخل باب الدليل على أنه قد يعزب على المتقدم الصحبة الواسع العلم الذي يعلمه غيره، ثم ذكر حديث أبي بكر في الجدة وهو في الموطأ، وحديث عمر في الاستئذان وهو المذكور في هذا الباب، وحديث ابن مسعود في الرجل الذي عقد على امرأة ثم طلقها فأراد أن يتزوج أمها، فقال: لا بأس وإجازته بيع الفضة المكسرة بالصحيحة متفاضلا، ثم رجوعه عن الأمرين معا لما سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما، وأشياء غير ذلك، وذكر فيه حديث البراء " ليس كلنا كان يسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، كانت لنا صنعة وأشغال، ولكن كان الناس لا يكذبون، فيحدث الشاهد الغائب " وسنده ضعيف. وكذا حديث أنس " ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه ولكن لم يكذب بعضنا بعضا " ثم سرد ما رواه

(13/321)


صحابي عن صحابي مما وقع في الصحيحين. وقال في هذا دلالة على إتقانهم في الرواية، وفيه أبين الحجة وأوضح الدلالة على تثبيت خبر الواحد، وأن بعض السنن كان يخفي عن بعضهم، وأن الشاهد منهم كان يبلغ الغائب ما شهد، وأن الغائب كان يقبله ممن حدثه ويعتمده ويعمل به. قلت: خبر الواحد في الاصطلاح خلاف المتواتر، سواء كان من رواية شخص واحد أو أكثر، وهو المراد بما وقع فيه الاختلاف ويدخل فيه خبر الشخص الواحد دخولا أوليا، ولا يرد على من عمل به ما وقع في حديث الباب من طلب عمر من أبي موسى البينة على حديث الاستئذان فإنه لم يخرج مع شهادة أبي سعيد له وغيره عن كونه خبر واحد، وإنما طلب عمر من أبي موسى البينة للاحتياط كما تقدم شرحه واضحا في " كتاب الاستئذان " وإلا فقد قبل عمر حديث عبد الرحمن ابن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وحديثه في الطاعون، وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، وحديث سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين إلى غير ذلك، وتقدم في العلم من حديث عمر أنه كان يتناوب النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل منهما الآخر بما غاب عنه، وكان غرضه بذلك تحصيل ما يقوم بحاله وحال عياله ليغني عن الاحتياج لغيره، ليتقوى على ما هو بصدده من الجهاد، وفيه أنه لا يشترط على من أمكنته المشافهة أن يعتمدها، ولا يكتفي بالواسطة لثبوت ذلك من فعل الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بغير نكير، وأما حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، فإن فيه بيان السبب في خفاء بعض السنن على بعض كبار الصحابة، وقوله وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وهو موافق لقول عمر في الذي قبله " ألهاني الصفق بالأسواق " يشير إلى أنهم كانوا أصحاب تجارة، وقد تقدم ذلك في أوائل البيوع، وتوجيه قول عمر " ألهاني " واختلف على الزهري في الواسطة بينه وبين أبي هريرة فيه كما بينته في العلم، وتقدم عنه من رواية مالك مثله لكن عند مالك زيادة ليست في رواية سفيان هذه، وهي قوله: "ولولا آيتان من كتاب الله " وفي رواية سفيان مما ليس في رواية مالك قوله: "والله الموعد " وكذلك ما في آخره كما سأبينه، وأما إبراهيم بن سعد فذكر الحديث بتمامه فهو أتم الجميع سياقا، وثبت ذلك في رواية شعيب في البيوع بزيادة سأبينها لكن لم يقع عنده ذكر الآيتين، وقد تقدم هذا الحديث في العلم من طريق مالك، وفي المزارعة من طريق إبراهيم بن سعد كلاهما عن الزهري عن الأعرج، وتقدم في أول البيوع من رواية شعيب وأخرجه مسلم من رواية يونس كلاهما عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث" في رواية مالك " إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان ابن شهاب يذكر قيل هذا حديثه عن عروة أنه حدثه عن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث، يسمعني ذلك ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم، فذكر الحديث. ثم يقول: قال سعيد بن المسيب " قال: يقولون إن أبا هريرة قد أكثر " هكذا أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب. وحديث عائشة تقدم في الترجمة النبوية من طريق الليث عن يونس بن يزيد معلقا، وتقدم شرحه هناك، وتقدم أيضا في الجنائز من طريق جرير بن حازم عن نافع قال: "حدث ابن عمر أن أبا هريرة يقول: "فذكر الحديث في فضل اتباع الجنائز فقال ابن عمر " أكثر علينا أبو هريرة فصدقت عائشة أبا هريرة " أي في الحديث المذكور، وقوله: "على " يتعلق بقوله: "يكثر " ولو تعلق بقوله: "الحديث: "لقال عن. قوله: "والله الموعد" تقدم

(13/322)


شرحها في " كتاب المزارعة " زاد شعيب بن أبي حمزة في روايته: ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي هريرة، في رواية يونس عند مسلم مثل أحاديثه وزاد: سأخبركم عن ذلك وتقدم في المزارعة نحو هذا ونبهت على ذلك في " كتاب العلم". قوله: "إني كنت امرأ مسكينا" في رواية مسلم: "رجلا". قوله: "ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم أخدم. قوله: "على ملء بطني" بكسر الميم وبهمزة آخره أي بسبب شبعي، أي إن السبب الأصلي الذي اقتضى له كثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمته له ليجد ما يأكله، لأنه لم يكن له شيء يتجر فيه، ولا أرض يزرعها ولا يعمل فيها، فكان لا ينقطع عنه خشية أن يفوته القوت، فيحصل في هذه الملازمة من سماع الأقوال ورواية الأفعال ما لا يحصل لغيره ممن لم يلازمه ملازمته، وأعانه على استمرار حفظه لذلك ما أشار إليه من الدعوة النبوية له بذلك. قوله: "وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق" في وراية يونس " وإن إخواني من المهاجرين". قوله: "وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم" في رواية يونس " وأن إخواني عن الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم " وفي رواية شعيب " عمل أموالهم " وقد تقدم بيان ذلك قريبا، وزاد في رواية يونس " فيشهد إذا غابوا ويحفظ إذا نسوا". وفي رواية شعيب " وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة أعي حيث ينسون". قوله: "فشهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم" في رواية شعيب " وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في حديث يحدثه". قوله: "من يبسط رداءه" في رواية الكشميهني: "من بسط " بلفظ الفعل الماضي. قوله: "فلم ينس" في رواية الكشميهني: "فلن ينسى " ونقل ابن التين أنه وقع في رواية: "فلن ينس " بالنون وبالجزم، وذكر أن القزاز نقل عن بعض البصريين: أن من العرب من يجزم بلن قال: وما وجدت له شاهدا، وأقره ابن التين ومن تبعه، وقد ذكر غيره لذلك شاهدا وهو قول الشاعر:
لن يحب اليوم من رجائك من ... حرك من دون بابك الحلقة
وفيه نظر لأنه يصح أن يكون في الأصل " لم " الجازمة فتغيرت بلن، لكن إن كان محفوظا فلعل الشاعر قصد " لن " لكونها أبلغ هنا في المدح من لم والله أعلم. وتقدم في باب الأمن من " كتاب التعبير " توجيه ابن مالك لنظير هذا في قول " لن ترع " وحكايته عن الكسائي أن الجزم بلن لغة لبعض العرب، قوله: "فبسطت بردة" في رواية شعيب " نمرة " وتقدم تفسيرها في أول البيوع، وذكر في العلم بيان الاختلاف في المراد بقوله: "ما نسيت شيئا سمعته منه".

(13/323)


23 - باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً لاَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ
ق7355 - حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ قُلْتُ تَحْلِفُ بِاللَّهِ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة" النكير بفتح النون وزن عظيم: المبالغة في الإنكار. وقد اتفقوا على أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما يفعل بحضرته أو يقال ويطلع عليه بغير إنكار دال على الجواز، لأن العصمة

(13/323)


تنفي عنه ما يحتمل في حق غيره مما يترتب على الإنكار فلا يقر على باطل، فمن ثم قال: "لا من غير الرسول " فإن سكوته لا يدل على الجواز، ووقع في تنقيح الزركشي في الترجمة بدل قوله لا من غير الرسول " لأمر يحضره الرسول " ولم أره لغيره، وأشار ابن التين إلى أن الترجمة تتعلق بالإجماع السكوتي، وأن الناس اختلفوا، فقالت طائفة: لا ينسب لساكت قول لأنه في مهلة النظر. وقالت طائفة إن قال المجتهد قولا وانتشر لم يخالفه غيره بعد الاطلاع عليه فهو حجة، وقيل لا يكون حجة حتى يتعدد القيل به، ومحل هذا الخلاف أن لا يخالف ذلك القول نص كتاب أو سنة، فإن خالفه فالجمهور على تقديم النص، واحتج من منع مطلقا أن الصحابة اختلفوا في كثير من المسائل الاجتهادية، فمنهم من كان ينكر على غيره إذا كان القول عنده ضعيفا، وكان عنده ما هو أقوى منه من نص كتاب أو سنة، ومنهم من كان يسكت فلا يكون سكوته دليلا على الجواز، لتجويز أن يكون لم يتضح له الحكم، فسكت لتجويز أن يكون ذلك القول صوابا وإن لم يظهر له وجهه. قوله: "حدثنا حماد بن حميد" هو خراساني فيما ذكر أبو عبد الله بن منده في رجال البخاري، وذكر ابن رشيد في فوائد رحلته، والمزي في التهذيب أن في بعض النسخ القديمة من البخاري " حدثنا حماد بن حميد صاحب لنا " حدثنا بهذا الحديث وعبيد الله بن معاذ في الأحياء، وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل " حماد بن حميد " نزيل عسقلان روى عن بشر بن بكر وأبي ضمرة وغيرهما وسمع منه أبو حاتم وقال شيخي فزعم أبو اليد الباجي في رجال البخاري أنه هو الذي روي عنه البخاري هنا وهو بعيد، وقد بينت ذلك في تهذيب التهذيب وقد أخرج مسلم حديث الباب عن عبيد الله بن معاذ بلا واسطة، وهو أحد الأحاديث التي نزل فيها البخاري عن مسلم، أخرجها مسلم عن شيخ وأخرجها البخاري بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ وهي أربعة أحاديث ليس في الصحيح غيرها بطريق التصريح، وفيه عدة أحاديث نحو الأربعين مما يتنزل منزلة ذلك، وقد أفردتها في جزء جمعت ما وقع للبخاري من ذلك فكان أضعاف أضعاف ما وقع لمسلم، وذلك أن مسلما في هذه الأربعة باق على الرواية عن الطبقة الأول أو الثانية من شيوخه، وأما البخاري فإنه نزل فيها عن طبقته العالية بدرجتين، مثال ذلك من هذا الحديث أن البخاري إذا روى حديث شعبة عاليا كان بينه وبينه راو واحد، وقد أدخل بينه وبين شعبة فيه ثلاثة، وأما مسلم فلا يروي حديث شعبة بأقل من واسطتين. والحديث الثاني من الأربعة مضى في تفسير سورة الأنفال، أخرجه عن أحمد وعن محمد بن النضر النيسابوريين عن عبيد الله بن معاذ أيضا عن أبيه عن شعبة بسند آخر، وأخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ نفسه. والحديث الثالث أخرجه في آخر المغازي عن أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد بن حنبل عن معتمر ابن سليمان عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه في عدد الغزوات، وأخرجه مسلم عن أحمد ابن حنبل بهذا السند بلا واسطة. والحديث الرابع وقع في " كتاب كفارة الأيمان " عن محمد بن عبد الرحيم، وهو الحافظ المعروف بصاعقة عن داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم عن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد ابن أسلم عن علي بن الحسين بن علي بن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة في فضل العتق، وأخرجه مسلم عن داود بن رشيد نفسه وهذا مما نزل فيه البخاري عن طبقته درجتين، لأنه يروي حديث ابن غسان بواسطة واحدة كسعيد بن أبي مريم، وهنا بينهما ثلاث وسائط، وقد أشرت لكل حديث من هذه الأربعة في موضعه، وجمعتها هنا تتميما للفائدة، وعبيد الله بن معاذ أي ابن معاذ بن نصر بن حسان العنبري، وسعد ابن إبراهيم أي ابن عبد الرحمن بن عوف، وروايته عن محمد بن المنكدر من الأقران لأنه

(13/324)


من طبقته. قوله: "رأيت جابر بن عبد الله يحلف" أي شاهدته حين حلف. قوله: "أن ابن الصياد" كذا لأبي ذر بصيغة المبالغة، ووقع عند ابن بطال مثله لكن بغير آلف ولام وكذا في رواية مسلم وللباقين " ابن الصائد " بوزن الظالم. قوله: "تحلف بالله قال إني سمعت عمر، إلخ" كأن جابرا لما سمع عمر يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، فهم منه المطابقة، ولكن بقي أن شرط العمل بالتقرير أن لا يعارضه التصريح بخلافه، فمن قال أو فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأقره دل ذلك على الجواز، فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "افعل خلاف ذلك دل على نسخ ذلك التقرير، إلا إن ثبت دليل الخصوصية، قال ابن بطال بعد أن قرر دليل جابر فإن قيل تقدم يعني كما في الجنائز أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن الصياد " دعني أضرب عنقه، فقال: إن يكن هو فلن تسلط عليه " فهذا صريح في أنه تردد في أمره، يعني فلا يدل سكوته عن إنكاره عند حلف عمر على أنه هو، قال وعن ذلك جوابان، أحدهما أن الترديد كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه هو الدجال، فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه. والثاني: أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك وإن لم يكن في الخبر شك، فيكون ذلك من تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بعمر في صرفه عن قتله انتهى ملخصا. ثم ذكر ما ورد عن غير جابر، مما يدل على أن ابن صياد هو الدجال، كالحديث الذي أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر قال: "لقيت ابن صياد يوما ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفئت وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت: أنشدك الله يا ابن صياد متى طفئت عينك؟ قال لا أدري والرحمن. قلت: كذبت لا تدري وهي في رأسك، قال فمسحها ونخر ثلاثا، فزعم اليهودي أني ضربت بيدي صدره، وقلت له: اخسأ فلن تعدو قدرك. فذكرت ذلك لحفصة، فقالت حفصة: اجتنب هذا الرجل فإنما يتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها " انتهى. وقد أخرج مسلم هذا الحديث بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه: "لقيته مرتين " فذكر الأولى ثم قال: "لقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه، فقلت متى فعلت عينك ما أرى؟ قال ما أدري، قلت: لا تدري وهي في رأسك، قال إن شاء الله جعلها في عصاك هذه، ونخر كأشد نخير حمار سمعت، فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأنا والله ما شعرت " قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين حفصة فحدثها فقالت ما تريد إليه؟ ألم تسمع أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه، ثم قال ابن بطال: فإن قيل هذا أيضا يدل على التردد في أمره فالجواب أنه إن وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى بن مريم، فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن بين يدي الساعة دجالين كذابين " يعني الحديث الذي مضى مع شرحه في " كتاب الفتن " انتهى، ومحصله عدم تسليم الجزم بأنه الدجال، فيعود السؤال الأول عن جواب حلف عمر ثم جابر على أنه الدجال المعهود، لكن في قصة حفصة وابن عمر دليل على أنهما أرادا الدجال الأكبر واللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن موسى بن عقبة عن نافع قال كان ابن عمر يقول والله ما أشك أن المسيح الدجال هو ابن صياد، ووقع لابن صياد مع أني سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بأمر الدجال، فأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: "صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ماذا لقيت من الناس يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه لا يولد له، قلت: بلى. قال: فإنه قد ولد لي، قال أو لست سمعته يقول لا يدخل المدينة ولا مكة، قلت بلى. قال: فقد ولدت بالمدينة وها أنا أريد مكة " ومن طريق سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: أخذتني من ابن صياد

(13/325)


دمامة، فقال: هذا عذرت الناس ما لي وأنتم يا أصحابي محمد، ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه يعني الدجال يهودي وقد أسلمت " فذكر نحوه ومن طريق الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد " خرجنا حجاجا ومعنا ابن صياد فنزلنا منزلا وتفرق الناس، وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال فيه. فقلت: الحر شديد فلو وضعت ثيابك تحت تلك الشجرة ففعل، فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال اشرب يا أبا سعيد، فقلت إن الحر شديد وما بي إلا أن أكره أني أشرب من يده، فقال: لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم اختنق به، مما يقول لي الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار. ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد قال أبو سعيد " حتى كدت أعذره " وفي آخر كل من الطرق الثلاثة أنه قال: "إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن " قال أبو سعيد: فقلت له تبا لك سائر اليوم، لفظ الجريري وأجاب البيهقي عن قصة ابن صياد بعد أن ذكر ما أخرجه أبو داود من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمكث أبو الدجال ثلاثين عاما لا يولد لهما ثم يولد لهما غلام أعور أضر شيء وأقله نفعا ونعت أباه وأمه، قال: فسمعنا بمولود ولد في اليهود، فذهبت أنا والزبير بن العوام فدخلنا على أبويه، فإذا النعت فقلنا هل لكما من ولد قالا مكثنا ثلاثين عاما لا يولد لنا ثم ولد لنا غلام أضر شيء وأقله نفعا " الحديث. قال البيهقي: تفرد به علي بن زيد بن جدعان وليس بالقوي. قلت: ويوهي حديثه أن أبا بكرة إنما أسلم لما نزل من الطائف حين حوصرت سنة ثمان من الهجرة، وفي حديث ابن عمر الذي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى النخل التي فيها ابن صياد كان ابن صياد يومئذ كالمحتلم، فمتى يدرك أبو بكرة زمان مولده بالمدينة وهو لم يسكن المدينة إلا قبل الوفاة النبوية بسنتين، فكيف يتأتى أن يكون في الزمن النبوي كالمحتلم، فالذي في الصحيحين هو المعتمد ولعل الوهم وقع فيما يقتضي تراخي مولد ابن صياد أولا، وهم فيه بل يحتمل قوله: "بلغنا أنه ولد لليهود مولود " على تأخر البلاغ وإن كان مولده كان سابقا على ذلك بمدة، بحيث يأتلف مع حديث ابن عمر الصحيح، ثم قال البيهقي: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفا في أمره ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد وطريقه أصح، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال. قلت: قصة تميم أخرجها مسلم من حديث فاطمة بنت قيس " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فذكر أن تميما الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلا من قومه، فلعب بهم الموج شهرا ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر فقالت لهم: أنا الجساسة، ودلتهم على رجل في الدير، قال فانطلقنا سراعا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد، فقلنا ويلك ما أنت " فذكر الحديث، وفيه أنه سألهم عن نبي الأميين هل بعث، وأنه قال إن يطيعوه فهو خير لهم، وأنه سألهم عن بحيرة طبرية، وعن عين زغر وعن نخل بيسان، وفيه أنه قال إني مخبركم عني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، وفي بعض طرقه عند البيهقي أنه شيخ، وسندها صحيح قال البيهقي: فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وقد خرج أكثرهم وكان الذين يجزمون بابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلا فالجمع بينهما بعيد جدا إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم، ويجتمع

(13/326)


به النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله أن يكون في آخرها شيخا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزائر البحر موثقا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا؟ فالأولى أن يحمل على عدم الاطلاع، أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم، ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور. وأما جابر فشهد حلفه عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستصحب ما كان أطلع عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أخرج أبو داود من رواية الوليد ابن عبد الله بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر، فذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم، قال: قال - أي الوليد - فقال لي ابن أبي سلمة: إن في هذا شيئا ما حفظته، قال شهد جابر أنه ابن صياد، قلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات. قلت: فإنه أسلم، قال: وإن أسلم. قلت: فإنه دخل المدينة، قال وإن دخل المدينة انتهى. وابن أبي مسلمة، اسمه عمر فيه مقال ولكن حديثه حسن، ويتعقب به على من زعم أن جابرا لم يطلع على قصة تميم؛ وقد تكلم ابن دقيق العيد على مسألة التقرير في أوائل " شرح الإلمام " فقال: ما ملخصه إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي، فهل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلا على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر، حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل، فيه نظر. قال: والأقرب عندي أنه لا يدل، لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة، إلا أن يدعي مدع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة فيحتاج إلى دليل وهو عاجز عنه، نعم التقرير يسوغ الحلف على ذلك على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم انتهى ملخصا. ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوفي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأولى، قال الخطابي اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره، فروى أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى يراه الناس، وقيل لهم اشهدوا. وقال النووي: قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء، وإنما أوحى إليه بصفات الدجال. وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء بل قال لعمر " لا خير لك في قتله " الحديث وأما احتجاجاته هو بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر فلا دلالة فيه على دعواه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان قال: ومن جملة ما في قصته قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أني رسول الله " وقوله: "أنه يأتيه صادق وكاذب " وقوله: "إنه تنام عينه ولا ينام قلبه " وقوله: "أنه يرى عرشا على الماء، وأنه لا يكره أن يكون الدجال، وأنه يعرفه ويعرف مولده وموضعه وأين هو الآن " قال: وأما إسلامه وحجه وجهاده فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال، لاحتمال أن يختم له بالشر، فقد أخرج أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق من طريق شبيل بمعجمة وموحدة مصغرا آخره لام، ابن عرزة بمهملة ثم زاي بوزن ضربة، عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها فنمتار منها، فأتيتها يوما فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقا لي منهم فقال ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل فبت عنده على سطح فصليت الغداة " فلما طلعت الشمس إذا لرهج من قبل العسكر فنظرت، فإذا رجل عليه قبة من ريحان واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة فلم يعد حتى

(13/327)


الساعة. قلت: وعبد الرحمن ابن حسان ما عرفته والباقون ثقات، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال: "فقدنا ابن صياد يوم الحرة " وبسند حسن، مضى التنبيه عليه فقيل إنه مات. قلت: وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة، وأنهم صلوا عليه وكشفوا عن وجهه، ولا يلتئم خبر جابر هذا مع خبر حسان بن عبد الرحمن، لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها، وبين قتل عمر ووقعة الحرة نحو أربعين سنة ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب لما في قوله لما افتتحنا أصبهان محذوفا تقديره: صرت أتعاهدها وأتردد إليها فجرت قصة ابن صياد، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخولها ابن صياد. وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث فاطمة بنت قيس مرفوعا: إن الدجال يخرج من أصبهان؛ ومن حديث عمران بن حصين حين أخرجه أحمد بسند صحيح عن أنس: لكن عنده من يهودية أصبهان، قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان كانت اليهودية من جملة قرى أصبهان، وإنما سميت اليهودية لأنها كانت تختص بسكنى اليهود قال: ولم تزل على ذلك إلى أن مصرها أيوب بن زياد أمير مصر في زمن المهدي بن المنصور، فسكنها المسلمون وبقيت لليهود منها قطعة منفردة، وأما ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا قال: "يتبع الدجال سبعون ألفا من يهود أصبهان " فلعلها كانت يهودية أصبهان، يريد البلد المذكور لا إن المراد جميع أهل أصبهان يهود، وأن القدر الذي يتبع الدجال منهم سبعون ألفا، وذكر نعيم بن حماد شيخ البخاري في " كتاب الفتن " أحاديث تتعلق بالدجال وخروجه إذا ضمت إلى ما سبق ذكره في أواخر " كتاب الفتن " انتظمت منها له ترجمة تامة، منها ما أخرجه من طريق جبير بن نفير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة، قالوا جميعا " الدجال ليس هو إنسان وإنما هو شيطان موثق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره، فإذا إن طهوره فك الله عنه كل عام حلقة. فإذا برز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا فيضع على ظهرها منبرا من نحاس ويقعد عليه ويتبعه قبائل الجن يخرجون له خزائن الأرض " قلت: وهذا لا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال، ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب. وأخرج أبو نعيم أيضا من طريق كعب الأحبار أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر، قال وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة، قال ولم ينزل خبره في التوراة والإنجيل، وإنما هو في بعض كتب الأنبياء انتهى. وأخلق بهذا الخبر أن يكون باطلا، فإن الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال. وكونه يولد قبل مخرجه بالمدة المذكورة مخالف لكونه ابن صياد ولكونه موثقا في جزيرة من جزائر البحر. وذكر ابن وصيف المؤرخ أن الدجال من ولد شق الكاهن المشهور، قال وقال بل هو شق نفسه أنظره الله وكانت أمه جنية عشقت أباه فأولدها، وكان الشيطان يعمل له العجائب فأخذه سليمان فحبسه في جزيرة من جزائر البحر، وهذا أيضا في غاية الوهي، وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا، وأن ابن صياد شيطان تبدي في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها، ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم، وقد توهم بعضهم أنه غريب فرد وليس كذلك فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد من رواية عامر الشعبي عن

(13/328)


المحرز بن أبي هريرة عن أبيه بطوله. وأخرجه أبو داود مختصرا وابن ماجه عقب رواية الشعبي عن فاطمة، قال الشعبي: فلقيت المحرز فذكره، وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أبي هريرة قال: "استوى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال حدثني تميم - فرأى تميما في ناحية المسجد - فقال يا تميم حدث الناس بما حدثتني " فذكر الحديث وفيه: "فإذا أحد منخريه ممدود وإحدى عينيه مطموسة " الحديث وفيه: "لأطأن الأرض بقدمي هاتين إلا مكة وطابا " وأما حديث عائشة فهو في الرواية المذكورة عن الشعبي قال: "ثم لقيت القاسم بن محمد فقال: أشهد على عائشة حدثتني بما حدثتك فاطمة بنت قيس". وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود بسند حسن من رواية أبي سلمة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذات يوم على المنبر أنه بينما أناس يسيرون في البحر فنفد طعامهم فرفعت لهم جزيرة فخرجوا يريدون الخبر فلقيتهم الجساسة " فذكر الحديث وفيه سؤالهم عن نخل بيسان، وفيه أن جابرا شهد أنه ابن صياد، فقلت إنه قد مات قال وإن مات، قلت: فإنه أسلم قال: وإن أسلم، قلت: فإنه دخل المدينة قال: وإن دخل المدينة، وفي كلام جابر إشارة إلى أن أمره ملبس وأنه يجوز أن يكون ما ظهر من أمره إذ ذاك لا ينافي ما توقع منه بعد خروجه في آخر الزمان، وقد أخرج أحمد من حديث أبي ذر " لأن أحلف عشر مرار أن ابن صياد هو الدجال، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه ليس هو " وسنده صحيح ومن حديث ابن مسعود نحوه لكن قال: "سبعا " بدل عشر مرات أخرجه الطبراني والله أعلم؛ وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن، ومن صوره المتفق عليها عند الشافعية ومن تبعهم أن من وجد بخط أبيه الذي يعرفه أن له عند شخص ما لا وغلب على ظنه صدقه أن له إذا طالبه، وتوجهت عليه اليمين أن يحلف على البت أنه يستحق قبض ذلك منه.

(13/329)


24- باب الأَحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلاَئِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلاَلَةِ وَتَفْسِيرُهَا وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ لاَ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّبُّ فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ
7356 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ قَالَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ

(13/329)


ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
7357 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ شَيْبَةَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَيْضِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ قَالَ تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِينَ بِهَا قَالَتْ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّئِي قَالَتْ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّئِينَ بِهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَعَرَفْتُ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ فَعَلَّمْتُهَا
7358 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا فَدَعَا بِهِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ فَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَلاَ أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ
7359 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي وَقَالَ ابْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ فَلاَ أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ
7360 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي وَعَمِّي قَالاَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ أَبَاهُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ فَقَالَتْ أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ أَجِدْكَ قَالَ إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ زَادَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ
قوله: "باب الأحكام التي تعرف بالدلائل" كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني: "بالدليل " بالإفراد، والدليل ما يرشد إلى المطلوب ويلزم من العلم به العلم بوجود المدلول، وأصله في اللغة من أرشد قاصد مكان ما إلى الطريق

(13/330)


الموصل إليه. قوله: "وكيف معنى الدلالة وتفسيرها" يجوز في الدلالة فتح الدال كسرها وحكى الضم والفتح أعلى، والمراد بها في عرف الشرع الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم فهذا معنى الدلالة، وأما " تفسيرها " فالمراد به تبيينها وهو تعليم المأمور كيفية ما أمر به وإلى ذلك الإشارة في ثاني أحاديث الباب، ويستفاد من الترجمة بيان الرأي المحمود وهو ما يؤخذ مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله بطريق التنصيص وبطريق الإشارة، فيندرج في ذلك الاستنباط ويخرج الجمود على الظاهر المحض. قوله: "وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر الخيل إلخ" يشير إلى أول أحاديث الباب ومراده أن قوله تعالى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} إلى آخر السورة عام في العامل وفي عمله، وأنه صلى الله عليه وسلم لما بين حكم اقتناء الخيل وأحوال مقتنيها وسئل عن الحمر، أشار إلى أن حكمها وحكم الخيل وحكم غيرها مندرج في العموم الذي يستفاد من الآية. قوله: "وسئل عن الضب إلخ" يشير إلى ثالث أحاديث الباب، ومراده بيان حكم تقريره صلى الله عليه وسلم وأنه يفيد الجواز إلى أن توجد قرينة تصرفه إلى غير ذلك ثم ذكر فيه خمسة أحاديث. حديث أبي هريرة " الخيل لثلاثة " وقد مضى شرحه في " كتاب الجهاد". قوله: "وسئل" أي النبي صلى الله عليه وسلم واسم السائل عن ذلك يمكن أن يفسر بصعصعة بن معاوية عم الأحنف التميمي، وحديثه في ذلك عند النسائي في التفسير، وصححه الحاكم ولفظه: "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول من يعمل مثقال ذرة خيرا يره - إلى آخر السورة - قال ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي حسبي " وحكى ابن بطال عن المهلب أن هذا الحديث حجة في إثبات القياس، وفيه نظر تقدم التنبيه عليه عند شرحه في " كتاب الجهاد " وأشرت إليه في باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته. قوله: "حدثنا يحيى" كذا لأبي ذر غير منسوب، وصنيع ابن السكن يقتضي أنه ابن موسى البلخي، وتقدمت إليه الإشارة في " كتاب الطهارة " وجزم الكلاباذي ومن تبعه كالبيهقي بأنه ابن جعفر البيكندي. قوله: "عن منصور بن عبد الرحمن" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان حدثنا منصور وهو عند أبي نعيم في المستخرج من طريق الحميدي و " عبد الرحمن " والد منصور المذكور هو ابن طلحة بن الحارث عن ابن طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار العبدري الحجبي كما تقدم في " كتاب الحيض " ووقع هنا " منصور بن عبد الرحمن ابن شيبة: "وشيبة إنما هو جد منصور لأمه، لأن اسم أمه صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي، وعلى هذا فيكتب ابن شيبة بالألف ويعرب إعراب منصور لا إعراب عبد الرحمن وقد تفطن لذلك الكرماني هنا ولصفية ولأبيها صحبة. قوله: "أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ذكر من المتن أوله ثم تحول إلى السند الثاني، ومحمد بن عقبة شيخه هو الشيباني يكني أبا عبد الله فيما جزم به الكلاباذي؛ وحكى المزي أنه يكنى أبا جعفر وهو كوفي، قال أبو حاتم ليس بالمشهور، وتعقب بأنه روي عنه مع البخاري يعقوب بن سفيان وأبو كريب وآخرون ووثقه مطين وابن عدي وغيرهما قال ابن حبان مات سنة خمس عشرة. قلت: فهو من قدماء شيوخ البخاري ماله عنده سوى هذا الموضع فيما ذكر الكلاباذي لكنه متعقب بأن له موضعا آخر، تقدم في الجمعة وآخر في غزوة المريسيع، وله في الأحاديث الثلاثة عنده متابع، فما أخرج له شيئا استقلالا ولكنه ساق المتن هنا على لفظه، وأما لفظ ابن عيينة فيه فتقدم في الطهارة، وتقدم هناك أن اسم المرأة السائلة أسماء بنت شكل بمعجمة وكاف مفتوحتين ثم لام، وقيل اسم أبيها غير ذلك كما تقدم مع سائر شرحه، قال ابن بطال: لم تفهم السائلة غرض النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لم تكن تعرف أن تتبع الدم بالفرصة يسمى توضأ إذا اقترن بذكر الدم والأذى،

(13/331)


وإنما قيل له ذلك لكونه مما يستحيي من ذكره؛ ففهمت عائشة غرضه فبينت للمرأة ما خفي عليها من ذلك، وحاصله أن المجمل يوقف على بيانه من القرائن وتختلف الأفهام في إدراكه، وقد عرف أئمة الأصول المجمل بما لم تتضح دلالته ويقع في اللفظ المفرد كالقرء لاحتماله الطهر والحيض، وفي المركب مثل أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح لاحتماله الزوج والولي، ومن المفرد الأسماء الشرعية مثل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فقيل هو مجمل لصلاحيته لكل صوم ولكنه بين بقوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ} ونحوه حديث الباب في قوله: "توضئي " فإنه وقع بيانه للسائلة بما فهمته عائشة رضي الله عنها وأقرت على ذلك والله أعلم. حديث ابن عباس. قوله: "أم حفيد" بمهملة وفاء مصغر اسمها هزيلة بزاي مصغر بنت الحارثة الهلالية أخت ميمونة أم المؤمنين، وهي خالة ابن عباس وخالة خالد بن الوليد، واسم أم كل منهما لبابة بضم اللام وتخفيف الموحدة وبعد الألف أخرى. قوله: "وأضبا" بضم الضاد المعجمة وتشديد الموحدة جمع ضب، ووقع في رواية الكشميهني بالإفراد. قوله: "كالمتقذر لهن" بقاف ومعجمة في رواية الكشميهني: "له " وكذا في قوله: "ما أكلن " وتقدم شرح هذا الحديث مستوفي في " كتاب الأطعمة". قوله: "وليقعد" في رواية الكشميهني: "أو ليعقد " بزيادة الألف في أوله. قوله: "أتي ببدر قال ابن وهب يعني طبقا" هو موصول بسند الحديث المذكور. قوله: "فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه" هو منقول بالمعنى لأن لفظه صلى الله عليه وسلم: "قربوها لأبي أيوب " فكأن الراوي لم يحفظه فكنى عنه بذلك، وعلى تقدير أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم عينه ففيه التفات، لأن نسق العبارة أن يقول: "إلى بعض أصحابي " ويؤيد أنه من كلام الراوي قوله بعده " كان معه". قوله: "فلما رآه كره أكلها" فاعل كره هو أبو أيوب وفيه حذف تقديره " فلما رآه امتنع من أكلها وأمر بتقريبها إليه، كره أكلها " ويحتمل أن يكون التقدير " فلما رآه لم يأكل منها كره أكلها " وكان أبو أيوب استدل بعموم قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} على مشروعية متابعته في جميع أفعاله " فلما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل تلك البقول تأسى به فبين له النبي صلى الله عليه وسلم وجه تخصيصه فقال: إني أناجي من لا تناجى " ووقع عند مسلم في رواية له من حديث أبي أيوب كما تقدم في شرح هذا الحديث في أواخر " كتاب الصلاة " قبل " كتاب الجمعة " إني أخاف أن أوذي صاحبي، وعند ابن خزيمة إني استحيي من ملائكة الله وليس بمحرم " قال ابن بطال قوله: "قربوها " نص على جواز الأكل، وكذا قوله: "فإني أناجي " إلخ. قلت: وتكملته ما ذكرته واستدل به على تفضيل الملك على البشر وفيه نظر، لأن المراد بمن كان صلى الله عليه وسلم يناجيه من ينزل عليه بالوحي وهو في الأغلب الأكثر جبريل، ولا يلزم من وجود دليل يدل على أفضلية جبريل على مثل أبي أيوب أن يكون أفضل ممن هو أفضل من أبي أيوب، ولا سيما إن كان نبيا، ولا يلزم من تفضيل بعض الأفراد على بعض تفضيل جميع الجنس على جميع الجنس. قوله: "وقال ابن عفير" هو سعيد بن كثير بن عفير بمهملة وفاء مصغر نسب لجده وهو من شيوخ البخاري، وقد صرح بتحديثه له في المكان الذي أشرت إليه وساقه على لفظه، وساق عن أحمد بن صالح الذي ساقه هنا قطعة منه، وزاد هناك عن الليث وأبي صفوان طرفا منه معلقا وذكرت هناك من وصلهما. قوله: "حدثنا أبي وعمي" اسم عمه يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال الدمياطي مات يعقوب سنة ثمان ومائتين وكان أصغر من أخيه سعد، انفرد به البخاري واتفقا على أخيه انتهى، وظن بعض من نقل كلامه أن الضمير في قوله أخيه ليعقوب، ومقتضاه أن

(13/332)


يكون اتفقا على التخريج لسعد، ثم اعترض بأن الواقع خلافه وليس كما ظن، والاعتراض ساقط، والضمير إنما هو لسعد والمتفق عليه يعقوب، والضمير في قوله لأقرب مذكور وهو سعيد لا ليعقوب المحدث عنه أولا. قوله: "قالا حدثنا أبي" أي قال كل منهما ذلك. قوله: "أن امرأة" تقدم عن مناقب الصديق شرح الحديث وأنها لم تسم قوله: "زاد لنا الحميدي عن إبراهيم بن سعد إلخ" يريد بالسند الذي قبله والمتن كله، والمزيد هو قوله: "كأنها تعني الموت " وقد مضى في مناقب الصديق بلفظ: "حدثنا الحميدي ومحمد بن عبد الله قالا حدثنا إبراهيم ابن سعد " وساقه بتمامه وفيه الزيادة، ويستفاد منه أنه إذا قال زادنا، وزاد لنا، وكذا زادني، وزاد لي، ويلتحق به، قال لنا. وقال لي، وما أشبهها، فهو كقوله: حدثنا بالنسبة إلى أنه حمل ذلك عنه سماعا لأنه لا يستجيزها في الإجازة ومحل الرد ما يشعر به كلام القائل من التعميم، وقد وجد له في موضع: زادنا. حدثنا، وذلك لا يدفع احتمال أنه كان يستجيز في الإجازة أن يقول: قال لنا، ولا يستجيز: حدثنا، قال ابن بطال: استدل النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر قولها " فإن لم أجدك " أنها أرادت الموت فأمرها بإتيان أبي بكر، قال وكأنه اقترن بسؤالها حالة أفهمت ذلك وإن لم تنطق بها قلت: وإلى ذلك وقعت الإشارة في الطريق المذكورة هنا التي فيها " كأنها تعني الموت " لكن قولها " فإن لم أجدك " أعم في النفي من حال الحياة وحال الموت؛ ودلالته لها على أبي بكر مطابق لذلك العموم، وقول بعضهم هذا يدل على أن أبا بكر هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم صحيح لكن بطريق الإشارة لا التصريح، ولا يعارض جزم عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف لأن مراده نفي النص على ذلك صريحا والله أعلم. قال الكرماني مناسبة هذا الحديث للترجمة أنه يستدل به على خلافة أبي بكر، ومناسبة الحديث الذي قبله لأنه يستدل به على أن الملك يتأذى بالرائحة الكريهة. قلت: في هذا الثاني نظر لأنه قال في بعض طرق الحديث: "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " فهذا حكم يعرف بالنص والترجمة، حكم يعرف بالاستدلال، فالذي قاله في خلافة أبي بكر مستقيم بخلاف هذا، والذي أشرت إليه من استدلال أبي أيوب على كراهية أكل الثوم بامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من جهة عموم التأسي أقرب مما قاله.

(13/333)


25 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ
7361 - وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ وَذَكَرَ كَعْبَ الأَحْبَارِ فَقَالَ إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلاَءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ
7362 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الْآيَةَ
7363 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ

(13/333)


ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر " أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب وقال: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ورجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا وأخرج البزار أيضا من طريق عبد الله بن ثابت الأنصاري " أن عمر نسخ صحيفة من التوراة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء " وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف، واستعمله في الترجمة لورود ما يشهد بصحته من الحديث الصحيح. وأخرج عبد الرزاق من طريق حريث ابن ظهير قال: "قال عبد الله لا تسألوا أهل الكتاب فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل " وأخرجه سفيان الثوري من هذا الوجه بلفظ: " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل " وسنده حسن، قال ابن بطال عن المهلب: هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه، لأن شرعنا مكتف بنفسه فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا والأخبار عن الأمم السالفة، وأما قوله تعالى {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فالمراد به من آمن منهم، والنهي إنما هو عن سؤال من لم يؤمن منهم، ويحتمل أن يكون الأمر يختص بما يتعلق بالتوحيد والرسالة المحمدية وما أشبه ذلك والنهي عما سوى ذلك. قوله: "وقال أبو اليمان" كذا عند الجميع ولم أره بصيغة حدثنا، وأبو اليمان من شيوخه فإما أن يكون أخذه عنه مذاكرة وإما أن يكون ترك التصريح بقوله حدثنا لكونه أثرا موقوفا، ويحتمل أن يكون مما فاته سماعه، ثم وجدت الإسماعيلي أخرجه عن عبد الله بن العباس الطيالسي عن البخاري قال: "حدثنا أبو اليمان " ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم فذكره فظهر أنه مسموع له وترجح الاحتمال الثاني، ثم وجدته في التاريخ الصغير للبخاري قال: حدثنا أبو اليمان. قوله: "حميد بن عبد الرحمن" أي ابن عوف، وقوله: "سمع معاوية " أي أنه سمع معاوية وحذف أنه يقع كثيرا. قوله: "رهطا من قريش" لم أقف على تعيينهم، وقوله: "بالمدينة " يعني لما حج في خلافته. قوله: "إن كان من أصدق" إن مخففة من الثقيلة، ووقع في رواية أخرى " لمن أصدق " بزيادة اللام المؤكدة. قوله: "يحدثون عن أهل الكتاب" أي القديم فيشمل التوراة والصحف. وفي رواية الذهلي في الزهريات عن أبي اليمان بهذا السند " يتحدثون " بزيادة مثناة. قوله: "لنبلو" بنون ثم موحدة أي نختبر، وقوله: "عليه الكذب " أي يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، قال ابن التين وهذا نحو قول ابن عباس في حق كعب المذكور بدل من قبله فوقع في الكذب، قال والمراد بالمحدثين: أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم فحدث عما فيها، قال: ولعلهم كانوا مثل كعب إلا أن كعبا كان أشد منهم بصيرة وأعرف بما يتوقاه. وقال

(13/334)


ابن حبان في " كتاب الثقات " أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به ولم يرد أنه كان كذابا. وقال غيره الضمير في قوله: "لنبلو عليه " للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذب لكونهم بدلوه وحرفوه. وقال عياض يصح عوده على الكتاب ويصح عوده على كعب وعلى حديثه، وإن لم يقصد الكذب ويتعمده ذ لا يشترط في مسمى الكذب التعمد بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب. وقال ابن الجوزي المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار، وهو كعب بن ماتع بكسر المثناة بعدها مهملة ابن عمرو ابن قيس من آل ذي رعين، وقيل ذي الكلاع الحميري، وقيل غير ذلك في اسم جده ونسبه يكنى أبا إسحاق، كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وكان يهوديا عالما بكتبهم حتى كان يقال له كعب الحبر كعب الأحبار، وكان إسلامه في عهد عمر، وقيل في خلافة أبي بكر، وقيل إنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت هجرته، والأول أشهر، والثاني قاله أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز، وأسنده ابن منده من طريق أبي إدريس الخولاني وسكن المدينة وغزا الروم في خلافة عمر، ثم تحول في خلافة عثمان إلى الشام فسكنها إلى أن مات بحمص في خلافة عثمان سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وثلاثين والأول أكثر، قال ابن سعد ذكروه لأبي الدرداء فقال: إن عند ابن الحميرية لعلما كثيرا. وأخرج ابن سعد من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: قال معاوية إلا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالبحار وإن كنا فيه لمفرطين، وفي تاريخ محمد ابن عثمان بن أبي شيبة من طريق ابن أبي ذئب أن عبد الله بن الزبير قال: ما أصبت في سلطاني شيئا إلا قد أخبرني به كعب قبل أن يقع، ثم ذكر فيه حديثين. قوله: "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية" تقدم بهذا السند والمتن في تفسير سورة البقرة، وعلى هذا فالمراد بأهل الكتاب اليهود لكن الحكم عام فيتناول النصارى، قوله: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" هذا لا يعارض حديث الترجمة فإنه نهى عن السؤال وهذا نهى عن التصديق والتكذيب، فيحمل الثاني على ما إذا بدأهم أهل الكتاب بالخبر، وقد تقدم توجيه النهي عن التصديق والتكذيب في تفسير سورة البقرة. قوله: "حدثنا إبراهيم" هو ابن سعد بن إبراهيم المذكور قريبا. قوله: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء" تقدم شرحه في " كتاب الشهادات " ووقع في رواية عكرمة عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة: "عن كتبهم". قوله: "وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث" كذا وقع مختصرا هنا وتقدم بلفظ: "أحدث الكتب " ووقع في رواية عكرمة " وعندكم كتاب الله أحدث الكتب عهدا بالله " وتقدم توجيه أحدث ويأتي وقوله: "لا ينهاكم " ا هـ. استفهام محذوف الأداة بدليل ما تقدم في الشهادات " أو لا ينهاكم " وقوله: "عن مسألتهم " في رواية الكشميهني: "عن مساءلتهم " بضم أوله بوزن المفاعلة.==

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...