مجلد 37 ومجلد38 -فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
37.
مجلد 37. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
=على أصحاب الهيئة ومن وافقهم أن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا يختلف مقتضياتها ولا يتطرق إليها تغيير ما هي عليه قال الكرماني: وقواعدهم منقوضة ومقدماتهم ممنوعة وعلى تقدير تسليمها فلا امتناع من انطباق منطقة البروج التي هي معدل النهار بحيث يصير المشرق مغربا وبالعكس. واستدل صاحب "الكشاف" بهذه الآية للمعتزلة فقال: قوله: "لم تكن آمنت من قبل" صفة لقوله: "نفسا" وقوله: "أو كسبت في إيمانها خيرا" عطف على "آمنت" المعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة للإيمان ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ من غير مقدمة إيمانها قبل ظهور الآيات أو مقدمة إيمانها من غير تقديم عمل صالح فلم يفرق كما ترى بين النفس. الكافرة وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكتسب خيرا ليعلم أن قوله: "الذين آمنوا عملوا الصالحات" جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبها ويسعد وإلا فالشقوة والهلاك. قال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا فقد علق نفي نفع الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط وإما سبقه مع نفي كسب الخير ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده وكذا السابق ومعه الخير ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة ويكون فيه قلب دليل المعتزلة دليلا عليهم. وأجاب ابن المنير في "الانتصاف" فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب اللف وأصله يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكتسبه من الخير بعد فلف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدل له. وقال ابن الحاجب في أماليه: الإيمان قبل مجيء الآية نافع ولو لم يكن عمل صالح غيره ومعنى الآية لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح لم يكن الإيمان قبل الآية أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها فاختصر للعلم ونقل الطيبي كلام الأئمة في ذلك ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب وبسطه أن الله تعالى لما خاطب المعاندين يقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} الآية علل الإنزال بقوله: "أن تقولوا إنما أنزل الكتاب" إلخ إزالة للعذر وإلزاما للحجة وعقبه بقوله: "فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة" تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق من طلب الاتباع ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ} الآية. أي أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها ثم قال: "هل ينظرون" الآية أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلا ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبل من الإيمان وكذا العمل الصالح مع الإيمان فكأنه قيل يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل ففي الآية لف لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر ونظيره قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} قال: فهذا: الذي عناه ابن المنير بقوله إن هذا الكلام في البلاغة يقال له اللف والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع
(11/356)
نفسا لم تكن مؤمنة من قبل ذلك إيمانها من بعد ذلك ولا ينفع نفسها كانت مؤمنة لكن لم تعمل في إيمانها عملا صالحا قبل ذلك ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك قال: وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير أي لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة. ثم قال الطيبي: وقد ظفرت بفضل الله بعد هدا التقرير على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنى ولفظا من غير إفراط ولا تفريط وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية فإنهآ يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلا والله أعلم. انتهى ملخصا. قوله: "ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته" بكسر اللام وسكون القاف بعدها مهملة هي ذات الدر من النوق. قوله: "يليط حوضه" بضم أوله ويقال ألاط حوضه إذا مدره أي جمع حجارة فصيرها كالحوض ثم سد ما بينها من الفرج بالمدر ونحوه لينحبس الماء؛ هذا أصله وقد يكون للحوض خروق فيسدها بالمدر قبل أن يملأه وفي كل ذلك إشارة إلى أن القيامة تقوم بغتة كما قال تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .
(11/357)
41 - باب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ
لِقَاءَهُ
6507- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ
"عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ
وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ
بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ
الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ
وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ
اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ
فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"
اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6508- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ
اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"
6509- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ
فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ "أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ
حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ
وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ
(11/357)
سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ
ثُمَّ قَالَ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى" قُلْتُ إِذًا لاَ
يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ
قَالَتْ فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى"
قوله: "باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" هكذا ترجم بالشق الأول من
الحديث الأول إشارة إلى بقيته على طريق الاكتفاء قال العلماء: محبة الله لعبده
إرادته الخير له وهدايته إليه وإنعامه عليه وكراهته له على الضد من ذلك. قوله:
"حدثنا حجاج" هو ابن المنهال البصري وهو من كبار شيوخ البخاري وقد روي
عن همام أيضا حجاج بن محمد المصيصي لكن لم يدركه البخاري. قوله: "عن
قتادة" لهمام فيه إسناد آخر أخرجه أحمد عن عفان عن همام عن عطاء بن السائب عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى "حدثني فلان ابن فلان أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم" فذكر الحديث بطوله بمعناه وسنده قوي وإبهام الصحابي لا يضر وليس
ذلك اختلافا على همام فقد أخرجه أحمد عن عفان عن همام عن قتادة. قوله: "عن
أنس" في رواية شعبة عن قتادة "سمعت أنسا" وسيأتي بيانه في الرواية
المعلقة. قوله: "عن عبادة بن الصامت" قد رواه حميد عن أنس عن النبي صلى
الله عليه وسلم بغير واسطة أخرجه أحمد والنسائي والبزار من طريقه. وذكر البزار أنه
تفرد به فإن أراد مطلقا وردت عليه رواية قتادة وإن أرد بقيد كونه جعله من مسند أنس
سلم. قوله: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" قال الكرماني: ليس الشرط
سببا للجزاء بل الأمر بالعكس ولكنه على تأويل الخبر أي من أحب لقاء الله أخبره بأن
أحب لقاءه وكذا الكراهة وقال غيره فيما نقله ابن عبد البر وغيره: "من"
هنا خبرية وليست شرطية فليس معناه أن سبب حب الله لقاء العبد حب العبد لقاءه ولا
الكراهة ولكنه صفة حال الطائفتين في أنفسهم عند ربهم والتقدير من أحب لقاء الله
فهو الذي أحب الله لقاءه وكذا الكراهة. قلت: ولا حاجة إلى دعوى نفي الشرطية فسيأتي
في التوحيد من حديث أبي هريرة رفعه: "قال الله عز وجل إذا أحب عبدي لقائي
أحببت لقاءه" الحديث فيعين أن "من" في حديث الباب شرطية وتأويلها
ما سبق وفي قوله: "أحب الله لقاءه" العدول عن الضمير إلى الظاهر تفخيما
وتعظيما ودفعا لتوهم عود الضمير على الموصول لئلا يتحد في الصورة المبتدأ والخبر
ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى وأيضا فعود الضمير على المصاف إليه قليل. وقرأت
بخط ابن الصائغ في "شرح المشارق" يحتمل أن يكون لقاء الله مضافا للمفعول
فأقامه مقام الفاعل ولقاءه إما مضاف للمفعول أو للفاعل الضمير أو للموصول لأن
الجواب إذا كان شرطا فالأولى أن يكون فيه ضمير نعم هو موجود هنا ولكن تقديرا.
قوله: "ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قال المازري: من قضى الله
بموته لا بد أن يموت وإن كان كارها للقاء الله ولو كره الله موته لما مات فيحمل
الحديث على كراهته سبحانه وتعالى الغفران له وإرادته لإبعاده من رحمته. قلت: ولا
اختصاص لهذا البحث بهذا الشق فإنه يأتي مثله في الشق الأول كأن يقال مثلا من قضى
الله بامتداد حياته لا يموت ولو كان محبا للموت إلخ. قوله: "قالت عائشة أو
بعض أزواجه" كذا في هذه الرواية بالشك وجزم سعد بن هشام في روايته عن عائشة بأنها
هي التي قالت ذلك ولم يتردد وهذه الزيادة في هذا الحديث لا تظهر صريحا هل هي من
كلام عبادة والمعنى أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مراجعة عائشة
أو من كلام أنس بأن يكون حضر ذلك فقد وقع في رواية حميد التي أشرت إليها بلفظ:
"فقلنا يا رسول الله" فيكون أسند القول إلى جماعة وإن كان المباشر له
واحدا وهي عائشة
(11/358)
وكذا وقع في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى التي أشرت إليها وفيها "فأكب القوم يبكون وقالوا: إنا نكره الموت قال: ليس ذلك" ولابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة نحو حديث الباب وفيه: "قيل يا رسول الله ما منا من أحد إلا وهو يكره الموت فقال: إذا كان ذلك كشف له" ويحتمل أيضا أن يكون من كلام قتادة أرسله في رواية همام ووصله في رواية سعيد بن أبي عروبة عنه عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة فيكون في رواية همام إدراج وهذا أرجح في نظري فقد أخرجه مسلم عن هداب بن خالد عن همام مقتصرا على أصل الحديث دون قوله: "فقالت عائشة إلخ" ثم أخرجه من رواية سعيد بن أبي عروبة موصولا تاما وكذا أخرجه هو وأحمد من رواية شعبة والنسائي من رواية سليمان التيمي كلاهما عن قتادة وكذا جاء عن أبي هريرة وغير واحد من الصحابة بدون المراجعة وقد أخرجه الحسن بن سفيان وأبو يعلى جميعا عن هدبة بن خالد عن همام تاما كما أخرجه البخاري عن حجاج عن همام وهدبة هو هداب شيخ مسلم فكأن مسلما حذف الزيادة عمدا لكونها مرسلة من هذا الوجه واكتفى بإيرادها موصولة من طريق سعيد بن أبي عروبة وقد رمز البخاري إلى ذلك حيث علق رواية شعبة بقوله اختصره إلخ وكذا أشار إلى رواية سعيد تعليقا وهذا من العلل الخفية جدا. قوله: "إنا لنكره الموت" في رواية سعد بن هشام "فقالت يا نبي الله أكراهة الموت؟ فكلنا نكره الموت". قوله: "بشر برضوان الله وكرامته" في رواية سعد بن هشام "بشر برحمة الله ورضوانه وجنته" وفي حديث حميد عن أنس "ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله وليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى "ولكنه إذا حضر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله والله للقائه أحب". قوله: "فليس شيء أحب إليه مما أمامه" بفتح الهمزة أي ما يستقبله بعد الموت وقد وقعت هذه المراجعة من عائشة لبعض التابعين فأخرج مسلم والنسائي من طريق شريح بن هانئ قال سمعت أبا هريرة فذكر أصل الحديث قال: "فأتيت عائشة فقلت سمعت حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا" فذكره قال: "وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت فقالت: ليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص البصر - بفتح الشين والخاء المعجمتين وآخره مهملة أي فتح المحتضر عينيه إلى فوق فلم يطرف - وحشرج الصدر - بحاء مهملة مفتوحة بعدها معجمة وآخره جيم أي ترددت الروح في الصدر - واقشعر الجلد وتشنجت" بالشين المعجمة والنون الثقيلة والجيم أي تقبضت وهذه الأمور هي حالة المحتضر وكأن عائشة أخذته من معنى الخبر الذي رواه عنها سعد بن هشام مرفوعا وأخرجه مسلم والنسائي أيضا عن شريح بن هانئ عن عائشة مثل روايته عن أبي هريرة وزاد في آخره: "والموت دون لقاء الله" وهذه الزيادة من كلام عائشة فيما يظهر لي ذكرتها استنباطا مما تقدم وعند عبد بن حميد من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: "إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له قبل موته بعام ملكا يسده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرا قيض له قبل موته بعام شيطانا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه. فإذا حضر ورأى ما أعد له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه" قال الخطابي: تضمن حديث الباب من التفسير ما فيه غنية عن غيره واللقاء يقع على أوجه: منها المعاينة ومنها البعث كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} ومنها الموت كقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ
(11/359)
لَآتٍ} وقوله: "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم" وقال ابن الأثير في النهاية: المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقول عائشة والموت دون لقاء الله يبين أن الموت غير اللقاء ولكنه معترض دون الغرض المطلوب فيجب أن يصبر عليه ويحتمل مشاقه حتى يصل إلى الفوز باللقاء. قال الطيبي: يريد أن قول عائشة إنا لنكره الموت يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت وليس كذلك لأن لقاء الله غير الموت بدليل قوله في الرواية الأخرى "والموت دون لقاء الله" لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء الله بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة. قال: ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: "إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا فلا يحب استمرار الإقامة فيها بل يستعد للارتحال عنها والكراهة بضد ذلك وقال النووي: معنى الحديث أن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة حيث يكشف الحال للمحتضر ويظهر له ما هو صائر إليه. قوله: "بشر بعذاب الله وعقوبته" في رواية سعد بن هشام "بشر بعذاب الله وسخطه" وفي رواية حميد عن أنس "وإن الكافر أو الفاجر إذا جاءه ما هو صائر إليه من السوء أو ما يلقى من الشر إلخ" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى نحو ما مضى. قوله: "اختصره أبو داود وعمرو عن شعبة" يعني عن قتادة عن أنس عن عبادة ومعنى اختصاره أنه اقتصر على أصل الحديث دون قوله: "فقالت عائشة إلخ" فأما رواية أبي داود وهو الطيالسي فوصلها الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي داود وكذا وقع لنا بعلو في مسند أبي داود الطيالسي وأما رواية عمرو وهو ابن مرزوق فوصلها الطبراني في "المعجم الكبير" عن أبي مسلم الكجي ويوسف بن يعقوب القاضي كلاهما عن عمرو بن مرزوق وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة وهو عند مسلم من رواية محمد بن جعفر وهو غندر. قوله: "وقال سعيد عن قتادة إلخ" وصله مسلم من طريق خالد بن الحارث ومحمد بن بكر كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة كما تقدم بيانه وكذا أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من رواية سعيد بن أبي عروبة ووقع لنا بعلو في "كتاب البعث" لابن أبي داود.وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم البداءة بأهل الخير في الذكر لشرفهم وإن كان هل الشر أكثر وفيه أن المجازاة من جنس العمل فإنه قابل المحبة بالمحبة والكراهة بالكراهة وفيه أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة وفيه نظر فإن اللقاء أعم من الرؤية ويحتمل على بعد أن يكون في قوله: "لقاء الله" حذف تقديره لقاء ثواب الله ونحو ذلك ووجه البعد فيه الإتيان بمقابله لأن أحدا من العقلاء لا يكره لقاء ثواب الله بل كل من يكره الموت إنما يكرهه خشية أن لا يلقى ثواب الله إما لإبطائه عن دخول الجنة بالشغل بالتبعات وإما لعدم دخولها أصلا كالكافر. وفيه أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلا على أنه بشر بالخير وكذا بالعكس. وفيه أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة
(11/360)
وأما عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي بل هي مستحبة. وفيه أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلا فمن كرهه إيثارا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموما ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصرا في العمل لم يستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله تعالى. وفيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذا من قوله: "والموت دون لقاء الله" وقد تقدم أن اللقاء أعم من الرؤية فإذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية وقد ورد بأصرح من هذا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعا في حديث طويل وفيه: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". حديث أبي موسى مثل حديث عبادة دون قوله: "فقالت عائشة إلخ "وكأنه أورده استظهارا لصحة الحديث وقد أخرجه مسلم أيضا وبريد بموحدة ثم مهملة هو ابن عبد الله بن أبي بردة. قوله: "أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم" كذا في رواية عقيل ومضى في الوفاة النبوية من طريق شعيب عن الزهري "أخبرني عروة" ولم يذكر معه أحدا ومن طريق يونس عن الزهري "أخبرني سعيد بن المسيب في رجال من أهل العلم" ولم يذكر عروة وقد ذكرت في كتاب الدعوات تسمية بعض من أبهم في هذه الرواية من شيوخ الزهري وتقدم شرح الحديث مستوفي في الوفاة النبوية ومناسبته للترجمة من جهة اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للقاء الله بعد أن خير بين الموت والحياة فاختار الموت فينبغي الاستنان به في ذلك. وقد ذكر بعض الشراح أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت لما أتاه ليقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه قل له هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟ فقال يا ملك الموت الآن فاقبض. ووجدت في "المبتدأ" لأبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري أحد الضعفاء بسند له عن ابن عمر قال: "قال ملك الموت يا رب إن عبدك إبراهيم جزع من الموت فقال: قل له الخليل إذا طال به العهد من خليله اشتاق إليه. فبلغه فقال: نعم يا رب قد اشتقت إلى لقائك فأعطاه ريحانة فشمها فقبض فيها".
(11/361)
42 - باب سَكَرَاتِ الْمَوْتِ
6510- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ
أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ
يَشُكُّ عُمَرُ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ
وَيَقُولُ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"
ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ
وَمَالَتْ يَدُهُ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْعُلْبَةُ مِنْ الْخَشَبِ
وَالرَّكْوَةُ مِنْ الأَدَمِ"
6511- حَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ
"عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الأَعْرَابِ جُفَاةً يَأْتُونَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُونَهُ مَتَى السَّاعَةُ
فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ إِنْ يَعِشْ هَذَا لاَ يُدْرِكْهُ
الْهَرَمُ
(11/361)
حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي
مَوْتَهُمْ"
6512- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ "عَنْ أَبِي
قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ
مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ
وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ
الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ
مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"
[الحديث 6512- طرفه في 6513]
6513- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي
قَتَادَةَ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ"
6514- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ
فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ
وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ"
6515- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ
مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الْجَنَّةُ فَيُقَالُ
هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَيْهِ"
6516- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ مُجَاهِدٍ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا
قَدَّمُوا"
قوله: "باب سكرات الموت" بفتح المهملة والكاف جمع سكرة قال الراغب
وغيره: السكر حالة تعرض بين المرء وعقله وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر ويطلق
في الغضب والعشق والألم والنعاس والغشي الناشىء عن الألم وهو المراد هنا. قوله:
"عن عمر بن سعيد" أي ابن أبي حسين المكي. قوله: "إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة" بضم المهملة وسكون اللام بعدها
موحدة. قوله: "شك عمر" هو ابن سعيد بن أبي حسين راويه وتقدم في الوفاة
النبوية بلفظ: "يشك عمر" وفي رواية الإسماعيلي: "شك ابن أبي
حسين". قوله: "فجعل يدخل يده" عند الكشميهني: "يديه"
بالتثنية وكذا تقدم لهم في الوفاة النبوية بهذا الإسناد في أثناء حديث أوله قصة
السواك فاختصره المؤلف هنا. قوله: "فيمسح بها" في رواية الكشميهني:
"بهما" بالتثنية وكذا لهم في الوفاة. قوله: "إن للموت سكرات"
وقع في رواية القاسم عن عائشة عند أصحاب السنن سوى أبي داود بسند حسن بلفظ:
"ثم يقول اللهم أعني على سكرات الموت" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى
(11/362)
هناك. وتقدم هناك أيضا من رواية القاسم بن محمد عن عائشة "مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي. فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: "ما أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "العلبة من الخشب والركوة من الأدم" ثبت هذا في رواية المستملي وحده وهو المشهور في تفسيرهما ووقع في "المحكم": الركوة شبه تور من أدم قال المطرزي: دلو صغير: وقال غيره: كالقصعة تتخذ من جلد ولها طوق خشب. وأما العلبة فقال العسكري: هي قدح الأعراب تتخذ من جلد. وقال ابن فارس: قدح ضخم من خشب وقد يتخذ من جلد وقيل أسفله جلد وأعلاه خشب مدور. وفي الحديث أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته وإما تكفير لسيئاته. وبهذا التقرير تظهر مناسبة أحاديث الباب للترجمة. قوله: "صدقة" هو ابن الفضل المروزي وعبدة هو ابن سليمان. وهشام هو ابن عروة. قوله: "كان رجال من الأعراب" لم أقف على أسمائهم. قوله: "جفاة" في رواية الأكثر بالجيم وفي رواية بعضهم بالمهملة وإنما وصفهم بذلك أما على رواية الجيم فلأن سكان البوادي يغلب عليهم الشظف وخشونة العيش فتجفو أخلاقهم غالبا. وأما على رواية الحاء فلقلة اعتنائهم بالملابس. قوله: "متى الساعة"؟ في رواية مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام "كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة؟ وكان ذلك لما طرق أسماعهم من تكرار اقترابها في القرآن فأرادوا أن يعرفوا تعيين وقتها. قوله: "فينظر إلى أصغرهم" في رواية مسلم: "فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال" ورواية عبدة ظاهرها تكرير ذلك ويؤيد سياق مسلم حديث أنس عنده "إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة" ولم أقف على اسم هذا بعينه لكنه يحتمل أن يفسر بذي الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد وسأل متى تقوم الساعة وقال اللهم ارحمني ومحمدا ولكن جوابه عن السؤال عن الساعة مغاير لجواب هذا. قوله: "إن يعش هذا لا يدركه الهرم" في حديث أنس عند مسلم: "وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد" وله في رواية أخرى "وعنده غلام من أزد شنوءة" بفتح المعجمة وضم النون ومد وبعد الواو همزة ثم هاء تأنيث وفي أخرى له "غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أقراني" ولا مغايرة بينهما وطريق الجمع أنه كان من أزد شنوءة وكان حليفا للأنصار وكان يخدم المغيرة وقول أنس "وكان من أقراني" وفي رواية له "من أترابي" يزيد في السن وكان سن أنس حينئذ نحو سبع عشرة سنة. قوله: "حتى تقوم عليكم ساعتكم" قال هشام هو ابن عروة راويه "يعني موتهم" وهو موصول بالسند المذكور وفي حديث أنس "حتى تقوم الساعة" قال عياض: حديث عائشة هذا يفسر حديث أنس وأن المراد ساعة المخاطبين وهو نظير قوله: "أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها الآن أحد" وقد تقدم بيانه في كتاب العلم وأن المراد انقراض ذلك القرن وأن من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مضت مائة سنة من وقت تلك المقالة لا يبقى منهم أحد ووقع الأمر كذلك فإن آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبو الطفيل عامر بن واثلة كما جزم به مسلم وغيره وكانت وفاته سنة عشر ومائة من الهجرة وذلك عند رأس مائة سنة من وقت تلك المقالة وقيل كانت وفاته قبل ذلك فإن كان كذلك فيحتمل أن يكون تأخر بعده بعض من أدرك ذلك الزمان وإن لم يثبت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبه احتج جماعة من المحققين على كذب من ادعى الصحبة أو الرؤية ممن تأخر عن ذلك الوقت. وقال الراغب: الساعة جزء من الزمان
(11/363)
ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة الحساب قال الله تعالى: {وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أو لما نبه عليه بقوله: {أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء: الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة والوسطى وهي موت أهل القرن الواحد نحو ما روى أنه رأى عبد الله بن أنيس فقال: إن يطل عمر هذا الغلام لم يمت حتى تقوم الساعة فقيل أنه آخر من مات من الصحابة. والصغرى موت الإنسان فساعة كل إنسان موته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عند هبوب الريح: تخوفت الساعة يعني موته انتهى. وما ذكره عن عبد الله بن أنيس لم أقف عليه ولا هو آخر من مات من الصحابة جزما قال الداودي: هذا الجواب من معاريض الكلام فإنه لو قال لهم لا أدري ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء وقبل تمكن الإيمان في قلوبهم لارتابوا فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذي ينقرضون هم فيه ولو كان تمكن الإيمان في قلوبهم لأفصح لهم بالمراد. وقال ابن الجوزي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بأشياء على سبيل القياس وهو دليل معمول به فكأنه لما نزلت عليه الآيات في تقريب الساعة كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} حمل ذلك على أنها لا تزيد على مضى قرن واحد ومن ثم قال في الدجال "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه" فجوز خروج الدجال في حياته قال: وفيه وجه آخر فذكر نحو ما تقدم. قلت: والاحتمال الذي أبداه بعيد جدا. والذي قبله هو المعتمد والفرق بين الخبر عن الساعة وعن الدجال تعيين المدة في الساعة دونه والله أعلم. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى حدث بها خواص أصحابه تدل على أن بين يدي الساعة أمورا عظاما كما سيأتي بعضها صريحا وإشارة ومضى بعضها في علامات النبوة. وقال الكرماني: هذا الجواب من الأسلوب الحكيم أي دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم لأن معرفتكم به تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس وحلحلة بمهملتين مفتوحتين ولامين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة وقد صرح بسماعه من ابن كعب في الرواية الثانية والسند كله مدنيون ولم يختلف الرواة في الموطأ عن مالك فيه. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر" بضم الميم على البناء للمجهول ولم أقف على اسم المار ولا الممرور بجنازته. قوله: "عليه" أي على النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في "الموطآت" للدار قطني من طريق إسحاق بن عيسى عن مالك بلفظ: "مر برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة" والباء على هذا بمعنى على وذكر الجنازة باعتبار الميت. قوله: "قال مستريح" كذا هنا ووقع في رواية: "فقال" بزيادة الفاء في أوله وكذا في رواية المحابي المذكورة وكذا للنسائي من رواية وهب بن كيسان عن معبد بن مالك وقال في روايته: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلعت جنازة" قوله: "مستريح ومستراح منه" الواو فيه بمعنى أو وهي للتقسيم على ما صرح بمقتضاه في جواب سؤالهم. قوله: "قالوا" أي الصحابة ولم أقف على اسم السائل منهم بعينه إلا أن في رواية إبراهيم الحربي عند أبي نعيم "قلنا" فيدخل فيهم أبو قتادة فيحتمل أن يكون هو السائل. قوله: "ما المستريح والمستراح منه" في رواية الدار قطني "وما المستراح منه" بإعادة ما. قوله: "من نصب الدنيا وأذاها" زاد النسائي رواية وهب بن كيسان "من أوصاب الدنيا" والأوصاب جمع وصب بفتح الواو والمهملة ثم موحدة وهو دوام الوجع ويطلق أيضا على فتور البدن والنصب بوزنه لكن أوله نون هو التعب وزنه ومعناه والأذى من عطف العام على الخاص: قال ابن التين
(11/364)
يحتمل أن يريد بالمؤمن التقى خاصة ويحتمل كل مؤمن. والفاجر يحتمل أن يريد به الكافر ويحتمل أن يدخل فيه العاصي. وقال الداودي: أما استراحة العباد فلما يأتي به من المنكر فإن أنكروا عليه آذاهم وإن تركوه أثموا واستراحة البلاد مما يأتي به من المعاصي فإن ذلك مما يحصل به الجدب فيقتضي هلاك الحرث والنسل. وتعقب الباجي أول كلامه بأن من ناله أذاه لا يأثم بتركه لأنه بعد أن ينكر بقلبه أو ينكر بوجه لا يناله به أذى ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه لما يقع لهم من ظلمه وراحة الأرض منه لما يقع عليها من غصبها ومنعها من حقها وصرفه في غير وجهه وراحة الدواب مما لا يجوز من إتعابها والله أعلم. قوله: "يحيى" هو القطان وعبد ربه بن سعيد كذا وقع هنا لأبي ذر عن شيوخه الثلاثة وكذا في رواية أبي زيد المروزي ووقع عند مسلم عن محمد بن المثنى "عن يحيى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند" وكذا أخرجه أبو يعلى من طريق يحيى القطان عن عبد الله بن سعيد لكن لم يذكر جده وكذا عنده وعند مسلم من طريق عبد الرزاق وعند الإسماعيلي أيضا من طريق عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال كل منهما "حدثنا عبد الله بن سعيد" وكذا أخرجه ابن السكن من طريق عبد الرزاق عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طرق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ البخاري فيه مثله سواء قال أبو علي الجياني: هذا هو الصواب وكذا رواه ابن السكن عن الفربري فقال في روايته: "عن عبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند" والحديث محفوظ له لا لعبد ربه. قلت: وجزم المزي في "الأطراف" أن البخاري أخرجه لعبد الله بن سعيد بن أبي هند بهذا السند وعطف عليه رواية مسلم ولكن التصريح بابن أبي هند لم يقع في شيء من نسخ البخاري. قوله: "مستريح ومستراح منه المؤمن يستريح" كذا أورده بدون السؤال والجواب مقتصرا على بعضه وأورده الإسماعيلي من طريق بندار وأبي موسى عن يحيى القطان ومن طريق عبد الرزاق قال: "حدثنا عبد الله بن سعيد" تاما ولفظه: "مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة" فذكر مثل سياق مالك لكن قال: "فقيل يا رسول الله ما مستريح إلخ". "تنبيه": مناسبة دخول هذا الحديث في الترجمة أن الميت لا يعدو أحد القسمين إما مستريح وإما مستراح منه وكل منهما يجوز أن يشدد النبي عند الموت وأن يخفف والأول هو الذي يحصل له سكرات الموت ولا يتعلق ذلك بتقواه ولا بفجوره بل إن كان من أهل التقوى ازداد ثوابا وإلا فيكفر عنه بقدر ذلك ثم يستريح من أذى الدنيا الذي هذا خاتمته ويؤيد ذلك ما تقدم من كلام عائشة في الحديث الأول وقد قال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن يهون على سكرات الموت إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن. ومع ذلك فالذي يحصل للمؤمن من البشرى ومسرة الملائكة بلقائه ورفقهم به وفرحه بلقاء ربه يهون عليه كل ما يحصل له من ألم الموت حتى يصير كأنه لا يحس بشيء من ذلك. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة وليس لشيخه عبد الله بن أبي بكر في الصحيح عن أنس إلا هذا الحديث. قوله: "يتبع الميت" كذا للسرخسي والأكثر وفي رواية المستملي: "المرء" وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "المؤمن" والأول المعتمد فهو المحفوظ من حديث ابن عيينة وهو كذلك عند مسلم. قوله: "يتبعه أهله وماله وعمله" هذا يقع في الأغلب ورب ميت لا يتبعه إلا عمله فقط والمراد من يتبع جنازته من أهله ورفقته ودوابه على ما جرت به عادة العرب وإذا انقضى أمر الحزن عليه رجعوا سواء أقاموا بعد الدفن أم لا ومعنى بقاء عمله أنه يدخل معه القبر وقد وقع في حديث البراء بن عازب الطويل في صفة المسألة في القبر عند أحمد
(11/365)
وغيره ففيه: "ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح" وقال في حق الكافر "ويأتيه رجل قبيح الوجه" الحديث وفيه: "بالذي يسوؤك وفيه عملك الخبيث" قال الكرماني: التبعية في حديث أنس بعضها حقيقة وبعضها مجاز فيستفاد منه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه. قلت: هو في الأصل حقيقة في الحس ويطرقه المجاز في البعض وكذا المال وأما العمل فعلى الحقيقة في الجميع وهو مجاز بالنسبة إلى التبعية في الحس. قوله: "أبو النعمان" هو محمد بن الفضل والسند إلى نافع بصريون. قوله: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي والسرخسي "على مقعده" وهذا العرض يقع على الروح حقيقة وعلى ما يتصل به من البدن الاتصال الذي يمكن به إدراك التنعيم أو التعذيب على ما تقدم تقريره وأبدى القرطبي في ذلك احتمالين: هل هو على الروح فقط أو عليها وعلى جزء من البدن؟ وحكى ابن بطال عن بعض أهل بلدهم أن المراد بالعرض هنا الإخبار بأن هذا موضع جزائكم على أعمالكم عند الله وأريد بالتكرير تذكارهم بذلك واحتج بأن الأجساد تفنى والعرض لا يقع على شيء فإن قال: فبان أن العرض الذي يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة وتعقب بأن حمل العرض على الإخبار عدول عن الظاهر بغير مقتض لذلك ولا يجوز العدول إلا بصارف يصرفه عن الظاهر قلت: ويؤيد الحمل على الظاهر أن الخبر ورد على العموم في المؤمن والكافر فلو اختص بالروح لم يكن للشهيد في ذلك كبير فائدة لأن روحه منعمة جزما كما في الأحاديث الصحيحة وكذا روح الكافر معذبة في النار جزما فإذا حمل على الروح التي لها اتصال بالبدن ظهرت فائدة ذلك في حق الشهيد وفي حق الكافر أيضا. قوله: "غدوة وعشية" أي أول النهار وآخره بالنسبة إلى أهل الدنيا. قوله: "إما النار وإما الجنة" تقدم في الجنائز من رواية مالك بلفظ: "إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة" وتقدم توجيهه في أواخر كتاب الجنائز؛ وتقدم هناك بحث القرطبي في "المفهم". ثم إن هذا العرض للمؤمن المتقي والكافر ظاهر وأما المؤمن المخلط فيحتمل أيضا أن يعرض عليه مقعده من الجنة التي سيصير إليها. قلت: والانفصال عن هذا الإشكال يظهر من الحديث الذي أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة السؤال في القبر وفيه: "ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا" الحديث وفيه في حق الكافر "ثم يفتح له باب من أبواب النار" وفيه: "فيزداد حسرة وثبورا" في الموضعين وفيه: "لو أطعته" وأخرج الطبراني عن ابن مسعود "ما من نفس إلا وتنظر في بيت في الجنة وبيت في النار فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة فيقال: لو عملتم ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار فيقال لولا أن من الله عليكم" ولأحمد عن عائشة ما يؤخذ منه أن رؤية ذلك للنجاة أو العذاب في الآخرة فعلى هذا يحتمل في المذنب الذي قدر عليه أن يعذب قبل أن يدخل الجنة أن يقال له مثلا بعد عرض مقعده من الجنة: هذا مقعدك من أول وهلة لو لم تذنب وهذا مقعدك من أول وهلة لعصيانك نسأل الله العفو والعافية من كل بلية في الحياة وبعد الموت إنه ذو الفضل العظيم. قوله: "فيقال هذا مقعدك حتى تبعث إليه" في رواية الكشميهني: "عليه" وفي طريق مالك "حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" وقد بينت الإشارة إليه بعد خمسة أبواب. حديث عائشة في النهي عن سب الأموات تقدم شرحه
(11/366)
مستوفى في أواخر كتاب الجنائز.
(11/367)
43 - باب نَفْخِ الصُّورِ. قَالَ مُجَاهِدٌ الصُّورُ كَهَيْئَةِ
الْبُوقِ زَجْرَةٌ صَيْحَةٌ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ النَّاقُورِ الصُّورِ الرَّاجِفَةُ النَّفْخَةُ الأُولَى
وَ الرَّادِفَةُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ
6517- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ
مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى
الْعَالَمِينَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى
الْعَالَمِينَ قَالَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ
الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى
فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ
يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى
فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ عز
وجل"
6518- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ
فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ رَوَاهُ
أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب نفخ الصور" تكرر ذكره في القرآن في الأنعام والمؤمنين والنمل
والزمر وق وغيرها وهو بضم المهملة وسكون الواو وثبت كذلك في القراءات المشهورة
والأحاديث وذكر عن الحسن البصري أنه قرأها بفتح الواو جمع صورة وتأوله على أن
المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح وقال أبي عبيدة في
"المجاز": يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة كما يقال سور المدينة
جمع سورة قال الشاعر "لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة" فيستوي
معنى القراءتين. وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد: كالصوف جمع صوفة قالوا والمراد
النفخ في الصور وهي الأجساد لتعاد فها الأرواح كما قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي} وتعقب قوله: "جمع" بأن هذه أسماء أجناس لا جموع وبالغ
النحاس وغيره في الرد على التأويل وقال الأزهري: إنه خلاف ما عليه أهل السنة
والجماعة. قلت: وقد أخرج أبو الشيخ في "كتاب العظمة" من طريق وهب بن
منبه من قوله قال: خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة ثم قال للعرش:
خذ الصور فتعلق به. ثم قال: كن فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب
بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة. فذكر الحديث وفيه ثم تجمع الأرواح كلها في الصور
ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح في جسدها فعلى هذا فالنفخ يقع في
الصور أولا ليصل النفخ بالروح إلى الصور وهي الأجساد فإضافة النفخ إلى الصور الذي
هو القرن حقيقة وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز. قوله: "قال مجاهد الصور
كهيئة البوق" وصله
(11/367)
الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} قال كهيئة البوق. وقال صاحب الصحاح. البوق الذي يزمر به
وهو معروف ويقال للباطل يعني يطلق ذلك عليه مجازا لكونه من جنس الباطل. تنبيه: لا
يلزم من كون الشيء مذموما أن لا يشبه به الممدوح فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة
الجرس مع النهي عن استصحاب الجرس كما تقدم تقريره في بدء الوحي والصور إنما هو قرن
كما جاء في الأحاديث المرفوعة وقد وقع في قصة بدء الأذان بلفظ البوق والقرن في
الآلة التي يستعملها اليهود للأذان ويقال إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن
وشاهده قول الشاعر:
نحن نفخناهم غداة النقعين ... نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما
الصور؟ قال: "قرن ينفخ فيه" والترمذي أيضا وحسنه من حديث أبي سعيد
مرفوعا: "كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر
بالنفخ" وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة
ولأحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه: "جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره
وهو صاحب الصور يعني إسرافيل" وفي أسانيد كل منهما مقال. وللحاكم بسند حسن عن
يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رفعه: "إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر
نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان".
قوله: "زجرة: صيحة" هو من تفسير مجاهد أيضا. وصله الفريابي من طريق ابن
أبي نجيح مجاهد في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ
يَنْظُرُونَ} قال: صيحة. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قال: صيحة. قلت: وهي عبارة عن نفخ الصور النفخة
الثانية كما عبر بها عن النفخة الأولى في قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} الآية. قوله: "قال ابن عباس: الناقور
الصور" وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال: الصور ومعنى نقر: نفخ قاله في
الأساس. وأخرج البيهقي من طريق أخرى عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ
فِي النَّاقُورِ} قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وقد التقم
صاحب القرن القرن" الحديث. "تنبيه" اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل
عليه السلام ونقل فيه الحليمي الإجماع ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه
المذكور وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه وكذا في
حديث الصور الطويل الذي أخرجه عبد بن حميد والطبري وأبو يعلى في الكبير والطبراني
في الطوالات وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية والبيهقي في البعث من حديث أبي
هريرة ومداره على إسماعيل بن رافع واضطرب في سنده مع ضعفه فرواه عن محمد بن كعب
القرظي تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل مبهم ومحمد عن أبي هريرة تارة بلا واسطة
وتارة بواسطة رجل من الأنصار مبهم أيضا وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد
الضعفاء أيضا في تفسيره عن محمد بن عجلان عن محمد بن كعب القرظي واعترض مغلطاي على
عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع وخفي عليه أن الشامي أضعف منه ولعله
سرقه منه فألصقه بابن عجلان وقد قال الدار قطني: إنه متروك يضع الحديث وقال
الخليلي: شيخ ضعيف شحن
(11/368)
تفسيره بما لا يتابع عليه. وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في حديث الصور: جمعه إسماعيل ابن رافع من عدة آثار وأصله عنده عن أبي هريرة فساقه كله مساقا واحدا. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في سراجه وتبعه القرطبي في التذكرة وقول عبد الحق في تضعيفه أولى وضعفه قبله البيهقي فوقع في هذا الحديث عند علي بن معبد "إن الله خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش" الحديث وقد ذكرت ما جاء عن وهب بن منبه في ذلك فلعله أصله وجاء أن الذي ينفخ في الصور غيره ففي الطبراني الأوسط عن عبد الله بن الحارث "كنا عند عائشة فقالت يا كعب أخبرني عن إسرافيل" فذكر الحديث وفيه: "وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى يلتقم الصور محنيا ظهره شاخصا ببصره إلى إسرافيل وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور فقالت عائشة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ورجاله ثقات إلا على بن زيد بن جدعان ففيه ضعف فإن ثبت حمل على أنهما جميعا ينفخان ويؤيده ما أخرجه هناد بن السري في كتاب الزهد بسند صحيح لكنه موقوف علي عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: "ما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور" ومن طريق عبد الله بن ضمرة مثله وزاد: "ينتظران متى ينفخان" ونحوه عند أحمد من طريق سليمان التيمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب - أو قال بالعكس - ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا" ورجاله ثقات وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بغير شك ولابن ماجه والبزار من حديث أبي سعيد رفعه: "إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران" وعلى هذا فقوله في حديث عائشة "إنه إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه نفخ أنه ينفخ النفخة الأولى وهي نفخة الصعق ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية وهي نفخة البعث". قوله: "الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية" هو من تفسير ابن عباس أيضا وصله الطبري أيضا وابن أبي حاتم بالسند المذكور وقد تقدم بيانه في تفسير سورة والنازعات وبه جزم الفراء وغيره في "معاني القرآن" وعن مجاهد قال: الراجفة الزلزلة والرادفة الدكدكة أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما عنه ونحوه في حديث الصور الطويل قال في رواية علي بن معبد: ثم ترتج الأرض وهي الراجفة فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج. ويمكن الجمع بأن الزلزلة تنشأ عن نفخة الصعق. حديث أبي هريرة "إن الناس يصعقون" وقد تقدم شرحه في قصة موسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء وذكرت فيه ما نقل عن ابن حزم أن النفخ في الصور يقع أربع مرات وتعقب كلامه في ذلك ثم رأيت في كلام ابن العربي أنها ثلاث: نفخة الفزع كما في النمل. ونفخة الصعق كما في الزمر ونفخة البعث وهي المذكورة في الزمر أيضا. قال القرطبي: والصحيح أنهما نفختان فقط لثبوت الاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} في من الآيتين ولا يلزم من مغايرة الصعق للفزع أن لا يحصلا معا من النفخة الأولى ثم وجدت مستند ابن العربي في حديث الصور الطويل فقال فيه: "ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين" أخرجه الطبري هكذا مختصرا وقد ذكرت أن سنده ضعيف ومضطرب وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنهما نفختان ولفظه في أثناء حديث مرفوع "ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" وأخرج البيهقي بسند
(11/369)
قوي عن ابن مسعود موقوفا "ثم يقوم ملك الصور بين السماء
والأرض فينفخ فيه والصور قرن فلا يبقى لله خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات
إلا من شاء ربك ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون" وفي حديث أوس بن
أوس الثقفي رفعه: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه الصعقة وفيه النفخة"
الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقد تقدم
في تفسير سورة الزمر من حديث أبي هريرة "بين النفختين أربعون" وفي كل
ذلك دلالة على أنهما نفختان فقط وقد تقدم شرحه هناك وفيه شرح قول أبي هريرة لما
قيل له أربعون سنة "أبيت" بالموحدة ومعناه امتنعت من تبيينه لأني لا
أعلمه فلا أخوص فيه بالرأي وقال القرطبي في "التذكرة": يحتمل قوله
امتنعت أن يكون عنده علم منه ولكنه لم يفسره لأنه لم تدع الحاجة إلى بيانه ويحتمل
أن يريد امتنعت أن أسأل عن تفسيره فعلى الثاني لا يكون عنده علم منه قال: وقد جاء
أن بين النفختين أربعين عاما قلت: وقع كذلك في طريق ضعيف عن أبي هريرة في تفسير
ابن مردويه وأخرج ابن المبارك في "الرقائق" من مرسل الحسن "بين
النفختين أربعون سنة: الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيى الله بها كل
ميت" ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس وهو ضعيف أيضا وعنده أيضا ما يدل
على أن أبا هريرة لم يكن عنده علم بالتعيين فأخرج عنه بسند جيد أنه لما قالوا "أربعون
ماذا" قال: "هكذا سمعت" وأخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة فذكر حديث
أبي هريرة منقطعا ثم قال: "قال أصحابه: ما سألناه عن ذلك ولا زادنا عليه غير
أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة" وفي هذا تعقب على قول الحليمي:
اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة. قلت وجاء فيما يصنع بالموتى بين
النفختين ما وقع في حديث الصور الطويل أن جميع الأحياء إذا ماتوا بعد النفخة
الأولى ولم يبق إلا الله قال سبحانه: أنا الجبار لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد
فيقول: لله الواحد القهار. وأخرج النحاس من طريق أبي وائل عن عبد الله أن ذلك يقع
بعد الحشر ورجحه. ورجح القرطبي الأول. ويمكن الجمع بأن ذلك يقع مرتين وهو أولى.
وأخرج البيهقي من طريق أبي الزعراء: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر الدجال إلى أن
قال: "ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون فليس في بني آدم خلق إلا في
الأرض منه شيء قال فيرسل الله ماء من تحت العرش فتنبت جسمانهم ولحماتهم من ذلك
الماء كما تنبت الأرض من الري" ورواته ثقات. إلا أنه موقوف."
تنبيه": إذا تقرر أن النفخة للخروج من القبور فكيف تسمعها الموتى؟ والجواب:
يجوز أن تكون نفخة البعث تطول إلى أن يتكامل إحياؤهم شيئا بعد شيء وتقدم الإلمام
في قصة موسى بشيء مما ورد في تعيين من استثنى الله تعالى في قوله تعالى: {فَصَعِقَ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وحاصل ما
جاء في ذلك عشرة أقوال: الأول أنهم الموتى كلهم لكونهم لا إحساس لهم فلا يصعقون
وإلى هذا جنح القرطبي في "المفهم" وفيه ما فيه ومستنده أنه لم يرد في
تعيينهم خبر صحيح وتعقبه صاحبه القرطبي في "التذكرة"1 فقال فد صح فيه
حديث أبي هريرة؛ وفي الزهد لهناد بن السري عن سعيد بن جبير موقوفا هم الشهداء
وسنده إلى سعيد صحيح. وسأذكر حديث أبي هريرة في الذي بعده وهذا هو قول الثاني.
الثالث الأنبياء وإلى ذلك جنح البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه أن يكون موسى ممن
استثنى الله قال: ووجهه
ـــــــ
1 القرطبي صاحب "التذكرة" تلميذ القرطبي صاحب "المفهم شرح
مسلم"
(11/370)
عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار. وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع له في صعقة الطور. ثم ذكر أثر سعيد بن جبير في الشهداء وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله عز وجل صححه الحاكم ورواته ثقات ورجحه الطبري. الرابع قال يحيى بن سلام في تفسيره: بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يموت الثلاثة ثم يقول الله لملك الموت مت فيموت. قلت: وجاء نحو هذا مسندا في حديث أنس أخرجه البيهقي وابن مردويه بلفظ: "فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبريل وميكائيل وملك الموت" الحديث وسنده ضعيف وله طريق أخرى عن أنس ضعيفة أيضا عند الطبري وابن مردويه وسياقه أتم وأخرج الطبري بسند صحيح عن إسماعيل السدي ووصله إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عن ابن عباس مثل يحيى بن سلام ونحوه عن سعيد بن المسيب أخرجه الطبري وزاد: "ليس فيهم حملة العرش لأنهم فوق السماوات" الخامس يمكن أن يأخذ مما في الرابع. السادس الأربعة المذكورون وحملة العرش وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل المعروف بحديث الصور وقد تقدمت الإشارة إليه وأن سنده ضعيف مضطرب وعن كعب الأحبار نحوه وقال: هم اثنا عشر أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البيهقي من طريق زيد بن أسلم مقطوعا ورجاله ثقات. وجمع في حديث الصور بين هذا القول وبين القول أنهم الشهداء ففيه: "فقال أبو هريرة يا رسول الله فمن استثنى حين الفزع؟ قال: الشهداء" ثم ذكر نفخة الصعق على ما تقدم. السابع موسى وحده أخرجه الطبري بسند ضعيف عن أنس وعن قتادة وذكره الثعلبي عن جابر. الثامن الولدان الذين في الجنة والحور العين. التاسع هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب حكاهما الثعلبي عن الضحاك بن مزاحم. العاشر الملائكة كلهم جزم به أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل" فقال: الملائكة أرواح لا أرواح فيها فلا يموتون أصلا. وأما ما وقع عند الطبري بسند صحيح عن قتادة قال قال الحسن يستثنى الله وما يدع أحدا إلا أذاقه الموت فيمكن أن يعد قولا آخر. قال البيهقي استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال لأن الاستثناء وقع من سكان السماوات والأرض وهؤلاء ليسوا من سكانها لأن العرش فوق السماوات فحملته ليسوا من سكانها وجبريل وميكائيل من الصافين حول العرش ولأن الجنة فوق السماوات والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقتا للبقاء ويدل على أن المستثنى غير الملائكة ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وصححه الحاكم من حديث لقيط ابن عامر مطولا وفيه: "يلبثون ما لبثهم ثم تبعث الصائحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من أحد إلا مات حتى الملائكة الذين مع ربك" . قوله في رواية أبي الزناد عن الأعرج "فما أدري أكان فيمن صعق" كذا أورده مختصرا وبقيته "أم لا" أورده الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن شيخ البخاري فيه. قوله: "رواه أبو سعيد" يعني الخدري "عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أصل الحديث وقد تقدم موصولا في كتاب الأشخاص وفي قصة موسى من أحاديث الأنبياء وذكرت شرحه في قصة موسى أيضا.
(11/371)
44 - باب يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/371)
6519- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ
وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ
الأَرْضِ"
6520- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
"عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا
الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا
لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَارَكَ الرَّحْمَنُ
عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ بَلَى قَالَ تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً كَمَا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ
أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ قَالَ إِدَامُهُمْ بَالاَمٌ وَنُونٌ قَالُوا وَمَا هَذَا
قَالَ ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا"
6521- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ
"سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُحْشَرُ
النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ
نَقِيٍّ قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ"
قوله: "باب يقبض الله الأرض يوم القيامة" لما ذكر ترجمة نفخ الصور أشار
إلى ما وقع في سورة الزمر قبل آية النفخ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية وفي قوله تعالى:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ما قد يتمسك به أن قبض السماوات
والأرض يقع بعد النفخ في الصور أو معه وسيأتي. قوله: "رواه نافع عن ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم" سقط هذا التعليق هنا في رواية بعض شيوخ أبي ذر
وقد وصله في كتاب التوحيد ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "عبد
الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد. قوله: "عن أبي سلمة" كذا
قال يونس وخالفه عبد الرحمن بن خالد فقال: "عن الزهري عن سعيد بن
المسيب" كما تقدم في تفسير سورة الزمر وهذا الاختلاف لم يتعرض له الدار قطني
في "العلل". وقد أخرج ابن خزيمة في كتاب التوحيد الطريقين وقال: هما
محفوظان عن الزهري وسأشبع القول فيه إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد مع شرح
الحديث إن شاء الله تعالى وأقتصر هنا على ما يتعلق بتبديل الأرض لمناسبة الحال.
قوله: "يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه" زاد في رواية ابن وهب عن
يونس "يوم القيامة" قال عياض: هذا الحديث جاء في الصحيح على ثلاثة ألفاظ.
القبض والطي والأخذ. وكلها بمعنى الجمع فإن السماوات مبسوطة والأرض مدحوة ممدودة
ثم رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة والتبديل فعاد ذلك إلى ضم بعضها إلى بعض
وإبادتها فهو تمثيل لصفة قبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وتفرقها دلالة على
المقبوض
(11/372)
والمبسوط لا على البسط والقبض قد يحتمل أن يكون إشارة إلى الاستيعاب انتهى. وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقد اختلف في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هل المراد ذات الأرض وصفتها أو تبديل صفتها فقط وسيأتي بيانه في شرح ثالث أحاديث هذا الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن خالد" هو ابن يزيد وفي رواية شعيب بن الليث عن أبيه "حدثني خالد بن يزيد" والسند كله بصريون إلى سعيد ومنه إلى منتهاه مدنيون. قوله: "تكون الأرض يوم القيامة" يعني أرض الدنيا "خبزة" بضم الحاء المعجمة وسكون الموحدة وفتح الزاي قال الخطابي: الخبزة الطلمة بضم المهملة وسكون اللام وهو عجين يوضع في الحفرة بعد إيقاد النار فيها قال والناس يسمونها الملة بفتح الميم وتشديد اللام وإنما الملة الحفرة نفسها. قوله: "يتكفؤها الجبار" بفتح المثناة والكاف وتشديد الفاء المفتوحة بعدها همزة أي يميلها من كفأت الإناء إذا قلبته وفي رواية مسلم: "يكفؤها" بسكون الكاف. قوله: "كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر" قال الخطابي: يعني خبز الملة الذي يصنعه المسافر فإنها لا تدحى كما تدحى الرقاقة وإنما تقلب على الأيدي حتى تستوي وهذا على أن السفر بفتح المهملة والفاء ورواه بعضهم بضم أوله جمع سفرة وهو الطعام الذي يتخذ للمسافر ومنه سميت السفرة. قوله: "نزلا لأهل الجنة" النزل بضم النون وبالزاي وقد تسكن. ما يقدم للضيف وللعسكر يطلق على الرزق وعلى الفضل ويقال أصلح للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزلوا عليه من الغذاء وعلى ما يعجل للضيف قبل الطعام وهو اللائق هنا قال الداودي: المراد الله أنه يأكل منها من سيصير إلى الجنة من أهل المحشر لا أنهم لا يأكلونها حتى يدخلوا الجنة. قلت: وظاهر الخبر يخالفه وكأنه بنى على ما أخرجه الطبري عن سعيد بن جبير قال: تكون الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. ومن طريق أبي معشر عن محمد بن كعب أو محمد ابن قيس نحوه وللبيهقي بسند ضعيف عن عكرمة تبدل الأرض مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب. وعن أبي جعفر الباقر نحوه. وسأذكر بقية ما يتعلق بذلك في الحديث الذي بعده. ونقل الطيبي عن البيضاوي أن هذا الحديث مشكل جدا لا من جهة إنكار صنع الله وقدرته على ما يشاء بل لعدم التوقيف على قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم والمأكول مع ما ثبت في الآثار أن هذه الأرض تصير يوم القيامة نارا وتنضم إلى جهنم فلعل الوجه فيه أن معنى قوله خبزة واحدة أي كخبزة واحدة من نعتها كذا وكذا وهو نظير ما في حديث سهل يعني المذكور بعده كقرصة النقى فضرب المثل بها لاستدارتها وبياضها فضرب المثل في هذا الحديث بخبزة تشبه الأرض في معنيين: أحدهما بيان الهيئة التي تكون الأرض عليها يومئذ والآخر بيان الخبزة التي يهيئها الله تعالى نزلا لأهل الجنة وبيان عظم مقدارها ابتداعا واختراعا. قال الطيبي: وإنما دخل عليه الإشكال لأنه رأى الحديثين في باب الحشر فظن أنهما لشيء واحد. وليس كذلك وإنما هذا الحديث من باب وحديث سهل من باب وأيضا فالتشبيه لا يستلزم المشاركة بين المشبه والمشبه به في جميع الأوصاف بل يكفي حصوله في البعض وتقريره أنه شبه أرض الحشر بالخبزة في الاستواء والبياض وشبه أرض الجنة في كونها نزلا لأهلها ومهيأة لهم تكرمة بعجالة الراكب زاده يقنع به في سفره. قلت: آخر كلامه يقرر ما قال القاضي أن كون أرض الدنيا تصير نارا محمول على حقيقته وأن كونها تصير خبزة يأكل منها أهل الموقف محمول على المجاز والآثار التي أوردتها عن سعيد بن جبير وغيره ترد عليه والأولى الحمل على الحقيقة مهما أمكن
(11/373)
وقدرة الله تعالى صالحة لذلك بل اعتقاد كونه حقيقة أبلغ وكون
أهل الدنيا1 ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول زمان الموقف بل
يقلب الله لهم بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير
علاج ولا كلفة ويكون معنى قوله: "نزلا لأهل الجنة" أي الذين يصيرون إلى
الجنة أعم من كون ذلك يقع بعد الدخول إليها أو قبله والله أعلم. قوله: "فأتى
رجل" في رواية الكشميهني: "فأتاه". قوله: "من اليهود" لم
أقف على اسمه. قوله: "فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك" يريد
أنه أعجبه إخبار اليهودي عن كتابهم بنظير ما أخبر به من جهة الوحي وكان يعجبه
موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فكيف بموافقتهم فيما أنزل عليه. قوله:
"حتى بدت نواجذه" بالنون والجيم والذال المعجمة جمع ناجذ وهو آخر
الأضراس ولكل إنسان أربع نواجذ. وتطلق النواجذ أيضا على الأنياب والأضراس. قوله:
"ثم قال" في رواية الكشميهني: "فقال". قوله: "ألا أخبرك"
في رواية مسلم: "ألا أخبركم". قوله: "بإدامهم" أي ما يؤكل به
الخبز. قوله: "بالام" بفتح الموحدة بغير همز و قوله: "ونون"
أي بلفظ أول السورة. قوله: "قالوا" أي الصحابة وفي رواية مسلم:
"فقالوا" قوله: "ما هذا" في رواية الكشميهني: "وما هذا"
بزيادة واو. قوله: "قال ثور ونون" قال الخطابي هكذا رووه لنا وتأملت
النسخ المسموعة من البخاري من طريق حماد ابن شاكر وإبراهيم بن معقل والفربري فإذا
كلها على نحو واحد. قلت: وكذا عند مسلم وكذا أخرجه الإسماعيلي وغيره قال الخطابي:
فأما نون فهو الحوت على ما فسر في الحديث وأما بالام فدل التفسير من اليهودي على
أنه اسم للثور وهو لفظ مبهم لم ينتظم ولا يصح أن يكون على التفرقة اسما لشيء فيشبه
أن يكون اليهودي أراد أن يعمى الاسم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين وإنما هو في حق
الهجاء لام ياء هجاء لأي بوزن لعى وهو الثور الوحشي وجمعه آلاء بثلاث همزات وزن
أحبال فصحفوه فقالوا بالام بالموحدة وإنما هو بالياء آخر الحروف وكتبوه بالهجاء
فأشكل الأمر. هذا أقرب ما يقع لي فيه إلا أن يكون إنما عبر عنه بلسانه ويكون ذلك
بلسانهم وأكثر العبرانية فيما يقوله أهل المعرفة مقلوب على لسان العرب بتقديم في
الحروف وتأخير والله أعلم بصحته. وقال عياض: أورد الحميدي في اختصاره يعني الجمع
بين الصحيحين هذا الحديث بلفظ باللأي بكسر الموحدة وألف وصل ولام ثقيلة بعدها همزة
مفتوحة خفيفة بوزن الرحى واللأي الثور الوحشي قال: ولم أر أحدا رواه كذلك فلعله من
إصلاحه وإذا كان هكذا بقيت الميم زائدة إلا أن يدعي أنها حرفت عن الياء المقصورة
قال: وكل هذا غير مسلم لما فيه من التكلف والتعسف قال: وأولى ما يقال في هذا أن
تبقى الكلمة على ما وقع لي الرواية ويحمل على أنها عبرانية ولذلك سأل الصحابة
اليهودي عن تفسيرها ولو كان اللأي لعرفوها لأنها من لسانهم. وجزم النووي بهذا
فقال: هي لفظة عبرانية معناها ثور. قوله: "يأكل من زائدة كبدهما سبعون
ألفا" قال عياض زيادة الكبد وزائدتها هي القطعة المنفردة المتعلقة بها وهي
أطيبه ولهذا خص بأكلها السبعون ألفا ولعلهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب فضلوا
بأطيب النزل ويحتمل أن يكون عبر بالسبعين عن العدد الكثير ولم يرد الحصر فيها وقد
تقدم في أبواب الهجرة قبيل المغازي في مسائل عبد الله بن سلام أن أول طعام يأكله
أهل الجنة له زيادة كبد الحوت وأن عند مسلم في حديث ثوبان "تحفة أهل الجنة
زيادة
ـــــــ
1 بياض بالأصل.
(11/374)
كبد النون" وفيه: "غذاؤهم على أثرها أن ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" وفيه: "وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلا" وأخرج ابن المبارك في "الزهد" بسند حسن عن كعب الأحبار: أن الله تعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها: إن لكل ضيف جزورا وإني أجزركم اليوم حوتا وثورا فيجزر لأهل الجنة". قوله: "محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "يحشر الناس" بضم أوله. فوله "أرض عفراء" قال الخطابي العفر بياض ليس بالناصع وقال عياض: العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلا ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها. وقال ابن فارس: معنى عفراء خالصة البياض. وقال الداودي: شديدة البياض. كذا قال والأول هو المعتمد. قوله: "كقرصة النقي" بفتح النون كسر القاف أي الدقيق النقي من الغش والنخال قاله الخطابي. قوله: "قال سهل أو غيره ليس فيها معلم لأحد" هو موصول بالسند المذكور وسهل هو راوي الخبر وأو للشك والغير المبهم لم أقف على تسميته. ووقع هذا الكلام الأخير لمسلم من طريق خالد بن مخلد عن محمد ابن جعفر مدرجا بالحديث ولفظه: "ليس فيها علم لأحد" ومثله لسعيد بن منصور عن ابن أبي حازم عن أبيه والعلم والمعلم بمعنى واحد قال الخطابي: يريد أنها مستوية. والمعلم بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة هو الشيء الذي يستدل به على الطريق. وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات كالجبل والصخرة البارزة. وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها. وقال الداودي: المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئا إلا ما أدرك منها. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: فيه دليل على عظيم القدرة والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها بخلاف مجيء الأمر بغتة وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدا والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده. انتهى ملخصا. وفيه إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمحلت وأعدمت وأن أرض الموقف تجددت. وقد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها أو تغيير صفاتها فقط وحديث الباب يؤيد الأول. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} الآية قال: تبدل الأرض أرضا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف؛ وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعا وقال: الموقوف أصح وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ: أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة ورجاله موثقون أيضا ولأحمد من حديث أبي أيوب: أرض كالفضة البيضاء قيل فأين الخلق يومئذ؟ قال: هم أضياف الله لن يعجزهم ما لديه. وللطبري من طريق سنان بن سعد عن أنس مرفوعا: يبدلها الله بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا. وعن علي موقوفا نحوه. ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: أرض كأنها فضة والسماوات كذلك. وعن علي والسماوات من ذهب. وعند عبد من طريق الحكم بن أبان عن
(11/375)
عكرمة قال: بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا تطوى وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها. وفي حديث الصور الطويل: تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان عليها انتهى. وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول ويؤيده قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} . وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها فمستنده ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق. ومن حديث جابر رفعه تمد الأرض مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه. ووقع في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: يزاد فيها وينقص منها ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم العكاظي وعزاه الثعلبي في تفسيره لرواية أبي هريرة وحكاه البيهقي عن أبي منصور الأزهري وهذا وإن كان ظاهره يخالف القول الأول فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها ويؤيده ما وقع في الحديث الذي قبله أن أرض الدنيا تصير خبزة والحكمة في ذلك ما تقدم أنها تعد لأكل المؤمنين منها في زمان الموقف ثم تصير نزلا لأهل الجنة وأما ما أخرجه الطبري من طريق المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: الأرض كلها تأتي يوم القيامة فالذي قبله عن ابن مسعود أصح سندا ولعل المراد بالأرض في هذه الرواية أرض البحر فقد أخرج الطبري أيضا من طريق كعب الأحبار قال: يصير مكان البحر نارا وفي تفسير للربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب: تصير السماوات جفانا ويصير مكان البحر نارا وأخرج البيهقي في "البعث" من هذا الوجه في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} قال: يصيران غبرة في وجوه الكفار. قلت: ويمكن الجمع بأن بعضها يصير نارا وبعضها غبارا وبعضها يصير خبزة وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} أين يكون الناس حينئذ؟ قال: "على الصراط" وفي رواية الترمذي "على جسر جهنم" ولأحمد من طريق ابن عباس عن عائشة "على متن جهنم" وأخرج مسلم أيضا من حديث ثوبان مرفوعا: "يكونون في الظلمة دون الجسر" فقد جمع بينها البيهقي بأن المراد بالجسر الصراط كما سيأتي بيانه في ترجمة مستقلة وأن في قوله على الصراط مجازا لكونهم يجاوزونه لأن في حديث ثوبان زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها وكان ذلك عند الزجرة التي تقع عند نقلهم من أرض الدنيا إلى أرض الموقف ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} واختلف في السماوات أيضا فتقدم قول من قال إنها تصير جفانا وقيل إنها إذا طويت تكور شمسها وقمرها وسائر نجومها وتصير تارة كالمهل وتارة كالدهان وأخرج البيهقي في "البعث" من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: السماء تكون ألوانا كالمهل وكالدهان وواهية وتشقق فتكون حالا بعد حال وجمع بعضهم بأنها تنشق أولا فتصير كالوردة وكالدهان وواهية وكالمهل وتكور الشمس والقمر وسائر النجوم ثم تطوى السماوات وتضاف إلى الجنان ونقل القرطبي في "التذكرة" عن أبي الحسن بن حيدرة صاحب "الإفصاح" أنه جمع بين هذه الأخبار بأن تبديل السماوات والأرض يقع مرتين إحداهما تبدل
(11/376)
صفاتهما فقط وذلك عند النفخة الأولى فتنثر الكواكب وتخسف الشمس والقمر وتصير السماء كالمهمل وتكشط عن الرءوس وتسير الجبال وتموج الأرض وتنشق إلى أن تصير الهيئة غير الهيئة ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض وتبدل السماء والأرض إلى آخر كلامه في ذلك والعلم عند الله تعالى.
(11/377)
باب الحشر
...
بعض "وللنسائي والحاكم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة "قلت: يا رسول
الله فكيف بالعورات؟ قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
وللترمذي والحاكم من طريق عثمان بن عبد الرحمن القرظي "قرأت عائشة {وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقالت: واسوأتاه
الرجال والنساء يحشرون جميعا ينطر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال: لكل امرئ الآية وزاد:
لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض" ولابن
أبي الدنيا من حديث أنس قال: "سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحشر
الناس؟ قال: "حفاة عراة" . قالت: واسوأتاه قال قد نزلت على آية لا يضرك
كان عليك ثياب أو لا: لكل امرئ الآية" وفي حديث سودة عند البيهقي والطبراني
نحوه أخرجاه من طريق أبي أويس عن محمد بن أبي عياش عن عطاه بن يسار عنها وأخرجه
ابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط من رواية عبد الجبار بن سليمان عن محمد بهذا
الإسناد فقال: "عن أم سلمة" بدل سودة. قوله: "حدثنا غندر" هو
محمد بن جعفر وقع كذلك في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار شيخ البخاري
فيه كلاهما عنه. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن عمرو بن
ميمون" صرح يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق بسماعه من عمرو بن ميمون
وسيأتي في الأيمان والنذور. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود ووقع في
رواية يوسف المذكورة "حدثني عبد الله بن مسعود". قوله: "كنا مع
النبي صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم عن محمد بن المثنى "نحوا من أربعين
رجلا" وفي رواية يوسف المذكورة "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم
مضيف ظهره إلى قبة من آدم يماني" ولمسلم من رواية مالك ابن مغول عن أبي إسحاق
"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ظهره إلى قبة من أدم"
وللإسماعيلي من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق "أسند رسول الله صلى الله عليه
وسلم ظهره بمنى إلى قبة من أدم". قوله: "أترضون" في رواية يوسف
"إذ قال لأصحابه ألا ترضون" وفي رواية إسرائيل "أليس ترضون"
وفي رواية مالك بن مغول "أتحبون" قال ابن التين: ذكره بلفظ الاستفهام
لإرادة تقرير البشارة بذلك وذكره بالتدريج ليكون أعظم لسرورهم. قوله: "قلنا
نعم" في رواية يوسف "قالوا بلى" ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي
إسحاق "فكبرنا في الموضعين" ومثله في حديث أبي سعيد الآتي في الباب الذي
يليه وزاد: "فحمدنا" وفي حديث ابن عباس "ففرحوا" وفي ذلك كله
دلالة على أنهم استبشروا بما بشرهم به فحمدوا الله على نعمته العظمى وكبروه استعظاما
لنعمته بعد استعظامهم لنقمته. قوله: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل
الجنة" في رواية أبي الأحوص وإسرائيل "فقال والذي نفس محمد بيده"
وقال: "نصف" بدل "شطر" وفي حديث أبي سعيد "إني
لأطمع" بدل "لأرجو" ووقع لهذا الحديث سبب يأتي التنبيه عليه عند
شرح حديث أبي سعيد وزاد الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في نحو حديث أبي سعيد
"وإني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة"
ولا تصح هذه الزيادة لأن الكلبي واه ولكن أخرج أحمد وابن أبي حاتم من حديث أبي
هريرة قال: "لما نزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}
شق ذلك على الصحابة فنزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل
الجنة بل ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني"
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني من وجه آخر عن أبي هريرة
بلفظ: "أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة أنتم نصف أهل الجنة أنتم ثلثا
أهل الجنة" وأخرج الخطيب في "المبهمات" من مرسل مجاهد نحو حديث
الكلبي وفيه مع إرساله أبو حذيفة إسحاق بن بشر أحد
(11/287)
باب قوله عزوجل { إن زلزلة الساعة شيء عظيم }
...
46 - باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
أَزِفَتْ الْآزِفَةُ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
6530- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ
فِي يَدَيْكَ قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ
قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ
الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا
هُمْ بِسَكْرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ قَالَ أَبْشِرُوا
فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَمِنْكُمْ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ قَالَ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ إِنِّي لاَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّ
مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ
الأَسْوَدِ أَوْ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ"
قوله: "باب إن زلزلة الساعة شيء عظيم" أشار بهذه الترجمة إلى ما وقع في
بعض طرق الحديث الأول أنه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية عند ذكر الحديث
والزلزلة الاضطراب وأصله من الزلل وفي تكرير الزاي فيه تنبيه على ذلك.
(11/388)
والساعة في الأصل جزء من الزمان واستعيرت ليوم القيامة كما تقدم في "باب سكرات الموت" وقال الزجاج: معنى الساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة إشارة إلى أنها ساعة خفيفة يقع فيها أمر عظيم وقيل سميت ساعة لوقوعها بغتة أو لطولها أو لسرعة الحساب فيها أو لأنها عند الله خفيفة مع طولها على الناس. قوله: "أزفت الآزفة: اقتربت الساعة" هو من الأزف بفتح الزاي وهو القرب يقال أزف كذا أي قرب وسميت الساعة آزفة لقربها أو لضيق وقتها واتفق المفسرون على أن معنى أزفت اقتربت أو دنت. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن الأعمش عن أبي صالح" في رواية أبي أسامة في بدء الخلق وحفص بن غياث في تفسير سورة الحج كلاهما "عن الأعمش حدثنا أبو صالح" وهو ذكوان وأبو سعيد هو الخدري. قوله: "يقول الله" كذا وقع للأكثر غير مرفوع وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" وفي رواية كريمه بإثبات قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا وقع لمسلم عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير بسند البخاري فيه ونحوه في رواية أبي أسامة وحفص وقد ظهر من حديث أبي هريرة الذي قبله أن خطاب آدم بذلك أول شيء يقع يوم القيامة ولفظه: "أول من يدعي يوم القيامة آدم عليه السلام فتراءى ذريته" بمثناة واحدة ومد ثم همزة مفتوحة ممالة وأصله فتتراءى فحذفت إحدى التاءين وتراءى الشخصان تقابلا بحيث صار كل منهما يتمكن من رؤية الآخر ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق الدراوردي عن ثور "فتتراءى له ذريته" على الأصل وفي حديث أبي هريرة "فيقال هذا أبوكم" وفي رواية الدراوردي "فيقولون هذا أبوكم". قوله: "فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك" في الاقتصار على الخير نوع تعطيف ورعاية للأدب وإلا فالشر أيضا بتقدير الله كالخير. قوله: "أخرج بعث النار" في حديث أبي هريرة "بعث جهنم من ذريتك" وفي رواية أحمد "نصيب" بدل "بعث" والبعث بمعنى المبعوث وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها ومعناها هنا ميز أهل النار من غيرهم وإنما خص بذلك آدم لكونه والد الجميع ولكونه كان قد عرف أهل السعادة من أهل الشقاء فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة الحديث كما تقدم في حديث الإسراء وقد أخرج ابن أبي الدنيا من مرسل الحسن قال: "يقول الله لآدم: يا آدم أنت اليوم عدل بيني وبين ذريتك قم فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم". قوله: "قال وما بعث النار" الواو عاطفة على شيء محذوف تقديره سمعت وأطعت وما بعث النار أي وما مقدار مبعوث النار وفي حديث أبي هريرة "فيقول يا رب كم أخرج". قوله: "من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" في حديث أبي هريرة "من كل مائة تسعة وتسعين" قال الإسماعيلي: في حديث أبي سعيد "من كل ألف واحد" وكذا في حديث غيره ويشبه أن يكون حديث ثور يعني راويه عن أبي الغيث عن أبي هريرة وهما. قلت: ولعله يريد بقوله غيره ما أخرجه الترمذي من وجهين عن الحسن البصري عن عمران بن حصين نحوه وفي أوله زيادة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى شديد فحث أصحابه المطي فقال: هل تدرون أي يوم ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " ذاك يوم ينادي الله آدم" فذكر نحو حديث أبي سعيد وصححه وكذا الحاكم وهذا سياق قتادة عن الحسن من رواية هشام الدستوائي عنه ورواه معمر عن قتادة فقال عن أنس أخرجه الحاكم أيضا ونقل عن الذهلي أن الرواية الأولى هي المحفوظة وأخرجه البزار والحاكم أيضا من طريق هلال بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة عن عكرمة
(11/389)
عن ابن عباس قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال: هل تدرون" فذكر نحوه وكذا وقع في حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم رفعه: "يخرج الدجال - إلى أن قال - ثم ينفخ في الصور أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال: أخرجوا بعث النار" وفيه: " فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. فذاك يوم يجعل الولدان شيبا" وكذا رأيت هذا الحديث في مسند أبي الدرداء بمثل العدد المذكور رويناه في "فوائد طلحة بن الصقر" وأخرجه ابن مردويه من حديث أبي موسى نحوه فاتفق هؤلاء على هذا العدد ولم يستحضر الإسماعيلي لحديث أبي هريرة متابعا وقد ظفرت به في مسند أحمد فإنه أخرج من طريق أبي إسحاق الهجري وفيه مقال عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود نحوه. وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الزائد والمقصود من العددين واحد وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين. قلت: ومقتضى كلامه الأول تقديم حديث أبي هريرة على حديث أبي سعيد فإنه يشتمل على زيادة فإن حديث أبي سعيد يدل على أن نصيب أهل الجنة من كل ألف واحد وحديث أبي هريرة يدل على عشرة فالحكم للزائد ومقتضى كلامه الأخير أن لا ينظر إلى العدد أصلا بل القدر المشترك بينهما ما ذكره من تقليل العدد وقد فتح الله تعالى في ذلك بأجوبة أخر وهو حمل حديث أبي سعيد ومن وافقه على جميع ذرية آدم فيكون من كل ألف واحد حمل حديث أبي هريرة ومن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج فيكون من كل ألف عشرة ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ويحتمل أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين والثاني بخصوص هذه الأمة ويقربه قوله في حديث أبي هريرة "إذا أخذ منا" لكن في حديث ابن عباس "وإنما أمتي جزء من ألف جزء" ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة فيكون من كل ألف واحد ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار ومن يدخلها من العصاة فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرا ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيا والعلم عند الله تعالى. قوله: "فذاك حين يشيب الصغير وتضع وساق إلى قوله شديد" ظاهره أن ذلك يقع في الموقف وقد استشكل بأن ذلك الوقت لا حمل فيه ولا وضع ولا شيب ومن ثم قال بعض المفسرين إن ذلك قبل يوم القيامة لكن الحديث يرد عليه وأجاب الكرماني بأن ذلك وقع على سبيل التمثيل والتهويل وسبق إلى ذلك النووي فقال: فيه وجهان للعلماء فذكرهما وقال: التقدير أن الحال ينتهي أنه لو كانت النساء حينئذ حوامل لوضعت كما تقول العرب "أصابنا أمر يشيب منه الوليد" وأقول يحتمل أن يحمل على حقيقته فإن كل أحد يبعث على ما مات عليه فنبعث الحامل حاملا والمرضع مرضعة والطفل طفلا فإذا وقعت زلزلة الساعة وقيل ذلك لآدم ورأى الناس آدم وسمعوا ما قيل له وقع بهم من الوجل ما يسقط معه الحمل ويشيب له الطفل وتذهل به المرضعة ويحتمل أن يكون ذلك بعد النفخة الأولى وقبل النفخة الثانية ويكون خاصا بالموجودين حينئذ وتكون الإشارة بقوله: "فذاك" إلى يوم القيامة وهو صريح في الآية ولا يمنع من هذا الحمل ما يتخيل من طول المسافة بين قيام الساعة واستقرار الناس في الموقف ونداء آدم لتمييز أهل الموقف لأنه قد ثبت أن ذلك يقع متقاربا كما قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} يعني أرض الموقف وقال تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} والحاصل أن يوم القيامة يطلق على ما بعد نفخة البعث من أهوال وزلزلة وغير ذلك إلى آخر الاستقرار في الجنة أو النار وقريب
(11/390)
منه ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في أشراط الساعة إلى أن ذكر النفخ في الصور إلى أن قال: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال أخرجوا بعث النار" فذكره قال: "فذاك يوم يجعل الولدان شيبا" ووقع في حديث الصور الطويل عند علي بن معبد وغيره ما يؤيد الاحتمال الثاني وقد تقدم بيانه في "باب النفخ في الصور" وفيه بعد قوله وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين "فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض فيأخذهم لذلك الكرب والهول. ثم تلا الآيتين من أول الحج" الحديث. قال القرطبي في "التذكرة": هذا الحديث صححه ابن العربي فقال: يوم الزلزلة يكون عند النفخة الأولى وفيه ما يكون فيه من الأهوال العظيمة ومن جملتها ما يقال لآدم ولا يلزم من ذلك أن يكون ذلك متصلا بالنفخة الأول بل له محملان. أحدهما أن يكون آخر الكلام منوطا بأوله والتقدير يقال لآدم ذلك في أثناء اليوم الذي يشيب فيه الولدان وغير ذلك وثانيهما أن يكون شيب الولدان عند النفخة الأولى حقيقة والقول لآدم يكون وصفه بذلك إخبارا عن شدته وإن لم يوجد عين ذلك الشيء. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون المعنى أن ذلك حين يقع لا يهم كل أحد إلا نفسه حتى إن الحامل تسقط من مثله والمرضعة إلخ. ونقل عن الحسن البصري في هذه الآية: المعنى أن لو كان هناك مرضعة لذهلت. وذكر الحليمي واستحسنه القرطبي أنه يحتمل أن يحيى الله حينئذ حمل كان قد تم خلقه ونفخت فيه الروح فتذهل الأم حينئذ عنه لأنها لا تقدر على إرضاعه إذ لا غذاء هنا ولا لبن، وأما الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح فإنه إذا سقط لم يحيى لأن ذلك يوم الإعادة، فمن لم يمت في الدنيا لم يحيى في الآخرة. قوله: "فاشتد ذلك عليهم" في حديث ابن عباس "فشق ذلك على القوم ووقعت عليهم الكآبة والحزن" وفي حديث عمران عند الترمذي من رواية ابن جدعان عن الحسن "فأنشأ المؤمنون يبكون" ومن رواية قتادة عن الحسن "فنبس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة" ونبس بضم النون وكسر الموحدة بعدها مهملة معناه تكلم فأسرع، وأكثر ما يستعمل في النفي. وفي رواية شيبان عن قتادة عند ابن مردويه" أبلسوا" وكذا له نحوه من رواية ثابت عن الحسن. قوله:" وأينا ذلك الرجل" قال الطيبي: يحتمل أن يكون الاستفهام على حقيقته، فكان حق الجواب أن ذلك الواحد فلان أو من يتصف بالصفة الفلانية، ويحتمل أن يكون استعظاما لذلك الأمر واستشعارا للخوف منه، فلذلك وقع الجواب بقوله: "أبشروا" ووقع في حديث أبي هريرة "فقالوا يا رسول الله إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى" وفي حديث أبي الدرداء "فبكى أصحابه". قوله: "فقال أبشروا" في حديث ابن عباس اعملوا وأبشروا، وفي حديث عمران مثله، وللترمذي من طريق ابن جدعان "قاربوا وسددوا" ونحوه في حديث أنس. قوله: "فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل" ظاهره زيادة واحد عما ذكر من تفصيل الألف فيحتمل أن يكون من جبر الكسر، والمراد أن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين أو ألفا إلا واحدا، وأما قوله: "ومنكم رجل" تقديره والمخرج منكم أو ومنكم رجل مخرج، ووقع في بعض الشروح أن لبعض الرواة "فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا" بالنصب فيهما على المفعول بإخراج المذكور في أول الحديث، أي فإنه يخرج كذا، وروى بالرفع على خبر إن واسمها مضمر قبل المجرور، أي فإن المخرج منكم رجل، قلت: والنصب أيضا على اسم إن صريحا في الأول وبتقدير في الثاني، وهو أولى من الذي قاله فإن فيه تكلفا، ووقع في رواية الأصيلي بالرف في ألف وحده وبالنصب في رجلا ولأبي ذر بالعكس. وفي رواية مسلم بالرفع فيهما، قال النووي: هكذا
(11/391)
في جميع الروايات والتقدير فإنه فحذف الهاء وهي ضمير الشأن وذلك مستعمل كثيرا، ووقع في حديث ابن عباس "وإنما أمتي جزء من ألف جزء" قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج داخلون في العدد المذكور والوعيد كما يدل قوله: "ربع أهل الجنة" على أن في غير هذه الأمة أيضا من أهل الجنة. وقال القرطبي: قوله: "من يأجوج ومأجوج ألف" أي منهم وممن كان على الشرك مثلهم، وقوله: "ومنكم رجل" يعني من أصحابه ومن كان مؤمنا مثلهم. قلت: وحاصله أن الإشارة بقوله: "منكم" إلى المسلمين من جميع الأمم، وقد أشار إلى ذلك في حديث ابن مسعود بقوله: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة". قوله: "ثم قال والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة" تقدم في الباب قبله من حديث ابن مسعود "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة" وكذا في حديث ابن عباس، وهو محمول على تعدد القصة، فقد تقدم أن القصة التي في حديث ابن مسعود وقعت وهو صلى الله عليه وسلم في قبته بمنى، والقصة التي في حديث أبي سعيد وقعت وهو صلى الله عليه وسلم سائر على راحلته، ووقع في رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في غزوة بني المصطلق" ومثله في مرسل مجاهد عند الخطيب في "المبهمات" كما سيأتي التنبيه عليه في "باب من يدخل الجنة بغير حساب". ثم ظهر لي أن القصة واحدة وأن بعض الرواة حفظ فيه ما لم يحفظ الآخر، إلا أن قول من قال كان ذلك في غزوة بني المصطلق واه والصحيح ما في حديث ابن مسعود وأن ذلك كان بمنى، وأما ما وقع في حديثه أنه قال ذلك وهو في قبته فيجمع بينه وبين حديث عمران بأن تلاوته الآية وجوابه عنها اتفق أنه كان وهو سائر، ثم قوله: "إني لأطمع إلخ" وقع بعد أن نزل وقعد بالقبة، وأما زيادة الربع قبل الثلث فحفظها أبو سعيد وبعضهم لم يحفظ الربع، وقد تقدمت سائر مباحثه في الحديث الخامس من الباب الذي قبله.
(11/392)
47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} قَالَ
الْوُصُلاَتُ فِي الدُّنْيَا
6531- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ
حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ "يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ
إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ"
6532- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي
الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ"
قوله: "باب قول الله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم
الناس لرب العالمين" كأنه أشار بهذه الآية إلى ما أخرجه هناد بن السري في
الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عمرو قال: "قال له رجل: إن
أهل المدينة ليوفون الكيل، فقال: وما يمنعهم وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله: يوم
(11/392)
يقوم الناس لرب العالمين، قال: إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة" وهذا لما لم يكن على شرطه أشار إليه، وأورد حديث ابن عمر المرفوع في معناه، وأصل البعث إثارة الشيء عن جفاء وتحريكه عن سكون، والمراد به هنا إحياء الأموات وخروجهم من قبورهم ونحوها إلى حكم يوم القيامة.قوله: "قال ابن عباس: وتقطعت بهم الأسباب قال: الوصلات في الدنيا" بضم الواو والصاد المهملة. وقال ابن التين: ضبطناه يفتح الصاد وبضمها وبسكونها. وقال أبو عبيدة: الأسباب هي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا واحدتها وصلة، وهذا الأثر لم أظفر به عن ابن عباس بهذا اللفظ، وقد وصله عبد بن حميد والطبري وابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس قال: المودة، وهو بالمعنى. وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وللطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: تقطعت بهم المنازل، ومن طريق الربيع بن أنس مثله، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن الربيع عن أبي العالية قال يعني أسباب الندامة، وللطبري من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: الأسباب الأرحام، وهذا منقطع. ولابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: تقطعت بهم الأرحام وتفرقت بهم المنازل في النار. وورد بلفظ التواصل والمواصلة أخرجه الثلاثة المذكرون أيضا من طريق عبيد المكتب عن مجاهد قال: تواصلهم في الدنيا. وللطبري من طريق جريج عن مجاهد قال: تواصل كان بينهم بالمودة في الدنيا. وله من طريق سعيد ولعبد من طريق شيبان كلاهما عن قتادة قال: الأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها ويتحابون فصارت عداوة يوم القيامة. وللطبري من طريق معمر عن قتادة قال: هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا. ولعبد من طريق السدي عن أبي صالح قال: الأعمال. وهو عند الطبري عن السدي من قوله، قال الطبري: الأسباب جمع سبب وهو كل ما يتسبب به إلى طلبة وحاجة، فيقال للحبل سبب لأنه يتوصل به إلى الحاجة التي يتعلق به إليها، وللطريق سبب للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه، وللمصاهرة سبب للحرمة وللوسيلة سبب للوصول بها إلى الحاجة. وقال الراغب: السبب: الحبل، وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سببا، ومنه {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أصل إلى الأسباب الحادثة في السماء فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى، ويسمى العمامة والخمار والثوب الطويل سببا تشبيها بالحبل وكذا منهج الطريق لشبهه بالحبل، وبالثوب الممدود أيضا. حديث ابن عمر "عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" في رواية صالح بن كيسان عن نافع عند مسلم حتى يغيب أحدهم، وكذا تقدم في تفسير {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} من طريق مالك عن نافع، والرشح بفتح الراء وسكون الشين المعجمة بعدهما مهملة هو العرق شبه برشح الإناء لكونه يخرج من البدن شيئا فشيئا، وهذا ظاهر في أن العرق يحصل لكل شخص من نفسه، وفيه تعقب على من جوز أن يكون من عرقه فقط أو من عرقه وعرق غيره. وقال عياض: يحتمل أن يريد عرق الإنسان نفسه بقدر خوفه مما يشاهده من الأهوال، ويحتمل أن يريد عرقه وعرق غيره فيشدد على بعض ويخفف على بعض وهذا كله بتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض حتى صار العرق يجري سائحا في وجه الأرض كالماء في الوادي بعد أن شربت منه الأرض وغاص فيها سبعين ذراعا. قلت: واستشكل بأن الجماعة إذا وقفوا في الماء الذي على أرض معتدلة كانت تغطية الماء لهم على السواء، لكنهم إذا اختلفوا في الطول والقصر تفاوتوا فكيف يكون الكل إلى الأذن؟ والجواب أن ذلك من الخوارق الواقعة يوم القيامة، والأولى أن تكون
(11/393)
الإشارة بمن يصل الماء إلى أذنيه إلى غاية ما يصل الماء، ولا ينفي أن يصل الماء لبعضهم إلى دون ذلك، فقد أخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه: "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه ومنهم من يبلغ نصف ساقه ومنهم من يبلغ ركبته ومنهم من يبلغ فخذه ومنهم من يبلغ خاصرته ومنهم من يبلغ منكبه ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده فألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه وضرب بيده على رأسه" وله شاهد عند مسلم من حديث المقداد بن الأسود وليس بتمامه وفيه: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فتكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق" الحديث فإنه ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم ويتفاوتون في حصوله فيهم. وأخرج أبو يعلى وصححه ابن حبان عن أبي هرة رضي الله عنه "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى أن تغرب" وأخرجه أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد والبيهقي في البعث من طريق عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة "يحشر الناس قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء فيلجمهم العرق من شدة الكرب". قوله: "حدثني سليمان" هو ابن بلال والسند كل مدنيون. قوله: "يعرق الناس" بفتح الراء وهي مكسورة في الماضي. قوله: "يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم" في رواية الإسماعيلي من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلان "سبعين باعا" وفي رواية مسلم من طريق الدراوردي عن ثور "وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم شك ثور" وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الذي يلجمه العرق الكافر أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عنه قال: "يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال علي الكراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام" وبسند قوي عن أبي موسى قال: "الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم" وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف واللفظ له بسند جيد عن سلمان قال: "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم ترتفع حتى يغرغر الرجل" زاد ابن المبارك في روايته: "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة" قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان لما يدل عليه حديث المقداد وغيره أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم، وفي حديث ابن مسعود عند الطبراني والبيهقي "إن الرجل ليفيض عرقا حتى يسيح في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه" وفي رواية عنه عند أبي يعلى وصححها ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وللحاكم والبزار من حديث جابر نحوه، وهو كالصريح في إن ذلك كله في الموقف، وقد ورد أن التفصيل الذي في حديث عقبة والمقداد يقع مثله لمن يدخل النار، فأخرج مسلم أيضا من حديث سمرة رفعه: "أن منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته وفي رواية إلى حقويه ومنهم من تأخذه إلى عنقه" وهذا يحتمل أن يكون النار فيه مجازا عن شدة الكرب الناشئ عن العرق فيتحد الموردان، ويمكن أن يكون ورد في حق من يدخل النار من الموحدين. فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم، وأما الكفار فإنهم في الغمرات. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم والمسلمون منهم قليل
(11/394)
بالنسبة إلى الكفار كما تقدم تقريره في حديث بعث النار، قال: والظاهر أن المراد بالذراع في الحديث المتعارف، وقيل هو الذراع الملكي، ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف وتدنى الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعا مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فبه، إن هذا لمما يبهر العقول ويدل على عظيم القدوة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه. وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه.
(11/395)
48 - باب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ الْحَاقَّةُ
لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الأُمُورِ الْحَقَّةُ وَ الْحَاقَّةُ
وَاحِدٌ وَ الْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَ الصَّاخَّةُ وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ
أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ
6533- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
حَدَّثَنِي شَقِيقٌ "سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ
بِالدِّمَاءِ"
[الحديث 6533- طرفه في: 6864]
6534- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ
فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ"
6535- حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ
بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ
كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ
لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَحَدُهُمْ
أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي
الدُّنْيَا"
قوله: "باب القصاص يوم القيامة" القصاص بكسر القاف وبمهملتين مأخوذ من
القص وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر وهو تتبعه، لأن المقتص يتتبع جناية الجاني
ليأخذ مثلها، يقال اقتص من غريمه واقتص الحاكم لفلان من فلان. قوله: "وهي
الحاقة" الضمير للقيامة. قوله: "لأن فيها الثواب؛ وحواق الأمور الحقة
والحاقة واحد" هذا أخذه من كلام الفراء، قال في "معاني القرآن".
الحاقة القيامة، سميت بذلك لأن فيها
(11/395)
الثواب وحواق الأمور، ثم قال: والحقة والحاقة كلاهما بمعنى واحد، قال الطبري: سميت الحاقة لأن الأمور تحق فيها، وهو كقولهم ليل قائم. وقال غيره: سميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة ولقوم النار، وقيل لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء، يقال حاققته فحققته أي خاصمته فخصمته، وقيل لأنها حق لا شك فيه. قوله: "والقارعة" هو معطوف على الحاقة، والمراد أنها من أسماء يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها. قوله: "والغاشية" سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأفزاعها أي تعمهم بذلك. قوله: "والصاخة" قال الطبري: أظنه من صخ فلان فلانا إذا أصمه، وسميت بذلك لأن صيحة القيامة مسمعة لأمور الآخرة ومصمة عن أمور الدنيا، وتطلق الصاخة أيضا على الداهية. قوله: "التغابن غبن أهل الجنة أهل النار" غبن بفتح المعجمة والموحدة بعدها نون، والسبب في ذلك أن أهل الجنة ينزلون منازل الأشقياء التي كانت أعدت لهم لو كانوا سعداء، فعلى هذا فالتغابن من طرف واحد، ولكنه ذكر بهذه الصيغة للمبالغة، وقد اقتصر المصنف من أسماء يوم القيامة على هذا القدر، وجمعها الغزالي ثم القرطبي فبلغت نحو الثمانين اسما، فمنها يوم الجمع ويوم الفزع الأكبر ويوم التناد ويوم الوعيد ويوم الحسرة ويوم التلاق ويوم المآب ويوم الفصل ويوم العرض على الله ويوم الخروج ويوم الخلود، ومنها يوم عظيم ويوم عسير ويوم مشهود ويوم عبوس قمطرير، ومنها يوم تبلى السرائر، ومنها يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ويوم يدعون إلى نار جهنم ويوم تشخص فيه الأبصار ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ويوم لا ينطقون ويوم لا ينفع مال ولا بنون ويوم لا يكتمون الله حديثا ويوم لا مرد له من الله ويوم لا بيع فيه ولا خلال ويوم لا ريب فيه، فإذا ضمت هذه إلى ما ذكر في الأصل كانت أكثر من ثلاثين اسما معظمها ورد في القرآن بلفظه، وسائر الأسماء المشار إليها أخذت بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصا كيوم الصدر من قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} ويوم الجدال من قوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ولو تتبع مثل هذا من القرآن زاد على ما ذكر والله أعلم. وذكر في الباب ثلاثة أحاديث. حديث ابن مسعود والسند إليه كوفيون، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه. قوله: "أول ما يقضى بين الناس بالدماء" في رواية الكشميهني:" الدماء" وسيأتي كالأول في الديات من وجه آخر عن الأعمش، ولمسلم والإسماعيلي من طريق أخرى عن الأعمش "بين الناس يوم القيامة في الدماء" أي التي وقعت بين الناس في الدنيا، والمعنى أول القضايا القضاء في الدماء، ويحتمل أن يكون التقدير أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء، ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رفعه: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته" الحديث أخرجه أصحاب السنن لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق، وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين ولفظه: "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء" وتقدم في تفسير سورة الحج ذكر هذه الأولية بأخص مما في حديث الباب وهو عن على قال: "أنا أول من يحثو للخصومة يوم القيامة" يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة الذين بارزوا يوم بدر، قال أبو ذر: فهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية وتقدم شرحه هناك، وفي حديث الصور الطويل عن أبي هريرة رفعه: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني" الحديث، وفي حديث نافع بن جبير عن ابن عباس رفعه: "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى
(11/396)
يديه ملببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يقفا بين يدي الله" الحديث، ونحوه عند ابن المبارك عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وأما كيفية القصاص فيما عدا ذلك فيعلم من الحديث الثاني. وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس رفعه: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يوم القيامة" وفي الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك. وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة وآثار شهيرة يأتي بعضها في أول الديات. قوله: "مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري" في رواية ابن وهب عن مالك "حدثني سعيد بن أبي سعيد". قوله: "من كانت عنده مظلمة لأخيه" في رواية الكشميهني: "من أخيه". قوله: "ليس ثم دينار ولا درهم" في حدث ابن عمر رفعه: "من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته" أخرجه ابن ماجه، وقد مضى شرحه في كتاب المظالم، والمراد بالحسنات الثواب عليها وبالسيئات العقاب عليها، وقد استشكل إعطاء الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو متناه، وأجيب بأنه محمول على أن الذي يعطاه صاحب الحق من أصل الثواب ما يوازي العقوبة عن السيئة وأما ما زاد على ذلك بفضل الله فإنه يبقى لصاحبه، قال البيهقي سيئات المؤمن على أصول أهل السنة متناهية الجزاء وحسناته غير متناهية الجزاء لأن من ثوابها الخلود في الجنة، فوجه الحديث عندي والله أعلم أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه ثم يعذب إن لم يعف عنه، فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل عقوبة سيئاته يعني من المضاعفة، لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافى يوم القيامة مؤمنا والله أعلم. قال الحميدي في "كتاب الموازنة: الناس ثلاثة" من رجحت حسناته على سيئاته أو بالعكس أو من تساوت حسناته وسيئاته، فالأول فائز بنص القرآن والثاني يقتضى منه بما فضل من معاصيه على حسناته من النفخة إلى آخر من يخرج من النار بمقدار قلة شره وكثرته والقسم الثالث أصحاب الأعراف، وتعقبه أبو طالب عقيل بن عطية في كتابه الذي رد عليه فيه بأن حق العبارة فيه أن يقيد بمن شاء الله أن يعذبه منهم وإلا فالمكلف في المشيئة وصوب الثالث على أحد الأقوال أهل الأعراف قال: وهو أرجح الأقوال فيهم. قلت: قد قال الحميدي أيضا: والحق أن من رجحت سيئاته على حسناته على قسمين من يعذب ثم يخرج من النار بالشفاعة ومن يعفى عنه فلا يعذب أصلا. وعند أبي نعيم من حديث ابن مسعود يؤخذ بيد العبد فينصب على رءوس الناس وينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت، فيأتون فيقول الرب: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان ناجيا وفضل من حسناته مثقال حبة من خردل ضاعفها الله حتى يدخله بها الجنة. وعند ابن أبي الدنيا عن حذيفة قال: صاحب الميزان يوم القيامة جبريل، يرد بعضهم على بعض، ولا ذهب يومئذ ولا فضة، فيؤخذ من حسنات الظالم فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم. أخرج أحمد والحاكم من حديث جابر عن عبد الله بن أنيس رفعه: "لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قلنا يا رسول الله كيف وإنما نحشر حفاة عراة؟ قال: بالسيئات والحسنات" وعلق البخاري طرفا منه التوحيد كما سيأتي، وفي حديث أبي أمامة في نحو حديث
(11/397)
أبي سعيد "إن الله يقول لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم" وفيه دلالة على موازنة الأعمال يوم القيامة. وقد صنف فيه الحميدي صاحب "الجمع" كتابا لطيفا وتعقب أبو طالب عقيل بن عطية أكثره في كتاب سماه "تحرير المقال في موازنة الأعمال" وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رفعه: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى" فقد ضعفه البيهقي وقال: تفرد به شداد أبو طلحة، والكافر لا يعاقب بذنب غيره لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ: "إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فداؤك من النار" قال البيهقي: ومع ذلك فضعفه البخاري وقال: الحديث في الشفاعة أصح. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفرت عنهم في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تكفر ذنوبهم، ويحتمل أن يكون هذا القول لهم في الفداء بعد خروجهم من النار بالشفاعة. وقال غيره: يحتمل أن يكون الفداء مجازا عما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في أواخر "باب صفة الجنة والنار" قريبا بلفظ: "لا يدخل الجنة أحد إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا" الحديث وفيه في مقابله "ليكون عليه حسرة" فيكون المراد بالفداء إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أعد له وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أعد له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} وبذلك أجاب النووي تبعا لغيره. وأما رواية غيلان بن جرير فأولها النووي أيضا تبعا لغيره بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم فيعاقبون بذنوبهم لا بذنوب المسلمين ويكون قوله: "ويضعها" أي يضع مثلها لأنه لما أسقط عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاما كانت الكفار سببا فيها بأن سنوها فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك السنة السيئة باقية لكون الكافر لا يغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ، ووضعه عن المؤمن الذي فعله بما من الله به عليه من العفو والشفاعة سواء كان ذلك قبل دخول النار أو بعد دخولها والخروج منها بالشفاعة وهذا الثاني أقوى والله أعلم. قوله: "حدثنا الصلت بن محمد" بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها تاء مثناة من فوق وهو الخاركي بخاء معجمة وكاف. قوله:" حدثنا بن زريع" {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قال حدثنا سعيد" أي قرأ يزيد هذه الآية وفسرها بالحديث المذكور، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع بهذا السند إلى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قال: "يخلص المؤمنون" الحديث وظاهره أن تلاوة الآية مرفوع فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من رواته تلا الآية عند إيراد الحديث فاختصر ذلك في رواية الصلت ممن فوق يزيد بن زريع، وقد أخرجه الطبري من رواية عفان عن يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة في هذه الآية فذكرها قال حدثنا قتادة فذكره، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق شعيب بن إسحاق عن سعيد، ورواه عبد الوهاب بن عطاء وروح بن عبادة عن سعيد فلم يذكر الآية أخرجه ابن مردويه، وأبو المتوكل الناجي بالنون اسمه علي بن داود، ورجال السند كلهم بصريون،
(11/398)
وصرح قتادة بالتحديث في هذا الحديث في رواية مضت في المظالم، وكذا الرواية المعلقة ليونس بن محمد عن شيبان عن قتادة ووصلها ابن منده، وكذا أخرجها عبد بن حميد في تفسيره عن يونس بن محمد، وكذا في رواية شعيب بن إسحاق عن سعيد ورواية بشر بن خالد وعفان عن يزيد بن زريع. قوله: "إذا خلص المؤمنون من النار" أي نجوا من السقوط فيها بعدما جازوا على الصراط، ووقع في رواية هشام عن قتادة عند المصنف في المظالم "إذا خلص المؤمنون من جسر جهنم" وسيأتي في حديث الشفاعة كيفية مرورهم على الصراط، قال القرطبي: هؤلاء المؤمنون هم الذين علم الله أن القصاص لا يستنفد حسناتهم. قلت: ولعل أصحاب الأعراف منهم على القول المرجح آنفا، وخرج من هذا صنفان من المؤمنين: من دخل الجنة بغير حساب؛ ومن أوبقه عمله. قوله: "فيحبسون على قنطرة الجنة والنار" سيأتي أن الصراط جسر موضوع على متن جهنم وأن الجنة وراء ذلك فيمر عليه الناس بحسب أعمالهم، فمنهم الناجي وهو من زادت حسناته على سيئاته أو استويا أو تجاوز الله عنه، ومنهم الساقط وهو من رجحت سيئاته على حسناته إلا من تجاوز الله عنه، فالساقط من الموحدين يعذب ما شاء الله ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، والناجي قد يكون عليه تبعات وله حسنات توازيها أو تزيد عليها فيؤخذ من حسناته ما يعدل تبعاته فيخلص منها. واختلف في القنطرة المذكورة فقيل هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة، وقيل إنهما صراطان، وبهذا الثاني جزم القرطبي، وسيأتي صفة الصراط في الكلام على الحديث الذي في "باب الصراط حسر جهنم" في أواخر كتاب الرقاق. قوله: "فيقتص لبعضهم من بعض" بضم أوله على البناء للمجهول للأكثر. وفي رواية الكشميهني بفتح أوله فتكون اللام على هذه الرواية زائدة، أو الفاعل محذوف وهو الله أو من أقامه في ذلك. وفي رواية شيبان "فيقتص بعضهم من بعض". قوله: "حتى إذا هذبوا ونقوا" بضم الهاء وبضم النون وهما بمعنى التمييز والتخليص من التبعات. قوله: "أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده" هذا ظاهره أنه مرفوع كله وكذا في سائر الروايات إلا في رواية عفان عند الطبري أبي فإنه جعل هذا من كلام قتادة فقال بعد قوله: "في دخول الجنة" قال: وقال قتادة "والذي نفسي بيده لأحدهم أهدي إلخ" وفي رواية شعيب بن إسحاق بعد قوله: "في دخول الجنة" قال: فوالذي نفسي بيده إلخ فأبهم القائل، فعلى رواية عفان يكون هو قتادة وعلى رواية غيره يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد محمد بن المنهال عند الإسماعيلي. قال قتادة: كان يقال ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من جمعتهم. وهكذا عند عبد الوهاب وروح وفي رواية بشر بن خالد وعفان جميعا عند الطبري قال: "وقال بعضهم" فذكره وكذا في رواية شعيب بن إسحاق ويونس بن محمد، والقائل "وقال بعضهم" هو قتادة ولم أقف على تسمية القائل. قوله: "لأحدهم أهدي بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا" قال الطيبي "أهدي" لا يتعدى بالباء بل باللام أو إلى، فكأنه ضمن معنى اللصوق بمنزله هاديا إليه، ونحوه قوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} الآية فإن المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم إلى طريق الجنة، فأقام {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} إلى آخرها بيانا وتفسيرا، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. قلت: ولأصل الحديث شاهد من مرسل الحسن أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل" قال القرطبي: وقع في حديث عبد الله بن سلام أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينا وشمالا، وهو محمول على من لم يحبس
(11/399)
بالقنطرة أو على الجميع، والمراد أن الملائكة تقول ذلك لهم قبل دخول الجنة، فمن دخل كانت معرفته بمنزله فيها كمعرفته بمنزله في الدنيا. قلت: ويحتمل أن يكون القول بعد الدخول مبالغة في التبشير والتكريم، وحديث عبد الله بن سلام المذكور أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد وصححه الحاكم.
(11/400)
49 - باب مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ
6536- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ" قَالَتْ
قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
قَالَ ذَلِكِ الْعَرْضُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ
سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.."
وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ وَأَيُّوبُ وَصَالِحُ بْنُ
رُسْتُمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6537- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ
حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ "حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لَيْسَ أَحَدٌ
يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فَقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُذِّبَ"
6538- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ
قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا
رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ
تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ
أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ"
6539- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي
الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ
وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ
تُرْجُمَانٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ
النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"
6540- قَالَ الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ
بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ"
ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ
وَأَشَاحَ ثَلاَثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ
"اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ
طَيِّبَةٍ"
(11/400)
قوله: "باب من نوقش الحساب عذب" هو من النقش وهو استخراج الشوكة وتقدم بيانه في الجهاد؛ والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة، يقال انتقشت منه حقي أي استقصيته. قوله: "عن ابن أبي مليكة عن عائشة" قال الدار قطني: رواه حاتم بن أبي صغيرة عن عبد الله ابن أبي مليكة فقال: "حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة" وقوله أصح لأنه زاد، وهو حافظ متقن. وتعقبه النووي وغيره بأنه محمول على أنه سمع من عائشة وسمعه من القاسم عن عائشة فحدث به على الوجهين. قلت: وهذا مجرد احتمال، وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مليكة له عن عائشة في بعض طرقه كما في السند الثاني من هذا الباب فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعين الحمل على أنه سمع من القاسم عن عائشة ثم سمعه من عائشة بغير واسطة أو بالعكس، والسر فيه أن في روايته بالواسطة ما ليس في روايته بغير واسطة وإن كان مؤداهما واحدا، وهذا هو المعتمد بحمد الله. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد بن حميد عن عبد الله بن موسى شيخ البخاري فيه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "قالت قلت أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب" في رواية عبد "قلت يا رسول الله إن الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - إلى قوله: حِسَاباً يَسِيراً} " ولأحمد من وجه آخر عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حسابا يسيرا، فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه؛ إن من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك" قوله في السند الثاني "مثله" تقدم في تفسير سورة انشقت بهذا السند ولم يسق لفظه أيضا، وأورده الإسماعيلي من رواية أبكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد فقال مثل حديث عبيد الله بن موسى سواء. قوله: "تابعه ابن جريح ومحمد بن سليم وأيوب وصالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة" قلت متابعة ابن جريح ومحمد بن سليم وصلهما أبو عوانة في صحيحه من طريق أبي عاصم عن ابن جريج وعثمان بن الأسود ومحمد بن سليم كلهم عن ابن أبي مليكة عن عائشة به. "تنبيهان": أحدهما اختلف على ابن جريح في سند هذا الحديث، فأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة مختصرا ولفظه: "من حوسب يوم القيامة عذب". ثانيهما محمد بن سليم هذا جزم أبو علي الجياني بأنه أبو عثمان المكي وقال: استشهد به البخاري في الرقاق، وفرق بينه وبين محمد بن سليم البصري وهو أبو هلال الراسبي استشهد به البخاري في التعبير، وأما المزي فلم يذكر أبا عثمان في التهذيب بل اقتصر على ذكر أبي هلال وعلم علامة التعليق على اسمه في ترجمة ابن أبي مليكة وهو الذي هنا وعلى محمد بن سيرين وهو الذي في التعبير، والذي يظهر تصويب أبي علي. ومحمد بن سليم أبو عثمان المذكور ذكره البخاري في التاريخ فقال: يروى عن ابن أبي مليكة وروى عنه وكيع. وقال ابن أبي حاتم روى عنه أبو عاصم ونقل عن إسحاق ابن منصور عن يحيى بن معين قال هو ثقة. وقال أبو حاتم صالح، وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات. وأما متابعة أيوب فوصلها المؤلف في التفسير من رواية حماد بن زيد عن أيوب ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه عن إسماعيل القاضي عن سليمان شيخ البخاري فيه ولفظه: "من حوسب عذب. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله فأين قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قال: ذاك العرض، ولكنه من نوقش الحساب عذب" وأخرجه من طريق همام عن أيوب بلفظ: "من نوقش عذب فقالت كأنها تخاصمه فذكر نحوه وزاد في آخره: قالها ثلاث مرات" وأخرجه ابن
(11/401)
مردويه من وجه آخر عن حماد بلفظ: "ذاكم العرض" بزيادة ميم الجماعة. وأما متابعة صالح بن رستم بضم الراء وسكون المهملة وضم المثناة وهو أبو عامر الحزاز بمعجمات مشهور بكنيته أكثر من اسمه فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده، عن النضر بن شميل عن أبي عامر الخزاز، ووقعت لنا بعلو في "المحامليات" وفي لفظه زيادة "قال عن عائشة قالت قلت إني لأعلم أي آية في القرآن أشد، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: وما هي؟ قلت من يعمل سوءا يجز به" فقال: إن المؤمن يجازى بأسوأ عمله في الدنيا يصيبه المرض حتى النكبة، ولكن من نوقش الحساب يعذبه. قالت قلت: أليس قال الله تعالى "فذكر مثل حديث إسماعيل بن إسحاق. وأخرجه الطبري وأبو عوانة وابن مردويه من عدة طرق عن أبي عامر الخزاز نحوه. قوله: "حاتم بن أبي صغيرة" بفتح المهملة كسر الغين المعجمة وكنية حاتم أبو يونس واسم أبي صغيرة مسلم وقد قيل إنه زوج أم أبي يونس وقيل جده لأمه. قوله: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، ثم قال أخيرا: وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب" وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد لأن المراد بالمحاسبة تحرير الحساب فيستلزم المناقشة ومن عذب فقد هلك. وقال القرطبي في "المفهم" قوله: "حوسب" أي حساب استقصاء وقوله: "عذب" أي في النار جزاء على السيئات التي أظهرها حسابه، وقوله: "هلك" أي بالعذاب في النار. قال: وتمسكت عائشة بظاهر لفظ الحساب لأنه يتناول القليل والكثير. قوله: "يناقش الحساب" بالنصب على نزع الخافض والتقدير يناقش في الحساب. قوله: "أليس قد قال الله تعالى" تقدم في تفسير سورة انشقت من رواية يحيى القطان عن أبي يونس بلفظ: "فقلت يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس يقول الله تعالى". قوله: "إنما ذلك العرض" في رواية القطان "قال ذاك العرض تعرضون ومن نوقش الحساب هلك" وأخرج الترمذي لهذا الحديث شاهدا من رواية همام عن قتادة عن أنس رفعه: "من حوسب عذب" وقاله غريب. قلت: والراوي له عن همام على بن أبي بكر صدوق وربما أخطأ، قال القرطبي: معنى قوله: "إنما ذلك العرض" أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة كما في حديث ابن عمر في النجوى، قال عياض: قوله: "عذب" له معنيان أحدهما أن نفس مناقشه الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني أنه يفضي إلى استحقاق العذاب إذ لا حسنة للعبد إلا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى "هلك" وقال النووي: التأويل الثاني هو الصحيح لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك. وقال غيره: وجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب؛ وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض وهو إبراز الأعمال وإظهارها فيعرف صاحبها بذنوبه ثم يتجاوز عنه، ويؤيده ما وقع عند البزار والطبري من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير "سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال: "الرجل تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها" وفي حديث أبي ذر عند مسلم: "يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه" الحديث وفي حديث جابر عند ابن أبي حاتم والحاكم "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب. ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته فذاك الذي أوبق نفسه وإنما الشفاعة في مثله" ويدخل في هذا حديث ابن عمر في النجوى وقد أخرجه المصنف في كتاب المظالم وفي تفسير سورة
(11/402)
هود وفي التوحيد وفيه: "ويدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم فيقرره. ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" وجاء في كيفية العرض ما أخرجه الترمذي من رواية على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي هريرة رفعه: "تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" قال الترمذي: لا يصح لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى انتهى، وهو عند ابن ماجه وأحمد من هذا الوجه مرفوعا، وأخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال الترمذي الحكيم: الجدال للكفار يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا، والمعاذير اعتذار الله لآدم وأنبيائه بإقامته الحجة على أعدائه، والثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر. "تنبيه": وقع في رواية لابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا: "لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة" وظاهره يعارض حديثها المذكور في الباب، وطريق الجمع بينهما أن الحديثين معا في حق المؤمن، ولا منافاة بين التعذيب ودخول الجنة لأن الموحد وإن قضى عليه بالتعذيب فإنه لا بد أن يخرج من النار بالشفاعة أو بعموم الرحمة. حديث أنس "يجاء بالكافر" ذكره من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد وهو ابن أبي عروبة كلاهما عن قتادة وساقه بلفظ سعيد، وأما لفظ هشام فأخرجه مسلم والإسماعيلي من طرق عن معاذ بن هشام عن أبيه بلفظ: "يقال للكافر" والباقي مثله وهو بضم أول يجاء ويقال، وسيأتي بعد باب في "باب صفة الجنة والنار" من رواية أبي عمران الجوني عن أنس التصريح بأن الله سبحانه هو الذي يقول له ذلك ولفظه: "يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به؟ فيقول نعم" ورواه مسلم والنسائي من طريق ثابت عن أنس، وظاهر سياقه أن ذلك يقع للكافر بعد أن يدخل النار ولفظه: "يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال له: هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ فيقول نعم يا رب، فيقال له كذبت" ويحتمل أن يراد بالمضجع هنا مضجعه في القبر فيلتئم مع الروايات الأخرى. قوله: "فيقال له" زاد مسلم في رواية سعيد كذبت. قوله: "قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك" في رواية أبي عمران فيقول: "أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي" وفي رواية ثابت "قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار" قال عياض: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يوف به فهو الكافر، فمراد الحديث أردت منك حين أخذت الميثاق فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك، ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة هنا الطلب والمعنى أمرتك فلم تفعل، لأنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يريد. واعترض بعض المعتزلة بأنه كيف يصح أن يأمر بما لا يريد؟ والجواب أن ذلك ليس بممتنع ولا مستحيل. وقال المازري: مذهب أهل السنة أن الله تعالى أراد إيمان المؤمن وكفر الكافر، ولو أراد من الكافر الإيمان لآمن، يعني لو قدره عليه لوقع. وقال أهل الاعتزال: بل أراد من الجميع الإيمان فأجاب المؤمن وامتنع الكافر، فحملوا الغائب على الشاهد لأنهم رأوا أن مريد الشر شرير والكفر شر فلا يصح أن يريده الباري. وأجاب أهل السنة عن ذلك بأن الشر شر في حق المخلوقين، وأما في حق الخالق فإنه
(11/403)
يفعل ما يشاء، وإنما كانت إرادة الشر شرا لنهي الله عنه، والباري سبحانه ليس فوقه أحد يأمره فلا يصح أن تقاس إرادته على إرادة المخلوقين، وأيضا فالمريد لفعل ما إذا لم يحصل ما أراده آذن ذلك بعجزه وضعفه والباري تعالى لا يوصف بالعجز والضعف فلو أراد الإيمان من الكافر ولم يؤمن لآذن ذلك بعجز وضعف، تعالى الله عن ذلك. وقد تمسك بعضهم بهذا الحديث المتفق على صحته، والجواب عنه ما تقدم، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وأجيبوا بأنه من العام المخصوص بمن قضى الله له الإيمان، فعباده على هذا الملائكة ومؤمنو الإنس والجن وقال آخرون: الإرادة معنى الرضا، ومعنى قوله: "ولا يرضى" أي لا يشكره لهم ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل. وقيل معنى الرضا أنه لا يرضاه دينا مشروعا لهم، وقيل الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل الإرادة تطلق بإزاء شيئين إرادة تقدير وإرادة رضا، والثانية أخص من الأولى والله أعلم. وقيل: الرضا من الله إرادة الخير كما أن السخط إرادة الشر. وقال النووي: قوله: "فيقال له كذبت" معناه لو رددناك إلى الدنيا لما افتديت لأنك سئلت أيسر من ذلك فأبيت، ويكون من معنى قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وبهذا يجتمع معنى هذا الحديث مع قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ}. قال: وفي الحديث من الفوائد جواز قول الإنسان يقول الله خلافا لمن كره ذلك. وقال: إنما يجوز قال الله تعالى وهو قول شاذ مخالف لأقوال العلماء من السلف والخلف، وقد تظاهرت به الأحاديث. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}. قوله: "حدثني خيثمة" بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها مثلثة هو ابن عبد الرحمن الجعفي. قوله: "عن عدي بن حاتم" هو الطائي. قوله: "ما منكم من أحد" ظاهر الخطاب للصحابة، ويلتحق بهم المؤمنون كلهم سابقهم ومقصرهم أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. قوله: "إلا سيكلمه الله" في رواية وكيع عن الأعمش عنه ابن ماجه: "سيكلمه ربه". قوله: "ليس بينه وبينه ترجمان" لم يذكر في هذه الرواية ما يقول وبينه في رواية محل بن خليفة عن عدي بن حاتم في الزكاة بلفظ: "ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له. ثم ليقولن له: ألم أوتك مالا؟ فيقول: بلى" الحديث والترجمان تقدم ضبطه في بدء الوحي في شرح قصه هرقل. قوله: "ثم ينظر فلا يرى قدامه" بضم القاف وتشديد الدال أي أمامه ووقع في رواية عيسى بن يونس عن الأعمش في التوحيد وعند مسلم بلفظ: "فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم" وأخرجه الترمذي من رواية أبي معاوية بلفظ: "فلا يرى شيئا إلا شيئا قدمه" وفي رواية محل بن خليفة "فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، وينظر عن شماله فلا يرى إلا النار" وهذه الرواية مختصرة ورواية خيثمة مفسرة فهي المعتمدة في ذلك، وقوله أيمن وأشأم بالنصب فيهما على الظرفية والمراد بهما اليمين والشمال، قال ابن هبيرة: نظر اليمين والشمال هنا كالمثل لأن الإنسان من شأنه إذا دهمه أمر أن يلتفت يمينا وشمالا يطلب الغوث. قلت: ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أن يجد طريقا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار فلا يرى إلا ما يفضي به إلى النار كما وقع في رواية محل بن خليفة. قوله: "ثم ينظر بين يديه فتسقبله النار" في رواية عيسى "وينظر بين يده فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه" وفي رواية أبي معاوية "ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار" قال ابن هبيرة: والسبب في ذلك أن النار تكون في ممره فلا يمكنه أن يجيد عنها إذ لا بد له من المرور على الصراط. قوله: "فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق
(11/404)
تمرة" زاد وكيع في روايته: "فليفعل" وفي رواية أبي معاوية "أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل" وفي رواية عيسى "فاتقوا النار ولو بشق تمرة" أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقة وعمل البر ولو بشيء يسير. قوله: "قال الأعمش" هو موصول بالسند المذكور، وقد أخرجه مسلم من رواية معاوية عن الأعمش كذلك، وبين عيسى بن يونس في روايته أن القدر الذي زاده عمرو بن مرة للأعمش في حديثه عن خيثمة قوله في آخره: "فمن لم يجد فبكلمة طيبة" وقد مضى الحديث بأتم سياقا من هذا في رواية محل بن خليفة في الزكاة. قوله: "حدثني عمرو" هو ابن مرة وصرح به رواية عيسى بن يونس. قوله: "اتقوا النار ثم أعرض وأشاح" بشين معجمة وحاء مهملة أي أظهر الحذر منها، وقال الخليلي: أشاح بوجهه عن الشيء نحاه عنه. وقال الفراء المشيح الحذر والجاد في الأمر والمقبل في خطابه، فيصح أحد هذه المعاني أو كلها أي حذر النار كأنه ينظر إليها أو جد على الوصية باتقائها أو أقبل على أصحابه في خطابه بعد أن أعرض عن النار لما ذكرها، وحكى ابن التين أن معنى أشاح صد وانكمش، وقيل صرف وجهه كالخائف أن تناله. قلت: والأول أوجه لأنه قد حصل من قوله أعرض، ووقع في رواية أبي معاوية في أوله "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأعرض وأشاح ثم قال اتقوا النار". قوله: "ثلاثا" في رواية أبي معاوية "ثم قال اتقوا النار، وأعرض وأشاح حتى ظننا أنه كان ينظر إليها" وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية جرير عن الأعمش، قال ابن هبيرة وابن أبي جمرة في حديث إن الله يكلم عباده المؤمنين في الدار الآخرة بغير واسطة: وفيه الحث على الصدقة. قال ابن أبي جمرة: وفيه دليل على قبول الصدقة ولو قلت، وقد قيدت في الحديث بالكسب الطيب. وفيه إشارة إلى ترك احتقار القليل من الصدقة وغيرها. وفيه حجة لأهل الزهد حيث قالوا الملتفت هالك يؤخذ من أن نظر المذكور عن يمينه وعن شماله فيه صورة الالتفات فلذا لما نظر أمامه استقبلته النار، وفيه دليل على قرب النار من أهل الموقف، وقد أخرج البيهقي في البعث من مرسل عبد الله بن باباه بسند رجاله ثقات رفعه: "كأني أراكم بالكوم جثى من دون جهنم" وقوله: "جثى" بضم الجيم بعدها مثلثة مقصور جمع جاث، والكوم بفتح الكاف الواو الساكنة المكان العالي الذي تكون عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث كعب بن مالك عند مسلم أنهم يكونون يوم القيامة على تل عال، وفيه أن احتجاب الله عن عباده ليس بحائل حسي بل بأمر معنوي يتعلق بقدرته، يؤخذ من قوله ثم ينظر فلا يرى قدامه شيئا. وقال ابن هبيرة المراد بالكلمة الطيبة هنا يدل على هدى أو يرد عن ردى أو يصلح بين اثنين أو يفصل بين متنازعين أول يحل مشكلا أو يكشف غامضا أو يدفع ثائرا أو يسكن غضبا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(11/405)
50 - باب يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ
حِسَابٍ
6541- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا
حُصَيْنٌ ح قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ و حَدَّثَنِي أَسِيدُ بْنُ زَيْدٍ
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
فَقَالَ "حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ
وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ
وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ
فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ هَؤُلاَءِ أُمَّتِي
قَالَ لاَ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا
(11/405)
سَوَادٌ كَثِيرٌ قَالَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَهَؤُلاَءِ
سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ قُلْتُ
وَلِمَ قَالَ كَانُوا لاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ
فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهُمْ قَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"
6542- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
"أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي
زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ
مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ
ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ
أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"
6543- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ
سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا مُتَمَاسِكِينَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ
بِبَعْضٍ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ الْجَنَّةَ وَوُجُوهُهُمْ عَلَى
ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ"
6544- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ
النَّارَ ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يَا أَهْلَ النَّارِ لاَ مَوْتَ
وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لاَ مَوْتَ خُلُودٌ"
[الحديث 6544- طرفه في: 6548]
6545- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله
عليه وسلم: يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لاَ
مَوْتَ وَلِأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ"
قوله: "باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب" فيه إشارة إلى أن وراء
التقسيم الذي تضمنته الآية المشار إليها في الباب الذي قبله أمرا آخر، وأن من
المكلفين من لا يحاسب أصلا، ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا، ومنهم من ناقش الحساب.
قوله: "حدثنا ابن الفضيل" هو محمد، وحصين هو ابن عبد الرحمن الواسطي.
قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "وحدثني أسيد"
بفتح الهمزة كسر المهملة هو ابن زيد الجمال بالجيم كوفي حدث ببغداد، قال أبو حاتم:
كانوا يتكلمون فيه وضعفه جماعة، وأفحش ابن معين فيه القول. وليس له عند البخاري
سوى هذا الموضع وقد قرنه فيه يغيره، ولعله كان عنده ثقة قاله أبو مسعود، ويحتمل أن
لا يكون خبر أمره كما ينبغي وإنما سمع منه هذا الحديث الواحد، وقد
(11/406)
وافقه عليه جماعة منهم شريح بن النعمان عند أحمد وسعيد بن منصور عند مسلم وغيرهما، وإنما احتاج إليه فرارا من تكرير الإسناد بعينه فإنه أخرج السند الأول في الطب في "باب من اكتوى" ثم أعاده هنا فأضاف إليه طريق هشيم، وتقدم له في الطب أيضا في باب من لم يرق من طريق حصين بن بهز عن حصين بن عبد الرحمن، وتقدم باختصار قريبا من طريق شعبة عن حصين بن عبد الرحمن. قوله: "كنت عند سعيد بن جبير فقال حدثني ابن عباس" زاد ابن فضيل في رواية عن حصين عن عامر وهو الشعبي عن عمران بن حصين "لا رقية إلا من عين" الحديث، وقد بينت الاختلاف في رفع حديث عمران هذا والاختلاف في سنده أيضا في كتاب الطب، وأن في رواية هشم زيادة قصة وقعت لحصين بن عبد الرحمن مع سعيد بن جبير فيما يتعلق بالرقية وذكره حكم الرقية هناك. قوله: "عرضت" بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "علي" بالتشديد "الأمم" بالرفع، وقد بين عبثر بن القاسم بموحدة ثم مثلثة وزن جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرحمن عند الترمذي والنسائي أن ذلك كان ليلة الإسراء ولفظه: "لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد" الحديث فإن كان ذلك محفوظا كانت فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء وأنه وقع بالمدينة أيضا غير الذي وقع بمكة، فقد وقع عند أحمد والبزار بسند صحيح قال: "أكربنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عدنا إليه فقال: عرضت على الأنبياء الليلة بأممها، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة والنبي يمر ومعه العصابة" فذكر الحديث. وفي حديث جابر عند البزار "أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العشاء حتى نام بعض من كان في المسجد" الحديث والذي يتحرر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة من استفتاح أبواب السماوات بابا بابا ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء ولا المراجعة معهم ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات ولا في طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها بمكة البعض ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض ومعظمها في المنام، والله أعلم. قوله: "فأجد" بكسر الجيم بلفظ المتكلم بالفعل المضارع، وفيه مبالغة لتحقق صورة الحال. وفي رواية الكشميهني: "فأخذ" بفتح الخاء والذال المعجمتين بلفظ الفعل الماضي. قوله: "النبي" بالنصب وفي رواية الكشميهني بالرفع على أنه الفاعل. قوله: "يمر معه الأمة" أي العدد الكثير. قوله: "والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشر" بفتح المهملة وسكون المعجمة وفي رواية المستملى بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم راء، ووقع في رواية ابن فضيل "فجعل النبي والنبيان يمرون ومعهم الرهط" زاد عبثر في روايته: "والشيء" وفي رواية حصين بن نمير نحوه لكن بتقديم وتأخير. وفي رواية سعيد بن منصور التي أشرت إليها آنفا "فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد والنبي معه الخمسة" والرهط تقدم بيانه في شرح حديث أبي سفيان في قصة هرقل أول الكتاب، وفي حديث ابن مسعود "فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد". والحاصل من هذه الروايات أن الأنبياء يتفاوتون في عدد أتباعهم. قوله: "فنظرت فإذا سواد كثير" في رواية حصين بن نمير فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، والسواد ضد البياض هو الشخص الذي يرى من بعيد، وصفه بالكثير إشارة إلى أن المراد بلفظ الجنس لا الواحد، ووقع في رواية ابن فضيل "ملأ الأفق" الأفق الناحية، والمراد به هنا ناحية السماء. قوله: "قلت يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا" في رواية حصين بن نمير "فرجوت أن تكون أمتي فقيل هذا موسى في قومه". وفي حديث ابن مسعود عند أحمد "حتى
(11/407)
مر على موسى في كبكبة من بني إسرائيل فأعجبني، فقلت من هؤلاء؟ فقيل: هذا أخوك موسى معه بنو وإسرائيل" والكبكبة بفتح الكاف ويجوز ضمها بعدها موحدة هي الجماعة من الناس إذا انضم بعضهم إلى بعض. قوله: "ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير" في رواية سعيد بن منصور "عظيم" وزاد: "فقيل لي انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر" مثله. وفي رواية ابن فضيل "فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء" وفي حديث ابن مسعود "فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال" وفي لفظ لأحمد "فرأيت أمتي قد ملؤوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم أي رب" وقد استشكل الإسماعيلي كونه صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى، وقد ثبت من حديث أبي هريرة كما تقدم في الطهارة "كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ فقال: إنهم غر محجلون من أثر الوضوء" وفي لفظ: "سيما ليست لأحد غيرهم" وأجاب بأن الأشخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها إلا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم، وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه، وهذا كما يرى الشخص شخصا على بعد فيكلمه ولا يعرف أنه أخوه، فإذا صار بحيث يتميز عن غيره عرفه. ويؤيده أن ذلك يقع عند ورودهم عليه الحوض. قوله: "هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب" في رواية سعيد بن منصور "معهم" بدل قدامهم وفي رواية حصين بن نمير "ومع هؤلاء" وكذا في حديث ابن مسعود، والمراد بالمعية المعنوية فإن السبعين ألفا المذكورين من جملة أمته، لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفا إليهم، وقد وقع في رواية ابن فضيل "ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب" وفي رواية عبثر بن القاسم "هؤلاء أمتك، ومن هؤلاء من أمتك سبعون ألفا" والإشارة بهؤلاء إلى الأمة لا إلى خصوص من عرض، ويحتمل أن تكون مع بمعنى من فتأتلف الروايات. قوله: "قلت ولم" بكسر اللام وفتح الميم ويجوز إسكانها، يستفهم بها عن السبب، وقع في رواية سعيد بن منصور وشريح عن هشيم "ثم نهض - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل منزله، فحاص الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين" وفي رواية عبثر "فدخل ولم يسألوه ولم يفسر لهم" والباقي نحوه. وفي رواية ابن فضيل "فأفاض القوم فقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا الرسول، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال" وفي رواية حصين بن نمير "فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله وبرسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا" وفي حديث جابر "وقال بعضنا: هم الشهداء" وفي رواية له "من رق قلبه للإسلام". قوله: "كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات في حديث ابن عباس وإن كان عند البعض تقدم وتأخير، وكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم، وفي لفظ له سقط "ولا يتطيرون" هكذا في حديث ابن مسعود وفي حديث جابر اللذين أشرت إليهما بنحو الأربع، ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم: "ولا يرقون" بدل "ولا يكتوون" وقد أنكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم أنها غلط من راويها، واعتل بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقينه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك؟ وأيضا فقد رقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقي النبي أصحابه وأذن لهم في الرقي وقال:
(11/408)
"من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" والنفع مطلوب. قال: وأما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه، وتمام التوكل ينافي ذلك. قال: وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكيل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء. وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ وقد اعتمده البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه. والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكيل فكذا يقال له والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكيل، وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعي ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة لأنه في مقام التشريع وتبين الأحكام، ويمكن أن يقال إنما ترك المذكورون الرقي والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه إليه وإلا فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة وإنما منع منها ما كان شركا أو احتمله ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا علي رقاكم، ولا بأس بالرقي ما لم يكن شرك" ففيه إشارة إلى علة النهي كما تقدم تقرير ذلك واضحا في كتاب الطب، وقد نقل القرطبي عن غيره أن استعمال الرقي والكي قادح في التوكيل بخلاف سائر أنواع الطب، وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق عادة كالأكل والشرب فلا يقدح، قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهوم، والثاني أن الرقي بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء إليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه، فلو كان ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء، وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم ورقي وفعله السلف والخلف، فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو أعلم وأفضل ممن عداهم. وتعقب بأنه بني كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا، وليس كذلك لما سأبينه، وجوز أبو طالب بن عطية في "موازنة الأعمال" أن السبعين المذكورين هم المراد بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فإن أراد أنهم من جملة السابقين فمسلم وإلا فلا، وقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة" فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم، وسأذكر بعد قليل من حديث أم قيس بنت محصن أن السبعين ألفا ممن يحشر من مقبرة البقيع بالمدينة وهي خصوصية أخرى. قوله: "ولا يتطيرون" تقدم بيان الطيرة في كتاب الطب، والمراد أنهم لا يتشاءمون كما كانوا يفعلون في الجاهلية. قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرة لما تقدم من ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة، ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص لأن صفة واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك، وقد مضى القول في التوكيل في "باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" قريبا. وقال القرطبي وغيره: قالت طائفة من الصوفية لا يستحق، اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج، وحتى لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له. وأبي هذا الجمهور وقالوا: يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه واقع، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد
(11/409)
له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قدح في توكله، وهم مع ذلك فيه على قسمين: واصل وسالك، فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب ولو تعاطاها، وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانا إلا أنه قد يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية والأذواق الحالية إلى أن يرتقي إلى مقام الواصل. وقال أبو القاسم القشيري: التوكل محله القلب، وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من قبل الله، فإن تيسر شيء فبتيسره وإن تعسر فبتقديره. ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه: "أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وكان داود يأكل من كسبه" فقد قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} وقال تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}. وأما قول القائل كيف تطلب ما لا تعرف مكانه فجوابه أنه يفعل السبب المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته فيشق الأرض مثلا ويلقي الحب وتوكل على الله في إنباته وإنزال الغيث له، ويحصل السلعة مثلا ونقلها ويتوكل على الله في إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها منه، بل ربما كان التكسب واجبا كقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة فمتى ترك ذلك كان عاصيا. وسلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال: قوله: "لا يكتوون" معناه إلا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي، وقوله: "ويسترقون" معناه بالرقي التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقي الجاهلية وما لا يؤمن أن يكون فيه شرك، وقوله: "ولا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية في عقائدهم. قال: فإن قيل إن المتصف بهذا أكثر من العدد المذكور فما وجه الحصر فيه؟ وأجاب باحتمال أن يكون المراد به التكثير لا خصوص العدد. قلت: الظاهر أن العدد المذكور على ظاهره، فقد وقع في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وصفهم بأنهم "تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" ومضى في بدء الخلق من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رفعه: "أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب درى في السماء إضاءة" وأخرجه مسلم من طرق عن أبي هريرة: منها رواية أبي يونس وهمام عن أبي هريرة "على صورة القمر" وله من حديث جابر "فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون" وقد وقع في أحاديث أخرى أن مع السبعين ألفا زيادة عليهم، ففي حدث أبي هريرة عند أحمد والبيهقي في البعث من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي" فذكر الحديث نحو سياق حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وزاد: "فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفا" وسنده جيد، وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حذيفة عند أحمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند ابن أبي عاصم، فهذه طرق يقوي بعضها بعضا وجاء في أحاديث أخرى من ذلك: فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رفعه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي" وفي صحيح ابن حبان أيضا والطبراني بسند جيد من حديث عتبة بن عبد نحوه بلفظ: "ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفا، ثم يحثى ربي ثلاث حثيات بكفيه" وفيه:
(11/410)
"فكبر عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن السبعين ألفا يشفعهم الله في آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم وإني لأرجو أن يكون أدنى أمتي الحثيات" وأخرجه الحافظ الضياء وقال: لا أعلم له علة. قلت: علته الاختلاف في سنده، فإن الطبراني أخرجه من رواية أبي سلام حدثني عامر بن زيد أنه سمع عتبة، ثم أخرجه من طريق أبي سلام أيضا فقال: "حدثني عبد الله بن عامر أن قيس بن الحارث حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه" فذكره وزاد: "قال قيس فقلت لأبي سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: وقال رسول صلى الله عليه وسلم: وذلك يستوعب مهاجري أمتي ويوفي الله بقيتهم من أعرابنا" وفي رواية لابن أبي عاصم قال أبو سعيد "فحسبنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعة آلاف ألف وتسعمائة ألف" يعني من عدا الحثيات وقد وقع عند أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب نحو حديث عتبة بن عبد وزاد: "والخبيئة - بمعجمة ثم موحدة وهمزة وزن عظيمة - عند ربي" وورد من وجه آخر ما يزيد على العدد الذي حسبه أبو سعيد الأنماري، فعند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه بلفظ: "أعطاني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا" وفي سنده راويان أحدهما ضعيف الحفظ والآخر لم يسم. وأخرج البيهقي في البعث من حديث عمرو بن حزم مثله وفيه راو ضعيف أيضا، واختلف في سنده وفي سياق متنه. وعند البزار من حديث أنس بسند ضعيف نحوه، وعند الكلاباذي في "معاني الأخبار" بسند واه من حديث عائشة "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فإذا هو في مشربة يصلي، فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار، فلما قضى صلاته قال: رأيت الأنوار؟ قلت: نعم. قال: إن آتيا أتاني من ربي فبشرني أن الله يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، فقلت يا رب لا يبلغ هذا أمتي قال أكملهم لك من الأعراب ممن لا يصوم ولا يصلي" قال الكلاباذي: المراد بالأمة أولا أمة الإجابة، وبقوله آخرا أمتي أمة الاتباع، فإن أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: أحدها أخص من الآخر أمة الاتباع ثم أمة الإجابة ثم أمة الدعوة، فالأولى أهل العمل الصالح والثانية مطلق المسلمين والثالثة من عداهم ممن بعث إليهم، ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو مقدار الحثيات، فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة عن النضر بن أنس أو غيره عن أنس رفعه: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله، فقال: هكذا وجمع كفيه، فقال: زدنا. فقال وهكذا. فقال عمر حسبك أن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق عمر" وسنده جيد لكن اختلف على قتادة في سنده اختلافا كثيرا. قوله: "فقام إليه عكاشة" بضم المهملة وتشديد الكاف ويجوز تخفيفها يقال عكش الشعر ويعكش إذا التوى حكاه القرطبي، وحكى السهيلي أنه من عكش القوم إذا حمل عليهم وقيل العكاشة بالتخفيف العنكبوت، ويقال أيضا لبيت النمل. ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم نون آخره هو ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة من بني أسد بن خزيمة ومن حلفاء بني أمية. كان عكاشة من السابقين إلى الإسلام وكان من أجمل الرجال وكنيته أبو محصن وهاجر وشهد بدرا وقاتل فيها، قال ابن إسحاق بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير فارس في العرب عكاشة" وقال أيضا: قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى انقطع سيفه في يده فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزلا من حطب فقال "قاتل بهذا" فقاتل به فصار في يده سيفا طويلا شديد المتن أبيض فقاتل به حتى فتح الله
(11/411)
فكان ذلك السيف عنده حتى استشهد في قتال الردة مع خالد ابن الوليد سنة اثنتي عشرة. قوله: "فقال ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "اللهم اجعله منهم" في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب مثله، وعند البيهقي من طريق محمد بن زياد عنه - وساق مسلم سنده - قال: "فدعا" ووقع في رواية حصين ابن نمير ومحمد بن فضيل "قال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال له نعم" ويجمع بأنه سأل الدعاء أولا فدعا له ثم استفهم قيل أجبت. قوله: "ثم قام إليه رجل آخر" وقع فيه من الاختلاف هل قال: "ادع لي" أو قال: "أمنهم أنا" كما وقع في الذي قبله. ووقع في حديث أبي هريرة الذي بعده "رجل من الأنصار" وجاء من طريق واهية أنه سعد بن عبادة أخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق أبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري أحد الضعفاء من طريقين له عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزاة بني المصطلق، فساق قصة طويلة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف؛ ثمانون صفا منها أمتي وأربعون صفا سائر الأمم، ولي مع هؤلاء سبعون ألفا مدخلون الجنة بغير حساب، قيل من هم" فذكر الحديث، وفيه: "فقال: "اللهم اجعل عكاشة" منهم، قال فاستشهد بعد ذلك. ثم قام سعد بن عبادة الأنصاري فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم" الحديث، وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة، فإن كان محفوظا فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه ونسبته، فإن في الصحابة كذلك آخر له في مسند بقي بن مخل حديث، وفي الصحابة سعد بن عمارة الأنصاري فلعل اسم أبيه تحرف. قوله: "سبقك بها عكاشة" اتفق جمهور الرواة على ذلك إلا ما وقع عند ابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى من حديث أبي سعيد فزاد: فقام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم وقال في آخره: سبقك بها عكاشة وصاحبه، أما لو قلتم لقلت ولو قلت لوجبت" وفي سنده عطية وهو ضعيف. وقد اختلقت أجوبة العلماء في الحكمة قوله: "سبقك بها عكاشة" فأخرج ابن الجوزي في "كشف المشكل" من طريق أبي عمر الزاهد أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى المعروف بالثعالبي عن ذلك فقال: كان منافقا، وكذا نقله الدار قطني عن القاضي أبي العباس البرتي بكسر الموحدة وسكون الراء بعدها مثناة فقال: كان الثاني منافقا، وكان صلى الله عليه وسلم لا يسأل في شيء إلا أعطاه، فأجابه بذلك. ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل العلم نحو قول ثعلب. وقال ابن ناصر قول ثعلب أولى من رواية مجاهد لأن سندها واه واستبعد السهيلي قول ثعلب بما وقع في مسند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة "فقام رجل من خيار المهاجرين" وسنده ضعيف جدا مع كونه مخالفا لرواية الصحيح أنه من الأنصار. وقال ابن بطال: معنى قوله: "سبقك" أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه، وعدل عن قوله: "لست منهم أو لست على أخلاقهم" تلطفا بأصحابه صلى الله عليه وسلم وحسن أدبه معهم. وقال ابن الجوزي "يظهر لي أن الأول سأل عن صدق قلب فأجيب، وأما الثاني فيحتمل أن يكون أريد به حسم المادة، فلو قال للثاني نعم لأوشك أن يقوم ثالث ورابع إلى ما لا نهاية له وليس كل الناس يصلح لذلك" وقال القرطبي: لم يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجب إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل، فسد الباب بقوله ذلك، وهذا أولى من قول من قال كان منافقا لوجهين: أحدهما أن الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح، والثاني أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول، كيف صدر ذلك من منافق؟ وإلى هذا جنح ابن تيمية. وصحح النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي أنه يجاب في عكاشة ولم يقع ذلك في حق الآخر. وقال السهيلي: الذي عندي في هذا أنها
(11/412)
كانت ساعة إجابة علمها صلى الله عليه وسلم واتفق أن الرجل قال بعدما انقضت، ويبينه ما وقع في حديث أبي سعيد "ثم جلسوا ساعة يتحدثون" وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله سبقك بها عكاشة "وبردت الدعوة" أي انقضى وقتها. قلت: فتحصل لنا من كلام هؤلاء الأئمة على خمسة أجوبة والعلم عند الله تعالى. ثم وجدت لقول ثعلب ومن وافقه مستندا وهو ما أخرجه الطبراني ومحمد بن سنجر في مسنده وعمر بن شيبة في "أخبار المدينة" من طريق نافع مولى حمنة عن أم قيس بنت محصن وهي أخت عكاشة أنها "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجل فقال: يا رسول الله، وأنا؟ قال وأنت. مقام آخر فقال أنا؟ قال: سبقك بها عكاشة قال قلت لها: لم لم يقل للآخر؟ فقالت: أراه كان منافقا" فإن كان هذا أصل ما جزم به من قال كان منافقا فلا يدفع تأويل غيره إذ ليس فيه إلا الظن. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وقد أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن وهب عن يونس، لكن معاذ بن أسد شيخ البخاري فيه معروف بالرواية عن ابن المبارك لا عن ابن وهب، وقد أخرجه مسلم من وجهين آخرين عن أبي هريرة. قوله: "يدخل الجنة من أمتي زمرة" بضم الزاي وسكون الميم هي الجماعة إذ كان بعضهم إثر بعض. قوله: "سبعون ألفا" تقدم شرحه مستوفى في الذي قبله، وعرف من مجموع الطرق التي ذكرتها أن أول من يدخل الجنة من هذه الأمة هؤلاء السبعون الذي بالصفة المذكورة، ومعنى المعية في قوله في الروايات الماضية "مع كل ألف سبعون ألفا أو مع واحد منهم سبعون ألفا" ويحتمل أن يدخلوا بدخولهم تبعا لهم وإن لم يكن لهم مثل أعمالهم كما مضى حديث: "المرء مع من أحب" ويحتمل أن يراد بالمعية مجرد دخولهم الجنة بغير حساب وإن دخلوها في الزمرة الثانية أو ما بعدها، وهذه أولى. وقد أخرج الحاكم والبيهقي في "البعث" من طريق جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جابر رفعه: "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا، ومن أوبق نفسه فهو الذي يشفع فيه بعد أن يعذب" وفي التقصيد بقوله: "أمتي" إخراج غير الأمة المحمدية من العدد المذكور، وليس فيه نفي دخول أحد من غير هذه الأمة على الصفة المذكورة -من شبه القمر ومن الأولية وغير ذلك- لأنبياء ومن شاء الله من الشهداء والصديقين والصالحين، وإن ثبت حديث أم قيس ففيه تخصيص آخر بمن يدفن في البقيع من هذه الأمة وهي مزية عظيمة لأهل المدينة. والله أعلم. قوله: "تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" في رواية لمسلم: "على صورة القمر" قال القرطبي: المراد بالصورة الصفة يعني أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه وهي ليلة أربعة عشر، ويؤخذ منه أن أنوار أهل الجنة تتفاوت بحسب درجاتهم. قلت: وكذا صفاتهم في الجمال ونحوه. قوله: "يرفع نمرة عليه" بفتح النون وكسر الميم هي كساء من صوف كالشملة مخططة بسواد وبياض يلبسها الأعراب. قوله: "أبو غسان" بغين معجمة ثم مهملة ثقيلة، أبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف شك في أحدهما" في رواية مسلم من طريق عبد العزيز بن محمد عن أبي حازم "لا يدري أبو حازم أيهما قال". قوله: "متماسكين" بالنصب على الحال. وفي رواية مسلم متماسكون بالرفع على الصفة، قال النووي: كذا في معظم النسخ وفي بعضها بالنصب وكلاهما صحيح. قوله: "آخذ بعضهم ببعض" في رواية مسلم: "بعضهم بعضا". قوله: "حتى يدخل أولهم وآخرهم" هو غاية للتماسك المذكور والأخذ بالأيدي
(11/413)
وفي رواية فضيل بن سليمان الماضية في بدء الخلق "لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم" وهذا ظاهره يستلزم الدور، وليس كذلك، بل المراد أنهم يدخلون صفا واحدا فيدخل الجميع دفعة واحدة، ووصفهم بالأولية والآخرية باعتبار الصفة التي جازوا فيها على الصراط وفي ذلك إشارة إلى سعة الباب الذي يدخلون منه الجنة، قال عياض: يحتمل أن يكون معنى كونهم متماسكين أنهم على صفة الوقار فلا يسابق بعضهم بعضا بل كون دخولهم جميعا. وقال النووي: معناه أنهم يدخلون معترضين صفا واحدا بعضهم بجنب بعض. "تنبيه": هذه الأحاديث تخص عموم الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي برزة الأسلمي رفعه: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" وله شاهد عن ابن مسعود عند الترمذي، وعن معاذ بن جبل عند الطبراني. قال القرطبي: عموم الحديث واضح، لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصوص بمن يدخل الجنة بغير حساب، وبمن يدخل النار من أول وهلة على ما دل عليه قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} الآية. قلت: وفي سياق حديث أبي برزة إشارة إلى الخصوص، وذلك أنه ليس أحد عنده علم يسأل عنه، وكذا المال فهو مخصوص بمن له علم وبمن له مال دون من لا مال له ومن لا علم له، وأما السؤال عن الجسد والعمر فعام ويخص من المسئولين من ذكر، والله أعلم. قوله: "يعقوب بن إبراهيم" أي ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان. قوله: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار" في رواية محمد بن زيد عن ابن عمر في الباب الذي بعده "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار النار أتى بالموت" ووقع مثله في طريق أخرى عن أبي هريرة ولفظه عند الترمذي من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بعد ذكر الجواز على الصراط "فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت ملبيا" وهو بموحدتين. قوله: "ثم يقوم مؤذن بينهم" في رواية محمد بن زيد قيل هذا قصة ذبح الموت ولفظه: "ثم جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح. ثم ينادي مناد" لم أقف على اسم هذا المنادي. قوله: "يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت خلود" أما قوله: "لا موت" فهو بفتح المثناة فيهما، وأما قوله في آخره: "خلود" فهكذا وقع في رواية على بن عبد الله عن يعقوب، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب وغير واحد عن يعقوب بتقديم نداء أهل الجنة ولم يقل "لا موت" فيهما بل قال: "كل خالد فيما هو فيه" وكذا هو عند الإسماعيلي من طريق إسحاق بن منصور عن يعقوب، وضبط "خلود" في البخاري بالرفع والتنوين أي هذا الحال مستمر، ويحتمل أن يكون جمع خالد أي أنتم خالدون في الجنة. قوله: "يقال لأهل الجنة يا أهل الجنة" سقط لغير الكشميهني قوله: "يا أهل الجنة" وثبت للجميع في مقابله "يا أهل النار". قوله: "لا موت" زاد الإسماعيلي في روايته: "لا موت فيه" وسيأتي في ثالث أحاديث الباب الذي يليه أن ذلك يقال للفريقين عند ذبح الموت، وثبت ذلك عند الترمذي من وجه آخر عن أبي هريرة. "تنبيه": مناسبة هذا الحديث والذي قبله لترجمة دخول الجنة بغير حساب الإشارة إلى أن كل من يدخل الجنة يخلد فيها فيكون للسابق إلى الدخول مزية على غيره، والله أعلم.
(11/414)
51 - باب صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ
(11/414)
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ
عَدْنٌ خُلْدٌ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَقَمْتُ وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ {فِي مَقْعَدِ
صِدْقٍ} فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ
6546- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي
رَجَاءٍ "عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا
الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا
النِّسَاءَ"
6547- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ
التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ
عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ
أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَقُمْتُ عَلَى بَابِ
النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"
6548- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ "عَنْ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَارَ أَهْلُ
الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ
حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي
مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لاَ مَوْتَ
فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ
النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ"
6549- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
"عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ
الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ
فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ
أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا
يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ
رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا"
[الحديث 6549- طرفه في: 7518]
6550- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ
عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسًا
يَقُولُ أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ
عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ
وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ "وَيْحَكِ
أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ
لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ"
6551- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى
أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ
الْكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ "
6552- وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ
سَلَمَةَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ فِي
الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ
يَقْطَعُهَا"
(11/415)
6553- قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ
أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ "حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ
الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا
يَقْطَعُهَا"
6554- حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم "عن سهل بن سعد أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف لا يدري
أبو حازم أيهما قال متماسكون آخذ بعضهم بعضا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم
على صورة القمر ليلة البدر"
6555- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
عَنْ أَبِيهِ "عَنْ سَهْلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرَفَ فِي
الْجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ"
6556- قَالَ أَبِي فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ
أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ وَيَزِيدُ فِيهِ كَمَا تَرَاءَوْنَ
الْكَوْكَبَ الْغَارِبَ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ"
6557- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي
بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ
فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ
بِي"
6558- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمْ
الثَّعَارِيرُ قُلْتُ مَا الثَّعَارِيرُ قَالَ الضَّغَابِيسُ وَكَانَ قَدْ سَقَطَ
فَمُهُ فَقُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ النَّارِ قَالَ نَعَمْ"
6559- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ
"حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ
مِنْهَا سَفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ
الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6560- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى
عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ
الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ
فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ
الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا
(11/416)
تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ أَوْ قَالَ
حَمِيَّةِ السَّيْلِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَوْا
أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً"
6561- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ "سَمِعْتُ النُّعْمَانَ
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ
أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي
أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ"
[الحديث 6561- طرفه في: 6562]
6562- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ "عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ
عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ
يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ"
6563- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ
خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ
النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا
النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ
طَيِّبَةٍ"
6564- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ
وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ
فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي
ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ
دِمَاغِهِ"
6565- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ
اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ
آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ
رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا
فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ ائْتُوا نُوحًا
أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ
وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا
فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا مُوسَى
الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ
خَطِيئَتَهُ ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا
رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ لِي
ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ
رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي
حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ
(11/417)
ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ
أَوْ الرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ
الْقُرْآنُ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْخُلُودُ"
6566- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ
حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ
الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6567- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ
"عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ غَرْبُ
سَهْمٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ
قَلْبِي فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَإِلاَ سَوْفَ تَرَى
مَا أَصْنَعُ فَقَالَ لَهَا "هَبِلْتِ أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا
جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى"
6568- "وَقَالَ: " غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ
مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ
مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ
نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لاَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا
وَلَمَلاَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا يَعْنِي الْخِمَارَ خَيْرٌ
مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
6569- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ
النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ
أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ
حَسْرَةً"
6570- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ
عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ
أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "لَقَدْ
ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ
أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ
بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا
مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ"
6571- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْلَمُ آخِرَ
أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا رَجُلٌ
يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ
فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا
رَبِّ وَجَدْتُهَا
(11/418)
مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا
فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ
وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ
الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ
الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ
فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ
حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يَقُولُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ
مَنْزِلَةً"
[الحديث 6571- طرفه في: 7511]
6572- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ "عَنْ الْعَبَّاسِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ
نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ"
قوله: "باب صفة الجنة والنار" تقدم هذا في بدء الخلق في ترجمتين. ووقع
في كل منهما "وأنها مخلوقة" وأورد فيهما أحاديث في تثبيت كونهما
موجودتين وأحاديث في صفتهما أعاد بعضها في هذا الباب كما سأنبه عليه. قوله:
"وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول طعام يأكله أهل
الجنة زيادة كبد حوت" في رواية أبي ذر "كبد الحوت" وقد تقدم هذا
الحديث مطولا في "باب يقبض الله الأرض يوم القيامة" وهو مذكور هنا
بالمعنى، وتقدم بلفظه في بدء الخلق لكن من حديث أنس في سؤال عبد الله بن سلام.
قوله: "عدن: خلد، عدنت بأرض أقمت" تقدم هذا في تفسير براءة وأنه من كلام
أبي عبيدة. وقال الراغب: معنى قوله: "جنات عدن" أي الاستقرار، وعدن
بمكان كذا إذا استقر به، ومنه المعدن لكونه مستقر الجواهر. قوله: "في مقعد
صدق: في منبت صدق" كذا لأبي ذر، ولغيره: "في معدن" بدل
"مقعد" وهو الصواب، وكأن سبب الوهم أنه لما رأى أن الكلام في صفة الجنة
وأن من أوصافها مقعد صدق كما في آخر سورة القمر ظنه هنا كذلك، وقد ذكره أبو عبيدة
بلفظ: "معدن صدق" وأنشد للأعشى قوله: فإن يستضيفوا إلى حلمه يضافوا إلى
راجح قد عدن أي أقام واستقر، نعم قوله: "مقعد صدق" معناه مكان القعود
وهو يرجع إلى معنى المعدن، ولمح المصنف هنا بأسماء الجنة وهي عشرة أو تزيد:
الفردوس وهو أعلاها ودار السلام ودار الخلد ودار المقامة وجنة المأوى والنعيم
والمقام الأمين وعدن ومقعد صدق والحسنى، وكلها في القرآن. وقال تعالى: {وَإِنَّ
الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} فعد بعضهم في أسماء الجنة دار الحيوان
وفيه نظر. قوله: "عن أبي رجاء" هو العطاردي وعمران هو ابن حصين، والسند
كله بصريون، وقد تقدم الحديث بهذا السند في آخر "باب كفران العشير" وفي
أواخر كتاب النكاح وتقدم في "باب فضل الفقر" بيان الاختلاف على أيوب عن
أبي رجاء في صحابيه، وتقدم بحث ابن بطال فيما يتعلق به من فضل الفقر، وقوله اطلعت
بتشديد الطاء أي أشرفت، وفي حديث أسامة بن زيد الذي بعده "قمت على باب
الجنة" وظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء أو مناما، وهو غير رؤيته النار وهو
في صلاة الكسوف، ووهم من وحدهما. وقال الداودي: رأى ذلك ليلة الإسراء أو حين خسفت
الشمس، كذا قال. قوله: "فرأيت أكثر أهلها الفقراء" في حديث أسامة "فإذا
(11/419)
عامة من دخلها المساكين" وكل منهما يطلق على الآخر وقوله: "فإذا أكثر" في حديث أسامة "فإذا عامة من دخلها". قوله: "بكفرهن" أي بسبب كفرهن تقدم شرحه مستوفى في "باب كفران العشير" قال القرطبي إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى، والميل إلى عاجل زينة الدنيا، والإعراض عن الآخرة لنقص عقلهن وسرعة انخداعهن. قوله: "إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وأبو عثمان هو النهدي، وأسامة هو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي. قوله: "أصحاب الجد" بفتح الجيم أي الغنى. قوله: "محبوسون" أي ممنوعون من دخول الجنة مع الفقراء من أجل المحاسبة على المال، وكأن ذلك عند القنطرة التي يتقاصون فيها بعد الجواز على الصراط. "تنبيه": سقط هذا الحديث والذي قبله من كثير من النسخ ومن مستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم، ولا ذكر المزي في "الأطراف" طريق عثمان بن الهيثم ولا طريق مسدد في كتاب الرقاق وهما ثابتان في رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك وعمر بن محمد بن زيد أي ابن عبد الله بن عمر، قوله: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار" في رواية ابن وهب عن عمران بن محمد عند مسلم: "وصار أهل النار إلى النار". قوله: "جيء بالموت" تقدم في تفسير سورة مريم من حديث أبي سعيد "يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح" وذكر مقاتل والكلبي في تفسيرهما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قال: خلق الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى. قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له كما فدى ولد إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار لأن الأملح ما فيه بياض وسواد. قوله: "حتى يجعل بين الجنة والنار" وقع للترمذي من حديث أبي هريرة "فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار". قوله: "ثم يذبح" لم يسم من ذبحه، ونقل القرطبي عن بعض الصوفية أن الذي يذبحه يحيى بن زكريا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى دوام الحياة، وعن بعض التصانيف أنه جبريل. قلت: هو في تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في آخر حديث الصور الطويل فقال فيه: "فيحيى الله تعالى ملك الموت وجبريل وميكائيل وإسرافيل ويجعل الموت في صورة كبش أملح فيذبح جبريل الكبش وهو الموت". قوله: "ثم ينادي مناد" لم أقف على تسميته، وتقدم في الباب الذي قبله من وجه آخر عن ابن عمر بلفظ: "ثم يقوم مؤذن بينهم" وفي حديث أبي سعيد بعد قوله أملح "فينادي مناد" وظاهره أن الذبح يقع بعد النداء، والذي هنا يقتضي أن النداء بعد الذبح، ولا منافاة بينهما فإن النداء الذي قبل الذبح للتنبيه على رؤية الكبش والذي بعد الذبح للتنبيه على إعدامه وأنه لا يعود. قوله: "يا أهل الجنة لا موت" زاد في الباب الماضي "خلود" وقع في حديث أبي سعيد "فينادي مناد يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرقون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد رآه وعرفه" وذكر في أهل النار مثله، قال: "فيذبح ثم يقول - أي المنادي - يا أهل الجنة خلود فلا موت" الحديث، وفي آخره: "ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} إلى آخر الآية "وعند الترمذي في آخر حديث أبي سعيد" فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار" وقوله: "فيشرئبون" بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الراء بعدها تحتانية مهموزة ثم موحدة ثقيلة أي يمدون أعناقهم ويرفعون رءوسهم للنظر. ووقع عند ابن ماجه وفي صحيح ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة "فيوقف على الصراط فيقال
(11/420)
يا أهل الجنة فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، ثم يقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه" وفي آخره: "ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا" وفي رواية الترمذي "فيقال لأهل الجنة وأهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا، فيضجع فيذبح ذبحا على السور" قال القاضي أبو بكر بن العربي: استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل لأن الموت عرض والعرض لا ينقلب جسما فكيف يذبح؟ فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث ودفعته، وتأولته طائفة فقالوا: هذا تمثيل ولا ذبح هناك حقيقة. وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته والمذبوح متولي الموت وكلهم يعرفه لأنه الذي تولى قبض أرواحهم. قلت: وارتضى هذا بعض المتأخرين وحمل قوله: "هو الموت الذي وكل بنا" على أن المراد به ملك الموت لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا كما قال تعالى في سورة ألم السجدة واستشهد له من حيث المعنى بأن ملك الموت لو استمر حيا لنغص عيش أهل الجنة. وأيده بقوله في حديث الباب: "فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم" وتعقب بأن الجنة لا حزن فيها البتة، وما وقع في رواية ابن حبان أنهم يطلعون خائفين إنما هو توهم لا يستقر، ولا يلزم من زيادة الفرح ثبوت الحزن، بل التعبير بالزيادة إشارة إلى أن الفرح لم يزل، كما أن أهل النار يزداد حزنهم ولم يكن عندهم فرح إلا مجرد التوهم الذي لم يستقر، وقد تقدم في "باب نفخ الصور" عند نقل الخلاف في المراد بالمستثنى في قوله تعالى: {صَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قول من زعم أن ملك الموت منهم. ووقع عند علي بن معبد من حديث أنس "ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب بقيت أنت الحي القيوم الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول أنت خلق من خلقي فمت ثم لا تحيا، فيموت" وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق محمد بن كعب القرظي قال: بلغني أن آخر من يموت من الخلائق ملك الموت، فيقال له: يا ملك الموت مت موتا لا تحيا بعده أبدا. فهذا لو كان ثابتا لكان حجة في الرد على من زعم أنه الذي يذبح لكونه مات قبل ذلك موتا لا حياة بعده، لكنه لم يثبت. وقال المازري: الموت عندنا عرض من الأعراض، وعند المعتزلة ليس بمعنى، وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشا ولا جسما، وأن المراد بهذا التمثيل والتشبيه. ثم قال: وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الجنة. وقال القرطبي في التذكرة: الموت معنى والمعاني لا تنقلب جوهرا، وإنما يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال، وكذا الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت ويلقى في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين. وقال غيره: لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها كما ثبت في صحيح مسلم في حديث: "إن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان" ونحو ذلك من الأحاديث. قال القرطبي: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قال فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السنة. قلت: جمع بعض المتأخرين هذه المسألة سبعة أقوال: أحدها هذا الذي نقل فيه الإجماع، والثاني يعذبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم فتصير نارية حتى يتلذذوا بها لموافقة طبعهم وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة، والثالث يدخلها قوم ويخلفهم
(11/421)
آخرون كما ثبت في الصحيح عن اليهود وقد أكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} والرابع يخرجون منها وتستمر هي على حالها، الخامس تفنى لأنها حادثة وكل حادث يفنى وهو قول الجهمية، والسادس تفنى حركاتهم البتة وهو قول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة، والسابع يزول عذابها ويخرج أهلها منها جاء ذلك عن بعض الصحابة أخرجه عبد بن حميد في تفسيره من رواية الحسن عن عمر قوله وهو منقطع ولفظه: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" وعن ابن مسعود "ليأتين عليها زمان ليس فيها أحد" قال عبيد الله بن معاذ راويه: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين. قلت: وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عن زيد بن أسلم" كذا في جميع الروايات عن مالك بالعنعنة. قوله:" إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة" في رواية الحبيبي عن مالك عن الإسماعيلي: "يطلع الله على أهل الجنة فيقول". قوله: "فيقولون" في رواية أبي ذر عن المستملى "يقولون" بحذف الفاء. قوله: "وسعديك" زاد سعيد بن داود وعبد العزيز بن يحيى كلاهما عن مالك عند الدار قطني في الغرائب "والخير في يديك". قوله: "فيقول هل رضيتم" في حديث جابر عند البزار وصححه ابن حبان:" هل تشتهون شيئا". قوله: "وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا" في حديث جابر "وهل شيء أفضل مما أعطيتنا". قوله: "أنا أعطيكم أفضل من ذلك" في رواية ابن وهب عن مالك كما سيأتي في التوحيد "ألا أعطيكم". قوله: "أحل" بضم أوله وكسر المهملة أي أنزل. قوله: "رضواني" بكسر أوله وضمه، وفي حديث جابر قال: "رضواني أكبر" وفيه تلميح بقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، وكل من علم أن سيده راض عنه كان أقر لعينه وأطيب لقلبه من كل نعيم لما في ذلك من التعظيم والتكريم. وفي هذا الحديث أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه. "تنبيهان": "الأول" حديث أبي سعيد هذا كأنه مختصر من الحديث الطويل الماضي في تفسير سورة النساء من طريق حفص بن ميسرة والآتي في التوحيد من طريق سعيد بن أبي هلال كلاهما عن زيد بن أسلم بهذا السند في صفة الجواز على الصراط، وفيه قصة الذين يخرجون من النار، وفي آخره أنه يقال لهم نحو هذا الكلام، لكن إذا ثبت أن ذلك يقال لهؤلاء لكونهم من أهل الجنة فهو للسابقين بطريق الأولى. "الثاني" هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم وأحمد من حديث صهيب رفعه: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه" الحديث، وفيه: "فيكشف الحجاب فينظرون إليه" وفيه: "فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وله شاهد عند ابن المبارك في الزهد من حديث أبي موسى من قوله، وأخرجه ابن أبي حاتم من حديثه مرفوعا باختصار. قوله: "عبد الله بن محمد" هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي يعرف بابن الكرماني وهو من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه بغير واسطة كما في كتاب الجمعة وبواسطة كالذي هنا، وقد تقدم بسنده ومتنه في "باب فضل من شهد بدرا" من كتاب المغازي. قوله: "أصيب حارثة" بمهملة ومثلثة هو ابن سراقة بن الحارث الأنصاري له ولأبويه صحبة، وأمه هي الربيع بالتشديد بنت النضر عمة أنس، وقد ذكرت الاختلاف في اسمها في "باب من أتاه سهم غرب "من كتاب الجهاد، وذكرت شرح
(11/422)
الحديث في غزوة بدر، وقولها هنا "وإن تكن الأخرى تر ما أصنع" كذا للكشميهني بالجزم جواب الشرط، ولغيره: "ترى" بالإشباع أو بحذف شيء بتقديره سوف كما في الرواية الآتية في آخر هذا الباب: "وإلا سوف ترى" والمعنى وإن لم يكن في الجنة صنعت شيئا من صنيع أهل الحزن مشهورا يراه كل أحد. قوله: "وإنه لفي جنة الفردوس" كذا للأكثر وحذف الكشميهني في روايته اللام، ووقع في الرواية الآتية "الفردوس الأعلى" قال أبو إسحاق الزجاج: الفردوس من الأودية ما ينبت ضروبا من النبات. وقال ابن الأنباري وغيره: بستان فيه كروم وثمرة وغيرها ويذكر ويؤنث. وقال الفراء: هو عربي مشتق من الفردسة وهي السعة، وقيل رومي نقلته العرب. وقال غيره سرياني، والمراد به هنا مكان من الجنة من أفضلها. قوله: "الفضل بن موسى" هو السيناني بكسر المهملة وسكون التحتانية ونونين المروزي. قوله: "أخبرنا الفضيل" بالتصغير كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه ابن السكن في روايته فقال الفضيل بن غزوان وهو المعتمد، ونسبه أبو الحسن القابسي في روايته عن أبي زيد المروزي فقال: الفضيل بن عياض، ورده أبو علي الجياني فقال: لا رواية للفضيل بن عياض في البخاري إلا في موضعين من كتاب التوحيد. ولا رواية له عن أبي حازم راوي هذا الحديث ولا أدركه، وهو كما قال. وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية محمد بن فضيل بن غزوان عن أبيه بسنده ولكن لم يرفعه، وهو عند الإسماعيلي من هذا الوجه وقال رفعه، وهو يؤيد مقالة أبي على الجياني. قوله: "منكبي الكافر" كسر الكاف تثنية منكب وهو مجتمع العضد والكتف. قوله: "مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" في رواية يوسف بن عيسى عن الفضل بن موسى بسند البخاري فيه: "خمسة أيام" أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عنه، وفي حديث ابن عمر عند أحمد من رواية مجاهد عنه مرفوعا: "يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" وللبيهقي في البعث من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس "مسيرة سبعين خريفا" ولابن المبارك في الزهد عن أبي هريرة قال: "ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد، يعظمون لتمتلئ منهم وليذوقوا العذاب" وسنده صحيح، ولم يصرح برفعه لكن له حكم الرفع لأنه لا مجال للرأي فيه، وقد أخرج أوله مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وزاد: "وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام" وأخرجه البزار من وجه ثالث عن أبي هريرة بسند صحيح بلفظ: "غلظ جلد الكافر وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار" وأخرجه البيهقي وقال: "أراد بذلك التهويل يعني بلفظ الجبار، قال: ويحتمل أن يريد جبارا من الجبابرة إشارة إلى عزم الذراع" وجزم ابن حبان لما أخرجه في صحيحه بأن الجبار ملك كان باليمين وفي مرسل عبيد بن عمير عند ابن المبارك في الزهد بسند صحيح "وكثافة جلده سبعون ذراعا" وهذا يؤيد الاحتمال الأول لأن السبعين تطلق للمبالغة. وللبيهقي من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة "وفخذه مثل ورقان ومقعده مثل ما بين المدينة والربذة" وأخرجه الترمذي ولفظه: "بين مكة والمدينة" وورقان بفتح الواو وسكون الراء بعدها قاف جبل معروف بالحجاز، والربذة تقدم ضبطها قريبا في حديث أبي ذر وكأن اختلاف هذه المقادير محمول على اختلاف تعذيب الكفار في النار وقال القرطبي في "المفهم": إنما عظم خلقا الكافر في النار ليعظم عذابه ويضاعف ألمه ثم قال وهذا إنما هو في حق البعض بدليل الحديث الآخر "إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس" قال ولا شك في أن الكفار متفاوتون في العذاب كما علم من الكتاب والسنة
(11/423)
ولأنا نعلم على القطع أن عذاب من قتل الأنبياء وفتك في المسلمين وأفسد في الأرض ليس مساويا لعذاب من كفر فقط وأحسن معاملة المسلمين مثلا قلت: أما الحديث المذكور فأخرجه الترمذي والنسائي بسند جيد عن عمرو بن شعيب على أبيه عن جده، ولا حجة فيه لمدعاه لأن ذلك إنما هو في أول الأمر عند الحشر، وأما الأحاديث الأخرى فمحمولة على ما بعد الاستقرار في النار وأما ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رفعه: "إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس" فسنده ضعيف وأما تفاوت الكفار في العذاب فلا شك فيه ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وتقدم قريبا الحديث في أهون أهل النار عذابا. قوله: "وقال إسحاق بن إبراهيم" هو المعروف بابن راهويه كذا في جميع النسخ وأطلق المزي تبعا لأبي مسعود أن البخاري ومسلما أخرجاه جميعا عن إسحاق بن راهويه مع أن لفظ مسلم: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي" وهو ابن راهويه وليس من رأي المزي التسوية بين "حدثنا" و "قال:" بل ولا "قال لي وقال لنا" بل يعلم على مثل ذلك كله علامة التعليق بخلاف "حدثنا". قوله: "أنبأنا المغيرة بن سلمة" في رواية مسلم: "أنبأنا المخزومي" قلت: وهو المغيرة المذكور وكنيته أبو هشام وهو مشهور بكنيته وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وقال: حدثنا أبو هشام المغيرة بن سلمة المخزومي. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمة بن دينار، بخلاف المذكور في الحديث الذي قبله فهو سلمان الأشجعي وهما مدنيان تابعيان ثقتان لكن سلمة أصغر من سلمان. قوله: "لا يقطعها" أي لا ينتهي إلى آخر ما يميل من أغصانها. قوله: "قال أبو حازم" هو موصول بالسند المذكور، والنعمان بن أبي عياش بتحتانية ثم معجمة هو الزرقي، ووقع منسوبا في رواية مسلم، وهو أيضا مدني تابعي ثقة يكنى أبا سلمة وهو أكبر من الراوي عنه. قوله: "أخبرني أبو سعيد" في رواية مسلم: "حدثني". قوله: "الجواد" بفتح الجيم وتخفيف الواو هو الفرس، يقال حاد الفرس إذا صار فائقا والجمع جياد وأجواد، وسيجيء في صفة المرور على الصراط "أجاويد الخيل وهو جمع الجمع". قوله: "أو المضمر" بفتح الضاد المعجمة وتشديد الميم تقدم تفسد في كتاب الجهاد، وقوله: "السريع" أي في جريه، وقع في رواية ابن وهب من وجه آخر عند الإسماعيلي: "الجواد السريع" ولم يشك وفي رواية مسلم: "الجواد المضمر السريع" بحذف أو، والجواد في روايتنا بالرفع وكذا ما بعده على أن الثلاثة ضفة للراكب، وضبط في صحيح مسلم بنصب الثلاثة على المفعولية، وقد تقدم هذا المتن في بدء الخلق من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس بلفظ: "يسير الراكب" وزاد في آخر حديث أبي هريرة "واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} " والمراد بالظل الراحة والنعيم والجهة يقال عز ظليل وأنا في ظلك أي كنفك. وقال الراغب: الظل أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ولكل موضع لا تصل إليه الشمس، ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس، قال ويعبر بالظل عن العز والمنعة والرفاهية والحراسة، ويقال عن غضارة العيش ظل ظليل. قلت: وقع التعبير في هذا الحديث بلفظ: "الفيء" في حديث أسماء بنت يزيد عند الترمذي ولفظها "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر سدرة المنتهى: يسير الراكب في ظل الفيء منها مائة سنة أو يستظل بظلها الراكب مائة سنة" ويستفاد منه تعيين الشجرة المذكورة في حديث الباب. وأخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه: "شجرة طوبي مائة سنة" وفي حديث عقبة بن عبد السلمي في عظم أصل شجرة طوبي "لو ارتحلت جذعة ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما" أخرجه ابن حبان في صحيحه، والترقوة بفتح المثناة
(11/424)
وسكون الراء بعدها قاف مضمومة وواو مفتوحة هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق والجمع تراق، ولكل شخص ترقوتان، وقد تقدم بعض هذا في صفة الجنة من بدء الخلق. قوله: "عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وعبد العزيز هو ابن أبي حازم المذكور قبل، وسهل هو ابن سعد. قوله: "عبد العزيز" هو ابن أبي حازم. وقوله عن أبي حازم هو أبوه واسمه سلمة بن دينار المذكور قبل، ووقع في رواية أني نعيم في المستخرج من طريق محمد بن أبي يعقوب "حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه" وتقدم شرح المتن مستوفى في الباب الذي قبله. قوله: "الغرف" بضم المعجمة وفتح الراء جمع غرفة بضم أوله وبفتحه، جاء في صفتها من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها" أخرجه الترمذي وابن حبان، وللطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر نحوه، وتقدم في صفة الجنة من بدء الخلق الإشارة إلى مثله من حديث علي، وعند البيهقي نحوه من حديث جابر وزاد: "من أصناف الجوهر كله". قوله: "الكوكب" زاد في رواية الإسماعيلي: "الدري". قوله: "قال أبي" القائل هو عبد العزيز. قوله: "أشهد لسمعت" اللام جواب قسم محذوف، وأبو سعيد هو الخدري. قوله: "يحدث" في رواية الكشميهني: "يحدثه" أي يحدث الحديث، يقال حدثت كذا وحدثت بكذا. قوله: "الغارب" في رواية الكشميهني الغابر بتقديم الموحدة على الراء، وضبطه بعضهم بتحتانية مهموزة قبل الراء قال الطيبي شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء النائي في جانب المشرق والمغرب في الاستضاءة مع البعد، ومن رواه الغائر من الغور لم يصح لأن الإشراق يفوت إلا إن قدر المشرف على الغور، والمعنى إذا كان طالعا في الأفق من المشرق وغائرا في المغرب. وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة وشدة البعد، وقد تقدم حديث الباب بأتم من هذا السياق في بدء الخلق من حديث أبي سعيد، وتقدم شرحه هناك. ووقع في رواية أيوب بن سويد عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد فيه شيء مدرج بينته هناك، وحكم الدار قطني عليه بالوهم، وأما ابن حبان فاغتر بثقة أيوب عنده فأخرجه في صحيحه، وهو معلول بما نبه عليه الدار قطني واستدل به على تفاوت درجات أهل الجنة. وقد قسموا في سورة الواقعة إلى السابقين وأصحاب اليمين: فالقسم الأول هم من ذكر في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية، ومن عداهم أصحاب اليمين، وكل من الصنفين متفاوتون في الدرجات، وفيه تعقب على من خص المقربين بالأنبياء والشهداء لقوله في آخر الحديث: "رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين". حديث أنس "يقال لأهل النار" الحديث الماضي في "باب من نوقش الحساب" وقد تقدم مشروحا. قوله: "أبو النعمان" هو محمد بن الفضل، وحماد هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، وجابر هو ابن عبد الله الأنصاري. قوله: "يخرج من النار بالشفاعة" كذا للأكثر من رواية البخاري بحذف الفاعل، وثبت في رواية أبي ذر عن السرخسي عن الفربري "يخرج قوم" وكذا للبيهقي في البعث من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، وكذا لمسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد ولفظه: "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة" وله من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر مثله لكن قال: "ناس من النار فيدخلهم الجنة" وعند سعيد بن منصور وابن أبي عمر عن سفيان عن عمرو فيه سند آخر أخرجاه من رواية عمرو عن عبيد بن عمير فذكره مرسلا وزاد: "فقال له رجل - يعني لعبيد بن عمير - وكان الرجل يتهم برأي الخوارج ويقال له هارون أبو موسى: يا أبا عاصم ما هذا الذي تحدثه به؟ فقال:
(11/425)
إليك عني، لو لم أسمعه من ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم أحدث به": قلت: وقد جاء بيان هذه القصة من وجه آخر أخرجه مسلم من طريق يزيد الفقير بفاء ثم قاف وزن عظيم ولقب بذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره لا أنه ضد الغنى قال: "خرجنا في عصابة نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، فمررنا بالمدينة فإذا رجل يحدث وإذا هو قد ذكر الجهنميين. فقلت له: ما هذا الذي تحدثون به، والله يقول {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قال. أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: أسمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله؟ قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار بعد أن يكونوا فيها. ثم نعت وضع الصراط ومد الناس عليه، قال: فرجعنا وقلنا: أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما خرج منا غير رجل واحد" وحاصله أن الخوارج الطائفة المشهورة المبتدعة كانوا ينكرون الشفاعة، وكان الصحابة ينكرون إنكارهم ويحدثون بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأخرج البيهقي في البعث من طريق شبيب بن أبي فضالة: ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل: إنكم لتحدثوننا بأحاديث لا نجد لها في القرآن أصلا، فغضب وذكر له ما معناه: أن الحديث يفسر القرآن. وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس قال: من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها. وأخرج البيهقي في البعث من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس: خطب عمر فقال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار. ومن طريق أبي هلال عن قتادة قال قال أنس: يخرج قوم من النار، ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء. يعني الخوارج. قال ابن بطال: أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. وغير ذلك من الآيات. وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ودل عليها قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} والجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع، ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيفه. وقال الطبري: قال أكثر أهل التأويل المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم أخرج عدة أحاديث بعضها التصريح بذلك وفي بعضها مطلق الشفاعة، فمنها حديث سلمان قال: "فيشفعه الله في أمته فهو المقام المحمود" ومن طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس "المقام المحمود الشفاعة" ومن طريق داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال: "سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هي الشفاعة" ومن حديث كعب بن مالك رفعه: "أكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول: فذلك المقام المحمود" ومن طريق يزيد بن زريع قتادة "ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أول شافع، وكان أهل العلم يقولون إنه المقام المحمود" ومن حديث أبي مسعود رفعه:" إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود إذا جيء بكم حفاة عراة" وفيه: "ثم يكسوني ربي حلة فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد يغبطني به الأولون والآخرون" ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: المقام المحمود الشفاعة. ومن طريق الحسن البصري مثله، قال الطبري: وقال ليث عن مجاهد في قوله تعالى: {مَقَاماً مَحْمُوداً} يجلسه معه على عرشه. ثم أسنده وقال: الأول أولى، على أن الثاني ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به. وبالغ الواحدي
(11/426)
في رد هذا القول، وأما النقاش فنقل عن أبي داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا فهو متهم. وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وعن عبد الله بن سلام قال: إن محمدا يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب أخرجه الطبري. قلت: فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك على ما جاء عن مجاهد وغيره، والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان: الأول العامة في فصل القضاء، والثاني الشفاعة في إخراج المذنبين من النار وحديث سلمان الذي ذكره الطبري أخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي، وحديث كعب أخرجه ابن حبان والحاكم وأصله في مسلم، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وجاء فيه أيضا عن أنس سيأتي في التوحيد، وعن ابن عمر كما مضى في الزكاة عن جابر عند الحاكم من رواية الزهري عن علي بن الحسين عنه، واختلف فيه على الزهري، فالمشهور عنه أنه مرسل علي بن الحسين، كذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر. وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي عن رجال من أهل العلم أخرجه ابن أبي حاتم، وحديث جابر في ذلك عند مسلم من وجه آخر عنه، وفيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ابن مردويه؛ وعنده أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص ولفظه: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة" وعن أبي سعيد عند الترمذي وابن ماجه. وقال الماوردي في تفسيره: اختلف في المقام المحمود على ثلاثة أقوال، فذكر القولين: الشفاعة والإجلاس، والثالث إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قال القرطبي: هذا لا يغاير القول الأول، وأثبت غيره رابعا وهو ما أخرجه بن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع. قلت: وخامسا هو ما اقتضاه حديث حذيفة وهو ثناؤه على ربه، وسيأتي سياقه في شرح الحديث السابع عشر، ولكنه لا يغاير الأول أيضا. وحكى القرطبي سادسا وهو ما اقتضاه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد والنسائي والحاكم قال: "يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه" الحديث، وهذا الحديث لم يصرح برفعه، وقد ضعفه البخاري وقال: المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع". قلت: وعلى تقدير ثبوته فليس في شيء من طرقه التصريح بأنه المقام لمحمود، مع أنه لا يغاير حديث الشفاعة في المذنبين، وجوز المحب الطبري سابعا وهو ما اقتضاه حديث كعب بن مالك الماضي ذكره فقال بعد أن أورده: هذا يشعر بأن المقام المحمود غير الشفاعة، ثم قال: ويجوز أن تكون الإشارة بقوله: "فأقول" إلى المراجعة في الشفاعة. قلت: وهذا هو الذي يتجه، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه وكلامه بين يديه وجلوسه على كرسيه وقيامه أقرب من جبريل كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق، وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، واختلف في فاعل الحمد من قوله: "مقاما محمودا" فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل النبي صلى الله عليه وسلم أي أنه هو يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأول أرجح لما ثبت من حديث ابن عمر الماضي في الزكاة بلفظ: "مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك أي مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب المد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان وأيده بأنه نكرة فدل على أنه ليس المراد مقاما
(11/427)
مخصوصا، قال ابن بطال: سلم بعض المعتزلة وقوع الشفاعة لكن خصها بصاحب الكبيرة الذي تاب منها ويصاحب الصغيرة الذي مات مصرا عليها، وتعقب بأن من قاعدتهم أن التائب من الذنب لا يعذب، وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، فيلزم قائله أن يخالف أصله. وأجيب بأنه لا مغايرة بين القولين، إذ لا مانع من أن حصول ذلك للفريقين إنما حصل بالشفاعة، لكن يحتاج من قصرها على ذلك إلى دليل التخصيص، وقد تقدم في أول الدعوات الإشارة إلى حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" ولم يخص بذلك من تاب. وقال عياض: أثبتت المعتزلة الشفاعة العامة في الإراحة من كرب الموقف وهي الخاصة بنبينا والشفاعة في رفع الدرجات وأنكرت ما عداهما. قلت: وفي تسليم المعتزلة الثانية نظر. قال النووي تبعا لعياض: الشفاعة خمس في الإراحة من هول الموقف وفي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا، وفي إخراج من أدخل النار من العصاة. وفي رفع الدرجات. ودليل الأولى سيأتي التنبيه عليه في شرح الحديث السابع عشر. ودليل الثانية قوله تعالى في جواب قوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي" : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم" كذا قيل، ويظهر لي أن دليله سؤاله صلى الله عليه وسلم الزيادة على السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فأجيب، وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في الباب الذي قبله. ودليل الثالثة قوله في حديث حذيفة عند مسلم: "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم" وله شواهد سأذكرها في شرح الحديث السابع عشر. ودليل الرابعة ذكرته فيه أيضا مبسوطا. ودليل الخامسة قوله في حديث أنس عند مسلم: "أنا أول شفيع في الجنة" كذا قاله بعض من لقيناه وقال: وجه الدلالة منه أنه جعل الجنة ظرفا لشفاعته. قلت: وفيه نظر، لأني سأبين أنها ظرف في شفاعته الأولى المختصة به، والذي يطلب هنا أن يشفع لمن لم يبلغ عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته. وأشار النووي في "الروضة" إلى أن هذه الشفاعة من خصائصه مع أنه لم يذكر مستندها، وأشار عياض إلى استدراك شفاعة سادسة وهي التخفيف عن أبي طالب في العذاب كما سيأتي بيانه في شرح الحديث الرابع عشر، وزاد بعضهم شفاعة سابعة وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد رفعه: "لا يثبت على ولأوائها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا" أخرجه مسلم، ولحديث أبي هريرة رفعه: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها" أخرجه الترمذي قلت: وهذه غير واردة لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأول، ولو عد مثل ذلك لعد حديث عبد الملك بن عباد "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أول من أشفع له أهل المدينة ثم أهل مكة ثم أهل الطائف" أخرجه البزار والطبراني. وأخرج الطبراني من حديث ابن عمر رفعه: "أول من أشفع له أهل بيتي ثم الأقرب فالأقرب ثم سائر العرب ثم الأعاجم" وذكر القزويني في العروة الوثقى شفاعته لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم ولم يذكر مستندها، ويظهر لي أنها تندرج في الخامسة، وزاد القرطبي أنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، وهذه أفردها النقاش بالذكر وهي واردة ودليلها يأتي في حديث الشفاعة الطويل، وزاد النقاش أيضا شفاعته في أهل الكبائر من أمته وليست واردة لأنها تدخل في الثالثة أو الرابعة، وظهر لي بالتتبع شفاعة أخرى وهي الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، ومستندها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم قريبا أن أرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وشفاعة أخرى وهي شفاعته
(11/428)
فيمن قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا قط، ومستندها رواية الحسن عن أنس كما سيأتي بيانه في شرح الباب الذي يليه، ولا يمنع من عدها قول الله تعالى له "ليس ذلك إليك" لأن النفي يتعلق بمباشرة الإخراج، وإلا فنفس الشفاعة منه قد صدرت وقبولها قد وقع وترتب عليها أثرها، فالوارد على الخمسة أربعة وما عداها لا يرد كما ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين وغير ذلك لكونه من جملة أحوال الدنيا. قوله: "كأنهم الثعارير" بمثلثة مفتوحة ثم مهملة واحدها ثعرور كعصفور. قوله: "قلت وما الثعارير" سقطت الواو لغير الكشميهني. قوله: "قال الضغابيس" بمعجمتين ثم موحدة بعدها مهملة. أما الثعارير فقال ابن الأعرابي: هي قثاء صغار. وقال أبو عبيدة مثله وزاد ويقال بالشين المعجمة بدل المثلثة، وكأن هذا هو السبب في قول الراوي: وكان عمرو ذهب فمه -أي سقطت أسنانه- فنطق بها ثاء مثلثة وهي شين معجمة. وقيل هو نبت في أصول الثمام كالقطن ينبت في الرمل ينبسط عليه ولا يطول. ووقع تشبيههم بالطراثيث في حديث حذيفة، وهي بالمهملة ثم المثلثة هي الثمام بضم المثلثة وتخفيف الميم، وقيل الثعرور الأقط الرطب. وأغرب القابسي فقال: هو الصدف الذي يخرج من البحر فيه الجوهر. وكأنه أخذه من قوله في الرواية الأخرى "كأنهم اللؤلؤ" ولا حجة فيه لأن ألفاظ التشبيه تختلف، والمقصود الوصف بالبياض والدقة. وأما الضغابيس فقال الأصمعي: شيء ينبت في أصول التمام يشبه الهليون يسلق ثم يؤكل بالزيت والخل. وقيل ينبت في أصول الشجر وفي الأذحر يخرج قدر شبر في دقة الأصابع لا ورق له وفيه حموضة. وفي غريب الحديث للحربي: الضغبوس شجرة على طول الإصبع، وشبه به الرجل الضعيف. وأغرب الداودي فقال: هي طيور صغار فوق الذباب. ولا مستند له فيما قال: "تنبيه": هذا التشبيه لصفتهم بعد أن ينبتوا، وأما في أول خروجهم من النار فإنهم يكونون كالفحم كما سيأتي في الحديث الذي بعده. ووقع في حديث يزيد الفقير عن جابر عند مسلم: "فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، فيدخلون نهرا فيغتسلون فيخرجون كأنهم القراطيس البيض" والمراد بعيدان السماسم ما ينبت فيه السمسم، فإنه إذا جمع ورميت العيدان تصير سودا دقاقا. وزعم بعضهم أن اللفظة محرفة وأن الصواب الساسم بميم واحدة، وهو خشب أسود والثابت في جميع طرق الحديث بإثبات الميمين وتوجيه واضح. قوله: "فقلت لعمرو" القائل حماد. قوله: "أبا محمد" بحذف أداة النداء وثبت بلفظ: "يا أبا محمد" في رواية الكشميهني وعمرو هو ابن دينار، وأراد الاستثبات في سماعه له من جابر وسماع جابر له، ولعل سبب ذلك رواية عمرو له عن عبيد بن عمير مرسلا، وقد حدث سفيان بن عيينة بالطريقين كما نبهت عليه. قوله: "عن أنس" سيأتي في التوحيد نحو هذا في الحديث الطويل في الشفاعة بلفظ: "حدثنا أنس" وقوله: "سفع" بفتح المهملة وسكون الفاء ثم عين مهملة أي سواد فيه زرقة أو صفرة، يقال سفعته النار إذا لفحته فغيرت لون بشرته وقد وقع حديث أبي سعيد في الباب الذي يليه بلفظ: "قد امتحشوا" ويأتي ضبطه، وفي حديثه عند مسلم: "إنهم يصيرون فحما" وفي حديث جابر "حمما" ومعانيها متقاربة. قوله: "فيسميهم أهل الجنة الجهنميين" سيأتي في الثامن عشر من هذا الباب من حديث عمران بن حصين بلفظ: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين"، وثبتت هذه الزيادة في رواية حميد عن أنس عند المصنف في التوحيد، وزاد جابر في حديثه "فيكتب في رقابهم: عتقاء الله، فيسمون فيها الجهنميين" أخرجه ابن حبان والبيهقي وأصله في مسلم. والنسائي من رواية عمرو بن عمرو عن أنس "فيقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون، فيقول الله هؤلاء
(11/429)
عتقاء الله" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد وزاد: "فيدعون الله فيذهب عنهم هذا الاسم" وفي حديث حذيفة عند البيهقي في "البعث" من رواية حماد بن أبي سليمان عن ربعي عنه "قال لهم الجهنميون، فذكر لي أنهم استعفوا الله من ذلك الاسم فأعفاهم. وزعم بعض الشراح أن هذه التسمية ليست تنقيصا لهم بل للاستذكار لنعمة الله ليزدادوا بذلك شكرا، كذا قال، وسؤالهم إذهاب ذلك الاسم عنهم يخدش في ذلك. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل، ووهيب هو ابن خالد، وعمرو هو ابن يحيى المازني، وأبوه يحيى هو ابن عمارة بن أبي حسن المازني. قوله: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه" هكذا روى يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري آخر الحديث ولم يذكر أوله، ورواه عطاء ابن يسار عن أبي سعيد مطولا وأوله الرؤية وكشف الساق والعرض ونصب الصراط والمرور عليه وسقوط من يسقط وشفاعة المؤمنين في إخوانهم وقول الله أخرجوا من عرفتم صورته، وفيه من في قلبه مثقال دينار وغير ذلك، وفيه قول الله تعالى شفعت الملائكة والنبيون والمؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد صاروا حمما، وقد ساق المصنف أكثر في تفسير سورة النساء، وساقه بتمامه في كتاب التوحيد، وسأذكر فوائده في شرح حدث الباب الذي يلي هذا مع الإشارة إلى ما تضمنته هذه الطريق إن شاء الله تعالى. وتقدمت لهذه الرواية طريق أخرى في كتاب الإيمان في "باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال" وتقدم ما يتعلق بذلك هناك. واستدل الغزالي بقوله: "من كان في قلبه" على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت. وقال في حق من قدر على ذلك فأخر فمات: يحتمل أن كون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة فيكون غير مخلد في النار، ويحتمل غير ذلك. ورجح غيره الثاني فيحتاج إلى تأويل قوله: "في قلبه" فيقدر فيه محذوف تقديره منضما إلى النطق به مع القدرة عليه. حديث النعمان بن بشير أورده من وجهين أحدهما أعلى من الآخر، لكن في العالي عنعنة أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وفي النازل تصريحه بالسماع فانجبر ما فاته من العلو الحسي بالعلو المعنوي، وإسرائيل في الطريق هو ابن يونس بن أبي إسحاق المذكور، والنعمان هو ابن بشير بن سعد الأنصاري، ووقع مصرحا به في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار جميعا عن غندر، ووقع في رواية يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق "سمعت النعمان بن بشير الأنصاري يقول" فذكر الحديث. قوله: "أهون أهل النار عذابا" قال ابن التين يحتمل أن يراد به أبو طالب. قلت: وقد بينت في قصة أبي طالب من المبعث النبوي أنه وقع في حديث ابن عباس عند مسلم التصريح بذلك ولفظه: "أهون أهل النار عذابا أبو طالب". قوله: "أخمص" بخاء معجمة وصاد مهملة وزن أحمر: ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي. قوله: "جمرة" في رواية مسلم: "جمرتان" وكذا في رواية إسرائيل "على أخمص قدمه جمرتان" قال ابن التين: يحتمل أن يكون الاقتصار على الجمرة للدلالة على الأخرى لعلم السامع بأن لكل أحد قدمين، ووقع في رواية الأعمش عن أبي إسحاق عند مسلم بلفظ: "من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه" وفي حديث أبي سعيد عنده نحوه وقال: "يغلي دماغه من حرارة نعله". قوله: "منها دماغه" في رواية إسرائيل "منهما" بالتثنية، وكذا في حديث ابن عباس. قوله: "كما يغلي المرجل بالقمقم" زاد في رواية الأعمش "لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه وأنه لأهونهم عذابا" والمرجل بكسر الميم ويسكون الراء وفتح
(11/430)
الجيم بعدها لام قدر من نحاس، ويقال أيضا لكل إناء يغلي فيه الماء من أي صنف كان، والقمقم معروف من آنية العطار، ويقال هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره فارسي ويقال رومي وهو معرب وقد يؤنث فيقال قمقمة، قال ابن التين: في هذا التركيب نظر. وقال عياض: الصواب "كما يغلي المرجل والقمقم" بواو العطف لا بالباء، وجوز غيره أن تكون الباء بمعنى مع، ووقع في رواية الإسماعيلي: "كما يغلي المرجل أو القمقم" بالشك، تقدم شيء من هذا في قصة أبي طالب. حديث عدي بن حاتم، تقدم شرحه قريبا في آخر "باب من نوقش الحساب". حديث أبي سعيد في ذكر أبي طالب، تقدم في قصة أبي طالب من طريق الليث حدثني ابن الهاد وعطف عليه السند المذكور هنا واختصر المتن، ويزيد المذكور هنا هو ابن الهاد المذكور هناك، واسم كل من ابن أبي حازم والدراوردي عبد العزيز، وهما مدنيان مشهوران وكذا سائر رواة هذا السند. قوله: "لعله تنفعه شفاعتي" ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي، واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم تنفعه شفاعتي بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث المنفعة بالتخفيف، وبهذا الجواب جزم القرطبي. وقال البيهقي في البعث: صحة الرواية في شأن أبي طالب فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية، ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد، وهو عام في حق كل كافر، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه، قال: وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبا لقلب الشافع لا ثوابا للكافر لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء. وأخرج مسلم عن أنس "وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا حتى إذا أقصى إلى الآخرة لم تكن له حسنة" وقال القرطبي في "المفهم": اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قولي أو بلسان حالي؟ والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص؛ والثاني يكون معناه أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه. قال: ويجاب عنه أيضا أن المخفف عنه لما لم يجد أثر التخفيف فكأنه لم ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم أنه يعتقد أن ليس في النار أشد عذابا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف. قلت: وقد يساعد ما سبق ما تقدم في النكاح من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة "أرضعتني وإياها ثويبة" قال عروة "إن أبا لهب رؤى في المنام فقال: لم أر بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة" وقد تقدم الكلام عليه هناك، وجوز القرطبي في "التذكرة" أن الكافر إذا عرض على الميزان ورجحت كفة سيئاته بالكفر اضمحلت حسناته فدخل النار، لكنهم يتفاوتون في ذلك: فمن كانت له منهم حسنات من عتق ومواساة مسلم ليس كمن ليس له شيء من ذلك، فيحتمل أن يجازي بتخفيف العذاب عنه بمقدار ما عمل، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} قلت: لكن هذا البحث النظري معارض بقوله تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وحديث أنس الذي أشرت إليه، وأما ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث ابن مسعود رفعه: "ما أحسن محسن من
(11/431)
مسلم ولا كافر إلا أثابه الله قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة أشباه ذلك. قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب. ثم قرأ: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب". فالجواب عنه أن سنده ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أن يكون التخفيف فيما يتعلق بعذاب معاصيه، بخلاف عذاب الكفر. حديث أنس الطويل في الشفاعة، أورده هنا من طريق أبي عوانة، ومضى في تفسير البقرة من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد بن أبي عروبة، ويأتي في التوحيد من طريق همام أربعتهم عن قتادة وأخرجه أيضا أحمد من رواية شيبان عن قتادة ويأتي في التوحيد من طريق معبد بن هلال عن أنس وفيه زيادة للحسن عن أنس، ومن طريق حميد عن أنس باختصار، وأخرجه أحمد من طريق النضر بن أنس عن أنس، وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن خزيمة من طريق معتمر عن حميد عن أنس، وعند الحاكم من حدث ابن مسعود والطبراني من حديث عبادة بن الصامت، ولابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسي وجاء من حديث أبي هريرة كما مضى في التفسير من رواية أبي زرعة عنه، وأخرجه الترمذي من رواية العلاء بن يعقوب عنه، من حدث أبي سعيد كما سيأتي في التوحيد، وله طرق عن أبي سعيد مختصرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة معا، وأبو عوانة من رواية حذيفة عن أبي بكر الصديق، ومضى في الزكاة في تفسير سبحان من حديث ابن عمر باختصار، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وسأذكر ما عند كل منهم من فائدة مستوعبا إن شاء الله تعالى. قوله: "يجمع الله الناس يوم القيامة" في رواية المستملى "جمع" بصيغة الفعل الماضي والأول المعتمد ووقع في رواية معبد بن هلال "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض" وأول حديث أبي هريرة "أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" وزاد في رواية إسحاق بن راهويه عن جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعه فيه: "وتدنو الشمس من رءوسهم فيشتد عليهم حرها ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيه" وهذه الطريق عند مسلم عن أبي خيثمة عن جرير، لكن لم يسق لفظها، وأول حديث أبي بكر "عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم" وفي رواية معتمر "يلبثون ما شاء الله من الحبس" وقد تقدم في "باب ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" ما أخرجه مسلم من حديث المقداد أن الشمس تدنو حتى تصير من الناس قدر ميل وسائر ما ورد في ذلك وبيان تفاوتهم في العرق بقدر أعمالهم، وفي حديث سلمان "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع الرجل حتى يقول عق عق" وفي رواية النضر بن أنس "لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت" وفي حديث عبادة بن الصامت رفعه: "إني لسيد الناس يوم القيامة بغير فخر، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد" ووقع في رواية هشام وسعيد وهمام "يجتمع المؤمنون فيقولون" وتبين من رواية النضر بن أنس أن التعبير بالناس، أرجح لكن الذي يطلب الشفاعة هم المؤمنون. قوله: "فيقولون لو استشفعنا" في رواية مسلم: "فيلهمون ذلك" وفي لفظ: "فيهتمون بذلك". وفي رواية همام "حتى يهتموا بذلك". قوله: "على ربنا" في رواية هشام وسعيد "إلى ربنا" وتوجه بأنه ضمن معنى استشفعنا سعي لأن
(11/432)
الاستشفاع طلب الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه. وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حي تنزلف لهم الجنة فيأتون آدم" و "حتى" غاية لقيامهم المذكور. ويؤخذ منه أن طلبهم الشفاعة يقع حين تزلف لهم الجنة. ووقع في أول حديث أبي نضرة عن أبي سعيد في مسلم رفعه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" الحديث وفيه: "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم" الحديث قال القرطبي "كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زفرت فزع الناس حينئذ وجثوا على ركبهم". قوله: "حتى يريحنا" في رواية مسلم: "فيريحنا" وفي حديث ابن مسعود عند ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وفي رواية ثابت عن أنس "يطول يوم القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا" وفي حديث سلمان "فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض: ائتوا أباكم آدم". قوله: "حتى يريحنا من مكاننا هذا" في رواية ثابت "فليقض بيننا" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة فيقولون "يا أبانا استفتح لنا الجنة". قوله: "فيأتون آدم" في رواية شيبان "فينطلقون حتى يأتوا آدم فيقولون أنت الذي" في رواية مسلم: "يا آدم أنت أبو البشر" وفي رواية همام وشيبان "أنت أبو البشر" وفي حديث أبي هريرة نحو رواية مسلم. وفي حديث حذيفة "فيقولون يا أبانا". قوله: "خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه" زاد في رواية همام "وأسكنك جنته وعلمك أسماء كل شيء" وفي حديث أبي هريرة "وأمر الملائكة فسجدوا لك" وفي حديث أبي بكر "أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله". قوله: "فاشفع لنا عند ربنا" في رواية مسلم: "عند ربك" وكذا لشيبان في حديث أبي بكر وأبي هريرة اشفع لنا إلى ربك، وزاد أبو هريرة "ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا". قوله: "لست هناكم" قال عياض: قوله لست هناكم كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة قاله تواضعا وإكبارا لما يسألونه، قال: وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري. قلت: وقد وقع في رواية معبد بن هلال "فيقول لست لها" وكذا في بقية المواضع. وفي رواية حذيفة "لست بصاحب ذاك" وهو يؤيد الإشارة المذكورة. قوله: "ويذكر خطيئته" زاد مسلم التي أصاب، والراجع إلى الموصول محذوف تقديره أصابها، زاد همام في روايته: "أكله من الشجرة. وقد نهي عنها" وهو بنصب أكله بدل من قوله خطيئته وفي رواية هشام "فيذكر ذنبه فيستحي" وفي رواية ابن عباس "إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا "هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور "إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري". قوله: "ائتوا نوحا فيأتونه" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحا" وفي رواية هشام "فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" وفي حديث أبي بكر "انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدا شاكرا" وفي حديث أبي هريرة "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا" وفي حديث أبي بكر "فينطلقون إلى نوح فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك ولم يدع على الأرض من الكافرين ديارا" ويجمع بينهما بأن آدم
(11/433)
سبق إلى وصفه بأنه أول رسول فخاطبه أهل الموقف بذلك، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث جابر "أعطيت خمسا" في كتاب التيمم وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة" الحديث: ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقوله: "أهل الأرض" لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، ويشكل عليه حديث جابر، ويجاب بأن بعثته إلى أهل الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه بخلاف عموم بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه ولغير قومه، أو الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم، وتعقبه عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبي ذر فإنه كالصريح في أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال، وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل وهو إلياس، وقد ذكر ذلك في أحاديث الأنبياء. ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد. قوله: "فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها" في رواية هشام "ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم" وفي رواية شيبان "سؤال الله" وفي رواية معبد بن هلال مثل جواب آدم لكن قال: "وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" وفي حديث ابن عباس "فيقول ليس ذاكم عندي" وفي حديث أبي هريرة "إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض" ويجمع بينه وبين الأول بأنه اعتذر بأمرين: أحدهما نهي الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك، ثانيهما أن له دعوة واحدة محققة الإجابة وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض فخشي أن يطلب فلا يجاب. وقال بعض الشراح: كان الله وعد نوحا أن ينجيه وأهله، فلما غرق ابنه ذكر لربه ما وعده فقيل له: المراد من أهلك من آمن وعمل صالحا فخرج ابنك منهم، فلا تسأل ما ليس لك به علم. "تنبيهان": "الأول" سقط من حديث أبي حذيفة المقرون بأبي هريرة ذكر نوح، فقال في قصة آدم: اذهبوا إلى ابني إبراهيم. وكذا سقط من حديث ابن عمر، والعمدة على من حفظ. "الثاني" ذكر أبو حامد الغزالي في كشف علوم الآخرة أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها.قوله: "ائتوا إبراهيم" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا" وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بإبراهيم فهو خليل الله". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون إبراهيم" زاد أبو هريرة في حديثه فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك" وذكر مثل ما لآدم قولا وجوابا إلا أنه قال: "قد كنت كذبت ثلاث كذبات" وذكرهن. قوله: "فيقول لست هناكم، ويذكر خطيئته" زاد مسلم: "التي أصاب فيستحيي ربه منها" وفي حديث أبي بكر "ليس ذاكم عندي" وفي رواية همام "إني كنت كذبت ثلاث كذبات" زاد شيبان في روايته: "قوله إني سقيم" وقوله فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته أخبريه أني أخوك" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "فيقول إني كذبت ثلاث كذبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله" وما حل بمهملة بمعنى جادل وزنه ومعناه. ووقع في رواية حذيفة المقرونة "لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء" وضبط بفتح الهمزة وبضمها، واختلف الترجيح فيهما.
(11/434)
قال النووي: أشهرهما الفتح بلا تنوين ويجوز بناؤها على الضم، وصوبه أبو البقاء والكندي، وصوب ابن دحية الفتح على أن الكلمة مركبة مثل شذر مذر، وإن ورد منصوبا منونا جاز، ومعناه لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب. قال صاحب التحرير: كلمة تقال على سبيل التواضع، أي لست في تلك الدرجة. قال: وقد وقع لي فيه معنى مليح وهو أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، قال البيضاوي: الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفا. قوله: "ائتوا موسى الذي كلمه الله" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا موسى" وزاد: "وأعطاه التوراة" وكذا في رواية هشام وغيره. وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بموسى فهو كليم الله" وفي رواية الإسماعيلي: "عبدا أعطاه الله التوراة وكلمه تكليما" زاد همام في روايته: "وقربه نجيا" وفي رواية حذيفة المقرونة "اعمدوا إلى موسى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون موسى فيقول" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وكلامه على الناس، اشفع لنا" فذكر مثل آدم قولا وجوابا لكنه قال: "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها". قوله: "فيقول لست هناكم" زاد مسلم: "فيذكر خطيئته التي أصاب قتل النفس" وللإسماعيلي: "فيستحيي ربه منها" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور إني قتلت نفسا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها" وذكر مثل ما في آدم. قوله: "ائتوا عيسى" زاد مسلم: "روح الله وكلمته" وفي رواية هشام "عبد الله ورسوله وكلمته وروحه" وفي حديث أبي بكر "فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ مثل آدم قولا وجوابا لكن قال: ولم يذكر ذنبا" لكن وقع في رواية الترمذي من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد "إني عبدت من دون الله" وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس "إني اتخذت إلها من دون الله" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه وزاد: "وإن يغفر لي اليوم حسبي". قوله: "ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" في رواية مسلم: "عبد غفر له إلخ" زاد ثابت "من ذنبه" وفي رواية هشام "غفر الله له" وفي رواية معتمر "انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفورا له ليس عليه ذنب" وفي رواية ثابت أيضا: "خاتم النبيين قد حضر اليوم، أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم" وعند سعيد بن منصور من هذا الوجه "فيرجعون إلى آدم فيقول أرأيتم إلخ" وفي حديث أبي بكر "ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض" قال عياض: اختلفوا في تأويل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل: المتقدم ما قبل النبوة والمتأخر العصمة. وقيل: ما وقع عن سهو أو تأويل. وقيل: المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته، وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع، وقيل غير ذلك. قلت: واللائق بهذا المقام القول الرابع، وأما الثالث فلا يتأتى هنا، ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا ومن قول موسى
(11/435)
فيما تقدم "إني قتلت نفسا بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي" مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد. قوله: "فيأتوني" في رواية النضر بن أنس عن أبيه "حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه" فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار كما سيأتي بيانه قريبا، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعا يسألونه في ذلك. وقد أخرج الترمذي وغيره من حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف وفيه: "وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام" ووقع في رواية معبد بن هلال "فيأتوني فأقول: أنا لها أنا لها" زاد عقبة بن عامر عند ابن المبارك في الزهد "فيأذن الله لي فأقوم، فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد" وفي حديث سلمان بن أبي بكر بن أبي شيبة: "يأتون محمدا فيقولون: يا نبي الله أنت الذي فتح الله بك وختم، وغفر لك ما تقدم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم آمنا وترى ما نحن فيه، فقم فاشفع لنا إلى ربنا. فيقول: أنا صاحبكم، فيجوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة" وفي رواية معتمر "فيقول: أنا صاحبها". قوله: "فأستأذن" في رواية هشام "فأنطلق حتى أستأذن". قوله: "على ربي" زاد همام "في داره فيؤذن لي" قال عياض: أي في الشفاعة. وتعقب بأن ظاهر ما تقدم أن استئذانه الأول والإذن له إنما هو في دخول الدار وهي الجنة، وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، ومنه "والله يدعو إلى دار السلام" على القول بأن المراد بالسلام هنا الاسم العظيم وهو من أسماء الله تعالى، قيل الحكمة في انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام أن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مكان مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام، ومن ثم يستحب أن يتحرى للدعاء المكان الشريف لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة. قلت: وتقدم في بعض طرقه أن من جملة سؤال أهل الموقف استفتاح باب الجنة. وقد ثبت في صحيح مسلم أنه أول من يستفتح باب الجنة. وفي رواية علي بن زيد عن أنس عند الترمذي "فآخذ حلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي ويرحبون، فأخر ساجدا" وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك" وله من رواية المختار بن فلفل عن أنس رفعه: "أنا أول من يقرع باب الجنة" وفي رواية قتادة عن أنس "آتي باب الجنة فأستفتح فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبا بمحمد" وفي حديث سلمان "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح له حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له" وفي حديث أبي بكر الصديق "فيأتي جبريل ربه فيقول ائذن له". قوله: "فإذا رأيته وقعت له ساجدا" في رواية أبي بكر "فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي" وفي رواية لابن حبان من طريق ثوبان عن أنس "فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله" وفي حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى
(11/436)
رفعه: "يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني". قوله: "فيدعني ما شاء الله" زاد مسلم: "أن يدعني" وكذا في رواية هشام، وفي حديث عبادة بن الصامت "فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شاكرا له" وفي رواية معبد بن هلال "فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا" وفي حديث أبي بكر الصديق "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدا قدر جمعة". قوله: "ثم يقال لي ارفع رأسك" في رواية مسلم: "فيقال يا محمد" وكذا في أكثر الروايات. وفي رواية النضر ابن أنس "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له ارفع رأسك" فعلى هذا فالمعنى يقول لي على لسان جبريل. قوله: "وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع" في رواية مسلم بغير واو، وسقط من أكثر الروايات "وقل يسمع" ووقع في حديث أبي بكر "فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه خر ساجدا قدر جمعة" وفي حديث سلمان "فينادى يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وادع تجب". قوله: "فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني" وفي رواية هشام "يعلمنيه" وفي رواية ثابت "بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي" وفي حديث سلمان "فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتح لأحد من الخلائق" وكأنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد قبل سجوده وبعده، وفيه: "ويكون في كل مكان ما يليق به" وقد ورد ما لعله يفسر به بعض ذلك لا جميعه، ففي النسائي ومصنف عبد الرزاق ومعجم الطبراني من حديث حذيفة رفعه قال: "يجمع الناس في صعيد واحد فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك تباركت وتعاليت سبحانك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" زاد عبد الرزاق "سبحانك رب البيت" فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال ابن منده في كتاب الإيمان: هذا حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رواته. قوله: "ثم أشفع" في رواية معبد بن هلال "فأقول رب أمتي أمتي أمتي" وفي حديث أبي هريرة نحوه. قوله: "فيحد لي حدا" يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة ثم فيمن أخل بالصلاة ثم فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى وعلى هذا الأسلوب، كذا حكاه الطيبي، والذي يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفضيل مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في هذا الحديث بعينه وسأنبه عليه في آخره، وكما تقدم في رواية هشام عن قتادة عن أنس في كتاب الإيمان بلفظ: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة" وفي رواية ثابت عند أحمد "فأقول: "أي رب أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة" ثم ذكر نحو ما تقدم وقال: "مثقال ذرة" ثم قال: "مثقال حبة من خردل" ولم يذكر بقية الحديث. ووقع في طريق النضر بن أنس قال: "فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا، فما زلت أتردد على ربي لا أقوم منه مقاما إلا شفعت" وفي حديث سلمان "فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة ثم شعيرة ثم حبة من خردل فذلك المقام المحمود" وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في شرح الحديث الثالث عشر، ويأتي مبسوطا في شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ثم أخرجهم من النار" قال الداودي: كأن راوي هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم
(11/437)
يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي، وقد أجاب عنه عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله: "فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له" أي في الشفاعة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق" الحديث. قال عياض: فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج، وقد وقع في حديث أبي هريرة -يعني الآتي في الباب الذي يليه بعد ذكر الجمع في الموقف- الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. قلت: فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه: "حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوش في النار" فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحا في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولا. وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون" وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد "فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: "يا رب عجل حسابهم" وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى "فأقول أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته" الحديث وسيأتي بيان ما يقع في الموقف قبل نصب الصراط في شرح حديث الباب الذي يليه. وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رءوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها. قلت: وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه: "فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه" بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا، وقد أشرت إلى الاحتمال المذكور في شرح حديث العرق في "باب قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" والعلم عند الله تعالى. وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول "يا رب أمتي أمتي "فيقال أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب" قال: في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب
(11/438)
ليحاسب، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى "فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله: وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة" قلت: وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي: ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة، وسيأتي تفصيل ذلك واضحا في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصري نزيل مصر ثم إفريقية - وهو في طبقة يزيد بن هارون، وقد ضعفه الدار قطني. وقال أبو حاتم الرازي صدوق. وقال أبو زرعة ربما وهم. وقال ابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه - فنقل فيه عن الكلبي قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت زمرة من آخر زمر الجنة إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم وقد بلغت النار منهم كل مبلغ: أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم؟ قال فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة فيأتون آدم، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبل واحدا واحدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فينطلق فيأتي رب العزة فيسجد له حتى يأمره أن يرفع رأسه ثم يسأله ما تريد؟ وهو أعلم به، فيقول: رب أناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك، فيقول وعزتي لأخرجنهم فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا ثم يدخلون الجنة فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون، فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قلت: فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدا بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم. وقد تمسك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال المذكور في دعواه أن أحدا من الموحدين لا يدخل النار أصلا، وإنما المراد بما جاء من أن النار تسفعهم أو تلفحهم، وما جاء في الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطل، وأقوى ما يرد به عليه ما تقدم في الزكاة من حديث أبي هريرة في قصة مانع الزكاة واللفظ لمسلم: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" الحديث بطوله وفيه ذكر الذهب والفضة والبقر والغنم، وهو دال على تعذيب من شاء الله من العصاة بالنار حقيقة زيادة على كرب الموقف. وورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار ما تقدم أن الكفار يقولون لهم: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا، فيغضب الله لهم فيخرجهم. وهو مما يرد به على المبتدعة المذكورين. وسأذكره في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة" في رواية هشام "فأحد لهم حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع ثانيا فأستأذن" إلى أن قال: "ثم أحد لهم حدا ثالثا فأدخلهم الجنة ثم أرجع" هكذا في أكثر الروايات. ووقع عند أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" ولم
(11/439)
يشك بل جزم بأن هذا القول يقع في الرابعة. ووقع في رواية معبد بن هلال عن أنس أن الحسن حدث معبدا بعد ذلك بقوله: "فأقوم الرابعة" وفيه قول الله له "ليس ذلك لك" وأن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط. فعلى هذا فقوله: "حبسه القرآن" يتناول الكفار وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة وتبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم. قوله: "حتى ما يبقى" في رواية الكشميهني: "ما بقي" وفي رواية هشام بعد الثالثة "حتى أرجع فأقول". قوله: "إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود" في رواية همام "إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود" كذا أبهم قائل "أي وجب" وتبين من رواية أبي عوانة أنه قتادة أحد رواته. ووقع في رواية هشام وسعيد "فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" وسقط من رواية سعيد عند مسلم: "ووجب عليه الخلود" وعنده من رواية هشام مثل ما ذكرت من رواية همام، فتعين أن قوله: "ووجب عليه الخلود" في رواية هشام مدرج في المرفوع لما تبين من رواية أبي عوانة أنها من قول قتادة فسر به قوله: "من حبسه القرآن" أي من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار. ووقع في رواية همام بعد قوله أي وجب عليه الخلود "وهو المقام المحمود الذي وعده الله" وفي رواية شيبان" إلا من حبسه القرآن، يقول: وجب عليه الخلود. وقال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله إلا من حبسه القرآن "قال فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة" الحدث وهو الذي فصله هشام من الحديث وسبق سياقه في كتاب الإيمان مفردا، ووقع في رواية معبد بن هلال بعد روايته عن أنس من روايته عن الحسن البصري عن أنس قال: "ثم أقوم الرابعة فأقول أي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي ليس ذلك لك" فذكر بقية الحديث في إخراجهم، وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العصاة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها في أعم من ذلك فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأييد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين كما سيأتي بيانه في شرح حديث الباب الذي يليه، فيكون التأييد مؤقتا. وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول، واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهو أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة وإن قالوا بعصمتهم مطلقا لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقا ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء
(11/440)
الواحد والنهي عنه في حالة واحدة وهو باطل. ثم قال عياض: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا كما تقدم بسط ذلك والله أعلم. وفيه جواز إطلاق الغضب على الله والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي. وقال غيره المراد بالغضب لازمه وهو إرادة إيصال السوء للبعض، وقول آدم ومن بعده "نفسي نفسي نفسي" أي نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفا. وفيه تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم، وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم، قال القرطبي: ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول نفسي نفسي وبين من يقول أمتي أمتي لكان كافيا، وفيه تفضيل الأنبياء المذكورين فيه على من لم يذكر فيه لتأهلهم لذلك المقام العظيم دون من سواهم، وقد قيل إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح. ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع عمل بها من بين من ذكر أولا ومن بعده. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من طلب من كبير أمرا مهما أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه ليكون ذلك أدعى لإجابته لسؤاله، وفيه أن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل يعتذر بما يقبل منه ويدل على من يظن أنه يكمل في القيام بذلك فالدال على الخير كفاعله، وأنه يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع، وفيه استعمال ظرف المكان في الزمان لقوله لست هناكم لأن هنا ظرف مكان فاستعملت في ظرف الزمان لأن المعنى لست في ذلك المقام، كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه لكنه المعنوي لا الحسي، مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا. وفيه العمل بالعام قبل البحث عن المخصص أخذا من قصة نوح في طلبه نجاة ابنه، وقد يتمسك به من يرى بعكسه. وفيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام كما تقدم في صدر الحديث. وفيه أنهم يستشير بعضهم بعضا ويجمعون على الشيء المطلوب وأنهم يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا لأن في السائلين من سمع هذا الحديث ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة ولما احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان والحسن بن ذكوان هو أبو سلمة البصري تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما لكنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث من رواية يحيى القطان عنه مع تعنته في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة، وفي طبقته الحسين بن ذكوان وهو بضم الحاء وفتح السين وآخره نون بصري أيضا يعرف بالمعلم وبالمكتب وهو أوثق من أبي سلمة، وتقدم شرح حديث الباب في الحادي عشر. الحديث
(11/441)
التاسع عشر حديث أنس في قصة أم حارثة، تقدم في الخامس من وجه آخر عن حميد عنه. فيه: "ولقاب قوس أحدكم" تقدم شرحه وفيه: "ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض". قوله: "لأضاءت ما بينهما" وقع في حديث سعيد بن عامر الجمحي عند البراز بلفظ: "تشرف على الأرض لذهب ضوء الشمس والقمر". قوله: "ولملأت ما بينهما ريحا" أي طيبة، وفي حديث سعيد بن عامر المذكور "لملأت الأرض ريح مسك" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وصححه ابن حبان: "وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب". قوله: "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ثم فاء، فسر في الحديث بالخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، وهذا التفسير من قتيبة فقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر بدونه. وقال الأزهري: النصيف الخمار، ويقال أيضا للخادم. قلت: والمراد هنا الأول جزما. وقد وقع في رواية الطبراني "ولتاجها على رأسها" وحكى أبو عبيد الهروي أن النصيف المعجر بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم وهو ما تلويه المرأة على رأسها. وقال الأزهري: هو كالعصابة تلفها المرأة على استدارة رأسها، واعتجر الرجل بعمامته لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه وشيئا منها تحت ذقنه، وقيل المعجر ثوب تلبسه المرأة أصغر من الرداء، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا "ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة من الشمس لا ضوء لها، ولو أطلعت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض، ولو أخرجت كفها لافتتن الخلائق بحسنها". حديث أبي هريرة من طريق الأعرج عنه. قوله: "لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار" وقع عند ابن ماجه بسند صحيح من طريق آخر عن أبي هريرة أن ذلك يقع عند المسألة في القبر وفيه: "فيفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله" وفي حديث أنس الماضي في أواخر الجنائز "فيقال انظر إلى مقعدك من النار" زاد أبو داود في روايته: "هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عصمك ورحمك" وفي حديث أبي سعيد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك". قوله: "لو أساء ليزداد شكرا" أي لو كان عمل عملا سيئا وهو الكفر فصار من أهل النار، وقوله: "ليزداد شكرا" أي فرحا ورضا، فعبر عنه بلازمه، لأن الراضي بالشيء يشكر من فعل له ذلك. قوله: "ولا يدخل النار أحد" قدم في رواية الكشميهني الفاعل على المفعول، وقوله: "إلا أري" بضم الهمزة وكسر الراء. قوله: "لو أحسن" أي لو عمل عملا حسنا وهو الإسلام. قوله: "ليكون عليه حسرة" أي للزيادة في تعذيبه، ووقع عند ابن ماجه أيضا وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} وقال جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي} صدقنا وعده وأورثنا الأرض" الآية: المراد أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة، وهو موافق لهذا الحديث، وقيل المراد أرض الدنيا لأنها صارت خبزة فأكلوها كما تقدم. وقال القرطبي: يحتمل أن يسمى الحصول في الجنة وراثة من حيث اختصاصهم بذلك دون غيرهم، فهو إرث بطريق الاستعارة والله أعلم. قوله: "عن عمرو" هو ابن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، وقد وقع لنا هذا الحديث في نسخة إسماعيل بن جعفر حدثنا عمرو بن أبي عمرو، وأخرجه أبو نعيم من طريق علي ابن حجر عن إسماعيل، وكذا تقدم في العلم من رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، وقد تقدم أن اسم أبي عمرو والد عمرو
(11/442)
ميسرة. قوله: "من أسعد الناس بشفاعتك" لعل أبا هريرة سأل عن ذلك عند تحديثه صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وقد تقدم سياقه وبيان ألفاظه في أول كتاب الدعوات، ومن طرقه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وتقدم شرح حديث الباب في "باب الحرص على الحديث" من كتاب العلم. وقوله: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه" بكسر القاف وفتح الموحدة أي قال ذلك باختياره، ووقع في رواية أحمد وصححه ابن حبان من طريق أخرى عن أبي هريرة نحو هذا الحديث وفيه: "لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه" والمراد بهذه الشفاعة المسئول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي، فيقال له: أخرج من النار من في قلبه وزن كذا من الإيمان" فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه، وأما الشفاعة العظمي في الإراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط. والحاصل أن في قوله: "أسعد" إشارة إلى اختلاف مراتبهم في السبق إلى الدخول باختلاف مراتبهم في الإخلاص، ولذلك أكده بقوله: "من قلبه" مع أن الإخلاص محله القلب، لكن إسناد الفعل إلى الجارحة أبلغ في التأكيد، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "أسعد" وأنها على بابها من التفضيل، ولا حاجة إلى قول بعض الشراح الأسعد عنا بمعنى السعيد لكون الكل يشتركون في شرطية الإخلاص، لأنا نقول يشتركون فيه لكن مراتبهم فيه متفاوتة. وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون المراد من ليس له عمل يستحق به الرحمة والخلاص، لأن احتياجه إلى الشفاعة أكثر وانتفاعه بها أوفى والله أعلم. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وهذا السند كله كوفيون. قوله: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها" قال عياض: جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط يعني كما يأتي في آخر الباب الذي يليه قال: فيحتمل أنهما اثنان إما شخصان وإما نوعان أو جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود وهو الجواز على الصراط فيتحد المعنى إما في شخص واحد أو أكثر. قلت: وقع عند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني ولفظه: "آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك" وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع. قوله: "حبوا" بمهملة وموحدة أي زحفا وزنه ومعناه. ووقع بلفظ: "زحفا" في رواية الأعمش عن إبراهيم عند مسلم. قوله: "فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا" وفي رواية الأعمش "فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه - أي الدنيا - فيقول: نعم، فيقال له: تمن، فيتمنى". قوله: "أتسخر مني أو تضحك مني" وفي رواية الأعمش "أتسخر بي" ولم يشك، وكذا لمسلم من رواية منصور، وله من رواية أنس عن ابن مسعود "أتستهزئ بي وأنت رب العالمين" وقال المازري: هذا مشكل، وتفسير الضحك بالرضا لا يتأتى هنا، ولكن لما كانت عادة المستهزئ أن يضحك من الذي استهزأ به ذكر معه، وأما نسبة السخرية إلى الله تعالى فهي على سبيل المقابلة وإن لم يذكره في الجانب الآخر لفظا لكنه لما ذكر أنه عاهد مرارا وغدر حل فعله
(11/443)
محل المستهزئ وظن أن في قول الله له "ادخل الجنة" وتردده إليها وظنه أنها ملأي نوعا من السخرية به جزاء على فعله فسمي الجزاء على السخرية سخرية، ونقل عياض عن بعضهم أن ألف أتسخر مني ألف النفي كهي في قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} على أحد الأقوال، قال: وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإعطاء. وجوز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله، ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار "لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين" وقال القرطبي في "المفهم" أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ فهو كقوله سخر الله منهم وقوله الله يستهزئ بهم أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم وسيأتي بيان الاختلاف في اسم هذا الرجل في آخر شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ضحك حتى بدت نواجذه" بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، تقدم ضبطه في كتاب الصيام. وفي رواية ابن مسعود "فضحك ابن مسعود فقالوا: مم تضحك؟ فقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك رب العالمين حين قال الرجل: أتستهزئ مني؟ قال: لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي. قوله: "وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة" قال الكرماني: ليس هذا من تتمة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام الراوي نقلا عن الصحابة أو عن غيرهم من أهل العلم. قلت: قائل" وكان يقال: "هو الراوي كما أشار إليه، وأما قائل المقالة المذكورة فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في أول حديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه: "أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار" وساق القصة. وفي رواية له من حديث المغيرة أن موسى عليه السلام سأل ربه عن ذلك، ولمسلم أيضا من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال له تمن فيتمنى ويتمنى فيقال إن لك ما تمنيت ومثله معه". قوله: "عبد الملك" هو ابن عمير، ونوفل جد عبد الله بن الحارث هو ابن الحارث بن عبد المطلب، والعباس هو ابن عبد المطلب وهو عم جد عبد الله بن الحارث الراوي عنه وللحارث بن نوفل ولأبيه صحبة، ويقال إن لعبد الله رؤية، وهو الذي كان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة ثم هاء تأنيث. قوله: "هل نفعت أبا طالب بشيء"؟ هكذا ثبت في جميع النسخ بحذف الجواب، وهو اختصار من المصنف، وقد رواه مسدد في مسنده بتمامه، وقد تقدم في كتاب الأدب عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة بالسند المذكور هنا بلفظ: "فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" ووقع في رواية المقدمي عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "الدركة" بزيادة هاء، وقد تقدم شرح ما يتعلق بذلك في شرح الحديث الرابع عشر، ومضى أيضا في قصة أبي طالب في المبعث النبوي لمسدد فيه سند آخر إلى عبد الملك بن عمير المذكور والله أعلم.
(11/444)
52 - باب الصِّرَاطُ جَسْرُ جَهَنَّمَ
6573- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
(11/444)
أَخْبَرهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أُنَاسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهَا لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ فَيَقُولُ لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو فَيَقُولُ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ثُمَّ يَقُولُ أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى ثُمَّ يُقَالُ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ فَيَقُولُ لَهُ هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا"
(11/445)
6574- قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ جَالِسٌ مَعَ
أَبِي هُرَيْرَةَ لاَ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ حَتَّى انْتَهَى
إِلَى قَوْلِهِ "هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَفِظْتُ
مِثْلُهُ مَعَهُ"
قوله: "باب الصراط جسر جهنم" أي الجسر المنصوب على جهنم لعبور المسلمين
عليه إلى الجنة، وهو بفتح الجيم ويجوز كسرها، وقد وقع في حديث الباب لفظ الجسر وفي
رواية شعيب الماضية في "باب فضل السجود" بلفظ: "ثم يضرب
الصراط" فكأنه أشار في الترجمة إلى ذلك. قوله: "عن الزهري قال سعيد
وعطاء بن يزيد أن أبا هريرة أخبرهما" في رواية شعيب عن الزهري "أخبرني
سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي". قوله: "وحدثني محمود" هو
ابن غيلان، وساقه هنا على لفظ معمر، وليس في سنده ذكر سعيد، وكذا يأتي في التوحيد
من رواية إبراهيم بن سعيد عن الزهري ليس فيه ذكر سعيد، ووقع في تفسير عبد الرزاق
عن معمر عن الزهري في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}
عن عطاء بن يزيد فذكر الحديث. قولة "قال أناس يا رسول الله" في رواية
شعيب "إن الناس قالوا" ويأتي في التوحيد بلفظ: "قلنا". قوله:
"هل نرى ربنا يوم القيامة" في التقييد بيوم القيامة إشارة إلى أن السؤال
لم يقع عن الرؤية في الدنيا. وقد أخرج مسلم من حديث أبي أمامة "واعلموا أنكم
لن تروا ربكم حتى تموتوا" وسيأتي الكلام على الرؤية في كتاب التوحيد لأنه محل
البحث فيه، وقد وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عند الترمذي أن هذا السؤال وقع
على سبب. وذلك أنه ذكر الحشر والقول "لتتبع كل أمة ما كانت تعبد" وقول
المسلمين "هذا مكاننا حتى نرى ربنا. قالوا وهل نراه" فذكره، ومضى في
الصلاة وغيرها ويأتي في التوحيد من رواية جرير قال: "كنا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما
ترون هذا القمر" الحديث مختصر، ويحتمل أن يكون الكلام وقع عند سؤالهم
المذكور. قوله: "هل تضارون" بضم أوله وبالضاد المعجمة وتشديد الراء
بصيغة المفاعلة من الضرر وأصله تضاررون بكسر الراء وبفتحها أي لا تضرون أحدا ولا
يضركم بمنازعة ولا مجادلة ولا مضايقة، وجاء بتخفيف الراء من الضير وهو لغة في الضر
أي لا يخالف بعض بعضا فيكذبه وينازعه فيضيره بذلك، يقال ضاره يضيره، وقيل المعنى
لا تضايقون أي لا تزاحمون كما جاء في الرواية الأخرى "لا تضامون" بتشديد
الميم مع فتح أوله، وقيل المعنى لا يحجب بعضكم بعضا عن الرؤية فيضر به، وحكى
الجوهري ضرني فلان إذا دنا مني دنوا شديدا، قال ابن الأثير: فالمراد المضارة بازدحام.
وقال النووي: أوله مضموم مثقلا ومخففا قال: وروى "تضامون" بالتشديد مع
فتح أوله وهو بحذف إحدى التاءين وهو من الضم، وبالتخفيف مع ضم أوله من الضيم
والمراد المشقة والتعب، قال وقال عياض: قال بعضهم في الذي بالراء وبالميم بفتح
أوله والتشديد وأشار بذلك إلى أن الرواية بضم أوله مخففا ومثقلا وكله صحيح ظاهر
المعنى، ووقع في رواية البخاري "لا تضامون أو تضاهون" بالشك كما مضى في
فضل صلاة الفجر، ومعنى الذي بالهاء لا يشتبه عليكم ولا ترتابون فيه فيعارض بعضكم
بعضا، ومعنى الضيم الغلبة على الحق والاستبداد به أي لا يظلم بعضكم بعضا، وتقدم في
"باب فضل السجود" من رواية شعيب "هل تمارون" بضم أوله وتخفيف
الراء أي تجادلون في ذلك أو يدخلكم فيه شك من المرية وهو الشك، وجاء بفتح أوله
وفتح الراء على حذف إحدى التاءين. وفي رواية للبيهقي "تتمارون"
(11/446)
بإثباتهما. قوله: "ترونه كذلك" المراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك ورفع المشقة والاختلاف وقال البيهقي سمعت الشيخ أبا الطيب الصعلوكي يقول: "تضامون" بضم أوله وتشديد الميم يريد لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا ينضم بعضكم إلى بعض فإنه لا يرى في جهة، ومعناه بفتح أوله لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، وهو بغير تشديد من الضيم معناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة، قال: والتشبيه برؤية القمر لتعيين الرؤية دون تشبيه المرئي سبحانه وتعالى. وقال الزين بن المنير: إنما خص الشمس والقمر بالذكر مع أن رؤية السماء بغير سحاب أكبر آية وأعظم خلقا من مجرد الشمس والقمر لما خصا به من عظيم النور والضياء بحيث صار التشبيه بهما فيمن يوصف بالجمال والكمال سائغا شائعا في الاستعمال. وقال ابن الأثير: قد يتخيل بعض الناس أن الكاف كاف التشبيه للمرئي وهو غلط، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي ومعناه أنه رؤية مزاح عنها الشك مثل رؤيتكم القمر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: في الابتداء بذكر القمر قبل الشمس متابعة للخليل، فكما أمر باتباعه في الملة اتبعه في الدليل، فاستدل به الخليل على إثبات الوحدانية واستدل به الحبيب على إثبات الرؤية، فاستدل كل منهما بمقتضى حاله لأن الخلة تصح بمجرد الوجود والمحبة لا تقع غالبا إلا بالرؤية، وفي عطف الشمس على القمر مع أن تحصيل الرؤية بذكره كاف لأن القمر لا يدرك وصفه الأعمى حسا بل تقليدا، والشمس يدركها الأعمى حسا بوجود حرها إذا قابلها وقت الظهيرة مثلا فحسن التأكيد بها، قال: والتمثيل واقع في تحقيق الرؤية لا في الكيفية، لأن الشمس والقمر متحيزان والحق سبحانه منزه عن ذلك. قلت: وليس في عطف الشمس على القمر إبطال لقول من قال في شرح حديث جرير: الحكمة في التمثيل بالقمر أنه تتيسر رؤيته للرائي بغير تكلف ولا تحديق يضر بالبصر، بخلاف الشمس، فإنها حكمة الاقتصار عليه، ولا يمنع ذلك ورود ذكر الشمس بعده في وقت آخر، فإن ثبت أن المجلس واحد خدش في ذلك، ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن "لا تمارون في رؤيته تلك الساعة ثم يتوارى" قال النووي: مذهب أهل السنة أن رؤية المؤمنين ربهم ممكنة ونفتها المبتدعة من المعتزلة والخوارج، وهو جهل منهم، فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة على إثباتها في الآخرة للمؤمنين، وأجاب الأئمة عن اعتراضات المبتدعة بأجوبة مشهورة، ولا يشترط في الرؤية تقابل الأشعة ولا مقابلة المرئي وإن جرت العادة بذلك فيما بين المخلوقين والله أعلم. واعترض ابن العربي على رواية العلاء وأنكر هذه الزيادة وزعم أن المراجعة الواقعة في حديث الباب تكون بين الناس وبين الواسطة لأنه لا يكلم الكفار ولا يرونه البتة، وأما المؤمنون فلا يرونه إلا بعد دخول الجنة بالإجماع. قوله: "يجمع الله الناس" في رواية شعيب "يحشر" وهو بمعنى الجمع، وقوله في رواية شعيب "في مكان" زاد في رواية العلاء "في صعيد واحد" ومثله في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة بلفظ: "يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر" وقد تقدمت الإشارة إليه في شرح الحديث الطويل في الباب قبله، قال النووي: الصعيد الأرض الواسعة المستوية، وينفذهم بفتح أوله وسكون النون وضم الفاء بعدها ذال معجمة أي يخرقهم بمعجمة وقاف حتى يجوزهم، وقيل بالدال المهملة أي يستوعبهم، قال أبو عبيدة: معناه ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم. وقال غيره: المراد بصر الناظرين وهو أولى. وقال القرطبي المعنى أنهم يجمعون في مكان واحد بحيث لا يخفى منهم أحد بحيث لا يخفى منهم أحد لو دعاهم داع لسمعوه ولو نظر إليهم ناظر لأدركهم،
(11/447)
قال: ويحتمل أن يكون المراد بالداعي هنا من يدعوهم إلى العرض والحساب لقوله: "يوم يدع الداع" وقد تقدم بيان حال الموقف في "باب الحشر" وزاد العلاء بن عبد الرحمن في روايته: "فيطلع عليهم رب العالمين" قال ابن العربي: لم يزل الله مطلعا على خلقه، وإنما المراد إعلامه باطلاعه عليهم حينئذ، ووقع في حديث ابن مسعود عند البيهقي في البعث وأصله في النسائي: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم والشمس على رءوسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر"، ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد أنه "يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة" وسنده حسن، ولأبي يعلى عن أبي هريرة "كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب" وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر "ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار". قوله: "فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر" قال ابن أبي جمرة: في التنصيص على ذكر الشمس والقمر مع دخولهما فيمن عبد دون الله التنويه بذكرهما لعظم خلقهما، وقع في حديث ابن مسعود "ثم ينادي مناد من السماء: أيها الناس أليس عدل من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولى؟ قال فيقولون: بلى. ثم يقول: لتنطلق كل أمة إلى من كانت تعبد" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد" ووقع في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة في مسند الحميدي وصحيح ابن خزيمة وأصله مسلم بعد قوله إلا كما تضارون في رؤيته "فيلقي العبد فيقول ألم أكرمك وأزوجك وأسخر لك؟ فيقول: بلى فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول. إني أنساك كما نسيتني" الحديث وفيه: "ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت، فيقول: ألا نبعث عليك شاهدا؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه وذلك المنافق. ثم ينادي مناد: ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد"، قوله: "ومن كان يعبد الطواغيت" الطواغيت جمع طاغوت وهو الشيطان والصنم ويكون جمعا ومفردا ومذكرا ومؤنثا، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في تفسير سورة النساء. وقال الطبري: الصواب عندي أنه كل طاغ طغى على الله يعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبد وإما بطاعة ممن عبد إنسانا كان أو شيطانا أو حيوانا أو جمادا، قال فاتباعهم لهم حينئذ باستمرارهم على الاعتقاد فيهم، ويحتمل أن يتبعوهم بأن يساقوا إلى النار قهرا. ووقع في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد "فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب كل الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم" وفيه إشارة إلى أن كل من كان يعبد الشيطان ونحوه ممن يرضى بذلك أو الجماد والحيوان دالون في ذلك، وأما من كان يعبد من لا يرضى بذلك كالملائكة والمسيح فلا، لكن وقع في حديث ابن مسعود "فيتمثل لهم ما كانوا يعبدون فينطلقون" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره" فأفادت هذه الزيادة تعميم من كان يعبد غير الله إلا من سيذكر من اليهود والنصارى فإنه يخص من عموم ذلك بدليله الآتي ذكره. وأما التعبير بالتمثيل فقال ابن العربي: يحتمل أن يكون التمثيل تلبيسا عليهم، ويحتمل أن يكون التمثيل لمن لا يستحق التعذيب، وأما من سواهم فيحضرون حقيقة لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قوله: "وتبقى هذه الأمة" قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يحمل على أعم من ذلك فيدخل فيه جميع أهل التوحيد حتى من الجن، ويدل عليه ما في بقية الحديث أنه يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر. قلت: ويؤخذ أيضا
(11/448)
من قوله في بقية الحديث: "فأكون أول من يجيز" فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء بعده يجيزون أممهم. قوله: "فيها منافقوها" كذا للأكثر. وفي رواية إبراهيم بن سعد "فيها شافعوها أو منافقوها شك إبراهيم" والأول المعتمد، وزاد في حديث أبي سعيد "حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر". وغبرات أهل الكتاب بضم الغين المعجمة وتشديد الموحدة. وفي رواية مسلم: "وغبر" وكلاهما جمع غابر، أو الغبرات جمع وغبر جمع غابر، ويجمع أيضا على أغبار، وغبر الشيء بقيته، وجاء بسكون الموحدة والمراد هنا من كان يوحد الله منهم. وصحفه بعضهم في مسلم بالتحتانية بلفظ التي بالاستثناء، وجزم عياض وغيره بأنه وهم، قال ابن أبي جمرة: لم يذكر في الخبر مآل المذكورين، لكن لما كان من المعلوم أن استقرار الطواغيت في النار علم بذلك أنهم معهم في النار كما قال تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}. قلت: وقد وقع في رواية سهيل التي أشرت إليها قريبا "فتتبع الشياطين والصليب أولياؤهم إلى جهنم" ووقع في حديث أبي سعيد من الزيادة "ثم يؤتى بجهنم كأنها سراب - بمهملة ثم موحدة - فيقال اليهود ما كنتم تعبدون" الحديث وفيه ذكر النصارى، وفيه: "فيتساقطون في جهنم حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر" وفي رواية هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عند ابن خزيمة وابن منده وأصله في مسلم: "فلا يبقى أحد كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار". وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "فيطرح منهم فيها فوج ويقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد" الحديث، وكان اليهود وكذا النصارى ممن كان لا يعبد الصلبان لما كانوا يدعون أنهم يعبدون الله تعالى تأخروا مع المسلمين، فلما حققوا على عبادة من ذكر من الأنبياء ألحقوا بأصحاب الأوثان. ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية. فأما من كان متمسكا بدينه الأصلي فخرج بمفهوم قوله: "الذين كفروا" وعلى ما ذكر من حديث أبي سعيد يبقى أيضا من كان يظهر الإيمان من مخلص ومنافق. قوله: "فتدعى اليهود" قدموا بسبب تقدم ملتهم على ملة النصارى. قوله: "فيقال لهم" لم أقف على تسمية قائل ذلك لهم، والظاهر أنه الملك الموكل بذلك. قوله: "كنا نعبد عزيرا ابن الله" هذا فيه إشكال لأن المتصف بذلك بعض اليهود وأكثرهم ينكرون ذلك، ويمكن أن يجاب بأن خصوص هذا الخطاب لمن كان متصفا بذلك ومن عداهم يكون جوابهم ذكر من كفروا به كما وقع في النصارى فإن منهم من أجاب بالمسيح ابن الله مع أن فيهم من كان بزعمه يعبد الله وحده وهم الاتحادية الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم. قوله: "فيقال لهم كذبتم" قال الكرماني: التصديق والتكذيب لا يرجعان إلى الحكم الذي أشار إليه، فإذا قيل جاء زيد بن عمرو بكذا فمن كذبه أنكر مجيئه بذلك الشيء لا أنه ابن عمرو، وهنا لم ينكر عليهم أنهم عبدوا وإنما أنكر عليهم أن المسيح ابن الله، قال: والجواب عن هذا أن فيه نفي اللازم وهو كونه ابن الله ليلزم نفي الملزوم وهو عبادة ابن الله. قال ويجوز أن يكون الأول بحسب الظاهر وتحصل قرينة بحسب المقام تقتضي الرجوع إليهما جميعا أو إلى المشار إليه فقط، قال ابن بطال: في هذا الحديث أن المنافقين يتأخرون مع المؤمنين رجاء أن ينفعهم ذلك بناء على ما كانوا يظهرونه في الدنيا، فظنوا أن ذلك يستمر لهم، فميز الله تعالى المؤمنين بالغرة والتحجيل إذ لا غرة للمنافق ولا تحجيل. قلت: قد ثبت أن الغرة والتحجيل خاص بالأمة المحمدية، فالتحقيق أنهم في هذا المقام يتميزون بعدم السجود وبإطفاء نورهم بعد أن حصل لهم، ويحتمل أن يحصل لهم الغرة والتحجيل ثم يسلبان عند إطفاء النور. وقال القرطبي: ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين
(11/449)
ينفعهم في الآخرة كما كان ينفعهم في الدنيا جهلا منهم، ويحتمل أن يكونوا حشروا معهم لما كانوا يظهرونه من الإسلام فاستمر ذلك حتى ميزهم الله تعالى منهم، قال: ويحتمل أنهم لما سمعوا "لتتبع كل أمة من كانت تعبد" والمنافق لم يكن يعبد شيئا بقي حائرا حتى ميز. قلت: هذا ضعيف لأنه يقتضي تخصيص ذلك بمنافق كان لا يعبد شيئا، وأكثر المنافقين كانوا يعبدون غير الله من وثن وغيره. قوله: "فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون" في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد "في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة" وفي رواية هشام بن سعد "ثم يتبدى لنا الله في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة" ويأتي في حديث أبي سعيد من الزيادة "فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم ما كانوا يعبدون وإننا ننتظر ربنا" ووقع في رواية مسلم هنا "فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم" ورجح عياض رواية البخاري. وقال غيره: الضمير لله والمعنى فارقنا الناس في معبوداتهم ولم نصاحبهم ونحن اليوم أحوج لربنا، أي إنا محتاجون إليه. وقال عياض: بل أحوج على بابها لأنهم كانوا محتاجين إليه في الدنيا فهم في الآخرة أحوج إليه. وقال النووي: إنكاره لرواية مسلم معترض، بل معناه التضرع إلى الله في كشف الشدة عنهم بأنهم لزموا طاعته وفارقوا في الدنيا من زاغ عن طاعته من أقاربهم مع حاجتهم إليهم في معاشهم ومصالح دنياهم، كما جرى لمؤمني الصحابة حين قاطعوا من أقاربهم من حاد الله ورسوله مع حاجتهم إليهم والارتفاق بهم، وهذا ظاهر في معنى الحديث لا شك في حسنه، وأما نسبة الإتيان إلى الله تعالى فقيل هو عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن كل من غاب عن غيره لا يمكن رؤيته إلا بالمجيء إليه فعبر عن الرؤية بالإتيان مجازا، وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات الحدوث. وقيل فيه حذف تقديره يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض قال: ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لما رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك لأنه مخلوق، قال: ويحتمل وجها رابعا وهو أن المعنى يأتيهم الله بصورة -أي بصفة- تظهر لهم من الصور المخلوقة التي لا تشبه صفة الإله ليختبرهم بذلك، فإذا قال لهم هذا الملك أنا ربكم ورأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم استعاذوا منه لذلك. انتهى. وقد وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن المشار إليها "فيطلع عليهم رب العالمين" وهو يقوي الاحتمال الأول، قال: وأما قوله بعد ذلك "فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها" فالمراد بذلك الصفة، والمعنى فيتجلى الله لهم بالصفة التي يعلمونه بها، وإنما عرفوه بالصفة وإن لم تكن تقدمت لهم رؤيته لأنهم يرون حينئذ شيئا لا يشبه المخلوقين، وقد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون: أنت ربنا، وعبر عن الصفة بالصورة لمجانسة الكلام لتقدم ذكر الصورة. قال: وأما قوله: "نعوذ بالله منك" فقال الخطابي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر من المنافقين، قال القاضي عياض: وهذا لا يصح ولا يستقيم الكلام به. وقال النووي: الذي قاله القاضي صحيح، ولفظ الحديث مصرح به أو ظاهر فيه. انتهى. ورجحه القرطبي في "التذكرة" وقال: إنه من الامتحان الثاني يتحقق ذلك، فقد جاء في حديث أبي سعيد "حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب" وقال ابن العربي: إنما استعاذوا منه أولا لأنهم اعتقدوا أن ذلك الكلام استدراج، لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ومن الفحشاء اتباع الباطل وأهله، ولهذا وقع في الصحيح "فيأتيهم الله في صورة - أي بصورة - لا يعرفونها" وهي الأمر باتباع أهل الباطل، فلذلك يقولون
(11/450)
"إذا جاء ربنا عرفناه" أي إذا جاءنا بما عهدناه منه من قول الحق. وقال ابن الجوزي: معنى الخبر يأتيهم الله بأهوال يوم القيامة ومن صور الملائكة بما لم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقولون: إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا أتانا بما نعرفه من لطفه، وهي الصورة التي عبر عنها بقوله: "يكشف عن ساق" أي عن شدة. وقال القرطبي: هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، وذلك أنه لما بقي المنافقون مختلطين بالمؤمنين زاعمين أنهم منهم ظانين أن ذلك يجوز في ذلك الوقت كما جاز في الدنيا امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع أنا ربكم، فأجابه المؤمنون بإنكار ذلك لما سبق لهم من معرفته سبحانه وأنه منزه عن صفات هذه الصورة، فلهذا قالوا نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا، حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب أي يزل فيوافق المنافقين. قال: وهؤلاء طائفة لم يكن لهم رسوخ بين العلماء ولعلهم الذين اعتقدوا الحق وحوموا عليه من غير بصيرة، قال: ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين هل بينكم وبينه علامة؟ قلت: وهذه الزيادة أيضا من حديث أبي سعيد ولفظه: "آية تعرفونها فيقولون الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيصير ظهره طبقا واحدا" أي يستوي فقار ظهره فلا ينثني للسجود، وفي لفظ لمسلم: "فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود" أي سهل له وهون عليه "ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر لقفاه" وفي حديث ابن مسعود نحوه لكن قال: "فيقولون إن اعترف لنا عرفناه، قال فيكشف عن ساق فيقعون سجودا، وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر" وفي رواية أبي الزعراء عنه عند الحاكم "وتبقى ظهور المنافقين طبقا واحدا كأنما فيها السفافيد" وهي بمهملة وفاءين جمع سفود بتشديد الفاء وهو الذي يدخل في الشاة إذا أريد أن تشوى. ووقع في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عند ابن منده "فيوضع الصراط ويتمثل لهم ربهم" فذكر نحو ما تقدم وفيه: "إذا تعرف لنا عرفناه" وفي رواية العلاء ابن عبد الرحمن "ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه ثم يقول: أنا ربكم فاتبعوني، فيتبعه المسلمون" وقوله في هذه الرواية: "فيعرفهم نفسه" أي يلقي في قلوبهم علما قطعيا يعرفون به أنه ربهم سبحانه وتعالى. وقال الكلاباذي في "معاني الأخبار" عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرفهم بها نفسه، ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول الذي غيرهم حتى غابوا عن رؤية عوراتهم. ووقع في رواية هشام بن سعد "ثم نرفع رءوسنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فنقول: نعم، أنت ربنا" وهذا فيه إشعار بأنهم رأوه في أول ما حشروا والعلم عند الله. وقال الخطابي: هذه الرؤية غير التي تقع في الجنة إكراما لهم، فإن هذه للامتحان وتلك لزيادة الإكرام كما فسرت به {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: ولا إشكال في حصول الامتحان في الموقف لأن آثار التكاليف لا تنقطع إلا بعد الاستقرار في الجنة أو النار. قال: ويشبه أن يقال إنما حجب عنهم تحقق رؤيته أولا لما كان معهم من المنافقين الذين لا يستحقون رؤيته، فلما تميزوا رفع الحجاب فقال المؤمنون حينئذ: أنت ربنا. قلت: وإذا لوحظ ما تقدم من قوله: "إذا تعرف لنا عرفناه" وما ذكرت من تأويله ارتفع الإشكال. وقال الطيبي: لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء أن لا يقع في واحدة منهما ما يخص بالأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة، وفيه الابتلاء والفتنة بالسؤال وغيره، والتحقيق أن التكليف خاص بالدنيا وما يقع في القبر وفي الموقف هي آثار ذلك. ووقع في حديث ابن مسعود من الزيادة "ثم يقال للمسلمين
(11/451)
ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم" وفي لفظ: "فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك ومثل النخلة ودون ذلك حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه" ووقع في رواية مسلم عن جابر "ويعطى كل إنسان منهم نورا -إلى أن قال- ثم يطفئ نور المنافقين" وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه "فيعطى كل إنسان منهم نورا، ثم يوجهون إلى الصراط فما كان من منافق طفئ نوره" وفي لفظ: "فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين فقالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية. وفي حديث أبي أمامة عند ابن أبي حاتم "وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم ينتقلون إلى منزل آخر فتغشى الناس الظلمة، فيقسم النور فيختص بذلك المؤمن ولا يعطى الكافر ولا المنافق منه شيئا، فيقول المنافقون للذين آمنوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا، فيضرب بينهم بسور". قوله: "فيتبعونه" قال عياض أي فيتبعون أمره أو ملائكته الذين وكلوا بذلك. قوله: "ويضرب جسر جهنم" في رواية شعيب بعد قوله أنت ربنا "فيدعوهم فيضرب جسر جهنم". "تنبيه": حذف من هذا السياق ما تقدم من حديث أنس في ذكر الشفاعة لفصل القضاء، كما حذف من حديث أنس ما ثبت هنا من الأمور التي تقع في الموقف، فينتظم من الحديثين أنهم إذا حشروا وقع ما في حديث الباب من تساقط الكفار في النار ويبقى من عداهم في كرب الموقف فيستشفعون، فيقع الإذن بنصب الصراط فيقع الامتحان بالسجود ليتميز المنافق من المؤمن ثم يجوزون على الصراط. ووقع في حديث أبي سعيد هنا "ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز" في رواية شعيب "يجوز بأمته" وفي رواية إبراهيم بن سعد "يجيزها" والضمير لجهنم. قال الأصمعي: جاز الوادي مشى فيه، وأجازه قطعه. وقال غيره: جاز وأجاز بمعنى واحد. وقال النووي: المعنى أكون أنا وأمتي أول من يمضي على الصراط ويقطعه، يقول جاز الوادي وأجازه إذا قطعه وخلفه. وقال القرطبي: يحتمل أن تكون الهمزة هنا للتعدية لأنه لما كان هو وأمته أول من يجوز على الصراط لزم تأخير غيرهم عنهم حتى يجوز، فإذا جاز هو وأمته فكأنه أجاز بقية الناس. انتهى. ووقع في حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم "ثم ينادي مناد أين محمد وأمته؟ فيقوم فتتبعه أمته برها وفاجرها، فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون من يمين وشمال، وينجو النبي والصالحون" وفي حديث ابن عباس يرفعه: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب" وفيه: "فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمر غرا محجلين من آثار الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء". قوله: "ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" في رواية شعيب "ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل" وفي رواية إبراهيم بن سعد "ولا يكلمه إلا الأنبياء، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" ووقع في رواية العلاء "وقولهم اللهم سلم سلم" وللترمذي من حديث المغيرة "شعار المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم" والضمير في الأول للرسل، ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به بل تنطق به الرسل يدعون للمؤمنين بالسلامة فسمي ذلك شعارا لهم، فبهذا تجتمع الأخبار، ويؤيده قوله في رواية سهيل "فعند ذلك حلت الشفاعة اللهم سلم سلم" وفي حديث أبي سعيد من الزيادة "فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب" وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا "فيمر أولهم كمر البرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرحال
(11/452)
تجري بهم أعمالهم" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "ويوضع الصراط فيمر عليه مثل جياد الخيل والركاب" وفي حديث ابن مسعود "ثم يقال لهم انجوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كطرف العين ثم كالبرق ثم كالسحاب ثم كانقضاض الكوكب ثم كالريح ثم كشد الفرس ثم كشد الرحل حتى يمر الرجل الذي أعطى نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه يجر بيد ويعلق يد ويجر برجل ويعلق رجل وتضرب جوانبه النار حتى يخلص" وعند ابن أبي حاتم في التفسير من طريق أبي الزعراء عن ابن مسعود "كمر البرق ثم الريح ثم الطير ثم أجود الخيل ثم أجود الإبل ثم كعدو الرجل، حتى إن آخرهم رجل نوره على موضع إبهامي قدميه ثم يتكفأ به الصراط" وعند هناد بن السري عن ابن مسعود بعد الريح "ثم كأسرع البهائم حتى يمر الرجل سعيا ثم مشيا ثم آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك" ولابن المبارك من مرسل عبد الله بن شقيق "فيجوز الرجل كالطرف وكالسهم وكالطائر السريع وكالفرس الجواد المضمر، ويجوز الرجل يعدو عدوا ويمشي مشيا حتى يكون آخر من ينجو يحبو". قوله: "وبه كلاليب" الضمير للصراط. وفي رواية شعيب "وفي جهنم كلاليب" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به" وفي رواية سهيل "وعليه كلاليب النار" وكلاليب جمع كلوب بالتشديد، وتقدم ضبطه وبيانه في أواخر كتاب الجنائز. قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث الماضي "حفت النار بالشهوات" قال: فالشهوات موضوعة على جوانبها فمن اقتحم الشهوة سقط في النار لأنها خطاطيفها: وفي حديث حذيفة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا" أي يقفان في ناحيتي الصراط، وهي بفتح الجيم والنون بعدها موحدة ويجوز سكون النون، والمعنى أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان هناك للأمين والخائن والمواصل والقاطع فيحاجان عن المحق ويشهدان على المبطل. قال الطيبي ويمكن أن يكون المراد بالأمانة ما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الرحم ما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فيدخل فيه معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فكأنهما اكتنفتا جنبتي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفطرتي الإيمان والدين القويم. قوله: "مثل شوك السعدان" بالسين والعين المهملتين بلفظ التثنية، والسعدان جمع سعدانة وهو نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه قالوا: مرعى ولا كالسعدان. قوله: "أما رأيتم شوك السعدان" هو استفهام تقرير لاستحضار الصورة المذكورة. قوله: "غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله" أي الشوكة، والهاء ضمير الشأن، ووقع في رواية الكشميهني: "غير أنه" وقع في رواية مسلم: "لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله" قال القرطبي: قيدناه -أي لفظ قدر- عن بعض مشايخنا بضم الراء على أنه يكون استفهاما وقدر مبتدأ، وبنصبها على أن تكون ما زائدة وقدر مفعول يعلم. قوله: "فتخطف الناس بأعمالهم" بكسر الطاء وبفتحها قال ثعلب في الفصيح: خطف بالكسر في الماضي وبالفتح في المضارع. وحكى القزاز عكسه، والكسر في المضارع أفصح. قال الزين بن المنير: تشبيه الكلاليب بشوك السعدان خاص بسرعة اختطافها وكثرة الانتشاب فيها مع التحرز والتصون تمثيلا لهم بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة، ثم استثني إشارة إلى أن التشبيه لم يقع في مقدارهما. وفي رواية السدي "وبحافتيه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس" ووقع في حديث أبي سعيد "قلنا وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة" أي
(11/453)
زلق تزلق فيه الأقدام، ويأتي ضبط ذلك في كتاب التوحيد. ووقع عند
مسلم: "قال أبو سعيد: بلغني أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة"،
ووقع في رواية ابن منده من هذا الوجه "قال سعيد بن أبي هلال: بلغني"
ووصله البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مجزوما به، وفي سنده لين. ولابن
المبارك عن مرسل عبيد ابن عمير "إن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، إنه
ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر" وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا
الوجه وفيه: "والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم سلم" وجاء عن الفضيل
بن عياض قال: "بلغنا أن الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسه آلاف صعود وخمسة
آلاف هبوط وخمسة آلاف مستوى أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز
عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله" أخرجه ابن عساكر في ترجمته، وهذا معضل لا
يثبت، وعن سعيد بن أبي هلال قال: "بلغنا أن الصراط أدق من الشعر على بعض
الناس، ولبعض الناس مثل الوادي الواسع" أخرجه ابن المبارك وابن أبي الدنيا
وهو مرسل أو معضل. وأخرج الطبري من طريق غنيم بن قيس أحد التابعين قال: "تمثل
النار للناس، ثم يناديها مناد: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بكل ولي لها فهي
أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم" ورجاله ثقات مع كونه
مقطوعا. قوله: "منهم الموبق بعمله" في رواية شعيب "من يوبق"
وهما بالموحدة بمعنى الهلاك، ولبعض رواة مسلم: "الموثق" بالمثلثة من
الوثائق، ووقع عند أبي ذر رواية إبراهيم بن سعد الآتية في التوحيد بالشك. وفي
رواية الأصيلي: "ومنهم المؤمن -بكسر الميم بعدها نون- بقي بعمله"
بالتحتانية وكسر القاف من الوقاية أي يستره عمله، وفي لفظ بعض رواة مسلم:
"يعني" بعين مهملة ساكنة ثم نون مكسورة بدل بقي وهو تصحيف. قوله:
"ومنهم المخردل" بالخاء المعجمة، في رواية شعيب "ومنهم من
يخردل" ووقع في رواية الأصيلي هنا بالجيم وكذا لأبي أحمد الجرجاني في رواية
شعيب ووهاه عياض والدال مهملة للجميع، وحكى أبو عبيد فيه إعجام الذال ورجح ابن
قرقول الخاء المعجمة والدال المهملة. وقال الهروي المعنى أن كلاليب النار تقطعه
فيهوي في النار، قال كعب بن زهير في بانت سعاد قصيدته المشهورة:
يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من القوم معفور خراديل
فقوله: "معفور" بالعين المهملة والفاء أي واقع في التراب و
"خراديل" أي هو قطع، ويحتمل أن يكون من الخردل أي جعلت أعضاؤه كالخردل،
وقيل معناه أنها تقطعهم عن لحوقهم بمن نجا، وقيل المخردل المصروع ورجحه ابن التين
فقال هو أنسب لسياق الخبر، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أبي ذر "فمنهم
المخردل أو المجازي أو نحوه" ولمسلم عنه "المجازي" بغير شك وهو بضم
الميم وتخفيف الجيم من الجزاء. قوله: "ثم ينجو" في رواية إبراهيم بن سعد
"ثم ينجلي" بالجيم أي يتبين، ويحتمل أن يكون بالخاء المعجمة أي يخلى عنه
فيرجع إلى معنى ينجو، وفي حديث أبي سعيد "فناج مسلم ومخدوش ومكدوس في جهنم
حتى يمر أحدهم فيسحب سحبا" قال ابن أبي جمرة: يؤخذ منه أن المارين على الصراط
ثلاثة أصناف: ناج بلا خدوش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما يصاب ثم ينجو. وكل
قسم منها ينقسم أقساما تعرف بقوله: "بقدر أعمالهم" واختلف في ضبط مكدوس
فوقع في رواية مسلم بالمهملة ورواه بعضهم بالمعجمة ومعناه السوق الشديد ومعنى الذي
بالمهملة الراكب بعضه على بعض، وقيل مكردس والمكردس فقار الظهر وكردس الرجل خيله
جعلها كراديس أي فرقها، والمراد
(11/454)
أنه ينكفأ في قعرها. وعند ابن ماجه من وجه آخر عن أبي سعيد رفعه: "يوضع الصراط بين ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومخدوش به ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها". قوله: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده" كذا لمعمر هنا، ووقع لغيره: "بعد هذا" وقال في رواية شعيب "حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار" قال الزين بن المنير: الفراغ إذا أضيف إلى الله معناه القضاء وحلوله بالمقضي عليه، والمراد إخراج الموحدين وإدخالهم الجنة واستقرار أهل النار في النار، وحاصله أن المعنى يفرغ الله أي من القضاء بعذاب من يفرغ عذابه ومن لا يفرغ فيكون إطلاق الفراغ بطريق المقابلة وإن لم يذكر لفظها. وقال ابن أبي جمرة: معناه وصل الوقت الذي سبق في علم الله أنه يرحمهم، وقد سبق في حديث عمران بن حصين الماضي في أواخر الباب الذي قبله أن الإخراج يقع بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. وعند أبي عوانة والبيهقي وابن حبان في حديث حذيفة "يقول إبراهيم يا رباه حرقت بني فيقول أخرجوا" وفي حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم أن قائل ذلك آدم، وفي حديث أبي سعيد "فما أنتم بأشد مناشدة في الحق، قد يتبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم المؤمنين يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا" الحديث هكذا في رواية الليث الآتية في التوحيد، ووقع فيه عند مسلم من رواية حفص بن ميسرة اختلاف في سياقه سأبينه هناك إن شاء الله تعالى، ويحمل على أن الجميع شفعوا، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم قبلهم في ذلك، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني بسند حسن رفعه: "يدخل من أهل القبلة النار من لا يحصى عددهم إلا الله بما عصوا الله واجترؤوا على معصيته وخالفوا طاعته، فيؤذن لي في الشفاعة فأثني على الله ساجدا كما أثني عليه قائما، فيقال لي: ارفع رأسك" الحديث. ويؤيده أن في حديث أبي سعيد تشفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون، ووقع في رواية عمرو بن أبي عمرو عن أنس عند النسائي ذكر سبب آخر لإخراج الموحدين من النار ولفظه: "وفرغ من حساب الناس وأدخل من بقي من أمتي النار مع أهل النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله لا تشركون به شيئا، فيقول الجبار: فبعزتي لأعتقنهم من النار، فيرسل إليهم فيخرجون" وفي حديث أبي موسى عند ابن أبي عاصم والبزار رفعه: "وإذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة يقول لهم الكفار: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فقالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيأمر الله من كان من أهل القبلة فأخرجوا. فقال الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين" وفي الباب عن جابر وقد تقدم في الباب الذي قبله. وعن أبي سعيد الخدري عند ابن مردويه. ووقع في حديث أبي بكر الصديق "ثم يقال: ادعوا الأنبياء فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون" وفي حديث أبي بكرة عند ابن أبي عاصم والبيهقي مرفوعا: "يحمل الناس على الصراط فينجي الله من شاء برحمته، ثم يؤذن في الشفاعة للملائكة والنبيين والشهداء والصديقين فيشفعون ويخرجون". قوله: "ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله" قال القرطبي: لم يذكر الرسالة إما لأنهما لما تلازما في النطق غالبا وشرطا اكتفي بذكر الأولى أو لأن الكلام في حق جميع المؤمنين هذه الأمة وغيرها، ولو ذكرت الرسالة لكثر تعداد الرسل. قلت: الأول أولى، ويعكر على الثاني أنه يكتفى بلفظ جامع كأن يقول مثلا: ونؤمن برسله، وقد تمسك بظاهره بعض المبتدعة ممن زعم أن من وحد الله من أهل الكتاب يخرج من النار ولو لم يؤمن بغير من أرسل إليه، وهو قول باطل، فإن من جحد الرسالة
(11/455)
كذب الله ومن كذب الله لم يوحده. قوله: "أمر الملائكة أن يخرجوهم" في حديث أبي سعيد "اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار فأخرجوه" وتقدم في حديث أنس في الشفاعة في الباب قبله "فيحد لي حدا فأخرجهم" ويجمع بأن الملائكة يؤمرون على ألسنة الرسل بذلك، فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة. ووقع في الحديث الثالث عشر من الباب الذي قبله تفصيل ذلك. ووقع في حديث أبي سعيد أيضا بعد قوله ذرة "فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا" وفيه: "فيقول الله شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط" وفي حديث معبد عن الحسن البصري عن أنس "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله" وسيأتي بطوله في التوحيد. وفي حديث جابر عند مسلم: "ثم يقول الله: أنا أخرج بعلمي وبرحمتي" وفي حديث أبي بكر "أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئا" قال الطيبي هذا يؤذن بأن كل ما قدر قبل ذلك بمقدار شعيرة ثم حبة ثم خردلة ثم ذرة غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، بل هو ما يوجد في قلوب المؤمنين من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين: أحدهما ازدياد اليقين وطمأنينة النفس، لأن تضافر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لعدمه، والثاني أن يراد العمل وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه قوله في حديث أبي سعيد "لم يعملوا خيرا قط" قال البيضاوي: وقوله ليس ذلك لك أي أنا أفعل ذلك تعظيما لاسمي وإجلالا لتوحيدي، وهو مخصص لعموم حديث أبي هريرة الآتي "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصا" قال: ويحتمل أن يجري على عمومه ويحمل على حال ومقام آخر، قال الطيبي: إذا فسرنا ما يختص بالله بالتصديق المجرد عن الثمرة وما يختص برسوله هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل الصالح حصل الجمع. قلت: ويحتمل وجها آخر وهو أن المراد بقوله ليس ذلك لك مباشرة الإخراج لا أصل الشفاعة، وتكون هذه الشفاعة الأخيرة وقعت في إخراج المذكورين فأجيب إلى أصل الإخراج ومنع من مباشرته فنسبت إلى شفاعته في حديث أسعد الناس لكونه ابتداء بطلب ذلك، والعلم عند الله تعالى. وقد مضى شرح حديث أسعد الناس بشفاعتي في أواخر الباب الذي قبله مستوفى. قوله: "فيعرفونهم بعلامة آثار السجود" في رواية إبراهيم بن سعد "فيعرفونهم في النار بأثر السجود" قال الزين بن المنير: تعرف صفة هذا الأثر مما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} لأن وجوههم لا تؤثر فيها النار فتبقى صفتها باقية. وقال غيره: بل يعرفونهم بالغرة، وفيه نظر لأنها مختصة بهذه الأمة والذين يخرجون أعم من ذلك. قوله: "وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود" هو جواب عن سؤال مقدر تقديره كيف يعرفون أثر السجود مع قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: "فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن الله بالشفاعة" فإذا صاروا فحما كيف يتميز محل السجود من غيره حتى يعرف أثره. وحاصل الجواب تخصيص أعضاء السجود من عموم الأعضاء التي دل علها من هذا الخبر، وأن الله منع النار أن تحرق أثر السجود من المؤمن، وهل المراد بأثر السجود نفس العضو الذي يسجد أو المراد من سجد؟ فيه نظر، والثاني أظهر. قال القاضي عياض: فيه دليل على أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالف لعذاب الكفار، وأنها لا تأتي على جميع أعضائهم إما إكراما لموضع السجود وعظم مكانهم من الخضوع لله تعالى أو لكرامة تلك الصورة التي خلق آدم والبشر عليها وفضلوا بها على سائر الخلق.
(11/456)
قلت: الأول منصوص والثاني محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا
تختص بالمؤمنين، فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار وليس كذلك. قال النووي:
وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي الجبهة واليدان والركبتان
والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وقال عياض: ذكر الصورة ودارات الوجوه يدل على أن
المراد بأثر السجود الوجه خاصة خلافا لمن قال يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص
الوجه أن في بقية الحديث: "أن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه" وفي
حديث سمرة عند مسلم: "وإلى ركبتيه" وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي
سعيد "وإلى حقوه" قال النووي: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك
قوله في الحديث الآخر في مسلم: "إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا
دارات وجوههم" فإنه يحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار،
فيكون الحديث خاصا بهم وغيره عاما فيحمل على عمومه إلا ما خص منه. قلت: إن أراد أن
هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود
خاصة وهو الجبهة سلم من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع
إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغرة كما تقدم النقل عمن قاله. وما تعقبه بأنها خاصة
بهذه الأمة فيضاف إليها التحجيل وهو في اليدين والقدمين مما يصل إليه الوضوء فيكون
أشمل مما قاله النووي من جهة دخول جميع اليدين والرجلين لا تخصيص الكفين والقدمين
ولكن ينقص منه الركبتان، وما استدل به القاضي من بقية الحديث لا يمنع سلامة هذه
الأعضاء مع الانغمار، لأن تلك الأحوال الأخروية خارجة على قياس أحوال أهل الدنيا،
ودل التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار إكراما لمحل السجود،
ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها. وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن
من كان مسلما ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له، لكن يحمل على أنه يخرج في
القبضة لعموم قوله لم يعملوا خيرا قط، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في
التوحيد، وهل المراد بمن يسلم من الإحراق من كان يسجد أو أعم من أن يكون بالفعل أو
القوة؟ الثاني أظهر ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص فبغته الموت قبل أن يسجد ووجدت
بخط أبي رحمه الله تعالى ولم أسمعه منه من نظمه ما يوافق مختار النووي وهو قوله:
يا رب أعضاء السجود عتقتها ... من عبدك الجاني وأنت الواقي
والعتق يسري بالغنى يا ذا الغنى ... فامنن على الفاني بعتق الباقي
قوله: "فيخرجونهم قد امتحشوا" هكذا وقع هنا، وكذا وقع في حديث أبي سعيد
في التوحيد عن يحيى بن بكير عن الليث بسنده، ووقع عند أبي نعيم من رواية أحمد بن
إبراهيم بن ملحان عن يحيى بن بكير "فيخرجون من عرفوا" ليس فيه: "قد
امتحشوا" وإنما ذكرها بعد قوله فيقبض قبضة، وكذا أخرجه البيهقي وابن منده من
رواية روح بن الفرج ويحيى بن أبي أيوب العلاف كلاهما عن يحيى بن بكير به، قال
عياض: ولا يبعد أن الامتحاش يختص بأهل القبضة والتحريم على النار أن تأكل صورة
الخارجين أولا قبلهم ممن عمل الخير على التفصيل السابق والعلم عند الله تعالى.
وتقدم ضبط "امتحشوا" وأنه بفتح المثناة والمهملة وضم المعجمة أي احترقوا
وزنه ومعناه، والمحش احتراق الجلد وظهور العظم. قال عياض: ضبطناه عن متقني شيوخنا
وهو وجه الكلام، وعند بعضهم بضم المثناة وكسر الحاء، ولا يعرف في اللغة امتشحه
متعديا وإنما سمع لازما مطاوع محشته يقال محشته، وأمحشته، وأنكر يعقوب بن السكيت
الثلاثي. وقال غيره: أمحشته فامتحش وأمحشه الحر أحرقه والنار أحرقته
(11/457)
وامتحش هو غضبا.وقال أبو نصر الفارابي: والامتحاش الاحتراق. قوله: "فيصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة" في حديث أبي سعيد "فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة" والأفواه جمع فوهة على غير قياس والمراد بها الأوائل، وتقدم في الإيمان من طريق يحيى بن عمران عن أبي سعيد "في نهر الحياة أو الحياء" بالشك. وفي رواية أبي نضرة عند مسلم: "على نهر يقال له الحيوان أو الحياة" وفي أخرى له "فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة" وفي تسمية ذلك النهر به إشارة إلى أنهم لا يحصل لهم الفناء بعد ذلك. قوله: "فينبتون نبات الحبة" بكسر المهملة وتشديد الموحدة، تقدم في كتاب الإيمان أنها بزور الصحراء والجمع حبب بكسر المهملة وفتح الموحدة بعدها مثلها، وأما الحبة بفتح أوله وهو ما يزرعه الناس فجمعها حبوب بضمتين، ووقع في حديث أبي سعيد "فينبتون في حافتيه" وفي رواية لمسلم: "كما تنبت الغثاءة" بضم الغين المعجمة بعدها مثلثة مفتوحة وبعد الألف همزة ثم هاء تأنيث هو في الأصل كل ما حمله السيل من عيدان وورق وبزور وغيرها، والمراد به هنا ما حمله من البزور خاصة. قوله: "في حميل السيل" بالحاء المهملة المفتوحة والميم المكسورة أي ما يحمله السيل. وفي رواية يحيى بن عمارة المشار إليها إلى جانب السيل، والمراد أن الغثاء الذي يجيء به السيل يكون فيه الحبة فيقع في جانب الوادي فتصبح من يومها نابتة، ووقع في رواية لمسلم: "في حمئة السيل" بعد الميم همزة ثم هاء، وقد تشبع الميم فيصير بوزن عظيمة، وهو ما تغير لونه من الطين، وخص بالذكر لأنه يقع فيه النبت غالبا. قال ابن أبي جمرة فيه إشارة إلى سرعة نباتهم، لأن الحبة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء مع ما خالطه من حرارة الزبل المجذوب معه، قال: ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفا بجميع أمور الدنيا بتعليم الله تعالى له وإن لم يباشر ذلك. وقال القرطبي: اقتصر المازري على أن موقع التشبيه السرعة، وبقي عليه نوع آخر دل عليه قوله في الطريق الأخرى "ألا ترونها تكون إلى الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصفر وأخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض" وفيه تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة يسبق إليه البياض المستحسن، وما يكون منهم إلى جهة النار يتأخر النصوع عنه فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحسن والنور ونضارة النعمة عليهم. قال: ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن الذي يباشر الماء يعني الذي يرش عليهم يسرع نصوعه وإن غيره يتأخر عنه النصوع لكنه يسرع إليه، والله أعلم. قوله: "ويبقى رجل" زاد في رواية الكشميهني: "منهم مقبل بوجهه على النار هو آخر أهل النار دخولا الجنة" تقدم القول في آخر أهل النار خروجا منها في شرح الحديث الثاني والعشرين من الباب الذي قبله، ووقع في وصف هذا الرجل أنه كان نباشا وذلك في حديث حذيفة كما تقدم في أخبار بني إسرائيل "أن رجلا كان يسيء الظن بعمله، فقال لأهله أحرقوني" الحديث وفي آخره: "كان نباشا" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما وفيه: "ثم يقول الله: انظروا هل بقي في النار أحد عمل خيرا قط؟ فيجدون رجلا فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع" الحديث وفيه: "ثم يخرجون من النار رجلا آخر فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني" الحديث. وجاء من وجه آخر أنه "كان يسأله الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني
(11/458)
الجنة" أخرجه الحسين المروزي في زيادات الزهد لابن المبارك من حديث عوف الأشجعي رفعه: "قد علمت آخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل كان يسأل الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني الجنة، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقي بين ذلك فيقول: يا رب قربني من باب الجنة أنظر إليها وأجد من ريحها، فيقربه، فيرى شجرة" الحديث، وهو عند ابن أبي شيبة أيضا. وهذا يقوي التعدد، لكن الإسناد ضعيف. وقد ذكرت عن عياض في شرح الحديث السابع عشر أن آخر من يخرج من النار هل هو آخر من يبقى على الصراط أو هو غيره وإن اشترك كل منهما في أنه آخر من يدخل الجنة، ووقع في نوادر الأصول للترمذي الحكيم من حديث أبي هريرة أن أطول أهل النار فيها مكثا من يمكث سبعة آلاف سنة وسند هذا الحديث واه والله أعلم. وأشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر من يخرج من النار وهو المذكور في الباب الماضي وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة وبين آخر من يخرج ممن يبقى مارا على الصراط فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشارك به بعض من دخلها. وقد وقع في "غرائب مالك للدار قطني" من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: "إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين" وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هناد، وجوز غيره أن يكون أحد الاسمين لأحد المذكورين والآخر للآخر. قوله: "فيقول يا رب" في رواية إبراهيم بن سعد في التوحيد "أي رب". قوله: "قد قشبني ريحها" بقاف وشين معجمة مفتوحتين مخففا -وحكى التشديد- ثم موحدة، قال الخطابي: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ يكظمه، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال قشبه إذا سمه، ثم استعمل فيما إذا بلغ الدخان والرائحة الطيبة منه غايته. وقال النووي: معنى قشبني سمني وآذاني وأهلكني، هكذا قاله جماهير أهل اللغة. وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي. قلت: ولا يخفى حسن قول الخطابي، وأما الداودي فكثيرا ما يفسر الألفاظ الغريبة بلوازمها ولا يحافظ على أصول معانيها. وقال ابن أبي جمرة: إذا فسرنا القشب بالنتن والمستقذر كانت فيه إشارة إلى طيب ريح الجنة وهو من أعظم نعيمها، وعكسها النار في جميع ذلك. وقال ابن القطاع: قشب الشيء خلطه بما يفسده من سم أو غيره، وقشب الإنسان لطخه بسوء كاغتابه وعابه، وأصله السم فاستعمل بمعنى أصابه المكروه إذا أهلكه أو أفسده أو غيره أو أزال عقله أو تقذره هو، والله أعلم. قوله: "وأحرقني ذكاؤها" كذا للأصيلي وكريمة هنا بالمد وكذا في رواية إبراهيم بن سعد. وفي رواية أبي ذر وغيره ذكاها بالقصر وهو الأشهر في اللغة. وقال ابن القطاع: يقال ذكت النار تذكو ذكا بالقصر وذكوا بالضم وتشديد الواو أي كثر لهبها واشتد اشتعالها ووهجها، وأما ذكا الغلام ذكاء بالمد فمعناه أسرعت فطنته. قال النووي: المد والقصر لغتان ذكره جماعه فيها، وتعقبه مغلطاي بأنه لم يوجد عن أحد من المصنفين في اللغة ولا في الشارحين لدواوين العرب حكاية المد إلا عن أبي حنيفة الدينوري في "كتاب النبات" في مواضع منها ضرب العرب المثل بجمر الغضا لذكائه، قال: وتعقبه علي بن حمزة الأصبهاني فقال: ذكا النار مقصور ويكتب بالألف لأنه واوي يقال ذكت النار تذكو ذكوا وذكاء النار وذكو النار بمعنى وهو التهابها والمصدر ذكاء وذكو وذكو، بالتخفيف والتثقيل، فأما الذكاء بالمد فلم يأت عنهم في النار وإنما جاء في الفهم. وقال ابن قرقول في "المطالع" وعليه يعتمد الشيخ، وقع في مسلم فقد أحرقني ذكاؤها بالمد والمعروف في شدة حر النار القصر إلا أن الدينوري ذكر فيه المد وخطأه علي بن حمزة فقال: ذكت النار ذكا وذكوا ومنه طيب ذكي منتشر الريح، وأما الذكاء بالمد فمعناه تمام الشيء ومنه ذكاء القلب. وقال صاحب الأفعال: ذكا الغلام والعقل أسرع في الفطنة،
(11/459)
وذكا الرجل ذكاء من حدة فكره، وذكت النار ذكا بالقصر توقدت. قوله: "فاصرف وجهي عن النار" قد استشكل كون وجهه إلى جهة النار والحال أنه ممن يمر على الصراط طالبا إلى الجنة فوجهه إلى الجنة، لكن وقع في حديث أبي أمامة المشار إليه قبل أنه ينقلب على الصراط ظهرا لبطن فكأنه في تلك الحالة انتهى إلى آخره فصادف أن وجهه كان من قبل النار، ولم يقدر على صرفه عنها باختياره فسأل ربه في ذلك. قوله: "فيصرف وجهه عن النار" بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية شعيب "فيصرف الله" ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود عند مسلم وفي حديث أبي سعيد عند أحمد والبزار نحوه أنه "يرفع له شجرة فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: لعلي إن أعطيتك تسألني غيرها، فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأل غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه" وفيه أنه "يدنو منها وأنه يرفع له شجرة أخرى أحسن من الأولى عند باب الجنة ويقول في الثالثة ائذن لي في دخول الجنة" وكذا وقع في حديث أنس الآتي في التوحيد من طريق حميد عنه رفعه: "آخر من يخرج من النار ترفع له شجرة" ونحوه لمسلم من طريق النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد بلفظ: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثلت له شجرة" ويجمع بأنه سقط من حديث أبي هريرة هنا ذكر الشجرات كما سقط من حديث ابن مسعود ما ثبت في حديث الباب من طلب القرب من باب الجنة. قوله: "ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة" في رواية شعيب "قال يا رب قدمني". قوله: "فيقول: أليس قد زعمت" في رواية شعيب "فيقول الله: أليس قد أعطيت العهد والميثاق". قوله: "لعلي إن أعطيتك ذلك" في رواية التوحيد "فهل عسيت إن فعلت بك ذلك أن تسألني غيره" أما "عسيت" ففي سينها الوجهان الفتح والكسر، وجملة "أن تسألني" هي خبر عسى، والمعنى هل يتوقع منك سؤال شيء غير ذلك وهو استفهام تقرير لأن ذلك عادة بني آدم، والترجي راجع إلى المخاطب لا إلى الرب، وهو من باب إرخاء العنان إلى الخصم ليبعثه ذلك على التفكر في أمره والإنصاف من نفسه. قوله: "فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق" يحتمل أن يكون فاعل "شاء" الرجل المذكور أو الله، قال ابن أبي جمرة: إنما بادر للحلف من غير استخلاف لما وقع له من قوة الفرح بقضاء حاجته فوطن نفسه على أن لا يطلب مزيدا وأكده بالحلف. قوله: "فإذا رأى ما فيها سكت" في رواية شعيب "فإذا بلغ بابها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة" وفي رواية إبراهيم بن سعد "من الحبرة" بفتح المهملة وسكون الموحدة، ولمسلم: "الخير" بمعجمة وتحتانية بلا هاء، والمراد أنه يرى ما فيها من خارجها إما لأن جدارها شفاف فيرى باطنها من ظاهرها كما جاء في وصف الغرف، وإما أن المراد بالرؤية العلم الذي يحصل له من سطوع رائحتها الطيبة وأنوارها المضيئة كما كان يحصل له أذى لفح النار وهو خارجها. قوله: "ثم قال" في رواية إبراهيم بن سعد "ثم يقول". قوله: "ويلك" في رواية شعيب "ويحك". قوله: "يا رب لا تجعلني أشقى خلقك" المراد بالخلق هنا من دخل الجنة، فهو لفظ عام أريد به خاص، ومراده أنه يصير إذا استمر خارجا عن الجنة أشقاهم، وكونه أشقاهم ظاهر لو استمر خارج الجنة وهم من داخلها، قال الطيبي: معناه يا رب قد أعطيت العهد والميثاق ولكن تفكرت في كرمك ورحمتك فسألت وقع في الرواية التي في كتاب الصلاة "لا أكون أشقى خلقك" وللقابسي "لأكونن" قال ابن التين المعنى لئن أبقيتني على هذه الحالة ولم تدخلني الجنة لأكونن، والألف في الرواية الأولى زائدة. وقال الكرماني: معناه لا أكون كافرا. قلت: هذا أقرب
(11/460)
مما قال ابن التين ولو استحضر هذه الرواية التي هنا ما احتاج إلى التكلف الذي أبداه، فإن قوله: "لا أكون" لفظه لفظ الخبر ومعناه الطلب، ودل عليه قوله: "لا تجعلني" ووجه كونه أشقى أن الذي يشاهد ما يشاهده ولا يصل إليه يصير أشد حسرة ممن لا يشاهد، وقوله: "خلقك" مخصوص بمن ليس من أهل النار. قوله: "فإذا ضحك منه" تقدم معنى الضحك في شرح الحديث الماضي قريبا. قوله: "ثم يقال له تمن من كذا فيتمنى" في رواية أبي سعيد عند أحمد "فيسأل ويتمنى مقدار ثلاثة أيام من أيام الدنيا" وفي رواية التوحيد "حتى إن الله ليذكره من كذا" وفي حديث أبي سعيد "ويلقنه الله ما لا علم له به". قوله: "قال أبو هريرة" هو موصول السند المذكور. قوله: "وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا" سقط هذا من رواية شعيب. وثبت في رواية إبراهيم بن سعد هنا، ووقع ذلك في رواية مسلم مرتين إحداهما هنا والأخرى في أوله عند قوله: "ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار".قوله: "قال عطاء وأبو سعيد" أي الخدري، والقائل هو عطاء بن يزيد بينه إبراهيم بن سعد في روايته عن الزهري قال: قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري. قوله: "لا يغير عليه شيئا" في رواية إبراهيم بن سعد لا يرد عليه. قوله: "هذا لك ومثله معه، قال أبو سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية إبراهيم بن سعد "قال أبو سعيد وعشرة أمثاله يا أبا هريرة فقال" فذكره، وفيه: "قال أبو سعيد الخدري: أشهد أني حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في حديث أنس عند ابن مسعود "يرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر "انظر إلى ملك أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله، فيقول أتسخر بي وأنت الملك" ووقع عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا في هذا الحديث: "فقال أبو سعيد ومثله معه، فقال أبو هريرة وعشرة أمثاله، فقال أحدهما لصاحبه حدث بما سمعت وأحدث بما سمعت" وهذا مقلوب فإن الذي في الصحيح هو المعتمد وقد وقع عند البزار من الوجه الذي أخرجه منه أحمد على وفق ما في الصحيح. نعم وقع في حديث أبي سعيد الطويل المذكور في التوحيد من طريق أخرى عنه بعد ذكر من يخرج من عصاة الموحدين فقال في آخره: "فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه" فهذا موافق لحديث أبي هريرة في الاقتصار على المثل ويمكن أن يجمع أن يكون عشرة الأمثال إنما سمعه أبو سعيد في حق آخر أهل الجنة دخولا والمذكور هنا في حق جميع من يخرج بالقبضة، وجمع عياص بين حديثي أبي سعيد وأبي هريرة باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أولا قوله: "ومثله معه" فحدت به ثم حدث النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة فسمعه أبو سعيد، وعلى هذا فيقال سمعه أبو سعيد وأبو هريرة معا أولا ثم سمع أبو سعيد الزيادة بعد، وقد وقع في حديث أبي سعيد أشياء كثيرة زائدة على حديث أبي هريرة نبهت على أكثرها فيما تقدم قريبا، وظاهر قوله: "هذا لك وعشرة أمثاله" أن العشرة زائدة على الأصل. ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود "لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا" وحمل على أنه تمنى أن يكون له مثل الدنيا فيطابق حديث أبي سعيد. ووقع في رواية لمسلم عن ابن مسعود "لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها" والله أعلم. وقال الكلاباذي إمساكه أولا عن السؤال حياء من ربه والله يحب أن يسئل لأنه يحب صوت عبده المؤمن فيباسطه بقوله أولا "لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره" وهذه حالة المقصر فكيف حالة المطيع، وليس نقض هذا العبد عهده وتركه ما أقسم عليه جهلا منه ولا قلة مبالاة بل علما منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به، لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاة للقسم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر على يمينه وليأت الذي
(11/461)
هو خير" فعمل هذا العبد على وفق هذا الخبر، والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة. قال ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: في هذا الحديث من الفوائد جواز مخاطبة الشخص بما لا تدرك حقيقته، وجواز التعبير عن ذلك بما يفهمه، وأن الأمور التي في الآخرة لا تشبه بما في الدنيا إلا في الأسماء والأصل مع المبالغة في تفاوت الصفة والاستدلال على العلم الضروري بالنظري، وأن الكلام إذا كان محتملا لأمرين يأتي المتكلم بشيء يتخصص به مراده عند السامع، وأن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، وأن امتثال الأمر في الموقف يقع بالاضطرار. وفيه فضيلة الإيمان لأنه لما تلبس به المنافق ظاهرا بقيت عليه حرمته إلى أن وقع التمييز بإطفاء النور وغير ذلك، وأن الصراط مع دقته وحدته يسع جميع المخلوقين منذ آدم إلى قيام الساعة. وفيه أن النار مع عظمها وشدتها لا تتجاوز الحد الذي أمرت بإحراقه، والآدمي مع حقارة جرمه يقدم على المخالفة ففيه معنى شديد من التوبيخ وهو كقوله تعالى في وصف الملائكة {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وفيه إشارة إلى توبيخ الطغاة والعصاة، وفيه فضل الدعاء وقوة الرجاء في إجابة الدعوة ولو لم يكن الداعي أهلا لذلك في ظاهر الحكم لكن فضل الكريم واسع. وفي قوله في آخره في بعض طرقه: "ما أغدرك" إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم إلا بعد أن يتكرر ذلك منه. وفيه إطلاق اليوم على جزء منه لأن يوم القيامة في الأصل يوم واحد وقد أطلق اسم اليوم على كثير من أجزائه. وفيه جواز سؤال الشفاعة خلافا لمن منع محتجا بأنها لا تكون إلا لمذنب. قال عياض: وفات هذا القائل أنها قد تقع في دخول الجنة بغير حساب وغير ذلك كما تقدم بيانه، مع أن كل عاقل معترف بالتقصير فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره، وكذا كل عامل يخشى أن لا يقبل عمله فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله. قال: ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة وهو خلاف ما درج عليه السلف في أدعيتهم. وفي الحديث أيضا تكليف ما لا يطاق لأن المنافقين يؤمرون بالسجود وقد منعوا منه، كذا قيل وفيه نظر لأن الأمر حينئذ للتعجيز والتبكيت. وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، قال الطيبي: وقول من أثبت الرؤية ووكل علم حقيقتها إلى الله فهو الحق، وكذا قول من فسر الإتيان بالتجلي هو الحق لأن ذلك قد تقدمه قوله: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر" وزيد في تقرير ذلك وتأكيده وكل ذلك يدفع المجاز عنه والله أعلم. واستدل به بعض السالمية ونحوهم على أن المنافقين وبعض أهل الكتاب يرون الله مع المؤمنين، وهو غلط لأن في سياق حديث أبي سعيد أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى بعد رفع رءوسهم من السجود وحينئذ يقولون أنت ربنا، ولا يقع ذلك للمنافقين ومن ذكر معهم، وأما الرؤية التي اشترك فيها الجميع قبل فقد تقدم أنه صورة الملك وغيره. قلت: ولا مدخل أيضا لبعض أهل الكتاب في ذلك لأن في بقية الحديث أنهم يخرجون من المؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإيمان ويقال لهم ما كنتم تعبدون؟ وأنهم يتساقطون في النار، وكل ذلك قبل الأمر بالسجود. وفيه أن جماعة من مذنبي هذه الأمة يعذبون بالنار ثم يخرجون بالشفاعة والرحمة خلافا لمن نفى ذلك عن هذه الأمة وتأول ما ورد بضروب متكلفة، والنصوص الصريحة متضافرة متظاهرة بثبوت ذلك، وأن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار لاختلاف مراتبهم من أخذ النار بعضهم إلى ساقه وأنها لا تأكل أثر السجود، وأنهم يموتون فيكون عذابهم إحراقهم وحبسهم عن دخول الجنة سريعا كالمسجونين، بخلاف الكفار الذين لا يموتون أصلا ليذوقوا العذاب ولا يحيون حياة يستريحون بها، على أن بعض أهل العلم أول ما وقع في حديث أبي سعيد من قوله
(11/462)
يموتون فيها إماتة بأنه ليس المراد أن يحصل لهم الموت حقيقة وإنما هو كناية عن غيبة إحساسهم، وذلك للرفق بهم، أو كني عن النوم بالموت وقد سمى الله النوم وفاة، ووقع في حديث أبي هريرة أنهم إذا دخلوا النار ماتوا فإذا أراد الله إخراجهم أمسهم ألم العذاب تلك الساعة، قال وفيه ما طبع عليه الآدمي من قوة الطمع وجودة الحيلة في تحصيل المطلوب، فطلب أولا أن يبعد من النار ليحصل له نسبة لطيفة بأهل الجنة، ثم طلب الدنو منهم وقد وقع في بعض طرقه طلب الدنو من شجرة بعد شجرة إلى أن طلب الدخول، ويؤخذ منه أن صفات الآدمي التي شرف بها على الحيوان تعود له كلها بعد بعثته كالفكر والعقل وغيرهما، انتهى ملخصا مع زيادات في غضون كلامه والله المستعان.
(11/463)
53 - باب فِي الْحَوْضِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"
7575- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"
[الحديث 6575- طرفاه في 6576، 7049]
6576- و حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ "عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَلَيُرْفَعَنَّ مَعِي
رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي
فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
تَابَعَهُ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَالَ حُصَيْنٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
"عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6577- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي
نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ
جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ"
6578- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو
بِشْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي
أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدٍ إِنَّ أُنَاسًا
يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهَرُ الَّذِي فِي
الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"
6579- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ
اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ
مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا"
6580- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
(11/463)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ
وَصَنْعَاءَ مِنْ الْيَمَنِ وَإِنَّ فِيهِ مِنْ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ
السَّمَاءِ"
6581- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا
هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ
قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ قُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا
الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ مِسْكٌ
أَذْفَرُ شَكَّ هُدْبَةُ"
6582- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ
حَتَّى عَرَفْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيَقُولُ لاَ
تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
6583- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ
عَلَيَّ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ
أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ"
[الحديث 6583- طرفه في: 7050]
6584- قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ
هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ فِيهَا فَأَقُولُ إِنَّهُمْ
مِنِّي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ
"سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي"
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُحْقًا بُعْدًا يُقَالُ سَحِيقٌ بَعِيدٌ سَحَقَهُ
وَأَسْحَقَهُ أَبْعَدَهُ
[الحديث 6584- طرفه في: 7051]
6585- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَبَطِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي
عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي
فَيُحَلَّئُونَ عَنْ الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ
لاَ عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى"
[الحديث 6585 طرفه: 6586]
6586- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ
(11/464)
أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ "عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ "يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي
فَيُحَلَّئُونَ عَنْهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لاَ
عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
الْقَهْقَرَى"
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُجْلَوْنَ وَقَالَ عُقَيْلٌ
فَيُحَلَّئُونَ.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6587- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى
إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ
فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ
إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا
زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ
فَقَالَ هَلُمَّ قُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ مَا
شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى
فَلاَ أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ"
6588- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ
عَاصِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي
رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"
6589- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"
6590- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ
أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ
صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ
"إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ
لاَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ
أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ
تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"
6591- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ
عُمَارَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ
بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ "كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ"
6592- وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ
"عَنْ حَارِثَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَوْلَهُ حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ
الْمُسْتَوْرِدُ أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ الأَوَانِي قَالَ لاَ قَالَ
الْمُسْتَوْرِدُ تُرَى فِيهِ الْآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ"
(11/465)
6593- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ
بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ
وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ
هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ
بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا أَعْقَابِكُمْ
تَنْكِصُونَ تَرْجِعُونَ عَلَى الْعَقِبِ"
[الحديث 6593- طرفه في: 7048]
قوله: "باب في الحوض" أي حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع الحوض حياض
وأحواض وهو مجمع الماء، وإيراد البخاري لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة وبعد نصب
الصراط إشارة منه إلى أن الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط والمرور عليه، وقد
أخرج أحمد والترمذي من حديث النضر بن أنس عن أنس قال: "سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني
على الصراط. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا
عند الحوض" وقد استشكل كون الحوض بعد الصراط بما سيأتي في بعض أحاديث هذا
الباب أن جماعة يدفعون عن الحوض بعد أن يكادوا يردون ويذهب بهم إلى النار، ووجه
الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض يكون قد نجا من النار فكيف
يرد إليها؟ ويمكن أن يحمل على أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه ويرون النار
فيدفعون إلى النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط. وقال أبو عبد الله القرطبي في
"التذكرة": ذهب صاحب "القوت" وغيره إلى أن الحوض يكون بعد
الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح، أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما
في الموقف قبل الصراط والآخر داخل الجنة وكل منهما يسمى كوثرا. قلت: وفيه نظر لأن
الكوثر نهر داخل الجنة كما تقدم ويأتي، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر
لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أن الحوض يكون قبل الصراط، فإن
الناس يردون الموقف عطاشى فيرد المؤمنون الحوض وتتساقط الكفار في النار بعد أن
يقولوا ربنا عطشنا، فترفع لهم جهنم كأنها سراب فيقال: ألا تردون؟ فيظنونها ماء
فيتساقطون فيها. وقد أخرج مسلم من حديث أبي ذر أن الحوض يشخب فيه ميزابان من
الجنة، وله شاهد من حديث ثوبان، وهو حجة على القرطبي لا له، لأنه قد تقدم أن
الصراط جسر جهنم وأنه بين الموقف والجنة وأن المؤمنين يمرون عليه لدخول الجنة، فلو
كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر
الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، وفي حديث ابن
مسعود عند أحمد "ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض" وقد قال القاضي عياض: ظاهر
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحوض "من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا"
يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ
أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها
بالظمأ بل بغيره. قلت: ويدفع هذا الاحتمال أنه وقع في حديث أبي بن كعب عند ابن أبي
عاصم في ذكر الحوض "ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا" وعند عبد الله بن أحمد
في زيادات المسند في الحديث الطويل عن لقيط بن عامر أنه "وفد على رسول
(11/466)
الله صلى الله عليه وسلم هو ونهيك بن عاصم، قال: فقدمنا المدينة
عند انسلاخ رجب فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة
الغداة" الحديث بطوله في صفة الجنة والبعث وفيه: "تعرضون عليه بادية له
صفا حكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ غرفة من ماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما
يخطئ وجه أحدكم قطرة، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر
فتخطمه مثل الخطام الأسود، ثم ينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون فيسلكون جسرا
من النار، يطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك أوانه إلا، فيطلعون على حوض
الرسول على أظماء والله ناهلة رأيتها أبدا1 ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع على
قدح" الحديث. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني والحاكم، وهو صريح في
أن الحوض قبل الصراط. قوله: "وقول الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر" أشار
إلى أن المراد بالكوثر النهر الذي يصب في الحوض فهو مادة الحوض كما جاء صريحا في
سابع أحاديث الباب، ومضى في تفسير سورة الكوثر من حديث عائشة نحوه مع زيادة بيان
فيه، وتقدم الكلام على حديث ابن عباس أن الكوثر هو الخير الكثير، وجاء إطلاق
الكوثر على الحوض في حديث المختار بن فلفل عن أنس في ذكر الكوثر "هو حوض ترد
عليه أمتي" وقد اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج
الترمذي من حديث سمرة رفعه: "إن لكل نبي حوضا" وأشار إلى أنه اختلف في
وصله وإرساله وأن المرسل أصح. قلت: والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن
الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضا وهو قائم على
حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو
أن أكون أكثرهم تبعا" ، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن سمرة موصولا مرفوعا
مثله وفي سنده لين. وأخرج ابن أبي الدنيا أيضا من حديث أبي سعيد رفعه: "وكل
نبي يدعو أمته ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام ومنهم من يأتيه العصبة ومنهم
من يأتيه الواحد ومنهم من يأتيه الاثنان ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء
تبعا يوم القيامة" وفي إسناده لين، وإن ثبت فالمختص بنبينا صلى الله عليه
وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه فإنه لم ينقل نظيره لغيره ووقع الامتنان
عليه به في السورة المذكورة قال القرطبي في "المفهم" تبعا للقاضي عياض
في غالبه: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص
نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث
الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، إذ روي ذلك عن النبي صلى الله
عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين وفي
غيرهما بقية ذلك مما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من
التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرا، وأجمع على إثباته السلف وأهل
السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله
من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو
إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف. قلت: أنكره الخوارج
وبعض المعتزلة، وممن كان ينكره عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق لمعاوية وولده،
فعند أبي داود من طريق عبد السلام بن أبي حازم قال: شهدت أبا برزة الأسلمي دخل على
عبيد الله بن زياد فحدثني فلان وكان في السماط فذكر قصة فيها أن ابن زياد ذكر
الحوض فقال هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئا؟ فقال أبو برزة:
نعم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا فمن كذب به فلا سقاه الله منه.
وأخرج البيهقي في البعث
ـــــــ
1 كذا الأصل, ولعل في بعض الكلمات تصحيفا.
غ
(11/467)
من طريق أبي حمزة عن أبي برزة نحوه، ومن طريق يزيد بن حبان التيمي: شهدت زيد بن أرقم وبعث إليه ابن زياد فقال: ما أحاديث تبلغني أنك تزعم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضا في الجنة؟ قال: حدثنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند أحمد من طريق عبد الله بن بريدة عن أبي سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة الهذلي قال: قال عبيد الله بن زياد: ما أصدق بالحوض، وذلك بعد أن حدثه أبو برزة والبراء وعائذ بن عمرو، فقال له أبو سبرة بعثني أبوك في مال إلى معاوية فلقيني عبد الله بن عمرو فحدثني وكتبته بيدي من فيه أنه "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "موعدكم حوضي" الحديث فقال ابن زياد حينئذ: أشهد أن الحوض حق وعند أبي يعلى من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس "دخلت على ابن زياد وهم يذكرون الحوض فقال هذا أنس، فقلت: لقد كانت عجائز بالمدينة كثيرا ما يسألن ربهن أن يسقيهن من حوض نبيهن" وسنده صحيح. وروينا في فوائد العيسوي وهو في البعث للبيهقي من طريقه بسند صحيح عن حميد عن أنس نحوه وفيه: "ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم ينكر الحوض" وأخرج البيهقي أيضا من طريق يزيد الرقاشي عن أنس في صفة الحوض" وسيأتيه قوم ذابلة شفاههم لا يطعمون منه قطرة، من كذب به اليوم لم يصب الشرب منه يومئذ" ويزيد ضعيف لكن يقويه ما مضى، ويشبه أن يكون الكلام الأخير من قول أنس. قال عياض: أخرج مسلم أحاديث الحوض عن ابن عمر وأبي سعيد وسهل بن سعد وجندب وعبد الله بن عمرو وعائشة وأم سلمة وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب والمستورد وأبي ذر وثوبان وأنس وجابر بن سمرة، قال: ورواه غير مسلم عن أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وعبد الله بن زيد وسويد بن جبلة وعبد الله الصنابحي والبراء بن عازب. وقال النووي بعد حكاية كلامه مستدركا عليه: رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما من رواية عمر وعائذ بن عمرو وآخرين، وجمع ذلك كله البيهقي في البعث بأسانيده وطرقه المتكاثرة. قلت: أخرجه البخاري في هذا الباب عن الصحابة الذين نصب عياض لمسلم تخريجه عنهم إلا أم سلمة وثوبان وجابر بن سمرة وأبا ذر، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن زيد وأسماء بنت أبي بكر وأخرجه مسلم عنهما أيضا وأغفلهما عياض، وأخرجاه أيضا عن أسيد بن حضير، وأغفل عياض أيضا نسبة الأحاديث، وحديث أبي بكر عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما، وحديث زيد بن أرقم عند البيهقي وغيره، وحديث خولة بنت قيس عند الطبراني، وحديث أبي أمامة عند ابن حبان وغيره، وأما حديث سويد بن جبلة فأخرجه أبو زرعة الدمشقي في مسند الشاميين وكذا ذكر ابن منده في الصحابة وجزم ابن أبي حاتم بأن حديثه مرسل، وأما حديث عبد الله الصنابحي فغلط عياض في اسمه وإنما هو الصنابح بن الأعسر وحديثه عند أحمد وابن ماجه بسند صحيح ولفظه: "إني فرطكم على الحوض، وإني مكاثر بكم" الحديث فإن كان كما ظننت وكان ضبط اسم الصحابي وأنه عبد الله فتزيد العدة واحدا لكن ما عرفت من خرجه من حديث عبد الله الصنابحي وهو صحابي آخر غير عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي التابعي المشهور وقول النووي إن البيهقي استوعب طرقه يوهم أنه أخرج زيادة على الأسماء التي ذكرها حيث قال وآخرين، وليس كذلك فإنه لم يخرج حديث أبي بكر الصديق ولا سويد ولا الصنابحي ولا خولة ولا البراء، وإنما ذكره عن عمر وعن عائذ بن عمرو وعن أبي برزة ولم أر عنده زيادة إلا من مرسل يزيد بن رومان في نزول قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وقد جاء فيه عمن لم يذكروه جميعا من حديث ابن عباس كما تقدم في تفسير سورة الكوثر، ومن حديث
(11/468)
كعب بن عجرة عند الترمذي والنسائي وصححه الحاكم، ومن حديث جابر بن عبد الله عند أحمد والبزار بسند صحيح وعن بريدة عند أبي يعلى، ومن حديث أخي زيد بن أرقم ويقال إن اسمه ثابت عند أحمد، ومن حديث أبي الدرداء عند ابن أبي عاصم في السنة وعند البيهقي في الدلائل، ومن حديث أبي بن كعب وأسامة بن زيد وحذيفة بن أسيد وحمزة بن عبد المطلب ولقيط بن عامر وزيد بن ثابت والحسن بن علي وحديثه عند أبي يعلى أيضا وأبي بكرة وخولة بنت حكيم كلها عند ابن أبي عاصم، ومن حديث العرباض بن سارية عند ابن حبان في صحيحه، وعن أبي مسعود البدري وسلمان الفارسي وسمرة بن جندب وعقبة ابن عبد وزيد بن أوفى وكلها في الطبراني، ومن حديث خباب بن الأرت عند الحاكم، ومن حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي الدنيا ومن حديث ميمونة أم المؤمنين في الأوسط للطبراني ولفظه: "يرد علي الحوض أطولكن يدا" الحديث، ومن حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد بن منيع في مسنده، وذكره ابن منده في مستخرجه عن عبد الرحمن بن عوف، وذكره ابن كثير في نهايته عن عثمان بن مظعون، وذكره ابن القيم في الحاوي عن معاذ ابن جبل ولقيط بن صبرة وأظنه عن لقيط بن عامر الذي تقدم ذكره، فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفسا، وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه سواء فزادت العدة على الخمسين، ولكثير من هؤلاء الصحابة في ذلك زيادة على الحديث الواحد كأبي هريرة وأنس وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض وفي صفته بعضها وفيمن يرد عليه بعضها وفيمن يدفع عنه بعضها، وكذلك في الأحاديث التي أوردها المصنف في هذا الباب، وجملة طرقها تسعة عشر طوقا، وبلغني أن بعض المتأخرين وصلها إلى رواية ثمانين صحابيا. قوله: "وقال عبد الله بن زيد" هو ابن عاصم المازني. قوله: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" هو طرف من حديث طويل وصله المؤلف في غزوة حنين، وفيه كلام الأنصار لما قسمت غنائم حنين في غيرهم وفيه: "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وشقيق هو أبو وائل المذكور في الطريق الثانية ووقع صريحا عند الإسماعيلي فيهما وعند مسلم في الأول، وعبد الله هو ابن مسعود. الحديث عن ابن مسعود موصولا وعن حذيفة معلقا. والمغيرة هو ابن مقسم الضبي الكوفي. قوله: "وليرفعن" بضم أوله وفتح الفاء والعين أي يظهرهم الله لي حتى أراهم. قوله: "ثم ليختلجن" بفتح اللام وضم التحتانية وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة واللام وضم الجيم بعدها نون ثقيلة أي ينزعون أو يجذبون مني، يقال اختلجه منه إذا نزعه منه أو جذبه بغير إرادته، وسيأتي زيادة في إيضاحه في شرح حديث أنس من رواية عبد العزيز وما بعده وحديث أسماء بنت أبي بكر. قوله: "تابعه عاصم" هو ابن أبي النجود قارئ الكوفة، والضمير للأعمش أي أن عاصما رواه كما رواه الأعمش عن أبي وائل فقال عن عبد الله بن مسعود، قد وصلها الحارث بن أبي أسامة في مسنده من طريق سفيان الثوري عن عاصم. قوله: "وقال حصين" أي ابن عبد الرحمن الواسطي. قوله: "عن أبي وائل عن حذيفة" أي أنه خالف الأعمش وعاصما فقال عن أبي وائل عن حذيفة، وهذه المتابعة وصلها مسلم من طريق حصين، وصنيعه يقتضي أنه عند أبي وائل عن ابن مسعود وعن حذيفة معا، وصنيع البخاري يقتضي ترجيح قول من قال عن أبي وائل عن عبد الله لكونه ساقها موصولة وعلق الأخرى. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله: "أمامكم" بفتح الهمزة أي
(11/469)
قدامكم "حوض" في رواية السرخسي "حوضي" بزيادة ياء الإضافة، والأول هو الذي عند كل من أخرج الحدث كمسلم. قوله: "كما بين جرباء وأذرح" أما جرباء فهي بفتح الجيم وسكون الراء بعدها موحدة بلفظ تأنيث أجرب، قال عياض: جاءت في البخاري ممدودة. وقال النووي في شرح مسلم الصواب أنها مقصورة وكذا ذكرها الحازمي والجمهور، قال والمد خطأ، وأثبت صاحب التحرير المد وجوز القصر، ويؤيد المد قول أبي عبيد البكري هي تأنيث أجرب. وأما أذرح فبفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء بعدها مهملة، قال عياض كذا للجمهور، ووقع في رواية العذري في مسلم بالجيم وهو وهم. قلت: وسأذكر الخلاف في تعيين مكاني هذين الموضعين في آخر الكلام على حديث عبد الله بن عمرو الآتي شرحه إن شاء الله تعالى. حديث ابن عباس، تقدم شرحه في تفسير سورة الكوثر وقوله هنا "هشيم أخبرنا أبو بشر" هو جعفر بن أبي وحشية بفتح الواو وسكون المهملة بعدها معجمة مكسورة ثم تحتانية ثقيلة ثم هاء تأنيث، واسم أبي وحشية إياس. قوله: "وعطاء بن السائب" هو المحدث المشهور كوفي من صغار التابعين صدوق اختلط في آخر عمره، وسماع هشيم منه بعد اختلاطه، ولذلك أخرج له البخاري مقرونا بأبي بشر، وما له عنده إلا هذا الموضع، وقد مضى في تفسير الكوثر من جهة هشيم عن أبي بشر وحده، ولعطاء بن السائب في ذكر الكوثر سند آخر عن شيخ آخر أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه بسند صحيح من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر فذكر الحديث المشار إليه في تفسير الكوثر، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي عوانة عن عطاء قال: قل لي محارب بن دثار ما كان سعيد بن جبير يقول في الكوثر؟ قلت: كان يحدث عن ابن عباس قال: هو الخير الكثير، فقال محارب: حدثنا ابن عمر فذكر الحديث. وأخرجه البيهقي في البعث من طريق حماد بن زيد عن عطاء بن السائب وزاد: فقال محارب سبحان الله ما أقل ما يسقط لابن عباس، فذكر حدث ابن عباس ثم قال: هذا والله هو الخير الكثير. قوله: "نافع" هو ابن عمر الجمحي المكي. قوله: "قال عبد الله بن عمرو" في رواية مسلم من وجه آخر عن نافع بن عمر بسنده عن عبد الله بن عمرو، وقد خالف نافع بن عمر في صحابيه عبد الله بن عثمان بن خثيم فقال: عن ابن أبي مليكة عن عائشة أخرجه أحمد والطبراني، ونافع بن عمر أحفظ من ابن خثيم. قوله: "حوضي مسيرة شهر" زاد مسلم والإسماعيلي وابن حبان في روايتهم من هذا الوجه "وزواياه سواء" وهذه الزيادة تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول، وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا فوقع في حديث أنس الذي بعده "كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وأيلة مدينة كانت عامرة وهي بطرف بحر القلزم من طرف الشام وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر فتكون شماليهم ويمر بها الحاج من غرة وغيرها فتكون أمامهم، ويجلبون إليها الميرة من الكرك والشوبك وغيرهما يتلقون بها الحاج ذهابا وإيابا، وإليها تنسب العقبة المشهورة عند المصريين، وبينها وبين المدينة النبوية نحو الشهر بسير الأثقال إن اقتصروا كل يوم على مرحلة وإلا فدون ذلك، وهي من مصر على أكثر من النصف من ذلك، ولم يصب من قال من المتقدمين إنها على النصف مما بين مصر ومكة بل هي دون الثلث فإنها أقرب إلى مصر. ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن أيلة شعب من جبل رضوى الذي في ينبع، وتعقب بأنه اسم وافق اسما، والمراد بأيلة في الخبر هي المدينة الموصوفة آنفا، وقد ثبت ذكرها في صحيح مسلم في قصة غزوة تبوك وفيه: "أن صاحب أيلة جاء إلى رسول الله
(11/470)
صلى الله عليه وسلم وصالحه" وتقدم لها ذكر أيضا في كتاب الجمعة. وأما صنعاء فإنما قيدت في هذه الرواية باليمن احترازا من صنعاء التي بالشام، والأصل فيها صنعاء اليمن لما هاجر أهل اليمن في زمن عمر عند فتوح الشام نزل أهل صنعاء في مكان من دمشق فسمي باسم بلدهم، فعلى هذا فمن في قوله في هذه الرواية من اليمن" إن كانت ابتدائية فيكون هذا اللفظ مرفوعا وإن كانت بيانية فيكون مدرجا من قول بعض الرواة والظاهر أنه الزهري. ووقع في حديث جابر بن سمرة أيضا: "كما بين صنعاء وأيلة" وفي حديث حذيفة مثله لكن قال: "عدن" بدل صنعاء، وفي حديث أبي هريرة "أبعد من أيلة إلى عدن" وعدن بفتحتين بلد مشهور على ساحل البحر في أواخر سواحل اليمن وأوائل سواحل الهند وهي تسامت صنعاء وصنعاء في جهة الجبال، وفي حديث أبي ذر "ما بين عمان إلى أيلة" وعمان بضم المهملة وتخفيف النون بلد على ساحل البحر من جهة البحرين، وفي حديث أبي بردة عند ابن حبان: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء مسيرة شهر" وهذه الروايات متقاربة لأنها كلها نحو شهر أو تزيد أو تنقص. ووقع في روايات أخرى التحديد بما هو دون ذلك: فوقع في حديث عقبة ابن عامر عند أحمد "كما بين أيلة إلى الجحفة" وفي حديث جابر "كما بين صنعاء إلى المدينة" وفي حديث ثوبان "ما بين عدن وعمان البلقاء" ونحوه لابن حبان عن أبي أمامة. وعمان هذه بفتح المهملة وتشديد الميم للأكثر وحكي تخفيفها، وتنسب إلى البلقاء لقربها منها. والبلقاء بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها قاف وبالمد بلدة معروفة من فلسطين، وعند عبد الرزاق في حديث ثوبان "ما بين بصرى إلى صنعاء أو ما بين أيلة إلى مكة" وبصرى بضم الموحدة وسكون المهملة بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز تقدم ضبطها في بدء الوحي، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد "بعد ما بين مكة وأيلة" وفي لفظ: "ما بين مكة وعمان" وفي حديث حذيفة بن أسيد "ما بين صنعاء إلى بصرى" ومثله لابن حبان في حديث عتبة بن عبد. وفي رواية الحسن عن أنس عند أحمد "كما بين مكة إلى أيلة أو بين صنعاء ومكة" وفي حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة وابن ماجه: "ما بين الكعبة إلى بيت المقدس" وفي حديث عتبة بن عبد عند الطبراني "كما بين البيضاء إلى بصرى" والبيضاء بالقرب من الربذة البلد المعروف بين مكة والمدينة، وهذه المسافات متقاربة وكلها ترجع إلى نحو نصف شهر أو تزيد على ذلك قليلا أو تنقص، وأقل ما ورد في ذلك ما وقع في رواية لمسلم في حديث ابن عمر من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر بسنده كما تقدم وزاد قال: قال عبيد الله فسألته قال قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، ونحوه له في رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر لكن قال: "ثلاث ليال" وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف فقال عياض: هذا من اختلاف التقدير لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعد اضطرابا من الرواة وإنما جاء في أحاديث مختلفة عن غير واحد من الصحابة سمعوه في مواطن مختلفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في كل منهما مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته بما يسنح له من العبارة وبقرب ذلك للعلم ببعد بين البلاد النائية بعضها من بعض لا على إرادة المسافة المحققة، قال فبهذا يجمع بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى انتهى ملخصا، وفيه نظر من جهة أن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وأما هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة على ثلاثين يوما وينقص إلى ثلاثة أيام فلا، قال القرطبي: ظن بعض القاصرين أن الاختلاف في قدر الحوض اضطراب وليس كذلك، ثم نقل كلام عياض وزاد: وليس اختلافا بل كلها تفيد أنه كبير متسع متباعد الجوانب، ثم قال: ولعل ذكره للجهات المختلفة بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهة فيخاطب كل قوم بالجهة
(11/471)
التي يعرفونها، وأجاب النووي بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة. وحاصله أنه يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة ثم أعلم بالمسافة الطويلة فأخبره بها كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئا بعد شيء فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة. وتقدم قول من جمع الاختلاف بتفاوت الطول والعرض ورده بما في حديث عبد الله بن عمرو "زواياه سواء". ووقع أيضا في حديث النواس بن سمعان وجابر وأبي برزة وأبي ذر "طوله وعرضه سواء" وجمع غيره بين الاختلافين الأولين باختلاف السير البطيء وهو سير الأثقال والسير السريع وهو سير الراكب المخف ويحمل رواية أقلها وهو الثلاث على سير البريد فقد عهد منهم من قطع مسافة الشهر في ثلاثة أيام ولو كان نادرا جدا، وفي هذا الجواب عن المسافة الأخيرة نظر وهو فيما قبله مسلم وهو أولى ما يجمع به، وأما مسافة الثلاث فإن الحافظ ضياء الدين المقدسي ذكر في الجزء الذي جمعه في الحوض أن في سياق لفظها غلطا وذلك الاختصار وقع في سياقه من بعض رواته، ثم ساقه من حديث أبي هريرة وأخرجه من "فوائده عبد الكريم بن الهيثم الديرعاقولي" بسند حسن إلى أبي هريرة مرفوعا في ذكر الحوض فقال فيه: "عرضه مثل ما بينكم وبين جرباء وأذرح" قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره كما بين مقامي وبين جرباء وأذرح، فسقط مقامي وبين. وقال الحافظ صلاح الدين العلائي بعد أن حكى قول ابن الأثير في النهاية هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام ثم غلطه في ذلك وقال: ليس كما قال بل بينهما غلوة سهم وهما معروفتان بين القدس والكرك، قال: وقد ثبت القدر المحذوف عند الدار قطني وغيره بلفظ: "ما بين المدينة وجرباء وأذرح". قلت: وهذا يوافق رواية أبي سعيد عند ابن ماجه:" كما بين الكعبة وبيت المقدس "وقد وقع ذكر جرباء وأذرح في حديث آخر عند مسلم وفيه: "وافى أهل جرباء وأذرح بحرسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" ذكره في غزوة تبوك، وهو يؤيد قول العلائي أنهما متقاربتان. وإذا تقرر ذلك رجع جميع المختلف إلى أنه لاختلاف السير البطيء والسير السريع، وسأحكي كلام ابن التين في تقدير المسافة بين جرباء وأذرح في شرح الحديث السادس عشر والله أعلم. قوله: "ماؤه أبيض من اللبن" قال المازري: مقتضى كلام النحاة أن يقال أشد بياضا ولا يقال أبيض من كذا، ومنهم من أجازه في الشعر، ومنهم من أجازه بقلة ويشهد له هذا الحديث وغيره. قلت: ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، فقد وقع في رواية أبي ذر عند مسلم بلفظ أشد بياضا من اللبن، وكذا لابن مسعود عند أحمد، وكذا لأبي أمامة عند ابن أبي عاصم. قوله: "وريحه أطيب من المسك" في حديث ابن عمر عند الترمذي "أطيب ريحا من المسك" ومثله في حديث أبي أمامة عند ابن حبان رائحة وزاد ابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا في حديث بريدة "وألين من الزبد" وزاد مسلم من حديث أبي ذر وثوبان "وأحلى من العسل" ومثله لأحمد عن أبي بن كعب، وله عن أبي أمامة "وأحلى مذاقا من العسل" وزاد أحمد في حديث ابن عمرو من حديث ابن مسعود "وأبرد من الثلج" وكذا في حديث أبي برزة، وعند البزار من رواية عدي بن ثابت عن أنس، ولأبي يعلى من وجه آخر عن أنس وعند الترمذي في حديث ابن عمر "وماؤه أشد بردا من الثلج". قوله: "وكيزانه كنجوم السماء" في حديث أنس الذي بعده "وفيه من الأباريق كعدة نجوم السماء" ولأحمد من رواية الحسن عن أنس "أكثر من عدد نجوم السماء" وفي حديث المستورد في أواخر الباب: "فيه الآنية مثل الكواكب" ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن
(11/472)
ابن عمر "فيه أباريق كنجوم السماء". قوله: "من شرب منها" أي من الكيزان. وفي رواية الكشميهني: "من شرب منه" أي من الحوض "فلا يظمأ أبدا" في حديث سهل بن سعد الآتي قريبا "من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا" وفي رواية موسى ابن عقبة "من ورده فشرب لم يظمأ بعدها أبدا" وهذا يفسر المراد بقوله: "من مر به شرب" أي من مر به فمكن من شربه فشرب لا يظمأ أو من مكن من المرور به شرب، وفي حديث أبي أمامة "ولم يسود وجه أبدا" وزاد ابن أبي عاصم في حديث أبي بن كعب "من صرف عنه لم يرو أبدا" ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي الدنيا "أول من يرد عليه من يسقي كل عطشان". قوله: "يونس" هو ابن يزيد. قوله: "حدثني أنس" هذا يدفع تعليل من أعله بأن ابن شهاب لم يسمعه من أنس لأن أبا أويس رواه عن ابن شهاب عن أخيه عبد الله بن مسلم عن أنس أخرجه ابن أبي عاصم، وأخرجه الترمذي من طريق محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي الزهري عن أبيه به، والذي يظهر أنه كان عند ابن شهاب عن أخيه عن أنس ثم سمعه عن أنس فإن بين السياقين اختلافا؛ وقد ذكر ابن أبي عاصم أسماء من رواه عن ابن شهاب عن أنس بلا واسطة فزادوا على عشرة. حديث أنس من رواية قتادة عنه، قوله: "بينا أنا أسير في الجنة" تقدم تفسير سورة الكوثر أن ذلك كان ليلة أسري به وفي أواخر الكلام على حديث الإسراء في أوائل الترجمة النبوية، وظن الداودي أن المراد أن ذلك يكون يوم القيامة فقال: إن كان هذا محفوظا دل على أن الحوض الذي يدفع عنه أقوام غير النهر الذي في الجنة أو يكون يراهم وهو داخل الجنة وهم من خارجها فيناديهم فيصرفون عنه. وهو تكلف عجيب يغني عنه أن الحوض الذي هو خارج الجنة يمد من النهر الذي هو داخل الجنة فلا إشكال أصلا، وقوله في آخره: "طيبه أو طينه" شك هدبة هل هو بموحدة من الطيب أو بنون من الطين وأراد بذلك أن أبا الوليد لم يشك في روايته أنه بالنون وهو المعتمد، وتقدم في تفسير سورة الكوثر من طريق شيبان عن قتادة "فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكا أذفر" وأخرج البيهقي في البعث من طريق عبد الله بن مسلم عن أنس بلفظ: "ترابه مسك". حديث أنس أيضا من رواية عبد العزيز وهو ابن صهيب عنه، قوله: "أصيحابي" بالتصغير. وفي رواية الكشميهني: "أصحابي" بغير تصغير. قوله: "فيقول" في رواية الكشميهني: "فيقال" وقد ذكر شرح ما تضمنه في شرح حديث ابن عباس. حديث سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري من رواية أبي حازم عن سهل وعن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد. قوله: "فأقول سحقا سحقا" بسكون الحاء المهملة فيهما ويجوز ضمها ومعناه بعدا بعدا، ونصب بتقدير ألزمهم الله ذلك. قوله: "وقال ابن عباس سحقا بعدا" وصله ابن أبي حاتم من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظه. قوله: "يقال سحيق بعيد" هو كلام أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} السحيق البعيد والنخلة السحوق الطويلة. قوله: "سحقه وأسحقه أبعده" ثبت هذا في رواية الكشميهني وهو من كلام أبي عبيدة أيضا قال: يقال سحقه الله وأسحقه أي أبعده، ويقال بعد وسحق إذا دعوا عليه، وسحقته الريح أي طردته. وقال الإسماعيلي: يقال سحقه إذا اعتمده عليه بشيء ففتنه وأسحقه أبعده، وقد تقدم شرح حديث ابن عباس في هذا في "باب كيف الحشر". قوله: "وقال أحمد بن شبيب إلخ" وصله أبو عوانة عن أبي زرعة الرازي وأبي الحسن الميموني قالا "حدثنا أحمد بن شبيب به" ويونس هو ابن يزيد نسبه أبو عوانة في روايته هذه، وكذا
(11/473)
أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طرق عن أحمد بن شبيب. قوله: "فيجلون" بضم أوله وسكون الجيم وفتح اللام أي يصرفون. وفي رواية الكشميهني بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام بعدها همزة مضمومة قبل الواو وكذا للأكثر ومعناه يطردون، وحكى ابن التين أن بعضهم ذكره بغير همزة قال: وهو في الأصل مهموز فكأنه سهل الهمزة. قوله: "إنهم ارتدوا" هذا يوافق تفسير قبيصة الماضي في "باب كيف الحشر". قوله: "على أعقابهم" في رواية الإسماعيلي: "على أدبارهم". قوله: "وقال شعيب" هو ابن أبي حمزة عن الزهري يعني بسنده وصله الذهلي في "الزهريات" وهو بسكون الجيم أيضا، وقيل بالخاء المعجمة المفتوحة بعدها لأم ثقيلة وواو ساكنة وهو تصحيف. قوله: "وقال عقيل" هو ابن خالد يعني عن ابن شهاب بسنده يحلؤن يعني بالحاء المهملة والهمزة قوله: "وقال الزبيدي" هو محمد بن الوليد، ومحمد بن علي شيخ الزهري فيه هو أبو جعفر الباقر، وشيخه عبيد الله هو ابن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الجياني أنه وقع في رواية القابسي والأصيلي عن المروزي عبد الله بن أبي رافع بسكون الموحدة وهو خطأ، وفي السند ثلاثة من التابعين مدنيون في نسق، فالزهري والباقر قرينان وعبيد الله أكبر منهما، وطريق الزبيدي المشار إليها وصلها الدار قطني في الأفراد من رواية عبد الله بن سالم عنه كذلك، ثم ساق المصنف الحديث من طريق ابن وهب عن يونس مثل رواية شبيب عن يونس لكن لم يسم أبا هريرة بل قال: "عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحاصل الاختلاف أن ابن وهب وشبيب بن سعيد اتفقا في روايتهما عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، ثم اختلفا فقال ابن سعيد "عن أبي هريرة" وقال ابن وهب عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر لأن في رواية ابن وهب زيادة على ما تقتضيه رواية ابن سعيد، وأما رواية عقيل وشعيب فإنما تخالفتا في بعض اللفظ، وخالف الجميع الزبيدي في السند، فيحمل على أنه كان عند الزهري بسندين فإنه حافظ وصاحب حديث، ودلت رواية الزبيدي على أن شبيب بن سعيد حفظ فيه أبا هريرة. وقد أعرض مسلم عن هذه الطرق كلها وأخرج من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: "إني لأذود عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة عن الإبل" وأخرجه من وجه آخر عن أبي هريرة في أثناء حديث، وهذا المعنى لم يخرجه البخاري مع كثرة ما أخرج من الأحاديث في ذكر الحوض، والحكمة في الذود المذكور أنه صلى الله عليه وسلم يريد أنه يرشد كل أحد إلى حوض نبيه على ما تقدم أن لكل نبي حوضا وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم فيكون ذلك من جملة إنصافه ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض والعلم عند الله تعالى. حديث أبي هريرة أخرجه من رواية فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء ابن يسار عنه ورجال سنده كلهم مدنيون، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وأبي نعيم وسائر من استخرج على الصحيح فأخرجوه من عدة طرق عن البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه. قوله: "بينا أنا نائم" كذا بالنون للأكثر وللكشميهني: "قائم" بالقاف وهو أوجه، والمراد به قيامه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة. قوله: "ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم" المراد بالرجل الملك الموكل بذلك، ولم أقف على اسمه. قوله: "إنهم ارتدوا القهقرى" أي رجعوا إلى خلف، ومعنى قولهم رجع القهقرى رجع الرجوع المسمى بهذا الاسم وهو رجوع مخصوص وقيل معناه العدو الشديد. قوله: "فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم" يعني من هؤلاء الذين دنوا من الحوض
(11/474)
وكادوا يردونه فصدوا عنه، والهمل بفتحتين الإبل بلا راع. وقال الخطابي: الهمل ما لا يرعى ولا يستعمل ويطلق على الضوال، والمعنى أنه لا يرده منهم إلا القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره. حديث أبي هريرة "ما بين بيتي ومنبري" وفيه: "ومنبري على حوضي" تقدم شرحه في أواخر الحج والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها، أو أنه على المجاز لكون العبادة فيه تئول إلى دخول العابد روضة الجنة وهذا فيه نظر إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها، وقيل فيه تشبيه محذوف الأداة أي هو كروضة لأن من يقعد فيها من الملائكة ومؤمني الإنس والجن يكثرون الذكر وسائر أنواع العبادة. وقال الخطابي المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة وأن من لازم ذكر الله في مسجدها آل به إلى روضة الجنة وسقي يوم القيامة من الحوض. حديث جندب، وعبد الملك راويه عنه هو ابن عمير الكوفي، والفرط بفتح الفاء والراء السابق. قوله: "يزيد" هو ابن أبي حبيب، وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله اليزني، وعقبة ابن عامر هو الجهني، وقد مر شرحه في كتاب الجنائز فيما يتعلق بالصلاة على الشهداء، وفي علامات النبوة فيما يتعلق بذلك، وقد تقدم الكلام على المنافسة في شرح حديث أبي سعيد في أوائل كتاب الرقاق هذا. قوله: "والله إني لأنظر إلى حوضي الآن" يحتمل أنه كشف له عنه لما خطب وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يريد رؤية القلب. وقال ابن التين: النكتة في ذكره عقب التحذير الذي قبله أنه يشير إلى تحذيرهم من فعل ما يقتضي إبعادهم عن الحوض، وفي الحديث عدة أعلام من أعلام النبوة كما سبق. قوله: "معبد بن خالد" هو الجدلي بفتح الجيم والمهملة من ثقات الكوفيين، ولهم معبد بن خالد اثنان غيره أحدهما أكبر منه وهو صحابي جهني والآخر أصغر منه وهو أنصاري مجهول. قوله: "حارثة بن وهب" هو الخزاعي، صحابي نزل الكوفة له أحاديث، وكان أخا عبيد الله بالتصغير ابن عمر بن الخطاب لأمه. قوله: "كما بين المدينة وصنعاء" قال ابن التين: يرد صنعاء الشام. قلت: ولا بعد في حمله على المتبادر هو صنعاء اليمن لما تقدم توجيهه، وقد تقدم في الحديث الخامس التقييد بصنعاء اليمن فليحمل المطلق عليه، ثم قال يحتمل أن يكون ما بين المدينة وصنعاء الشام قدر ما بينها وصنعاء اليمن وقدر ما بينها وبين أيلة وقدر ما بين جرباء وأذرح انتهى. وهو احتمال مردود فإنها متفاوتة إلا ما بين المدينة وصنعاء وبينها وصنعاء الأخرى والله أعلم. قوله: "وزاد ابن أبي عدي" هو محمد بن إبراهيم، وأبو عدي جده لا يعرف اسمه، ويقال بل هي كنية أبيه إبراهيم، وهو بصري ثقة كثير الحديث، وقد وصله مسلم والإسماعيلي من طريقه. قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال حوضه" كذا لهم وفيه التفات. ووقع في رواية مسلم: "حوضي". قوله: "فقال له المستورد" بضم الميم وسكون المهملة وفتح المثناة بعدها واو ساكنة ثم راء مكسورة ثم مهملة هو ابن شداد بن عمرو بن حسل بكسر أوله وسكون ثانيه وإهمالهما ثم لام القرشي الفهري، صحابي بن صحابي، شهد فتح مصر وسكن الكوفة، ويقال مات سنة خمس وأربعين، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وحديثه مرفوع وإن لم يصرح به، وقد تقدم البحث فيما زاده من ذكر الأواني. قوله: "عن أسماء بنت أبي بكر" جمع مسلم بين حديث ابن أبي مليكة عن عبد الله ابن عمرو وحديثه عن أسماء، فقدم ذكر حديث عبد الله بن عمرو في صفة الحوض ثم قال بعد قوله لم يظمأ بعدها أبدا" قال وقالت أسماء بنت
(11/475)
أبي بكر" فذكره. قوله: "وسيؤخذ ناس دوني" هو
مبين لقوله في حديث ابن مسعود في أوائل الباب ثم ليختلجن دوني وأن المراد طائفة
منهم. قوله: "فأقول: يا رب مني ومن أمتي" فيه دفع لقول من حملهم على غير
هذه الأمة. قوله: "هل شعرت ما عملوا بعدك" فيه إشارة إلى أنه لم يعرف
أشخاصهم بأعيانها وإن كان قد عرف أنهم من هذه الأمة بالعلامة. قوله: "ما برحوا
يرجعون على أعقابهم" أي يرتدون كما في حديث الآخرين. قوله: "قال ابن أبي
مليكة" هو موصول بالسند المذكور، فقد أخرجه مسلم بلفظ: "قال فكان ابن
أبي مليكة يقول". قوله: "أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا"
أشار بذلك إلى أن الرجوع على العقب كناية عن مخالفة الأمر الذي تكون الفتنة سببه
فاستعاذ منهما جميعا. قوله: "على أعقابكم تنكصون ترجعون على العقب" هو
تفسير أبي عبيدة للآية وزاد: نكص رجع على عقبيه. "تنبيه": أخرج مسلم
والإسماعيلي هذا الحديث عقب حديث عبد الله بن عمرو وهو الخامس، وكأن البخاري أخر
حديث أسماء إلى آخر الباب لما في آخره من الإشارة الأخرية الدالة على الفراغ كما
جرى بالاستقراء من عادته أنه يختم كل كتاب بالحديث الذي تكون فيه الإشارة إلى ذلك
بأي لفظ اتفق.والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الرقاق من الأحاديث المرفوعة على مائة وثلاثة
وتسعين حديثا، المعلق منها ثلاثة وثلاثون طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه
وفيما مضى مائة وأربعة وثلاثون والخالص تسعة وخمسون وافقه مسلم على تخريجها سوى
حديث ابن عمر "كن في الدنيا كأنك غريب "وحديث ابن مسعود في الخالط وكذا
حديث أنس فيه وحديث أبي بن كعب في نزول {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وحديث ابن
مسعود "أيكم مال وارثه أحب إليه" وحديث أبي هريرة "أعذر الله إلى
امرئ" وحديثه "الجنة أقرب إلى أحدكم" وحديثه "ما لعبدي المؤمن
إذا قبضت صفيه" وحديث عبد الله بن الزبير "لو كان لابن آدم واد من ذهب"
وحديث سهل بن سعد "من يضمن لي" وحديث أنس "إنكم لتعملون
أعمالا" وحديث أبي هريرة "من عادى لي وليا" وحديثه "بعثت أنا
والساعة كهاتين" وحديث في بعث النار، وحديث عمران في الجهنميين، وحديث أبي
هريرة "لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده" وحديث عطاء بن يسار عن أبي
هريرة فيمن يدفع عن الحوض فإن فيه زيادات ليست عند مسلم. وفيه من الآثار عن
الصحابة فمن بعدهم سبعة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(11/476)
كتاب القدر
باب
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
82 – كِتَاب الْقَدَرِ
1 - بَاب فِي الْقَدَرِ
6594- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ
"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ "إِنَّ أَحَدَكُمْ
يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ
ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ
بِأَرْبَعٍ بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ
أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ
ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ
أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا قَالَ آدَمُ إِلاَّ ذِرَاعٌ"
6595- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ
رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا
قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ
فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القدر" زاد أبو ذر عن المستملي باب
في القدر وكذا للأكثر دون قوله: "كتاب القدر". والقدر بفتح القاف
والمهملة قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال الراغب:
القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلا
والقول نقلا، وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول، وقدر
الله الشيء بالتشديد قضاه ويجوز بالتخفيف. وقال ابن القطاع قدر الله الشيء جعله
بقدر والرزق صنعه وعلى الشيء ملكه. ومضى في "باب التعوذ من جهد البلاء"
في كتاب الدعوات ما قال ابن بطال في التفرقة بين القضاء والقدر. وقال الكرماني:
المراد بالقدر حكم الله. وقالوا -أي العلماء- القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في
الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله. وقال أبو المظفر بن السمعاني: سبيل
معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن
التوقيف فيه ضل وتاره في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب،
لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه
عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب،
وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها. انتهى وقد
أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا ذكر القدر
فأمسكوا" وأخرج مسلم من طريق طاووس: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول:
(11/477)
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس". قلت: والكيس بفتح الكاف ضد العجز ومعناه الحذق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غاية لذلك للإشارة إلى أن أفعالنا وإن كانت معلومة لنا ومرادة منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله، وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعا وموقوفا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فإن هذه الآية نص في أن الله خالق كل شيء ومقدره وهو أنص من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة "جاء مشركو قريش يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت". وقد تقدم في الكلام على سؤال جبريل في كتاب الإيمان شيء من هذا وأن الإيمان بالقدر من أركان الأيمان، وذكر هناك بيان مقالة القدرية بما أغنى عن إعادته. ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . قوله: "أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "أنبأني سليمان الأعمش" سيأتي في التوحيد من رواية آدم عن شعبة بلفظ: "حدثنا الأعمش" ويؤخذ منه أن التحديث والإنباء عند شعبة بمعنى واحد، ويظهر به غلط من نقل عن شعبة أنه يستعمل الإنباء في الإجازة لكونه صرح بالتحديث، ولثبوت النقل عنه أنه لا يعتبر الإجازة ولا يروى بها. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود، ووقع في رواية آدم "سمعت عبد الله بن مسعود". قوله: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق" قال الطيبي: يحتمل أن تكون الجملة حالية ويحتمل أن تكون اعتراضية وهو أولى لتعم الأحوال كلها وأن ذلك من دأبه وعادته، والصادق معناه المخبر بالقول الحق، ويطلق على الفعل يقال صدق القتال وهو صادق فيه، والمصدوق معناه الذي يصدق له في القول يقال: صدقته الحديث إذا أخبرته به إخبارا جازما، أو معناه الذي صدقه الله تعالى وعده. وقال الكرماني: لما كان مضمون الخبر أمرا مخالفا لما عليه الأطباء أشار بذلك إلى بطلان ما ادعوه، ويحتمل أنه قال ذلك تلذذا به وتبركا وافتخارا، ويؤيده وقوع هذا اللفظ بعينه في حديث أنس ليس فيه إشارة إلى بطلان شيء يخالف ما ذكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة "سمعت الصادق المصدوق يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي" ومضى في علامات النبوة من حديث أبي هريرة "سمعت الصادق المصدوق يقول هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش" وهذا الحديث اشتهر عن الأعمش بالسند المذكور هنا، قال علي بن المديني في "كتاب العلل": كنا نظن أن الأعمش تفرد به حتى وجدناه من رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب. قلت: وروايته عند أحمد والنسائي، ورواه حبيب بن حسان عن زيد بن وهب أيضا وقع لنا في "الحلية"، ولم ينفرد به زيد عن ابن مسعود بل رواه عنه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عند أحمد، وعلقمة عند أبي يعلى، وأبو وائل في فوائد تمام، ومخارق بن سليم وأبو عبد الرحمن السلمي كلاهما عند الفريابي في كتاب القدر، وأخرجه أيضا من رواية طارق ومن رواية أبي الأحوص الجشمي كلاهما عن عبد الله مختصرا، وكذا لأبي الطفيل عند مسلم، وناجية بن كعب في "فوائد العيسوي" وخيثمة بن عبد الرحمن عند الخطابي وابن أبي حاتم، ولم يرفعه بعض هؤلاء عن ابن مسعود؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود جماعة من الصحابة مطولا ومختصرا، منهم أنس وقد ذكر عقب هذا، وحذيفة بن أسيد عند مسلم، وعبد الله بن عمر في القدر لابن
(11/478)
وهب، وفي أفراد الدار قطني، وفي مسند البزار من وجه آخر ضعيف، والفريابي بسند قوي، وسهل بن سعد وسيأتي في هذا الكتاب، وأبو هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد بسند صحيح، وأبو ذر عند الفريابي، ومالك بن الحويرث عند أبي نعيم في الطب والطبراني، ورباح اللخمي عند ابن مردويه في التفسير، وابن عباس في فوائد المخلص من وجه ضعيف، وعلى في الأوسط للطبراني من وجه ضعيف، وعبد الله بن عمرو في الكبير بسند حسن، والعرس بن عميرة عند البزار بسند جيد، وأكثم بن أبي الجون عند الطبراني، وابن منده بسند حسن، وجابر عند الفريابي، وقد أشار الترمذي في الترجمة إلى أبي هريرة وأنس فقط، وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن بضع وعشرين نفسا من أصحاب الأعمش منهم من أقرانه سليمان التيمي وجرير بن حازم وخالد الحداء، ومن طبقة شعبة الثوري وزائدة وعمار بن زريق وأبو خيثمة، ومما لم يقع لأبي عوانة رواية شريك عن الأعمش وقد أخرجها النسائي في التفسير، ورواية ورقاء بن عمر ويزيد بن عطاء وداود بن عيسى أخرجها تمام، وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفسا عن الأعمش فغاب عني الآن، ولو أمعنت التتبع لزادوا على ذلك. قوله: "إن أحدكم" قال أبو البقاء في إعراب المسند: لا يجوز في أن إلا الفتح لأنه مفعول حدثنا فلو كسر لكان منقطعا عن قوله حدثنا، وجزم النووي في شرح مسلم بأنه بالكسر على الحكاية وجوز الفتح، وحجة أبي البقاء أن الكسر على خلاف الظاهر ولا يجوز العدول عنه إلا لمانع، ولو جاز من غير أن يثبت به النقل لجاز في مثل قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} وقد اتفق القراء على أنها بالفتح. وتعقبه الخوبي بأن الرواية جاءت بالفتح وبالكسر فلا معنى للرد. قلت: وقد جزم ابن الجوزي بأنه في الرواية بالكسر فقط، قال الخوبي: ولو لم تجيء به الرواية لما امتنع جوازا على طريق الرواية بالمعنى، وأجاب عن الآية بأن الوعد مضمون الجملة وليس بخصوص لفظها فلذلك اتفقوا على الفتح، فأما هنا فالتحديث يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه. قوله: "يجمع في بطن أمه" كذا لأبي ذر عن شيخيه، وله عن الكشميهني: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه" وهي روية آدم في التوحيد وكذا للأكثر عن الأعمش. وفي رواية أبي الأحوص عنه "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" وكذا لأبي معاوية ووكيع وابن نمير. وفي رواية ابن فضيل ومحمد بن عبيد عند ابن ماجه: "إنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه" وفي رواية شريك مثل آدم لكن قال: "ابن آدم" يدل "أحدكم" والمراد بالجمع ضم بعضه إلى بعض بعد الانتشار. وفي قوله: "خلق" تعبير بالمصدر عن الجثة وحمل على أنه بمعنى المفعول كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير أي مضروبه، أو على حذف مضاف أي ما يقوم به خلق أحدكم، أو أطلق مبالغة كقوله: "وإنما هي إقبال وإدبار" جعلها نفس الإقبال والإدبار لكثرة وقوع ذلك منها، قال القرطبي في "المفهم": المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم. قوله: "أربعين يوما" زاد في رواية آدم "أو أربعين ليله" وكذا لأكثر الرواة عن شعبة بالشك. وفي رواية يحيى القطان ووكيع وجرير وعيسى بن يونس "أربعين يوما" بغير شك. وفي رواية سلمة بن كهيل "أربعين ليلة" بغير شك، ويجمع بأن المراد يوم بليلته أو ليلة بيومها، ووقع عند أبي عوانة من رواية وهب بن جرير عن شعبة مثل رواية آدم لكن زاد: "نطفة" بين قوله: "أحدكم" وبين قوله: "أربعين" فبين أن الذي يجمع هو النطفة، والمراد بالنطفة المني وأصله الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع وأراد الله أن
(11/479)
يخلق من ذلك جنينا هيأ أسباب ذلك، لأن في رحم المرأة قوتين: قوة انبساط عند ورود مني الرجل حتى ينتشر في جسد المرأة، وقوة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسا ومع كون المني ثقيلا بطبعه، وفي مني الرجل قوة الفعل وفي مني المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة للبن، وقيل في كل منهما قوة فعل وانفعال لكن الأول في الرجل أكثر وبالعكس في المرأة، وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك، وما ذكر أولا أقرب إلى موافقة الحديث والله أعلم. قال ابن الأثير في النهاية: يجوز أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم، أي تمكس النطفة أربعين يوما تخمر فيه حتى تتهيأ للتصوير ثم تخلق بعد ذلك، وقيل إن ابن مسعود فسره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تنزل دما في الرحم فذلك جمعها. قلت: هذا التفسير ذكره الخطابي، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير من رواية الأعمش أيضا عن خيثمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، وقوله: "فذلك جمعها" كلام الخطابي أو تفسير بعض رواة حديث الباب وأظنه الأعمش، فظن ابن الأثير أن تتمة كلام ابن مسعود فأدرجه فيه، ولم يتقدم عن ابن مسعود في رواية خيثمة ذكر الجمع حتى يفسره، وقد رجح الطيبي هذا التفسير فقال: الصحابي أعلم بتفسير ما سمع وأحق بتأويله وأولى بقبول ما يتحدث به وأكثر احتياطا في ذلك من غيره فليس لمن بعده أن يتعقب كلامه. قلت: وقد وقع في حديث مالك بن الحويرث رفعه ما ظاهره يخالف التفسير المذكور ولفظه: "إذا أراد الله خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ثم أحضره كل عرق له دون آدم {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وفي لفظ: "ثم تلا: {أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وله شاهد من حديث رباح اللخمي لكن ليس فيه ذكر يوم السابع. وحاصله أن في هذا زيادة تدل على أن الشبه يحصل في اليوم السابع، وأن فيه ابتداء جمع المني، وظاهر الروايات الأخرى أن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين. وقد وقع في رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود أن النطفة التي تقضي منها النفس إذا وقعت في الرحم كانت في الجسد أربعين يوما ثم تحادرت دما فكانت علقة. وفي حديث جابر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أربعين يوما أو ليلة أذن الله في خلقها. ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث حذيفة بن أسيد من رواية عكرمة بن خالد عن أبي الطفيل عنه أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك. وكذا في رواية يوسف المكي عن أبي الطفيل عند الفريابي. وعنده وعند مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل "إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون" وفي نسخة "ثنتان وأربعون ليلة" وفي رواية ابن جريج عن أبي الزبير عند أبي عوانة "ثنتان وأربعون" وهي عند مسلم لكن لم يسق لفظها قال مثل عمرو بن الحارث. وفي رواية ربيعة بن كلثوم عن أبي الطفيل عند مسلم أيضا: "إذا أراد الله أن يخلق شيئا يأذن له لبضع وأربعين ليلة". وفي رواية عمرو بن دينار عن أبي الطفيل "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين" وهكذا رواه ابن عيينة عن عمرو عند مسلم، ورواه الفريابي من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو فقال: "خمسة وأربعين ليلة فجزم بذلك" فحاصل الاختلاف أن حديث ابن مسعود لم يختلف في ذكر الأربعين، وكذا في كثير من الأحاديث وغالبها كحديث أنس ثاني حديثي الباب لا تحديد فيه، وحديث حذيفة بن أسيد اختلفت ألفاظ نقلته: فبعضهم
(11/480)
جزم بالأربعين كما في حديث ابن مسعود، وبعضهم زاد ثنتين أو ثلاثا أو خمسا أو بضعا، ثم منهم من جزم ومنهم من تردد، وقد جمع بينها القاضي عياض بأنه ليس في رواية ابن مسعود بأن ذلك يقع عند انتهاء الأربعين الأولى وابتداء الأربعين الثانية بل أطلق الأربعين، فاحتمل أن يرد أن ذلك يقع في أوائل الأربعين الثانية، ويحتمل أن يجمع الاختلاف في العدد الزائد على أنه بحسب اختلاف الأجنة، وهو جيد لو كانت مخارج الحديث مختلفة، لكنها متحدة وراجعة إلى أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، فدل على أنه لم يضبط القدر الزائد على الأربعين والخطب فيه سهل، وكل ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشبه في اليوم السابع، وأن فيه يبتدئ الجمع بعد الانتشار، وقد قال ابن منده إنه حديث متصل على شرط الترمذي والنسائي، واختلاف الألفاظ بكونه في البطن وبكونه في الرحم لا تأثير له لأنه في الرحم حقيقة والرحم في البطن، وقد فسروا قوله تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} بأن المراد ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، فالمشيمة في الرحم والرحم في البطن. قوله: "ثم علقة مثل ذلك" في رواية آدم "ثم تكون علقة مثل ذلك" وفي رواية مسلم: "ثم تكون في ذلك علقة" مثل ذلك و"تكون" هنا بمعنى "تصير" ومعناه أنها تكون بتلك الصفة مدة الأربعين ثم تنقلب إلى الصفة التي تليها، ويحتمل أن يكون المراد تصيرها شيئا فشيئا، فيخالط الدم النطفة في الأربعين الأولى بعد انعقادها وامتدادها، وتجري في أجزائها شيئا فشيئا حتى تتكامل علقة في أثناء الأربعين، ثم يخالطها اللحم شيئا فشيئا إلى أن تشتد فتصير مضغة ولا تسمى علقة قبل ذلك ما دامت نطفة، وكذا ما بعد ذلك من زمان العلقة والمضغة. وأما ما أخرجه أحمد من طريق أبي عبيده قال قال عبد الله رفعه: "إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تتغير" ففي سنده ضعف وانقطاع، فإن كان ثابتا حمل نفي التغير على تمامه، أي لا تنتقل إلى وصف العلقة إلا بعد تمام الأربعين، ولا ينفي أن المني يستحيل في الأربعين الأولى دما إلى أن يصير علقة انتهى. وقد نقل الفاضل على بن المهذب الحموي الطبيب اتفاق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه وقواه وأعبد إلى قوام المني الذي تتكون أعضاؤه منه ونضجه فيكون أقبل للشكل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي يخلق فيها، ثم يكون مضغة مثل ذلك أي لحمة صغيرة وهي الأربعون الثالثة فتتحرك، قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. وذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم أن داخل الرحم خشن كالسفنج، وجعل فيه قبولا للمني كطلب الأرض العطشى للماء فجعله طالبا مشتاقا إليه بالطبع، فلذلك يمسكه ويشتمل عليه ولا يزلقه بل ينضم عليه لئلا يفسده الهواء، فيأذن الله لملك الرحم في عقده وطبخه أربعين يوما وفي تلك الأربعين يجمع خلقه. قالوا: إن المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد إلى تمام ستة أيام فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام، ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر فتتميز الأعضاء الثلاثة، ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يوما ثم ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن عن الجنين في تسعة أيام، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس في أربعة أيام فيكمل أربعين يوما، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يجمع خلقه في أربعين يوما" وفيه تفصيل ما أجمل فيه، ولا ينافي ذلك قوله: "ثم تكون علقة مثل ذلك" فإن العلقة وإن كانت قطعة دم لكنها في هذه
(11/481)
الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المني ويظهر التخطيط فيها ظهورا خفيا على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يوما بتزايد ذلك التخليق شيئا فشيئا حتى يصير مضغة مخلقة ويظهر للحس ظهورا لا خفاء به. وعند تمام الأربعين الثالثة والطعن في الأربعين الرابعة ينفخ فيه الروح كما وقع في هذا الحديث الصحيح، وهو ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، حتى قال كثير من فضلاء الأطباء وحذاق الفلاسفة إنما يعرف ذلك بالتوهم والظن البعيد، واختلفوا في النقطة الأولى أيها أسبق والأكثر نقط القلب. وقال قوم: أول ما يخلق منه السرة لأن حاجته من الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه، فإن من السرة ينبعث الغذاء، والحجب التي على الجنين في السرة كأنها مربوط بعضها ببعض والسرة في وسطها ومنها يتنفس الجنين ويتربى وينجذب غذاؤه منها. قوله: "ثم يكون مضغة مثل ذلك" في رواية آدم "مثله" وفي رواية مسلم كما قال في العلقة، والمراد مثل مدة الزمان المذكور في الاستحالة، والعلقة الدم الجامد الغليظ سمى بذلك للرطوبة التي فيه وتعلقه بما مر به، والمضغة قطعة اللحم سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ. قوله: "ثم يبعث الله ملكا" في رواية الكشميهني: "ثم يبعث إليه ملك" وفي رواية آدم كالكشميهني لكن قال: "الملك" ومثله لمسلم بلفظ: "ثم يرسل الله" واللام فيه للعهد، والمراد به عهد مخصوص وهو جنس الملائكة الموكلين بالأرحام، كما ثبت في رواية حذيفة بن أسيد من رواية ربيعة بن كلثوم "أن ملكا موكلا بالرحم" ومن رواية عكرمة بن خالد "ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها"، وهو بتشديد اللام. وفي رواية أبي الزبير عند الفريابي "أتى ملك الأرحام" وأصله عند مسلم لكن بلفظ: "بعث الله ملكا" وفي حديث ابن عمر "إذا أراد الله أن يخلق النطفة قال ملك الأرحام" وفي ثاني حديثي الباب عن أنس "وكل الله بالرحم ملكا" وقال الكرماني: إذا ثبت أن المراد بالملك من جعل إليه أمر تلك الرحم فكيف يبعث أو يرسل؟ وأجاب بأن المراد أن الذي يبعث بالكلمات غير الملك الموكل بالرحم الذي يقول يا رب نطفة إلخ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالبعث أنه يؤمر بذلك. قلت: وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وبه جزم القاضي عياض وغيره. وقد وقع في رواية يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة عن الأعمش "إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملك بكفه فقال: أي رب أذكر أو أنثى"؟ الحديث وفيه: "فيقال انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد ذلك" فينبغي أن يفسر الإرسال المذكور بذلك. واختلف في أول ما يتشكل من أعضاء الجنين فقيل قلبه لأنه الأساس وهو معدن الحركة الغريزية، وقيل الدماغ لأنه مجمع الحواس ومنه ينبعث، وقيل الكبد لأن فيه النمو والاغتذاء الذي هو قوام البدن، ورجحه بعضهم بأنه مقتضى النظام الطبيعي، لأن النمو هو المطلوب أولا ولا حاجة له حينئذ إلى حس ولا حركة إرادية لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به فيقدم الكبد ثم القلب ثم الدماغ. قوله: "فيؤمر بأربعة" في رواية الكشميهني: "بأربع" والمعدود إنما أبهم جاز تذكيره وتأنيثه، والمعنى أنه يؤمر بكتب أربعة أشياء من أحوال الجنين. وفي رواية آدم "فيؤمر بأربع كلمات" وكذا للأكثر، والمراد بالكلمات القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة. قوله: "برزقه وأجله وشقي أو سعيد" كذا وقع في هذه الرواية ونقص منها ذكر العمل وبه تتم الأربع، وثبت قوله: "وعمله" في رواية آدم. وفي رواية أبي الأحوص عن الأعمش "فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب" فذكر الأربع، وكذا لمسلم والأكثر. وفي رواية لمسلم أيضا: "فيؤمر بأربع كلمات ويقال رزقه إلخ" وضبط بكتب بوجهين أحدهما بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة
(11/482)
ومثناة ساكنة ثم موحدة على البدل، والآخر بتحتانية مفتوحة بصيغة الفعل المضارع، وهو أوجه لأنه وقع في رواية آدم "فيؤذن بأربع كلمات فيكتب" وكذا في رواية أبي داود وغيره، وقوله: "سقي أو سعيد" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وتكلف الخوبي في قوله إنه يؤمر بأربع كلمات فيكتب منها ثلاثا والحق أن ذلك من تصرف الرواة، والمراد أنه يكتب لكل أحد إما السعادة وإما الشقاء، ولا يكتبهما لواحد معا، وإن أمكن وجودهما منه لأن الحكم إذا اجتمعا للأغلب وإذا ترتبا فللخاتمة فلذلك اقتصر على أربع وإلا لقال خمس، والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلا أو كثيرا وصفته حراما أو حلالا، وبالأجل هل هو طويل أو قصير، وبالعمل هو صالح أو فاسد. ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعا عن الأعمش "ثم يكتب شقيا أو سعيدا" ومعنى قوله شقي أو سعيد أن الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب مثلا أجل هذا الجنين كذا ورزقه كذا وعمله كذا وهو شقي باعتبار ما يختم له وسعيد باعتبار ما يختم له كما دل عليه بقية الخبر، وكان ظاهر السياق أن يقول ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبي. ووقع في حديث أنس ثاني حديثي الباب: "إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب أذكر أو أنثى" وفي حديث عبد الله بن عمرو "إذا مكثت النطفة في الرحم أربعين ليلة جاءها ملك فقال: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله ما شاء ثم يدفع إلى الملك فيقول: يا رب أسقط أم تام؟ فيبين له، ثم يقول: أواحد أم توأم؟ فيبين له، فيقول أذكر أم أنثى؟ فيبين له، ثم يقول: أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ثم يقول: أشقى أم سعيد؟ فيبين له. ثم يقطع له رزقه مع خلقه فيهبط بهما، ووقع في غير هذه الرواية أيضا زيادة على الأربع، ففي رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود "فيقول اكتب رزقه وأثره وخلقه وشقي أو سعيد" وفي رواية خصيف عن أبي الزبير عن جابر من الزيادة "أي رب مصيبته، فيقول كذا وكذا" وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والفريابي "فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه" وأما صفة الكتابة فظاهر الحديث أنها الكتابة المعهودة في صحيفته، ووقع ذلك صريحا في رواية لمسلم في حديث حذيفة بن أسيد "ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" وفي رواية الفريابي "ثم تطوى تلك الصحيفة إلى يوم القيامة" ووقع في حديث أبي ذر "فيقضي الله ما هو قاض فيكتب ما هو لاق بين عينيه. وتلا أبو ذر خمس آيات من فاتحة سورة التغابن" ونحوه في حديث ابن عمر في صحيح ابن حبان دون تلاوة الآية وزاد: "حتى النكبة ينكبها" وأخرجه أبو داود في "كتاب القدر المفرد" قال ابن أبي جمرة في الحديث في رواية أبي الأحوص: يحتمل أن يكون المأمور بكتابته الأربع المأمور بها ويحتمل غيرها، والأول أظهر لما بينته بقية الروايات، وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوما في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور، منها في الحج وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الحيض في "باب مخلقة وغير مخلقة" ودلت الآية المذكور على أن التخليق يكون للمضغة، وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغه، وذكر الله النطفة ثم العلقة ثم المضغة في سور أخرى وزاد في سورة قد أفلح بعد المضغة "فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما" الآية، ويؤخذ منها ومن حديث الباب أن تصير المضغة عظاما بعد نفخ الروح، ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدم ذكرها قريبا بعد
(11/483)
ذكر المضغة "ثم تكون عظاما أربعين ليلة ثم يكسوا الله العظام لحما" وقد رتب الأطوار في الآية بالفاء لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر، ورتبها في الحديث بثم إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بثم بين النطفة والعلقة لان النطفة قد لا تتكون إنسانا، وأتى بثم في آخر الآية عند قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه. وأما الإتيان بثم في أول القصة بين السلالة والنطفة فللإشارة إلى ما تخلل بين خلق آدم وخلق ولده، ووقع له حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم ما ظاهره يخالف حديث ابن مسعود ولفظه: "إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون -وفي نسخة ثنتان وأربعون- ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله" الحديث. هذه رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد في مسلم، ونسبها عياض في ثلاثة مواضع من شرح هذا الحديث إلى رواية ابن مسعود وهو وهم، وإنما لابن مسعود في أول الرواية ذكر في قوله: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" فقط وبقية الحديث إنما هو لحذيفة بن أسيد، وقد أخرجه جعفر الفريابي من طريق يوسف المكي عن أبي الطفيل عنه بلفظ: "إذا وقعت النطفة في الرحم ثم استقرت أربعين ليلة قال فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه وشعره وبشره وسمعه وبصره ثم يقول: أي رب أذكر أو أنثى" الحديث. قال القاضي عياض: وحمل هذا على ظاهره لا يصح لأن التصوير بأثر النطفة وأول العلقة في أول الأربعين الثانية غير موجود ولا معهود، وإنما يقع التصوير في آخر الأربعين الثالثة كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} الآية قال: فيكون معنى قوله: "فصورها إلخ "أي كتب ذلك ثم يفعله بعد ذلك بدليل قوله بعد "أذكر أو أنثى" قال: وخلقه جميع الأعضاء والذكورية والأنوثية يقع في وقت متفق وهو مشاهد فيما يوجد من أجنة الحيوان وهو الذي تقتضيه الخلقة واستواء الصورة، ثم يكون للملك فيه تصور آخر وهو وقت نفخ الروح فيه حين يكمل له أربعة أشهر، كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. انتهى ملخصا. وقد بسطه ابن الصلاح في فتاويه فقال ما ملخصه: أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه وإما لكونه لم يره ملتئما مع حديث ابن مسعود وحديث ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معا فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما بأن يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية "فصورها" فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مضغة فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظا وكتبا لا فعلا، أي يذكر كيفية تصويرها ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكرا أو أنثى إنما يكون عند المضغة. قلت: وقد نوزع في أن التصوير حقيقة إنما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية وتمييز الذكر على الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال أول ما يبتدئ به الملك تصوير ذلك لفظا وكتبا ثم يشرع فيه فعلا عند استكمال العلقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك وفي بعضها يتأخر، ولكن بقي في حديث حذيفة بن أسيد أنه ذكر العظم واللحم وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة فيقوى ما قال عياض ومن تبعه. قلت: وقال بعضهم يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى
(11/484)
أجزاء بحسب الأعضاء أو يقسم بعضها إلى جلد وبعضها إلى لحم وبعضها إلى عظم فيقدر ذلك كله قبل وجوده ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية ويتكامل في الأربعين الثالثة. وقال بعضهم معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المنى في الأربعين الأولى ووصف العلقة في الأربعين الثانية ووصف المضغة في الأربعين الثالثة ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره. والراجح أن التصوير إنما يقع في الأربعين الثالثة. وقد أخرج الطبري من طريق السدي في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} قال عن مرة الهمداني عن ابن مسعود -وذكر أسانيد أخرى- قالوا: إذا وقعت النطفة في الرحم طارت في الجسد أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا أراد الله أن يخلقها بعث ملكا فصورها كما يؤمر، ويؤيده حديث أنس ثاني حديثي الباب حيث قال بعد ذكر النطفة ثم العلقة ثم المضغة "فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى" الحديث. ومال بعض الشراح المتأخرون إلى الأخذ بما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد من أن التصوير والتخليق يقع في أواخر الأربعين الثانية حقيقة. قال: وليس في حديث ابن مسعود ما يدفعه. واستند إلى قول بعض الأطباء أن المني إذا حصل في الرحم حصل له زبدية ورغوة في ستة أيام أو سبعة من غير استمداد من الرحم ثم يستمد من الرحم ويبتدئ فيه الخطوط بعد ثلاثة أيام أو نحوها ثم في الخامس عشر ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ثم تتميز الأعضاء وتمتد رطوبة النخاع وينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تمييزا يظهر في بعض ويخفى في بعض وينتهي ذلك إلى ثلاثين يوما في الأقل وخمسة وأربعين في الأكثر لكن لا يوجد سقط ذكر قبل ثلاثين ولا أنثى قبل خمسة وأربعين، قال: فيكون قوله: "فيكتب" معطوفا على قوله: "يجمع" وأما قوله: "ثم يكون علقة مثل ذلك" فهو من تمام الكلام الأول وليس المراد أن الكتابة لا تقع إلا عند انتهاء الأطوار الثلاثة، فيحمل على أنه من ترتيب الأخبار لا من ترتيب المخبر به، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى في الذي يفهمونه. كذا قال، والحمل على ظاهر الأخبار أولى، وغالب ما نقل عن هؤلاء دعاوي لا دلالة عليها. قال ابن العربي: الحكمة في كون الملك يكتب ذلك كونه قابلا للنسخ والمحو والإثبات، بخلاف ما كتبه الله تعالى فإنه لا يتغير. قوله: "ثم ينفخ فيه الروح" كذا ثبت في رواية آدم عن شعبة في التوحيد؛ وسقط في هذه الرواية، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي معاوية وغيره: "ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات" وظاهره قبل الكتابة، ويجمع بأن رواية آدم صريحة في تأخير النفخ للتعبير بقوله ثم، والرواية الأخرى محتملة فترد إلى الصريحة لأن الواو لا ترتب فيجوز أن تكون معطوفة على الجملة التي تليها وأن تكون معطوفة على جملة الكلام المتقدم، أي يجمع خلقه في هذه الأطوار ويؤمر الملك بالكتب، وتوسط قوله: "ينفخ فيه الروح" بين الجمل فيكون من ترتيب الخبر على الخبر لا من ترتيب الأفعال المخبر عنها. ونقل ابن الزملكاني عن ابن الحاجب في الجواب عن ذلك أن العرب إذا عبرت عن أمر بعده أمور متعددة ولبعضها تعلق بالأول حسن تقديمه لفظا على البقية وإن كان بعضها متقدما عليه وجودا، وحسن هنا لأن القصد ترتيب الخلق الذي سبق الكلام لأجله. وقال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل إنه الحكمة في عدة المرأة من
(11/485)
الوفاة بأربعة أشهر وعشر وهو الدخول في الخامس، وزيادة حذيفة بن أسيد مشعرة بأن الملك لا يأتي لرأس الأربعين بل بعدها فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرا، وهو مصرح به في حديث ابن عباس "إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرا، ثم ينفخ فيها الروح" وما أشار إليه من عدة الوفاة جاء صريحا عن سعيد بن المسيب: فأخرج الطبري عنه أنه سئل عن عدة الوفاة فقيل له: ما بال العشرة بعد الأربعة أشهر؟ فقال: ينفخ فيها الروح. وقد تمسك به من قال كالأوزاعي وإسحاق.إن عدة أم الولد مثل عدة الحرة، وهو قوى لأن الغرس استبراء الرحم فلا فرق فيه بين الحرة والأمة، فيكون معنى قوله: "ثم يرسل إليه الملك" أي لتصويره وتخليقه وكتابة ما يتعلق به، فينفخ فيه الروح إثر ذلك كما دلت عليه رواية البخاري وغيره. ووقع في حديث علي بن عبد الله عند ابن أبي حاتم" إذا تمت للنطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فينفخ فيها الروح فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} وسنده منقطع، وهذا لا ينافي التقييد بالعشرة الزائدة. ومعنى في إسناد النفخ للملك أنه يفعله بأمر الله، والنفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافخ ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أن يقول له كن فيكون. وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين: فالكتابة الأولى في السماء والثانية في بطن المرأة، ويحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة والأخرى على جبين المولود، وقيل يختلف باختلاف الأجنة فبعضها كذا وبعضها كذا والأول أولى. قوله: "فوالله إن أحدكم" في رواية آدم "فإن أحدكم" ومثله لأبي داود عن شعبة وسفيان جميعا. وفي رواية أبي الأحوص "فإن الرجل منكم ليعمل" ومثله في رواية حفص دون قوله: "منكم" وفي رواية ابن ماجه: "فوالذي نفسي بيده" وفي رواية مسلم والترمذي وغيرهما: "فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل" لكن وقع عند أبي عوانة وأبي نعيم في مستخرجيهما من طريق يحيى القطان عن الأعمش قال: "فوالذي لا إله غيره" وهذه محتملة لأن يكون القائل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الخبر كله مرفوعا، ويحتمل أن يكون بعض رواته، ووقع في رواية وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: "حتى إن أحدكم ليعمل" ووقع في رواية زيد بن وهب ما يقتضي أنه مدرج في الخبر من كلام ابن مسعود، لكن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، أكثر الروايات يقتضي الرفع إلا رواية وهب بن جرير فبعيدة من الإدراج، فأخرج أحمد والنسائي من طريق سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعود نحو حديث الباب وقال بعد قوله واكتبه شقيا أو سعيدا "ثم قال: والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليعمل" كذا وقع مفصلا في رواية جماعة عن الأعمش منهم المسعودي وزائدة وزهير بن معاوية وعبد الله بن إدريس وآخرون فيما ذكره الخطيب. وقد روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أصل الحديث بدون هذه الزيادة، وكذا أبو وائل وعلقمة وغيرهما عن ابن مسعود، وكذا اقتصر حبيب بن حسان عن زيد بن وهب، وكذا وقع في معظم الأحاديث الواردة عن الصحابة كأنس في ثاني حديثي الباب وحذيفة بن أسيد وابن عمر، وكذا اقتصر عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي عن الأعمش على هذا القدر. نعم وقعت هذه الزيادة مرفوعة في حديث سهل بن سعد الآتي بعد أبواب وفي حديث أبي هريرة عند مسلم وفي حديث عائشة عند أحمد وفي حديث ابن عمر والعرس ابن عميرة في البزار وفي حديث عمرو بن العاص وأكثم بن أبي الجون في الطبراني، لكن وقعت في حديث أنس من وجه آخر قوى مفردة من رواية حميد عن الحسن البصري عنه، ومن الرواة من حذف الحسن بين حميد وأنس، فكأنه كان تاما عند أنس فحدث به مفرقا فحفظ بعض أصحابه ما لم يحفظ الآخر عنه، فيقوى على
(11/486)
هذا أن الجميع مرفوع وبذلك جزم المحب الطبري، وحينئذ تحمل رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب على أن عبد الله ابن مسعود لتحقق الخبر في نفسه أقسم عليه ويكون الإدراج في القسم لا في المقسم عليه، وهذا غاية التحقيق في هذا الموضع. ويؤيد الرفع أيضا أنه مما لا مجال للرأي فيه فيكون له حكم الرفع. وقد اشتملت هذه الجملة على أنواع من التأكيد بالقسم ووصف المقسم به وبأن وباللام، والأصل في التأكيد أنه يكون لمخاطبة المنكر أو المستبعد أو من يتوهم فيه شيء من ذلك؛ وهنا لما كان الحكم مستبعدا وهو دخول من عمل الطاعة طول عمره النار وبالعكس حسن المبالغة في تأكيد الخبر بذلك والله أعلم. قوله: "أحدكم أو الرجل ليعمل" وقع في رواية آدم "فإن أحدكم" بغير شك وقدم ذكر الجنة على النار، وكذا وقع للأكثر وهو كذا عند مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه. وفي رواية حفص "فإن الرجل" وأخر ذكر النار، وعكس أبو الأحوص ولفظه: "فإن الرجل منكم". قوله: "بعمل أهل النار" الباء زائدة والأصل يعمل عمل أهل النار لأن قوله عمل إما مفعول مطلق وإما مفعول به وكلاهما مستغن عن الحرف فكان زيادة الباء للتأكيد أو ضمن "يعمل" معنى يتلبس في عمله بعمل أهل النار، وظاهره أنه يعمل بذلك حقيقة ويختم له بعكسه، وسيأتي في حديث سهل بلفظ: "ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس" وهو محمول على المنافق والمرائي بخلاف حديث الباب فإنه يتعلق بسوء الخاتمة. قوله: "غير ذراع أو باع" في رواية الكشميهني: "غير باع أو ذراع" وفي رواية أبي الأحوص "إلا ذراع" ولم يشك وقد علقها المصنف لآدم في آخر هذا الحديث ووصل الحديث كله في التوحيد عنه، ومثله في رواية أبي الأحوص والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت فيحال من بينه وبين المكان المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة، وضابط ذلك الحسي الغرغرة التي جعلت علامة لعدم قبول التوبة. وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفا وأهل الشر صرفا إلى الموت ولا ذكر للذين خلطوا وماتوا على الإسلام لأنه لم يقصد في الحديث تعميم أحوال المكلفين وإنما سيق لبيان أن الاعتبار بالخاتمة، قوله: "بعمل أهل الجنة" يعني من الطاعات الاعتقادية والقولية والفعلية، ثم يحتمل أن الحفظة تكتب ذلك ويقبل بعضها ويرد بعضها، ويحتمل أن تقع الكتابة ثم تمحي وأما القبول فيتوقف على الخاتمة. قوله: "حتى ما يكون" قال الطيبي "حتى" هنا الناصبة و "ما" نافية ولم تكف يكون عن العمل فهي منصوبة بحتى، وأجاز غيره أن تكون "حتى" ابتدائية فتكون على هذا بالرفع وهو مستقيم أيضا. قوله: "فيسبق عليه الكتاب" في رواية أبي الأحوص "كتابة" والفاء في قوله: "فيسبق" إشارة إلى تعقيب ذلك بلا مهلة، وضمن يسبق معنى يغلب قاله الطيبي، وقوله: "عليه" في موضع نصب على الحال أي يسبق المكتوب واقعا عليه. وفي رواية سلمة بن كهيل "ثم يدركه الشقاء" وقال: "ثم تدركه السعادة" والمراد يسبق الكتاب سبق ما تضمنه على حذف مضاف أو المراد المكتوب والمعنى في أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة والمكتوب في اقتضاء الشقاوة فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبر عن ذلك بالسبق لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق ولأنه لو تمثل العمل والكتاب شخصين ساعيين لظفر شخص الكتاب وغلب شخص العمل، ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم: "وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة" زاد أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "سبعين سنة" وفي حديث أنس عند أحمد وصححه ابن حبان: "لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا
(11/487)
سيئا" الحديث، وفي حديث عائشة عند أحمد مرفوعا: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب في الكتاب الأول من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحول فعمل عمل أهل النار فمات فدخلها" الحديث، ولأحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان" الحديث وفيه: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم" ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا. "فقال أصحابه: ففيم العمل؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" الحديث، وفي حديث على عند الطبراني نحوه وزاد: "صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" وقد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة حتى قال: "ما أشبههم بهم بل هم منهم، وتدركهم السعادة فتستنقذهم" الحديث، ونحوه للبزار من حديث ابن عمر، وسيأتي حديث سهل بن سعد بعد أبواب وفي آخره: "إنما الأعمال بالخواتيم" ومثله في حديث عائشة عند ابن حبان ومن حديث معاوية نحوه وفي آخر حديث على المشار إليه قبل "الأعمال بخواتيمها". وفي الحديث أن خلق السمع والبصر يقع والجنين داخل بطن أمه، وقد زعم بعضهم أنه يعطى ذلك بعد خروجه من بطن أمه لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} وتعقب بأن الواو لا ترتب، والتحقيق أن خلق السمع والبصر وهو في بطن أمه محمول جزما على الأعضاء ثم القوة الباصرة والسامعة لأنها مودعة فيها، وأما الإدراك بالفعل فهو موضع النزاع، والذي يترجح أنه يتوقف على زوال الحجاب المانع. وفيه أن الأعمال حسنه وسيئها أمارات وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء قاله الخطابي. وفيه القسم على الخبر الصدق تأكيدا في نفس السامع، وفيه إشارة إلى علم المبدأ والمعاد وما يتعلق ببدن الإنسان وحاله في الشقاء والسعادة. وفيه عدة أحكام تتعلق بالأصول والفروع والحكمة وغير ذلك. وفيه أن السعيد قد يشقى وأن الشقي قد يسعد لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير. وفيه أن الاعتبار بالخاتمة. قال ابن أبي جمرة نفع الله به: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم. وفيه أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية مخصوص بمن مات على ذلك وأن من عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس وما ورد مما يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله، والحق أن النزاع لفظي، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله. وفيه التنبيه على صدق البعث بعد الموت لأن من قدر على خلق الشخص من ماء مهين ثم نقله إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم ينفخ الروح فيه قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابا ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها، ولقد كان قادرا على أن يخلقه دفعة واحدة ولكن اقتضت الحكمة بنقله في الأطوار رفقا بالأم لأنها لم تكن معتادة فكانت المشقة تعظم عليها فهيأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل، ومن تأمل أصل خلقه من نطفة وتنقله في
(11/488)
تلك الأطوار إلى أن صار إنسانا جميل الصورة مفضلا بالعقل والفهم والنطق كان حقا عليه أن يشكر من أنشأه وهيأه ويعبده حق عبادته ويطيعه ولا يعصيه. وفيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق ما في علم الله تعالى واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما وقع في الحديث، وهذا هو الذي يقبل النسخ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى، واستدل به على أن السقط بعد الأربعة أشهر يصلي عليه لأنه وقت نفخ الروح فيه، وهو منقول عن القديم للشافعي والمشهور عن أحمد وإسحاق، وعن أحمد إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويصلي عليه، والراجح عند الشافعية أنه لا بد من وجود الروح وهو الجديد، وقد قالوا فإذا بكي أو اختلج أو تنفس ثم بطل ذلك صلى عليه وإلا فلا، والأصل في ذلك من أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رفعه: "إذا استهل الصبي ورث وصلى عليه" وقد ضعفه النووي في شرح المهذب والصواب أنه صحيح الإسناد لكن المرجح عند الحفاظ وقفه، وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك لأن الحكم للرفع لزيادته، قالوا وإذا بلغ مائة وعشرين يوما غسل كفن ودفن بغير صلاة وما قبل ذلك لا يشرع له غسل ولا غيره، واستدل به على أن التخليق لا يكون إلا في الأربعين الثالثة فأقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما وهي ابتداء الأربعين الثالثة وقد لا يتبين إلا في آخرها، ويترتب على ذلك أنه لا تنقضي العدة، بالوضع إلا ببلوغها وفيه خلاف، ولا يثبت للأمة أمية الولد إلا بعد دخول الأربعين الثالثة وهذا قول الشافعية والحنابلة وتوسع المالكية في ذلك فأداروا الحكم في ذلك على كل سقط ومنهم من قيده بالتخطيط ولو كان خفيا وفي ذلك رواية عن أحمد وحجتهم ما تقدم في بعض طرقه أن النطفة إذا لم يقدر تخليقها لا تصير علقة وإذا قدر أنها تتخلق تصير علقة ثم مضغة إلخ فمتى وضعت علقة عرف أن النطفة خرجت عن كونها نطفة واستحالت إلى أول أحوال الولد. وفيه أن كلا من السعادة والشقاء قد يقع بلا عمل ولا عمر وعليه ينطبق قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وسيأتي الإلمام بشيء من ذلك بعد أبواب. وفيه الحث القوي على القناعة، والزجر الشديد عن الحرص، لأن الرزق إذا كان قد سبق تقديره لم يغن التعني في طلبه وإنما شرع الاكتساب لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا. وفيه أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار ولا يعارض ذلك حديث: "لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله" لما تقدم من الجمع بينهما في شرحه في "باب القصد والمداومة على العمل" من كتاب الرقاق. وفيه أن من كتب شقيا لا يعلم حاله في الدنيا وكذا عكسه، واحتج من أثبت ذلك بما سيأتي قريبا من حديث على "أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة" الحديث، والتحقيق أن يقال إن أريد أنه لا يعلم أصلا ورأسا فمردود وإن أريد أنه يعلم بطريق العلامة المثبتة للظن الغالب فنعم، ويقوى ذلك في حق من اشتهر له لسان صدق بالخير والصلاح ومات على ذلك لقوله في الحديث الصحيح الماضي في الجنائز "أنتم شهداء الله في الأرض" وإن أريد أنه يعلم قطعا لمن شاء الله أن يطلعه على ذلك فهو من جملة الغيب الذي استأثر الله بعلمه وأطلع من شاء ممن ارتضى من رسله عليه. وفيه الحث على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف، وأما ما قال عبد الحق في "كتاب العاقبة" أن سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه وصلح ظاهره وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب ويكثر وقوعه للمصر على الكبائر والمجترئ على العظائم فيهجم عليه الموت بغتة فيصطلمه
(11/489)
الشيطان عند تلك الصدمة، فقد يكون ذلك سببا لسوء الخاتمة نسأل الله السلامة، فهو محمول على الأكثر الأغلب. وفيه أن قدرة الله تعالى لا يوجبها شيء من الأسباب إلا بمشيئته، فإنه لم يجعل الجماع علة للولد لأن الجماع قد يحصل ولا يكون الولد حتى يشاء الله ذلك. وفيه أن الشيء الكثيف يحتاج إلى طول الزمان بخلاف اللطيف، ولذلك طالت المدة في أطوار الجنين حتى حصل تخليقه بخلاف نفخ الروح، ولذلك لما خلق الله الأرض أولا عمد إلى السماء فسواها وترك الأرض لكثافتها بغير فتق ثم فتقتا معا، ولما خلق آدم فصوره من الماء والطين تركه مدة ثم نفخ فيه الروح. واستدل الداودي بقوله: "فتدخل النار" على أن الخبر خاص بالكفار، واحتج بأن الإيمان لا يحبطه إلا الكفر، وتعقب بأنه ليس في الحديث تعرض للإحباط وحمله على المعنى الأعم أولى فيتناول المؤمن حتى يختم له بعمل الكافر مثلا فيرتد فيموت على ذلك فتستعيذ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتى يختم له بعمل العاصي فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النار أنه يخلد فيها أبدا بل مجرد الدخول صادق على الطائفتين، واستدل له على أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح خلاقا لمن قال به من المعتزلة لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميع عمره في طاعة الله ثم يختم له بالكفر والعياذ بالله فيموت على ذلك فيدخل النار، فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها ولا سيما إن طال عمره وقرب موته من كفره. واستدل به بعض المعتزلة على أن من عمل عمل أهل النار وجب أن يدخلها لترتب دخولها في الخبر على العمل، وترتب الحكم على الشيء يشعر بعليته، وأجيب بأنه علامة لا علة والعلامة قد تتخلف، سلمنا أنه علة لكنه في حق الكفار وأما العصاة فخرجوا بدليل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فمن لم يشرك فهو داخل في المشيئة. واستدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق لأنه دل على أن الله كلف العباد كلهم بالإيمان مع أنه قدر على بعضهم أنه يموت على الكفر، وقد قيل إن هذه المسألة لم يثبت وقوعها إلا في الإيمان خاصة وما عداه لا توجد دلالة قطعية على وقوعه وأما مطلق، الجواز فحاصل. وفيه أن الله يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة، وفيه أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومقدرها لا أنه يحبها ويرضاها. وفيه أن جميع الخير والشر بتقدير الله تعالى وإيجاده، وخالف في ذلك القدرية والجبرية فذهبت القدرية إلى أن فعل العبد من قبل نفسه، ومنهم من فرق بين الخير والشر فنسب إلى الله الخير ونفي عنه خلق الشر، وقيل إنه لا يعرف قائله وإن كان قد اشتهر ذلك وإنما هذا رأي المجوس، وذهبت الجبرية إلى أن الكل فعل الله وليس للمخلوق فيه تأثير أصلا، وتوسط أهل السنة فمنهم من قال أصل الفعل خلقه الله وللعبد قدرة غير مؤثرة في المقدور، وأثبت بعضهم أن لها تأثيرا لكنه يسمى كسبا وبسط أدلتهم يطول، وقد أخرج أحمد وأبو يعلى من طريق أيوب بن زياد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض فقلت أوصني؟ فقال: إنك لن تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وهو أن تعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك الحديث وفيه: "وإن مت ولست على ذلك دخلت النار". وأخرجه الطبراني من وجه آخر بسند حسن عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء مرفوعا مقتصرا على قوله. إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ وسيأتي الإلمام بشيء منه في كتاب التوحيد في الكلام على خلق أفعال العباد إن شاء الله تعالى. وفي الحديث أن
(11/490)
الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة، وسيأتي في حديث على الآتي بعد بابين سؤال الصحابة عن فائدة العمل مع تقدم التقدير والجواب عنه "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وظاهره قد يعارض حديث ابن مسعود المذكور في هذا الباب، والجمع بينهما حمل حديث علي على الأكثر الأغلب وحمل حديث الباب على الأقل، ولكنه لما كان جائزا تعين طلب الثبات. وحكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة ثم لا يدخل الجنة انتهى. وتوقف شيخنا ابن الملقن في صحة ذلك عن عمر، وظهر لي أنه إن ثبت عنه حمل على أن راويه حذف منه قوله في آخره: "فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" أو أكمل الراوي لكن استبعد عمر وقوعه وإن كان جائزا ويكون إيراده على سبيل التخويف من سوء الخاتمة. حديث أنس، قوله: "حماد" هو ابن زيد، وعبيد الله بن أبي بكر أي ابن أنس بن مالك. قوله: "وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة إلخ" أي يقول كل كلمة من ذلك في الوقت الذي تصير فيه كذلك كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله وقد مضى شرحه مستوفي فيه، وتقدم شيء منه في كتاب الحيض، ويجوز في قوله نطفة النصب على إضمار فعل والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفائدة ذلك أنه يستفهم هل يتكون منها أو لا؟ وقوله: "أن يقضي خلقها" أي بإذن فيه.
(11/491)
2 - باب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وقوله:
{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
لَهَا سَابِقُونَ سَبَقَتْ لَهُمْ السَّعَادَةُ
6596- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ
سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ "عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ
أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَالَ "نَعَمْ" قَالَ فَلِمَ
يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ قَالَ "كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَوْ لِمَا
يُسِّرَ لَهُ"
[الحديث 6596- طرفه في 7551]
قوله: "باب" بالتنوين "جف القلم" أي فرعت الكتابة إشارة إلى
أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن
الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة
والقلم. وقال الطيبي هو من إطلاق اللازم على الملزوم، لأن الفراغ من الكتابة
يستلزم جفاف القلم عند مداده. قلت: وفيه إشارة إلى أن كتابة ذلك انقضت من أمد
بعيد. وقال عياض: معنى جف القلم أي لم يكتب بعد ذلك شيئا. وكتاب الله ولوحه وقلمه
من غيبه ومن علمه الذي يلزمنا الإيمان به، ولا يلزمنا معرفة صفته، وإنما خوطبنا
بما عهدنا فيما فرغنا من كتابته أن القلم يصير جافا للاستغناء عنه. قوله:
"على علم الله" أي على حكمه لأن معلومه لا بد أن يقع، فعلمه بمعلوم
يستلزم الحكم بوقوعه، وهذا لفظ حديث أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريق عبد الله
بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن
الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ
اهتدى ومن أخطأه ضل، فلذلك
(11/491)
أقول جف القلم على علم الله"، وأخرجه أحمد وابن حبان من طريق أخرى عن أبي الديلمي نحوه وفي آخره أن القائل "فلذلك أقول"، هو عبد الله بن عمرو ولفظه: "قلت لعبد الله بن عمرو: بلغني أنك تقول إن القلم قد جف -فذكر الحديث وقال في آخره- فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن". ويقال إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان للمأمون سأل الحسين بن الفضل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مع هذا الحديث، فأجاب: هي شئون يبديها لا شئون يبتديها؛ فقام إليه وقبل رأسه. قوله: "وقال أبو هريرة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: جف القلم بما أنت لاق" هو طرف من حديث ذكر أصله المصنف من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قلت يا رسول الله إني رجل شاب وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني" الحديث وفيه: "يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر" أخرجه في أوائل النكاح فقال: قال أصبغ -يعني ابن الفرج- أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، ووصله الإسماعيلي والجوزقي والفريابي في كتاب القدر كلهم من طريق أصبغ به وقالوا كلهم بعد قوله العنت "فأذن لي أن أختصي" ووقع لفظ: "جف القلم" أيضا في حديث جابر عند مسلم: "قال سراقة يا رسول الله فيم العمل أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" الحديث، وفي آخر حديث ابن عباس الذي فيه: "احفظ الله يحفظك" ففي بعض طرقه: "جفت الأقلام وطويت الصحف" وفي حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني في حديث: "واعلم أن القلم قد جف بما هو كائن" وفي حديث الحسن بن على عند الفريابي "رفع الكتاب وجف القلم". قوله: "وقال ابن عباس لها سابقون: سبقت لهم السعادة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قال: سبقت لهم السعادة، والمعنى أنهم سارعوا إلى الخيرات بما سبق لهم من السعادة بتقدير الله، ونقل عن الحسن أن اللام في "لها" بمعنى الباء فقال: معناه سابقون بها، فقال الطبراني: وتأولها بعضهم -أي اللام- بأنها بمعنى "إلى" وبعضهم أن المعنى: وهم من أجلها، ونقل عبد الرحمن بن زيد أن الضمير للخيرات، وأجاز غيره أن للسعادة، والذي يجمع بين تفسير ابن عباس وظاهر الآية أن السعادة سابقة وأن أهلها سبقوا إليها لا أنهم سبقوها. قوله: "حدثنا يزيد الرشك" بكسر الراء وسكون المعجمة بعدها كاف كنيته أبو الأزهر، وحكى الكلاباذي أن اسم والده سنان بكسر المهملة ونونين، وهو بصري تابعي ثقة، قيل كان كبير اللحية فلقب الرشك وهو بالفارسية كما زعم أبو على الغساني وجزم به ابن الجوزي الكبير اللحية. وقال أبو حاتم الرازي: كان غيورا فقيل له إرشك بالفارسية فمضى عليه الرشك. وقال الكرماني بل الرشك بالفارسية القمل الصغير الملتصق، بأصول شعر اللحية، وذكر الكلاباذي أن الرشك القسام. قلت: بل كان يزيد يتعانى مساحة الأرض فقيل له القسام وكان يلقب الرشك لا أن مدلول الرشك القسام بل هما لقب ونسبة إلى صنعة، والمعتمد في أمره ما قال أبو حاتم، وما ليزيد في البخاري إلا هذا الحديث أورده هنا وفي كتاب الاعتصام. قوله: "قال رجل" هو عمران بن حصين راوي الخبر، بينه عبد الوارث بن سعيد عن يزيد الرشك عن عمران بن حصين قال: "قلت يا رسول الله" فذكره، وسيأتي موصولا في أواخر كتاب التوحيد، وسأل عن ذلك آخرون، وسيأتي مزيد بسط فيه في شرح حديث علي قريبا. قوله: "أيعرف أهل الجنة من أهل النار" في رواية حماد بن زيد عن يزيد عند مسلم بلفظ: "أعلم" بضم العين، والمراد بالسؤال معرفة الملائكة أو من أطلعه الله على ذلك؛ وأما معرفة العامل
(11/492)
أو من شاهده فإنما يعرف بالعمل. قوله: "فلم يعمل العاملون" في روايات حماد "ففيم"؟ وهو استفهام والمعنى إذا سبق القلم بذلك فلا يحتاج العامل إلى العمل لأنه سيصير إلى ما قدر له. قوله: "قال: كل يعمل لما خلق له أو لما ييسر له" وفي رواية الكشميهني: "يسر" بضم أوله وكسر المهملة الثقيلة. وفي رواية حماد المشار إليها "قال كل ميسر لما خلق له" وقد جاء هذا الكلام الأخير عن جماعة من الصحابة بهذا اللفظ يزيدون على العشرة سأشير إليها في آخر الباب الذي يلي الذي يليه، منها حديث أبي الدرداء عند أحمد بسند حسن بلفظ: "كل امرئ مهيأ لما خلق له" وفي الحديث إشارة إلى أن المآل محجوب عن المكلف فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به فإن عمله أمارة إلى ما يؤول إليه أمره غالبا وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك كما ثبت في حديث ابن مسعود وغيره لكن لا اطلاع له على ذلك فعليه أن يبذل جهده ويجاهد نفسه في عمل الطاعة لا يترك وكولا إلى ما يؤول إليه أمره فيلام على ترك المأمور ويستحق العقوبة، وقد ترجم ابن حبان بحديث الباب: "ما يجب على المرء من التشمير في الطاعات وإن جرى قبلها ما يكره الله من المحظورات" ولمسلم من طريق أبي الأسود عن عمران أنه قال له: أرأيت ما يعمل الناس اليوم أشيء قضي عليهم ومضي فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قضى عليهم ومضى فهيم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وفيه قصة لأبي الأسود الدؤلي مع عمران وفيه قوله له: أيكون ذلك ظلما؟ فقال: لا كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل. قال عياض: أورد عمران على أبي الأسود شبهة القدرية من تحكمهم على الله ودخولهم بآرائهم في حكمه، فلما أجابه بما دل على ثباته في الدين قواه بذكر الآية وهي حد لأهل السنة، وقوله كل خلق الله وملكه يشير إلى أن المالك الأعلى الخالق الآمر لا يعترض عليه إذا تصرف في ملكه بما يشاء، وإنما يعترض على المخلوق المأمور.
(11/493)
3 - باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
6597- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
"عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد
المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
6598- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ "سَمِعَ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
كَانُوا عَامِلِينَ"
6599- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنْتِجُونَ
الْبَهِيمَةَ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ
تَجْدَعُونَهَا"
6600- "قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ
صَغِيرٌ قَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
قوله: "باب الله أعلم بما كانوا عاملين" الضمير لأولاد المشركين كما صرح
به في السؤال، وذكره من حديث
(11/493)
ابن عباس مختصرا ومن حديث أبي هريرة كذلك، وتقدم في أواخر الجنائز "باب ما قيل في أولاد المسلمين" وبعده "باب ما قيل في أولاد المشركين" وذكر في الثاني الحديثين المذكورين هنا من مخرجيهما وذكر الثالث أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة، وقد تقدم شرح ذلك مستوفي في الباب المذكور. قوله في الرواية الثانية عن ابن شهاب "قال وأخبرني عطاء بن يزيد" الواو عاطفة على شيء محذوف، كأنه حدث قبل ذلك بشيء ثم حديث بحديث عطاء، ووقع في رواية مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد وعند أبي عوانة في صحيحه من طريق شعيب عن الزهري "حدثني عطاء بن يزيد الليثي". قوله: "أخبرنا إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه كما بينته في المقدمة
(11/494)
4 - باب وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
6601- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لاَ تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ
صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"
6602- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ
سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ
فَبَعَثَ إِلَيْهَا "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ
بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"
6603- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ
الجُمَحِيُّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا
هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ رَجُلٌ
مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ
الْمَالَ كَيْفَ تَر