Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 37 و مجلد38 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

  مجلد 37 ومجلد38  -فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)  

37.

 مجلد 37. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)   

=على أصحاب الهيئة ومن وافقهم أن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا يختلف مقتضياتها ولا يتطرق إليها تغيير ما هي عليه قال الكرماني: وقواعدهم منقوضة ومقدماتهم ممنوعة وعلى تقدير تسليمها فلا امتناع من انطباق منطقة البروج التي هي معدل النهار بحيث يصير المشرق مغربا وبالعكس. واستدل صاحب "الكشاف" بهذه الآية للمعتزلة فقال: قوله: "لم تكن آمنت من قبل" صفة لقوله: "نفسا" وقوله: "أو كسبت في إيمانها خيرا" عطف على "آمنت" المعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة للإيمان ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ من غير مقدمة إيمانها قبل ظهور الآيات أو مقدمة إيمانها من غير تقديم عمل صالح فلم يفرق كما ترى بين النفس. الكافرة وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكتسب خيرا ليعلم أن قوله: "الذين آمنوا عملوا الصالحات" جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبها ويسعد وإلا فالشقوة والهلاك. قال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا فقد علق نفي نفع الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط وإما سبقه مع نفي كسب الخير ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده وكذا السابق ومعه الخير ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة ويكون فيه قلب دليل المعتزلة دليلا عليهم. وأجاب ابن المنير في "الانتصاف" فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب اللف وأصله يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكتسبه من الخير بعد فلف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدل له. وقال ابن الحاجب في أماليه: الإيمان قبل مجيء الآية نافع ولو لم يكن عمل صالح غيره ومعنى الآية لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح لم يكن الإيمان قبل الآية أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها فاختصر للعلم ونقل الطيبي كلام الأئمة في ذلك ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب وبسطه أن الله تعالى لما خاطب المعاندين يقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} الآية علل الإنزال بقوله: "أن تقولوا إنما أنزل الكتاب" إلخ إزالة للعذر وإلزاما للحجة وعقبه بقوله: "فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة" تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق من طلب الاتباع ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ} الآية. أي أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها ثم قال: "هل ينظرون" الآية أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلا ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبل من الإيمان وكذا العمل الصالح مع الإيمان فكأنه قيل يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل ففي الآية لف لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر ونظيره قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} قال: فهذا: الذي عناه ابن المنير بقوله إن هذا الكلام في البلاغة يقال له اللف والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع

(11/356)


نفسا لم تكن مؤمنة من قبل ذلك إيمانها من بعد ذلك ولا ينفع نفسها كانت مؤمنة لكن لم تعمل في إيمانها عملا صالحا قبل ذلك ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك قال: وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير أي لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة. ثم قال الطيبي: وقد ظفرت بفضل الله بعد هدا التقرير على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنى ولفظا من غير إفراط ولا تفريط وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية فإنهآ يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلا والله أعلم. انتهى ملخصا. قوله: "ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته" بكسر اللام وسكون القاف بعدها مهملة هي ذات الدر من النوق. قوله: "يليط حوضه" بضم أوله ويقال ألاط حوضه إذا مدره أي جمع حجارة فصيرها كالحوض ثم سد ما بينها من الفرج بالمدر ونحوه لينحبس الماء؛ هذا أصله وقد يكون للحوض خروق فيسدها بالمدر قبل أن يملأه وفي كل ذلك إشارة إلى أن القيامة تقوم بغتة كما قال تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .

(11/357)


41 - باب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ
6507- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"
اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6508- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"
6509- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ "أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ

(11/357)


سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى" قُلْتُ إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ قَالَتْ فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى"
قوله: "باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" هكذا ترجم بالشق الأول من الحديث الأول إشارة إلى بقيته على طريق الاكتفاء قال العلماء: محبة الله لعبده إرادته الخير له وهدايته إليه وإنعامه عليه وكراهته له على الضد من ذلك. قوله: "حدثنا حجاج" هو ابن المنهال البصري وهو من كبار شيوخ البخاري وقد روي عن همام أيضا حجاج بن محمد المصيصي لكن لم يدركه البخاري. قوله: "عن قتادة" لهمام فيه إسناد آخر أخرجه أحمد عن عفان عن همام عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "حدثني فلان ابن فلان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث بطوله بمعناه وسنده قوي وإبهام الصحابي لا يضر وليس ذلك اختلافا على همام فقد أخرجه أحمد عن عفان عن همام عن قتادة. قوله: "عن أنس" في رواية شعبة عن قتادة "سمعت أنسا" وسيأتي بيانه في الرواية المعلقة. قوله: "عن عبادة بن الصامت" قد رواه حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أخرجه أحمد والنسائي والبزار من طريقه. وذكر البزار أنه تفرد به فإن أراد مطلقا وردت عليه رواية قتادة وإن أرد بقيد كونه جعله من مسند أنس سلم. قوله: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" قال الكرماني: ليس الشرط سببا للجزاء بل الأمر بالعكس ولكنه على تأويل الخبر أي من أحب لقاء الله أخبره بأن أحب لقاءه وكذا الكراهة وقال غيره فيما نقله ابن عبد البر وغيره: "من" هنا خبرية وليست شرطية فليس معناه أن سبب حب الله لقاء العبد حب العبد لقاءه ولا الكراهة ولكنه صفة حال الطائفتين في أنفسهم عند ربهم والتقدير من أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه وكذا الكراهة. قلت: ولا حاجة إلى دعوى نفي الشرطية فسيأتي في التوحيد من حديث أبي هريرة رفعه: "قال الله عز وجل إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه" الحديث فيعين أن "من" في حديث الباب شرطية وتأويلها ما سبق وفي قوله: "أحب الله لقاءه" العدول عن الضمير إلى الظاهر تفخيما وتعظيما ودفعا لتوهم عود الضمير على الموصول لئلا يتحد في الصورة المبتدأ والخبر ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى وأيضا فعود الضمير على المصاف إليه قليل. وقرأت بخط ابن الصائغ في "شرح المشارق" يحتمل أن يكون لقاء الله مضافا للمفعول فأقامه مقام الفاعل ولقاءه إما مضاف للمفعول أو للفاعل الضمير أو للموصول لأن الجواب إذا كان شرطا فالأولى أن يكون فيه ضمير نعم هو موجود هنا ولكن تقديرا. قوله: "ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قال المازري: من قضى الله بموته لا بد أن يموت وإن كان كارها للقاء الله ولو كره الله موته لما مات فيحمل الحديث على كراهته سبحانه وتعالى الغفران له وإرادته لإبعاده من رحمته. قلت: ولا اختصاص لهذا البحث بهذا الشق فإنه يأتي مثله في الشق الأول كأن يقال مثلا من قضى الله بامتداد حياته لا يموت ولو كان محبا للموت إلخ. قوله: "قالت عائشة أو بعض أزواجه" كذا في هذه الرواية بالشك وجزم سعد بن هشام في روايته عن عائشة بأنها هي التي قالت ذلك ولم يتردد وهذه الزيادة في هذا الحديث لا تظهر صريحا هل هي من كلام عبادة والمعنى أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مراجعة عائشة أو من كلام أنس بأن يكون حضر ذلك فقد وقع في رواية حميد التي أشرت إليها بلفظ: "فقلنا يا رسول الله" فيكون أسند القول إلى جماعة وإن كان المباشر له واحدا وهي عائشة

(11/358)


وكذا وقع في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى التي أشرت إليها وفيها "فأكب القوم يبكون وقالوا: إنا نكره الموت قال: ليس ذلك" ولابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة نحو حديث الباب وفيه: "قيل يا رسول الله ما منا من أحد إلا وهو يكره الموت فقال: إذا كان ذلك كشف له" ويحتمل أيضا أن يكون من كلام قتادة أرسله في رواية همام ووصله في رواية سعيد بن أبي عروبة عنه عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة فيكون في رواية همام إدراج وهذا أرجح في نظري فقد أخرجه مسلم عن هداب بن خالد عن همام مقتصرا على أصل الحديث دون قوله: "فقالت عائشة إلخ" ثم أخرجه من رواية سعيد بن أبي عروبة موصولا تاما وكذا أخرجه هو وأحمد من رواية شعبة والنسائي من رواية سليمان التيمي كلاهما عن قتادة وكذا جاء عن أبي هريرة وغير واحد من الصحابة بدون المراجعة وقد أخرجه الحسن بن سفيان وأبو يعلى جميعا عن هدبة بن خالد عن همام تاما كما أخرجه البخاري عن حجاج عن همام وهدبة هو هداب شيخ مسلم فكأن مسلما حذف الزيادة عمدا لكونها مرسلة من هذا الوجه واكتفى بإيرادها موصولة من طريق سعيد بن أبي عروبة وقد رمز البخاري إلى ذلك حيث علق رواية شعبة بقوله اختصره إلخ وكذا أشار إلى رواية سعيد تعليقا وهذا من العلل الخفية جدا. قوله: "إنا لنكره الموت" في رواية سعد بن هشام "فقالت يا نبي الله أكراهة الموت؟ فكلنا نكره الموت". قوله: "بشر برضوان الله وكرامته" في رواية سعد بن هشام "بشر برحمة الله ورضوانه وجنته" وفي حديث حميد عن أنس "ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله وليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى "ولكنه إذا حضر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله والله للقائه أحب". قوله: "فليس شيء أحب إليه مما أمامه" بفتح الهمزة أي ما يستقبله بعد الموت وقد وقعت هذه المراجعة من عائشة لبعض التابعين فأخرج مسلم والنسائي من طريق شريح بن هانئ قال سمعت أبا هريرة فذكر أصل الحديث قال: "فأتيت عائشة فقلت سمعت حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا" فذكره قال: "وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت فقالت: ليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص البصر - بفتح الشين والخاء المعجمتين وآخره مهملة أي فتح المحتضر عينيه إلى فوق فلم يطرف - وحشرج الصدر - بحاء مهملة مفتوحة بعدها معجمة وآخره جيم أي ترددت الروح في الصدر - واقشعر الجلد وتشنجت" بالشين المعجمة والنون الثقيلة والجيم أي تقبضت وهذه الأمور هي حالة المحتضر وكأن عائشة أخذته من معنى الخبر الذي رواه عنها سعد بن هشام مرفوعا وأخرجه مسلم والنسائي أيضا عن شريح بن هانئ عن عائشة مثل روايته عن أبي هريرة وزاد في آخره: "والموت دون لقاء الله" وهذه الزيادة من كلام عائشة فيما يظهر لي ذكرتها استنباطا مما تقدم وعند عبد بن حميد من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: "إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له قبل موته بعام ملكا يسده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرا قيض له قبل موته بعام شيطانا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه. فإذا حضر ورأى ما أعد له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه" قال الخطابي: تضمن حديث الباب من التفسير ما فيه غنية عن غيره واللقاء يقع على أوجه: منها المعاينة ومنها البعث كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} ومنها الموت كقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ

(11/359)


لَآتٍ} وقوله: "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم" وقال ابن الأثير في النهاية: المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقول عائشة والموت دون لقاء الله يبين أن الموت غير اللقاء ولكنه معترض دون الغرض المطلوب فيجب أن يصبر عليه ويحتمل مشاقه حتى يصل إلى الفوز باللقاء. قال الطيبي: يريد أن قول عائشة إنا لنكره الموت يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت وليس كذلك لأن لقاء الله غير الموت بدليل قوله في الرواية الأخرى "والموت دون لقاء الله" لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء الله بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة. قال: ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: "إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا فلا يحب استمرار الإقامة فيها بل يستعد للارتحال عنها والكراهة بضد ذلك وقال النووي: معنى الحديث أن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة حيث يكشف الحال للمحتضر ويظهر له ما هو صائر إليه. قوله: "بشر بعذاب الله وعقوبته" في رواية سعد بن هشام "بشر بعذاب الله وسخطه" وفي رواية حميد عن أنس "وإن الكافر أو الفاجر إذا جاءه ما هو صائر إليه من السوء أو ما يلقى من الشر إلخ" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى نحو ما مضى. قوله: "اختصره أبو داود وعمرو عن شعبة" يعني عن قتادة عن أنس عن عبادة ومعنى اختصاره أنه اقتصر على أصل الحديث دون قوله: "فقالت عائشة إلخ" فأما رواية أبي داود وهو الطيالسي فوصلها الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي داود وكذا وقع لنا بعلو في مسند أبي داود الطيالسي وأما رواية عمرو وهو ابن مرزوق فوصلها الطبراني في "المعجم الكبير" عن أبي مسلم الكجي ويوسف بن يعقوب القاضي كلاهما عن عمرو بن مرزوق وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة وهو عند مسلم من رواية محمد بن جعفر وهو غندر. قوله: "وقال سعيد عن قتادة إلخ" وصله مسلم من طريق خالد بن الحارث ومحمد بن بكر كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة كما تقدم بيانه وكذا أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من رواية سعيد بن أبي عروبة ووقع لنا بعلو في "كتاب البعث" لابن أبي داود.وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم البداءة بأهل الخير في الذكر لشرفهم وإن كان هل الشر أكثر وفيه أن المجازاة من جنس العمل فإنه قابل المحبة بالمحبة والكراهة بالكراهة وفيه أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة وفيه نظر فإن اللقاء أعم من الرؤية ويحتمل على بعد أن يكون في قوله: "لقاء الله" حذف تقديره لقاء ثواب الله ونحو ذلك ووجه البعد فيه الإتيان بمقابله لأن أحدا من العقلاء لا يكره لقاء ثواب الله بل كل من يكره الموت إنما يكرهه خشية أن لا يلقى ثواب الله إما لإبطائه عن دخول الجنة بالشغل بالتبعات وإما لعدم دخولها أصلا كالكافر. وفيه أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلا على أنه بشر بالخير وكذا بالعكس. وفيه أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة

(11/360)


وأما عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي بل هي مستحبة. وفيه أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلا فمن كرهه إيثارا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموما ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصرا في العمل لم يستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله تعالى. وفيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذا من قوله: "والموت دون لقاء الله" وقد تقدم أن اللقاء أعم من الرؤية فإذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية وقد ورد بأصرح من هذا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعا في حديث طويل وفيه: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". حديث أبي موسى مثل حديث عبادة دون قوله: "فقالت عائشة إلخ "وكأنه أورده استظهارا لصحة الحديث وقد أخرجه مسلم أيضا وبريد بموحدة ثم مهملة هو ابن عبد الله بن أبي بردة. قوله: "أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم" كذا في رواية عقيل ومضى في الوفاة النبوية من طريق شعيب عن الزهري "أخبرني عروة" ولم يذكر معه أحدا ومن طريق يونس عن الزهري "أخبرني سعيد بن المسيب في رجال من أهل العلم" ولم يذكر عروة وقد ذكرت في كتاب الدعوات تسمية بعض من أبهم في هذه الرواية من شيوخ الزهري وتقدم شرح الحديث مستوفي في الوفاة النبوية ومناسبته للترجمة من جهة اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للقاء الله بعد أن خير بين الموت والحياة فاختار الموت فينبغي الاستنان به في ذلك. وقد ذكر بعض الشراح أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت لما أتاه ليقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه قل له هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟ فقال يا ملك الموت الآن فاقبض. ووجدت في "المبتدأ" لأبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري أحد الضعفاء بسند له عن ابن عمر قال: "قال ملك الموت يا رب إن عبدك إبراهيم جزع من الموت فقال: قل له الخليل إذا طال به العهد من خليله اشتاق إليه. فبلغه فقال: نعم يا رب قد اشتقت إلى لقائك فأعطاه ريحانة فشمها فقبض فيها".

(11/361)


42 - باب سَكَرَاتِ الْمَوْتِ
6510- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ يَشُكُّ عُمَرُ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ" ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْعُلْبَةُ مِنْ الْخَشَبِ وَالرَّكْوَةُ مِنْ الأَدَمِ"
6511- حَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الأَعْرَابِ جُفَاةً يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُونَهُ مَتَى السَّاعَةُ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ إِنْ يَعِشْ هَذَا لاَ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ

(11/361)


حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي مَوْتَهُمْ"
6512- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ "عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"
[الحديث 6512- طرفه في 6513]
6513- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ"
6514- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ"
6515- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الْجَنَّةُ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَيْهِ"
6516- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا"
قوله: "باب سكرات الموت" بفتح المهملة والكاف جمع سكرة قال الراغب وغيره: السكر حالة تعرض بين المرء وعقله وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس والغشي الناشىء عن الألم وهو المراد هنا. قوله: "عن عمر بن سعيد" أي ابن أبي حسين المكي. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة" بضم المهملة وسكون اللام بعدها موحدة. قوله: "شك عمر" هو ابن سعيد بن أبي حسين راويه وتقدم في الوفاة النبوية بلفظ: "يشك عمر" وفي رواية الإسماعيلي: "شك ابن أبي حسين". قوله: "فجعل يدخل يده" عند الكشميهني: "يديه" بالتثنية وكذا تقدم لهم في الوفاة النبوية بهذا الإسناد في أثناء حديث أوله قصة السواك فاختصره المؤلف هنا. قوله: "فيمسح بها" في رواية الكشميهني: "بهما" بالتثنية وكذا لهم في الوفاة. قوله: "إن للموت سكرات" وقع في رواية القاسم عن عائشة عند أصحاب السنن سوى أبي داود بسند حسن بلفظ: "ثم يقول اللهم أعني على سكرات الموت" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى

(11/362)


هناك. وتقدم هناك أيضا من رواية القاسم بن محمد عن عائشة "مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي. فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: "ما أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "العلبة من الخشب والركوة من الأدم" ثبت هذا في رواية المستملي وحده وهو المشهور في تفسيرهما ووقع في "المحكم": الركوة شبه تور من أدم قال المطرزي: دلو صغير: وقال غيره: كالقصعة تتخذ من جلد ولها طوق خشب. وأما العلبة فقال العسكري: هي قدح الأعراب تتخذ من جلد. وقال ابن فارس: قدح ضخم من خشب وقد يتخذ من جلد وقيل أسفله جلد وأعلاه خشب مدور. وفي الحديث أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته وإما تكفير لسيئاته. وبهذا التقرير تظهر مناسبة أحاديث الباب للترجمة. قوله: "صدقة" هو ابن الفضل المروزي وعبدة هو ابن سليمان. وهشام هو ابن عروة. قوله: "كان رجال من الأعراب" لم أقف على أسمائهم. قوله: "جفاة" في رواية الأكثر بالجيم وفي رواية بعضهم بالمهملة وإنما وصفهم بذلك أما على رواية الجيم فلأن سكان البوادي يغلب عليهم الشظف وخشونة العيش فتجفو أخلاقهم غالبا. وأما على رواية الحاء فلقلة اعتنائهم بالملابس. قوله: "متى الساعة"؟ في رواية مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام "كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة؟ وكان ذلك لما طرق أسماعهم من تكرار اقترابها في القرآن فأرادوا أن يعرفوا تعيين وقتها. قوله: "فينظر إلى أصغرهم" في رواية مسلم: "فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال" ورواية عبدة ظاهرها تكرير ذلك ويؤيد سياق مسلم حديث أنس عنده "إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة" ولم أقف على اسم هذا بعينه لكنه يحتمل أن يفسر بذي الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد وسأل متى تقوم الساعة وقال اللهم ارحمني ومحمدا ولكن جوابه عن السؤال عن الساعة مغاير لجواب هذا. قوله: "إن يعش هذا لا يدركه الهرم" في حديث أنس عند مسلم: "وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد" وله في رواية أخرى "وعنده غلام من أزد شنوءة" بفتح المعجمة وضم النون ومد وبعد الواو همزة ثم هاء تأنيث وفي أخرى له "غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أقراني" ولا مغايرة بينهما وطريق الجمع أنه كان من أزد شنوءة وكان حليفا للأنصار وكان يخدم المغيرة وقول أنس "وكان من أقراني" وفي رواية له "من أترابي" يزيد في السن وكان سن أنس حينئذ نحو سبع عشرة سنة. قوله: "حتى تقوم عليكم ساعتكم" قال هشام هو ابن عروة راويه "يعني موتهم" وهو موصول بالسند المذكور وفي حديث أنس "حتى تقوم الساعة" قال عياض: حديث عائشة هذا يفسر حديث أنس وأن المراد ساعة المخاطبين وهو نظير قوله: "أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها الآن أحد" وقد تقدم بيانه في كتاب العلم وأن المراد انقراض ذلك القرن وأن من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مضت مائة سنة من وقت تلك المقالة لا يبقى منهم أحد ووقع الأمر كذلك فإن آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبو الطفيل عامر بن واثلة كما جزم به مسلم وغيره وكانت وفاته سنة عشر ومائة من الهجرة وذلك عند رأس مائة سنة من وقت تلك المقالة وقيل كانت وفاته قبل ذلك فإن كان كذلك فيحتمل أن يكون تأخر بعده بعض من أدرك ذلك الزمان وإن لم يثبت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبه احتج جماعة من المحققين على كذب من ادعى الصحبة أو الرؤية ممن تأخر عن ذلك الوقت. وقال الراغب: الساعة جزء من الزمان

(11/363)


ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة الحساب قال الله تعالى: {وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أو لما نبه عليه بقوله: {أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء: الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة والوسطى وهي موت أهل القرن الواحد نحو ما روى أنه رأى عبد الله بن أنيس فقال: إن يطل عمر هذا الغلام لم يمت حتى تقوم الساعة فقيل أنه آخر من مات من الصحابة. والصغرى موت الإنسان فساعة كل إنسان موته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عند هبوب الريح: تخوفت الساعة يعني موته انتهى. وما ذكره عن عبد الله بن أنيس لم أقف عليه ولا هو آخر من مات من الصحابة جزما قال الداودي: هذا الجواب من معاريض الكلام فإنه لو قال لهم لا أدري ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء وقبل تمكن الإيمان في قلوبهم لارتابوا فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذي ينقرضون هم فيه ولو كان تمكن الإيمان في قلوبهم لأفصح لهم بالمراد. وقال ابن الجوزي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بأشياء على سبيل القياس وهو دليل معمول به فكأنه لما نزلت عليه الآيات في تقريب الساعة كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} حمل ذلك على أنها لا تزيد على مضى قرن واحد ومن ثم قال في الدجال "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه" فجوز خروج الدجال في حياته قال: وفيه وجه آخر فذكر نحو ما تقدم. قلت: والاحتمال الذي أبداه بعيد جدا. والذي قبله هو المعتمد والفرق بين الخبر عن الساعة وعن الدجال تعيين المدة في الساعة دونه والله أعلم. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى حدث بها خواص أصحابه تدل على أن بين يدي الساعة أمورا عظاما كما سيأتي بعضها صريحا وإشارة ومضى بعضها في علامات النبوة. وقال الكرماني: هذا الجواب من الأسلوب الحكيم أي دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم لأن معرفتكم به تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس وحلحلة بمهملتين مفتوحتين ولامين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة وقد صرح بسماعه من ابن كعب في الرواية الثانية والسند كله مدنيون ولم يختلف الرواة في الموطأ عن مالك فيه. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر" بضم الميم على البناء للمجهول ولم أقف على اسم المار ولا الممرور بجنازته. قوله: "عليه" أي على النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في "الموطآت" للدار قطني من طريق إسحاق بن عيسى عن مالك بلفظ: "مر برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة" والباء على هذا بمعنى على وذكر الجنازة باعتبار الميت. قوله: "قال مستريح" كذا هنا ووقع في رواية: "فقال" بزيادة الفاء في أوله وكذا في رواية المحابي المذكورة وكذا للنسائي من رواية وهب بن كيسان عن معبد بن مالك وقال في روايته: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلعت جنازة" قوله: "مستريح ومستراح منه" الواو فيه بمعنى أو وهي للتقسيم على ما صرح بمقتضاه في جواب سؤالهم. قوله: "قالوا" أي الصحابة ولم أقف على اسم السائل منهم بعينه إلا أن في رواية إبراهيم الحربي عند أبي نعيم "قلنا" فيدخل فيهم أبو قتادة فيحتمل أن يكون هو السائل. قوله: "ما المستريح والمستراح منه" في رواية الدار قطني "وما المستراح منه" بإعادة ما. قوله: "من نصب الدنيا وأذاها" زاد النسائي رواية وهب بن كيسان "من أوصاب الدنيا" والأوصاب جمع وصب بفتح الواو والمهملة ثم موحدة وهو دوام الوجع ويطلق أيضا على فتور البدن والنصب بوزنه لكن أوله نون هو التعب وزنه ومعناه والأذى من عطف العام على الخاص: قال ابن التين

(11/364)


يحتمل أن يريد بالمؤمن التقى خاصة ويحتمل كل مؤمن. والفاجر يحتمل أن يريد به الكافر ويحتمل أن يدخل فيه العاصي. وقال الداودي: أما استراحة العباد فلما يأتي به من المنكر فإن أنكروا عليه آذاهم وإن تركوه أثموا واستراحة البلاد مما يأتي به من المعاصي فإن ذلك مما يحصل به الجدب فيقتضي هلاك الحرث والنسل. وتعقب الباجي أول كلامه بأن من ناله أذاه لا يأثم بتركه لأنه بعد أن ينكر بقلبه أو ينكر بوجه لا يناله به أذى ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه لما يقع لهم من ظلمه وراحة الأرض منه لما يقع عليها من غصبها ومنعها من حقها وصرفه في غير وجهه وراحة الدواب مما لا يجوز من إتعابها والله أعلم. قوله: "يحيى" هو القطان وعبد ربه بن سعيد كذا وقع هنا لأبي ذر عن شيوخه الثلاثة وكذا في رواية أبي زيد المروزي ووقع عند مسلم عن محمد بن المثنى "عن يحيى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند" وكذا أخرجه أبو يعلى من طريق يحيى القطان عن عبد الله بن سعيد لكن لم يذكر جده وكذا عنده وعند مسلم من طريق عبد الرزاق وعند الإسماعيلي أيضا من طريق عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال كل منهما "حدثنا عبد الله بن سعيد" وكذا أخرجه ابن السكن من طريق عبد الرزاق عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طرق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ البخاري فيه مثله سواء قال أبو علي الجياني: هذا هو الصواب وكذا رواه ابن السكن عن الفربري فقال في روايته: "عن عبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند" والحديث محفوظ له لا لعبد ربه. قلت: وجزم المزي في "الأطراف" أن البخاري أخرجه لعبد الله بن سعيد بن أبي هند بهذا السند وعطف عليه رواية مسلم ولكن التصريح بابن أبي هند لم يقع في شيء من نسخ البخاري. قوله: "مستريح ومستراح منه المؤمن يستريح" كذا أورده بدون السؤال والجواب مقتصرا على بعضه وأورده الإسماعيلي من طريق بندار وأبي موسى عن يحيى القطان ومن طريق عبد الرزاق قال: "حدثنا عبد الله بن سعيد" تاما ولفظه: "مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة" فذكر مثل سياق مالك لكن قال: "فقيل يا رسول الله ما مستريح إلخ". "تنبيه": مناسبة دخول هذا الحديث في الترجمة أن الميت لا يعدو أحد القسمين إما مستريح وإما مستراح منه وكل منهما يجوز أن يشدد النبي عند الموت وأن يخفف والأول هو الذي يحصل له سكرات الموت ولا يتعلق ذلك بتقواه ولا بفجوره بل إن كان من أهل التقوى ازداد ثوابا وإلا فيكفر عنه بقدر ذلك ثم يستريح من أذى الدنيا الذي هذا خاتمته ويؤيد ذلك ما تقدم من كلام عائشة في الحديث الأول وقد قال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن يهون على سكرات الموت إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن. ومع ذلك فالذي يحصل للمؤمن من البشرى ومسرة الملائكة بلقائه ورفقهم به وفرحه بلقاء ربه يهون عليه كل ما يحصل له من ألم الموت حتى يصير كأنه لا يحس بشيء من ذلك. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة وليس لشيخه عبد الله بن أبي بكر في الصحيح عن أنس إلا هذا الحديث. قوله: "يتبع الميت" كذا للسرخسي والأكثر وفي رواية المستملي: "المرء" وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "المؤمن" والأول المعتمد فهو المحفوظ من حديث ابن عيينة وهو كذلك عند مسلم. قوله: "يتبعه أهله وماله وعمله" هذا يقع في الأغلب ورب ميت لا يتبعه إلا عمله فقط والمراد من يتبع جنازته من أهله ورفقته ودوابه على ما جرت به عادة العرب وإذا انقضى أمر الحزن عليه رجعوا سواء أقاموا بعد الدفن أم لا ومعنى بقاء عمله أنه يدخل معه القبر وقد وقع في حديث البراء بن عازب الطويل في صفة المسألة في القبر عند أحمد

(11/365)


وغيره ففيه: "ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح" وقال في حق الكافر "ويأتيه رجل قبيح الوجه" الحديث وفيه: "بالذي يسوؤك وفيه عملك الخبيث" قال الكرماني: التبعية في حديث أنس بعضها حقيقة وبعضها مجاز فيستفاد منه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه. قلت: هو في الأصل حقيقة في الحس ويطرقه المجاز في البعض وكذا المال وأما العمل فعلى الحقيقة في الجميع وهو مجاز بالنسبة إلى التبعية في الحس. قوله: "أبو النعمان" هو محمد بن الفضل والسند إلى نافع بصريون. قوله: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي والسرخسي "على مقعده" وهذا العرض يقع على الروح حقيقة وعلى ما يتصل به من البدن الاتصال الذي يمكن به إدراك التنعيم أو التعذيب على ما تقدم تقريره وأبدى القرطبي في ذلك احتمالين: هل هو على الروح فقط أو عليها وعلى جزء من البدن؟ وحكى ابن بطال عن بعض أهل بلدهم أن المراد بالعرض هنا الإخبار بأن هذا موضع جزائكم على أعمالكم عند الله وأريد بالتكرير تذكارهم بذلك واحتج بأن الأجساد تفنى والعرض لا يقع على شيء فإن قال: فبان أن العرض الذي يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة وتعقب بأن حمل العرض على الإخبار عدول عن الظاهر بغير مقتض لذلك ولا يجوز العدول إلا بصارف يصرفه عن الظاهر قلت: ويؤيد الحمل على الظاهر أن الخبر ورد على العموم في المؤمن والكافر فلو اختص بالروح لم يكن للشهيد في ذلك كبير فائدة لأن روحه منعمة جزما كما في الأحاديث الصحيحة وكذا روح الكافر معذبة في النار جزما فإذا حمل على الروح التي لها اتصال بالبدن ظهرت فائدة ذلك في حق الشهيد وفي حق الكافر أيضا. قوله: "غدوة وعشية" أي أول النهار وآخره بالنسبة إلى أهل الدنيا. قوله: "إما النار وإما الجنة" تقدم في الجنائز من رواية مالك بلفظ: "إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة" وتقدم توجيهه في أواخر كتاب الجنائز؛ وتقدم هناك بحث القرطبي في "المفهم". ثم إن هذا العرض للمؤمن المتقي والكافر ظاهر وأما المؤمن المخلط فيحتمل أيضا أن يعرض عليه مقعده من الجنة التي سيصير إليها. قلت: والانفصال عن هذا الإشكال يظهر من الحديث الذي أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة السؤال في القبر وفيه: "ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا" الحديث وفيه في حق الكافر "ثم يفتح له باب من أبواب النار" وفيه: "فيزداد حسرة وثبورا" في الموضعين وفيه: "لو أطعته" وأخرج الطبراني عن ابن مسعود "ما من نفس إلا وتنظر في بيت في الجنة وبيت في النار فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة فيقال: لو عملتم ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار فيقال لولا أن من الله عليكم" ولأحمد عن عائشة ما يؤخذ منه أن رؤية ذلك للنجاة أو العذاب في الآخرة فعلى هذا يحتمل في المذنب الذي قدر عليه أن يعذب قبل أن يدخل الجنة أن يقال له مثلا بعد عرض مقعده من الجنة: هذا مقعدك من أول وهلة لو لم تذنب وهذا مقعدك من أول وهلة لعصيانك نسأل الله العفو والعافية من كل بلية في الحياة وبعد الموت إنه ذو الفضل العظيم. قوله: "فيقال هذا مقعدك حتى تبعث إليه" في رواية الكشميهني: "عليه" وفي طريق مالك "حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" وقد بينت الإشارة إليه بعد خمسة أبواب. حديث عائشة في النهي عن سب الأموات تقدم شرحه

(11/366)


مستوفى في أواخر كتاب الجنائز.

(11/367)


43 - باب نَفْخِ الصُّورِ. قَالَ مُجَاهِدٌ الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ زَجْرَةٌ صَيْحَةٌ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ النَّاقُورِ الصُّورِ الرَّاجِفَةُ النَّفْخَةُ الأُولَى وَ الرَّادِفَةُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ
6517- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ قَالَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ عز وجل"
6518- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب نفخ الصور" تكرر ذكره في القرآن في الأنعام والمؤمنين والنمل والزمر وق وغيرها وهو بضم المهملة وسكون الواو وثبت كذلك في القراءات المشهورة والأحاديث وذكر عن الحسن البصري أنه قرأها بفتح الواو جمع صورة وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح وقال أبي عبيدة في "المجاز": يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة كما يقال سور المدينة جمع سورة قال الشاعر "لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة" فيستوي معنى القراءتين. وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد: كالصوف جمع صوفة قالوا والمراد النفخ في الصور وهي الأجساد لتعاد فها الأرواح كما قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وتعقب قوله: "جمع" بأن هذه أسماء أجناس لا جموع وبالغ النحاس وغيره في الرد على التأويل وقال الأزهري: إنه خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة. قلت: وقد أخرج أبو الشيخ في "كتاب العظمة" من طريق وهب بن منبه من قوله قال: خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلق به. ثم قال: كن فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة. فذكر الحديث وفيه ثم تجمع الأرواح كلها في الصور ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح في جسدها فعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولا ليصل النفخ بالروح إلى الصور وهي الأجساد فإضافة النفخ إلى الصور الذي هو القرن حقيقة وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز. قوله: "قال مجاهد الصور كهيئة البوق" وصله

(11/367)


الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} قال كهيئة البوق. وقال صاحب الصحاح. البوق الذي يزمر به وهو معروف ويقال للباطل يعني يطلق ذلك عليه مجازا لكونه من جنس الباطل. تنبيه: لا يلزم من كون الشيء مذموما أن لا يشبه به الممدوح فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة الجرس مع النهي عن استصحاب الجرس كما تقدم تقريره في بدء الوحي والصور إنما هو قرن كما جاء في الأحاديث المرفوعة وقد وقع في قصة بدء الأذان بلفظ البوق والقرن في الآلة التي يستعملها اليهود للأذان ويقال إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن وشاهده قول الشاعر:
نحن نفخناهم غداة النقعين ... نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ قال: "قرن ينفخ فيه" والترمذي أيضا وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا: "كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ" وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة ولأحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه: "جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعني إسرافيل" وفي أسانيد كل منهما مقال. وللحاكم بسند حسن عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رفعه: "إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان". قوله: "زجرة: صيحة" هو من تفسير مجاهد أيضا. وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح مجاهد في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} قال: صيحة. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قال: صيحة. قلت: وهي عبارة عن نفخ الصور النفخة الثانية كما عبر بها عن النفخة الأولى في قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} الآية. قوله: "قال ابن عباس: الناقور الصور" وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال: الصور ومعنى نقر: نفخ قاله في الأساس. وأخرج البيهقي من طريق أخرى عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن" الحديث. "تنبيه" اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ونقل فيه الحليمي الإجماع ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه المذكور وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه وكذا في حديث الصور الطويل الذي أخرجه عبد بن حميد والطبري وأبو يعلى في الكبير والطبراني في الطوالات وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية والبيهقي في البعث من حديث أبي هريرة ومداره على إسماعيل بن رافع واضطرب في سنده مع ضعفه فرواه عن محمد بن كعب القرظي تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل مبهم ومحمد عن أبي هريرة تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل من الأنصار مبهم أيضا وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء أيضا في تفسيره عن محمد بن عجلان عن محمد بن كعب القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع وخفي عليه أن الشامي أضعف منه ولعله سرقه منه فألصقه بابن عجلان وقد قال الدار قطني: إنه متروك يضع الحديث وقال الخليلي: شيخ ضعيف شحن

(11/368)


تفسيره بما لا يتابع عليه. وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في حديث الصور: جمعه إسماعيل ابن رافع من عدة آثار وأصله عنده عن أبي هريرة فساقه كله مساقا واحدا. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في سراجه وتبعه القرطبي في التذكرة وقول عبد الحق في تضعيفه أولى وضعفه قبله البيهقي فوقع في هذا الحديث عند علي بن معبد "إن الله خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش" الحديث وقد ذكرت ما جاء عن وهب بن منبه في ذلك فلعله أصله وجاء أن الذي ينفخ في الصور غيره ففي الطبراني الأوسط عن عبد الله بن الحارث "كنا عند عائشة فقالت يا كعب أخبرني عن إسرافيل" فذكر الحديث وفيه: "وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى يلتقم الصور محنيا ظهره شاخصا ببصره إلى إسرافيل وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور فقالت عائشة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ورجاله ثقات إلا على بن زيد بن جدعان ففيه ضعف فإن ثبت حمل على أنهما جميعا ينفخان ويؤيده ما أخرجه هناد بن السري في كتاب الزهد بسند صحيح لكنه موقوف علي عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: "ما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور" ومن طريق عبد الله بن ضمرة مثله وزاد: "ينتظران متى ينفخان" ونحوه عند أحمد من طريق سليمان التيمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب - أو قال بالعكس - ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا" ورجاله ثقات وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بغير شك ولابن ماجه والبزار من حديث أبي سعيد رفعه: "إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران" وعلى هذا فقوله في حديث عائشة "إنه إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه نفخ أنه ينفخ النفخة الأولى وهي نفخة الصعق ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية وهي نفخة البعث". قوله: "الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية" هو من تفسير ابن عباس أيضا وصله الطبري أيضا وابن أبي حاتم بالسند المذكور وقد تقدم بيانه في تفسير سورة والنازعات وبه جزم الفراء وغيره في "معاني القرآن" وعن مجاهد قال: الراجفة الزلزلة والرادفة الدكدكة أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما عنه ونحوه في حديث الصور الطويل قال في رواية علي بن معبد: ثم ترتج الأرض وهي الراجفة فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج. ويمكن الجمع بأن الزلزلة تنشأ عن نفخة الصعق. حديث أبي هريرة "إن الناس يصعقون" وقد تقدم شرحه في قصة موسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء وذكرت فيه ما نقل عن ابن حزم أن النفخ في الصور يقع أربع مرات وتعقب كلامه في ذلك ثم رأيت في كلام ابن العربي أنها ثلاث: نفخة الفزع كما في النمل. ونفخة الصعق كما في الزمر ونفخة البعث وهي المذكورة في الزمر أيضا. قال القرطبي: والصحيح أنهما نفختان فقط لثبوت الاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} في من الآيتين ولا يلزم من مغايرة الصعق للفزع أن لا يحصلا معا من النفخة الأولى ثم وجدت مستند ابن العربي في حديث الصور الطويل فقال فيه: "ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين" أخرجه الطبري هكذا مختصرا وقد ذكرت أن سنده ضعيف ومضطرب وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنهما نفختان ولفظه في أثناء حديث مرفوع "ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" وأخرج البيهقي بسند

(11/369)


قوي عن ابن مسعود موقوفا "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه والصور قرن فلا يبقى لله خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا من شاء ربك ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون" وفي حديث أوس بن أوس الثقفي رفعه: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه الصعقة وفيه النفخة" الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقد تقدم في تفسير سورة الزمر من حديث أبي هريرة "بين النفختين أربعون" وفي كل ذلك دلالة على أنهما نفختان فقط وقد تقدم شرحه هناك وفيه شرح قول أبي هريرة لما قيل له أربعون سنة "أبيت" بالموحدة ومعناه امتنعت من تبيينه لأني لا أعلمه فلا أخوص فيه بالرأي وقال القرطبي في "التذكرة": يحتمل قوله امتنعت أن يكون عنده علم منه ولكنه لم يفسره لأنه لم تدع الحاجة إلى بيانه ويحتمل أن يريد امتنعت أن أسأل عن تفسيره فعلى الثاني لا يكون عنده علم منه قال: وقد جاء أن بين النفختين أربعين عاما قلت: وقع كذلك في طريق ضعيف عن أبي هريرة في تفسير ابن مردويه وأخرج ابن المبارك في "الرقائق" من مرسل الحسن "بين النفختين أربعون سنة: الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيى الله بها كل ميت" ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس وهو ضعيف أيضا وعنده أيضا ما يدل على أن أبا هريرة لم يكن عنده علم بالتعيين فأخرج عنه بسند جيد أنه لما قالوا "أربعون ماذا" قال: "هكذا سمعت" وأخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة فذكر حديث أبي هريرة منقطعا ثم قال: "قال أصحابه: ما سألناه عن ذلك ولا زادنا عليه غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة" وفي هذا تعقب على قول الحليمي: اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة. قلت وجاء فيما يصنع بالموتى بين النفختين ما وقع في حديث الصور الطويل أن جميع الأحياء إذا ماتوا بعد النفخة الأولى ولم يبق إلا الله قال سبحانه: أنا الجبار لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد فيقول: لله الواحد القهار. وأخرج النحاس من طريق أبي وائل عن عبد الله أن ذلك يقع بعد الحشر ورجحه. ورجح القرطبي الأول. ويمكن الجمع بأن ذلك يقع مرتين وهو أولى. وأخرج البيهقي من طريق أبي الزعراء: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر الدجال إلى أن قال: "ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون فليس في بني آدم خلق إلا في الأرض منه شيء قال فيرسل الله ماء من تحت العرش فتنبت جسمانهم ولحماتهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الري" ورواته ثقات. إلا أنه موقوف." تنبيه": إذا تقرر أن النفخة للخروج من القبور فكيف تسمعها الموتى؟ والجواب: يجوز أن تكون نفخة البعث تطول إلى أن يتكامل إحياؤهم شيئا بعد شيء وتقدم الإلمام في قصة موسى بشيء مما ورد في تعيين من استثنى الله تعالى في قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال: الأول أنهم الموتى كلهم لكونهم لا إحساس لهم فلا يصعقون وإلى هذا جنح القرطبي في "المفهم" وفيه ما فيه ومستنده أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح وتعقبه صاحبه القرطبي في "التذكرة"1 فقال فد صح فيه حديث أبي هريرة؛ وفي الزهد لهناد بن السري عن سعيد بن جبير موقوفا هم الشهداء وسنده إلى سعيد صحيح. وسأذكر حديث أبي هريرة في الذي بعده وهذا هو قول الثاني. الثالث الأنبياء وإلى ذلك جنح البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه أن يكون موسى ممن استثنى الله قال: ووجهه
ـــــــ
1 القرطبي صاحب "التذكرة" تلميذ القرطبي صاحب "المفهم شرح مسلم"

(11/370)


عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار. وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع له في صعقة الطور. ثم ذكر أثر سعيد بن جبير في الشهداء وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله عز وجل صححه الحاكم ورواته ثقات ورجحه الطبري. الرابع قال يحيى بن سلام في تفسيره: بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يموت الثلاثة ثم يقول الله لملك الموت مت فيموت. قلت: وجاء نحو هذا مسندا في حديث أنس أخرجه البيهقي وابن مردويه بلفظ: "فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبريل وميكائيل وملك الموت" الحديث وسنده ضعيف وله طريق أخرى عن أنس ضعيفة أيضا عند الطبري وابن مردويه وسياقه أتم وأخرج الطبري بسند صحيح عن إسماعيل السدي ووصله إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عن ابن عباس مثل يحيى بن سلام ونحوه عن سعيد بن المسيب أخرجه الطبري وزاد: "ليس فيهم حملة العرش لأنهم فوق السماوات" الخامس يمكن أن يأخذ مما في الرابع. السادس الأربعة المذكورون وحملة العرش وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل المعروف بحديث الصور وقد تقدمت الإشارة إليه وأن سنده ضعيف مضطرب وعن كعب الأحبار نحوه وقال: هم اثنا عشر أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البيهقي من طريق زيد بن أسلم مقطوعا ورجاله ثقات. وجمع في حديث الصور بين هذا القول وبين القول أنهم الشهداء ففيه: "فقال أبو هريرة يا رسول الله فمن استثنى حين الفزع؟ قال: الشهداء" ثم ذكر نفخة الصعق على ما تقدم. السابع موسى وحده أخرجه الطبري بسند ضعيف عن أنس وعن قتادة وذكره الثعلبي عن جابر. الثامن الولدان الذين في الجنة والحور العين. التاسع هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب حكاهما الثعلبي عن الضحاك بن مزاحم. العاشر الملائكة كلهم جزم به أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل" فقال: الملائكة أرواح لا أرواح فيها فلا يموتون أصلا. وأما ما وقع عند الطبري بسند صحيح عن قتادة قال قال الحسن يستثنى الله وما يدع أحدا إلا أذاقه الموت فيمكن أن يعد قولا آخر. قال البيهقي استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال لأن الاستثناء وقع من سكان السماوات والأرض وهؤلاء ليسوا من سكانها لأن العرش فوق السماوات فحملته ليسوا من سكانها وجبريل وميكائيل من الصافين حول العرش ولأن الجنة فوق السماوات والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقتا للبقاء ويدل على أن المستثنى غير الملائكة ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وصححه الحاكم من حديث لقيط ابن عامر مطولا وفيه: "يلبثون ما لبثهم ثم تبعث الصائحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من أحد إلا مات حتى الملائكة الذين مع ربك" . قوله في رواية أبي الزناد عن الأعرج "فما أدري أكان فيمن صعق" كذا أورده مختصرا وبقيته "أم لا" أورده الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن شيخ البخاري فيه. قوله: "رواه أبو سعيد" يعني الخدري "عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أصل الحديث وقد تقدم موصولا في كتاب الأشخاص وفي قصة موسى من أحاديث الأنبياء وذكرت شرحه في قصة موسى أيضا.

(11/371)


44 - باب يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(11/371)


6519- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ"
6520- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ بَلَى قَالَ تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ قَالَ إِدَامُهُمْ بَالاَمٌ وَنُونٌ قَالُوا وَمَا هَذَا قَالَ ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا"
6521- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ"
قوله: "باب يقبض الله الأرض يوم القيامة" لما ذكر ترجمة نفخ الصور أشار إلى ما وقع في سورة الزمر قبل آية النفخ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية وفي قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ما قد يتمسك به أن قبض السماوات والأرض يقع بعد النفخ في الصور أو معه وسيأتي. قوله: "رواه نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" سقط هذا التعليق هنا في رواية بعض شيوخ أبي ذر وقد وصله في كتاب التوحيد ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد. قوله: "عن أبي سلمة" كذا قال يونس وخالفه عبد الرحمن بن خالد فقال: "عن الزهري عن سعيد بن المسيب" كما تقدم في تفسير سورة الزمر وهذا الاختلاف لم يتعرض له الدار قطني في "العلل". وقد أخرج ابن خزيمة في كتاب التوحيد الطريقين وقال: هما محفوظان عن الزهري وسأشبع القول فيه إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد مع شرح الحديث إن شاء الله تعالى وأقتصر هنا على ما يتعلق بتبديل الأرض لمناسبة الحال. قوله: "يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه" زاد في رواية ابن وهب عن يونس "يوم القيامة" قال عياض: هذا الحديث جاء في الصحيح على ثلاثة ألفاظ. القبض والطي والأخذ. وكلها بمعنى الجمع فإن السماوات مبسوطة والأرض مدحوة ممدودة ثم رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة والتبديل فعاد ذلك إلى ضم بعضها إلى بعض وإبادتها فهو تمثيل لصفة قبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وتفرقها دلالة على المقبوض

(11/372)


والمبسوط لا على البسط والقبض قد يحتمل أن يكون إشارة إلى الاستيعاب انتهى. وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقد اختلف في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هل المراد ذات الأرض وصفتها أو تبديل صفتها فقط وسيأتي بيانه في شرح ثالث أحاديث هذا الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن خالد" هو ابن يزيد وفي رواية شعيب بن الليث عن أبيه "حدثني خالد بن يزيد" والسند كله بصريون إلى سعيد ومنه إلى منتهاه مدنيون. قوله: "تكون الأرض يوم القيامة" يعني أرض الدنيا "خبزة" بضم الحاء المعجمة وسكون الموحدة وفتح الزاي قال الخطابي: الخبزة الطلمة بضم المهملة وسكون اللام وهو عجين يوضع في الحفرة بعد إيقاد النار فيها قال والناس يسمونها الملة بفتح الميم وتشديد اللام وإنما الملة الحفرة نفسها. قوله: "يتكفؤها الجبار" بفتح المثناة والكاف وتشديد الفاء المفتوحة بعدها همزة أي يميلها من كفأت الإناء إذا قلبته وفي رواية مسلم: "يكفؤها" بسكون الكاف. قوله: "كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر" قال الخطابي: يعني خبز الملة الذي يصنعه المسافر فإنها لا تدحى كما تدحى الرقاقة وإنما تقلب على الأيدي حتى تستوي وهذا على أن السفر بفتح المهملة والفاء ورواه بعضهم بضم أوله جمع سفرة وهو الطعام الذي يتخذ للمسافر ومنه سميت السفرة. قوله: "نزلا لأهل الجنة" النزل بضم النون وبالزاي وقد تسكن. ما يقدم للضيف وللعسكر يطلق على الرزق وعلى الفضل ويقال أصلح للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزلوا عليه من الغذاء وعلى ما يعجل للضيف قبل الطعام وهو اللائق هنا قال الداودي: المراد الله أنه يأكل منها من سيصير إلى الجنة من أهل المحشر لا أنهم لا يأكلونها حتى يدخلوا الجنة. قلت: وظاهر الخبر يخالفه وكأنه بنى على ما أخرجه الطبري عن سعيد بن جبير قال: تكون الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. ومن طريق أبي معشر عن محمد بن كعب أو محمد ابن قيس نحوه وللبيهقي بسند ضعيف عن عكرمة تبدل الأرض مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب. وعن أبي جعفر الباقر نحوه. وسأذكر بقية ما يتعلق بذلك في الحديث الذي بعده. ونقل الطيبي عن البيضاوي أن هذا الحديث مشكل جدا لا من جهة إنكار صنع الله وقدرته على ما يشاء بل لعدم التوقيف على قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم والمأكول مع ما ثبت في الآثار أن هذه الأرض تصير يوم القيامة نارا وتنضم إلى جهنم فلعل الوجه فيه أن معنى قوله خبزة واحدة أي كخبزة واحدة من نعتها كذا وكذا وهو نظير ما في حديث سهل يعني المذكور بعده كقرصة النقى فضرب المثل بها لاستدارتها وبياضها فضرب المثل في هذا الحديث بخبزة تشبه الأرض في معنيين: أحدهما بيان الهيئة التي تكون الأرض عليها يومئذ والآخر بيان الخبزة التي يهيئها الله تعالى نزلا لأهل الجنة وبيان عظم مقدارها ابتداعا واختراعا. قال الطيبي: وإنما دخل عليه الإشكال لأنه رأى الحديثين في باب الحشر فظن أنهما لشيء واحد. وليس كذلك وإنما هذا الحديث من باب وحديث سهل من باب وأيضا فالتشبيه لا يستلزم المشاركة بين المشبه والمشبه به في جميع الأوصاف بل يكفي حصوله في البعض وتقريره أنه شبه أرض الحشر بالخبزة في الاستواء والبياض وشبه أرض الجنة في كونها نزلا لأهلها ومهيأة لهم تكرمة بعجالة الراكب زاده يقنع به في سفره. قلت: آخر كلامه يقرر ما قال القاضي أن كون أرض الدنيا تصير نارا محمول على حقيقته وأن كونها تصير خبزة يأكل منها أهل الموقف محمول على المجاز والآثار التي أوردتها عن سعيد بن جبير وغيره ترد عليه والأولى الحمل على الحقيقة مهما أمكن

(11/373)


وقدرة الله تعالى صالحة لذلك بل اعتقاد كونه حقيقة أبلغ وكون أهل الدنيا1 ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول زمان الموقف بل يقلب الله لهم بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير علاج ولا كلفة ويكون معنى قوله: "نزلا لأهل الجنة" أي الذين يصيرون إلى الجنة أعم من كون ذلك يقع بعد الدخول إليها أو قبله والله أعلم. قوله: "فأتى رجل" في رواية الكشميهني: "فأتاه". قوله: "من اليهود" لم أقف على اسمه. قوله: "فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك" يريد أنه أعجبه إخبار اليهودي عن كتابهم بنظير ما أخبر به من جهة الوحي وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فكيف بموافقتهم فيما أنزل عليه. قوله: "حتى بدت نواجذه" بالنون والجيم والذال المعجمة جمع ناجذ وهو آخر الأضراس ولكل إنسان أربع نواجذ. وتطلق النواجذ أيضا على الأنياب والأضراس. قوله: "ثم قال" في رواية الكشميهني: "فقال". قوله: "ألا أخبرك" في رواية مسلم: "ألا أخبركم". قوله: "بإدامهم" أي ما يؤكل به الخبز. قوله: "بالام" بفتح الموحدة بغير همز و قوله: "ونون" أي بلفظ أول السورة. قوله: "قالوا" أي الصحابة وفي رواية مسلم: "فقالوا" قوله: "ما هذا" في رواية الكشميهني: "وما هذا" بزيادة واو. قوله: "قال ثور ونون" قال الخطابي هكذا رووه لنا وتأملت النسخ المسموعة من البخاري من طريق حماد ابن شاكر وإبراهيم بن معقل والفربري فإذا كلها على نحو واحد. قلت: وكذا عند مسلم وكذا أخرجه الإسماعيلي وغيره قال الخطابي: فأما نون فهو الحوت على ما فسر في الحديث وأما بالام فدل التفسير من اليهودي على أنه اسم للثور وهو لفظ مبهم لم ينتظم ولا يصح أن يكون على التفرقة اسما لشيء فيشبه أن يكون اليهودي أراد أن يعمى الاسم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين وإنما هو في حق الهجاء لام ياء هجاء لأي بوزن لعى وهو الثور الوحشي وجمعه آلاء بثلاث همزات وزن أحبال فصحفوه فقالوا بالام بالموحدة وإنما هو بالياء آخر الحروف وكتبوه بالهجاء فأشكل الأمر. هذا أقرب ما يقع لي فيه إلا أن يكون إنما عبر عنه بلسانه ويكون ذلك بلسانهم وأكثر العبرانية فيما يقوله أهل المعرفة مقلوب على لسان العرب بتقديم في الحروف وتأخير والله أعلم بصحته. وقال عياض: أورد الحميدي في اختصاره يعني الجمع بين الصحيحين هذا الحديث بلفظ باللأي بكسر الموحدة وألف وصل ولام ثقيلة بعدها همزة مفتوحة خفيفة بوزن الرحى واللأي الثور الوحشي قال: ولم أر أحدا رواه كذلك فلعله من إصلاحه وإذا كان هكذا بقيت الميم زائدة إلا أن يدعي أنها حرفت عن الياء المقصورة قال: وكل هذا غير مسلم لما فيه من التكلف والتعسف قال: وأولى ما يقال في هذا أن تبقى الكلمة على ما وقع لي الرواية ويحمل على أنها عبرانية ولذلك سأل الصحابة اليهودي عن تفسيرها ولو كان اللأي لعرفوها لأنها من لسانهم. وجزم النووي بهذا فقال: هي لفظة عبرانية معناها ثور. قوله: "يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا" قال عياض زيادة الكبد وزائدتها هي القطعة المنفردة المتعلقة بها وهي أطيبه ولهذا خص بأكلها السبعون ألفا ولعلهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب فضلوا بأطيب النزل ويحتمل أن يكون عبر بالسبعين عن العدد الكثير ولم يرد الحصر فيها وقد تقدم في أبواب الهجرة قبيل المغازي في مسائل عبد الله بن سلام أن أول طعام يأكله أهل الجنة له زيادة كبد الحوت وأن عند مسلم في حديث ثوبان "تحفة أهل الجنة زيادة
ـــــــ
1 بياض بالأصل.

(11/374)


كبد النون" وفيه: "غذاؤهم على أثرها أن ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" وفيه: "وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلا" وأخرج ابن المبارك في "الزهد" بسند حسن عن كعب الأحبار: أن الله تعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها: إن لكل ضيف جزورا وإني أجزركم اليوم حوتا وثورا فيجزر لأهل الجنة". قوله: "محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "يحشر الناس" بضم أوله. فوله "أرض عفراء" قال الخطابي العفر بياض ليس بالناصع وقال عياض: العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلا ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها. وقال ابن فارس: معنى عفراء خالصة البياض. وقال الداودي: شديدة البياض. كذا قال والأول هو المعتمد. قوله: "كقرصة النقي" بفتح النون كسر القاف أي الدقيق النقي من الغش والنخال قاله الخطابي. قوله: "قال سهل أو غيره ليس فيها معلم لأحد" هو موصول بالسند المذكور وسهل هو راوي الخبر وأو للشك والغير المبهم لم أقف على تسميته. ووقع هذا الكلام الأخير لمسلم من طريق خالد بن مخلد عن محمد ابن جعفر مدرجا بالحديث ولفظه: "ليس فيها علم لأحد" ومثله لسعيد بن منصور عن ابن أبي حازم عن أبيه والعلم والمعلم بمعنى واحد قال الخطابي: يريد أنها مستوية. والمعلم بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة هو الشيء الذي يستدل به على الطريق. وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات كالجبل والصخرة البارزة. وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها. وقال الداودي: المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئا إلا ما أدرك منها. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: فيه دليل على عظيم القدرة والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها بخلاف مجيء الأمر بغتة وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدا والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده. انتهى ملخصا. وفيه إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمحلت وأعدمت وأن أرض الموقف تجددت. وقد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها أو تغيير صفاتها فقط وحديث الباب يؤيد الأول. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} الآية قال: تبدل الأرض أرضا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف؛ وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعا وقال: الموقوف أصح وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ: أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة ورجاله موثقون أيضا ولأحمد من حديث أبي أيوب: أرض كالفضة البيضاء قيل فأين الخلق يومئذ؟ قال: هم أضياف الله لن يعجزهم ما لديه. وللطبري من طريق سنان بن سعد عن أنس مرفوعا: يبدلها الله بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا. وعن علي موقوفا نحوه. ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: أرض كأنها فضة والسماوات كذلك. وعن علي والسماوات من ذهب. وعند عبد من طريق الحكم بن أبان عن

(11/375)


عكرمة قال: بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا تطوى وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها. وفي حديث الصور الطويل: تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان عليها انتهى. وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول ويؤيده قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} . وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها فمستنده ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق. ومن حديث جابر رفعه تمد الأرض مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه. ووقع في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: يزاد فيها وينقص منها ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم العكاظي وعزاه الثعلبي في تفسيره لرواية أبي هريرة وحكاه البيهقي عن أبي منصور الأزهري وهذا وإن كان ظاهره يخالف القول الأول فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها ويؤيده ما وقع في الحديث الذي قبله أن أرض الدنيا تصير خبزة والحكمة في ذلك ما تقدم أنها تعد لأكل المؤمنين منها في زمان الموقف ثم تصير نزلا لأهل الجنة وأما ما أخرجه الطبري من طريق المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: الأرض كلها تأتي يوم القيامة فالذي قبله عن ابن مسعود أصح سندا ولعل المراد بالأرض في هذه الرواية أرض البحر فقد أخرج الطبري أيضا من طريق كعب الأحبار قال: يصير مكان البحر نارا وفي تفسير للربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب: تصير السماوات جفانا ويصير مكان البحر نارا وأخرج البيهقي في "البعث" من هذا الوجه في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} قال: يصيران غبرة في وجوه الكفار. قلت: ويمكن الجمع بأن بعضها يصير نارا وبعضها غبارا وبعضها يصير خبزة وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} أين يكون الناس حينئذ؟ قال: "على الصراط" وفي رواية الترمذي "على جسر جهنم" ولأحمد من طريق ابن عباس عن عائشة "على متن جهنم" وأخرج مسلم أيضا من حديث ثوبان مرفوعا: "يكونون في الظلمة دون الجسر" فقد جمع بينها البيهقي بأن المراد بالجسر الصراط كما سيأتي بيانه في ترجمة مستقلة وأن في قوله على الصراط مجازا لكونهم يجاوزونه لأن في حديث ثوبان زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها وكان ذلك عند الزجرة التي تقع عند نقلهم من أرض الدنيا إلى أرض الموقف ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} واختلف في السماوات أيضا فتقدم قول من قال إنها تصير جفانا وقيل إنها إذا طويت تكور شمسها وقمرها وسائر نجومها وتصير تارة كالمهل وتارة كالدهان وأخرج البيهقي في "البعث" من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: السماء تكون ألوانا كالمهل وكالدهان وواهية وتشقق فتكون حالا بعد حال وجمع بعضهم بأنها تنشق أولا فتصير كالوردة وكالدهان وواهية وكالمهل وتكور الشمس والقمر وسائر النجوم ثم تطوى السماوات وتضاف إلى الجنان ونقل القرطبي في "التذكرة" عن أبي الحسن بن حيدرة صاحب "الإفصاح" أنه جمع بين هذه الأخبار بأن تبديل السماوات والأرض يقع مرتين إحداهما تبدل

(11/376)


صفاتهما فقط وذلك عند النفخة الأولى فتنثر الكواكب وتخسف الشمس والقمر وتصير السماء كالمهمل وتكشط عن الرءوس وتسير الجبال وتموج الأرض وتنشق إلى أن تصير الهيئة غير الهيئة ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض وتبدل السماء والأرض إلى آخر كلامه في ذلك والعلم عند الله تعالى.

(11/377)


باب الحشر
...
بعض "وللنسائي والحاكم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة "قلت: يا رسول الله فكيف بالعورات؟ قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وللترمذي والحاكم من طريق عثمان بن عبد الرحمن القرظي "قرأت عائشة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقالت: واسوأتاه الرجال والنساء يحشرون جميعا ينطر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال: لكل امرئ الآية وزاد: لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض" ولابن أبي الدنيا من حديث أنس قال: "سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الناس؟ قال: "حفاة عراة" . قالت: واسوأتاه قال قد نزلت على آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا: لكل امرئ الآية" وفي حديث سودة عند البيهقي والطبراني نحوه أخرجاه من طريق أبي أويس عن محمد بن أبي عياش عن عطاه بن يسار عنها وأخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط من رواية عبد الجبار بن سليمان عن محمد بهذا الإسناد فقال: "عن أم سلمة" بدل سودة. قوله: "حدثنا غندر" هو محمد بن جعفر وقع كذلك في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار شيخ البخاري فيه كلاهما عنه. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن عمرو بن ميمون" صرح يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق بسماعه من عمرو بن ميمون وسيأتي في الأيمان والنذور. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود ووقع في رواية يوسف المذكورة "حدثني عبد الله بن مسعود". قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم عن محمد بن المثنى "نحوا من أربعين رجلا" وفي رواية يوسف المذكورة "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مضيف ظهره إلى قبة من آدم يماني" ولمسلم من رواية مالك ابن مغول عن أبي إسحاق "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ظهره إلى قبة من أدم" وللإسماعيلي من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق "أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بمنى إلى قبة من أدم". قوله: "أترضون" في رواية يوسف "إذ قال لأصحابه ألا ترضون" وفي رواية إسرائيل "أليس ترضون" وفي رواية مالك بن مغول "أتحبون" قال ابن التين: ذكره بلفظ الاستفهام لإرادة تقرير البشارة بذلك وذكره بالتدريج ليكون أعظم لسرورهم. قوله: "قلنا نعم" في رواية يوسف "قالوا بلى" ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق "فكبرنا في الموضعين" ومثله في حديث أبي سعيد الآتي في الباب الذي يليه وزاد: "فحمدنا" وفي حديث ابن عباس "ففرحوا" وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بشرهم به فحمدوا الله على نعمته العظمى وكبروه استعظاما لنعمته بعد استعظامهم لنقمته. قوله: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" في رواية أبي الأحوص وإسرائيل "فقال والذي نفس محمد بيده" وقال: "نصف" بدل "شطر" وفي حديث أبي سعيد "إني لأطمع" بدل "لأرجو" ووقع لهذا الحديث سبب يأتي التنبيه عليه عند شرح حديث أبي سعيد وزاد الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في نحو حديث أبي سعيد "وإني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة" ولا تصح هذه الزيادة لأن الكلبي واه ولكن أخرج أحمد وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة قال: "لما نزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} شق ذلك على الصحابة فنزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني" وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة أنتم نصف أهل الجنة أنتم ثلثا أهل الجنة" وأخرج الخطيب في "المبهمات" من مرسل مجاهد نحو حديث الكلبي وفيه مع إرساله أبو حذيفة إسحاق بن بشر أحد

(11/287)


باب قوله عزوجل { إن زلزلة الساعة شيء عظيم }
...
46 - باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أَزِفَتْ الْآزِفَةُ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
6530- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ قَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَمِنْكُمْ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ"
قوله: "باب إن زلزلة الساعة شيء عظيم" أشار بهذه الترجمة إلى ما وقع في بعض طرق الحديث الأول أنه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية عند ذكر الحديث والزلزلة الاضطراب وأصله من الزلل وفي تكرير الزاي فيه تنبيه على ذلك.

(11/388)


والساعة في الأصل جزء من الزمان واستعيرت ليوم القيامة كما تقدم في "باب سكرات الموت" وقال الزجاج: معنى الساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة إشارة إلى أنها ساعة خفيفة يقع فيها أمر عظيم وقيل سميت ساعة لوقوعها بغتة أو لطولها أو لسرعة الحساب فيها أو لأنها عند الله خفيفة مع طولها على الناس. قوله: "أزفت الآزفة: اقتربت الساعة" هو من الأزف بفتح الزاي وهو القرب يقال أزف كذا أي قرب وسميت الساعة آزفة لقربها أو لضيق وقتها واتفق المفسرون على أن معنى أزفت اقتربت أو دنت. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن الأعمش عن أبي صالح" في رواية أبي أسامة في بدء الخلق وحفص بن غياث في تفسير سورة الحج كلاهما "عن الأعمش حدثنا أبو صالح" وهو ذكوان وأبو سعيد هو الخدري. قوله: "يقول الله" كذا وقع للأكثر غير مرفوع وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" وفي رواية كريمه بإثبات قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا وقع لمسلم عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير بسند البخاري فيه ونحوه في رواية أبي أسامة وحفص وقد ظهر من حديث أبي هريرة الذي قبله أن خطاب آدم بذلك أول شيء يقع يوم القيامة ولفظه: "أول من يدعي يوم القيامة آدم عليه السلام فتراءى ذريته" بمثناة واحدة ومد ثم همزة مفتوحة ممالة وأصله فتتراءى فحذفت إحدى التاءين وتراءى الشخصان تقابلا بحيث صار كل منهما يتمكن من رؤية الآخر ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق الدراوردي عن ثور "فتتراءى له ذريته" على الأصل وفي حديث أبي هريرة "فيقال هذا أبوكم" وفي رواية الدراوردي "فيقولون هذا أبوكم". قوله: "فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك" في الاقتصار على الخير نوع تعطيف ورعاية للأدب وإلا فالشر أيضا بتقدير الله كالخير. قوله: "أخرج بعث النار" في حديث أبي هريرة "بعث جهنم من ذريتك" وفي رواية أحمد "نصيب" بدل "بعث" والبعث بمعنى المبعوث وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها ومعناها هنا ميز أهل النار من غيرهم وإنما خص بذلك آدم لكونه والد الجميع ولكونه كان قد عرف أهل السعادة من أهل الشقاء فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة الحديث كما تقدم في حديث الإسراء وقد أخرج ابن أبي الدنيا من مرسل الحسن قال: "يقول الله لآدم: يا آدم أنت اليوم عدل بيني وبين ذريتك قم فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم". قوله: "قال وما بعث النار" الواو عاطفة على شيء محذوف تقديره سمعت وأطعت وما بعث النار أي وما مقدار مبعوث النار وفي حديث أبي هريرة "فيقول يا رب كم أخرج". قوله: "من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" في حديث أبي هريرة "من كل مائة تسعة وتسعين" قال الإسماعيلي: في حديث أبي سعيد "من كل ألف واحد" وكذا في حديث غيره ويشبه أن يكون حديث ثور يعني راويه عن أبي الغيث عن أبي هريرة وهما. قلت: ولعله يريد بقوله غيره ما أخرجه الترمذي من وجهين عن الحسن البصري عن عمران بن حصين نحوه وفي أوله زيادة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى شديد فحث أصحابه المطي فقال: هل تدرون أي يوم ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " ذاك يوم ينادي الله آدم" فذكر نحو حديث أبي سعيد وصححه وكذا الحاكم وهذا سياق قتادة عن الحسن من رواية هشام الدستوائي عنه ورواه معمر عن قتادة فقال عن أنس أخرجه الحاكم أيضا ونقل عن الذهلي أن الرواية الأولى هي المحفوظة وأخرجه البزار والحاكم أيضا من طريق هلال بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة عن عكرمة

(11/389)


عن ابن عباس قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال: هل تدرون" فذكر نحوه وكذا وقع في حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم رفعه: "يخرج الدجال - إلى أن قال - ثم ينفخ في الصور أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال: أخرجوا بعث النار" وفيه: " فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. فذاك يوم يجعل الولدان شيبا" وكذا رأيت هذا الحديث في مسند أبي الدرداء بمثل العدد المذكور رويناه في "فوائد طلحة بن الصقر" وأخرجه ابن مردويه من حديث أبي موسى نحوه فاتفق هؤلاء على هذا العدد ولم يستحضر الإسماعيلي لحديث أبي هريرة متابعا وقد ظفرت به في مسند أحمد فإنه أخرج من طريق أبي إسحاق الهجري وفيه مقال عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود نحوه. وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الزائد والمقصود من العددين واحد وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين. قلت: ومقتضى كلامه الأول تقديم حديث أبي هريرة على حديث أبي سعيد فإنه يشتمل على زيادة فإن حديث أبي سعيد يدل على أن نصيب أهل الجنة من كل ألف واحد وحديث أبي هريرة يدل على عشرة فالحكم للزائد ومقتضى كلامه الأخير أن لا ينظر إلى العدد أصلا بل القدر المشترك بينهما ما ذكره من تقليل العدد وقد فتح الله تعالى في ذلك بأجوبة أخر وهو حمل حديث أبي سعيد ومن وافقه على جميع ذرية آدم فيكون من كل ألف واحد حمل حديث أبي هريرة ومن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج فيكون من كل ألف عشرة ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ويحتمل أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين والثاني بخصوص هذه الأمة ويقربه قوله في حديث أبي هريرة "إذا أخذ منا" لكن في حديث ابن عباس "وإنما أمتي جزء من ألف جزء" ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة فيكون من كل ألف واحد ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار ومن يدخلها من العصاة فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرا ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيا والعلم عند الله تعالى. قوله: "فذاك حين يشيب الصغير وتضع وساق إلى قوله شديد" ظاهره أن ذلك يقع في الموقف وقد استشكل بأن ذلك الوقت لا حمل فيه ولا وضع ولا شيب ومن ثم قال بعض المفسرين إن ذلك قبل يوم القيامة لكن الحديث يرد عليه وأجاب الكرماني بأن ذلك وقع على سبيل التمثيل والتهويل وسبق إلى ذلك النووي فقال: فيه وجهان للعلماء فذكرهما وقال: التقدير أن الحال ينتهي أنه لو كانت النساء حينئذ حوامل لوضعت كما تقول العرب "أصابنا أمر يشيب منه الوليد" وأقول يحتمل أن يحمل على حقيقته فإن كل أحد يبعث على ما مات عليه فنبعث الحامل حاملا والمرضع مرضعة والطفل طفلا فإذا وقعت زلزلة الساعة وقيل ذلك لآدم ورأى الناس آدم وسمعوا ما قيل له وقع بهم من الوجل ما يسقط معه الحمل ويشيب له الطفل وتذهل به المرضعة ويحتمل أن يكون ذلك بعد النفخة الأولى وقبل النفخة الثانية ويكون خاصا بالموجودين حينئذ وتكون الإشارة بقوله: "فذاك" إلى يوم القيامة وهو صريح في الآية ولا يمنع من هذا الحمل ما يتخيل من طول المسافة بين قيام الساعة واستقرار الناس في الموقف ونداء آدم لتمييز أهل الموقف لأنه قد ثبت أن ذلك يقع متقاربا كما قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} يعني أرض الموقف وقال تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} والحاصل أن يوم القيامة يطلق على ما بعد نفخة البعث من أهوال وزلزلة وغير ذلك إلى آخر الاستقرار في الجنة أو النار وقريب

(11/390)


منه ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في أشراط الساعة إلى أن ذكر النفخ في الصور إلى أن قال: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال أخرجوا بعث النار" فذكره قال: "فذاك يوم يجعل الولدان شيبا" ووقع في حديث الصور الطويل عند علي بن معبد وغيره ما يؤيد الاحتمال الثاني وقد تقدم بيانه في "باب النفخ في الصور" وفيه بعد قوله وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين "فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض فيأخذهم لذلك الكرب والهول. ثم تلا الآيتين من أول الحج" الحديث. قال القرطبي في "التذكرة": هذا الحديث صححه ابن العربي فقال: يوم الزلزلة يكون عند النفخة الأولى وفيه ما يكون فيه من الأهوال العظيمة ومن جملتها ما يقال لآدم ولا يلزم من ذلك أن يكون ذلك متصلا بالنفخة الأول بل له محملان. أحدهما أن يكون آخر الكلام منوطا بأوله والتقدير يقال لآدم ذلك في أثناء اليوم الذي يشيب فيه الولدان وغير ذلك وثانيهما أن يكون شيب الولدان عند النفخة الأولى حقيقة والقول لآدم يكون وصفه بذلك إخبارا عن شدته وإن لم يوجد عين ذلك الشيء. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون المعنى أن ذلك حين يقع لا يهم كل أحد إلا نفسه حتى إن الحامل تسقط من مثله والمرضعة إلخ. ونقل عن الحسن البصري في هذه الآية: المعنى أن لو كان هناك مرضعة لذهلت. وذكر الحليمي واستحسنه القرطبي أنه يحتمل أن يحيى الله حينئذ حمل كان قد تم خلقه ونفخت فيه الروح فتذهل الأم حينئذ عنه لأنها لا تقدر على إرضاعه إذ لا غذاء هنا ولا لبن، وأما الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح فإنه إذا سقط لم يحيى لأن ذلك يوم الإعادة، فمن لم يمت في الدنيا لم يحيى في الآخرة. قوله: "فاشتد ذلك عليهم" في حديث ابن عباس "فشق ذلك على القوم ووقعت عليهم الكآبة والحزن" وفي حديث عمران عند الترمذي من رواية ابن جدعان عن الحسن "فأنشأ المؤمنون يبكون" ومن رواية قتادة عن الحسن "فنبس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة" ونبس بضم النون وكسر الموحدة بعدها مهملة معناه تكلم فأسرع، وأكثر ما يستعمل في النفي. وفي رواية شيبان عن قتادة عند ابن مردويه" أبلسوا" وكذا له نحوه من رواية ثابت عن الحسن. قوله:" وأينا ذلك الرجل" قال الطيبي: يحتمل أن يكون الاستفهام على حقيقته، فكان حق الجواب أن ذلك الواحد فلان أو من يتصف بالصفة الفلانية، ويحتمل أن يكون استعظاما لذلك الأمر واستشعارا للخوف منه، فلذلك وقع الجواب بقوله: "أبشروا" ووقع في حديث أبي هريرة "فقالوا يا رسول الله إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى" وفي حديث أبي الدرداء "فبكى أصحابه". قوله: "فقال أبشروا" في حديث ابن عباس اعملوا وأبشروا، وفي حديث عمران مثله، وللترمذي من طريق ابن جدعان "قاربوا وسددوا" ونحوه في حديث أنس. قوله: "فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل" ظاهره زيادة واحد عما ذكر من تفصيل الألف فيحتمل أن يكون من جبر الكسر، والمراد أن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين أو ألفا إلا واحدا، وأما قوله: "ومنكم رجل" تقديره والمخرج منكم أو ومنكم رجل مخرج، ووقع في بعض الشروح أن لبعض الرواة "فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا" بالنصب فيهما على المفعول بإخراج المذكور في أول الحديث، أي فإنه يخرج كذا، وروى بالرفع على خبر إن واسمها مضمر قبل المجرور، أي فإن المخرج منكم رجل، قلت: والنصب أيضا على اسم إن صريحا في الأول وبتقدير في الثاني، وهو أولى من الذي قاله فإن فيه تكلفا، ووقع في رواية الأصيلي بالرف في ألف وحده وبالنصب في رجلا ولأبي ذر بالعكس. وفي رواية مسلم بالرفع فيهما، قال النووي: هكذا

(11/391)


في جميع الروايات والتقدير فإنه فحذف الهاء وهي ضمير الشأن وذلك مستعمل كثيرا، ووقع في حديث ابن عباس "وإنما أمتي جزء من ألف جزء" قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج داخلون في العدد المذكور والوعيد كما يدل قوله: "ربع أهل الجنة" على أن في غير هذه الأمة أيضا من أهل الجنة. وقال القرطبي: قوله: "من يأجوج ومأجوج ألف" أي منهم وممن كان على الشرك مثلهم، وقوله: "ومنكم رجل" يعني من أصحابه ومن كان مؤمنا مثلهم. قلت: وحاصله أن الإشارة بقوله: "منكم" إلى المسلمين من جميع الأمم، وقد أشار إلى ذلك في حديث ابن مسعود بقوله: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة". قوله: "ثم قال والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة" تقدم في الباب قبله من حديث ابن مسعود "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة" وكذا في حديث ابن عباس، وهو محمول على تعدد القصة، فقد تقدم أن القصة التي في حديث ابن مسعود وقعت وهو صلى الله عليه وسلم في قبته بمنى، والقصة التي في حديث أبي سعيد وقعت وهو صلى الله عليه وسلم سائر على راحلته، ووقع في رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في غزوة بني المصطلق" ومثله في مرسل مجاهد عند الخطيب في "المبهمات" كما سيأتي التنبيه عليه في "باب من يدخل الجنة بغير حساب". ثم ظهر لي أن القصة واحدة وأن بعض الرواة حفظ فيه ما لم يحفظ الآخر، إلا أن قول من قال كان ذلك في غزوة بني المصطلق واه والصحيح ما في حديث ابن مسعود وأن ذلك كان بمنى، وأما ما وقع في حديثه أنه قال ذلك وهو في قبته فيجمع بينه وبين حديث عمران بأن تلاوته الآية وجوابه عنها اتفق أنه كان وهو سائر، ثم قوله: "إني لأطمع إلخ" وقع بعد أن نزل وقعد بالقبة، وأما زيادة الربع قبل الثلث فحفظها أبو سعيد وبعضهم لم يحفظ الربع، وقد تقدمت سائر مباحثه في الحديث الخامس من الباب الذي قبله.

(11/392)


47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} قَالَ الْوُصُلاَتُ فِي الدُّنْيَا
6531- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ "يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ"
6532- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ"
قوله: "باب قول الله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين" كأنه أشار بهذه الآية إلى ما أخرجه هناد بن السري في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عمرو قال: "قال له رجل: إن أهل المدينة ليوفون الكيل، فقال: وما يمنعهم وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله: يوم

(11/392)


يقوم الناس لرب العالمين، قال: إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة" وهذا لما لم يكن على شرطه أشار إليه، وأورد حديث ابن عمر المرفوع في معناه، وأصل البعث إثارة الشيء عن جفاء وتحريكه عن سكون، والمراد به هنا إحياء الأموات وخروجهم من قبورهم ونحوها إلى حكم يوم القيامة.قوله: "قال ابن عباس: وتقطعت بهم الأسباب قال: الوصلات في الدنيا" بضم الواو والصاد المهملة. وقال ابن التين: ضبطناه يفتح الصاد وبضمها وبسكونها. وقال أبو عبيدة: الأسباب هي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا واحدتها وصلة، وهذا الأثر لم أظفر به عن ابن عباس بهذا اللفظ، وقد وصله عبد بن حميد والطبري وابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس قال: المودة، وهو بالمعنى. وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وللطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: تقطعت بهم المنازل، ومن طريق الربيع بن أنس مثله، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن الربيع عن أبي العالية قال يعني أسباب الندامة، وللطبري من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: الأسباب الأرحام، وهذا منقطع. ولابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: تقطعت بهم الأرحام وتفرقت بهم المنازل في النار. وورد بلفظ التواصل والمواصلة أخرجه الثلاثة المذكرون أيضا من طريق عبيد المكتب عن مجاهد قال: تواصلهم في الدنيا. وللطبري من طريق جريج عن مجاهد قال: تواصل كان بينهم بالمودة في الدنيا. وله من طريق سعيد ولعبد من طريق شيبان كلاهما عن قتادة قال: الأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها ويتحابون فصارت عداوة يوم القيامة. وللطبري من طريق معمر عن قتادة قال: هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا. ولعبد من طريق السدي عن أبي صالح قال: الأعمال. وهو عند الطبري عن السدي من قوله، قال الطبري: الأسباب جمع سبب وهو كل ما يتسبب به إلى طلبة وحاجة، فيقال للحبل سبب لأنه يتوصل به إلى الحاجة التي يتعلق به إليها، وللطريق سبب للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه، وللمصاهرة سبب للحرمة وللوسيلة سبب للوصول بها إلى الحاجة. وقال الراغب: السبب: الحبل، وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سببا، ومنه {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أصل إلى الأسباب الحادثة في السماء فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى، ويسمى العمامة والخمار والثوب الطويل سببا تشبيها بالحبل وكذا منهج الطريق لشبهه بالحبل، وبالثوب الممدود أيضا. حديث ابن عمر "عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" في رواية صالح بن كيسان عن نافع عند مسلم حتى يغيب أحدهم، وكذا تقدم في تفسير {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} من طريق مالك عن نافع، والرشح بفتح الراء وسكون الشين المعجمة بعدهما مهملة هو العرق شبه برشح الإناء لكونه يخرج من البدن شيئا فشيئا، وهذا ظاهر في أن العرق يحصل لكل شخص من نفسه، وفيه تعقب على من جوز أن يكون من عرقه فقط أو من عرقه وعرق غيره. وقال عياض: يحتمل أن يريد عرق الإنسان نفسه بقدر خوفه مما يشاهده من الأهوال، ويحتمل أن يريد عرقه وعرق غيره فيشدد على بعض ويخفف على بعض وهذا كله بتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض حتى صار العرق يجري سائحا في وجه الأرض كالماء في الوادي بعد أن شربت منه الأرض وغاص فيها سبعين ذراعا. قلت: واستشكل بأن الجماعة إذا وقفوا في الماء الذي على أرض معتدلة كانت تغطية الماء لهم على السواء، لكنهم إذا اختلفوا في الطول والقصر تفاوتوا فكيف يكون الكل إلى الأذن؟ والجواب أن ذلك من الخوارق الواقعة يوم القيامة، والأولى أن تكون

(11/393)


الإشارة بمن يصل الماء إلى أذنيه إلى غاية ما يصل الماء، ولا ينفي أن يصل الماء لبعضهم إلى دون ذلك، فقد أخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه: "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه ومنهم من يبلغ نصف ساقه ومنهم من يبلغ ركبته ومنهم من يبلغ فخذه ومنهم من يبلغ خاصرته ومنهم من يبلغ منكبه ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده فألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه وضرب بيده على رأسه" وله شاهد عند مسلم من حديث المقداد بن الأسود وليس بتمامه وفيه: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فتكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق" الحديث فإنه ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم ويتفاوتون في حصوله فيهم. وأخرج أبو يعلى وصححه ابن حبان عن أبي هرة رضي الله عنه "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى أن تغرب" وأخرجه أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد والبيهقي في البعث من طريق عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة "يحشر الناس قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء فيلجمهم العرق من شدة الكرب". قوله: "حدثني سليمان" هو ابن بلال والسند كل مدنيون. قوله: "يعرق الناس" بفتح الراء وهي مكسورة في الماضي. قوله: "يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم" في رواية الإسماعيلي من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلان "سبعين باعا" وفي رواية مسلم من طريق الدراوردي عن ثور "وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم شك ثور" وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الذي يلجمه العرق الكافر أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عنه قال: "يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال علي الكراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام" وبسند قوي عن أبي موسى قال: "الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم" وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف واللفظ له بسند جيد عن سلمان قال: "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم ترتفع حتى يغرغر الرجل" زاد ابن المبارك في روايته: "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة" قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان لما يدل عليه حديث المقداد وغيره أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم، وفي حديث ابن مسعود عند الطبراني والبيهقي "إن الرجل ليفيض عرقا حتى يسيح في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه" وفي رواية عنه عند أبي يعلى وصححها ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وللحاكم والبزار من حديث جابر نحوه، وهو كالصريح في إن ذلك كله في الموقف، وقد ورد أن التفصيل الذي في حديث عقبة والمقداد يقع مثله لمن يدخل النار، فأخرج مسلم أيضا من حديث سمرة رفعه: "أن منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته وفي رواية إلى حقويه ومنهم من تأخذه إلى عنقه" وهذا يحتمل أن يكون النار فيه مجازا عن شدة الكرب الناشئ عن العرق فيتحد الموردان، ويمكن أن يكون ورد في حق من يدخل النار من الموحدين. فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم، وأما الكفار فإنهم في الغمرات. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم والمسلمون منهم قليل

(11/394)


بالنسبة إلى الكفار كما تقدم تقريره في حديث بعث النار، قال: والظاهر أن المراد بالذراع في الحديث المتعارف، وقيل هو الذراع الملكي، ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف وتدنى الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعا مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فبه، إن هذا لمما يبهر العقول ويدل على عظيم القدوة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه. وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه.

(11/395)


48 - باب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ الْحَاقَّةُ لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الأُمُورِ الْحَقَّةُ وَ الْحَاقَّةُ وَاحِدٌ وَ الْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَ الصَّاخَّةُ وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ
6533- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ "سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ"
[الحديث 6533- طرفه في: 6864]
6534- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ"
6535- حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا"
قوله: "باب القصاص يوم القيامة" القصاص بكسر القاف وبمهملتين مأخوذ من القص وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر وهو تتبعه، لأن المقتص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها، يقال اقتص من غريمه واقتص الحاكم لفلان من فلان. قوله: "وهي الحاقة" الضمير للقيامة. قوله: "لأن فيها الثواب؛ وحواق الأمور الحقة والحاقة واحد" هذا أخذه من كلام الفراء، قال في "معاني القرآن". الحاقة القيامة، سميت بذلك لأن فيها

(11/395)


الثواب وحواق الأمور، ثم قال: والحقة والحاقة كلاهما بمعنى واحد، قال الطبري: سميت الحاقة لأن الأمور تحق فيها، وهو كقولهم ليل قائم. وقال غيره: سميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة ولقوم النار، وقيل لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء، يقال حاققته فحققته أي خاصمته فخصمته، وقيل لأنها حق لا شك فيه. قوله: "والقارعة" هو معطوف على الحاقة، والمراد أنها من أسماء يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها. قوله: "والغاشية" سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأفزاعها أي تعمهم بذلك. قوله: "والصاخة" قال الطبري: أظنه من صخ فلان فلانا إذا أصمه، وسميت بذلك لأن صيحة القيامة مسمعة لأمور الآخرة ومصمة عن أمور الدنيا، وتطلق الصاخة أيضا على الداهية. قوله: "التغابن غبن أهل الجنة أهل النار" غبن بفتح المعجمة والموحدة بعدها نون، والسبب في ذلك أن أهل الجنة ينزلون منازل الأشقياء التي كانت أعدت لهم لو كانوا سعداء، فعلى هذا فالتغابن من طرف واحد، ولكنه ذكر بهذه الصيغة للمبالغة، وقد اقتصر المصنف من أسماء يوم القيامة على هذا القدر، وجمعها الغزالي ثم القرطبي فبلغت نحو الثمانين اسما، فمنها يوم الجمع ويوم الفزع الأكبر ويوم التناد ويوم الوعيد ويوم الحسرة ويوم التلاق ويوم المآب ويوم الفصل ويوم العرض على الله ويوم الخروج ويوم الخلود، ومنها يوم عظيم ويوم عسير ويوم مشهود ويوم عبوس قمطرير، ومنها يوم تبلى السرائر، ومنها يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ويوم يدعون إلى نار جهنم ويوم تشخص فيه الأبصار ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ويوم لا ينطقون ويوم لا ينفع مال ولا بنون ويوم لا يكتمون الله حديثا ويوم لا مرد له من الله ويوم لا بيع فيه ولا خلال ويوم لا ريب فيه، فإذا ضمت هذه إلى ما ذكر في الأصل كانت أكثر من ثلاثين اسما معظمها ورد في القرآن بلفظه، وسائر الأسماء المشار إليها أخذت بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصا كيوم الصدر من قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} ويوم الجدال من قوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ولو تتبع مثل هذا من القرآن زاد على ما ذكر والله أعلم. وذكر في الباب ثلاثة أحاديث. حديث ابن مسعود والسند إليه كوفيون، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه. قوله: "أول ما يقضى بين الناس بالدماء" في رواية الكشميهني:" الدماء" وسيأتي كالأول في الديات من وجه آخر عن الأعمش، ولمسلم والإسماعيلي من طريق أخرى عن الأعمش "بين الناس يوم القيامة في الدماء" أي التي وقعت بين الناس في الدنيا، والمعنى أول القضايا القضاء في الدماء، ويحتمل أن يكون التقدير أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء، ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رفعه: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته" الحديث أخرجه أصحاب السنن لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق، وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين ولفظه: "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء" وتقدم في تفسير سورة الحج ذكر هذه الأولية بأخص مما في حديث الباب وهو عن على قال: "أنا أول من يحثو للخصومة يوم القيامة" يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة الذين بارزوا يوم بدر، قال أبو ذر: فهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية وتقدم شرحه هناك، وفي حديث الصور الطويل عن أبي هريرة رفعه: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني" الحديث، وفي حديث نافع بن جبير عن ابن عباس رفعه: "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى

(11/396)


يديه ملببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يقفا بين يدي الله" الحديث، ونحوه عند ابن المبارك عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وأما كيفية القصاص فيما عدا ذلك فيعلم من الحديث الثاني. وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس رفعه: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يوم القيامة" وفي الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك. وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة وآثار شهيرة يأتي بعضها في أول الديات. قوله: "مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري" في رواية ابن وهب عن مالك "حدثني سعيد بن أبي سعيد". قوله: "من كانت عنده مظلمة لأخيه" في رواية الكشميهني: "من أخيه". قوله: "ليس ثم دينار ولا درهم" في حدث ابن عمر رفعه: "من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته" أخرجه ابن ماجه، وقد مضى شرحه في كتاب المظالم، والمراد بالحسنات الثواب عليها وبالسيئات العقاب عليها، وقد استشكل إعطاء الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو متناه، وأجيب بأنه محمول على أن الذي يعطاه صاحب الحق من أصل الثواب ما يوازي العقوبة عن السيئة وأما ما زاد على ذلك بفضل الله فإنه يبقى لصاحبه، قال البيهقي سيئات المؤمن على أصول أهل السنة متناهية الجزاء وحسناته غير متناهية الجزاء لأن من ثوابها الخلود في الجنة، فوجه الحديث عندي والله أعلم أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه ثم يعذب إن لم يعف عنه، فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل عقوبة سيئاته يعني من المضاعفة، لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافى يوم القيامة مؤمنا والله أعلم. قال الحميدي في "كتاب الموازنة: الناس ثلاثة" من رجحت حسناته على سيئاته أو بالعكس أو من تساوت حسناته وسيئاته، فالأول فائز بنص القرآن والثاني يقتضى منه بما فضل من معاصيه على حسناته من النفخة إلى آخر من يخرج من النار بمقدار قلة شره وكثرته والقسم الثالث أصحاب الأعراف، وتعقبه أبو طالب عقيل بن عطية في كتابه الذي رد عليه فيه بأن حق العبارة فيه أن يقيد بمن شاء الله أن يعذبه منهم وإلا فالمكلف في المشيئة وصوب الثالث على أحد الأقوال أهل الأعراف قال: وهو أرجح الأقوال فيهم. قلت: قد قال الحميدي أيضا: والحق أن من رجحت سيئاته على حسناته على قسمين من يعذب ثم يخرج من النار بالشفاعة ومن يعفى عنه فلا يعذب أصلا. وعند أبي نعيم من حديث ابن مسعود يؤخذ بيد العبد فينصب على رءوس الناس وينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت، فيأتون فيقول الرب: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان ناجيا وفضل من حسناته مثقال حبة من خردل ضاعفها الله حتى يدخله بها الجنة. وعند ابن أبي الدنيا عن حذيفة قال: صاحب الميزان يوم القيامة جبريل، يرد بعضهم على بعض، ولا ذهب يومئذ ولا فضة، فيؤخذ من حسنات الظالم فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم. أخرج أحمد والحاكم من حديث جابر عن عبد الله بن أنيس رفعه: "لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قلنا يا رسول الله كيف وإنما نحشر حفاة عراة؟ قال: بالسيئات والحسنات" وعلق البخاري طرفا منه التوحيد كما سيأتي، وفي حديث أبي أمامة في نحو حديث

(11/397)


أبي سعيد "إن الله يقول لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم" وفيه دلالة على موازنة الأعمال يوم القيامة. وقد صنف فيه الحميدي صاحب "الجمع" كتابا لطيفا وتعقب أبو طالب عقيل بن عطية أكثره في كتاب سماه "تحرير المقال في موازنة الأعمال" وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رفعه: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى" فقد ضعفه البيهقي وقال: تفرد به شداد أبو طلحة، والكافر لا يعاقب بذنب غيره لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ: "إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فداؤك من النار" قال البيهقي: ومع ذلك فضعفه البخاري وقال: الحديث في الشفاعة أصح. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفرت عنهم في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تكفر ذنوبهم، ويحتمل أن يكون هذا القول لهم في الفداء بعد خروجهم من النار بالشفاعة. وقال غيره: يحتمل أن يكون الفداء مجازا عما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في أواخر "باب صفة الجنة والنار" قريبا بلفظ: "لا يدخل الجنة أحد إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا" الحديث وفيه في مقابله "ليكون عليه حسرة" فيكون المراد بالفداء إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أعد له وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أعد له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} وبذلك أجاب النووي تبعا لغيره. وأما رواية غيلان بن جرير فأولها النووي أيضا تبعا لغيره بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم فيعاقبون بذنوبهم لا بذنوب المسلمين ويكون قوله: "ويضعها" أي يضع مثلها لأنه لما أسقط عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاما كانت الكفار سببا فيها بأن سنوها فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك السنة السيئة باقية لكون الكافر لا يغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ، ووضعه عن المؤمن الذي فعله بما من الله به عليه من العفو والشفاعة سواء كان ذلك قبل دخول النار أو بعد دخولها والخروج منها بالشفاعة وهذا الثاني أقوى والله أعلم. قوله: "حدثنا الصلت بن محمد" بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها تاء مثناة من فوق وهو الخاركي بخاء معجمة وكاف. قوله:" حدثنا بن زريع" {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قال حدثنا سعيد" أي قرأ يزيد هذه الآية وفسرها بالحديث المذكور، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع بهذا السند إلى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قال: "يخلص المؤمنون" الحديث وظاهره أن تلاوة الآية مرفوع فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من رواته تلا الآية عند إيراد الحديث فاختصر ذلك في رواية الصلت ممن فوق يزيد بن زريع، وقد أخرجه الطبري من رواية عفان عن يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة في هذه الآية فذكرها قال حدثنا قتادة فذكره، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق شعيب بن إسحاق عن سعيد، ورواه عبد الوهاب بن عطاء وروح بن عبادة عن سعيد فلم يذكر الآية أخرجه ابن مردويه، وأبو المتوكل الناجي بالنون اسمه علي بن داود، ورجال السند كلهم بصريون،

(11/398)


وصرح قتادة بالتحديث في هذا الحديث في رواية مضت في المظالم، وكذا الرواية المعلقة ليونس بن محمد عن شيبان عن قتادة ووصلها ابن منده، وكذا أخرجها عبد بن حميد في تفسيره عن يونس بن محمد، وكذا في رواية شعيب بن إسحاق عن سعيد ورواية بشر بن خالد وعفان عن يزيد بن زريع. قوله: "إذا خلص المؤمنون من النار" أي نجوا من السقوط فيها بعدما جازوا على الصراط، ووقع في رواية هشام عن قتادة عند المصنف في المظالم "إذا خلص المؤمنون من جسر جهنم" وسيأتي في حديث الشفاعة كيفية مرورهم على الصراط، قال القرطبي: هؤلاء المؤمنون هم الذين علم الله أن القصاص لا يستنفد حسناتهم. قلت: ولعل أصحاب الأعراف منهم على القول المرجح آنفا، وخرج من هذا صنفان من المؤمنين: من دخل الجنة بغير حساب؛ ومن أوبقه عمله. قوله: "فيحبسون على قنطرة الجنة والنار" سيأتي أن الصراط جسر موضوع على متن جهنم وأن الجنة وراء ذلك فيمر عليه الناس بحسب أعمالهم، فمنهم الناجي وهو من زادت حسناته على سيئاته أو استويا أو تجاوز الله عنه، ومنهم الساقط وهو من رجحت سيئاته على حسناته إلا من تجاوز الله عنه، فالساقط من الموحدين يعذب ما شاء الله ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، والناجي قد يكون عليه تبعات وله حسنات توازيها أو تزيد عليها فيؤخذ من حسناته ما يعدل تبعاته فيخلص منها. واختلف في القنطرة المذكورة فقيل هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة، وقيل إنهما صراطان، وبهذا الثاني جزم القرطبي، وسيأتي صفة الصراط في الكلام على الحديث الذي في "باب الصراط حسر جهنم" في أواخر كتاب الرقاق. قوله: "فيقتص لبعضهم من بعض" بضم أوله على البناء للمجهول للأكثر. وفي رواية الكشميهني بفتح أوله فتكون اللام على هذه الرواية زائدة، أو الفاعل محذوف وهو الله أو من أقامه في ذلك. وفي رواية شيبان "فيقتص بعضهم من بعض". قوله: "حتى إذا هذبوا ونقوا" بضم الهاء وبضم النون وهما بمعنى التمييز والتخليص من التبعات. قوله: "أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده" هذا ظاهره أنه مرفوع كله وكذا في سائر الروايات إلا في رواية عفان عند الطبري أبي فإنه جعل هذا من كلام قتادة فقال بعد قوله: "في دخول الجنة" قال: وقال قتادة "والذي نفسي بيده لأحدهم أهدي إلخ" وفي رواية شعيب بن إسحاق بعد قوله: "في دخول الجنة" قال: فوالذي نفسي بيده إلخ فأبهم القائل، فعلى رواية عفان يكون هو قتادة وعلى رواية غيره يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد محمد بن المنهال عند الإسماعيلي. قال قتادة: كان يقال ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من جمعتهم. وهكذا عند عبد الوهاب وروح وفي رواية بشر بن خالد وعفان جميعا عند الطبري قال: "وقال بعضهم" فذكره وكذا في رواية شعيب بن إسحاق ويونس بن محمد، والقائل "وقال بعضهم" هو قتادة ولم أقف على تسمية القائل. قوله: "لأحدهم أهدي بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا" قال الطيبي "أهدي" لا يتعدى بالباء بل باللام أو إلى، فكأنه ضمن معنى اللصوق بمنزله هاديا إليه، ونحوه قوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} الآية فإن المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم إلى طريق الجنة، فأقام {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} إلى آخرها بيانا وتفسيرا، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. قلت: ولأصل الحديث شاهد من مرسل الحسن أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل" قال القرطبي: وقع في حديث عبد الله بن سلام أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينا وشمالا، وهو محمول على من لم يحبس

(11/399)


بالقنطرة أو على الجميع، والمراد أن الملائكة تقول ذلك لهم قبل دخول الجنة، فمن دخل كانت معرفته بمنزله فيها كمعرفته بمنزله في الدنيا. قلت: ويحتمل أن يكون القول بعد الدخول مبالغة في التبشير والتكريم، وحديث عبد الله بن سلام المذكور أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد وصححه الحاكم.

(11/400)


49 - باب مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ
6536- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ" قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ ذَلِكِ الْعَرْضُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.."
وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ وَأَيُّوبُ وَصَالِحُ بْنُ رُسْتُمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6537- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ "حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُذِّبَ"
6538- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ"
6539- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"
6540- قَالَ الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"

(11/400)


قوله: "باب من نوقش الحساب عذب" هو من النقش وهو استخراج الشوكة وتقدم بيانه في الجهاد؛ والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة، يقال انتقشت منه حقي أي استقصيته. قوله: "عن ابن أبي مليكة عن عائشة" قال الدار قطني: رواه حاتم بن أبي صغيرة عن عبد الله ابن أبي مليكة فقال: "حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة" وقوله أصح لأنه زاد، وهو حافظ متقن. وتعقبه النووي وغيره بأنه محمول على أنه سمع من عائشة وسمعه من القاسم عن عائشة فحدث به على الوجهين. قلت: وهذا مجرد احتمال، وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مليكة له عن عائشة في بعض طرقه كما في السند الثاني من هذا الباب فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعين الحمل على أنه سمع من القاسم عن عائشة ثم سمعه من عائشة بغير واسطة أو بالعكس، والسر فيه أن في روايته بالواسطة ما ليس في روايته بغير واسطة وإن كان مؤداهما واحدا، وهذا هو المعتمد بحمد الله. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد بن حميد عن عبد الله بن موسى شيخ البخاري فيه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "قالت قلت أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب" في رواية عبد "قلت يا رسول الله إن الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - إلى قوله: حِسَاباً يَسِيراً} " ولأحمد من وجه آخر عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حسابا يسيرا، فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه؛ إن من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك" قوله في السند الثاني "مثله" تقدم في تفسير سورة انشقت بهذا السند ولم يسق لفظه أيضا، وأورده الإسماعيلي من رواية أبكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد فقال مثل حديث عبيد الله بن موسى سواء. قوله: "تابعه ابن جريح ومحمد بن سليم وأيوب وصالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة" قلت متابعة ابن جريح ومحمد بن سليم وصلهما أبو عوانة في صحيحه من طريق أبي عاصم عن ابن جريج وعثمان بن الأسود ومحمد بن سليم كلهم عن ابن أبي مليكة عن عائشة به. "تنبيهان": أحدهما اختلف على ابن جريح في سند هذا الحديث، فأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة مختصرا ولفظه: "من حوسب يوم القيامة عذب". ثانيهما محمد بن سليم هذا جزم أبو علي الجياني بأنه أبو عثمان المكي وقال: استشهد به البخاري في الرقاق، وفرق بينه وبين محمد بن سليم البصري وهو أبو هلال الراسبي استشهد به البخاري في التعبير، وأما المزي فلم يذكر أبا عثمان في التهذيب بل اقتصر على ذكر أبي هلال وعلم علامة التعليق على اسمه في ترجمة ابن أبي مليكة وهو الذي هنا وعلى محمد بن سيرين وهو الذي في التعبير، والذي يظهر تصويب أبي علي. ومحمد بن سليم أبو عثمان المذكور ذكره البخاري في التاريخ فقال: يروى عن ابن أبي مليكة وروى عنه وكيع. وقال ابن أبي حاتم روى عنه أبو عاصم ونقل عن إسحاق ابن منصور عن يحيى بن معين قال هو ثقة. وقال أبو حاتم صالح، وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات. وأما متابعة أيوب فوصلها المؤلف في التفسير من رواية حماد بن زيد عن أيوب ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه عن إسماعيل القاضي عن سليمان شيخ البخاري فيه ولفظه: "من حوسب عذب. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله فأين قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قال: ذاك العرض، ولكنه من نوقش الحساب عذب" وأخرجه من طريق همام عن أيوب بلفظ: "من نوقش عذب فقالت كأنها تخاصمه فذكر نحوه وزاد في آخره: قالها ثلاث مرات" وأخرجه ابن

(11/401)


مردويه من وجه آخر عن حماد بلفظ: "ذاكم العرض" بزيادة ميم الجماعة. وأما متابعة صالح بن رستم بضم الراء وسكون المهملة وضم المثناة وهو أبو عامر الحزاز بمعجمات مشهور بكنيته أكثر من اسمه فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده، عن النضر بن شميل عن أبي عامر الخزاز، ووقعت لنا بعلو في "المحامليات" وفي لفظه زيادة "قال عن عائشة قالت قلت إني لأعلم أي آية في القرآن أشد، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: وما هي؟ قلت من يعمل سوءا يجز به" فقال: إن المؤمن يجازى بأسوأ عمله في الدنيا يصيبه المرض حتى النكبة، ولكن من نوقش الحساب يعذبه. قالت قلت: أليس قال الله تعالى "فذكر مثل حديث إسماعيل بن إسحاق. وأخرجه الطبري وأبو عوانة وابن مردويه من عدة طرق عن أبي عامر الخزاز نحوه. قوله: "حاتم بن أبي صغيرة" بفتح المهملة كسر الغين المعجمة وكنية حاتم أبو يونس واسم أبي صغيرة مسلم وقد قيل إنه زوج أم أبي يونس وقيل جده لأمه. قوله: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، ثم قال أخيرا: وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب" وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد لأن المراد بالمحاسبة تحرير الحساب فيستلزم المناقشة ومن عذب فقد هلك. وقال القرطبي في "المفهم" قوله: "حوسب" أي حساب استقصاء وقوله: "عذب" أي في النار جزاء على السيئات التي أظهرها حسابه، وقوله: "هلك" أي بالعذاب في النار. قال: وتمسكت عائشة بظاهر لفظ الحساب لأنه يتناول القليل والكثير. قوله: "يناقش الحساب" بالنصب على نزع الخافض والتقدير يناقش في الحساب. قوله: "أليس قد قال الله تعالى" تقدم في تفسير سورة انشقت من رواية يحيى القطان عن أبي يونس بلفظ: "فقلت يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس يقول الله تعالى". قوله: "إنما ذلك العرض" في رواية القطان "قال ذاك العرض تعرضون ومن نوقش الحساب هلك" وأخرج الترمذي لهذا الحديث شاهدا من رواية همام عن قتادة عن أنس رفعه: "من حوسب عذب" وقاله غريب. قلت: والراوي له عن همام على بن أبي بكر صدوق وربما أخطأ، قال القرطبي: معنى قوله: "إنما ذلك العرض" أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة كما في حديث ابن عمر في النجوى، قال عياض: قوله: "عذب" له معنيان أحدهما أن نفس مناقشه الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني أنه يفضي إلى استحقاق العذاب إذ لا حسنة للعبد إلا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى "هلك" وقال النووي: التأويل الثاني هو الصحيح لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك. وقال غيره: وجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب؛ وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض وهو إبراز الأعمال وإظهارها فيعرف صاحبها بذنوبه ثم يتجاوز عنه، ويؤيده ما وقع عند البزار والطبري من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير "سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال: "الرجل تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها" وفي حديث أبي ذر عند مسلم: "يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه" الحديث وفي حديث جابر عند ابن أبي حاتم والحاكم "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب. ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته فذاك الذي أوبق نفسه وإنما الشفاعة في مثله" ويدخل في هذا حديث ابن عمر في النجوى وقد أخرجه المصنف في كتاب المظالم وفي تفسير سورة

(11/402)


هود وفي التوحيد وفيه: "ويدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم فيقرره. ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" وجاء في كيفية العرض ما أخرجه الترمذي من رواية على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي هريرة رفعه: "تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" قال الترمذي: لا يصح لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى انتهى، وهو عند ابن ماجه وأحمد من هذا الوجه مرفوعا، وأخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال الترمذي الحكيم: الجدال للكفار يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا، والمعاذير اعتذار الله لآدم وأنبيائه بإقامته الحجة على أعدائه، والثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر. "تنبيه": وقع في رواية لابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا: "لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة" وظاهره يعارض حديثها المذكور في الباب، وطريق الجمع بينهما أن الحديثين معا في حق المؤمن، ولا منافاة بين التعذيب ودخول الجنة لأن الموحد وإن قضى عليه بالتعذيب فإنه لا بد أن يخرج من النار بالشفاعة أو بعموم الرحمة. حديث أنس "يجاء بالكافر" ذكره من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد وهو ابن أبي عروبة كلاهما عن قتادة وساقه بلفظ سعيد، وأما لفظ هشام فأخرجه مسلم والإسماعيلي من طرق عن معاذ بن هشام عن أبيه بلفظ: "يقال للكافر" والباقي مثله وهو بضم أول يجاء ويقال، وسيأتي بعد باب في "باب صفة الجنة والنار" من رواية أبي عمران الجوني عن أنس التصريح بأن الله سبحانه هو الذي يقول له ذلك ولفظه: "يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به؟ فيقول نعم" ورواه مسلم والنسائي من طريق ثابت عن أنس، وظاهر سياقه أن ذلك يقع للكافر بعد أن يدخل النار ولفظه: "يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال له: هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ فيقول نعم يا رب، فيقال له كذبت" ويحتمل أن يراد بالمضجع هنا مضجعه في القبر فيلتئم مع الروايات الأخرى. قوله: "فيقال له" زاد مسلم في رواية سعيد كذبت. قوله: "قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك" في رواية أبي عمران فيقول: "أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي" وفي رواية ثابت "قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار" قال عياض: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يوف به فهو الكافر، فمراد الحديث أردت منك حين أخذت الميثاق فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك، ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة هنا الطلب والمعنى أمرتك فلم تفعل، لأنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يريد. واعترض بعض المعتزلة بأنه كيف يصح أن يأمر بما لا يريد؟ والجواب أن ذلك ليس بممتنع ولا مستحيل. وقال المازري: مذهب أهل السنة أن الله تعالى أراد إيمان المؤمن وكفر الكافر، ولو أراد من الكافر الإيمان لآمن، يعني لو قدره عليه لوقع. وقال أهل الاعتزال: بل أراد من الجميع الإيمان فأجاب المؤمن وامتنع الكافر، فحملوا الغائب على الشاهد لأنهم رأوا أن مريد الشر شرير والكفر شر فلا يصح أن يريده الباري. وأجاب أهل السنة عن ذلك بأن الشر شر في حق المخلوقين، وأما في حق الخالق فإنه

(11/403)


يفعل ما يشاء، وإنما كانت إرادة الشر شرا لنهي الله عنه، والباري سبحانه ليس فوقه أحد يأمره فلا يصح أن تقاس إرادته على إرادة المخلوقين، وأيضا فالمريد لفعل ما إذا لم يحصل ما أراده آذن ذلك بعجزه وضعفه والباري تعالى لا يوصف بالعجز والضعف فلو أراد الإيمان من الكافر ولم يؤمن لآذن ذلك بعجز وضعف، تعالى الله عن ذلك. وقد تمسك بعضهم بهذا الحديث المتفق على صحته، والجواب عنه ما تقدم، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وأجيبوا بأنه من العام المخصوص بمن قضى الله له الإيمان، فعباده على هذا الملائكة ومؤمنو الإنس والجن وقال آخرون: الإرادة معنى الرضا، ومعنى قوله: "ولا يرضى" أي لا يشكره لهم ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل. وقيل معنى الرضا أنه لا يرضاه دينا مشروعا لهم، وقيل الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل الإرادة تطلق بإزاء شيئين إرادة تقدير وإرادة رضا، والثانية أخص من الأولى والله أعلم. وقيل: الرضا من الله إرادة الخير كما أن السخط إرادة الشر. وقال النووي: قوله: "فيقال له كذبت" معناه لو رددناك إلى الدنيا لما افتديت لأنك سئلت أيسر من ذلك فأبيت، ويكون من معنى قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وبهذا يجتمع معنى هذا الحديث مع قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ}. قال: وفي الحديث من الفوائد جواز قول الإنسان يقول الله خلافا لمن كره ذلك. وقال: إنما يجوز قال الله تعالى وهو قول شاذ مخالف لأقوال العلماء من السلف والخلف، وقد تظاهرت به الأحاديث. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}. قوله: "حدثني خيثمة" بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها مثلثة هو ابن عبد الرحمن الجعفي. قوله: "عن عدي بن حاتم" هو الطائي. قوله: "ما منكم من أحد" ظاهر الخطاب للصحابة، ويلتحق بهم المؤمنون كلهم سابقهم ومقصرهم أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. قوله: "إلا سيكلمه الله" في رواية وكيع عن الأعمش عنه ابن ماجه: "سيكلمه ربه". قوله: "ليس بينه وبينه ترجمان" لم يذكر في هذه الرواية ما يقول وبينه في رواية محل بن خليفة عن عدي بن حاتم في الزكاة بلفظ: "ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له. ثم ليقولن له: ألم أوتك مالا؟ فيقول: بلى" الحديث والترجمان تقدم ضبطه في بدء الوحي في شرح قصه هرقل. قوله: "ثم ينظر فلا يرى قدامه" بضم القاف وتشديد الدال أي أمامه ووقع في رواية عيسى بن يونس عن الأعمش في التوحيد وعند مسلم بلفظ: "فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم" وأخرجه الترمذي من رواية أبي معاوية بلفظ: "فلا يرى شيئا إلا شيئا قدمه" وفي رواية محل بن خليفة "فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، وينظر عن شماله فلا يرى إلا النار" وهذه الرواية مختصرة ورواية خيثمة مفسرة فهي المعتمدة في ذلك، وقوله أيمن وأشأم بالنصب فيهما على الظرفية والمراد بهما اليمين والشمال، قال ابن هبيرة: نظر اليمين والشمال هنا كالمثل لأن الإنسان من شأنه إذا دهمه أمر أن يلتفت يمينا وشمالا يطلب الغوث. قلت: ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أن يجد طريقا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار فلا يرى إلا ما يفضي به إلى النار كما وقع في رواية محل بن خليفة. قوله: "ثم ينظر بين يديه فتسقبله النار" في رواية عيسى "وينظر بين يده فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه" وفي رواية أبي معاوية "ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار" قال ابن هبيرة: والسبب في ذلك أن النار تكون في ممره فلا يمكنه أن يجيد عنها إذ لا بد له من المرور على الصراط. قوله: "فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق

(11/404)


تمرة" زاد وكيع في روايته: "فليفعل" وفي رواية أبي معاوية "أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل" وفي رواية عيسى "فاتقوا النار ولو بشق تمرة" أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقة وعمل البر ولو بشيء يسير. قوله: "قال الأعمش" هو موصول بالسند المذكور، وقد أخرجه مسلم من رواية معاوية عن الأعمش كذلك، وبين عيسى بن يونس في روايته أن القدر الذي زاده عمرو بن مرة للأعمش في حديثه عن خيثمة قوله في آخره: "فمن لم يجد فبكلمة طيبة" وقد مضى الحديث بأتم سياقا من هذا في رواية محل بن خليفة في الزكاة. قوله: "حدثني عمرو" هو ابن مرة وصرح به رواية عيسى بن يونس. قوله: "اتقوا النار ثم أعرض وأشاح" بشين معجمة وحاء مهملة أي أظهر الحذر منها، وقال الخليلي: أشاح بوجهه عن الشيء نحاه عنه. وقال الفراء المشيح الحذر والجاد في الأمر والمقبل في خطابه، فيصح أحد هذه المعاني أو كلها أي حذر النار كأنه ينظر إليها أو جد على الوصية باتقائها أو أقبل على أصحابه في خطابه بعد أن أعرض عن النار لما ذكرها، وحكى ابن التين أن معنى أشاح صد وانكمش، وقيل صرف وجهه كالخائف أن تناله. قلت: والأول أوجه لأنه قد حصل من قوله أعرض، ووقع في رواية أبي معاوية في أوله "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأعرض وأشاح ثم قال اتقوا النار". قوله: "ثلاثا" في رواية أبي معاوية "ثم قال اتقوا النار، وأعرض وأشاح حتى ظننا أنه كان ينظر إليها" وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية جرير عن الأعمش، قال ابن هبيرة وابن أبي جمرة في حديث إن الله يكلم عباده المؤمنين في الدار الآخرة بغير واسطة: وفيه الحث على الصدقة. قال ابن أبي جمرة: وفيه دليل على قبول الصدقة ولو قلت، وقد قيدت في الحديث بالكسب الطيب. وفيه إشارة إلى ترك احتقار القليل من الصدقة وغيرها. وفيه حجة لأهل الزهد حيث قالوا الملتفت هالك يؤخذ من أن نظر المذكور عن يمينه وعن شماله فيه صورة الالتفات فلذا لما نظر أمامه استقبلته النار، وفيه دليل على قرب النار من أهل الموقف، وقد أخرج البيهقي في البعث من مرسل عبد الله بن باباه بسند رجاله ثقات رفعه: "كأني أراكم بالكوم جثى من دون جهنم" وقوله: "جثى" بضم الجيم بعدها مثلثة مقصور جمع جاث، والكوم بفتح الكاف الواو الساكنة المكان العالي الذي تكون عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث كعب بن مالك عند مسلم أنهم يكونون يوم القيامة على تل عال، وفيه أن احتجاب الله عن عباده ليس بحائل حسي بل بأمر معنوي يتعلق بقدرته، يؤخذ من قوله ثم ينظر فلا يرى قدامه شيئا. وقال ابن هبيرة المراد بالكلمة الطيبة هنا يدل على هدى أو يرد عن ردى أو يصلح بين اثنين أو يفصل بين متنازعين أول يحل مشكلا أو يكشف غامضا أو يدفع ثائرا أو يسكن غضبا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(11/405)


50 - باب يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ
6541- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ ح قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ و حَدَّثَنِي أَسِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ "حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ هَؤُلاَءِ أُمَّتِي قَالَ لاَ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا

(11/405)


سَوَادٌ كَثِيرٌ قَالَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَهَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ قُلْتُ وَلِمَ قَالَ كَانُوا لاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"
6542- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"
6543- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا مُتَمَاسِكِينَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ الْجَنَّةَ وَوُجُوهُهُمْ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ"
6544- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يَا أَهْلَ النَّارِ لاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لاَ مَوْتَ خُلُودٌ"
[الحديث 6544- طرفه في: 6548]
6545- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ وَلِأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ"
قوله: "باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب" فيه إشارة إلى أن وراء التقسيم الذي تضمنته الآية المشار إليها في الباب الذي قبله أمرا آخر، وأن من المكلفين من لا يحاسب أصلا، ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا، ومنهم من ناقش الحساب. قوله: "حدثنا ابن الفضيل" هو محمد، وحصين هو ابن عبد الرحمن الواسطي. قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "وحدثني أسيد" بفتح الهمزة كسر المهملة هو ابن زيد الجمال بالجيم كوفي حدث ببغداد، قال أبو حاتم: كانوا يتكلمون فيه وضعفه جماعة، وأفحش ابن معين فيه القول. وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع وقد قرنه فيه يغيره، ولعله كان عنده ثقة قاله أبو مسعود، ويحتمل أن لا يكون خبر أمره كما ينبغي وإنما سمع منه هذا الحديث الواحد، وقد

(11/406)


وافقه عليه جماعة منهم شريح بن النعمان عند أحمد وسعيد بن منصور عند مسلم وغيرهما، وإنما احتاج إليه فرارا من تكرير الإسناد بعينه فإنه أخرج السند الأول في الطب في "باب من اكتوى" ثم أعاده هنا فأضاف إليه طريق هشيم، وتقدم له في الطب أيضا في باب من لم يرق من طريق حصين بن بهز عن حصين بن عبد الرحمن، وتقدم باختصار قريبا من طريق شعبة عن حصين بن عبد الرحمن. قوله: "كنت عند سعيد بن جبير فقال حدثني ابن عباس" زاد ابن فضيل في رواية عن حصين عن عامر وهو الشعبي عن عمران بن حصين "لا رقية إلا من عين" الحديث، وقد بينت الاختلاف في رفع حديث عمران هذا والاختلاف في سنده أيضا في كتاب الطب، وأن في رواية هشم زيادة قصة وقعت لحصين بن عبد الرحمن مع سعيد بن جبير فيما يتعلق بالرقية وذكره حكم الرقية هناك. قوله: "عرضت" بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "علي" بالتشديد "الأمم" بالرفع، وقد بين عبثر بن القاسم بموحدة ثم مثلثة وزن جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرحمن عند الترمذي والنسائي أن ذلك كان ليلة الإسراء ولفظه: "لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد" الحديث فإن كان ذلك محفوظا كانت فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء وأنه وقع بالمدينة أيضا غير الذي وقع بمكة، فقد وقع عند أحمد والبزار بسند صحيح قال: "أكربنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عدنا إليه فقال: عرضت على الأنبياء الليلة بأممها، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة والنبي يمر ومعه العصابة" فذكر الحديث. وفي حديث جابر عند البزار "أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العشاء حتى نام بعض من كان في المسجد" الحديث والذي يتحرر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة من استفتاح أبواب السماوات بابا بابا ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء ولا المراجعة معهم ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات ولا في طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها بمكة البعض ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض ومعظمها في المنام، والله أعلم. قوله: "فأجد" بكسر الجيم بلفظ المتكلم بالفعل المضارع، وفيه مبالغة لتحقق صورة الحال. وفي رواية الكشميهني: "فأخذ" بفتح الخاء والذال المعجمتين بلفظ الفعل الماضي. قوله: "النبي" بالنصب وفي رواية الكشميهني بالرفع على أنه الفاعل. قوله: "يمر معه الأمة" أي العدد الكثير. قوله: "والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشر" بفتح المهملة وسكون المعجمة وفي رواية المستملى بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم راء، ووقع في رواية ابن فضيل "فجعل النبي والنبيان يمرون ومعهم الرهط" زاد عبثر في روايته: "والشيء" وفي رواية حصين بن نمير نحوه لكن بتقديم وتأخير. وفي رواية سعيد بن منصور التي أشرت إليها آنفا "فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد والنبي معه الخمسة" والرهط تقدم بيانه في شرح حديث أبي سفيان في قصة هرقل أول الكتاب، وفي حديث ابن مسعود "فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد". والحاصل من هذه الروايات أن الأنبياء يتفاوتون في عدد أتباعهم. قوله: "فنظرت فإذا سواد كثير" في رواية حصين بن نمير فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، والسواد ضد البياض هو الشخص الذي يرى من بعيد، وصفه بالكثير إشارة إلى أن المراد بلفظ الجنس لا الواحد، ووقع في رواية ابن فضيل "ملأ الأفق" الأفق الناحية، والمراد به هنا ناحية السماء. قوله: "قلت يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا" في رواية حصين بن نمير "فرجوت أن تكون أمتي فقيل هذا موسى في قومه". وفي حديث ابن مسعود عند أحمد "حتى

(11/407)


مر على موسى في كبكبة من بني إسرائيل فأعجبني، فقلت من هؤلاء؟ فقيل: هذا أخوك موسى معه بنو وإسرائيل" والكبكبة بفتح الكاف ويجوز ضمها بعدها موحدة هي الجماعة من الناس إذا انضم بعضهم إلى بعض. قوله: "ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير" في رواية سعيد بن منصور "عظيم" وزاد: "فقيل لي انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر" مثله. وفي رواية ابن فضيل "فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء" وفي حديث ابن مسعود "فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال" وفي لفظ لأحمد "فرأيت أمتي قد ملؤوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم أي رب" وقد استشكل الإسماعيلي كونه صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى، وقد ثبت من حديث أبي هريرة كما تقدم في الطهارة "كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ فقال: إنهم غر محجلون من أثر الوضوء" وفي لفظ: "سيما ليست لأحد غيرهم" وأجاب بأن الأشخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها إلا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم، وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه، وهذا كما يرى الشخص شخصا على بعد فيكلمه ولا يعرف أنه أخوه، فإذا صار بحيث يتميز عن غيره عرفه. ويؤيده أن ذلك يقع عند ورودهم عليه الحوض. قوله: "هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب" في رواية سعيد بن منصور "معهم" بدل قدامهم وفي رواية حصين بن نمير "ومع هؤلاء" وكذا في حديث ابن مسعود، والمراد بالمعية المعنوية فإن السبعين ألفا المذكورين من جملة أمته، لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفا إليهم، وقد وقع في رواية ابن فضيل "ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب" وفي رواية عبثر بن القاسم "هؤلاء أمتك، ومن هؤلاء من أمتك سبعون ألفا" والإشارة بهؤلاء إلى الأمة لا إلى خصوص من عرض، ويحتمل أن تكون مع بمعنى من فتأتلف الروايات. قوله: "قلت ولم" بكسر اللام وفتح الميم ويجوز إسكانها، يستفهم بها عن السبب، وقع في رواية سعيد بن منصور وشريح عن هشيم "ثم نهض - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل منزله، فحاص الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين" وفي رواية عبثر "فدخل ولم يسألوه ولم يفسر لهم" والباقي نحوه. وفي رواية ابن فضيل "فأفاض القوم فقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا الرسول، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال" وفي رواية حصين بن نمير "فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله وبرسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا" وفي حديث جابر "وقال بعضنا: هم الشهداء" وفي رواية له "من رق قلبه للإسلام". قوله: "كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات في حديث ابن عباس وإن كان عند البعض تقدم وتأخير، وكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم، وفي لفظ له سقط "ولا يتطيرون" هكذا في حديث ابن مسعود وفي حديث جابر اللذين أشرت إليهما بنحو الأربع، ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم: "ولا يرقون" بدل "ولا يكتوون" وقد أنكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم أنها غلط من راويها، واعتل بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقينه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك؟ وأيضا فقد رقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقي النبي أصحابه وأذن لهم في الرقي وقال:

(11/408)


"من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" والنفع مطلوب. قال: وأما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه، وتمام التوكل ينافي ذلك. قال: وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكيل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء. وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ وقد اعتمده البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه. والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكيل فكذا يقال له والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكيل، وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعي ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة لأنه في مقام التشريع وتبين الأحكام، ويمكن أن يقال إنما ترك المذكورون الرقي والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه إليه وإلا فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة وإنما منع منها ما كان شركا أو احتمله ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا علي رقاكم، ولا بأس بالرقي ما لم يكن شرك" ففيه إشارة إلى علة النهي كما تقدم تقرير ذلك واضحا في كتاب الطب، وقد نقل القرطبي عن غيره أن استعمال الرقي والكي قادح في التوكيل بخلاف سائر أنواع الطب، وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق عادة كالأكل والشرب فلا يقدح، قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهوم، والثاني أن الرقي بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء إليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه، فلو كان ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء، وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم ورقي وفعله السلف والخلف، فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو أعلم وأفضل ممن عداهم. وتعقب بأنه بني كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا، وليس كذلك لما سأبينه، وجوز أبو طالب بن عطية في "موازنة الأعمال" أن السبعين المذكورين هم المراد بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فإن أراد أنهم من جملة السابقين فمسلم وإلا فلا، وقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة" فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم، وسأذكر بعد قليل من حديث أم قيس بنت محصن أن السبعين ألفا ممن يحشر من مقبرة البقيع بالمدينة وهي خصوصية أخرى. قوله: "ولا يتطيرون" تقدم بيان الطيرة في كتاب الطب، والمراد أنهم لا يتشاءمون كما كانوا يفعلون في الجاهلية. قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرة لما تقدم من ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة، ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص لأن صفة واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك، وقد مضى القول في التوكيل في "باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" قريبا. وقال القرطبي وغيره: قالت طائفة من الصوفية لا يستحق، اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج، وحتى لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له. وأبي هذا الجمهور وقالوا: يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه واقع، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد

(11/409)


له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قدح في توكله، وهم مع ذلك فيه على قسمين: واصل وسالك، فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب ولو تعاطاها، وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانا إلا أنه قد يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية والأذواق الحالية إلى أن يرتقي إلى مقام الواصل. وقال أبو القاسم القشيري: التوكل محله القلب، وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من قبل الله، فإن تيسر شيء فبتيسره وإن تعسر فبتقديره. ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه: "أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وكان داود يأكل من كسبه" فقد قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} وقال تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}. وأما قول القائل كيف تطلب ما لا تعرف مكانه فجوابه أنه يفعل السبب المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته فيشق الأرض مثلا ويلقي الحب وتوكل على الله في إنباته وإنزال الغيث له، ويحصل السلعة مثلا ونقلها ويتوكل على الله في إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها منه، بل ربما كان التكسب واجبا كقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة فمتى ترك ذلك كان عاصيا. وسلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال: قوله: "لا يكتوون" معناه إلا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي، وقوله: "ويسترقون" معناه بالرقي التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقي الجاهلية وما لا يؤمن أن يكون فيه شرك، وقوله: "ولا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية في عقائدهم. قال: فإن قيل إن المتصف بهذا أكثر من العدد المذكور فما وجه الحصر فيه؟ وأجاب باحتمال أن يكون المراد به التكثير لا خصوص العدد. قلت: الظاهر أن العدد المذكور على ظاهره، فقد وقع في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وصفهم بأنهم "تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" ومضى في بدء الخلق من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رفعه: "أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب درى في السماء إضاءة" وأخرجه مسلم من طرق عن أبي هريرة: منها رواية أبي يونس وهمام عن أبي هريرة "على صورة القمر" وله من حديث جابر "فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون" وقد وقع في أحاديث أخرى أن مع السبعين ألفا زيادة عليهم، ففي حدث أبي هريرة عند أحمد والبيهقي في البعث من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي" فذكر الحديث نحو سياق حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وزاد: "فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفا" وسنده جيد، وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حذيفة عند أحمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند ابن أبي عاصم، فهذه طرق يقوي بعضها بعضا وجاء في أحاديث أخرى من ذلك: فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رفعه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي" وفي صحيح ابن حبان أيضا والطبراني بسند جيد من حديث عتبة بن عبد نحوه بلفظ: "ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفا، ثم يحثى ربي ثلاث حثيات بكفيه" وفيه:

(11/410)


"فكبر عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن السبعين ألفا يشفعهم الله في آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم وإني لأرجو أن يكون أدنى أمتي الحثيات" وأخرجه الحافظ الضياء وقال: لا أعلم له علة. قلت: علته الاختلاف في سنده، فإن الطبراني أخرجه من رواية أبي سلام حدثني عامر بن زيد أنه سمع عتبة، ثم أخرجه من طريق أبي سلام أيضا فقال: "حدثني عبد الله بن عامر أن قيس بن الحارث حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه" فذكره وزاد: "قال قيس فقلت لأبي سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: وقال رسول صلى الله عليه وسلم: وذلك يستوعب مهاجري أمتي ويوفي الله بقيتهم من أعرابنا" وفي رواية لابن أبي عاصم قال أبو سعيد "فحسبنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعة آلاف ألف وتسعمائة ألف" يعني من عدا الحثيات وقد وقع عند أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب نحو حديث عتبة بن عبد وزاد: "والخبيئة - بمعجمة ثم موحدة وهمزة وزن عظيمة - عند ربي" وورد من وجه آخر ما يزيد على العدد الذي حسبه أبو سعيد الأنماري، فعند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه بلفظ: "أعطاني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا" وفي سنده راويان أحدهما ضعيف الحفظ والآخر لم يسم. وأخرج البيهقي في البعث من حديث عمرو بن حزم مثله وفيه راو ضعيف أيضا، واختلف في سنده وفي سياق متنه. وعند البزار من حديث أنس بسند ضعيف نحوه، وعند الكلاباذي في "معاني الأخبار" بسند واه من حديث عائشة "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فإذا هو في مشربة يصلي، فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار، فلما قضى صلاته قال: رأيت الأنوار؟ قلت: نعم. قال: إن آتيا أتاني من ربي فبشرني أن الله يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، فقلت يا رب لا يبلغ هذا أمتي قال أكملهم لك من الأعراب ممن لا يصوم ولا يصلي" قال الكلاباذي: المراد بالأمة أولا أمة الإجابة، وبقوله آخرا أمتي أمة الاتباع، فإن أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: أحدها أخص من الآخر أمة الاتباع ثم أمة الإجابة ثم أمة الدعوة، فالأولى أهل العمل الصالح والثانية مطلق المسلمين والثالثة من عداهم ممن بعث إليهم، ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو مقدار الحثيات، فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة عن النضر بن أنس أو غيره عن أنس رفعه: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله، فقال: هكذا وجمع كفيه، فقال: زدنا. فقال وهكذا. فقال عمر حسبك أن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق عمر" وسنده جيد لكن اختلف على قتادة في سنده اختلافا كثيرا. قوله: "فقام إليه عكاشة" بضم المهملة وتشديد الكاف ويجوز تخفيفها يقال عكش الشعر ويعكش إذا التوى حكاه القرطبي، وحكى السهيلي أنه من عكش القوم إذا حمل عليهم وقيل العكاشة بالتخفيف العنكبوت، ويقال أيضا لبيت النمل. ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم نون آخره هو ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة من بني أسد بن خزيمة ومن حلفاء بني أمية. كان عكاشة من السابقين إلى الإسلام وكان من أجمل الرجال وكنيته أبو محصن وهاجر وشهد بدرا وقاتل فيها، قال ابن إسحاق بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير فارس في العرب عكاشة" وقال أيضا: قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى انقطع سيفه في يده فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزلا من حطب فقال "قاتل بهذا" فقاتل به فصار في يده سيفا طويلا شديد المتن أبيض فقاتل به حتى فتح الله

(11/411)


فكان ذلك السيف عنده حتى استشهد في قتال الردة مع خالد ابن الوليد سنة اثنتي عشرة. قوله: "فقال ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "اللهم اجعله منهم" في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب مثله، وعند البيهقي من طريق محمد بن زياد عنه - وساق مسلم سنده - قال: "فدعا" ووقع في رواية حصين ابن نمير ومحمد بن فضيل "قال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال له نعم" ويجمع بأنه سأل الدعاء أولا فدعا له ثم استفهم قيل أجبت. قوله: "ثم قام إليه رجل آخر" وقع فيه من الاختلاف هل قال: "ادع لي" أو قال: "أمنهم أنا" كما وقع في الذي قبله. ووقع في حديث أبي هريرة الذي بعده "رجل من الأنصار" وجاء من طريق واهية أنه سعد بن عبادة أخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق أبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري أحد الضعفاء من طريقين له عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزاة بني المصطلق، فساق قصة طويلة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف؛ ثمانون صفا منها أمتي وأربعون صفا سائر الأمم، ولي مع هؤلاء سبعون ألفا مدخلون الجنة بغير حساب، قيل من هم" فذكر الحديث، وفيه: "فقال: "اللهم اجعل عكاشة" منهم، قال فاستشهد بعد ذلك. ثم قام سعد بن عبادة الأنصاري فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم" الحديث، وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة، فإن كان محفوظا فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه ونسبته، فإن في الصحابة كذلك آخر له في مسند بقي بن مخل حديث، وفي الصحابة سعد بن عمارة الأنصاري فلعل اسم أبيه تحرف. قوله: "سبقك بها عكاشة" اتفق جمهور الرواة على ذلك إلا ما وقع عند ابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى من حديث أبي سعيد فزاد: فقام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم وقال في آخره: سبقك بها عكاشة وصاحبه، أما لو قلتم لقلت ولو قلت لوجبت" وفي سنده عطية وهو ضعيف. وقد اختلقت أجوبة العلماء في الحكمة قوله: "سبقك بها عكاشة" فأخرج ابن الجوزي في "كشف المشكل" من طريق أبي عمر الزاهد أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى المعروف بالثعالبي عن ذلك فقال: كان منافقا، وكذا نقله الدار قطني عن القاضي أبي العباس البرتي بكسر الموحدة وسكون الراء بعدها مثناة فقال: كان الثاني منافقا، وكان صلى الله عليه وسلم لا يسأل في شيء إلا أعطاه، فأجابه بذلك. ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل العلم نحو قول ثعلب. وقال ابن ناصر قول ثعلب أولى من رواية مجاهد لأن سندها واه واستبعد السهيلي قول ثعلب بما وقع في مسند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة "فقام رجل من خيار المهاجرين" وسنده ضعيف جدا مع كونه مخالفا لرواية الصحيح أنه من الأنصار. وقال ابن بطال: معنى قوله: "سبقك" أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه، وعدل عن قوله: "لست منهم أو لست على أخلاقهم" تلطفا بأصحابه صلى الله عليه وسلم وحسن أدبه معهم. وقال ابن الجوزي "يظهر لي أن الأول سأل عن صدق قلب فأجيب، وأما الثاني فيحتمل أن يكون أريد به حسم المادة، فلو قال للثاني نعم لأوشك أن يقوم ثالث ورابع إلى ما لا نهاية له وليس كل الناس يصلح لذلك" وقال القرطبي: لم يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجب إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل، فسد الباب بقوله ذلك، وهذا أولى من قول من قال كان منافقا لوجهين: أحدهما أن الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح، والثاني أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول، كيف صدر ذلك من منافق؟ وإلى هذا جنح ابن تيمية. وصحح النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي أنه يجاب في عكاشة ولم يقع ذلك في حق الآخر. وقال السهيلي: الذي عندي في هذا أنها

(11/412)


كانت ساعة إجابة علمها صلى الله عليه وسلم واتفق أن الرجل قال بعدما انقضت، ويبينه ما وقع في حديث أبي سعيد "ثم جلسوا ساعة يتحدثون" وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله سبقك بها عكاشة "وبردت الدعوة" أي انقضى وقتها. قلت: فتحصل لنا من كلام هؤلاء الأئمة على خمسة أجوبة والعلم عند الله تعالى. ثم وجدت لقول ثعلب ومن وافقه مستندا وهو ما أخرجه الطبراني ومحمد بن سنجر في مسنده وعمر بن شيبة في "أخبار المدينة" من طريق نافع مولى حمنة عن أم قيس بنت محصن وهي أخت عكاشة أنها "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجل فقال: يا رسول الله، وأنا؟ قال وأنت. مقام آخر فقال أنا؟ قال: سبقك بها عكاشة قال قلت لها: لم لم يقل للآخر؟ فقالت: أراه كان منافقا" فإن كان هذا أصل ما جزم به من قال كان منافقا فلا يدفع تأويل غيره إذ ليس فيه إلا الظن. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وقد أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن وهب عن يونس، لكن معاذ بن أسد شيخ البخاري فيه معروف بالرواية عن ابن المبارك لا عن ابن وهب، وقد أخرجه مسلم من وجهين آخرين عن أبي هريرة. قوله: "يدخل الجنة من أمتي زمرة" بضم الزاي وسكون الميم هي الجماعة إذ كان بعضهم إثر بعض. قوله: "سبعون ألفا" تقدم شرحه مستوفى في الذي قبله، وعرف من مجموع الطرق التي ذكرتها أن أول من يدخل الجنة من هذه الأمة هؤلاء السبعون الذي بالصفة المذكورة، ومعنى المعية في قوله في الروايات الماضية "مع كل ألف سبعون ألفا أو مع واحد منهم سبعون ألفا" ويحتمل أن يدخلوا بدخولهم تبعا لهم وإن لم يكن لهم مثل أعمالهم كما مضى حديث: "المرء مع من أحب" ويحتمل أن يراد بالمعية مجرد دخولهم الجنة بغير حساب وإن دخلوها في الزمرة الثانية أو ما بعدها، وهذه أولى. وقد أخرج الحاكم والبيهقي في "البعث" من طريق جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جابر رفعه: "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا، ومن أوبق نفسه فهو الذي يشفع فيه بعد أن يعذب" وفي التقصيد بقوله: "أمتي" إخراج غير الأمة المحمدية من العدد المذكور، وليس فيه نفي دخول أحد من غير هذه الأمة على الصفة المذكورة -من شبه القمر ومن الأولية وغير ذلك- لأنبياء ومن شاء الله من الشهداء والصديقين والصالحين، وإن ثبت حديث أم قيس ففيه تخصيص آخر بمن يدفن في البقيع من هذه الأمة وهي مزية عظيمة لأهل المدينة. والله أعلم. قوله: "تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" في رواية لمسلم: "على صورة القمر" قال القرطبي: المراد بالصورة الصفة يعني أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه وهي ليلة أربعة عشر، ويؤخذ منه أن أنوار أهل الجنة تتفاوت بحسب درجاتهم. قلت: وكذا صفاتهم في الجمال ونحوه. قوله: "يرفع نمرة عليه" بفتح النون وكسر الميم هي كساء من صوف كالشملة مخططة بسواد وبياض يلبسها الأعراب. قوله: "أبو غسان" بغين معجمة ثم مهملة ثقيلة، أبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف شك في أحدهما" في رواية مسلم من طريق عبد العزيز بن محمد عن أبي حازم "لا يدري أبو حازم أيهما قال". قوله: "متماسكين" بالنصب على الحال. وفي رواية مسلم متماسكون بالرفع على الصفة، قال النووي: كذا في معظم النسخ وفي بعضها بالنصب وكلاهما صحيح. قوله: "آخذ بعضهم ببعض" في رواية مسلم: "بعضهم بعضا". قوله: "حتى يدخل أولهم وآخرهم" هو غاية للتماسك المذكور والأخذ بالأيدي

(11/413)


وفي رواية فضيل بن سليمان الماضية في بدء الخلق "لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم" وهذا ظاهره يستلزم الدور، وليس كذلك، بل المراد أنهم يدخلون صفا واحدا فيدخل الجميع دفعة واحدة، ووصفهم بالأولية والآخرية باعتبار الصفة التي جازوا فيها على الصراط وفي ذلك إشارة إلى سعة الباب الذي يدخلون منه الجنة، قال عياض: يحتمل أن يكون معنى كونهم متماسكين أنهم على صفة الوقار فلا يسابق بعضهم بعضا بل كون دخولهم جميعا. وقال النووي: معناه أنهم يدخلون معترضين صفا واحدا بعضهم بجنب بعض. "تنبيه": هذه الأحاديث تخص عموم الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي برزة الأسلمي رفعه: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" وله شاهد عن ابن مسعود عند الترمذي، وعن معاذ بن جبل عند الطبراني. قال القرطبي: عموم الحديث واضح، لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصوص بمن يدخل الجنة بغير حساب، وبمن يدخل النار من أول وهلة على ما دل عليه قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} الآية. قلت: وفي سياق حديث أبي برزة إشارة إلى الخصوص، وذلك أنه ليس أحد عنده علم يسأل عنه، وكذا المال فهو مخصوص بمن له علم وبمن له مال دون من لا مال له ومن لا علم له، وأما السؤال عن الجسد والعمر فعام ويخص من المسئولين من ذكر، والله أعلم. قوله: "يعقوب بن إبراهيم" أي ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان. قوله: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار" في رواية محمد بن زيد عن ابن عمر في الباب الذي بعده "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار النار أتى بالموت" ووقع مثله في طريق أخرى عن أبي هريرة ولفظه عند الترمذي من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بعد ذكر الجواز على الصراط "فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت ملبيا" وهو بموحدتين. قوله: "ثم يقوم مؤذن بينهم" في رواية محمد بن زيد قيل هذا قصة ذبح الموت ولفظه: "ثم جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح. ثم ينادي مناد" لم أقف على اسم هذا المنادي. قوله: "يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت خلود" أما قوله: "لا موت" فهو بفتح المثناة فيهما، وأما قوله في آخره: "خلود" فهكذا وقع في رواية على بن عبد الله عن يعقوب، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب وغير واحد عن يعقوب بتقديم نداء أهل الجنة ولم يقل "لا موت" فيهما بل قال: "كل خالد فيما هو فيه" وكذا هو عند الإسماعيلي من طريق إسحاق بن منصور عن يعقوب، وضبط "خلود" في البخاري بالرفع والتنوين أي هذا الحال مستمر، ويحتمل أن يكون جمع خالد أي أنتم خالدون في الجنة. قوله: "يقال لأهل الجنة يا أهل الجنة" سقط لغير الكشميهني قوله: "يا أهل الجنة" وثبت للجميع في مقابله "يا أهل النار". قوله: "لا موت" زاد الإسماعيلي في روايته: "لا موت فيه" وسيأتي في ثالث أحاديث الباب الذي يليه أن ذلك يقال للفريقين عند ذبح الموت، وثبت ذلك عند الترمذي من وجه آخر عن أبي هريرة. "تنبيه": مناسبة هذا الحديث والذي قبله لترجمة دخول الجنة بغير حساب الإشارة إلى أن كل من يدخل الجنة يخلد فيها فيكون للسابق إلى الدخول مزية على غيره، والله أعلم.

(11/414)


51 - باب صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ

(11/414)


وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ
عَدْنٌ خُلْدٌ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَقَمْتُ وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ
6546- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ "عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"
6547- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"
6548- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لاَ مَوْتَ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ"
6549- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا"
[الحديث 6549- طرفه في: 7518]
6550- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ "وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ"
6551- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ الْكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ "
6552- وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا"

(11/415)


6553- قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ "حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا"
6554- حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم "عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف لا يدري أبو حازم أيهما قال متماسكون آخذ بعضهم بعضا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر ليلة البدر"
6555- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ سَهْلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرَفَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ"
6556- قَالَ أَبِي فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ وَيَزِيدُ فِيهِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَارِبَ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ"
6557- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ بِي"
6558- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمْ الثَّعَارِيرُ قُلْتُ مَا الثَّعَارِيرُ قَالَ الضَّغَابِيسُ وَكَانَ قَدْ سَقَطَ فَمُهُ فَقُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ النَّارِ قَالَ نَعَمْ"
6559- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6560- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا

(11/416)


تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ أَوْ قَالَ حَمِيَّةِ السَّيْلِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً"
6561- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ "سَمِعْتُ النُّعْمَانَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ"
[الحديث 6561- طرفه في: 6562]
6562- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ"
6563- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"
6564- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ"
6565- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ

(11/417)


ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ"
6566- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6567- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَإِلاَ سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ لَهَا "هَبِلْتِ أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى"
6568- "وَقَالَ: " غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لاَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلاَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا يَعْنِي الْخِمَارَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
6569- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً"
6570- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ"
6571- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا

(11/418)


مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يَقُولُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً"
[الحديث 6571- طرفه في: 7511]
6572- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ "عَنْ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ"
قوله: "باب صفة الجنة والنار" تقدم هذا في بدء الخلق في ترجمتين. ووقع في كل منهما "وأنها مخلوقة" وأورد فيهما أحاديث في تثبيت كونهما موجودتين وأحاديث في صفتهما أعاد بعضها في هذا الباب كما سأنبه عليه. قوله: "وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت" في رواية أبي ذر "كبد الحوت" وقد تقدم هذا الحديث مطولا في "باب يقبض الله الأرض يوم القيامة" وهو مذكور هنا بالمعنى، وتقدم بلفظه في بدء الخلق لكن من حديث أنس في سؤال عبد الله بن سلام. قوله: "عدن: خلد، عدنت بأرض أقمت" تقدم هذا في تفسير براءة وأنه من كلام أبي عبيدة. وقال الراغب: معنى قوله: "جنات عدن" أي الاستقرار، وعدن بمكان كذا إذا استقر به، ومنه المعدن لكونه مستقر الجواهر. قوله: "في مقعد صدق: في منبت صدق" كذا لأبي ذر، ولغيره: "في معدن" بدل "مقعد" وهو الصواب، وكأن سبب الوهم أنه لما رأى أن الكلام في صفة الجنة وأن من أوصافها مقعد صدق كما في آخر سورة القمر ظنه هنا كذلك، وقد ذكره أبو عبيدة بلفظ: "معدن صدق" وأنشد للأعشى قوله: فإن يستضيفوا إلى حلمه يضافوا إلى راجح قد عدن أي أقام واستقر، نعم قوله: "مقعد صدق" معناه مكان القعود وهو يرجع إلى معنى المعدن، ولمح المصنف هنا بأسماء الجنة وهي عشرة أو تزيد: الفردوس وهو أعلاها ودار السلام ودار الخلد ودار المقامة وجنة المأوى والنعيم والمقام الأمين وعدن ومقعد صدق والحسنى، وكلها في القرآن. وقال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} فعد بعضهم في أسماء الجنة دار الحيوان وفيه نظر. قوله: "عن أبي رجاء" هو العطاردي وعمران هو ابن حصين، والسند كله بصريون، وقد تقدم الحديث بهذا السند في آخر "باب كفران العشير" وفي أواخر كتاب النكاح وتقدم في "باب فضل الفقر" بيان الاختلاف على أيوب عن أبي رجاء في صحابيه، وتقدم بحث ابن بطال فيما يتعلق به من فضل الفقر، وقوله اطلعت بتشديد الطاء أي أشرفت، وفي حديث أسامة بن زيد الذي بعده "قمت على باب الجنة" وظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء أو مناما، وهو غير رؤيته النار وهو في صلاة الكسوف، ووهم من وحدهما. وقال الداودي: رأى ذلك ليلة الإسراء أو حين خسفت الشمس، كذا قال. قوله: "فرأيت أكثر أهلها الفقراء" في حديث أسامة "فإذا

(11/419)


عامة من دخلها المساكين" وكل منهما يطلق على الآخر وقوله: "فإذا أكثر" في حديث أسامة "فإذا عامة من دخلها". قوله: "بكفرهن" أي بسبب كفرهن تقدم شرحه مستوفى في "باب كفران العشير" قال القرطبي إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى، والميل إلى عاجل زينة الدنيا، والإعراض عن الآخرة لنقص عقلهن وسرعة انخداعهن. قوله: "إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وأبو عثمان هو النهدي، وأسامة هو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي. قوله: "أصحاب الجد" بفتح الجيم أي الغنى. قوله: "محبوسون" أي ممنوعون من دخول الجنة مع الفقراء من أجل المحاسبة على المال، وكأن ذلك عند القنطرة التي يتقاصون فيها بعد الجواز على الصراط. "تنبيه": سقط هذا الحديث والذي قبله من كثير من النسخ ومن مستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم، ولا ذكر المزي في "الأطراف" طريق عثمان بن الهيثم ولا طريق مسدد في كتاب الرقاق وهما ثابتان في رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك وعمر بن محمد بن زيد أي ابن عبد الله بن عمر، قوله: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار" في رواية ابن وهب عن عمران بن محمد عند مسلم: "وصار أهل النار إلى النار". قوله: "جيء بالموت" تقدم في تفسير سورة مريم من حديث أبي سعيد "يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح" وذكر مقاتل والكلبي في تفسيرهما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قال: خلق الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى. قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له كما فدى ولد إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار لأن الأملح ما فيه بياض وسواد. قوله: "حتى يجعل بين الجنة والنار" وقع للترمذي من حديث أبي هريرة "فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار". قوله: "ثم يذبح" لم يسم من ذبحه، ونقل القرطبي عن بعض الصوفية أن الذي يذبحه يحيى بن زكريا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى دوام الحياة، وعن بعض التصانيف أنه جبريل. قلت: هو في تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في آخر حديث الصور الطويل فقال فيه: "فيحيى الله تعالى ملك الموت وجبريل وميكائيل وإسرافيل ويجعل الموت في صورة كبش أملح فيذبح جبريل الكبش وهو الموت". قوله: "ثم ينادي مناد" لم أقف على تسميته، وتقدم في الباب الذي قبله من وجه آخر عن ابن عمر بلفظ: "ثم يقوم مؤذن بينهم" وفي حديث أبي سعيد بعد قوله أملح "فينادي مناد" وظاهره أن الذبح يقع بعد النداء، والذي هنا يقتضي أن النداء بعد الذبح، ولا منافاة بينهما فإن النداء الذي قبل الذبح للتنبيه على رؤية الكبش والذي بعد الذبح للتنبيه على إعدامه وأنه لا يعود. قوله: "يا أهل الجنة لا موت" زاد في الباب الماضي "خلود" وقع في حديث أبي سعيد "فينادي مناد يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرقون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد رآه وعرفه" وذكر في أهل النار مثله، قال: "فيذبح ثم يقول - أي المنادي - يا أهل الجنة خلود فلا موت" الحديث، وفي آخره: "ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} إلى آخر الآية "وعند الترمذي في آخر حديث أبي سعيد" فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار" وقوله: "فيشرئبون" بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الراء بعدها تحتانية مهموزة ثم موحدة ثقيلة أي يمدون أعناقهم ويرفعون رءوسهم للنظر. ووقع عند ابن ماجه وفي صحيح ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة "فيوقف على الصراط فيقال

(11/420)


يا أهل الجنة فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، ثم يقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه" وفي آخره: "ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا" وفي رواية الترمذي "فيقال لأهل الجنة وأهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا، فيضجع فيذبح ذبحا على السور" قال القاضي أبو بكر بن العربي: استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل لأن الموت عرض والعرض لا ينقلب جسما فكيف يذبح؟ فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث ودفعته، وتأولته طائفة فقالوا: هذا تمثيل ولا ذبح هناك حقيقة. وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته والمذبوح متولي الموت وكلهم يعرفه لأنه الذي تولى قبض أرواحهم. قلت: وارتضى هذا بعض المتأخرين وحمل قوله: "هو الموت الذي وكل بنا" على أن المراد به ملك الموت لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا كما قال تعالى في سورة ألم السجدة واستشهد له من حيث المعنى بأن ملك الموت لو استمر حيا لنغص عيش أهل الجنة. وأيده بقوله في حديث الباب: "فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم" وتعقب بأن الجنة لا حزن فيها البتة، وما وقع في رواية ابن حبان أنهم يطلعون خائفين إنما هو توهم لا يستقر، ولا يلزم من زيادة الفرح ثبوت الحزن، بل التعبير بالزيادة إشارة إلى أن الفرح لم يزل، كما أن أهل النار يزداد حزنهم ولم يكن عندهم فرح إلا مجرد التوهم الذي لم يستقر، وقد تقدم في "باب نفخ الصور" عند نقل الخلاف في المراد بالمستثنى في قوله تعالى: {صَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قول من زعم أن ملك الموت منهم. ووقع عند علي بن معبد من حديث أنس "ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب بقيت أنت الحي القيوم الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول أنت خلق من خلقي فمت ثم لا تحيا، فيموت" وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق محمد بن كعب القرظي قال: بلغني أن آخر من يموت من الخلائق ملك الموت، فيقال له: يا ملك الموت مت موتا لا تحيا بعده أبدا. فهذا لو كان ثابتا لكان حجة في الرد على من زعم أنه الذي يذبح لكونه مات قبل ذلك موتا لا حياة بعده، لكنه لم يثبت. وقال المازري: الموت عندنا عرض من الأعراض، وعند المعتزلة ليس بمعنى، وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشا ولا جسما، وأن المراد بهذا التمثيل والتشبيه. ثم قال: وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الجنة. وقال القرطبي في التذكرة: الموت معنى والمعاني لا تنقلب جوهرا، وإنما يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال، وكذا الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت ويلقى في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين. وقال غيره: لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها كما ثبت في صحيح مسلم في حديث: "إن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان" ونحو ذلك من الأحاديث. قال القرطبي: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قال فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السنة. قلت: جمع بعض المتأخرين هذه المسألة سبعة أقوال: أحدها هذا الذي نقل فيه الإجماع، والثاني يعذبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم فتصير نارية حتى يتلذذوا بها لموافقة طبعهم وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة، والثالث يدخلها قوم ويخلفهم

(11/421)


آخرون كما ثبت في الصحيح عن اليهود وقد أكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} والرابع يخرجون منها وتستمر هي على حالها، الخامس تفنى لأنها حادثة وكل حادث يفنى وهو قول الجهمية، والسادس تفنى حركاتهم البتة وهو قول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة، والسابع يزول عذابها ويخرج أهلها منها جاء ذلك عن بعض الصحابة أخرجه عبد بن حميد في تفسيره من رواية الحسن عن عمر قوله وهو منقطع ولفظه: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" وعن ابن مسعود "ليأتين عليها زمان ليس فيها أحد" قال عبيد الله بن معاذ راويه: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين. قلت: وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عن زيد بن أسلم" كذا في جميع الروايات عن مالك بالعنعنة. قوله:" إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة" في رواية الحبيبي عن مالك عن الإسماعيلي: "يطلع الله على أهل الجنة فيقول". قوله: "فيقولون" في رواية أبي ذر عن المستملى "يقولون" بحذف الفاء. قوله: "وسعديك" زاد سعيد بن داود وعبد العزيز بن يحيى كلاهما عن مالك عند الدار قطني في الغرائب "والخير في يديك". قوله: "فيقول هل رضيتم" في حديث جابر عند البزار وصححه ابن حبان:" هل تشتهون شيئا". قوله: "وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا" في حديث جابر "وهل شيء أفضل مما أعطيتنا". قوله: "أنا أعطيكم أفضل من ذلك" في رواية ابن وهب عن مالك كما سيأتي في التوحيد "ألا أعطيكم". قوله: "أحل" بضم أوله وكسر المهملة أي أنزل. قوله: "رضواني" بكسر أوله وضمه، وفي حديث جابر قال: "رضواني أكبر" وفيه تلميح بقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، وكل من علم أن سيده راض عنه كان أقر لعينه وأطيب لقلبه من كل نعيم لما في ذلك من التعظيم والتكريم. وفي هذا الحديث أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه. "تنبيهان": "الأول" حديث أبي سعيد هذا كأنه مختصر من الحديث الطويل الماضي في تفسير سورة النساء من طريق حفص بن ميسرة والآتي في التوحيد من طريق سعيد بن أبي هلال كلاهما عن زيد بن أسلم بهذا السند في صفة الجواز على الصراط، وفيه قصة الذين يخرجون من النار، وفي آخره أنه يقال لهم نحو هذا الكلام، لكن إذا ثبت أن ذلك يقال لهؤلاء لكونهم من أهل الجنة فهو للسابقين بطريق الأولى. "الثاني" هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم وأحمد من حديث صهيب رفعه: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه" الحديث، وفيه: "فيكشف الحجاب فينظرون إليه" وفيه: "فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وله شاهد عند ابن المبارك في الزهد من حديث أبي موسى من قوله، وأخرجه ابن أبي حاتم من حديثه مرفوعا باختصار. قوله: "عبد الله بن محمد" هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي يعرف بابن الكرماني وهو من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه بغير واسطة كما في كتاب الجمعة وبواسطة كالذي هنا، وقد تقدم بسنده ومتنه في "باب فضل من شهد بدرا" من كتاب المغازي. قوله: "أصيب حارثة" بمهملة ومثلثة هو ابن سراقة بن الحارث الأنصاري له ولأبويه صحبة، وأمه هي الربيع بالتشديد بنت النضر عمة أنس، وقد ذكرت الاختلاف في اسمها في "باب من أتاه سهم غرب "من كتاب الجهاد، وذكرت شرح

(11/422)


الحديث في غزوة بدر، وقولها هنا "وإن تكن الأخرى تر ما أصنع" كذا للكشميهني بالجزم جواب الشرط، ولغيره: "ترى" بالإشباع أو بحذف شيء بتقديره سوف كما في الرواية الآتية في آخر هذا الباب: "وإلا سوف ترى" والمعنى وإن لم يكن في الجنة صنعت شيئا من صنيع أهل الحزن مشهورا يراه كل أحد. قوله: "وإنه لفي جنة الفردوس" كذا للأكثر وحذف الكشميهني في روايته اللام، ووقع في الرواية الآتية "الفردوس الأعلى" قال أبو إسحاق الزجاج: الفردوس من الأودية ما ينبت ضروبا من النبات. وقال ابن الأنباري وغيره: بستان فيه كروم وثمرة وغيرها ويذكر ويؤنث. وقال الفراء: هو عربي مشتق من الفردسة وهي السعة، وقيل رومي نقلته العرب. وقال غيره سرياني، والمراد به هنا مكان من الجنة من أفضلها. قوله: "الفضل بن موسى" هو السيناني بكسر المهملة وسكون التحتانية ونونين المروزي. قوله: "أخبرنا الفضيل" بالتصغير كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه ابن السكن في روايته فقال الفضيل بن غزوان وهو المعتمد، ونسبه أبو الحسن القابسي في روايته عن أبي زيد المروزي فقال: الفضيل بن عياض، ورده أبو علي الجياني فقال: لا رواية للفضيل بن عياض في البخاري إلا في موضعين من كتاب التوحيد. ولا رواية له عن أبي حازم راوي هذا الحديث ولا أدركه، وهو كما قال. وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية محمد بن فضيل بن غزوان عن أبيه بسنده ولكن لم يرفعه، وهو عند الإسماعيلي من هذا الوجه وقال رفعه، وهو يؤيد مقالة أبي على الجياني. قوله: "منكبي الكافر" كسر الكاف تثنية منكب وهو مجتمع العضد والكتف. قوله: "مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" في رواية يوسف بن عيسى عن الفضل بن موسى بسند البخاري فيه: "خمسة أيام" أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عنه، وفي حديث ابن عمر عند أحمد من رواية مجاهد عنه مرفوعا: "يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" وللبيهقي في البعث من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس "مسيرة سبعين خريفا" ولابن المبارك في الزهد عن أبي هريرة قال: "ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد، يعظمون لتمتلئ منهم وليذوقوا العذاب" وسنده صحيح، ولم يصرح برفعه لكن له حكم الرفع لأنه لا مجال للرأي فيه، وقد أخرج أوله مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وزاد: "وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام" وأخرجه البزار من وجه ثالث عن أبي هريرة بسند صحيح بلفظ: "غلظ جلد الكافر وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار" وأخرجه البيهقي وقال: "أراد بذلك التهويل يعني بلفظ الجبار، قال: ويحتمل أن يريد جبارا من الجبابرة إشارة إلى عزم الذراع" وجزم ابن حبان لما أخرجه في صحيحه بأن الجبار ملك كان باليمين وفي مرسل عبيد بن عمير عند ابن المبارك في الزهد بسند صحيح "وكثافة جلده سبعون ذراعا" وهذا يؤيد الاحتمال الأول لأن السبعين تطلق للمبالغة. وللبيهقي من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة "وفخذه مثل ورقان ومقعده مثل ما بين المدينة والربذة" وأخرجه الترمذي ولفظه: "بين مكة والمدينة" وورقان بفتح الواو وسكون الراء بعدها قاف جبل معروف بالحجاز، والربذة تقدم ضبطها قريبا في حديث أبي ذر وكأن اختلاف هذه المقادير محمول على اختلاف تعذيب الكفار في النار وقال القرطبي في "المفهم": إنما عظم خلقا الكافر في النار ليعظم عذابه ويضاعف ألمه ثم قال وهذا إنما هو في حق البعض بدليل الحديث الآخر "إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس" قال ولا شك في أن الكفار متفاوتون في العذاب كما علم من الكتاب والسنة

(11/423)


ولأنا نعلم على القطع أن عذاب من قتل الأنبياء وفتك في المسلمين وأفسد في الأرض ليس مساويا لعذاب من كفر فقط وأحسن معاملة المسلمين مثلا قلت: أما الحديث المذكور فأخرجه الترمذي والنسائي بسند جيد عن عمرو بن شعيب على أبيه عن جده، ولا حجة فيه لمدعاه لأن ذلك إنما هو في أول الأمر عند الحشر، وأما الأحاديث الأخرى فمحمولة على ما بعد الاستقرار في النار وأما ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رفعه: "إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس" فسنده ضعيف وأما تفاوت الكفار في العذاب فلا شك فيه ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وتقدم قريبا الحديث في أهون أهل النار عذابا. قوله: "وقال إسحاق بن إبراهيم" هو المعروف بابن راهويه كذا في جميع النسخ وأطلق المزي تبعا لأبي مسعود أن البخاري ومسلما أخرجاه جميعا عن إسحاق بن راهويه مع أن لفظ مسلم: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي" وهو ابن راهويه وليس من رأي المزي التسوية بين "حدثنا" و "قال:" بل ولا "قال لي وقال لنا" بل يعلم على مثل ذلك كله علامة التعليق بخلاف "حدثنا". قوله: "أنبأنا المغيرة بن سلمة" في رواية مسلم: "أنبأنا المخزومي" قلت: وهو المغيرة المذكور وكنيته أبو هشام وهو مشهور بكنيته وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وقال: حدثنا أبو هشام المغيرة بن سلمة المخزومي. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمة بن دينار، بخلاف المذكور في الحديث الذي قبله فهو سلمان الأشجعي وهما مدنيان تابعيان ثقتان لكن سلمة أصغر من سلمان. قوله: "لا يقطعها" أي لا ينتهي إلى آخر ما يميل من أغصانها. قوله: "قال أبو حازم" هو موصول بالسند المذكور، والنعمان بن أبي عياش بتحتانية ثم معجمة هو الزرقي، ووقع منسوبا في رواية مسلم، وهو أيضا مدني تابعي ثقة يكنى أبا سلمة وهو أكبر من الراوي عنه. قوله: "أخبرني أبو سعيد" في رواية مسلم: "حدثني". قوله: "الجواد" بفتح الجيم وتخفيف الواو هو الفرس، يقال حاد الفرس إذا صار فائقا والجمع جياد وأجواد، وسيجيء في صفة المرور على الصراط "أجاويد الخيل وهو جمع الجمع". قوله: "أو المضمر" بفتح الضاد المعجمة وتشديد الميم تقدم تفسد في كتاب الجهاد، وقوله: "السريع" أي في جريه، وقع في رواية ابن وهب من وجه آخر عند الإسماعيلي: "الجواد السريع" ولم يشك وفي رواية مسلم: "الجواد المضمر السريع" بحذف أو، والجواد في روايتنا بالرفع وكذا ما بعده على أن الثلاثة ضفة للراكب، وضبط في صحيح مسلم بنصب الثلاثة على المفعولية، وقد تقدم هذا المتن في بدء الخلق من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس بلفظ: "يسير الراكب" وزاد في آخر حديث أبي هريرة "واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} " والمراد بالظل الراحة والنعيم والجهة يقال عز ظليل وأنا في ظلك أي كنفك. وقال الراغب: الظل أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ولكل موضع لا تصل إليه الشمس، ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس، قال ويعبر بالظل عن العز والمنعة والرفاهية والحراسة، ويقال عن غضارة العيش ظل ظليل. قلت: وقع التعبير في هذا الحديث بلفظ: "الفيء" في حديث أسماء بنت يزيد عند الترمذي ولفظها "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر سدرة المنتهى: يسير الراكب في ظل الفيء منها مائة سنة أو يستظل بظلها الراكب مائة سنة" ويستفاد منه تعيين الشجرة المذكورة في حديث الباب. وأخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه: "شجرة طوبي مائة سنة" وفي حديث عقبة بن عبد السلمي في عظم أصل شجرة طوبي "لو ارتحلت جذعة ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما" أخرجه ابن حبان في صحيحه، والترقوة بفتح المثناة

(11/424)


وسكون الراء بعدها قاف مضمومة وواو مفتوحة هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق والجمع تراق، ولكل شخص ترقوتان، وقد تقدم بعض هذا في صفة الجنة من بدء الخلق. قوله: "عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وعبد العزيز هو ابن أبي حازم المذكور قبل، وسهل هو ابن سعد. قوله: "عبد العزيز" هو ابن أبي حازم. وقوله عن أبي حازم هو أبوه واسمه سلمة بن دينار المذكور قبل، ووقع في رواية أني نعيم في المستخرج من طريق محمد بن أبي يعقوب "حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه" وتقدم شرح المتن مستوفى في الباب الذي قبله. قوله: "الغرف" بضم المعجمة وفتح الراء جمع غرفة بضم أوله وبفتحه، جاء في صفتها من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها" أخرجه الترمذي وابن حبان، وللطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر نحوه، وتقدم في صفة الجنة من بدء الخلق الإشارة إلى مثله من حديث علي، وعند البيهقي نحوه من حديث جابر وزاد: "من أصناف الجوهر كله". قوله: "الكوكب" زاد في رواية الإسماعيلي: "الدري". قوله: "قال أبي" القائل هو عبد العزيز. قوله: "أشهد لسمعت" اللام جواب قسم محذوف، وأبو سعيد هو الخدري. قوله: "يحدث" في رواية الكشميهني: "يحدثه" أي يحدث الحديث، يقال حدثت كذا وحدثت بكذا. قوله: "الغارب" في رواية الكشميهني الغابر بتقديم الموحدة على الراء، وضبطه بعضهم بتحتانية مهموزة قبل الراء قال الطيبي شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء النائي في جانب المشرق والمغرب في الاستضاءة مع البعد، ومن رواه الغائر من الغور لم يصح لأن الإشراق يفوت إلا إن قدر المشرف على الغور، والمعنى إذا كان طالعا في الأفق من المشرق وغائرا في المغرب. وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة وشدة البعد، وقد تقدم حديث الباب بأتم من هذا السياق في بدء الخلق من حديث أبي سعيد، وتقدم شرحه هناك. ووقع في رواية أيوب بن سويد عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد فيه شيء مدرج بينته هناك، وحكم الدار قطني عليه بالوهم، وأما ابن حبان فاغتر بثقة أيوب عنده فأخرجه في صحيحه، وهو معلول بما نبه عليه الدار قطني واستدل به على تفاوت درجات أهل الجنة. وقد قسموا في سورة الواقعة إلى السابقين وأصحاب اليمين: فالقسم الأول هم من ذكر في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية، ومن عداهم أصحاب اليمين، وكل من الصنفين متفاوتون في الدرجات، وفيه تعقب على من خص المقربين بالأنبياء والشهداء لقوله في آخر الحديث: "رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين". حديث أنس "يقال لأهل النار" الحديث الماضي في "باب من نوقش الحساب" وقد تقدم مشروحا. قوله: "أبو النعمان" هو محمد بن الفضل، وحماد هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، وجابر هو ابن عبد الله الأنصاري. قوله: "يخرج من النار بالشفاعة" كذا للأكثر من رواية البخاري بحذف الفاعل، وثبت في رواية أبي ذر عن السرخسي عن الفربري "يخرج قوم" وكذا للبيهقي في البعث من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، وكذا لمسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد ولفظه: "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة" وله من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر مثله لكن قال: "ناس من النار فيدخلهم الجنة" وعند سعيد بن منصور وابن أبي عمر عن سفيان عن عمرو فيه سند آخر أخرجاه من رواية عمرو عن عبيد بن عمير فذكره مرسلا وزاد: "فقال له رجل - يعني لعبيد بن عمير - وكان الرجل يتهم برأي الخوارج ويقال له هارون أبو موسى: يا أبا عاصم ما هذا الذي تحدثه به؟ فقال:

(11/425)


إليك عني، لو لم أسمعه من ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم أحدث به": قلت: وقد جاء بيان هذه القصة من وجه آخر أخرجه مسلم من طريق يزيد الفقير بفاء ثم قاف وزن عظيم ولقب بذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره لا أنه ضد الغنى قال: "خرجنا في عصابة نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، فمررنا بالمدينة فإذا رجل يحدث وإذا هو قد ذكر الجهنميين. فقلت له: ما هذا الذي تحدثون به، والله يقول {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قال. أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: أسمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله؟ قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار بعد أن يكونوا فيها. ثم نعت وضع الصراط ومد الناس عليه، قال: فرجعنا وقلنا: أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما خرج منا غير رجل واحد" وحاصله أن الخوارج الطائفة المشهورة المبتدعة كانوا ينكرون الشفاعة، وكان الصحابة ينكرون إنكارهم ويحدثون بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأخرج البيهقي في البعث من طريق شبيب بن أبي فضالة: ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل: إنكم لتحدثوننا بأحاديث لا نجد لها في القرآن أصلا، فغضب وذكر له ما معناه: أن الحديث يفسر القرآن. وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس قال: من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها. وأخرج البيهقي في البعث من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس: خطب عمر فقال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار. ومن طريق أبي هلال عن قتادة قال قال أنس: يخرج قوم من النار، ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء. يعني الخوارج. قال ابن بطال: أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. وغير ذلك من الآيات. وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ودل عليها قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} والجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع، ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيفه. وقال الطبري: قال أكثر أهل التأويل المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم أخرج عدة أحاديث بعضها التصريح بذلك وفي بعضها مطلق الشفاعة، فمنها حديث سلمان قال: "فيشفعه الله في أمته فهو المقام المحمود" ومن طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس "المقام المحمود الشفاعة" ومن طريق داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال: "سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هي الشفاعة" ومن حديث كعب بن مالك رفعه: "أكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول: فذلك المقام المحمود" ومن طريق يزيد بن زريع قتادة "ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أول شافع، وكان أهل العلم يقولون إنه المقام المحمود" ومن حديث أبي مسعود رفعه:" إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود إذا جيء بكم حفاة عراة" وفيه: "ثم يكسوني ربي حلة فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد يغبطني به الأولون والآخرون" ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: المقام المحمود الشفاعة. ومن طريق الحسن البصري مثله، قال الطبري: وقال ليث عن مجاهد في قوله تعالى: {مَقَاماً مَحْمُوداً} يجلسه معه على عرشه. ثم أسنده وقال: الأول أولى، على أن الثاني ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به. وبالغ الواحدي

(11/426)


في رد هذا القول، وأما النقاش فنقل عن أبي داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا فهو متهم. وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وعن عبد الله بن سلام قال: إن محمدا يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب أخرجه الطبري. قلت: فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك على ما جاء عن مجاهد وغيره، والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان: الأول العامة في فصل القضاء، والثاني الشفاعة في إخراج المذنبين من النار وحديث سلمان الذي ذكره الطبري أخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي، وحديث كعب أخرجه ابن حبان والحاكم وأصله في مسلم، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وجاء فيه أيضا عن أنس سيأتي في التوحيد، وعن ابن عمر كما مضى في الزكاة عن جابر عند الحاكم من رواية الزهري عن علي بن الحسين عنه، واختلف فيه على الزهري، فالمشهور عنه أنه مرسل علي بن الحسين، كذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر. وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي عن رجال من أهل العلم أخرجه ابن أبي حاتم، وحديث جابر في ذلك عند مسلم من وجه آخر عنه، وفيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ابن مردويه؛ وعنده أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص ولفظه: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة" وعن أبي سعيد عند الترمذي وابن ماجه. وقال الماوردي في تفسيره: اختلف في المقام المحمود على ثلاثة أقوال، فذكر القولين: الشفاعة والإجلاس، والثالث إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قال القرطبي: هذا لا يغاير القول الأول، وأثبت غيره رابعا وهو ما أخرجه بن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع. قلت: وخامسا هو ما اقتضاه حديث حذيفة وهو ثناؤه على ربه، وسيأتي سياقه في شرح الحديث السابع عشر، ولكنه لا يغاير الأول أيضا. وحكى القرطبي سادسا وهو ما اقتضاه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد والنسائي والحاكم قال: "يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه" الحديث، وهذا الحديث لم يصرح برفعه، وقد ضعفه البخاري وقال: المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع". قلت: وعلى تقدير ثبوته فليس في شيء من طرقه التصريح بأنه المقام لمحمود، مع أنه لا يغاير حديث الشفاعة في المذنبين، وجوز المحب الطبري سابعا وهو ما اقتضاه حديث كعب بن مالك الماضي ذكره فقال بعد أن أورده: هذا يشعر بأن المقام المحمود غير الشفاعة، ثم قال: ويجوز أن تكون الإشارة بقوله: "فأقول" إلى المراجعة في الشفاعة. قلت: وهذا هو الذي يتجه، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه وكلامه بين يديه وجلوسه على كرسيه وقيامه أقرب من جبريل كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق، وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، واختلف في فاعل الحمد من قوله: "مقاما محمودا" فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل النبي صلى الله عليه وسلم أي أنه هو يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأول أرجح لما ثبت من حديث ابن عمر الماضي في الزكاة بلفظ: "مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك أي مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب المد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان وأيده بأنه نكرة فدل على أنه ليس المراد مقاما

(11/427)


مخصوصا، قال ابن بطال: سلم بعض المعتزلة وقوع الشفاعة لكن خصها بصاحب الكبيرة الذي تاب منها ويصاحب الصغيرة الذي مات مصرا عليها، وتعقب بأن من قاعدتهم أن التائب من الذنب لا يعذب، وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، فيلزم قائله أن يخالف أصله. وأجيب بأنه لا مغايرة بين القولين، إذ لا مانع من أن حصول ذلك للفريقين إنما حصل بالشفاعة، لكن يحتاج من قصرها على ذلك إلى دليل التخصيص، وقد تقدم في أول الدعوات الإشارة إلى حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" ولم يخص بذلك من تاب. وقال عياض: أثبتت المعتزلة الشفاعة العامة في الإراحة من كرب الموقف وهي الخاصة بنبينا والشفاعة في رفع الدرجات وأنكرت ما عداهما. قلت: وفي تسليم المعتزلة الثانية نظر. قال النووي تبعا لعياض: الشفاعة خمس في الإراحة من هول الموقف وفي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا، وفي إخراج من أدخل النار من العصاة. وفي رفع الدرجات. ودليل الأولى سيأتي التنبيه عليه في شرح الحديث السابع عشر. ودليل الثانية قوله تعالى في جواب قوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي" : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم" كذا قيل، ويظهر لي أن دليله سؤاله صلى الله عليه وسلم الزيادة على السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فأجيب، وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في الباب الذي قبله. ودليل الثالثة قوله في حديث حذيفة عند مسلم: "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم" وله شواهد سأذكرها في شرح الحديث السابع عشر. ودليل الرابعة ذكرته فيه أيضا مبسوطا. ودليل الخامسة قوله في حديث أنس عند مسلم: "أنا أول شفيع في الجنة" كذا قاله بعض من لقيناه وقال: وجه الدلالة منه أنه جعل الجنة ظرفا لشفاعته. قلت: وفيه نظر، لأني سأبين أنها ظرف في شفاعته الأولى المختصة به، والذي يطلب هنا أن يشفع لمن لم يبلغ عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته. وأشار النووي في "الروضة" إلى أن هذه الشفاعة من خصائصه مع أنه لم يذكر مستندها، وأشار عياض إلى استدراك شفاعة سادسة وهي التخفيف عن أبي طالب في العذاب كما سيأتي بيانه في شرح الحديث الرابع عشر، وزاد بعضهم شفاعة سابعة وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد رفعه: "لا يثبت على ولأوائها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا" أخرجه مسلم، ولحديث أبي هريرة رفعه: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها" أخرجه الترمذي قلت: وهذه غير واردة لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأول، ولو عد مثل ذلك لعد حديث عبد الملك بن عباد "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أول من أشفع له أهل المدينة ثم أهل مكة ثم أهل الطائف" أخرجه البزار والطبراني. وأخرج الطبراني من حديث ابن عمر رفعه: "أول من أشفع له أهل بيتي ثم الأقرب فالأقرب ثم سائر العرب ثم الأعاجم" وذكر القزويني في العروة الوثقى شفاعته لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم ولم يذكر مستندها، ويظهر لي أنها تندرج في الخامسة، وزاد القرطبي أنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، وهذه أفردها النقاش بالذكر وهي واردة ودليلها يأتي في حديث الشفاعة الطويل، وزاد النقاش أيضا شفاعته في أهل الكبائر من أمته وليست واردة لأنها تدخل في الثالثة أو الرابعة، وظهر لي بالتتبع شفاعة أخرى وهي الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، ومستندها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم قريبا أن أرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وشفاعة أخرى وهي شفاعته

(11/428)


فيمن قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا قط، ومستندها رواية الحسن عن أنس كما سيأتي بيانه في شرح الباب الذي يليه، ولا يمنع من عدها قول الله تعالى له "ليس ذلك إليك" لأن النفي يتعلق بمباشرة الإخراج، وإلا فنفس الشفاعة منه قد صدرت وقبولها قد وقع وترتب عليها أثرها، فالوارد على الخمسة أربعة وما عداها لا يرد كما ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين وغير ذلك لكونه من جملة أحوال الدنيا. قوله: "كأنهم الثعارير" بمثلثة مفتوحة ثم مهملة واحدها ثعرور كعصفور. قوله: "قلت وما الثعارير" سقطت الواو لغير الكشميهني. قوله: "قال الضغابيس" بمعجمتين ثم موحدة بعدها مهملة. أما الثعارير فقال ابن الأعرابي: هي قثاء صغار. وقال أبو عبيدة مثله وزاد ويقال بالشين المعجمة بدل المثلثة، وكأن هذا هو السبب في قول الراوي: وكان عمرو ذهب فمه -أي سقطت أسنانه- فنطق بها ثاء مثلثة وهي شين معجمة. وقيل هو نبت في أصول الثمام كالقطن ينبت في الرمل ينبسط عليه ولا يطول. ووقع تشبيههم بالطراثيث في حديث حذيفة، وهي بالمهملة ثم المثلثة هي الثمام بضم المثلثة وتخفيف الميم، وقيل الثعرور الأقط الرطب. وأغرب القابسي فقال: هو الصدف الذي يخرج من البحر فيه الجوهر. وكأنه أخذه من قوله في الرواية الأخرى "كأنهم اللؤلؤ" ولا حجة فيه لأن ألفاظ التشبيه تختلف، والمقصود الوصف بالبياض والدقة. وأما الضغابيس فقال الأصمعي: شيء ينبت في أصول التمام يشبه الهليون يسلق ثم يؤكل بالزيت والخل. وقيل ينبت في أصول الشجر وفي الأذحر يخرج قدر شبر في دقة الأصابع لا ورق له وفيه حموضة. وفي غريب الحديث للحربي: الضغبوس شجرة على طول الإصبع، وشبه به الرجل الضعيف. وأغرب الداودي فقال: هي طيور صغار فوق الذباب. ولا مستند له فيما قال: "تنبيه": هذا التشبيه لصفتهم بعد أن ينبتوا، وأما في أول خروجهم من النار فإنهم يكونون كالفحم كما سيأتي في الحديث الذي بعده. ووقع في حديث يزيد الفقير عن جابر عند مسلم: "فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، فيدخلون نهرا فيغتسلون فيخرجون كأنهم القراطيس البيض" والمراد بعيدان السماسم ما ينبت فيه السمسم، فإنه إذا جمع ورميت العيدان تصير سودا دقاقا. وزعم بعضهم أن اللفظة محرفة وأن الصواب الساسم بميم واحدة، وهو خشب أسود والثابت في جميع طرق الحديث بإثبات الميمين وتوجيه واضح. قوله: "فقلت لعمرو" القائل حماد. قوله: "أبا محمد" بحذف أداة النداء وثبت بلفظ: "يا أبا محمد" في رواية الكشميهني وعمرو هو ابن دينار، وأراد الاستثبات في سماعه له من جابر وسماع جابر له، ولعل سبب ذلك رواية عمرو له عن عبيد بن عمير مرسلا، وقد حدث سفيان بن عيينة بالطريقين كما نبهت عليه. قوله: "عن أنس" سيأتي في التوحيد نحو هذا في الحديث الطويل في الشفاعة بلفظ: "حدثنا أنس" وقوله: "سفع" بفتح المهملة وسكون الفاء ثم عين مهملة أي سواد فيه زرقة أو صفرة، يقال سفعته النار إذا لفحته فغيرت لون بشرته وقد وقع حديث أبي سعيد في الباب الذي يليه بلفظ: "قد امتحشوا" ويأتي ضبطه، وفي حديثه عند مسلم: "إنهم يصيرون فحما" وفي حديث جابر "حمما" ومعانيها متقاربة. قوله: "فيسميهم أهل الجنة الجهنميين" سيأتي في الثامن عشر من هذا الباب من حديث عمران بن حصين بلفظ: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين"، وثبتت هذه الزيادة في رواية حميد عن أنس عند المصنف في التوحيد، وزاد جابر في حديثه "فيكتب في رقابهم: عتقاء الله، فيسمون فيها الجهنميين" أخرجه ابن حبان والبيهقي وأصله في مسلم. والنسائي من رواية عمرو بن عمرو عن أنس "فيقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون، فيقول الله هؤلاء

(11/429)


عتقاء الله" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد وزاد: "فيدعون الله فيذهب عنهم هذا الاسم" وفي حديث حذيفة عند البيهقي في "البعث" من رواية حماد بن أبي سليمان عن ربعي عنه "قال لهم الجهنميون، فذكر لي أنهم استعفوا الله من ذلك الاسم فأعفاهم. وزعم بعض الشراح أن هذه التسمية ليست تنقيصا لهم بل للاستذكار لنعمة الله ليزدادوا بذلك شكرا، كذا قال، وسؤالهم إذهاب ذلك الاسم عنهم يخدش في ذلك. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل، ووهيب هو ابن خالد، وعمرو هو ابن يحيى المازني، وأبوه يحيى هو ابن عمارة بن أبي حسن المازني. قوله: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه" هكذا روى يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري آخر الحديث ولم يذكر أوله، ورواه عطاء ابن يسار عن أبي سعيد مطولا وأوله الرؤية وكشف الساق والعرض ونصب الصراط والمرور عليه وسقوط من يسقط وشفاعة المؤمنين في إخوانهم وقول الله أخرجوا من عرفتم صورته، وفيه من في قلبه مثقال دينار وغير ذلك، وفيه قول الله تعالى شفعت الملائكة والنبيون والمؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد صاروا حمما، وقد ساق المصنف أكثر في تفسير سورة النساء، وساقه بتمامه في كتاب التوحيد، وسأذكر فوائده في شرح حدث الباب الذي يلي هذا مع الإشارة إلى ما تضمنته هذه الطريق إن شاء الله تعالى. وتقدمت لهذه الرواية طريق أخرى في كتاب الإيمان في "باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال" وتقدم ما يتعلق بذلك هناك. واستدل الغزالي بقوله: "من كان في قلبه" على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت. وقال في حق من قدر على ذلك فأخر فمات: يحتمل أن كون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة فيكون غير مخلد في النار، ويحتمل غير ذلك. ورجح غيره الثاني فيحتاج إلى تأويل قوله: "في قلبه" فيقدر فيه محذوف تقديره منضما إلى النطق به مع القدرة عليه. حديث النعمان بن بشير أورده من وجهين أحدهما أعلى من الآخر، لكن في العالي عنعنة أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وفي النازل تصريحه بالسماع فانجبر ما فاته من العلو الحسي بالعلو المعنوي، وإسرائيل في الطريق هو ابن يونس بن أبي إسحاق المذكور، والنعمان هو ابن بشير بن سعد الأنصاري، ووقع مصرحا به في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار جميعا عن غندر، ووقع في رواية يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق "سمعت النعمان بن بشير الأنصاري يقول" فذكر الحديث. قوله: "أهون أهل النار عذابا" قال ابن التين يحتمل أن يراد به أبو طالب. قلت: وقد بينت في قصة أبي طالب من المبعث النبوي أنه وقع في حديث ابن عباس عند مسلم التصريح بذلك ولفظه: "أهون أهل النار عذابا أبو طالب". قوله: "أخمص" بخاء معجمة وصاد مهملة وزن أحمر: ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي. قوله: "جمرة" في رواية مسلم: "جمرتان" وكذا في رواية إسرائيل "على أخمص قدمه جمرتان" قال ابن التين: يحتمل أن يكون الاقتصار على الجمرة للدلالة على الأخرى لعلم السامع بأن لكل أحد قدمين، ووقع في رواية الأعمش عن أبي إسحاق عند مسلم بلفظ: "من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه" وفي حديث أبي سعيد عنده نحوه وقال: "يغلي دماغه من حرارة نعله". قوله: "منها دماغه" في رواية إسرائيل "منهما" بالتثنية، وكذا في حديث ابن عباس. قوله: "كما يغلي المرجل بالقمقم" زاد في رواية الأعمش "لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه وأنه لأهونهم عذابا" والمرجل بكسر الميم ويسكون الراء وفتح

(11/430)


الجيم بعدها لام قدر من نحاس، ويقال أيضا لكل إناء يغلي فيه الماء من أي صنف كان، والقمقم معروف من آنية العطار، ويقال هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره فارسي ويقال رومي وهو معرب وقد يؤنث فيقال قمقمة، قال ابن التين: في هذا التركيب نظر. وقال عياض: الصواب "كما يغلي المرجل والقمقم" بواو العطف لا بالباء، وجوز غيره أن تكون الباء بمعنى مع، ووقع في رواية الإسماعيلي: "كما يغلي المرجل أو القمقم" بالشك، تقدم شيء من هذا في قصة أبي طالب. حديث عدي بن حاتم، تقدم شرحه قريبا في آخر "باب من نوقش الحساب". حديث أبي سعيد في ذكر أبي طالب، تقدم في قصة أبي طالب من طريق الليث حدثني ابن الهاد وعطف عليه السند المذكور هنا واختصر المتن، ويزيد المذكور هنا هو ابن الهاد المذكور هناك، واسم كل من ابن أبي حازم والدراوردي عبد العزيز، وهما مدنيان مشهوران وكذا سائر رواة هذا السند. قوله: "لعله تنفعه شفاعتي" ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي، واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم تنفعه شفاعتي بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث المنفعة بالتخفيف، وبهذا الجواب جزم القرطبي. وقال البيهقي في البعث: صحة الرواية في شأن أبي طالب فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية، ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد، وهو عام في حق كل كافر، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه، قال: وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبا لقلب الشافع لا ثوابا للكافر لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء. وأخرج مسلم عن أنس "وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا حتى إذا أقصى إلى الآخرة لم تكن له حسنة" وقال القرطبي في "المفهم": اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قولي أو بلسان حالي؟ والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص؛ والثاني يكون معناه أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه. قال: ويجاب عنه أيضا أن المخفف عنه لما لم يجد أثر التخفيف فكأنه لم ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم أنه يعتقد أن ليس في النار أشد عذابا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف. قلت: وقد يساعد ما سبق ما تقدم في النكاح من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة "أرضعتني وإياها ثويبة" قال عروة "إن أبا لهب رؤى في المنام فقال: لم أر بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة" وقد تقدم الكلام عليه هناك، وجوز القرطبي في "التذكرة" أن الكافر إذا عرض على الميزان ورجحت كفة سيئاته بالكفر اضمحلت حسناته فدخل النار، لكنهم يتفاوتون في ذلك: فمن كانت له منهم حسنات من عتق ومواساة مسلم ليس كمن ليس له شيء من ذلك، فيحتمل أن يجازي بتخفيف العذاب عنه بمقدار ما عمل، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} قلت: لكن هذا البحث النظري معارض بقوله تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وحديث أنس الذي أشرت إليه، وأما ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث ابن مسعود رفعه: "ما أحسن محسن من

(11/431)


مسلم ولا كافر إلا أثابه الله قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة أشباه ذلك. قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب. ثم قرأ: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب". فالجواب عنه أن سنده ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أن يكون التخفيف فيما يتعلق بعذاب معاصيه، بخلاف عذاب الكفر. حديث أنس الطويل في الشفاعة، أورده هنا من طريق أبي عوانة، ومضى في تفسير البقرة من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد بن أبي عروبة، ويأتي في التوحيد من طريق همام أربعتهم عن قتادة وأخرجه أيضا أحمد من رواية شيبان عن قتادة ويأتي في التوحيد من طريق معبد بن هلال عن أنس وفيه زيادة للحسن عن أنس، ومن طريق حميد عن أنس باختصار، وأخرجه أحمد من طريق النضر بن أنس عن أنس، وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن خزيمة من طريق معتمر عن حميد عن أنس، وعند الحاكم من حدث ابن مسعود والطبراني من حديث عبادة بن الصامت، ولابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسي وجاء من حديث أبي هريرة كما مضى في التفسير من رواية أبي زرعة عنه، وأخرجه الترمذي من رواية العلاء بن يعقوب عنه، من حدث أبي سعيد كما سيأتي في التوحيد، وله طرق عن أبي سعيد مختصرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة معا، وأبو عوانة من رواية حذيفة عن أبي بكر الصديق، ومضى في الزكاة في تفسير سبحان من حديث ابن عمر باختصار، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وسأذكر ما عند كل منهم من فائدة مستوعبا إن شاء الله تعالى. قوله: "يجمع الله الناس يوم القيامة" في رواية المستملى "جمع" بصيغة الفعل الماضي والأول المعتمد ووقع في رواية معبد بن هلال "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض" وأول حديث أبي هريرة "أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" وزاد في رواية إسحاق بن راهويه عن جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعه فيه: "وتدنو الشمس من رءوسهم فيشتد عليهم حرها ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيه" وهذه الطريق عند مسلم عن أبي خيثمة عن جرير، لكن لم يسق لفظها، وأول حديث أبي بكر "عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم" وفي رواية معتمر "يلبثون ما شاء الله من الحبس" وقد تقدم في "باب ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" ما أخرجه مسلم من حديث المقداد أن الشمس تدنو حتى تصير من الناس قدر ميل وسائر ما ورد في ذلك وبيان تفاوتهم في العرق بقدر أعمالهم، وفي حديث سلمان "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع الرجل حتى يقول عق عق" وفي رواية النضر بن أنس "لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت" وفي حديث عبادة بن الصامت رفعه: "إني لسيد الناس يوم القيامة بغير فخر، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد" ووقع في رواية هشام وسعيد وهمام "يجتمع المؤمنون فيقولون" وتبين من رواية النضر بن أنس أن التعبير بالناس، أرجح لكن الذي يطلب الشفاعة هم المؤمنون. قوله: "فيقولون لو استشفعنا" في رواية مسلم: "فيلهمون ذلك" وفي لفظ: "فيهتمون بذلك". وفي رواية همام "حتى يهتموا بذلك". قوله: "على ربنا" في رواية هشام وسعيد "إلى ربنا" وتوجه بأنه ضمن معنى استشفعنا سعي لأن

(11/432)


الاستشفاع طلب الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه. وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حي تنزلف لهم الجنة فيأتون آدم" و "حتى" غاية لقيامهم المذكور. ويؤخذ منه أن طلبهم الشفاعة يقع حين تزلف لهم الجنة. ووقع في أول حديث أبي نضرة عن أبي سعيد في مسلم رفعه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" الحديث وفيه: "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم" الحديث قال القرطبي "كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زفرت فزع الناس حينئذ وجثوا على ركبهم". قوله: "حتى يريحنا" في رواية مسلم: "فيريحنا" وفي حديث ابن مسعود عند ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وفي رواية ثابت عن أنس "يطول يوم القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا" وفي حديث سلمان "فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض: ائتوا أباكم آدم". قوله: "حتى يريحنا من مكاننا هذا" في رواية ثابت "فليقض بيننا" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة فيقولون "يا أبانا استفتح لنا الجنة". قوله: "فيأتون آدم" في رواية شيبان "فينطلقون حتى يأتوا آدم فيقولون أنت الذي" في رواية مسلم: "يا آدم أنت أبو البشر" وفي رواية همام وشيبان "أنت أبو البشر" وفي حديث أبي هريرة نحو رواية مسلم. وفي حديث حذيفة "فيقولون يا أبانا". قوله: "خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه" زاد في رواية همام "وأسكنك جنته وعلمك أسماء كل شيء" وفي حديث أبي هريرة "وأمر الملائكة فسجدوا لك" وفي حديث أبي بكر "أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله". قوله: "فاشفع لنا عند ربنا" في رواية مسلم: "عند ربك" وكذا لشيبان في حديث أبي بكر وأبي هريرة اشفع لنا إلى ربك، وزاد أبو هريرة "ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا". قوله: "لست هناكم" قال عياض: قوله لست هناكم كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة قاله تواضعا وإكبارا لما يسألونه، قال: وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري. قلت: وقد وقع في رواية معبد بن هلال "فيقول لست لها" وكذا في بقية المواضع. وفي رواية حذيفة "لست بصاحب ذاك" وهو يؤيد الإشارة المذكورة. قوله: "ويذكر خطيئته" زاد مسلم التي أصاب، والراجع إلى الموصول محذوف تقديره أصابها، زاد همام في روايته: "أكله من الشجرة. وقد نهي عنها" وهو بنصب أكله بدل من قوله خطيئته وفي رواية هشام "فيذكر ذنبه فيستحي" وفي رواية ابن عباس "إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا "هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور "إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري". قوله: "ائتوا نوحا فيأتونه" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحا" وفي رواية هشام "فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" وفي حديث أبي بكر "انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدا شاكرا" وفي حديث أبي هريرة "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا" وفي حديث أبي بكر "فينطلقون إلى نوح فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك ولم يدع على الأرض من الكافرين ديارا" ويجمع بينهما بأن آدم

(11/433)


سبق إلى وصفه بأنه أول رسول فخاطبه أهل الموقف بذلك، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث جابر "أعطيت خمسا" في كتاب التيمم وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة" الحديث: ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقوله: "أهل الأرض" لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، ويشكل عليه حديث جابر، ويجاب بأن بعثته إلى أهل الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه بخلاف عموم بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه ولغير قومه، أو الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم، وتعقبه عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبي ذر فإنه كالصريح في أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال، وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل وهو إلياس، وقد ذكر ذلك في أحاديث الأنبياء. ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد. قوله: "فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها" في رواية هشام "ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم" وفي رواية شيبان "سؤال الله" وفي رواية معبد بن هلال مثل جواب آدم لكن قال: "وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" وفي حديث ابن عباس "فيقول ليس ذاكم عندي" وفي حديث أبي هريرة "إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض" ويجمع بينه وبين الأول بأنه اعتذر بأمرين: أحدهما نهي الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك، ثانيهما أن له دعوة واحدة محققة الإجابة وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض فخشي أن يطلب فلا يجاب. وقال بعض الشراح: كان الله وعد نوحا أن ينجيه وأهله، فلما غرق ابنه ذكر لربه ما وعده فقيل له: المراد من أهلك من آمن وعمل صالحا فخرج ابنك منهم، فلا تسأل ما ليس لك به علم. "تنبيهان": "الأول" سقط من حديث أبي حذيفة المقرون بأبي هريرة ذكر نوح، فقال في قصة آدم: اذهبوا إلى ابني إبراهيم. وكذا سقط من حديث ابن عمر، والعمدة على من حفظ. "الثاني" ذكر أبو حامد الغزالي في كشف علوم الآخرة أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها.قوله: "ائتوا إبراهيم" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا" وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بإبراهيم فهو خليل الله". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون إبراهيم" زاد أبو هريرة في حديثه فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك" وذكر مثل ما لآدم قولا وجوابا إلا أنه قال: "قد كنت كذبت ثلاث كذبات" وذكرهن. قوله: "فيقول لست هناكم، ويذكر خطيئته" زاد مسلم: "التي أصاب فيستحيي ربه منها" وفي حديث أبي بكر "ليس ذاكم عندي" وفي رواية همام "إني كنت كذبت ثلاث كذبات" زاد شيبان في روايته: "قوله إني سقيم" وقوله فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته أخبريه أني أخوك" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "فيقول إني كذبت ثلاث كذبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله" وما حل بمهملة بمعنى جادل وزنه ومعناه. ووقع في رواية حذيفة المقرونة "لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء" وضبط بفتح الهمزة وبضمها، واختلف الترجيح فيهما.

(11/434)


قال النووي: أشهرهما الفتح بلا تنوين ويجوز بناؤها على الضم، وصوبه أبو البقاء والكندي، وصوب ابن دحية الفتح على أن الكلمة مركبة مثل شذر مذر، وإن ورد منصوبا منونا جاز، ومعناه لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب. قال صاحب التحرير: كلمة تقال على سبيل التواضع، أي لست في تلك الدرجة. قال: وقد وقع لي فيه معنى مليح وهو أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، قال البيضاوي: الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفا. قوله: "ائتوا موسى الذي كلمه الله" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا موسى" وزاد: "وأعطاه التوراة" وكذا في رواية هشام وغيره. وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بموسى فهو كليم الله" وفي رواية الإسماعيلي: "عبدا أعطاه الله التوراة وكلمه تكليما" زاد همام في روايته: "وقربه نجيا" وفي رواية حذيفة المقرونة "اعمدوا إلى موسى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون موسى فيقول" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وكلامه على الناس، اشفع لنا" فذكر مثل آدم قولا وجوابا لكنه قال: "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها". قوله: "فيقول لست هناكم" زاد مسلم: "فيذكر خطيئته التي أصاب قتل النفس" وللإسماعيلي: "فيستحيي ربه منها" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور إني قتلت نفسا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها" وذكر مثل ما في آدم. قوله: "ائتوا عيسى" زاد مسلم: "روح الله وكلمته" وفي رواية هشام "عبد الله ورسوله وكلمته وروحه" وفي حديث أبي بكر "فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ مثل آدم قولا وجوابا لكن قال: ولم يذكر ذنبا" لكن وقع في رواية الترمذي من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد "إني عبدت من دون الله" وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس "إني اتخذت إلها من دون الله" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه وزاد: "وإن يغفر لي اليوم حسبي". قوله: "ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" في رواية مسلم: "عبد غفر له إلخ" زاد ثابت "من ذنبه" وفي رواية هشام "غفر الله له" وفي رواية معتمر "انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفورا له ليس عليه ذنب" وفي رواية ثابت أيضا: "خاتم النبيين قد حضر اليوم، أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم" وعند سعيد بن منصور من هذا الوجه "فيرجعون إلى آدم فيقول أرأيتم إلخ" وفي حديث أبي بكر "ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض" قال عياض: اختلفوا في تأويل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل: المتقدم ما قبل النبوة والمتأخر العصمة. وقيل: ما وقع عن سهو أو تأويل. وقيل: المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته، وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع، وقيل غير ذلك. قلت: واللائق بهذا المقام القول الرابع، وأما الثالث فلا يتأتى هنا، ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا ومن قول موسى

(11/435)


فيما تقدم "إني قتلت نفسا بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي" مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد. قوله: "فيأتوني" في رواية النضر بن أنس عن أبيه "حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه" فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار كما سيأتي بيانه قريبا، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعا يسألونه في ذلك. وقد أخرج الترمذي وغيره من حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف وفيه: "وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام" ووقع في رواية معبد بن هلال "فيأتوني فأقول: أنا لها أنا لها" زاد عقبة بن عامر عند ابن المبارك في الزهد "فيأذن الله لي فأقوم، فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد" وفي حديث سلمان بن أبي بكر بن أبي شيبة: "يأتون محمدا فيقولون: يا نبي الله أنت الذي فتح الله بك وختم، وغفر لك ما تقدم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم آمنا وترى ما نحن فيه، فقم فاشفع لنا إلى ربنا. فيقول: أنا صاحبكم، فيجوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة" وفي رواية معتمر "فيقول: أنا صاحبها". قوله: "فأستأذن" في رواية هشام "فأنطلق حتى أستأذن". قوله: "على ربي" زاد همام "في داره فيؤذن لي" قال عياض: أي في الشفاعة. وتعقب بأن ظاهر ما تقدم أن استئذانه الأول والإذن له إنما هو في دخول الدار وهي الجنة، وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، ومنه "والله يدعو إلى دار السلام" على القول بأن المراد بالسلام هنا الاسم العظيم وهو من أسماء الله تعالى، قيل الحكمة في انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام أن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مكان مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام، ومن ثم يستحب أن يتحرى للدعاء المكان الشريف لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة. قلت: وتقدم في بعض طرقه أن من جملة سؤال أهل الموقف استفتاح باب الجنة. وقد ثبت في صحيح مسلم أنه أول من يستفتح باب الجنة. وفي رواية علي بن زيد عن أنس عند الترمذي "فآخذ حلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي ويرحبون، فأخر ساجدا" وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك" وله من رواية المختار بن فلفل عن أنس رفعه: "أنا أول من يقرع باب الجنة" وفي رواية قتادة عن أنس "آتي باب الجنة فأستفتح فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبا بمحمد" وفي حديث سلمان "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح له حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له" وفي حديث أبي بكر الصديق "فيأتي جبريل ربه فيقول ائذن له". قوله: "فإذا رأيته وقعت له ساجدا" في رواية أبي بكر "فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي" وفي رواية لابن حبان من طريق ثوبان عن أنس "فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله" وفي حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى

(11/436)


رفعه: "يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني". قوله: "فيدعني ما شاء الله" زاد مسلم: "أن يدعني" وكذا في رواية هشام، وفي حديث عبادة بن الصامت "فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شاكرا له" وفي رواية معبد بن هلال "فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا" وفي حديث أبي بكر الصديق "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدا قدر جمعة". قوله: "ثم يقال لي ارفع رأسك" في رواية مسلم: "فيقال يا محمد" وكذا في أكثر الروايات. وفي رواية النضر ابن أنس "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له ارفع رأسك" فعلى هذا فالمعنى يقول لي على لسان جبريل. قوله: "وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع" في رواية مسلم بغير واو، وسقط من أكثر الروايات "وقل يسمع" ووقع في حديث أبي بكر "فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه خر ساجدا قدر جمعة" وفي حديث سلمان "فينادى يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وادع تجب". قوله: "فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني" وفي رواية هشام "يعلمنيه" وفي رواية ثابت "بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي" وفي حديث سلمان "فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتح لأحد من الخلائق" وكأنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد قبل سجوده وبعده، وفيه: "ويكون في كل مكان ما يليق به" وقد ورد ما لعله يفسر به بعض ذلك لا جميعه، ففي النسائي ومصنف عبد الرزاق ومعجم الطبراني من حديث حذيفة رفعه قال: "يجمع الناس في صعيد واحد فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك تباركت وتعاليت سبحانك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" زاد عبد الرزاق "سبحانك رب البيت" فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال ابن منده في كتاب الإيمان: هذا حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رواته. قوله: "ثم أشفع" في رواية معبد بن هلال "فأقول رب أمتي أمتي أمتي" وفي حديث أبي هريرة نحوه. قوله: "فيحد لي حدا" يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة ثم فيمن أخل بالصلاة ثم فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى وعلى هذا الأسلوب، كذا حكاه الطيبي، والذي يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفضيل مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في هذا الحديث بعينه وسأنبه عليه في آخره، وكما تقدم في رواية هشام عن قتادة عن أنس في كتاب الإيمان بلفظ: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة" وفي رواية ثابت عند أحمد "فأقول: "أي رب أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة" ثم ذكر نحو ما تقدم وقال: "مثقال ذرة" ثم قال: "مثقال حبة من خردل" ولم يذكر بقية الحديث. ووقع في طريق النضر بن أنس قال: "فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا، فما زلت أتردد على ربي لا أقوم منه مقاما إلا شفعت" وفي حديث سلمان "فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة ثم شعيرة ثم حبة من خردل فذلك المقام المحمود" وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في شرح الحديث الثالث عشر، ويأتي مبسوطا في شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ثم أخرجهم من النار" قال الداودي: كأن راوي هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم

(11/437)


يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي، وقد أجاب عنه عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله: "فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له" أي في الشفاعة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق" الحديث. قال عياض: فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج، وقد وقع في حديث أبي هريرة -يعني الآتي في الباب الذي يليه بعد ذكر الجمع في الموقف- الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. قلت: فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه: "حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوش في النار" فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحا في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولا. وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون" وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد "فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: "يا رب عجل حسابهم" وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى "فأقول أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته" الحديث وسيأتي بيان ما يقع في الموقف قبل نصب الصراط في شرح حديث الباب الذي يليه. وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رءوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها. قلت: وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه: "فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه" بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا، وقد أشرت إلى الاحتمال المذكور في شرح حديث العرق في "باب قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" والعلم عند الله تعالى. وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول "يا رب أمتي أمتي "فيقال أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب" قال: في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب

(11/438)


ليحاسب، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى "فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله: وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة" قلت: وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي: ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة، وسيأتي تفصيل ذلك واضحا في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصري نزيل مصر ثم إفريقية - وهو في طبقة يزيد بن هارون، وقد ضعفه الدار قطني. وقال أبو حاتم الرازي صدوق. وقال أبو زرعة ربما وهم. وقال ابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه - فنقل فيه عن الكلبي قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت زمرة من آخر زمر الجنة إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم وقد بلغت النار منهم كل مبلغ: أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم؟ قال فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة فيأتون آدم، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبل واحدا واحدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فينطلق فيأتي رب العزة فيسجد له حتى يأمره أن يرفع رأسه ثم يسأله ما تريد؟ وهو أعلم به، فيقول: رب أناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك، فيقول وعزتي لأخرجنهم فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا ثم يدخلون الجنة فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون، فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قلت: فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدا بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم. وقد تمسك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال المذكور في دعواه أن أحدا من الموحدين لا يدخل النار أصلا، وإنما المراد بما جاء من أن النار تسفعهم أو تلفحهم، وما جاء في الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطل، وأقوى ما يرد به عليه ما تقدم في الزكاة من حديث أبي هريرة في قصة مانع الزكاة واللفظ لمسلم: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" الحديث بطوله وفيه ذكر الذهب والفضة والبقر والغنم، وهو دال على تعذيب من شاء الله من العصاة بالنار حقيقة زيادة على كرب الموقف. وورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار ما تقدم أن الكفار يقولون لهم: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا، فيغضب الله لهم فيخرجهم. وهو مما يرد به على المبتدعة المذكورين. وسأذكره في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة" في رواية هشام "فأحد لهم حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع ثانيا فأستأذن" إلى أن قال: "ثم أحد لهم حدا ثالثا فأدخلهم الجنة ثم أرجع" هكذا في أكثر الروايات. ووقع عند أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" ولم

(11/439)


يشك بل جزم بأن هذا القول يقع في الرابعة. ووقع في رواية معبد بن هلال عن أنس أن الحسن حدث معبدا بعد ذلك بقوله: "فأقوم الرابعة" وفيه قول الله له "ليس ذلك لك" وأن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط. فعلى هذا فقوله: "حبسه القرآن" يتناول الكفار وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة وتبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم. قوله: "حتى ما يبقى" في رواية الكشميهني: "ما بقي" وفي رواية هشام بعد الثالثة "حتى أرجع فأقول". قوله: "إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود" في رواية همام "إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود" كذا أبهم قائل "أي وجب" وتبين من رواية أبي عوانة أنه قتادة أحد رواته. ووقع في رواية هشام وسعيد "فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" وسقط من رواية سعيد عند مسلم: "ووجب عليه الخلود" وعنده من رواية هشام مثل ما ذكرت من رواية همام، فتعين أن قوله: "ووجب عليه الخلود" في رواية هشام مدرج في المرفوع لما تبين من رواية أبي عوانة أنها من قول قتادة فسر به قوله: "من حبسه القرآن" أي من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار. ووقع في رواية همام بعد قوله أي وجب عليه الخلود "وهو المقام المحمود الذي وعده الله" وفي رواية شيبان" إلا من حبسه القرآن، يقول: وجب عليه الخلود. وقال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله إلا من حبسه القرآن "قال فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة" الحدث وهو الذي فصله هشام من الحديث وسبق سياقه في كتاب الإيمان مفردا، ووقع في رواية معبد بن هلال بعد روايته عن أنس من روايته عن الحسن البصري عن أنس قال: "ثم أقوم الرابعة فأقول أي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي ليس ذلك لك" فذكر بقية الحديث في إخراجهم، وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العصاة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها في أعم من ذلك فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأييد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين كما سيأتي بيانه في شرح حديث الباب الذي يليه، فيكون التأييد مؤقتا. وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول، واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهو أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة وإن قالوا بعصمتهم مطلقا لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقا ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء

(11/440)


الواحد والنهي عنه في حالة واحدة وهو باطل. ثم قال عياض: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا كما تقدم بسط ذلك والله أعلم. وفيه جواز إطلاق الغضب على الله والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي. وقال غيره المراد بالغضب لازمه وهو إرادة إيصال السوء للبعض، وقول آدم ومن بعده "نفسي نفسي نفسي" أي نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفا. وفيه تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم، وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم، قال القرطبي: ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول نفسي نفسي وبين من يقول أمتي أمتي لكان كافيا، وفيه تفضيل الأنبياء المذكورين فيه على من لم يذكر فيه لتأهلهم لذلك المقام العظيم دون من سواهم، وقد قيل إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح. ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع عمل بها من بين من ذكر أولا ومن بعده. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من طلب من كبير أمرا مهما أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه ليكون ذلك أدعى لإجابته لسؤاله، وفيه أن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل يعتذر بما يقبل منه ويدل على من يظن أنه يكمل في القيام بذلك فالدال على الخير كفاعله، وأنه يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع، وفيه استعمال ظرف المكان في الزمان لقوله لست هناكم لأن هنا ظرف مكان فاستعملت في ظرف الزمان لأن المعنى لست في ذلك المقام، كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه لكنه المعنوي لا الحسي، مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا. وفيه العمل بالعام قبل البحث عن المخصص أخذا من قصة نوح في طلبه نجاة ابنه، وقد يتمسك به من يرى بعكسه. وفيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام كما تقدم في صدر الحديث. وفيه أنهم يستشير بعضهم بعضا ويجمعون على الشيء المطلوب وأنهم يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا لأن في السائلين من سمع هذا الحديث ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة ولما احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان والحسن بن ذكوان هو أبو سلمة البصري تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما لكنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث من رواية يحيى القطان عنه مع تعنته في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة، وفي طبقته الحسين بن ذكوان وهو بضم الحاء وفتح السين وآخره نون بصري أيضا يعرف بالمعلم وبالمكتب وهو أوثق من أبي سلمة، وتقدم شرح حديث الباب في الحادي عشر. الحديث

(11/441)


التاسع عشر حديث أنس في قصة أم حارثة، تقدم في الخامس من وجه آخر عن حميد عنه. فيه: "ولقاب قوس أحدكم" تقدم شرحه وفيه: "ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض". قوله: "لأضاءت ما بينهما" وقع في حديث سعيد بن عامر الجمحي عند البراز بلفظ: "تشرف على الأرض لذهب ضوء الشمس والقمر". قوله: "ولملأت ما بينهما ريحا" أي طيبة، وفي حديث سعيد بن عامر المذكور "لملأت الأرض ريح مسك" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وصححه ابن حبان: "وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب". قوله: "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ثم فاء، فسر في الحديث بالخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، وهذا التفسير من قتيبة فقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر بدونه. وقال الأزهري: النصيف الخمار، ويقال أيضا للخادم. قلت: والمراد هنا الأول جزما. وقد وقع في رواية الطبراني "ولتاجها على رأسها" وحكى أبو عبيد الهروي أن النصيف المعجر بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم وهو ما تلويه المرأة على رأسها. وقال الأزهري: هو كالعصابة تلفها المرأة على استدارة رأسها، واعتجر الرجل بعمامته لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه وشيئا منها تحت ذقنه، وقيل المعجر ثوب تلبسه المرأة أصغر من الرداء، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا "ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة من الشمس لا ضوء لها، ولو أطلعت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض، ولو أخرجت كفها لافتتن الخلائق بحسنها". حديث أبي هريرة من طريق الأعرج عنه. قوله: "لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار" وقع عند ابن ماجه بسند صحيح من طريق آخر عن أبي هريرة أن ذلك يقع عند المسألة في القبر وفيه: "فيفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله" وفي حديث أنس الماضي في أواخر الجنائز "فيقال انظر إلى مقعدك من النار" زاد أبو داود في روايته: "هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عصمك ورحمك" وفي حديث أبي سعيد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك". قوله: "لو أساء ليزداد شكرا" أي لو كان عمل عملا سيئا وهو الكفر فصار من أهل النار، وقوله: "ليزداد شكرا" أي فرحا ورضا، فعبر عنه بلازمه، لأن الراضي بالشيء يشكر من فعل له ذلك. قوله: "ولا يدخل النار أحد" قدم في رواية الكشميهني الفاعل على المفعول، وقوله: "إلا أري" بضم الهمزة وكسر الراء. قوله: "لو أحسن" أي لو عمل عملا حسنا وهو الإسلام. قوله: "ليكون عليه حسرة" أي للزيادة في تعذيبه، ووقع عند ابن ماجه أيضا وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} وقال جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي} صدقنا وعده وأورثنا الأرض" الآية: المراد أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة، وهو موافق لهذا الحديث، وقيل المراد أرض الدنيا لأنها صارت خبزة فأكلوها كما تقدم. وقال القرطبي: يحتمل أن يسمى الحصول في الجنة وراثة من حيث اختصاصهم بذلك دون غيرهم، فهو إرث بطريق الاستعارة والله أعلم. قوله: "عن عمرو" هو ابن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، وقد وقع لنا هذا الحديث في نسخة إسماعيل بن جعفر حدثنا عمرو بن أبي عمرو، وأخرجه أبو نعيم من طريق علي ابن حجر عن إسماعيل، وكذا تقدم في العلم من رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، وقد تقدم أن اسم أبي عمرو والد عمرو

(11/442)


ميسرة. قوله: "من أسعد الناس بشفاعتك" لعل أبا هريرة سأل عن ذلك عند تحديثه صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وقد تقدم سياقه وبيان ألفاظه في أول كتاب الدعوات، ومن طرقه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وتقدم شرح حديث الباب في "باب الحرص على الحديث" من كتاب العلم. وقوله: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه" بكسر القاف وفتح الموحدة أي قال ذلك باختياره، ووقع في رواية أحمد وصححه ابن حبان من طريق أخرى عن أبي هريرة نحو هذا الحديث وفيه: "لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه" والمراد بهذه الشفاعة المسئول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي، فيقال له: أخرج من النار من في قلبه وزن كذا من الإيمان" فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه، وأما الشفاعة العظمي في الإراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط. والحاصل أن في قوله: "أسعد" إشارة إلى اختلاف مراتبهم في السبق إلى الدخول باختلاف مراتبهم في الإخلاص، ولذلك أكده بقوله: "من قلبه" مع أن الإخلاص محله القلب، لكن إسناد الفعل إلى الجارحة أبلغ في التأكيد، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "أسعد" وأنها على بابها من التفضيل، ولا حاجة إلى قول بعض الشراح الأسعد عنا بمعنى السعيد لكون الكل يشتركون في شرطية الإخلاص، لأنا نقول يشتركون فيه لكن مراتبهم فيه متفاوتة. وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون المراد من ليس له عمل يستحق به الرحمة والخلاص، لأن احتياجه إلى الشفاعة أكثر وانتفاعه بها أوفى والله أعلم. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وهذا السند كله كوفيون. قوله: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها" قال عياض: جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط يعني كما يأتي في آخر الباب الذي يليه قال: فيحتمل أنهما اثنان إما شخصان وإما نوعان أو جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود وهو الجواز على الصراط فيتحد المعنى إما في شخص واحد أو أكثر. قلت: وقع عند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني ولفظه: "آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك" وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع. قوله: "حبوا" بمهملة وموحدة أي زحفا وزنه ومعناه. ووقع بلفظ: "زحفا" في رواية الأعمش عن إبراهيم عند مسلم. قوله: "فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا" وفي رواية الأعمش "فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه - أي الدنيا - فيقول: نعم، فيقال له: تمن، فيتمنى". قوله: "أتسخر مني أو تضحك مني" وفي رواية الأعمش "أتسخر بي" ولم يشك، وكذا لمسلم من رواية منصور، وله من رواية أنس عن ابن مسعود "أتستهزئ بي وأنت رب العالمين" وقال المازري: هذا مشكل، وتفسير الضحك بالرضا لا يتأتى هنا، ولكن لما كانت عادة المستهزئ أن يضحك من الذي استهزأ به ذكر معه، وأما نسبة السخرية إلى الله تعالى فهي على سبيل المقابلة وإن لم يذكره في الجانب الآخر لفظا لكنه لما ذكر أنه عاهد مرارا وغدر حل فعله

(11/443)


محل المستهزئ وظن أن في قول الله له "ادخل الجنة" وتردده إليها وظنه أنها ملأي نوعا من السخرية به جزاء على فعله فسمي الجزاء على السخرية سخرية، ونقل عياض عن بعضهم أن ألف أتسخر مني ألف النفي كهي في قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} على أحد الأقوال، قال: وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإعطاء. وجوز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله، ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار "لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين" وقال القرطبي في "المفهم" أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ فهو كقوله سخر الله منهم وقوله الله يستهزئ بهم أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم وسيأتي بيان الاختلاف في اسم هذا الرجل في آخر شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ضحك حتى بدت نواجذه" بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، تقدم ضبطه في كتاب الصيام. وفي رواية ابن مسعود "فضحك ابن مسعود فقالوا: مم تضحك؟ فقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك رب العالمين حين قال الرجل: أتستهزئ مني؟ قال: لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي. قوله: "وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة" قال الكرماني: ليس هذا من تتمة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام الراوي نقلا عن الصحابة أو عن غيرهم من أهل العلم. قلت: قائل" وكان يقال: "هو الراوي كما أشار إليه، وأما قائل المقالة المذكورة فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في أول حديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه: "أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار" وساق القصة. وفي رواية له من حديث المغيرة أن موسى عليه السلام سأل ربه عن ذلك، ولمسلم أيضا من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال له تمن فيتمنى ويتمنى فيقال إن لك ما تمنيت ومثله معه". قوله: "عبد الملك" هو ابن عمير، ونوفل جد عبد الله بن الحارث هو ابن الحارث بن عبد المطلب، والعباس هو ابن عبد المطلب وهو عم جد عبد الله بن الحارث الراوي عنه وللحارث بن نوفل ولأبيه صحبة، ويقال إن لعبد الله رؤية، وهو الذي كان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة ثم هاء تأنيث. قوله: "هل نفعت أبا طالب بشيء"؟ هكذا ثبت في جميع النسخ بحذف الجواب، وهو اختصار من المصنف، وقد رواه مسدد في مسنده بتمامه، وقد تقدم في كتاب الأدب عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة بالسند المذكور هنا بلفظ: "فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" ووقع في رواية المقدمي عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "الدركة" بزيادة هاء، وقد تقدم شرح ما يتعلق بذلك في شرح الحديث الرابع عشر، ومضى أيضا في قصة أبي طالب في المبعث النبوي لمسدد فيه سند آخر إلى عبد الملك بن عمير المذكور والله أعلم.

(11/444)


52 - باب الصِّرَاطُ جَسْرُ جَهَنَّمَ
6573- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ

(11/444)


أَخْبَرهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أُنَاسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهَا لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ فَيَقُولُ لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو فَيَقُولُ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ثُمَّ يَقُولُ أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى ثُمَّ يُقَالُ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ فَيَقُولُ لَهُ هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا"

(11/445)


6574- قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لاَ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ "هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَفِظْتُ مِثْلُهُ مَعَهُ"
قوله: "باب الصراط جسر جهنم" أي الجسر المنصوب على جهنم لعبور المسلمين عليه إلى الجنة، وهو بفتح الجيم ويجوز كسرها، وقد وقع في حديث الباب لفظ الجسر وفي رواية شعيب الماضية في "باب فضل السجود" بلفظ: "ثم يضرب الصراط" فكأنه أشار في الترجمة إلى ذلك. قوله: "عن الزهري قال سعيد وعطاء بن يزيد أن أبا هريرة أخبرهما" في رواية شعيب عن الزهري "أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي". قوله: "وحدثني محمود" هو ابن غيلان، وساقه هنا على لفظ معمر، وليس في سنده ذكر سعيد، وكذا يأتي في التوحيد من رواية إبراهيم بن سعيد عن الزهري ليس فيه ذكر سعيد، ووقع في تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} عن عطاء بن يزيد فذكر الحديث. قولة "قال أناس يا رسول الله" في رواية شعيب "إن الناس قالوا" ويأتي في التوحيد بلفظ: "قلنا". قوله: "هل نرى ربنا يوم القيامة" في التقييد بيوم القيامة إشارة إلى أن السؤال لم يقع عن الرؤية في الدنيا. وقد أخرج مسلم من حديث أبي أمامة "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وسيأتي الكلام على الرؤية في كتاب التوحيد لأنه محل البحث فيه، وقد وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عند الترمذي أن هذا السؤال وقع على سبب. وذلك أنه ذكر الحشر والقول "لتتبع كل أمة ما كانت تعبد" وقول المسلمين "هذا مكاننا حتى نرى ربنا. قالوا وهل نراه" فذكره، ومضى في الصلاة وغيرها ويأتي في التوحيد من رواية جرير قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر" الحديث مختصر، ويحتمل أن يكون الكلام وقع عند سؤالهم المذكور. قوله: "هل تضارون" بضم أوله وبالضاد المعجمة وتشديد الراء بصيغة المفاعلة من الضرر وأصله تضاررون بكسر الراء وبفتحها أي لا تضرون أحدا ولا يضركم بمنازعة ولا مجادلة ولا مضايقة، وجاء بتخفيف الراء من الضير وهو لغة في الضر أي لا يخالف بعض بعضا فيكذبه وينازعه فيضيره بذلك، يقال ضاره يضيره، وقيل المعنى لا تضايقون أي لا تزاحمون كما جاء في الرواية الأخرى "لا تضامون" بتشديد الميم مع فتح أوله، وقيل المعنى لا يحجب بعضكم بعضا عن الرؤية فيضر به، وحكى الجوهري ضرني فلان إذا دنا مني دنوا شديدا، قال ابن الأثير: فالمراد المضارة بازدحام. وقال النووي: أوله مضموم مثقلا ومخففا قال: وروى "تضامون" بالتشديد مع فتح أوله وهو بحذف إحدى التاءين وهو من الضم، وبالتخفيف مع ضم أوله من الضيم والمراد المشقة والتعب، قال وقال عياض: قال بعضهم في الذي بالراء وبالميم بفتح أوله والتشديد وأشار بذلك إلى أن الرواية بضم أوله مخففا ومثقلا وكله صحيح ظاهر المعنى، ووقع في رواية البخاري "لا تضامون أو تضاهون" بالشك كما مضى في فضل صلاة الفجر، ومعنى الذي بالهاء لا يشتبه عليكم ولا ترتابون فيه فيعارض بعضكم بعضا، ومعنى الضيم الغلبة على الحق والاستبداد به أي لا يظلم بعضكم بعضا، وتقدم في "باب فضل السجود" من رواية شعيب "هل تمارون" بضم أوله وتخفيف الراء أي تجادلون في ذلك أو يدخلكم فيه شك من المرية وهو الشك، وجاء بفتح أوله وفتح الراء على حذف إحدى التاءين. وفي رواية للبيهقي "تتمارون"

(11/446)


بإثباتهما. قوله: "ترونه كذلك" المراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك ورفع المشقة والاختلاف وقال البيهقي سمعت الشيخ أبا الطيب الصعلوكي يقول: "تضامون" بضم أوله وتشديد الميم يريد لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا ينضم بعضكم إلى بعض فإنه لا يرى في جهة، ومعناه بفتح أوله لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، وهو بغير تشديد من الضيم معناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة، قال: والتشبيه برؤية القمر لتعيين الرؤية دون تشبيه المرئي سبحانه وتعالى. وقال الزين بن المنير: إنما خص الشمس والقمر بالذكر مع أن رؤية السماء بغير سحاب أكبر آية وأعظم خلقا من مجرد الشمس والقمر لما خصا به من عظيم النور والضياء بحيث صار التشبيه بهما فيمن يوصف بالجمال والكمال سائغا شائعا في الاستعمال. وقال ابن الأثير: قد يتخيل بعض الناس أن الكاف كاف التشبيه للمرئي وهو غلط، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي ومعناه أنه رؤية مزاح عنها الشك مثل رؤيتكم القمر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: في الابتداء بذكر القمر قبل الشمس متابعة للخليل، فكما أمر باتباعه في الملة اتبعه في الدليل، فاستدل به الخليل على إثبات الوحدانية واستدل به الحبيب على إثبات الرؤية، فاستدل كل منهما بمقتضى حاله لأن الخلة تصح بمجرد الوجود والمحبة لا تقع غالبا إلا بالرؤية، وفي عطف الشمس على القمر مع أن تحصيل الرؤية بذكره كاف لأن القمر لا يدرك وصفه الأعمى حسا بل تقليدا، والشمس يدركها الأعمى حسا بوجود حرها إذا قابلها وقت الظهيرة مثلا فحسن التأكيد بها، قال: والتمثيل واقع في تحقيق الرؤية لا في الكيفية، لأن الشمس والقمر متحيزان والحق سبحانه منزه عن ذلك. قلت: وليس في عطف الشمس على القمر إبطال لقول من قال في شرح حديث جرير: الحكمة في التمثيل بالقمر أنه تتيسر رؤيته للرائي بغير تكلف ولا تحديق يضر بالبصر، بخلاف الشمس، فإنها حكمة الاقتصار عليه، ولا يمنع ذلك ورود ذكر الشمس بعده في وقت آخر، فإن ثبت أن المجلس واحد خدش في ذلك، ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن "لا تمارون في رؤيته تلك الساعة ثم يتوارى" قال النووي: مذهب أهل السنة أن رؤية المؤمنين ربهم ممكنة ونفتها المبتدعة من المعتزلة والخوارج، وهو جهل منهم، فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة على إثباتها في الآخرة للمؤمنين، وأجاب الأئمة عن اعتراضات المبتدعة بأجوبة مشهورة، ولا يشترط في الرؤية تقابل الأشعة ولا مقابلة المرئي وإن جرت العادة بذلك فيما بين المخلوقين والله أعلم. واعترض ابن العربي على رواية العلاء وأنكر هذه الزيادة وزعم أن المراجعة الواقعة في حديث الباب تكون بين الناس وبين الواسطة لأنه لا يكلم الكفار ولا يرونه البتة، وأما المؤمنون فلا يرونه إلا بعد دخول الجنة بالإجماع. قوله: "يجمع الله الناس" في رواية شعيب "يحشر" وهو بمعنى الجمع، وقوله في رواية شعيب "في مكان" زاد في رواية العلاء "في صعيد واحد" ومثله في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة بلفظ: "يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر" وقد تقدمت الإشارة إليه في شرح الحديث الطويل في الباب قبله، قال النووي: الصعيد الأرض الواسعة المستوية، وينفذهم بفتح أوله وسكون النون وضم الفاء بعدها ذال معجمة أي يخرقهم بمعجمة وقاف حتى يجوزهم، وقيل بالدال المهملة أي يستوعبهم، قال أبو عبيدة: معناه ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم. وقال غيره: المراد بصر الناظرين وهو أولى. وقال القرطبي المعنى أنهم يجمعون في مكان واحد بحيث لا يخفى منهم أحد بحيث لا يخفى منهم أحد لو دعاهم داع لسمعوه ولو نظر إليهم ناظر لأدركهم،

(11/447)


قال: ويحتمل أن يكون المراد بالداعي هنا من يدعوهم إلى العرض والحساب لقوله: "يوم يدع الداع" وقد تقدم بيان حال الموقف في "باب الحشر" وزاد العلاء بن عبد الرحمن في روايته: "فيطلع عليهم رب العالمين" قال ابن العربي: لم يزل الله مطلعا على خلقه، وإنما المراد إعلامه باطلاعه عليهم حينئذ، ووقع في حديث ابن مسعود عند البيهقي في البعث وأصله في النسائي: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم والشمس على رءوسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر"، ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد أنه "يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة" وسنده حسن، ولأبي يعلى عن أبي هريرة "كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب" وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر "ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار". قوله: "فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر" قال ابن أبي جمرة: في التنصيص على ذكر الشمس والقمر مع دخولهما فيمن عبد دون الله التنويه بذكرهما لعظم خلقهما، وقع في حديث ابن مسعود "ثم ينادي مناد من السماء: أيها الناس أليس عدل من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولى؟ قال فيقولون: بلى. ثم يقول: لتنطلق كل أمة إلى من كانت تعبد" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد" ووقع في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة في مسند الحميدي وصحيح ابن خزيمة وأصله مسلم بعد قوله إلا كما تضارون في رؤيته "فيلقي العبد فيقول ألم أكرمك وأزوجك وأسخر لك؟ فيقول: بلى فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول. إني أنساك كما نسيتني" الحديث وفيه: "ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت، فيقول: ألا نبعث عليك شاهدا؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه وذلك المنافق. ثم ينادي مناد: ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد"، قوله: "ومن كان يعبد الطواغيت" الطواغيت جمع طاغوت وهو الشيطان والصنم ويكون جمعا ومفردا ومذكرا ومؤنثا، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في تفسير سورة النساء. وقال الطبري: الصواب عندي أنه كل طاغ طغى على الله يعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبد وإما بطاعة ممن عبد إنسانا كان أو شيطانا أو حيوانا أو جمادا، قال فاتباعهم لهم حينئذ باستمرارهم على الاعتقاد فيهم، ويحتمل أن يتبعوهم بأن يساقوا إلى النار قهرا. ووقع في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد "فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب كل الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم" وفيه إشارة إلى أن كل من كان يعبد الشيطان ونحوه ممن يرضى بذلك أو الجماد والحيوان دالون في ذلك، وأما من كان يعبد من لا يرضى بذلك كالملائكة والمسيح فلا، لكن وقع في حديث ابن مسعود "فيتمثل لهم ما كانوا يعبدون فينطلقون" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره" فأفادت هذه الزيادة تعميم من كان يعبد غير الله إلا من سيذكر من اليهود والنصارى فإنه يخص من عموم ذلك بدليله الآتي ذكره. وأما التعبير بالتمثيل فقال ابن العربي: يحتمل أن يكون التمثيل تلبيسا عليهم، ويحتمل أن يكون التمثيل لمن لا يستحق التعذيب، وأما من سواهم فيحضرون حقيقة لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قوله: "وتبقى هذه الأمة" قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يحمل على أعم من ذلك فيدخل فيه جميع أهل التوحيد حتى من الجن، ويدل عليه ما في بقية الحديث أنه يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر. قلت: ويؤخذ أيضا

(11/448)


من قوله في بقية الحديث: "فأكون أول من يجيز" فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء بعده يجيزون أممهم. قوله: "فيها منافقوها" كذا للأكثر. وفي رواية إبراهيم بن سعد "فيها شافعوها أو منافقوها شك إبراهيم" والأول المعتمد، وزاد في حديث أبي سعيد "حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر". وغبرات أهل الكتاب بضم الغين المعجمة وتشديد الموحدة. وفي رواية مسلم: "وغبر" وكلاهما جمع غابر، أو الغبرات جمع وغبر جمع غابر، ويجمع أيضا على أغبار، وغبر الشيء بقيته، وجاء بسكون الموحدة والمراد هنا من كان يوحد الله منهم. وصحفه بعضهم في مسلم بالتحتانية بلفظ التي بالاستثناء، وجزم عياض وغيره بأنه وهم، قال ابن أبي جمرة: لم يذكر في الخبر مآل المذكورين، لكن لما كان من المعلوم أن استقرار الطواغيت في النار علم بذلك أنهم معهم في النار كما قال تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}. قلت: وقد وقع في رواية سهيل التي أشرت إليها قريبا "فتتبع الشياطين والصليب أولياؤهم إلى جهنم" ووقع في حديث أبي سعيد من الزيادة "ثم يؤتى بجهنم كأنها سراب - بمهملة ثم موحدة - فيقال اليهود ما كنتم تعبدون" الحديث وفيه ذكر النصارى، وفيه: "فيتساقطون في جهنم حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر" وفي رواية هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عند ابن خزيمة وابن منده وأصله في مسلم: "فلا يبقى أحد كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار". وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "فيطرح منهم فيها فوج ويقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد" الحديث، وكان اليهود وكذا النصارى ممن كان لا يعبد الصلبان لما كانوا يدعون أنهم يعبدون الله تعالى تأخروا مع المسلمين، فلما حققوا على عبادة من ذكر من الأنبياء ألحقوا بأصحاب الأوثان. ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية. فأما من كان متمسكا بدينه الأصلي فخرج بمفهوم قوله: "الذين كفروا" وعلى ما ذكر من حديث أبي سعيد يبقى أيضا من كان يظهر الإيمان من مخلص ومنافق. قوله: "فتدعى اليهود" قدموا بسبب تقدم ملتهم على ملة النصارى. قوله: "فيقال لهم" لم أقف على تسمية قائل ذلك لهم، والظاهر أنه الملك الموكل بذلك. قوله: "كنا نعبد عزيرا ابن الله" هذا فيه إشكال لأن المتصف بذلك بعض اليهود وأكثرهم ينكرون ذلك، ويمكن أن يجاب بأن خصوص هذا الخطاب لمن كان متصفا بذلك ومن عداهم يكون جوابهم ذكر من كفروا به كما وقع في النصارى فإن منهم من أجاب بالمسيح ابن الله مع أن فيهم من كان بزعمه يعبد الله وحده وهم الاتحادية الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم. قوله: "فيقال لهم كذبتم" قال الكرماني: التصديق والتكذيب لا يرجعان إلى الحكم الذي أشار إليه، فإذا قيل جاء زيد بن عمرو بكذا فمن كذبه أنكر مجيئه بذلك الشيء لا أنه ابن عمرو، وهنا لم ينكر عليهم أنهم عبدوا وإنما أنكر عليهم أن المسيح ابن الله، قال: والجواب عن هذا أن فيه نفي اللازم وهو كونه ابن الله ليلزم نفي الملزوم وهو عبادة ابن الله. قال ويجوز أن يكون الأول بحسب الظاهر وتحصل قرينة بحسب المقام تقتضي الرجوع إليهما جميعا أو إلى المشار إليه فقط، قال ابن بطال: في هذا الحديث أن المنافقين يتأخرون مع المؤمنين رجاء أن ينفعهم ذلك بناء على ما كانوا يظهرونه في الدنيا، فظنوا أن ذلك يستمر لهم، فميز الله تعالى المؤمنين بالغرة والتحجيل إذ لا غرة للمنافق ولا تحجيل. قلت: قد ثبت أن الغرة والتحجيل خاص بالأمة المحمدية، فالتحقيق أنهم في هذا المقام يتميزون بعدم السجود وبإطفاء نورهم بعد أن حصل لهم، ويحتمل أن يحصل لهم الغرة والتحجيل ثم يسلبان عند إطفاء النور. وقال القرطبي: ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين

(11/449)


ينفعهم في الآخرة كما كان ينفعهم في الدنيا جهلا منهم، ويحتمل أن يكونوا حشروا معهم لما كانوا يظهرونه من الإسلام فاستمر ذلك حتى ميزهم الله تعالى منهم، قال: ويحتمل أنهم لما سمعوا "لتتبع كل أمة من كانت تعبد" والمنافق لم يكن يعبد شيئا بقي حائرا حتى ميز. قلت: هذا ضعيف لأنه يقتضي تخصيص ذلك بمنافق كان لا يعبد شيئا، وأكثر المنافقين كانوا يعبدون غير الله من وثن وغيره. قوله: "فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون" في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد "في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة" وفي رواية هشام بن سعد "ثم يتبدى لنا الله في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة" ويأتي في حديث أبي سعيد من الزيادة "فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم ما كانوا يعبدون وإننا ننتظر ربنا" ووقع في رواية مسلم هنا "فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم" ورجح عياض رواية البخاري. وقال غيره: الضمير لله والمعنى فارقنا الناس في معبوداتهم ولم نصاحبهم ونحن اليوم أحوج لربنا، أي إنا محتاجون إليه. وقال عياض: بل أحوج على بابها لأنهم كانوا محتاجين إليه في الدنيا فهم في الآخرة أحوج إليه. وقال النووي: إنكاره لرواية مسلم معترض، بل معناه التضرع إلى الله في كشف الشدة عنهم بأنهم لزموا طاعته وفارقوا في الدنيا من زاغ عن طاعته من أقاربهم مع حاجتهم إليهم في معاشهم ومصالح دنياهم، كما جرى لمؤمني الصحابة حين قاطعوا من أقاربهم من حاد الله ورسوله مع حاجتهم إليهم والارتفاق بهم، وهذا ظاهر في معنى الحديث لا شك في حسنه، وأما نسبة الإتيان إلى الله تعالى فقيل هو عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن كل من غاب عن غيره لا يمكن رؤيته إلا بالمجيء إليه فعبر عن الرؤية بالإتيان مجازا، وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات الحدوث. وقيل فيه حذف تقديره يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض قال: ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لما رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك لأنه مخلوق، قال: ويحتمل وجها رابعا وهو أن المعنى يأتيهم الله بصورة -أي بصفة- تظهر لهم من الصور المخلوقة التي لا تشبه صفة الإله ليختبرهم بذلك، فإذا قال لهم هذا الملك أنا ربكم ورأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم استعاذوا منه لذلك. انتهى. وقد وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن المشار إليها "فيطلع عليهم رب العالمين" وهو يقوي الاحتمال الأول، قال: وأما قوله بعد ذلك "فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها" فالمراد بذلك الصفة، والمعنى فيتجلى الله لهم بالصفة التي يعلمونه بها، وإنما عرفوه بالصفة وإن لم تكن تقدمت لهم رؤيته لأنهم يرون حينئذ شيئا لا يشبه المخلوقين، وقد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون: أنت ربنا، وعبر عن الصفة بالصورة لمجانسة الكلام لتقدم ذكر الصورة. قال: وأما قوله: "نعوذ بالله منك" فقال الخطابي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر من المنافقين، قال القاضي عياض: وهذا لا يصح ولا يستقيم الكلام به. وقال النووي: الذي قاله القاضي صحيح، ولفظ الحديث مصرح به أو ظاهر فيه. انتهى. ورجحه القرطبي في "التذكرة" وقال: إنه من الامتحان الثاني يتحقق ذلك، فقد جاء في حديث أبي سعيد "حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب" وقال ابن العربي: إنما استعاذوا منه أولا لأنهم اعتقدوا أن ذلك الكلام استدراج، لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ومن الفحشاء اتباع الباطل وأهله، ولهذا وقع في الصحيح "فيأتيهم الله في صورة - أي بصورة - لا يعرفونها" وهي الأمر باتباع أهل الباطل، فلذلك يقولون

(11/450)


"إذا جاء ربنا عرفناه" أي إذا جاءنا بما عهدناه منه من قول الحق. وقال ابن الجوزي: معنى الخبر يأتيهم الله بأهوال يوم القيامة ومن صور الملائكة بما لم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقولون: إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا أتانا بما نعرفه من لطفه، وهي الصورة التي عبر عنها بقوله: "يكشف عن ساق" أي عن شدة. وقال القرطبي: هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، وذلك أنه لما بقي المنافقون مختلطين بالمؤمنين زاعمين أنهم منهم ظانين أن ذلك يجوز في ذلك الوقت كما جاز في الدنيا امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع أنا ربكم، فأجابه المؤمنون بإنكار ذلك لما سبق لهم من معرفته سبحانه وأنه منزه عن صفات هذه الصورة، فلهذا قالوا نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا، حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب أي يزل فيوافق المنافقين. قال: وهؤلاء طائفة لم يكن لهم رسوخ بين العلماء ولعلهم الذين اعتقدوا الحق وحوموا عليه من غير بصيرة، قال: ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين هل بينكم وبينه علامة؟ قلت: وهذه الزيادة أيضا من حديث أبي سعيد ولفظه: "آية تعرفونها فيقولون الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيصير ظهره طبقا واحدا" أي يستوي فقار ظهره فلا ينثني للسجود، وفي لفظ لمسلم: "فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود" أي سهل له وهون عليه "ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر لقفاه" وفي حديث ابن مسعود نحوه لكن قال: "فيقولون إن اعترف لنا عرفناه، قال فيكشف عن ساق فيقعون سجودا، وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر" وفي رواية أبي الزعراء عنه عند الحاكم "وتبقى ظهور المنافقين طبقا واحدا كأنما فيها السفافيد" وهي بمهملة وفاءين جمع سفود بتشديد الفاء وهو الذي يدخل في الشاة إذا أريد أن تشوى. ووقع في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عند ابن منده "فيوضع الصراط ويتمثل لهم ربهم" فذكر نحو ما تقدم وفيه: "إذا تعرف لنا عرفناه" وفي رواية العلاء ابن عبد الرحمن "ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه ثم يقول: أنا ربكم فاتبعوني، فيتبعه المسلمون" وقوله في هذه الرواية: "فيعرفهم نفسه" أي يلقي في قلوبهم علما قطعيا يعرفون به أنه ربهم سبحانه وتعالى. وقال الكلاباذي في "معاني الأخبار" عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرفهم بها نفسه، ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول الذي غيرهم حتى غابوا عن رؤية عوراتهم. ووقع في رواية هشام بن سعد "ثم نرفع رءوسنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فنقول: نعم، أنت ربنا" وهذا فيه إشعار بأنهم رأوه في أول ما حشروا والعلم عند الله. وقال الخطابي: هذه الرؤية غير التي تقع في الجنة إكراما لهم، فإن هذه للامتحان وتلك لزيادة الإكرام كما فسرت به {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: ولا إشكال في حصول الامتحان في الموقف لأن آثار التكاليف لا تنقطع إلا بعد الاستقرار في الجنة أو النار. قال: ويشبه أن يقال إنما حجب عنهم تحقق رؤيته أولا لما كان معهم من المنافقين الذين لا يستحقون رؤيته، فلما تميزوا رفع الحجاب فقال المؤمنون حينئذ: أنت ربنا. قلت: وإذا لوحظ ما تقدم من قوله: "إذا تعرف لنا عرفناه" وما ذكرت من تأويله ارتفع الإشكال. وقال الطيبي: لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء أن لا يقع في واحدة منهما ما يخص بالأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة، وفيه الابتلاء والفتنة بالسؤال وغيره، والتحقيق أن التكليف خاص بالدنيا وما يقع في القبر وفي الموقف هي آثار ذلك. ووقع في حديث ابن مسعود من الزيادة "ثم يقال للمسلمين

(11/451)


ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم" وفي لفظ: "فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك ومثل النخلة ودون ذلك حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه" ووقع في رواية مسلم عن جابر "ويعطى كل إنسان منهم نورا -إلى أن قال- ثم يطفئ نور المنافقين" وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه "فيعطى كل إنسان منهم نورا، ثم يوجهون إلى الصراط فما كان من منافق طفئ نوره" وفي لفظ: "فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين فقالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية. وفي حديث أبي أمامة عند ابن أبي حاتم "وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم ينتقلون إلى منزل آخر فتغشى الناس الظلمة، فيقسم النور فيختص بذلك المؤمن ولا يعطى الكافر ولا المنافق منه شيئا، فيقول المنافقون للذين آمنوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا، فيضرب بينهم بسور". قوله: "فيتبعونه" قال عياض أي فيتبعون أمره أو ملائكته الذين وكلوا بذلك. قوله: "ويضرب جسر جهنم" في رواية شعيب بعد قوله أنت ربنا "فيدعوهم فيضرب جسر جهنم". "تنبيه": حذف من هذا السياق ما تقدم من حديث أنس في ذكر الشفاعة لفصل القضاء، كما حذف من حديث أنس ما ثبت هنا من الأمور التي تقع في الموقف، فينتظم من الحديثين أنهم إذا حشروا وقع ما في حديث الباب من تساقط الكفار في النار ويبقى من عداهم في كرب الموقف فيستشفعون، فيقع الإذن بنصب الصراط فيقع الامتحان بالسجود ليتميز المنافق من المؤمن ثم يجوزون على الصراط. ووقع في حديث أبي سعيد هنا "ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز" في رواية شعيب "يجوز بأمته" وفي رواية إبراهيم بن سعد "يجيزها" والضمير لجهنم. قال الأصمعي: جاز الوادي مشى فيه، وأجازه قطعه. وقال غيره: جاز وأجاز بمعنى واحد. وقال النووي: المعنى أكون أنا وأمتي أول من يمضي على الصراط ويقطعه، يقول جاز الوادي وأجازه إذا قطعه وخلفه. وقال القرطبي: يحتمل أن تكون الهمزة هنا للتعدية لأنه لما كان هو وأمته أول من يجوز على الصراط لزم تأخير غيرهم عنهم حتى يجوز، فإذا جاز هو وأمته فكأنه أجاز بقية الناس. انتهى. ووقع في حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم "ثم ينادي مناد أين محمد وأمته؟ فيقوم فتتبعه أمته برها وفاجرها، فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون من يمين وشمال، وينجو النبي والصالحون" وفي حديث ابن عباس يرفعه: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب" وفيه: "فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمر غرا محجلين من آثار الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء". قوله: "ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" في رواية شعيب "ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل" وفي رواية إبراهيم بن سعد "ولا يكلمه إلا الأنبياء، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" ووقع في رواية العلاء "وقولهم اللهم سلم سلم" وللترمذي من حديث المغيرة "شعار المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم" والضمير في الأول للرسل، ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به بل تنطق به الرسل يدعون للمؤمنين بالسلامة فسمي ذلك شعارا لهم، فبهذا تجتمع الأخبار، ويؤيده قوله في رواية سهيل "فعند ذلك حلت الشفاعة اللهم سلم سلم" وفي حديث أبي سعيد من الزيادة "فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب" وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا "فيمر أولهم كمر البرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرحال

(11/452)


تجري بهم أعمالهم" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "ويوضع الصراط فيمر عليه مثل جياد الخيل والركاب" وفي حديث ابن مسعود "ثم يقال لهم انجوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كطرف العين ثم كالبرق ثم كالسحاب ثم كانقضاض الكوكب ثم كالريح ثم كشد الفرس ثم كشد الرحل حتى يمر الرجل الذي أعطى نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه يجر بيد ويعلق يد ويجر برجل ويعلق رجل وتضرب جوانبه النار حتى يخلص" وعند ابن أبي حاتم في التفسير من طريق أبي الزعراء عن ابن مسعود "كمر البرق ثم الريح ثم الطير ثم أجود الخيل ثم أجود الإبل ثم كعدو الرجل، حتى إن آخرهم رجل نوره على موضع إبهامي قدميه ثم يتكفأ به الصراط" وعند هناد بن السري عن ابن مسعود بعد الريح "ثم كأسرع البهائم حتى يمر الرجل سعيا ثم مشيا ثم آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك" ولابن المبارك من مرسل عبد الله بن شقيق "فيجوز الرجل كالطرف وكالسهم وكالطائر السريع وكالفرس الجواد المضمر، ويجوز الرجل يعدو عدوا ويمشي مشيا حتى يكون آخر من ينجو يحبو". قوله: "وبه كلاليب" الضمير للصراط. وفي رواية شعيب "وفي جهنم كلاليب" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به" وفي رواية سهيل "وعليه كلاليب النار" وكلاليب جمع كلوب بالتشديد، وتقدم ضبطه وبيانه في أواخر كتاب الجنائز. قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث الماضي "حفت النار بالشهوات" قال: فالشهوات موضوعة على جوانبها فمن اقتحم الشهوة سقط في النار لأنها خطاطيفها: وفي حديث حذيفة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا" أي يقفان في ناحيتي الصراط، وهي بفتح الجيم والنون بعدها موحدة ويجوز سكون النون، والمعنى أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان هناك للأمين والخائن والمواصل والقاطع فيحاجان عن المحق ويشهدان على المبطل. قال الطيبي ويمكن أن يكون المراد بالأمانة ما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الرحم ما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فيدخل فيه معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فكأنهما اكتنفتا جنبتي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفطرتي الإيمان والدين القويم. قوله: "مثل شوك السعدان" بالسين والعين المهملتين بلفظ التثنية، والسعدان جمع سعدانة وهو نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه قالوا: مرعى ولا كالسعدان. قوله: "أما رأيتم شوك السعدان" هو استفهام تقرير لاستحضار الصورة المذكورة. قوله: "غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله" أي الشوكة، والهاء ضمير الشأن، ووقع في رواية الكشميهني: "غير أنه" وقع في رواية مسلم: "لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله" قال القرطبي: قيدناه -أي لفظ قدر- عن بعض مشايخنا بضم الراء على أنه يكون استفهاما وقدر مبتدأ، وبنصبها على أن تكون ما زائدة وقدر مفعول يعلم. قوله: "فتخطف الناس بأعمالهم" بكسر الطاء وبفتحها قال ثعلب في الفصيح: خطف بالكسر في الماضي وبالفتح في المضارع. وحكى القزاز عكسه، والكسر في المضارع أفصح. قال الزين بن المنير: تشبيه الكلاليب بشوك السعدان خاص بسرعة اختطافها وكثرة الانتشاب فيها مع التحرز والتصون تمثيلا لهم بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة، ثم استثني إشارة إلى أن التشبيه لم يقع في مقدارهما. وفي رواية السدي "وبحافتيه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس" ووقع في حديث أبي سعيد "قلنا وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة" أي

(11/453)


زلق تزلق فيه الأقدام، ويأتي ضبط ذلك في كتاب التوحيد. ووقع عند مسلم: "قال أبو سعيد: بلغني أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة"، ووقع في رواية ابن منده من هذا الوجه "قال سعيد بن أبي هلال: بلغني" ووصله البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مجزوما به، وفي سنده لين. ولابن المبارك عن مرسل عبيد ابن عمير "إن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر" وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه وفيه: "والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم سلم" وجاء عن الفضيل بن عياض قال: "بلغنا أن الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسه آلاف صعود وخمسة آلاف هبوط وخمسة آلاف مستوى أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله" أخرجه ابن عساكر في ترجمته، وهذا معضل لا يثبت، وعن سعيد بن أبي هلال قال: "بلغنا أن الصراط أدق من الشعر على بعض الناس، ولبعض الناس مثل الوادي الواسع" أخرجه ابن المبارك وابن أبي الدنيا وهو مرسل أو معضل. وأخرج الطبري من طريق غنيم بن قيس أحد التابعين قال: "تمثل النار للناس، ثم يناديها مناد: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بكل ولي لها فهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم" ورجاله ثقات مع كونه مقطوعا. قوله: "منهم الموبق بعمله" في رواية شعيب "من يوبق" وهما بالموحدة بمعنى الهلاك، ولبعض رواة مسلم: "الموثق" بالمثلثة من الوثائق، ووقع عند أبي ذر رواية إبراهيم بن سعد الآتية في التوحيد بالشك. وفي رواية الأصيلي: "ومنهم المؤمن -بكسر الميم بعدها نون- بقي بعمله" بالتحتانية وكسر القاف من الوقاية أي يستره عمله، وفي لفظ بعض رواة مسلم: "يعني" بعين مهملة ساكنة ثم نون مكسورة بدل بقي وهو تصحيف. قوله: "ومنهم المخردل" بالخاء المعجمة، في رواية شعيب "ومنهم من يخردل" ووقع في رواية الأصيلي هنا بالجيم وكذا لأبي أحمد الجرجاني في رواية شعيب ووهاه عياض والدال مهملة للجميع، وحكى أبو عبيد فيه إعجام الذال ورجح ابن قرقول الخاء المعجمة والدال المهملة. وقال الهروي المعنى أن كلاليب النار تقطعه فيهوي في النار، قال كعب بن زهير في بانت سعاد قصيدته المشهورة:
يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من القوم معفور خراديل
فقوله: "معفور" بالعين المهملة والفاء أي واقع في التراب و "خراديل" أي هو قطع، ويحتمل أن يكون من الخردل أي جعلت أعضاؤه كالخردل، وقيل معناه أنها تقطعهم عن لحوقهم بمن نجا، وقيل المخردل المصروع ورجحه ابن التين فقال هو أنسب لسياق الخبر، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أبي ذر "فمنهم المخردل أو المجازي أو نحوه" ولمسلم عنه "المجازي" بغير شك وهو بضم الميم وتخفيف الجيم من الجزاء. قوله: "ثم ينجو" في رواية إبراهيم بن سعد "ثم ينجلي" بالجيم أي يتبين، ويحتمل أن يكون بالخاء المعجمة أي يخلى عنه فيرجع إلى معنى ينجو، وفي حديث أبي سعيد "فناج مسلم ومخدوش ومكدوس في جهنم حتى يمر أحدهم فيسحب سحبا" قال ابن أبي جمرة: يؤخذ منه أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدوش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما يصاب ثم ينجو. وكل قسم منها ينقسم أقساما تعرف بقوله: "بقدر أعمالهم" واختلف في ضبط مكدوس فوقع في رواية مسلم بالمهملة ورواه بعضهم بالمعجمة ومعناه السوق الشديد ومعنى الذي بالمهملة الراكب بعضه على بعض، وقيل مكردس والمكردس فقار الظهر وكردس الرجل خيله جعلها كراديس أي فرقها، والمراد

(11/454)


أنه ينكفأ في قعرها. وعند ابن ماجه من وجه آخر عن أبي سعيد رفعه: "يوضع الصراط بين ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومخدوش به ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها". قوله: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده" كذا لمعمر هنا، ووقع لغيره: "بعد هذا" وقال في رواية شعيب "حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار" قال الزين بن المنير: الفراغ إذا أضيف إلى الله معناه القضاء وحلوله بالمقضي عليه، والمراد إخراج الموحدين وإدخالهم الجنة واستقرار أهل النار في النار، وحاصله أن المعنى يفرغ الله أي من القضاء بعذاب من يفرغ عذابه ومن لا يفرغ فيكون إطلاق الفراغ بطريق المقابلة وإن لم يذكر لفظها. وقال ابن أبي جمرة: معناه وصل الوقت الذي سبق في علم الله أنه يرحمهم، وقد سبق في حديث عمران بن حصين الماضي في أواخر الباب الذي قبله أن الإخراج يقع بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. وعند أبي عوانة والبيهقي وابن حبان في حديث حذيفة "يقول إبراهيم يا رباه حرقت بني فيقول أخرجوا" وفي حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم أن قائل ذلك آدم، وفي حديث أبي سعيد "فما أنتم بأشد مناشدة في الحق، قد يتبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم المؤمنين يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا" الحديث هكذا في رواية الليث الآتية في التوحيد، ووقع فيه عند مسلم من رواية حفص بن ميسرة اختلاف في سياقه سأبينه هناك إن شاء الله تعالى، ويحمل على أن الجميع شفعوا، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم قبلهم في ذلك، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني بسند حسن رفعه: "يدخل من أهل القبلة النار من لا يحصى عددهم إلا الله بما عصوا الله واجترؤوا على معصيته وخالفوا طاعته، فيؤذن لي في الشفاعة فأثني على الله ساجدا كما أثني عليه قائما، فيقال لي: ارفع رأسك" الحديث. ويؤيده أن في حديث أبي سعيد تشفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون، ووقع في رواية عمرو بن أبي عمرو عن أنس عند النسائي ذكر سبب آخر لإخراج الموحدين من النار ولفظه: "وفرغ من حساب الناس وأدخل من بقي من أمتي النار مع أهل النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله لا تشركون به شيئا، فيقول الجبار: فبعزتي لأعتقنهم من النار، فيرسل إليهم فيخرجون" وفي حديث أبي موسى عند ابن أبي عاصم والبزار رفعه: "وإذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة يقول لهم الكفار: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فقالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيأمر الله من كان من أهل القبلة فأخرجوا. فقال الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين" وفي الباب عن جابر وقد تقدم في الباب الذي قبله. وعن أبي سعيد الخدري عند ابن مردويه. ووقع في حديث أبي بكر الصديق "ثم يقال: ادعوا الأنبياء فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون" وفي حديث أبي بكرة عند ابن أبي عاصم والبيهقي مرفوعا: "يحمل الناس على الصراط فينجي الله من شاء برحمته، ثم يؤذن في الشفاعة للملائكة والنبيين والشهداء والصديقين فيشفعون ويخرجون". قوله: "ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله" قال القرطبي: لم يذكر الرسالة إما لأنهما لما تلازما في النطق غالبا وشرطا اكتفي بذكر الأولى أو لأن الكلام في حق جميع المؤمنين هذه الأمة وغيرها، ولو ذكرت الرسالة لكثر تعداد الرسل. قلت: الأول أولى، ويعكر على الثاني أنه يكتفى بلفظ جامع كأن يقول مثلا: ونؤمن برسله، وقد تمسك بظاهره بعض المبتدعة ممن زعم أن من وحد الله من أهل الكتاب يخرج من النار ولو لم يؤمن بغير من أرسل إليه، وهو قول باطل، فإن من جحد الرسالة

(11/455)


كذب الله ومن كذب الله لم يوحده. قوله: "أمر الملائكة أن يخرجوهم" في حديث أبي سعيد "اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار فأخرجوه" وتقدم في حديث أنس في الشفاعة في الباب قبله "فيحد لي حدا فأخرجهم" ويجمع بأن الملائكة يؤمرون على ألسنة الرسل بذلك، فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة. ووقع في الحديث الثالث عشر من الباب الذي قبله تفصيل ذلك. ووقع في حديث أبي سعيد أيضا بعد قوله ذرة "فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا" وفيه: "فيقول الله شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط" وفي حديث معبد عن الحسن البصري عن أنس "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله" وسيأتي بطوله في التوحيد. وفي حديث جابر عند مسلم: "ثم يقول الله: أنا أخرج بعلمي وبرحمتي" وفي حديث أبي بكر "أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئا" قال الطيبي هذا يؤذن بأن كل ما قدر قبل ذلك بمقدار شعيرة ثم حبة ثم خردلة ثم ذرة غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، بل هو ما يوجد في قلوب المؤمنين من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين: أحدهما ازدياد اليقين وطمأنينة النفس، لأن تضافر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لعدمه، والثاني أن يراد العمل وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه قوله في حديث أبي سعيد "لم يعملوا خيرا قط" قال البيضاوي: وقوله ليس ذلك لك أي أنا أفعل ذلك تعظيما لاسمي وإجلالا لتوحيدي، وهو مخصص لعموم حديث أبي هريرة الآتي "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصا" قال: ويحتمل أن يجري على عمومه ويحمل على حال ومقام آخر، قال الطيبي: إذا فسرنا ما يختص بالله بالتصديق المجرد عن الثمرة وما يختص برسوله هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل الصالح حصل الجمع. قلت: ويحتمل وجها آخر وهو أن المراد بقوله ليس ذلك لك مباشرة الإخراج لا أصل الشفاعة، وتكون هذه الشفاعة الأخيرة وقعت في إخراج المذكورين فأجيب إلى أصل الإخراج ومنع من مباشرته فنسبت إلى شفاعته في حديث أسعد الناس لكونه ابتداء بطلب ذلك، والعلم عند الله تعالى. وقد مضى شرح حديث أسعد الناس بشفاعتي في أواخر الباب الذي قبله مستوفى. قوله: "فيعرفونهم بعلامة آثار السجود" في رواية إبراهيم بن سعد "فيعرفونهم في النار بأثر السجود" قال الزين بن المنير: تعرف صفة هذا الأثر مما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} لأن وجوههم لا تؤثر فيها النار فتبقى صفتها باقية. وقال غيره: بل يعرفونهم بالغرة، وفيه نظر لأنها مختصة بهذه الأمة والذين يخرجون أعم من ذلك. قوله: "وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود" هو جواب عن سؤال مقدر تقديره كيف يعرفون أثر السجود مع قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: "فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن الله بالشفاعة" فإذا صاروا فحما كيف يتميز محل السجود من غيره حتى يعرف أثره. وحاصل الجواب تخصيص أعضاء السجود من عموم الأعضاء التي دل علها من هذا الخبر، وأن الله منع النار أن تحرق أثر السجود من المؤمن، وهل المراد بأثر السجود نفس العضو الذي يسجد أو المراد من سجد؟ فيه نظر، والثاني أظهر. قال القاضي عياض: فيه دليل على أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالف لعذاب الكفار، وأنها لا تأتي على جميع أعضائهم إما إكراما لموضع السجود وعظم مكانهم من الخضوع لله تعالى أو لكرامة تلك الصورة التي خلق آدم والبشر عليها وفضلوا بها على سائر الخلق.

(11/456)


قلت: الأول منصوص والثاني محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين، فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار وليس كذلك. قال النووي: وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وقال عياض: ذكر الصورة ودارات الوجوه يدل على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة خلافا لمن قال يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث: "أن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه" وفي حديث سمرة عند مسلم: "وإلى ركبتيه" وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد "وإلى حقوه" قال النووي: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم: "إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم" فإنه يحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصا بهم وغيره عاما فيحمل على عمومه إلا ما خص منه. قلت: إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة وهو الجبهة سلم من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغرة كما تقدم النقل عمن قاله. وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأمة فيضاف إليها التحجيل وهو في اليدين والقدمين مما يصل إليه الوضوء فيكون أشمل مما قاله النووي من جهة دخول جميع اليدين والرجلين لا تخصيص الكفين والقدمين ولكن ينقص منه الركبتان، وما استدل به القاضي من بقية الحديث لا يمنع سلامة هذه الأعضاء مع الانغمار، لأن تلك الأحوال الأخروية خارجة على قياس أحوال أهل الدنيا، ودل التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار إكراما لمحل السجود، ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها. وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلما ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له، لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة لعموم قوله لم يعملوا خيرا قط، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد، وهل المراد بمن يسلم من الإحراق من كان يسجد أو أعم من أن يكون بالفعل أو القوة؟ الثاني أظهر ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص فبغته الموت قبل أن يسجد ووجدت بخط أبي رحمه الله تعالى ولم أسمعه منه من نظمه ما يوافق مختار النووي وهو قوله:
يا رب أعضاء السجود عتقتها ... من عبدك الجاني وأنت الواقي
والعتق يسري بالغنى يا ذا الغنى ... فامنن على الفاني بعتق الباقي
قوله: "فيخرجونهم قد امتحشوا" هكذا وقع هنا، وكذا وقع في حديث أبي سعيد في التوحيد عن يحيى بن بكير عن الليث بسنده، ووقع عند أبي نعيم من رواية أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن يحيى بن بكير "فيخرجون من عرفوا" ليس فيه: "قد امتحشوا" وإنما ذكرها بعد قوله فيقبض قبضة، وكذا أخرجه البيهقي وابن منده من رواية روح بن الفرج ويحيى بن أبي أيوب العلاف كلاهما عن يحيى بن بكير به، قال عياض: ولا يبعد أن الامتحاش يختص بأهل القبضة والتحريم على النار أن تأكل صورة الخارجين أولا قبلهم ممن عمل الخير على التفصيل السابق والعلم عند الله تعالى. وتقدم ضبط "امتحشوا" وأنه بفتح المثناة والمهملة وضم المعجمة أي احترقوا وزنه ومعناه، والمحش احتراق الجلد وظهور العظم. قال عياض: ضبطناه عن متقني شيوخنا وهو وجه الكلام، وعند بعضهم بضم المثناة وكسر الحاء، ولا يعرف في اللغة امتشحه متعديا وإنما سمع لازما مطاوع محشته يقال محشته، وأمحشته، وأنكر يعقوب بن السكيت الثلاثي. وقال غيره: أمحشته فامتحش وأمحشه الحر أحرقه والنار أحرقته

(11/457)


وامتحش هو غضبا.وقال أبو نصر الفارابي: والامتحاش الاحتراق. قوله: "فيصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة" في حديث أبي سعيد "فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة" والأفواه جمع فوهة على غير قياس والمراد بها الأوائل، وتقدم في الإيمان من طريق يحيى بن عمران عن أبي سعيد "في نهر الحياة أو الحياء" بالشك. وفي رواية أبي نضرة عند مسلم: "على نهر يقال له الحيوان أو الحياة" وفي أخرى له "فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة" وفي تسمية ذلك النهر به إشارة إلى أنهم لا يحصل لهم الفناء بعد ذلك. قوله: "فينبتون نبات الحبة" بكسر المهملة وتشديد الموحدة، تقدم في كتاب الإيمان أنها بزور الصحراء والجمع حبب بكسر المهملة وفتح الموحدة بعدها مثلها، وأما الحبة بفتح أوله وهو ما يزرعه الناس فجمعها حبوب بضمتين، ووقع في حديث أبي سعيد "فينبتون في حافتيه" وفي رواية لمسلم: "كما تنبت الغثاءة" بضم الغين المعجمة بعدها مثلثة مفتوحة وبعد الألف همزة ثم هاء تأنيث هو في الأصل كل ما حمله السيل من عيدان وورق وبزور وغيرها، والمراد به هنا ما حمله من البزور خاصة. قوله: "في حميل السيل" بالحاء المهملة المفتوحة والميم المكسورة أي ما يحمله السيل. وفي رواية يحيى بن عمارة المشار إليها إلى جانب السيل، والمراد أن الغثاء الذي يجيء به السيل يكون فيه الحبة فيقع في جانب الوادي فتصبح من يومها نابتة، ووقع في رواية لمسلم: "في حمئة السيل" بعد الميم همزة ثم هاء، وقد تشبع الميم فيصير بوزن عظيمة، وهو ما تغير لونه من الطين، وخص بالذكر لأنه يقع فيه النبت غالبا. قال ابن أبي جمرة فيه إشارة إلى سرعة نباتهم، لأن الحبة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء مع ما خالطه من حرارة الزبل المجذوب معه، قال: ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفا بجميع أمور الدنيا بتعليم الله تعالى له وإن لم يباشر ذلك. وقال القرطبي: اقتصر المازري على أن موقع التشبيه السرعة، وبقي عليه نوع آخر دل عليه قوله في الطريق الأخرى "ألا ترونها تكون إلى الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصفر وأخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض" وفيه تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة يسبق إليه البياض المستحسن، وما يكون منهم إلى جهة النار يتأخر النصوع عنه فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحسن والنور ونضارة النعمة عليهم. قال: ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن الذي يباشر الماء يعني الذي يرش عليهم يسرع نصوعه وإن غيره يتأخر عنه النصوع لكنه يسرع إليه، والله أعلم. قوله: "ويبقى رجل" زاد في رواية الكشميهني: "منهم مقبل بوجهه على النار هو آخر أهل النار دخولا الجنة" تقدم القول في آخر أهل النار خروجا منها في شرح الحديث الثاني والعشرين من الباب الذي قبله، ووقع في وصف هذا الرجل أنه كان نباشا وذلك في حديث حذيفة كما تقدم في أخبار بني إسرائيل "أن رجلا كان يسيء الظن بعمله، فقال لأهله أحرقوني" الحديث وفي آخره: "كان نباشا" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما وفيه: "ثم يقول الله: انظروا هل بقي في النار أحد عمل خيرا قط؟ فيجدون رجلا فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع" الحديث وفيه: "ثم يخرجون من النار رجلا آخر فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني" الحديث. وجاء من وجه آخر أنه "كان يسأله الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني

(11/458)


الجنة" أخرجه الحسين المروزي في زيادات الزهد لابن المبارك من حديث عوف الأشجعي رفعه: "قد علمت آخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل كان يسأل الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني الجنة، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقي بين ذلك فيقول: يا رب قربني من باب الجنة أنظر إليها وأجد من ريحها، فيقربه، فيرى شجرة" الحديث، وهو عند ابن أبي شيبة أيضا. وهذا يقوي التعدد، لكن الإسناد ضعيف. وقد ذكرت عن عياض في شرح الحديث السابع عشر أن آخر من يخرج من النار هل هو آخر من يبقى على الصراط أو هو غيره وإن اشترك كل منهما في أنه آخر من يدخل الجنة، ووقع في نوادر الأصول للترمذي الحكيم من حديث أبي هريرة أن أطول أهل النار فيها مكثا من يمكث سبعة آلاف سنة وسند هذا الحديث واه والله أعلم. وأشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر من يخرج من النار وهو المذكور في الباب الماضي وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة وبين آخر من يخرج ممن يبقى مارا على الصراط فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشارك به بعض من دخلها. وقد وقع في "غرائب مالك للدار قطني" من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: "إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين" وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هناد، وجوز غيره أن يكون أحد الاسمين لأحد المذكورين والآخر للآخر. قوله: "فيقول يا رب" في رواية إبراهيم بن سعد في التوحيد "أي رب". قوله: "قد قشبني ريحها" بقاف وشين معجمة مفتوحتين مخففا -وحكى التشديد- ثم موحدة، قال الخطابي: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ يكظمه، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال قشبه إذا سمه، ثم استعمل فيما إذا بلغ الدخان والرائحة الطيبة منه غايته. وقال النووي: معنى قشبني سمني وآذاني وأهلكني، هكذا قاله جماهير أهل اللغة. وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي. قلت: ولا يخفى حسن قول الخطابي، وأما الداودي فكثيرا ما يفسر الألفاظ الغريبة بلوازمها ولا يحافظ على أصول معانيها. وقال ابن أبي جمرة: إذا فسرنا القشب بالنتن والمستقذر كانت فيه إشارة إلى طيب ريح الجنة وهو من أعظم نعيمها، وعكسها النار في جميع ذلك. وقال ابن القطاع: قشب الشيء خلطه بما يفسده من سم أو غيره، وقشب الإنسان لطخه بسوء كاغتابه وعابه، وأصله السم فاستعمل بمعنى أصابه المكروه إذا أهلكه أو أفسده أو غيره أو أزال عقله أو تقذره هو، والله أعلم. قوله: "وأحرقني ذكاؤها" كذا للأصيلي وكريمة هنا بالمد وكذا في رواية إبراهيم بن سعد. وفي رواية أبي ذر وغيره ذكاها بالقصر وهو الأشهر في اللغة. وقال ابن القطاع: يقال ذكت النار تذكو ذكا بالقصر وذكوا بالضم وتشديد الواو أي كثر لهبها واشتد اشتعالها ووهجها، وأما ذكا الغلام ذكاء بالمد فمعناه أسرعت فطنته. قال النووي: المد والقصر لغتان ذكره جماعه فيها، وتعقبه مغلطاي بأنه لم يوجد عن أحد من المصنفين في اللغة ولا في الشارحين لدواوين العرب حكاية المد إلا عن أبي حنيفة الدينوري في "كتاب النبات" في مواضع منها ضرب العرب المثل بجمر الغضا لذكائه، قال: وتعقبه علي بن حمزة الأصبهاني فقال: ذكا النار مقصور ويكتب بالألف لأنه واوي يقال ذكت النار تذكو ذكوا وذكاء النار وذكو النار بمعنى وهو التهابها والمصدر ذكاء وذكو وذكو، بالتخفيف والتثقيل، فأما الذكاء بالمد فلم يأت عنهم في النار وإنما جاء في الفهم. وقال ابن قرقول في "المطالع" وعليه يعتمد الشيخ، وقع في مسلم فقد أحرقني ذكاؤها بالمد والمعروف في شدة حر النار القصر إلا أن الدينوري ذكر فيه المد وخطأه علي بن حمزة فقال: ذكت النار ذكا وذكوا ومنه طيب ذكي منتشر الريح، وأما الذكاء بالمد فمعناه تمام الشيء ومنه ذكاء القلب. وقال صاحب الأفعال: ذكا الغلام والعقل أسرع في الفطنة،

(11/459)


وذكا الرجل ذكاء من حدة فكره، وذكت النار ذكا بالقصر توقدت. قوله: "فاصرف وجهي عن النار" قد استشكل كون وجهه إلى جهة النار والحال أنه ممن يمر على الصراط طالبا إلى الجنة فوجهه إلى الجنة، لكن وقع في حديث أبي أمامة المشار إليه قبل أنه ينقلب على الصراط ظهرا لبطن فكأنه في تلك الحالة انتهى إلى آخره فصادف أن وجهه كان من قبل النار، ولم يقدر على صرفه عنها باختياره فسأل ربه في ذلك. قوله: "فيصرف وجهه عن النار" بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية شعيب "فيصرف الله" ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود عند مسلم وفي حديث أبي سعيد عند أحمد والبزار نحوه أنه "يرفع له شجرة فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: لعلي إن أعطيتك تسألني غيرها، فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأل غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه" وفيه أنه "يدنو منها وأنه يرفع له شجرة أخرى أحسن من الأولى عند باب الجنة ويقول في الثالثة ائذن لي في دخول الجنة" وكذا وقع في حديث أنس الآتي في التوحيد من طريق حميد عنه رفعه: "آخر من يخرج من النار ترفع له شجرة" ونحوه لمسلم من طريق النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد بلفظ: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثلت له شجرة" ويجمع بأنه سقط من حديث أبي هريرة هنا ذكر الشجرات كما سقط من حديث ابن مسعود ما ثبت في حديث الباب من طلب القرب من باب الجنة. قوله: "ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة" في رواية شعيب "قال يا رب قدمني". قوله: "فيقول: أليس قد زعمت" في رواية شعيب "فيقول الله: أليس قد أعطيت العهد والميثاق". قوله: "لعلي إن أعطيتك ذلك" في رواية التوحيد "فهل عسيت إن فعلت بك ذلك أن تسألني غيره" أما "عسيت" ففي سينها الوجهان الفتح والكسر، وجملة "أن تسألني" هي خبر عسى، والمعنى هل يتوقع منك سؤال شيء غير ذلك وهو استفهام تقرير لأن ذلك عادة بني آدم، والترجي راجع إلى المخاطب لا إلى الرب، وهو من باب إرخاء العنان إلى الخصم ليبعثه ذلك على التفكر في أمره والإنصاف من نفسه. قوله: "فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق" يحتمل أن يكون فاعل "شاء" الرجل المذكور أو الله، قال ابن أبي جمرة: إنما بادر للحلف من غير استخلاف لما وقع له من قوة الفرح بقضاء حاجته فوطن نفسه على أن لا يطلب مزيدا وأكده بالحلف. قوله: "فإذا رأى ما فيها سكت" في رواية شعيب "فإذا بلغ بابها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة" وفي رواية إبراهيم بن سعد "من الحبرة" بفتح المهملة وسكون الموحدة، ولمسلم: "الخير" بمعجمة وتحتانية بلا هاء، والمراد أنه يرى ما فيها من خارجها إما لأن جدارها شفاف فيرى باطنها من ظاهرها كما جاء في وصف الغرف، وإما أن المراد بالرؤية العلم الذي يحصل له من سطوع رائحتها الطيبة وأنوارها المضيئة كما كان يحصل له أذى لفح النار وهو خارجها. قوله: "ثم قال" في رواية إبراهيم بن سعد "ثم يقول". قوله: "ويلك" في رواية شعيب "ويحك". قوله: "يا رب لا تجعلني أشقى خلقك" المراد بالخلق هنا من دخل الجنة، فهو لفظ عام أريد به خاص، ومراده أنه يصير إذا استمر خارجا عن الجنة أشقاهم، وكونه أشقاهم ظاهر لو استمر خارج الجنة وهم من داخلها، قال الطيبي: معناه يا رب قد أعطيت العهد والميثاق ولكن تفكرت في كرمك ورحمتك فسألت وقع في الرواية التي في كتاب الصلاة "لا أكون أشقى خلقك" وللقابسي "لأكونن" قال ابن التين المعنى لئن أبقيتني على هذه الحالة ولم تدخلني الجنة لأكونن، والألف في الرواية الأولى زائدة. وقال الكرماني: معناه لا أكون كافرا. قلت: هذا أقرب

(11/460)


مما قال ابن التين ولو استحضر هذه الرواية التي هنا ما احتاج إلى التكلف الذي أبداه، فإن قوله: "لا أكون" لفظه لفظ الخبر ومعناه الطلب، ودل عليه قوله: "لا تجعلني" ووجه كونه أشقى أن الذي يشاهد ما يشاهده ولا يصل إليه يصير أشد حسرة ممن لا يشاهد، وقوله: "خلقك" مخصوص بمن ليس من أهل النار. قوله: "فإذا ضحك منه" تقدم معنى الضحك في شرح الحديث الماضي قريبا. قوله: "ثم يقال له تمن من كذا فيتمنى" في رواية أبي سعيد عند أحمد "فيسأل ويتمنى مقدار ثلاثة أيام من أيام الدنيا" وفي رواية التوحيد "حتى إن الله ليذكره من كذا" وفي حديث أبي سعيد "ويلقنه الله ما لا علم له به". قوله: "قال أبو هريرة" هو موصول السند المذكور. قوله: "وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا" سقط هذا من رواية شعيب. وثبت في رواية إبراهيم بن سعد هنا، ووقع ذلك في رواية مسلم مرتين إحداهما هنا والأخرى في أوله عند قوله: "ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار".قوله: "قال عطاء وأبو سعيد" أي الخدري، والقائل هو عطاء بن يزيد بينه إبراهيم بن سعد في روايته عن الزهري قال: قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري. قوله: "لا يغير عليه شيئا" في رواية إبراهيم بن سعد لا يرد عليه. قوله: "هذا لك ومثله معه، قال أبو سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية إبراهيم بن سعد "قال أبو سعيد وعشرة أمثاله يا أبا هريرة فقال" فذكره، وفيه: "قال أبو سعيد الخدري: أشهد أني حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في حديث أنس عند ابن مسعود "يرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر "انظر إلى ملك أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله، فيقول أتسخر بي وأنت الملك" ووقع عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا في هذا الحديث: "فقال أبو سعيد ومثله معه، فقال أبو هريرة وعشرة أمثاله، فقال أحدهما لصاحبه حدث بما سمعت وأحدث بما سمعت" وهذا مقلوب فإن الذي في الصحيح هو المعتمد وقد وقع عند البزار من الوجه الذي أخرجه منه أحمد على وفق ما في الصحيح. نعم وقع في حديث أبي سعيد الطويل المذكور في التوحيد من طريق أخرى عنه بعد ذكر من يخرج من عصاة الموحدين فقال في آخره: "فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه" فهذا موافق لحديث أبي هريرة في الاقتصار على المثل ويمكن أن يجمع أن يكون عشرة الأمثال إنما سمعه أبو سعيد في حق آخر أهل الجنة دخولا والمذكور هنا في حق جميع من يخرج بالقبضة، وجمع عياص بين حديثي أبي سعيد وأبي هريرة باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أولا قوله: "ومثله معه" فحدت به ثم حدث النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة فسمعه أبو سعيد، وعلى هذا فيقال سمعه أبو سعيد وأبو هريرة معا أولا ثم سمع أبو سعيد الزيادة بعد، وقد وقع في حديث أبي سعيد أشياء كثيرة زائدة على حديث أبي هريرة نبهت على أكثرها فيما تقدم قريبا، وظاهر قوله: "هذا لك وعشرة أمثاله" أن العشرة زائدة على الأصل. ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود "لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا" وحمل على أنه تمنى أن يكون له مثل الدنيا فيطابق حديث أبي سعيد. ووقع في رواية لمسلم عن ابن مسعود "لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها" والله أعلم. وقال الكلاباذي إمساكه أولا عن السؤال حياء من ربه والله يحب أن يسئل لأنه يحب صوت عبده المؤمن فيباسطه بقوله أولا "لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره" وهذه حالة المقصر فكيف حالة المطيع، وليس نقض هذا العبد عهده وتركه ما أقسم عليه جهلا منه ولا قلة مبالاة بل علما منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به، لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاة للقسم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر على يمينه وليأت الذي

(11/461)


هو خير" فعمل هذا العبد على وفق هذا الخبر، والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة. قال ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: في هذا الحديث من الفوائد جواز مخاطبة الشخص بما لا تدرك حقيقته، وجواز التعبير عن ذلك بما يفهمه، وأن الأمور التي في الآخرة لا تشبه بما في الدنيا إلا في الأسماء والأصل مع المبالغة في تفاوت الصفة والاستدلال على العلم الضروري بالنظري، وأن الكلام إذا كان محتملا لأمرين يأتي المتكلم بشيء يتخصص به مراده عند السامع، وأن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، وأن امتثال الأمر في الموقف يقع بالاضطرار. وفيه فضيلة الإيمان لأنه لما تلبس به المنافق ظاهرا بقيت عليه حرمته إلى أن وقع التمييز بإطفاء النور وغير ذلك، وأن الصراط مع دقته وحدته يسع جميع المخلوقين منذ آدم إلى قيام الساعة. وفيه أن النار مع عظمها وشدتها لا تتجاوز الحد الذي أمرت بإحراقه، والآدمي مع حقارة جرمه يقدم على المخالفة ففيه معنى شديد من التوبيخ وهو كقوله تعالى في وصف الملائكة {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وفيه إشارة إلى توبيخ الطغاة والعصاة، وفيه فضل الدعاء وقوة الرجاء في إجابة الدعوة ولو لم يكن الداعي أهلا لذلك في ظاهر الحكم لكن فضل الكريم واسع. وفي قوله في آخره في بعض طرقه: "ما أغدرك" إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم إلا بعد أن يتكرر ذلك منه. وفيه إطلاق اليوم على جزء منه لأن يوم القيامة في الأصل يوم واحد وقد أطلق اسم اليوم على كثير من أجزائه. وفيه جواز سؤال الشفاعة خلافا لمن منع محتجا بأنها لا تكون إلا لمذنب. قال عياض: وفات هذا القائل أنها قد تقع في دخول الجنة بغير حساب وغير ذلك كما تقدم بيانه، مع أن كل عاقل معترف بالتقصير فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره، وكذا كل عامل يخشى أن لا يقبل عمله فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله. قال: ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة وهو خلاف ما درج عليه السلف في أدعيتهم. وفي الحديث أيضا تكليف ما لا يطاق لأن المنافقين يؤمرون بالسجود وقد منعوا منه، كذا قيل وفيه نظر لأن الأمر حينئذ للتعجيز والتبكيت. وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، قال الطيبي: وقول من أثبت الرؤية ووكل علم حقيقتها إلى الله فهو الحق، وكذا قول من فسر الإتيان بالتجلي هو الحق لأن ذلك قد تقدمه قوله: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر" وزيد في تقرير ذلك وتأكيده وكل ذلك يدفع المجاز عنه والله أعلم. واستدل به بعض السالمية ونحوهم على أن المنافقين وبعض أهل الكتاب يرون الله مع المؤمنين، وهو غلط لأن في سياق حديث أبي سعيد أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى بعد رفع رءوسهم من السجود وحينئذ يقولون أنت ربنا، ولا يقع ذلك للمنافقين ومن ذكر معهم، وأما الرؤية التي اشترك فيها الجميع قبل فقد تقدم أنه صورة الملك وغيره. قلت: ولا مدخل أيضا لبعض أهل الكتاب في ذلك لأن في بقية الحديث أنهم يخرجون من المؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإيمان ويقال لهم ما كنتم تعبدون؟ وأنهم يتساقطون في النار، وكل ذلك قبل الأمر بالسجود. وفيه أن جماعة من مذنبي هذه الأمة يعذبون بالنار ثم يخرجون بالشفاعة والرحمة خلافا لمن نفى ذلك عن هذه الأمة وتأول ما ورد بضروب متكلفة، والنصوص الصريحة متضافرة متظاهرة بثبوت ذلك، وأن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار لاختلاف مراتبهم من أخذ النار بعضهم إلى ساقه وأنها لا تأكل أثر السجود، وأنهم يموتون فيكون عذابهم إحراقهم وحبسهم عن دخول الجنة سريعا كالمسجونين، بخلاف الكفار الذين لا يموتون أصلا ليذوقوا العذاب ولا يحيون حياة يستريحون بها، على أن بعض أهل العلم أول ما وقع في حديث أبي سعيد من قوله

(11/462)


يموتون فيها إماتة بأنه ليس المراد أن يحصل لهم الموت حقيقة وإنما هو كناية عن غيبة إحساسهم، وذلك للرفق بهم، أو كني عن النوم بالموت وقد سمى الله النوم وفاة، ووقع في حديث أبي هريرة أنهم إذا دخلوا النار ماتوا فإذا أراد الله إخراجهم أمسهم ألم العذاب تلك الساعة، قال وفيه ما طبع عليه الآدمي من قوة الطمع وجودة الحيلة في تحصيل المطلوب، فطلب أولا أن يبعد من النار ليحصل له نسبة لطيفة بأهل الجنة، ثم طلب الدنو منهم وقد وقع في بعض طرقه طلب الدنو من شجرة بعد شجرة إلى أن طلب الدخول، ويؤخذ منه أن صفات الآدمي التي شرف بها على الحيوان تعود له كلها بعد بعثته كالفكر والعقل وغيرهما، انتهى ملخصا مع زيادات في غضون كلامه والله المستعان.

(11/463)


53 - باب فِي الْحَوْضِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"
7575- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"
[الحديث 6575- طرفاه في 6576، 7049]
6576- و حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَلَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
تَابَعَهُ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَالَ حُصَيْنٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6577- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ"
6578- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدٍ إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"
6579- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا"
6580- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ

(11/463)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنْ الْيَمَنِ وَإِنَّ فِيهِ مِنْ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ"
6581- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ قُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ شَكَّ هُدْبَةُ"
6582- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى عَرَفْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيَقُولُ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
6583- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ"
[الحديث 6583- طرفه في: 7050]
6584- قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ فِيهَا فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ "سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي"
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُحْقًا بُعْدًا يُقَالُ سَحِيقٌ بَعِيدٌ سَحَقَهُ وَأَسْحَقَهُ أَبْعَدَهُ
[الحديث 6584- طرفه في: 7051]
6585- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَبَطِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْ الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لاَ عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى"
[الحديث 6585 طرفه: 6586]
6586- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ

(11/464)


أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ "عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لاَ عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى"
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُجْلَوْنَ وَقَالَ عُقَيْلٌ فَيُحَلَّئُونَ.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6587- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ قُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى فَلاَ أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ"
6588- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"
6589- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"
6590- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ "إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"
6591- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ "كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ"
6592- وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ "عَنْ حَارِثَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ الأَوَانِي قَالَ لاَ قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ تُرَى فِيهِ الْآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ"

(11/465)


6593- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ تَرْجِعُونَ عَلَى الْعَقِبِ"
[الحديث 6593- طرفه في: 7048]
قوله: "باب في الحوض" أي حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع الحوض حياض وأحواض وهو مجمع الماء، وإيراد البخاري لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة وبعد نصب الصراط إشارة منه إلى أن الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط والمرور عليه، وقد أخرج أحمد والترمذي من حديث النضر بن أنس عن أنس قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض" وقد استشكل كون الحوض بعد الصراط بما سيأتي في بعض أحاديث هذا الباب أن جماعة يدفعون عن الحوض بعد أن يكادوا يردون ويذهب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض يكون قد نجا من النار فكيف يرد إليها؟ ويمكن أن يحمل على أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه ويرون النار فيدفعون إلى النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط. وقال أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة": ذهب صاحب "القوت" وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح، أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط والآخر داخل الجنة وكل منهما يسمى كوثرا. قلت: وفيه نظر لأن الكوثر نهر داخل الجنة كما تقدم ويأتي، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أن الحوض يكون قبل الصراط، فإن الناس يردون الموقف عطاشى فيرد المؤمنون الحوض وتتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا ربنا عطشنا، فترفع لهم جهنم كأنها سراب فيقال: ألا تردون؟ فيظنونها ماء فيتساقطون فيها. وقد أخرج مسلم من حديث أبي ذر أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، وله شاهد من حديث ثوبان، وهو حجة على القرطبي لا له، لأنه قد تقدم أن الصراط جسر جهنم وأنه بين الموقف والجنة وأن المؤمنين يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد "ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض" وقد قال القاضي عياض: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحوض "من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا" يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره. قلت: ويدفع هذا الاحتمال أنه وقع في حديث أبي بن كعب عند ابن أبي عاصم في ذكر الحوض "ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا" وعند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند في الحديث الطويل عن لقيط بن عامر أنه "وفد على رسول

(11/466)


الله صلى الله عليه وسلم هو ونهيك بن عاصم، قال: فقدمنا المدينة عند انسلاخ رجب فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الغداة" الحديث بطوله في صفة الجنة والبعث وفيه: "تعرضون عليه بادية له صفا حكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ غرفة من ماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم قطرة، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه مثل الخطام الأسود، ثم ينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار، يطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك أوانه إلا، فيطلعون على حوض الرسول على أظماء والله ناهلة رأيتها أبدا1 ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع على قدح" الحديث. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني والحاكم، وهو صريح في أن الحوض قبل الصراط. قوله: "وقول الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر" أشار إلى أن المراد بالكوثر النهر الذي يصب في الحوض فهو مادة الحوض كما جاء صريحا في سابع أحاديث الباب، ومضى في تفسير سورة الكوثر من حديث عائشة نحوه مع زيادة بيان فيه، وتقدم الكلام على حديث ابن عباس أن الكوثر هو الخير الكثير، وجاء إطلاق الكوثر على الحوض في حديث المختار بن فلفل عن أنس في ذكر الكوثر "هو حوض ترد عليه أمتي" وقد اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة رفعه: "إن لكل نبي حوضا" وأشار إلى أنه اختلف في وصله وإرساله وأن المرسل أصح. قلت: والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضا وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا" ، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن سمرة موصولا مرفوعا مثله وفي سنده لين. وأخرج ابن أبي الدنيا أيضا من حديث أبي سعيد رفعه: "وكل نبي يدعو أمته ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام ومنهم من يأتيه العصبة ومنهم من يأتيه الواحد ومنهم من يأتيه الاثنان ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة" وفي إسناده لين، وإن ثبت فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه فإنه لم ينقل نظيره لغيره ووقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة قال القرطبي في "المفهم" تبعا للقاضي عياض في غالبه: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، إذ روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرا، وأجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف. قلت: أنكره الخوارج وبعض المعتزلة، وممن كان ينكره عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق لمعاوية وولده، فعند أبي داود من طريق عبد السلام بن أبي حازم قال: شهدت أبا برزة الأسلمي دخل على عبيد الله بن زياد فحدثني فلان وكان في السماط فذكر قصة فيها أن ابن زياد ذكر الحوض فقال هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئا؟ فقال أبو برزة: نعم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا فمن كذب به فلا سقاه الله منه. وأخرج البيهقي في البعث
ـــــــ
1 كذا الأصل, ولعل في بعض الكلمات تصحيفا.
غ

(11/467)


من طريق أبي حمزة عن أبي برزة نحوه، ومن طريق يزيد بن حبان التيمي: شهدت زيد بن أرقم وبعث إليه ابن زياد فقال: ما أحاديث تبلغني أنك تزعم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضا في الجنة؟ قال: حدثنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند أحمد من طريق عبد الله بن بريدة عن أبي سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة الهذلي قال: قال عبيد الله بن زياد: ما أصدق بالحوض، وذلك بعد أن حدثه أبو برزة والبراء وعائذ بن عمرو، فقال له أبو سبرة بعثني أبوك في مال إلى معاوية فلقيني عبد الله بن عمرو فحدثني وكتبته بيدي من فيه أنه "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "موعدكم حوضي" الحديث فقال ابن زياد حينئذ: أشهد أن الحوض حق وعند أبي يعلى من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس "دخلت على ابن زياد وهم يذكرون الحوض فقال هذا أنس، فقلت: لقد كانت عجائز بالمدينة كثيرا ما يسألن ربهن أن يسقيهن من حوض نبيهن" وسنده صحيح. وروينا في فوائد العيسوي وهو في البعث للبيهقي من طريقه بسند صحيح عن حميد عن أنس نحوه وفيه: "ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم ينكر الحوض" وأخرج البيهقي أيضا من طريق يزيد الرقاشي عن أنس في صفة الحوض" وسيأتيه قوم ذابلة شفاههم لا يطعمون منه قطرة، من كذب به اليوم لم يصب الشرب منه يومئذ" ويزيد ضعيف لكن يقويه ما مضى، ويشبه أن يكون الكلام الأخير من قول أنس. قال عياض: أخرج مسلم أحاديث الحوض عن ابن عمر وأبي سعيد وسهل بن سعد وجندب وعبد الله بن عمرو وعائشة وأم سلمة وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب والمستورد وأبي ذر وثوبان وأنس وجابر بن سمرة، قال: ورواه غير مسلم عن أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وعبد الله بن زيد وسويد بن جبلة وعبد الله الصنابحي والبراء بن عازب. وقال النووي بعد حكاية كلامه مستدركا عليه: رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما من رواية عمر وعائذ بن عمرو وآخرين، وجمع ذلك كله البيهقي في البعث بأسانيده وطرقه المتكاثرة. قلت: أخرجه البخاري في هذا الباب عن الصحابة الذين نصب عياض لمسلم تخريجه عنهم إلا أم سلمة وثوبان وجابر بن سمرة وأبا ذر، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن زيد وأسماء بنت أبي بكر وأخرجه مسلم عنهما أيضا وأغفلهما عياض، وأخرجاه أيضا عن أسيد بن حضير، وأغفل عياض أيضا نسبة الأحاديث، وحديث أبي بكر عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما، وحديث زيد بن أرقم عند البيهقي وغيره، وحديث خولة بنت قيس عند الطبراني، وحديث أبي أمامة عند ابن حبان وغيره، وأما حديث سويد بن جبلة فأخرجه أبو زرعة الدمشقي في مسند الشاميين وكذا ذكر ابن منده في الصحابة وجزم ابن أبي حاتم بأن حديثه مرسل، وأما حديث عبد الله الصنابحي فغلط عياض في اسمه وإنما هو الصنابح بن الأعسر وحديثه عند أحمد وابن ماجه بسند صحيح ولفظه: "إني فرطكم على الحوض، وإني مكاثر بكم" الحديث فإن كان كما ظننت وكان ضبط اسم الصحابي وأنه عبد الله فتزيد العدة واحدا لكن ما عرفت من خرجه من حديث عبد الله الصنابحي وهو صحابي آخر غير عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي التابعي المشهور وقول النووي إن البيهقي استوعب طرقه يوهم أنه أخرج زيادة على الأسماء التي ذكرها حيث قال وآخرين، وليس كذلك فإنه لم يخرج حديث أبي بكر الصديق ولا سويد ولا الصنابحي ولا خولة ولا البراء، وإنما ذكره عن عمر وعن عائذ بن عمرو وعن أبي برزة ولم أر عنده زيادة إلا من مرسل يزيد بن رومان في نزول قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وقد جاء فيه عمن لم يذكروه جميعا من حديث ابن عباس كما تقدم في تفسير سورة الكوثر، ومن حديث

(11/468)


كعب بن عجرة عند الترمذي والنسائي وصححه الحاكم، ومن حديث جابر بن عبد الله عند أحمد والبزار بسند صحيح وعن بريدة عند أبي يعلى، ومن حديث أخي زيد بن أرقم ويقال إن اسمه ثابت عند أحمد، ومن حديث أبي الدرداء عند ابن أبي عاصم في السنة وعند البيهقي في الدلائل، ومن حديث أبي بن كعب وأسامة بن زيد وحذيفة بن أسيد وحمزة بن عبد المطلب ولقيط بن عامر وزيد بن ثابت والحسن بن علي وحديثه عند أبي يعلى أيضا وأبي بكرة وخولة بنت حكيم كلها عند ابن أبي عاصم، ومن حديث العرباض بن سارية عند ابن حبان في صحيحه، وعن أبي مسعود البدري وسلمان الفارسي وسمرة بن جندب وعقبة ابن عبد وزيد بن أوفى وكلها في الطبراني، ومن حديث خباب بن الأرت عند الحاكم، ومن حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي الدنيا ومن حديث ميمونة أم المؤمنين في الأوسط للطبراني ولفظه: "يرد علي الحوض أطولكن يدا" الحديث، ومن حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد بن منيع في مسنده، وذكره ابن منده في مستخرجه عن عبد الرحمن بن عوف، وذكره ابن كثير في نهايته عن عثمان بن مظعون، وذكره ابن القيم في الحاوي عن معاذ ابن جبل ولقيط بن صبرة وأظنه عن لقيط بن عامر الذي تقدم ذكره، فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفسا، وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه سواء فزادت العدة على الخمسين، ولكثير من هؤلاء الصحابة في ذلك زيادة على الحديث الواحد كأبي هريرة وأنس وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض وفي صفته بعضها وفيمن يرد عليه بعضها وفيمن يدفع عنه بعضها، وكذلك في الأحاديث التي أوردها المصنف في هذا الباب، وجملة طرقها تسعة عشر طوقا، وبلغني أن بعض المتأخرين وصلها إلى رواية ثمانين صحابيا. قوله: "وقال عبد الله بن زيد" هو ابن عاصم المازني. قوله: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" هو طرف من حديث طويل وصله المؤلف في غزوة حنين، وفيه كلام الأنصار لما قسمت غنائم حنين في غيرهم وفيه: "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وشقيق هو أبو وائل المذكور في الطريق الثانية ووقع صريحا عند الإسماعيلي فيهما وعند مسلم في الأول، وعبد الله هو ابن مسعود. الحديث عن ابن مسعود موصولا وعن حذيفة معلقا. والمغيرة هو ابن مقسم الضبي الكوفي. قوله: "وليرفعن" بضم أوله وفتح الفاء والعين أي يظهرهم الله لي حتى أراهم. قوله: "ثم ليختلجن" بفتح اللام وضم التحتانية وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة واللام وضم الجيم بعدها نون ثقيلة أي ينزعون أو يجذبون مني، يقال اختلجه منه إذا نزعه منه أو جذبه بغير إرادته، وسيأتي زيادة في إيضاحه في شرح حديث أنس من رواية عبد العزيز وما بعده وحديث أسماء بنت أبي بكر. قوله: "تابعه عاصم" هو ابن أبي النجود قارئ الكوفة، والضمير للأعمش أي أن عاصما رواه كما رواه الأعمش عن أبي وائل فقال عن عبد الله بن مسعود، قد وصلها الحارث بن أبي أسامة في مسنده من طريق سفيان الثوري عن عاصم. قوله: "وقال حصين" أي ابن عبد الرحمن الواسطي. قوله: "عن أبي وائل عن حذيفة" أي أنه خالف الأعمش وعاصما فقال عن أبي وائل عن حذيفة، وهذه المتابعة وصلها مسلم من طريق حصين، وصنيعه يقتضي أنه عند أبي وائل عن ابن مسعود وعن حذيفة معا، وصنيع البخاري يقتضي ترجيح قول من قال عن أبي وائل عن عبد الله لكونه ساقها موصولة وعلق الأخرى. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله: "أمامكم" بفتح الهمزة أي

(11/469)


قدامكم "حوض" في رواية السرخسي "حوضي" بزيادة ياء الإضافة، والأول هو الذي عند كل من أخرج الحدث كمسلم. قوله: "كما بين جرباء وأذرح" أما جرباء فهي بفتح الجيم وسكون الراء بعدها موحدة بلفظ تأنيث أجرب، قال عياض: جاءت في البخاري ممدودة. وقال النووي في شرح مسلم الصواب أنها مقصورة وكذا ذكرها الحازمي والجمهور، قال والمد خطأ، وأثبت صاحب التحرير المد وجوز القصر، ويؤيد المد قول أبي عبيد البكري هي تأنيث أجرب. وأما أذرح فبفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء بعدها مهملة، قال عياض كذا للجمهور، ووقع في رواية العذري في مسلم بالجيم وهو وهم. قلت: وسأذكر الخلاف في تعيين مكاني هذين الموضعين في آخر الكلام على حديث عبد الله بن عمرو الآتي شرحه إن شاء الله تعالى. حديث ابن عباس، تقدم شرحه في تفسير سورة الكوثر وقوله هنا "هشيم أخبرنا أبو بشر" هو جعفر بن أبي وحشية بفتح الواو وسكون المهملة بعدها معجمة مكسورة ثم تحتانية ثقيلة ثم هاء تأنيث، واسم أبي وحشية إياس. قوله: "وعطاء بن السائب" هو المحدث المشهور كوفي من صغار التابعين صدوق اختلط في آخر عمره، وسماع هشيم منه بعد اختلاطه، ولذلك أخرج له البخاري مقرونا بأبي بشر، وما له عنده إلا هذا الموضع، وقد مضى في تفسير الكوثر من جهة هشيم عن أبي بشر وحده، ولعطاء بن السائب في ذكر الكوثر سند آخر عن شيخ آخر أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه بسند صحيح من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر فذكر الحديث المشار إليه في تفسير الكوثر، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي عوانة عن عطاء قال: قل لي محارب بن دثار ما كان سعيد بن جبير يقول في الكوثر؟ قلت: كان يحدث عن ابن عباس قال: هو الخير الكثير، فقال محارب: حدثنا ابن عمر فذكر الحديث. وأخرجه البيهقي في البعث من طريق حماد بن زيد عن عطاء بن السائب وزاد: فقال محارب سبحان الله ما أقل ما يسقط لابن عباس، فذكر حدث ابن عباس ثم قال: هذا والله هو الخير الكثير. قوله: "نافع" هو ابن عمر الجمحي المكي. قوله: "قال عبد الله بن عمرو" في رواية مسلم من وجه آخر عن نافع بن عمر بسنده عن عبد الله بن عمرو، وقد خالف نافع بن عمر في صحابيه عبد الله بن عثمان بن خثيم فقال: عن ابن أبي مليكة عن عائشة أخرجه أحمد والطبراني، ونافع بن عمر أحفظ من ابن خثيم. قوله: "حوضي مسيرة شهر" زاد مسلم والإسماعيلي وابن حبان في روايتهم من هذا الوجه "وزواياه سواء" وهذه الزيادة تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول، وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا فوقع في حديث أنس الذي بعده "كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وأيلة مدينة كانت عامرة وهي بطرف بحر القلزم من طرف الشام وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر فتكون شماليهم ويمر بها الحاج من غرة وغيرها فتكون أمامهم، ويجلبون إليها الميرة من الكرك والشوبك وغيرهما يتلقون بها الحاج ذهابا وإيابا، وإليها تنسب العقبة المشهورة عند المصريين، وبينها وبين المدينة النبوية نحو الشهر بسير الأثقال إن اقتصروا كل يوم على مرحلة وإلا فدون ذلك، وهي من مصر على أكثر من النصف من ذلك، ولم يصب من قال من المتقدمين إنها على النصف مما بين مصر ومكة بل هي دون الثلث فإنها أقرب إلى مصر. ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن أيلة شعب من جبل رضوى الذي في ينبع، وتعقب بأنه اسم وافق اسما، والمراد بأيلة في الخبر هي المدينة الموصوفة آنفا، وقد ثبت ذكرها في صحيح مسلم في قصة غزوة تبوك وفيه: "أن صاحب أيلة جاء إلى رسول الله

(11/470)


صلى الله عليه وسلم وصالحه" وتقدم لها ذكر أيضا في كتاب الجمعة. وأما صنعاء فإنما قيدت في هذه الرواية باليمن احترازا من صنعاء التي بالشام، والأصل فيها صنعاء اليمن لما هاجر أهل اليمن في زمن عمر عند فتوح الشام نزل أهل صنعاء في مكان من دمشق فسمي باسم بلدهم، فعلى هذا فمن في قوله في هذه الرواية من اليمن" إن كانت ابتدائية فيكون هذا اللفظ مرفوعا وإن كانت بيانية فيكون مدرجا من قول بعض الرواة والظاهر أنه الزهري. ووقع في حديث جابر بن سمرة أيضا: "كما بين صنعاء وأيلة" وفي حديث حذيفة مثله لكن قال: "عدن" بدل صنعاء، وفي حديث أبي هريرة "أبعد من أيلة إلى عدن" وعدن بفتحتين بلد مشهور على ساحل البحر في أواخر سواحل اليمن وأوائل سواحل الهند وهي تسامت صنعاء وصنعاء في جهة الجبال، وفي حديث أبي ذر "ما بين عمان إلى أيلة" وعمان بضم المهملة وتخفيف النون بلد على ساحل البحر من جهة البحرين، وفي حديث أبي بردة عند ابن حبان: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء مسيرة شهر" وهذه الروايات متقاربة لأنها كلها نحو شهر أو تزيد أو تنقص. ووقع في روايات أخرى التحديد بما هو دون ذلك: فوقع في حديث عقبة ابن عامر عند أحمد "كما بين أيلة إلى الجحفة" وفي حديث جابر "كما بين صنعاء إلى المدينة" وفي حديث ثوبان "ما بين عدن وعمان البلقاء" ونحوه لابن حبان عن أبي أمامة. وعمان هذه بفتح المهملة وتشديد الميم للأكثر وحكي تخفيفها، وتنسب إلى البلقاء لقربها منها. والبلقاء بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها قاف وبالمد بلدة معروفة من فلسطين، وعند عبد الرزاق في حديث ثوبان "ما بين بصرى إلى صنعاء أو ما بين أيلة إلى مكة" وبصرى بضم الموحدة وسكون المهملة بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز تقدم ضبطها في بدء الوحي، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد "بعد ما بين مكة وأيلة" وفي لفظ: "ما بين مكة وعمان" وفي حديث حذيفة بن أسيد "ما بين صنعاء إلى بصرى" ومثله لابن حبان في حديث عتبة بن عبد. وفي رواية الحسن عن أنس عند أحمد "كما بين مكة إلى أيلة أو بين صنعاء ومكة" وفي حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة وابن ماجه: "ما بين الكعبة إلى بيت المقدس" وفي حديث عتبة بن عبد عند الطبراني "كما بين البيضاء إلى بصرى" والبيضاء بالقرب من الربذة البلد المعروف بين مكة والمدينة، وهذه المسافات متقاربة وكلها ترجع إلى نحو نصف شهر أو تزيد على ذلك قليلا أو تنقص، وأقل ما ورد في ذلك ما وقع في رواية لمسلم في حديث ابن عمر من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر بسنده كما تقدم وزاد قال: قال عبيد الله فسألته قال قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، ونحوه له في رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر لكن قال: "ثلاث ليال" وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف فقال عياض: هذا من اختلاف التقدير لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعد اضطرابا من الرواة وإنما جاء في أحاديث مختلفة عن غير واحد من الصحابة سمعوه في مواطن مختلفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في كل منهما مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته بما يسنح له من العبارة وبقرب ذلك للعلم ببعد بين البلاد النائية بعضها من بعض لا على إرادة المسافة المحققة، قال فبهذا يجمع بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى انتهى ملخصا، وفيه نظر من جهة أن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وأما هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة على ثلاثين يوما وينقص إلى ثلاثة أيام فلا، قال القرطبي: ظن بعض القاصرين أن الاختلاف في قدر الحوض اضطراب وليس كذلك، ثم نقل كلام عياض وزاد: وليس اختلافا بل كلها تفيد أنه كبير متسع متباعد الجوانب، ثم قال: ولعل ذكره للجهات المختلفة بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهة فيخاطب كل قوم بالجهة

(11/471)


التي يعرفونها، وأجاب النووي بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة. وحاصله أنه يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة ثم أعلم بالمسافة الطويلة فأخبره بها كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئا بعد شيء فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة. وتقدم قول من جمع الاختلاف بتفاوت الطول والعرض ورده بما في حديث عبد الله بن عمرو "زواياه سواء". ووقع أيضا في حديث النواس بن سمعان وجابر وأبي برزة وأبي ذر "طوله وعرضه سواء" وجمع غيره بين الاختلافين الأولين باختلاف السير البطيء وهو سير الأثقال والسير السريع وهو سير الراكب المخف ويحمل رواية أقلها وهو الثلاث على سير البريد فقد عهد منهم من قطع مسافة الشهر في ثلاثة أيام ولو كان نادرا جدا، وفي هذا الجواب عن المسافة الأخيرة نظر وهو فيما قبله مسلم وهو أولى ما يجمع به، وأما مسافة الثلاث فإن الحافظ ضياء الدين المقدسي ذكر في الجزء الذي جمعه في الحوض أن في سياق لفظها غلطا وذلك الاختصار وقع في سياقه من بعض رواته، ثم ساقه من حديث أبي هريرة وأخرجه من "فوائده عبد الكريم بن الهيثم الديرعاقولي" بسند حسن إلى أبي هريرة مرفوعا في ذكر الحوض فقال فيه: "عرضه مثل ما بينكم وبين جرباء وأذرح" قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره كما بين مقامي وبين جرباء وأذرح، فسقط مقامي وبين. وقال الحافظ صلاح الدين العلائي بعد أن حكى قول ابن الأثير في النهاية هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام ثم غلطه في ذلك وقال: ليس كما قال بل بينهما غلوة سهم وهما معروفتان بين القدس والكرك، قال: وقد ثبت القدر المحذوف عند الدار قطني وغيره بلفظ: "ما بين المدينة وجرباء وأذرح". قلت: وهذا يوافق رواية أبي سعيد عند ابن ماجه:" كما بين الكعبة وبيت المقدس "وقد وقع ذكر جرباء وأذرح في حديث آخر عند مسلم وفيه: "وافى أهل جرباء وأذرح بحرسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" ذكره في غزوة تبوك، وهو يؤيد قول العلائي أنهما متقاربتان. وإذا تقرر ذلك رجع جميع المختلف إلى أنه لاختلاف السير البطيء والسير السريع، وسأحكي كلام ابن التين في تقدير المسافة بين جرباء وأذرح في شرح الحديث السادس عشر والله أعلم. قوله: "ماؤه أبيض من اللبن" قال المازري: مقتضى كلام النحاة أن يقال أشد بياضا ولا يقال أبيض من كذا، ومنهم من أجازه في الشعر، ومنهم من أجازه بقلة ويشهد له هذا الحديث وغيره. قلت: ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، فقد وقع في رواية أبي ذر عند مسلم بلفظ أشد بياضا من اللبن، وكذا لابن مسعود عند أحمد، وكذا لأبي أمامة عند ابن أبي عاصم. قوله: "وريحه أطيب من المسك" في حديث ابن عمر عند الترمذي "أطيب ريحا من المسك" ومثله في حديث أبي أمامة عند ابن حبان رائحة وزاد ابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا في حديث بريدة "وألين من الزبد" وزاد مسلم من حديث أبي ذر وثوبان "وأحلى من العسل" ومثله لأحمد عن أبي بن كعب، وله عن أبي أمامة "وأحلى مذاقا من العسل" وزاد أحمد في حديث ابن عمرو من حديث ابن مسعود "وأبرد من الثلج" وكذا في حديث أبي برزة، وعند البزار من رواية عدي بن ثابت عن أنس، ولأبي يعلى من وجه آخر عن أنس وعند الترمذي في حديث ابن عمر "وماؤه أشد بردا من الثلج". قوله: "وكيزانه كنجوم السماء" في حديث أنس الذي بعده "وفيه من الأباريق كعدة نجوم السماء" ولأحمد من رواية الحسن عن أنس "أكثر من عدد نجوم السماء" وفي حديث المستورد في أواخر الباب: "فيه الآنية مثل الكواكب" ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن

(11/472)


ابن عمر "فيه أباريق كنجوم السماء". قوله: "من شرب منها" أي من الكيزان. وفي رواية الكشميهني: "من شرب منه" أي من الحوض "فلا يظمأ أبدا" في حديث سهل بن سعد الآتي قريبا "من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا" وفي رواية موسى ابن عقبة "من ورده فشرب لم يظمأ بعدها أبدا" وهذا يفسر المراد بقوله: "من مر به شرب" أي من مر به فمكن من شربه فشرب لا يظمأ أو من مكن من المرور به شرب، وفي حديث أبي أمامة "ولم يسود وجه أبدا" وزاد ابن أبي عاصم في حديث أبي بن كعب "من صرف عنه لم يرو أبدا" ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي الدنيا "أول من يرد عليه من يسقي كل عطشان". قوله: "يونس" هو ابن يزيد. قوله: "حدثني أنس" هذا يدفع تعليل من أعله بأن ابن شهاب لم يسمعه من أنس لأن أبا أويس رواه عن ابن شهاب عن أخيه عبد الله بن مسلم عن أنس أخرجه ابن أبي عاصم، وأخرجه الترمذي من طريق محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي الزهري عن أبيه به، والذي يظهر أنه كان عند ابن شهاب عن أخيه عن أنس ثم سمعه عن أنس فإن بين السياقين اختلافا؛ وقد ذكر ابن أبي عاصم أسماء من رواه عن ابن شهاب عن أنس بلا واسطة فزادوا على عشرة. حديث أنس من رواية قتادة عنه، قوله: "بينا أنا أسير في الجنة" تقدم تفسير سورة الكوثر أن ذلك كان ليلة أسري به وفي أواخر الكلام على حديث الإسراء في أوائل الترجمة النبوية، وظن الداودي أن المراد أن ذلك يكون يوم القيامة فقال: إن كان هذا محفوظا دل على أن الحوض الذي يدفع عنه أقوام غير النهر الذي في الجنة أو يكون يراهم وهو داخل الجنة وهم من خارجها فيناديهم فيصرفون عنه. وهو تكلف عجيب يغني عنه أن الحوض الذي هو خارج الجنة يمد من النهر الذي هو داخل الجنة فلا إشكال أصلا، وقوله في آخره: "طيبه أو طينه" شك هدبة هل هو بموحدة من الطيب أو بنون من الطين وأراد بذلك أن أبا الوليد لم يشك في روايته أنه بالنون وهو المعتمد، وتقدم في تفسير سورة الكوثر من طريق شيبان عن قتادة "فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكا أذفر" وأخرج البيهقي في البعث من طريق عبد الله بن مسلم عن أنس بلفظ: "ترابه مسك". حديث أنس أيضا من رواية عبد العزيز وهو ابن صهيب عنه، قوله: "أصيحابي" بالتصغير. وفي رواية الكشميهني: "أصحابي" بغير تصغير. قوله: "فيقول" في رواية الكشميهني: "فيقال" وقد ذكر شرح ما تضمنه في شرح حديث ابن عباس. حديث سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري من رواية أبي حازم عن سهل وعن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد. قوله: "فأقول سحقا سحقا" بسكون الحاء المهملة فيهما ويجوز ضمها ومعناه بعدا بعدا، ونصب بتقدير ألزمهم الله ذلك. قوله: "وقال ابن عباس سحقا بعدا" وصله ابن أبي حاتم من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظه. قوله: "يقال سحيق بعيد" هو كلام أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} السحيق البعيد والنخلة السحوق الطويلة. قوله: "سحقه وأسحقه أبعده" ثبت هذا في رواية الكشميهني وهو من كلام أبي عبيدة أيضا قال: يقال سحقه الله وأسحقه أي أبعده، ويقال بعد وسحق إذا دعوا عليه، وسحقته الريح أي طردته. وقال الإسماعيلي: يقال سحقه إذا اعتمده عليه بشيء ففتنه وأسحقه أبعده، وقد تقدم شرح حديث ابن عباس في هذا في "باب كيف الحشر". قوله: "وقال أحمد بن شبيب إلخ" وصله أبو عوانة عن أبي زرعة الرازي وأبي الحسن الميموني قالا "حدثنا أحمد بن شبيب به" ويونس هو ابن يزيد نسبه أبو عوانة في روايته هذه، وكذا

(11/473)


أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طرق عن أحمد بن شبيب. قوله: "فيجلون" بضم أوله وسكون الجيم وفتح اللام أي يصرفون. وفي رواية الكشميهني بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام بعدها همزة مضمومة قبل الواو وكذا للأكثر ومعناه يطردون، وحكى ابن التين أن بعضهم ذكره بغير همزة قال: وهو في الأصل مهموز فكأنه سهل الهمزة. قوله: "إنهم ارتدوا" هذا يوافق تفسير قبيصة الماضي في "باب كيف الحشر". قوله: "على أعقابهم" في رواية الإسماعيلي: "على أدبارهم". قوله: "وقال شعيب" هو ابن أبي حمزة عن الزهري يعني بسنده وصله الذهلي في "الزهريات" وهو بسكون الجيم أيضا، وقيل بالخاء المعجمة المفتوحة بعدها لأم ثقيلة وواو ساكنة وهو تصحيف. قوله: "وقال عقيل" هو ابن خالد يعني عن ابن شهاب بسنده يحلؤن يعني بالحاء المهملة والهمزة قوله: "وقال الزبيدي" هو محمد بن الوليد، ومحمد بن علي شيخ الزهري فيه هو أبو جعفر الباقر، وشيخه عبيد الله هو ابن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الجياني أنه وقع في رواية القابسي والأصيلي عن المروزي عبد الله بن أبي رافع بسكون الموحدة وهو خطأ، وفي السند ثلاثة من التابعين مدنيون في نسق، فالزهري والباقر قرينان وعبيد الله أكبر منهما، وطريق الزبيدي المشار إليها وصلها الدار قطني في الأفراد من رواية عبد الله بن سالم عنه كذلك، ثم ساق المصنف الحديث من طريق ابن وهب عن يونس مثل رواية شبيب عن يونس لكن لم يسم أبا هريرة بل قال: "عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحاصل الاختلاف أن ابن وهب وشبيب بن سعيد اتفقا في روايتهما عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، ثم اختلفا فقال ابن سعيد "عن أبي هريرة" وقال ابن وهب عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر لأن في رواية ابن وهب زيادة على ما تقتضيه رواية ابن سعيد، وأما رواية عقيل وشعيب فإنما تخالفتا في بعض اللفظ، وخالف الجميع الزبيدي في السند، فيحمل على أنه كان عند الزهري بسندين فإنه حافظ وصاحب حديث، ودلت رواية الزبيدي على أن شبيب بن سعيد حفظ فيه أبا هريرة. وقد أعرض مسلم عن هذه الطرق كلها وأخرج من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: "إني لأذود عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة عن الإبل" وأخرجه من وجه آخر عن أبي هريرة في أثناء حديث، وهذا المعنى لم يخرجه البخاري مع كثرة ما أخرج من الأحاديث في ذكر الحوض، والحكمة في الذود المذكور أنه صلى الله عليه وسلم يريد أنه يرشد كل أحد إلى حوض نبيه على ما تقدم أن لكل نبي حوضا وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم فيكون ذلك من جملة إنصافه ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض والعلم عند الله تعالى. حديث أبي هريرة أخرجه من رواية فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء ابن يسار عنه ورجال سنده كلهم مدنيون، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وأبي نعيم وسائر من استخرج على الصحيح فأخرجوه من عدة طرق عن البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه. قوله: "بينا أنا نائم" كذا بالنون للأكثر وللكشميهني: "قائم" بالقاف وهو أوجه، والمراد به قيامه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة. قوله: "ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم" المراد بالرجل الملك الموكل بذلك، ولم أقف على اسمه. قوله: "إنهم ارتدوا القهقرى" أي رجعوا إلى خلف، ومعنى قولهم رجع القهقرى رجع الرجوع المسمى بهذا الاسم وهو رجوع مخصوص وقيل معناه العدو الشديد. قوله: "فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم" يعني من هؤلاء الذين دنوا من الحوض

(11/474)


وكادوا يردونه فصدوا عنه، والهمل بفتحتين الإبل بلا راع. وقال الخطابي: الهمل ما لا يرعى ولا يستعمل ويطلق على الضوال، والمعنى أنه لا يرده منهم إلا القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره. حديث أبي هريرة "ما بين بيتي ومنبري" وفيه: "ومنبري على حوضي" تقدم شرحه في أواخر الحج والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها، أو أنه على المجاز لكون العبادة فيه تئول إلى دخول العابد روضة الجنة وهذا فيه نظر إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها، وقيل فيه تشبيه محذوف الأداة أي هو كروضة لأن من يقعد فيها من الملائكة ومؤمني الإنس والجن يكثرون الذكر وسائر أنواع العبادة. وقال الخطابي المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة وأن من لازم ذكر الله في مسجدها آل به إلى روضة الجنة وسقي يوم القيامة من الحوض. حديث جندب، وعبد الملك راويه عنه هو ابن عمير الكوفي، والفرط بفتح الفاء والراء السابق. قوله: "يزيد" هو ابن أبي حبيب، وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله اليزني، وعقبة ابن عامر هو الجهني، وقد مر شرحه في كتاب الجنائز فيما يتعلق بالصلاة على الشهداء، وفي علامات النبوة فيما يتعلق بذلك، وقد تقدم الكلام على المنافسة في شرح حديث أبي سعيد في أوائل كتاب الرقاق هذا. قوله: "والله إني لأنظر إلى حوضي الآن" يحتمل أنه كشف له عنه لما خطب وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يريد رؤية القلب. وقال ابن التين: النكتة في ذكره عقب التحذير الذي قبله أنه يشير إلى تحذيرهم من فعل ما يقتضي إبعادهم عن الحوض، وفي الحديث عدة أعلام من أعلام النبوة كما سبق. قوله: "معبد بن خالد" هو الجدلي بفتح الجيم والمهملة من ثقات الكوفيين، ولهم معبد بن خالد اثنان غيره أحدهما أكبر منه وهو صحابي جهني والآخر أصغر منه وهو أنصاري مجهول. قوله: "حارثة بن وهب" هو الخزاعي، صحابي نزل الكوفة له أحاديث، وكان أخا عبيد الله بالتصغير ابن عمر بن الخطاب لأمه. قوله: "كما بين المدينة وصنعاء" قال ابن التين: يرد صنعاء الشام. قلت: ولا بعد في حمله على المتبادر هو صنعاء اليمن لما تقدم توجيهه، وقد تقدم في الحديث الخامس التقييد بصنعاء اليمن فليحمل المطلق عليه، ثم قال يحتمل أن يكون ما بين المدينة وصنعاء الشام قدر ما بينها وصنعاء اليمن وقدر ما بينها وبين أيلة وقدر ما بين جرباء وأذرح انتهى. وهو احتمال مردود فإنها متفاوتة إلا ما بين المدينة وصنعاء وبينها وصنعاء الأخرى والله أعلم. قوله: "وزاد ابن أبي عدي" هو محمد بن إبراهيم، وأبو عدي جده لا يعرف اسمه، ويقال بل هي كنية أبيه إبراهيم، وهو بصري ثقة كثير الحديث، وقد وصله مسلم والإسماعيلي من طريقه. قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال حوضه" كذا لهم وفيه التفات. ووقع في رواية مسلم: "حوضي". قوله: "فقال له المستورد" بضم الميم وسكون المهملة وفتح المثناة بعدها واو ساكنة ثم راء مكسورة ثم مهملة هو ابن شداد بن عمرو بن حسل بكسر أوله وسكون ثانيه وإهمالهما ثم لام القرشي الفهري، صحابي بن صحابي، شهد فتح مصر وسكن الكوفة، ويقال مات سنة خمس وأربعين، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وحديثه مرفوع وإن لم يصرح به، وقد تقدم البحث فيما زاده من ذكر الأواني. قوله: "عن أسماء بنت أبي بكر" جمع مسلم بين حديث ابن أبي مليكة عن عبد الله ابن عمرو وحديثه عن أسماء، فقدم ذكر حديث عبد الله بن عمرو في صفة الحوض ثم قال بعد قوله لم يظمأ بعدها أبدا" قال وقالت أسماء بنت

(11/475)


أبي بكر" فذكره. قوله: "وسيؤخذ ناس دوني" هو مبين لقوله في حديث ابن مسعود في أوائل الباب ثم ليختلجن دوني وأن المراد طائفة منهم. قوله: "فأقول: يا رب مني ومن أمتي" فيه دفع لقول من حملهم على غير هذه الأمة. قوله: "هل شعرت ما عملوا بعدك" فيه إشارة إلى أنه لم يعرف أشخاصهم بأعيانها وإن كان قد عرف أنهم من هذه الأمة بالعلامة. قوله: "ما برحوا يرجعون على أعقابهم" أي يرتدون كما في حديث الآخرين. قوله: "قال ابن أبي مليكة" هو موصول بالسند المذكور، فقد أخرجه مسلم بلفظ: "قال فكان ابن أبي مليكة يقول". قوله: "أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا" أشار بذلك إلى أن الرجوع على العقب كناية عن مخالفة الأمر الذي تكون الفتنة سببه فاستعاذ منهما جميعا. قوله: "على أعقابكم تنكصون ترجعون على العقب" هو تفسير أبي عبيدة للآية وزاد: نكص رجع على عقبيه. "تنبيه": أخرج مسلم والإسماعيلي هذا الحديث عقب حديث عبد الله بن عمرو وهو الخامس، وكأن البخاري أخر حديث أسماء إلى آخر الباب لما في آخره من الإشارة الأخرية الدالة على الفراغ كما جرى بالاستقراء من عادته أنه يختم كل كتاب بالحديث الذي تكون فيه الإشارة إلى ذلك بأي لفظ اتفق.والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الرقاق من الأحاديث المرفوعة على مائة وثلاثة وتسعين حديثا، المعلق منها ثلاثة وثلاثون طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة وأربعة وثلاثون والخالص تسعة وخمسون وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر "كن في الدنيا كأنك غريب "وحديث ابن مسعود في الخالط وكذا حديث أنس فيه وحديث أبي بن كعب في نزول {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وحديث ابن مسعود "أيكم مال وارثه أحب إليه" وحديث أبي هريرة "أعذر الله إلى امرئ" وحديثه "الجنة أقرب إلى أحدكم" وحديثه "ما لعبدي المؤمن إذا قبضت صفيه" وحديث عبد الله بن الزبير "لو كان لابن آدم واد من ذهب" وحديث سهل بن سعد "من يضمن لي" وحديث أنس "إنكم لتعملون أعمالا" وحديث أبي هريرة "من عادى لي وليا" وحديثه "بعثت أنا والساعة كهاتين" وحديث في بعث النار، وحديث عمران في الجهنميين، وحديث أبي هريرة "لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده" وحديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة فيمن يدفع عن الحوض فإن فيه زيادات ليست عند مسلم. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(11/476)


كتاب القدر
باب
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
82 – كِتَاب الْقَدَرِ
1 - بَاب فِي الْقَدَرِ
6594- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا قَالَ آدَمُ إِلاَّ ذِرَاعٌ"
6595- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القدر" زاد أبو ذر عن المستملي باب في القدر وكذا للأكثر دون قوله: "كتاب القدر". والقدر بفتح القاف والمهملة قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلا والقول نقلا، وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول، وقدر الله الشيء بالتشديد قضاه ويجوز بالتخفيف. وقال ابن القطاع قدر الله الشيء جعله بقدر والرزق صنعه وعلى الشيء ملكه. ومضى في "باب التعوذ من جهد البلاء" في كتاب الدعوات ما قال ابن بطال في التفرقة بين القضاء والقدر. وقال الكرماني: المراد بالقدر حكم الله. وقالوا -أي العلماء- القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله. وقال أبو المظفر بن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاره في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها. انتهى وقد أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا ذكر القدر فأمسكوا" وأخرج مسلم من طريق طاووس: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول:

(11/477)


"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس". قلت: والكيس بفتح الكاف ضد العجز ومعناه الحذق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غاية لذلك للإشارة إلى أن أفعالنا وإن كانت معلومة لنا ومرادة منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله، وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعا وموقوفا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فإن هذه الآية نص في أن الله خالق كل شيء ومقدره وهو أنص من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة "جاء مشركو قريش يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت". وقد تقدم في الكلام على سؤال جبريل في كتاب الإيمان شيء من هذا وأن الإيمان بالقدر من أركان الأيمان، وذكر هناك بيان مقالة القدرية بما أغنى عن إعادته. ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . قوله: "أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "أنبأني سليمان الأعمش" سيأتي في التوحيد من رواية آدم عن شعبة بلفظ: "حدثنا الأعمش" ويؤخذ منه أن التحديث والإنباء عند شعبة بمعنى واحد، ويظهر به غلط من نقل عن شعبة أنه يستعمل الإنباء في الإجازة لكونه صرح بالتحديث، ولثبوت النقل عنه أنه لا يعتبر الإجازة ولا يروى بها. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود، ووقع في رواية آدم "سمعت عبد الله بن مسعود". قوله: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق" قال الطيبي: يحتمل أن تكون الجملة حالية ويحتمل أن تكون اعتراضية وهو أولى لتعم الأحوال كلها وأن ذلك من دأبه وعادته، والصادق معناه المخبر بالقول الحق، ويطلق على الفعل يقال صدق القتال وهو صادق فيه، والمصدوق معناه الذي يصدق له في القول يقال: صدقته الحديث إذا أخبرته به إخبارا جازما، أو معناه الذي صدقه الله تعالى وعده. وقال الكرماني: لما كان مضمون الخبر أمرا مخالفا لما عليه الأطباء أشار بذلك إلى بطلان ما ادعوه، ويحتمل أنه قال ذلك تلذذا به وتبركا وافتخارا، ويؤيده وقوع هذا اللفظ بعينه في حديث أنس ليس فيه إشارة إلى بطلان شيء يخالف ما ذكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة "سمعت الصادق المصدوق يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي" ومضى في علامات النبوة من حديث أبي هريرة "سمعت الصادق المصدوق يقول هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش" وهذا الحديث اشتهر عن الأعمش بالسند المذكور هنا، قال علي بن المديني في "كتاب العلل": كنا نظن أن الأعمش تفرد به حتى وجدناه من رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب. قلت: وروايته عند أحمد والنسائي، ورواه حبيب بن حسان عن زيد بن وهب أيضا وقع لنا في "الحلية"، ولم ينفرد به زيد عن ابن مسعود بل رواه عنه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عند أحمد، وعلقمة عند أبي يعلى، وأبو وائل في فوائد تمام، ومخارق بن سليم وأبو عبد الرحمن السلمي كلاهما عند الفريابي في كتاب القدر، وأخرجه أيضا من رواية طارق ومن رواية أبي الأحوص الجشمي كلاهما عن عبد الله مختصرا، وكذا لأبي الطفيل عند مسلم، وناجية بن كعب في "فوائد العيسوي" وخيثمة بن عبد الرحمن عند الخطابي وابن أبي حاتم، ولم يرفعه بعض هؤلاء عن ابن مسعود؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود جماعة من الصحابة مطولا ومختصرا، منهم أنس وقد ذكر عقب هذا، وحذيفة بن أسيد عند مسلم، وعبد الله بن عمر في القدر لابن

(11/478)


وهب، وفي أفراد الدار قطني، وفي مسند البزار من وجه آخر ضعيف، والفريابي بسند قوي، وسهل بن سعد وسيأتي في هذا الكتاب، وأبو هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد بسند صحيح، وأبو ذر عند الفريابي، ومالك بن الحويرث عند أبي نعيم في الطب والطبراني، ورباح اللخمي عند ابن مردويه في التفسير، وابن عباس في فوائد المخلص من وجه ضعيف، وعلى في الأوسط للطبراني من وجه ضعيف، وعبد الله بن عمرو في الكبير بسند حسن، والعرس بن عميرة عند البزار بسند جيد، وأكثم بن أبي الجون عند الطبراني، وابن منده بسند حسن، وجابر عند الفريابي، وقد أشار الترمذي في الترجمة إلى أبي هريرة وأنس فقط، وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن بضع وعشرين نفسا من أصحاب الأعمش منهم من أقرانه سليمان التيمي وجرير بن حازم وخالد الحداء، ومن طبقة شعبة الثوري وزائدة وعمار بن زريق وأبو خيثمة، ومما لم يقع لأبي عوانة رواية شريك عن الأعمش وقد أخرجها النسائي في التفسير، ورواية ورقاء بن عمر ويزيد بن عطاء وداود بن عيسى أخرجها تمام، وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفسا عن الأعمش فغاب عني الآن، ولو أمعنت التتبع لزادوا على ذلك. قوله: "إن أحدكم" قال أبو البقاء في إعراب المسند: لا يجوز في أن إلا الفتح لأنه مفعول حدثنا فلو كسر لكان منقطعا عن قوله حدثنا، وجزم النووي في شرح مسلم بأنه بالكسر على الحكاية وجوز الفتح، وحجة أبي البقاء أن الكسر على خلاف الظاهر ولا يجوز العدول عنه إلا لمانع، ولو جاز من غير أن يثبت به النقل لجاز في مثل قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} وقد اتفق القراء على أنها بالفتح. وتعقبه الخوبي بأن الرواية جاءت بالفتح وبالكسر فلا معنى للرد. قلت: وقد جزم ابن الجوزي بأنه في الرواية بالكسر فقط، قال الخوبي: ولو لم تجيء به الرواية لما امتنع جوازا على طريق الرواية بالمعنى، وأجاب عن الآية بأن الوعد مضمون الجملة وليس بخصوص لفظها فلذلك اتفقوا على الفتح، فأما هنا فالتحديث يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه. قوله: "يجمع في بطن أمه" كذا لأبي ذر عن شيخيه، وله عن الكشميهني: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه" وهي روية آدم في التوحيد وكذا للأكثر عن الأعمش. وفي رواية أبي الأحوص عنه "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" وكذا لأبي معاوية ووكيع وابن نمير. وفي رواية ابن فضيل ومحمد بن عبيد عند ابن ماجه: "إنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه" وفي رواية شريك مثل آدم لكن قال: "ابن آدم" يدل "أحدكم" والمراد بالجمع ضم بعضه إلى بعض بعد الانتشار. وفي قوله: "خلق" تعبير بالمصدر عن الجثة وحمل على أنه بمعنى المفعول كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير أي مضروبه، أو على حذف مضاف أي ما يقوم به خلق أحدكم، أو أطلق مبالغة كقوله: "وإنما هي إقبال وإدبار" جعلها نفس الإقبال والإدبار لكثرة وقوع ذلك منها، قال القرطبي في "المفهم": المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم. قوله: "أربعين يوما" زاد في رواية آدم "أو أربعين ليله" وكذا لأكثر الرواة عن شعبة بالشك. وفي رواية يحيى القطان ووكيع وجرير وعيسى بن يونس "أربعين يوما" بغير شك. وفي رواية سلمة بن كهيل "أربعين ليلة" بغير شك، ويجمع بأن المراد يوم بليلته أو ليلة بيومها، ووقع عند أبي عوانة من رواية وهب بن جرير عن شعبة مثل رواية آدم لكن زاد: "نطفة" بين قوله: "أحدكم" وبين قوله: "أربعين" فبين أن الذي يجمع هو النطفة، والمراد بالنطفة المني وأصله الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع وأراد الله أن

(11/479)


يخلق من ذلك جنينا هيأ أسباب ذلك، لأن في رحم المرأة قوتين: قوة انبساط عند ورود مني الرجل حتى ينتشر في جسد المرأة، وقوة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسا ومع كون المني ثقيلا بطبعه، وفي مني الرجل قوة الفعل وفي مني المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة للبن، وقيل في كل منهما قوة فعل وانفعال لكن الأول في الرجل أكثر وبالعكس في المرأة، وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك، وما ذكر أولا أقرب إلى موافقة الحديث والله أعلم. قال ابن الأثير في النهاية: يجوز أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم، أي تمكس النطفة أربعين يوما تخمر فيه حتى تتهيأ للتصوير ثم تخلق بعد ذلك، وقيل إن ابن مسعود فسره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تنزل دما في الرحم فذلك جمعها. قلت: هذا التفسير ذكره الخطابي، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير من رواية الأعمش أيضا عن خيثمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، وقوله: "فذلك جمعها" كلام الخطابي أو تفسير بعض رواة حديث الباب وأظنه الأعمش، فظن ابن الأثير أن تتمة كلام ابن مسعود فأدرجه فيه، ولم يتقدم عن ابن مسعود في رواية خيثمة ذكر الجمع حتى يفسره، وقد رجح الطيبي هذا التفسير فقال: الصحابي أعلم بتفسير ما سمع وأحق بتأويله وأولى بقبول ما يتحدث به وأكثر احتياطا في ذلك من غيره فليس لمن بعده أن يتعقب كلامه. قلت: وقد وقع في حديث مالك بن الحويرث رفعه ما ظاهره يخالف التفسير المذكور ولفظه: "إذا أراد الله خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ثم أحضره كل عرق له دون آدم {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وفي لفظ: "ثم تلا: {أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وله شاهد من حديث رباح اللخمي لكن ليس فيه ذكر يوم السابع. وحاصله أن في هذا زيادة تدل على أن الشبه يحصل في اليوم السابع، وأن فيه ابتداء جمع المني، وظاهر الروايات الأخرى أن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين. وقد وقع في رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود أن النطفة التي تقضي منها النفس إذا وقعت في الرحم كانت في الجسد أربعين يوما ثم تحادرت دما فكانت علقة. وفي حديث جابر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أربعين يوما أو ليلة أذن الله في خلقها. ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث حذيفة بن أسيد من رواية عكرمة بن خالد عن أبي الطفيل عنه أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك. وكذا في رواية يوسف المكي عن أبي الطفيل عند الفريابي. وعنده وعند مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل "إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون" وفي نسخة "ثنتان وأربعون ليلة" وفي رواية ابن جريج عن أبي الزبير عند أبي عوانة "ثنتان وأربعون" وهي عند مسلم لكن لم يسق لفظها قال مثل عمرو بن الحارث. وفي رواية ربيعة بن كلثوم عن أبي الطفيل عند مسلم أيضا: "إذا أراد الله أن يخلق شيئا يأذن له لبضع وأربعين ليلة". وفي رواية عمرو بن دينار عن أبي الطفيل "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين" وهكذا رواه ابن عيينة عن عمرو عند مسلم، ورواه الفريابي من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو فقال: "خمسة وأربعين ليلة فجزم بذلك" فحاصل الاختلاف أن حديث ابن مسعود لم يختلف في ذكر الأربعين، وكذا في كثير من الأحاديث وغالبها كحديث أنس ثاني حديثي الباب لا تحديد فيه، وحديث حذيفة بن أسيد اختلفت ألفاظ نقلته: فبعضهم

(11/480)


جزم بالأربعين كما في حديث ابن مسعود، وبعضهم زاد ثنتين أو ثلاثا أو خمسا أو بضعا، ثم منهم من جزم ومنهم من تردد، وقد جمع بينها القاضي عياض بأنه ليس في رواية ابن مسعود بأن ذلك يقع عند انتهاء الأربعين الأولى وابتداء الأربعين الثانية بل أطلق الأربعين، فاحتمل أن يرد أن ذلك يقع في أوائل الأربعين الثانية، ويحتمل أن يجمع الاختلاف في العدد الزائد على أنه بحسب اختلاف الأجنة، وهو جيد لو كانت مخارج الحديث مختلفة، لكنها متحدة وراجعة إلى أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، فدل على أنه لم يضبط القدر الزائد على الأربعين والخطب فيه سهل، وكل ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشبه في اليوم السابع، وأن فيه يبتدئ الجمع بعد الانتشار، وقد قال ابن منده إنه حديث متصل على شرط الترمذي والنسائي، واختلاف الألفاظ بكونه في البطن وبكونه في الرحم لا تأثير له لأنه في الرحم حقيقة والرحم في البطن، وقد فسروا قوله تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} بأن المراد ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، فالمشيمة في الرحم والرحم في البطن. قوله: "ثم علقة مثل ذلك" في رواية آدم "ثم تكون علقة مثل ذلك" وفي رواية مسلم: "ثم تكون في ذلك علقة" مثل ذلك و"تكون" هنا بمعنى "تصير" ومعناه أنها تكون بتلك الصفة مدة الأربعين ثم تنقلب إلى الصفة التي تليها، ويحتمل أن يكون المراد تصيرها شيئا فشيئا، فيخالط الدم النطفة في الأربعين الأولى بعد انعقادها وامتدادها، وتجري في أجزائها شيئا فشيئا حتى تتكامل علقة في أثناء الأربعين، ثم يخالطها اللحم شيئا فشيئا إلى أن تشتد فتصير مضغة ولا تسمى علقة قبل ذلك ما دامت نطفة، وكذا ما بعد ذلك من زمان العلقة والمضغة. وأما ما أخرجه أحمد من طريق أبي عبيده قال قال عبد الله رفعه: "إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تتغير" ففي سنده ضعف وانقطاع، فإن كان ثابتا حمل نفي التغير على تمامه، أي لا تنتقل إلى وصف العلقة إلا بعد تمام الأربعين، ولا ينفي أن المني يستحيل في الأربعين الأولى دما إلى أن يصير علقة انتهى. وقد نقل الفاضل على بن المهذب الحموي الطبيب اتفاق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه وقواه وأعبد إلى قوام المني الذي تتكون أعضاؤه منه ونضجه فيكون أقبل للشكل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي يخلق فيها، ثم يكون مضغة مثل ذلك أي لحمة صغيرة وهي الأربعون الثالثة فتتحرك، قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. وذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم أن داخل الرحم خشن كالسفنج، وجعل فيه قبولا للمني كطلب الأرض العطشى للماء فجعله طالبا مشتاقا إليه بالطبع، فلذلك يمسكه ويشتمل عليه ولا يزلقه بل ينضم عليه لئلا يفسده الهواء، فيأذن الله لملك الرحم في عقده وطبخه أربعين يوما وفي تلك الأربعين يجمع خلقه. قالوا: إن المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد إلى تمام ستة أيام فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام، ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر فتتميز الأعضاء الثلاثة، ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يوما ثم ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن عن الجنين في تسعة أيام، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس في أربعة أيام فيكمل أربعين يوما، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يجمع خلقه في أربعين يوما" وفيه تفصيل ما أجمل فيه، ولا ينافي ذلك قوله: "ثم تكون علقة مثل ذلك" فإن العلقة وإن كانت قطعة دم لكنها في هذه

(11/481)


الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المني ويظهر التخطيط فيها ظهورا خفيا على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يوما بتزايد ذلك التخليق شيئا فشيئا حتى يصير مضغة مخلقة ويظهر للحس ظهورا لا خفاء به. وعند تمام الأربعين الثالثة والطعن في الأربعين الرابعة ينفخ فيه الروح كما وقع في هذا الحديث الصحيح، وهو ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، حتى قال كثير من فضلاء الأطباء وحذاق الفلاسفة إنما يعرف ذلك بالتوهم والظن البعيد، واختلفوا في النقطة الأولى أيها أسبق والأكثر نقط القلب. وقال قوم: أول ما يخلق منه السرة لأن حاجته من الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه، فإن من السرة ينبعث الغذاء، والحجب التي على الجنين في السرة كأنها مربوط بعضها ببعض والسرة في وسطها ومنها يتنفس الجنين ويتربى وينجذب غذاؤه منها. قوله: "ثم يكون مضغة مثل ذلك" في رواية آدم "مثله" وفي رواية مسلم كما قال في العلقة، والمراد مثل مدة الزمان المذكور في الاستحالة، والعلقة الدم الجامد الغليظ سمى بذلك للرطوبة التي فيه وتعلقه بما مر به، والمضغة قطعة اللحم سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ. قوله: "ثم يبعث الله ملكا" في رواية الكشميهني: "ثم يبعث إليه ملك" وفي رواية آدم كالكشميهني لكن قال: "الملك" ومثله لمسلم بلفظ: "ثم يرسل الله" واللام فيه للعهد، والمراد به عهد مخصوص وهو جنس الملائكة الموكلين بالأرحام، كما ثبت في رواية حذيفة بن أسيد من رواية ربيعة بن كلثوم "أن ملكا موكلا بالرحم" ومن رواية عكرمة بن خالد "ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها"، وهو بتشديد اللام. وفي رواية أبي الزبير عند الفريابي "أتى ملك الأرحام" وأصله عند مسلم لكن بلفظ: "بعث الله ملكا" وفي حديث ابن عمر "إذا أراد الله أن يخلق النطفة قال ملك الأرحام" وفي ثاني حديثي الباب عن أنس "وكل الله بالرحم ملكا" وقال الكرماني: إذا ثبت أن المراد بالملك من جعل إليه أمر تلك الرحم فكيف يبعث أو يرسل؟ وأجاب بأن المراد أن الذي يبعث بالكلمات غير الملك الموكل بالرحم الذي يقول يا رب نطفة إلخ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالبعث أنه يؤمر بذلك. قلت: وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وبه جزم القاضي عياض وغيره. وقد وقع في رواية يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة عن الأعمش "إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملك بكفه فقال: أي رب أذكر أو أنثى"؟ الحديث وفيه: "فيقال انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد ذلك" فينبغي أن يفسر الإرسال المذكور بذلك. واختلف في أول ما يتشكل من أعضاء الجنين فقيل قلبه لأنه الأساس وهو معدن الحركة الغريزية، وقيل الدماغ لأنه مجمع الحواس ومنه ينبعث، وقيل الكبد لأن فيه النمو والاغتذاء الذي هو قوام البدن، ورجحه بعضهم بأنه مقتضى النظام الطبيعي، لأن النمو هو المطلوب أولا ولا حاجة له حينئذ إلى حس ولا حركة إرادية لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به فيقدم الكبد ثم القلب ثم الدماغ. قوله: "فيؤمر بأربعة" في رواية الكشميهني: "بأربع" والمعدود إنما أبهم جاز تذكيره وتأنيثه، والمعنى أنه يؤمر بكتب أربعة أشياء من أحوال الجنين. وفي رواية آدم "فيؤمر بأربع كلمات" وكذا للأكثر، والمراد بالكلمات القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة. قوله: "برزقه وأجله وشقي أو سعيد" كذا وقع في هذه الرواية ونقص منها ذكر العمل وبه تتم الأربع، وثبت قوله: "وعمله" في رواية آدم. وفي رواية أبي الأحوص عن الأعمش "فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب" فذكر الأربع، وكذا لمسلم والأكثر. وفي رواية لمسلم أيضا: "فيؤمر بأربع كلمات ويقال رزقه إلخ" وضبط بكتب بوجهين أحدهما بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة

(11/482)


ومثناة ساكنة ثم موحدة على البدل، والآخر بتحتانية مفتوحة بصيغة الفعل المضارع، وهو أوجه لأنه وقع في رواية آدم "فيؤذن بأربع كلمات فيكتب" وكذا في رواية أبي داود وغيره، وقوله: "سقي أو سعيد" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وتكلف الخوبي في قوله إنه يؤمر بأربع كلمات فيكتب منها ثلاثا والحق أن ذلك من تصرف الرواة، والمراد أنه يكتب لكل أحد إما السعادة وإما الشقاء، ولا يكتبهما لواحد معا، وإن أمكن وجودهما منه لأن الحكم إذا اجتمعا للأغلب وإذا ترتبا فللخاتمة فلذلك اقتصر على أربع وإلا لقال خمس، والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلا أو كثيرا وصفته حراما أو حلالا، وبالأجل هل هو طويل أو قصير، وبالعمل هو صالح أو فاسد. ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعا عن الأعمش "ثم يكتب شقيا أو سعيدا" ومعنى قوله شقي أو سعيد أن الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب مثلا أجل هذا الجنين كذا ورزقه كذا وعمله كذا وهو شقي باعتبار ما يختم له وسعيد باعتبار ما يختم له كما دل عليه بقية الخبر، وكان ظاهر السياق أن يقول ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبي. ووقع في حديث أنس ثاني حديثي الباب: "إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب أذكر أو أنثى" وفي حديث عبد الله بن عمرو "إذا مكثت النطفة في الرحم أربعين ليلة جاءها ملك فقال: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله ما شاء ثم يدفع إلى الملك فيقول: يا رب أسقط أم تام؟ فيبين له، ثم يقول: أواحد أم توأم؟ فيبين له، فيقول أذكر أم أنثى؟ فيبين له، ثم يقول: أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ثم يقول: أشقى أم سعيد؟ فيبين له. ثم يقطع له رزقه مع خلقه فيهبط بهما، ووقع في غير هذه الرواية أيضا زيادة على الأربع، ففي رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود "فيقول اكتب رزقه وأثره وخلقه وشقي أو سعيد" وفي رواية خصيف عن أبي الزبير عن جابر من الزيادة "أي رب مصيبته، فيقول كذا وكذا" وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والفريابي "فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه" وأما صفة الكتابة فظاهر الحديث أنها الكتابة المعهودة في صحيفته، ووقع ذلك صريحا في رواية لمسلم في حديث حذيفة بن أسيد "ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" وفي رواية الفريابي "ثم تطوى تلك الصحيفة إلى يوم القيامة" ووقع في حديث أبي ذر "فيقضي الله ما هو قاض فيكتب ما هو لاق بين عينيه. وتلا أبو ذر خمس آيات من فاتحة سورة التغابن" ونحوه في حديث ابن عمر في صحيح ابن حبان دون تلاوة الآية وزاد: "حتى النكبة ينكبها" وأخرجه أبو داود في "كتاب القدر المفرد" قال ابن أبي جمرة في الحديث في رواية أبي الأحوص: يحتمل أن يكون المأمور بكتابته الأربع المأمور بها ويحتمل غيرها، والأول أظهر لما بينته بقية الروايات، وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوما في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور، منها في الحج وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الحيض في "باب مخلقة وغير مخلقة" ودلت الآية المذكور على أن التخليق يكون للمضغة، وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغه، وذكر الله النطفة ثم العلقة ثم المضغة في سور أخرى وزاد في سورة قد أفلح بعد المضغة "فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما" الآية، ويؤخذ منها ومن حديث الباب أن تصير المضغة عظاما بعد نفخ الروح، ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدم ذكرها قريبا بعد

(11/483)


ذكر المضغة "ثم تكون عظاما أربعين ليلة ثم يكسوا الله العظام لحما" وقد رتب الأطوار في الآية بالفاء لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر، ورتبها في الحديث بثم إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بثم بين النطفة والعلقة لان النطفة قد لا تتكون إنسانا، وأتى بثم في آخر الآية عند قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه. وأما الإتيان بثم في أول القصة بين السلالة والنطفة فللإشارة إلى ما تخلل بين خلق آدم وخلق ولده، ووقع له حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم ما ظاهره يخالف حديث ابن مسعود ولفظه: "إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون -وفي نسخة ثنتان وأربعون- ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله" الحديث. هذه رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد في مسلم، ونسبها عياض في ثلاثة مواضع من شرح هذا الحديث إلى رواية ابن مسعود وهو وهم، وإنما لابن مسعود في أول الرواية ذكر في قوله: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" فقط وبقية الحديث إنما هو لحذيفة بن أسيد، وقد أخرجه جعفر الفريابي من طريق يوسف المكي عن أبي الطفيل عنه بلفظ: "إذا وقعت النطفة في الرحم ثم استقرت أربعين ليلة قال فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه وشعره وبشره وسمعه وبصره ثم يقول: أي رب أذكر أو أنثى" الحديث. قال القاضي عياض: وحمل هذا على ظاهره لا يصح لأن التصوير بأثر النطفة وأول العلقة في أول الأربعين الثانية غير موجود ولا معهود، وإنما يقع التصوير في آخر الأربعين الثالثة كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} الآية قال: فيكون معنى قوله: "فصورها إلخ "أي كتب ذلك ثم يفعله بعد ذلك بدليل قوله بعد "أذكر أو أنثى" قال: وخلقه جميع الأعضاء والذكورية والأنوثية يقع في وقت متفق وهو مشاهد فيما يوجد من أجنة الحيوان وهو الذي تقتضيه الخلقة واستواء الصورة، ثم يكون للملك فيه تصور آخر وهو وقت نفخ الروح فيه حين يكمل له أربعة أشهر، كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. انتهى ملخصا. وقد بسطه ابن الصلاح في فتاويه فقال ما ملخصه: أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه وإما لكونه لم يره ملتئما مع حديث ابن مسعود وحديث ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معا فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما بأن يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية "فصورها" فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مضغة فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظا وكتبا لا فعلا، أي يذكر كيفية تصويرها ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكرا أو أنثى إنما يكون عند المضغة. قلت: وقد نوزع في أن التصوير حقيقة إنما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية وتمييز الذكر على الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال أول ما يبتدئ به الملك تصوير ذلك لفظا وكتبا ثم يشرع فيه فعلا عند استكمال العلقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك وفي بعضها يتأخر، ولكن بقي في حديث حذيفة بن أسيد أنه ذكر العظم واللحم وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة فيقوى ما قال عياض ومن تبعه. قلت: وقال بعضهم يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى

(11/484)


أجزاء بحسب الأعضاء أو يقسم بعضها إلى جلد وبعضها إلى لحم وبعضها إلى عظم فيقدر ذلك كله قبل وجوده ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية ويتكامل في الأربعين الثالثة. وقال بعضهم معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المنى في الأربعين الأولى ووصف العلقة في الأربعين الثانية ووصف المضغة في الأربعين الثالثة ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره. والراجح أن التصوير إنما يقع في الأربعين الثالثة. وقد أخرج الطبري من طريق السدي في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} قال عن مرة الهمداني عن ابن مسعود -وذكر أسانيد أخرى- قالوا: إذا وقعت النطفة في الرحم طارت في الجسد أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا أراد الله أن يخلقها بعث ملكا فصورها كما يؤمر، ويؤيده حديث أنس ثاني حديثي الباب حيث قال بعد ذكر النطفة ثم العلقة ثم المضغة "فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى" الحديث. ومال بعض الشراح المتأخرون إلى الأخذ بما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد من أن التصوير والتخليق يقع في أواخر الأربعين الثانية حقيقة. قال: وليس في حديث ابن مسعود ما يدفعه. واستند إلى قول بعض الأطباء أن المني إذا حصل في الرحم حصل له زبدية ورغوة في ستة أيام أو سبعة من غير استمداد من الرحم ثم يستمد من الرحم ويبتدئ فيه الخطوط بعد ثلاثة أيام أو نحوها ثم في الخامس عشر ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ثم تتميز الأعضاء وتمتد رطوبة النخاع وينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تمييزا يظهر في بعض ويخفى في بعض وينتهي ذلك إلى ثلاثين يوما في الأقل وخمسة وأربعين في الأكثر لكن لا يوجد سقط ذكر قبل ثلاثين ولا أنثى قبل خمسة وأربعين، قال: فيكون قوله: "فيكتب" معطوفا على قوله: "يجمع" وأما قوله: "ثم يكون علقة مثل ذلك" فهو من تمام الكلام الأول وليس المراد أن الكتابة لا تقع إلا عند انتهاء الأطوار الثلاثة، فيحمل على أنه من ترتيب الأخبار لا من ترتيب المخبر به، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى في الذي يفهمونه. كذا قال، والحمل على ظاهر الأخبار أولى، وغالب ما نقل عن هؤلاء دعاوي لا دلالة عليها. قال ابن العربي: الحكمة في كون الملك يكتب ذلك كونه قابلا للنسخ والمحو والإثبات، بخلاف ما كتبه الله تعالى فإنه لا يتغير. قوله: "ثم ينفخ فيه الروح" كذا ثبت في رواية آدم عن شعبة في التوحيد؛ وسقط في هذه الرواية، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي معاوية وغيره: "ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات" وظاهره قبل الكتابة، ويجمع بأن رواية آدم صريحة في تأخير النفخ للتعبير بقوله ثم، والرواية الأخرى محتملة فترد إلى الصريحة لأن الواو لا ترتب فيجوز أن تكون معطوفة على الجملة التي تليها وأن تكون معطوفة على جملة الكلام المتقدم، أي يجمع خلقه في هذه الأطوار ويؤمر الملك بالكتب، وتوسط قوله: "ينفخ فيه الروح" بين الجمل فيكون من ترتيب الخبر على الخبر لا من ترتيب الأفعال المخبر عنها. ونقل ابن الزملكاني عن ابن الحاجب في الجواب عن ذلك أن العرب إذا عبرت عن أمر بعده أمور متعددة ولبعضها تعلق بالأول حسن تقديمه لفظا على البقية وإن كان بعضها متقدما عليه وجودا، وحسن هنا لأن القصد ترتيب الخلق الذي سبق الكلام لأجله. وقال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل إنه الحكمة في عدة المرأة من

(11/485)


الوفاة بأربعة أشهر وعشر وهو الدخول في الخامس، وزيادة حذيفة بن أسيد مشعرة بأن الملك لا يأتي لرأس الأربعين بل بعدها فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرا، وهو مصرح به في حديث ابن عباس "إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرا، ثم ينفخ فيها الروح" وما أشار إليه من عدة الوفاة جاء صريحا عن سعيد بن المسيب: فأخرج الطبري عنه أنه سئل عن عدة الوفاة فقيل له: ما بال العشرة بعد الأربعة أشهر؟ فقال: ينفخ فيها الروح. وقد تمسك به من قال كالأوزاعي وإسحاق.إن عدة أم الولد مثل عدة الحرة، وهو قوى لأن الغرس استبراء الرحم فلا فرق فيه بين الحرة والأمة، فيكون معنى قوله: "ثم يرسل إليه الملك" أي لتصويره وتخليقه وكتابة ما يتعلق به، فينفخ فيه الروح إثر ذلك كما دلت عليه رواية البخاري وغيره. ووقع في حديث علي بن عبد الله عند ابن أبي حاتم" إذا تمت للنطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فينفخ فيها الروح فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} وسنده منقطع، وهذا لا ينافي التقييد بالعشرة الزائدة. ومعنى في إسناد النفخ للملك أنه يفعله بأمر الله، والنفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافخ ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أن يقول له كن فيكون. وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين: فالكتابة الأولى في السماء والثانية في بطن المرأة، ويحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة والأخرى على جبين المولود، وقيل يختلف باختلاف الأجنة فبعضها كذا وبعضها كذا والأول أولى. قوله: "فوالله إن أحدكم" في رواية آدم "فإن أحدكم" ومثله لأبي داود عن شعبة وسفيان جميعا. وفي رواية أبي الأحوص "فإن الرجل منكم ليعمل" ومثله في رواية حفص دون قوله: "منكم" وفي رواية ابن ماجه: "فوالذي نفسي بيده" وفي رواية مسلم والترمذي وغيرهما: "فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل" لكن وقع عند أبي عوانة وأبي نعيم في مستخرجيهما من طريق يحيى القطان عن الأعمش قال: "فوالذي لا إله غيره" وهذه محتملة لأن يكون القائل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الخبر كله مرفوعا، ويحتمل أن يكون بعض رواته، ووقع في رواية وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: "حتى إن أحدكم ليعمل" ووقع في رواية زيد بن وهب ما يقتضي أنه مدرج في الخبر من كلام ابن مسعود، لكن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، أكثر الروايات يقتضي الرفع إلا رواية وهب بن جرير فبعيدة من الإدراج، فأخرج أحمد والنسائي من طريق سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعود نحو حديث الباب وقال بعد قوله واكتبه شقيا أو سعيدا "ثم قال: والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليعمل" كذا وقع مفصلا في رواية جماعة عن الأعمش منهم المسعودي وزائدة وزهير بن معاوية وعبد الله بن إدريس وآخرون فيما ذكره الخطيب. وقد روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أصل الحديث بدون هذه الزيادة، وكذا أبو وائل وعلقمة وغيرهما عن ابن مسعود، وكذا اقتصر حبيب بن حسان عن زيد بن وهب، وكذا وقع في معظم الأحاديث الواردة عن الصحابة كأنس في ثاني حديثي الباب وحذيفة بن أسيد وابن عمر، وكذا اقتصر عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي عن الأعمش على هذا القدر. نعم وقعت هذه الزيادة مرفوعة في حديث سهل بن سعد الآتي بعد أبواب وفي حديث أبي هريرة عند مسلم وفي حديث عائشة عند أحمد وفي حديث ابن عمر والعرس ابن عميرة في البزار وفي حديث عمرو بن العاص وأكثم بن أبي الجون في الطبراني، لكن وقعت في حديث أنس من وجه آخر قوى مفردة من رواية حميد عن الحسن البصري عنه، ومن الرواة من حذف الحسن بين حميد وأنس، فكأنه كان تاما عند أنس فحدث به مفرقا فحفظ بعض أصحابه ما لم يحفظ الآخر عنه، فيقوى على

(11/486)


هذا أن الجميع مرفوع وبذلك جزم المحب الطبري، وحينئذ تحمل رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب على أن عبد الله ابن مسعود لتحقق الخبر في نفسه أقسم عليه ويكون الإدراج في القسم لا في المقسم عليه، وهذا غاية التحقيق في هذا الموضع. ويؤيد الرفع أيضا أنه مما لا مجال للرأي فيه فيكون له حكم الرفع. وقد اشتملت هذه الجملة على أنواع من التأكيد بالقسم ووصف المقسم به وبأن وباللام، والأصل في التأكيد أنه يكون لمخاطبة المنكر أو المستبعد أو من يتوهم فيه شيء من ذلك؛ وهنا لما كان الحكم مستبعدا وهو دخول من عمل الطاعة طول عمره النار وبالعكس حسن المبالغة في تأكيد الخبر بذلك والله أعلم. قوله: "أحدكم أو الرجل ليعمل" وقع في رواية آدم "فإن أحدكم" بغير شك وقدم ذكر الجنة على النار، وكذا وقع للأكثر وهو كذا عند مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه. وفي رواية حفص "فإن الرجل" وأخر ذكر النار، وعكس أبو الأحوص ولفظه: "فإن الرجل منكم". قوله: "بعمل أهل النار" الباء زائدة والأصل يعمل عمل أهل النار لأن قوله عمل إما مفعول مطلق وإما مفعول به وكلاهما مستغن عن الحرف فكان زيادة الباء للتأكيد أو ضمن "يعمل" معنى يتلبس في عمله بعمل أهل النار، وظاهره أنه يعمل بذلك حقيقة ويختم له بعكسه، وسيأتي في حديث سهل بلفظ: "ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس" وهو محمول على المنافق والمرائي بخلاف حديث الباب فإنه يتعلق بسوء الخاتمة. قوله: "غير ذراع أو باع" في رواية الكشميهني: "غير باع أو ذراع" وفي رواية أبي الأحوص "إلا ذراع" ولم يشك وقد علقها المصنف لآدم في آخر هذا الحديث ووصل الحديث كله في التوحيد عنه، ومثله في رواية أبي الأحوص والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت فيحال من بينه وبين المكان المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة، وضابط ذلك الحسي الغرغرة التي جعلت علامة لعدم قبول التوبة. وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفا وأهل الشر صرفا إلى الموت ولا ذكر للذين خلطوا وماتوا على الإسلام لأنه لم يقصد في الحديث تعميم أحوال المكلفين وإنما سيق لبيان أن الاعتبار بالخاتمة، قوله: "بعمل أهل الجنة" يعني من الطاعات الاعتقادية والقولية والفعلية، ثم يحتمل أن الحفظة تكتب ذلك ويقبل بعضها ويرد بعضها، ويحتمل أن تقع الكتابة ثم تمحي وأما القبول فيتوقف على الخاتمة. قوله: "حتى ما يكون" قال الطيبي "حتى" هنا الناصبة و "ما" نافية ولم تكف يكون عن العمل فهي منصوبة بحتى، وأجاز غيره أن تكون "حتى" ابتدائية فتكون على هذا بالرفع وهو مستقيم أيضا. قوله: "فيسبق عليه الكتاب" في رواية أبي الأحوص "كتابة" والفاء في قوله: "فيسبق" إشارة إلى تعقيب ذلك بلا مهلة، وضمن يسبق معنى يغلب قاله الطيبي، وقوله: "عليه" في موضع نصب على الحال أي يسبق المكتوب واقعا عليه. وفي رواية سلمة بن كهيل "ثم يدركه الشقاء" وقال: "ثم تدركه السعادة" والمراد يسبق الكتاب سبق ما تضمنه على حذف مضاف أو المراد المكتوب والمعنى في أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة والمكتوب في اقتضاء الشقاوة فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبر عن ذلك بالسبق لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق ولأنه لو تمثل العمل والكتاب شخصين ساعيين لظفر شخص الكتاب وغلب شخص العمل، ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم: "وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة" زاد أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "سبعين سنة" وفي حديث أنس عند أحمد وصححه ابن حبان: "لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا

(11/487)


سيئا" الحديث، وفي حديث عائشة عند أحمد مرفوعا: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب في الكتاب الأول من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحول فعمل عمل أهل النار فمات فدخلها" الحديث، ولأحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان" الحديث وفيه: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم" ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا. "فقال أصحابه: ففيم العمل؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" الحديث، وفي حديث على عند الطبراني نحوه وزاد: "صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" وقد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة حتى قال: "ما أشبههم بهم بل هم منهم، وتدركهم السعادة فتستنقذهم" الحديث، ونحوه للبزار من حديث ابن عمر، وسيأتي حديث سهل بن سعد بعد أبواب وفي آخره: "إنما الأعمال بالخواتيم" ومثله في حديث عائشة عند ابن حبان ومن حديث معاوية نحوه وفي آخر حديث على المشار إليه قبل "الأعمال بخواتيمها". وفي الحديث أن خلق السمع والبصر يقع والجنين داخل بطن أمه، وقد زعم بعضهم أنه يعطى ذلك بعد خروجه من بطن أمه لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} وتعقب بأن الواو لا ترتب، والتحقيق أن خلق السمع والبصر وهو في بطن أمه محمول جزما على الأعضاء ثم القوة الباصرة والسامعة لأنها مودعة فيها، وأما الإدراك بالفعل فهو موضع النزاع، والذي يترجح أنه يتوقف على زوال الحجاب المانع. وفيه أن الأعمال حسنه وسيئها أمارات وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء قاله الخطابي. وفيه القسم على الخبر الصدق تأكيدا في نفس السامع، وفيه إشارة إلى علم المبدأ والمعاد وما يتعلق ببدن الإنسان وحاله في الشقاء والسعادة. وفيه عدة أحكام تتعلق بالأصول والفروع والحكمة وغير ذلك. وفيه أن السعيد قد يشقى وأن الشقي قد يسعد لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير. وفيه أن الاعتبار بالخاتمة. قال ابن أبي جمرة نفع الله به: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم. وفيه أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية مخصوص بمن مات على ذلك وأن من عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس وما ورد مما يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله، والحق أن النزاع لفظي، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله. وفيه التنبيه على صدق البعث بعد الموت لأن من قدر على خلق الشخص من ماء مهين ثم نقله إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم ينفخ الروح فيه قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابا ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها، ولقد كان قادرا على أن يخلقه دفعة واحدة ولكن اقتضت الحكمة بنقله في الأطوار رفقا بالأم لأنها لم تكن معتادة فكانت المشقة تعظم عليها فهيأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل، ومن تأمل أصل خلقه من نطفة وتنقله في

(11/488)


تلك الأطوار إلى أن صار إنسانا جميل الصورة مفضلا بالعقل والفهم والنطق كان حقا عليه أن يشكر من أنشأه وهيأه ويعبده حق عبادته ويطيعه ولا يعصيه. وفيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق ما في علم الله تعالى واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما وقع في الحديث، وهذا هو الذي يقبل النسخ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى، واستدل به على أن السقط بعد الأربعة أشهر يصلي عليه لأنه وقت نفخ الروح فيه، وهو منقول عن القديم للشافعي والمشهور عن أحمد وإسحاق، وعن أحمد إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويصلي عليه، والراجح عند الشافعية أنه لا بد من وجود الروح وهو الجديد، وقد قالوا فإذا بكي أو اختلج أو تنفس ثم بطل ذلك صلى عليه وإلا فلا، والأصل في ذلك من أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رفعه: "إذا استهل الصبي ورث وصلى عليه" وقد ضعفه النووي في شرح المهذب والصواب أنه صحيح الإسناد لكن المرجح عند الحفاظ وقفه، وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك لأن الحكم للرفع لزيادته، قالوا وإذا بلغ مائة وعشرين يوما غسل كفن ودفن بغير صلاة وما قبل ذلك لا يشرع له غسل ولا غيره، واستدل به على أن التخليق لا يكون إلا في الأربعين الثالثة فأقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما وهي ابتداء الأربعين الثالثة وقد لا يتبين إلا في آخرها، ويترتب على ذلك أنه لا تنقضي العدة، بالوضع إلا ببلوغها وفيه خلاف، ولا يثبت للأمة أمية الولد إلا بعد دخول الأربعين الثالثة وهذا قول الشافعية والحنابلة وتوسع المالكية في ذلك فأداروا الحكم في ذلك على كل سقط ومنهم من قيده بالتخطيط ولو كان خفيا وفي ذلك رواية عن أحمد وحجتهم ما تقدم في بعض طرقه أن النطفة إذا لم يقدر تخليقها لا تصير علقة وإذا قدر أنها تتخلق تصير علقة ثم مضغة إلخ فمتى وضعت علقة عرف أن النطفة خرجت عن كونها نطفة واستحالت إلى أول أحوال الولد. وفيه أن كلا من السعادة والشقاء قد يقع بلا عمل ولا عمر وعليه ينطبق قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وسيأتي الإلمام بشيء من ذلك بعد أبواب. وفيه الحث القوي على القناعة، والزجر الشديد عن الحرص، لأن الرزق إذا كان قد سبق تقديره لم يغن التعني في طلبه وإنما شرع الاكتساب لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا. وفيه أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار ولا يعارض ذلك حديث: "لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله" لما تقدم من الجمع بينهما في شرحه في "باب القصد والمداومة على العمل" من كتاب الرقاق. وفيه أن من كتب شقيا لا يعلم حاله في الدنيا وكذا عكسه، واحتج من أثبت ذلك بما سيأتي قريبا من حديث على "أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة" الحديث، والتحقيق أن يقال إن أريد أنه لا يعلم أصلا ورأسا فمردود وإن أريد أنه يعلم بطريق العلامة المثبتة للظن الغالب فنعم، ويقوى ذلك في حق من اشتهر له لسان صدق بالخير والصلاح ومات على ذلك لقوله في الحديث الصحيح الماضي في الجنائز "أنتم شهداء الله في الأرض" وإن أريد أنه يعلم قطعا لمن شاء الله أن يطلعه على ذلك فهو من جملة الغيب الذي استأثر الله بعلمه وأطلع من شاء ممن ارتضى من رسله عليه. وفيه الحث على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف، وأما ما قال عبد الحق في "كتاب العاقبة" أن سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه وصلح ظاهره وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب ويكثر وقوعه للمصر على الكبائر والمجترئ على العظائم فيهجم عليه الموت بغتة فيصطلمه

(11/489)


الشيطان عند تلك الصدمة، فقد يكون ذلك سببا لسوء الخاتمة نسأل الله السلامة، فهو محمول على الأكثر الأغلب. وفيه أن قدرة الله تعالى لا يوجبها شيء من الأسباب إلا بمشيئته، فإنه لم يجعل الجماع علة للولد لأن الجماع قد يحصل ولا يكون الولد حتى يشاء الله ذلك. وفيه أن الشيء الكثيف يحتاج إلى طول الزمان بخلاف اللطيف، ولذلك طالت المدة في أطوار الجنين حتى حصل تخليقه بخلاف نفخ الروح، ولذلك لما خلق الله الأرض أولا عمد إلى السماء فسواها وترك الأرض لكثافتها بغير فتق ثم فتقتا معا، ولما خلق آدم فصوره من الماء والطين تركه مدة ثم نفخ فيه الروح. واستدل الداودي بقوله: "فتدخل النار" على أن الخبر خاص بالكفار، واحتج بأن الإيمان لا يحبطه إلا الكفر، وتعقب بأنه ليس في الحديث تعرض للإحباط وحمله على المعنى الأعم أولى فيتناول المؤمن حتى يختم له بعمل الكافر مثلا فيرتد فيموت على ذلك فتستعيذ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتى يختم له بعمل العاصي فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النار أنه يخلد فيها أبدا بل مجرد الدخول صادق على الطائفتين، واستدل له على أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح خلاقا لمن قال به من المعتزلة لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميع عمره في طاعة الله ثم يختم له بالكفر والعياذ بالله فيموت على ذلك فيدخل النار، فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها ولا سيما إن طال عمره وقرب موته من كفره. واستدل به بعض المعتزلة على أن من عمل عمل أهل النار وجب أن يدخلها لترتب دخولها في الخبر على العمل، وترتب الحكم على الشيء يشعر بعليته، وأجيب بأنه علامة لا علة والعلامة قد تتخلف، سلمنا أنه علة لكنه في حق الكفار وأما العصاة فخرجوا بدليل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فمن لم يشرك فهو داخل في المشيئة. واستدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق لأنه دل على أن الله كلف العباد كلهم بالإيمان مع أنه قدر على بعضهم أنه يموت على الكفر، وقد قيل إن هذه المسألة لم يثبت وقوعها إلا في الإيمان خاصة وما عداه لا توجد دلالة قطعية على وقوعه وأما مطلق، الجواز فحاصل. وفيه أن الله يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة، وفيه أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومقدرها لا أنه يحبها ويرضاها. وفيه أن جميع الخير والشر بتقدير الله تعالى وإيجاده، وخالف في ذلك القدرية والجبرية فذهبت القدرية إلى أن فعل العبد من قبل نفسه، ومنهم من فرق بين الخير والشر فنسب إلى الله الخير ونفي عنه خلق الشر، وقيل إنه لا يعرف قائله وإن كان قد اشتهر ذلك وإنما هذا رأي المجوس، وذهبت الجبرية إلى أن الكل فعل الله وليس للمخلوق فيه تأثير أصلا، وتوسط أهل السنة فمنهم من قال أصل الفعل خلقه الله وللعبد قدرة غير مؤثرة في المقدور، وأثبت بعضهم أن لها تأثيرا لكنه يسمى كسبا وبسط أدلتهم يطول، وقد أخرج أحمد وأبو يعلى من طريق أيوب بن زياد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض فقلت أوصني؟ فقال: إنك لن تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وهو أن تعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك الحديث وفيه: "وإن مت ولست على ذلك دخلت النار". وأخرجه الطبراني من وجه آخر بسند حسن عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء مرفوعا مقتصرا على قوله. إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ وسيأتي الإلمام بشيء منه في كتاب التوحيد في الكلام على خلق أفعال العباد إن شاء الله تعالى. وفي الحديث أن

(11/490)


الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة، وسيأتي في حديث على الآتي بعد بابين سؤال الصحابة عن فائدة العمل مع تقدم التقدير والجواب عنه "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وظاهره قد يعارض حديث ابن مسعود المذكور في هذا الباب، والجمع بينهما حمل حديث علي على الأكثر الأغلب وحمل حديث الباب على الأقل، ولكنه لما كان جائزا تعين طلب الثبات. وحكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة ثم لا يدخل الجنة انتهى. وتوقف شيخنا ابن الملقن في صحة ذلك عن عمر، وظهر لي أنه إن ثبت عنه حمل على أن راويه حذف منه قوله في آخره: "فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" أو أكمل الراوي لكن استبعد عمر وقوعه وإن كان جائزا ويكون إيراده على سبيل التخويف من سوء الخاتمة. حديث أنس، قوله: "حماد" هو ابن زيد، وعبيد الله بن أبي بكر أي ابن أنس بن مالك. قوله: "وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة إلخ" أي يقول كل كلمة من ذلك في الوقت الذي تصير فيه كذلك كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله وقد مضى شرحه مستوفي فيه، وتقدم شيء منه في كتاب الحيض، ويجوز في قوله نطفة النصب على إضمار فعل والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفائدة ذلك أنه يستفهم هل يتكون منها أو لا؟ وقوله: "أن يقضي خلقها" أي بإذن فيه.

(11/491)


2 - باب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَهَا سَابِقُونَ سَبَقَتْ لَهُمْ السَّعَادَةُ
6596- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَالَ "نَعَمْ" قَالَ فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ قَالَ "كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ"
[الحديث 6596- طرفه في 7551]
قوله: "باب" بالتنوين "جف القلم" أي فرعت الكتابة إشارة إلى أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة والقلم. وقال الطيبي هو من إطلاق اللازم على الملزوم، لأن الفراغ من الكتابة يستلزم جفاف القلم عند مداده. قلت: وفيه إشارة إلى أن كتابة ذلك انقضت من أمد بعيد. وقال عياض: معنى جف القلم أي لم يكتب بعد ذلك شيئا. وكتاب الله ولوحه وقلمه من غيبه ومن علمه الذي يلزمنا الإيمان به، ولا يلزمنا معرفة صفته، وإنما خوطبنا بما عهدنا فيما فرغنا من كتابته أن القلم يصير جافا للاستغناء عنه. قوله: "على علم الله" أي على حكمه لأن معلومه لا بد أن يقع، فعلمه بمعلوم يستلزم الحكم بوقوعه، وهذا لفظ حديث أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريق عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل، فلذلك

(11/491)


أقول جف القلم على علم الله"، وأخرجه أحمد وابن حبان من طريق أخرى عن أبي الديلمي نحوه وفي آخره أن القائل "فلذلك أقول"، هو عبد الله بن عمرو ولفظه: "قلت لعبد الله بن عمرو: بلغني أنك تقول إن القلم قد جف -فذكر الحديث وقال في آخره- فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن". ويقال إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان للمأمون سأل الحسين بن الفضل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مع هذا الحديث، فأجاب: هي شئون يبديها لا شئون يبتديها؛ فقام إليه وقبل رأسه. قوله: "وقال أبو هريرة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: جف القلم بما أنت لاق" هو طرف من حديث ذكر أصله المصنف من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قلت يا رسول الله إني رجل شاب وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني" الحديث وفيه: "يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر" أخرجه في أوائل النكاح فقال: قال أصبغ -يعني ابن الفرج- أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، ووصله الإسماعيلي والجوزقي والفريابي في كتاب القدر كلهم من طريق أصبغ به وقالوا كلهم بعد قوله العنت "فأذن لي أن أختصي" ووقع لفظ: "جف القلم" أيضا في حديث جابر عند مسلم: "قال سراقة يا رسول الله فيم العمل أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" الحديث، وفي آخر حديث ابن عباس الذي فيه: "احفظ الله يحفظك" ففي بعض طرقه: "جفت الأقلام وطويت الصحف" وفي حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني في حديث: "واعلم أن القلم قد جف بما هو كائن" وفي حديث الحسن بن على عند الفريابي "رفع الكتاب وجف القلم". قوله: "وقال ابن عباس لها سابقون: سبقت لهم السعادة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قال: سبقت لهم السعادة، والمعنى أنهم سارعوا إلى الخيرات بما سبق لهم من السعادة بتقدير الله، ونقل عن الحسن أن اللام في "لها" بمعنى الباء فقال: معناه سابقون بها، فقال الطبراني: وتأولها بعضهم -أي اللام- بأنها بمعنى "إلى" وبعضهم أن المعنى: وهم من أجلها، ونقل عبد الرحمن بن زيد أن الضمير للخيرات، وأجاز غيره أن للسعادة، والذي يجمع بين تفسير ابن عباس وظاهر الآية أن السعادة سابقة وأن أهلها سبقوا إليها لا أنهم سبقوها. قوله: "حدثنا يزيد الرشك" بكسر الراء وسكون المعجمة بعدها كاف كنيته أبو الأزهر، وحكى الكلاباذي أن اسم والده سنان بكسر المهملة ونونين، وهو بصري تابعي ثقة، قيل كان كبير اللحية فلقب الرشك وهو بالفارسية كما زعم أبو على الغساني وجزم به ابن الجوزي الكبير اللحية. وقال أبو حاتم الرازي: كان غيورا فقيل له إرشك بالفارسية فمضى عليه الرشك. وقال الكرماني بل الرشك بالفارسية القمل الصغير الملتصق، بأصول شعر اللحية، وذكر الكلاباذي أن الرشك القسام. قلت: بل كان يزيد يتعانى مساحة الأرض فقيل له القسام وكان يلقب الرشك لا أن مدلول الرشك القسام بل هما لقب ونسبة إلى صنعة، والمعتمد في أمره ما قال أبو حاتم، وما ليزيد في البخاري إلا هذا الحديث أورده هنا وفي كتاب الاعتصام. قوله: "قال رجل" هو عمران بن حصين راوي الخبر، بينه عبد الوارث بن سعيد عن يزيد الرشك عن عمران بن حصين قال: "قلت يا رسول الله" فذكره، وسيأتي موصولا في أواخر كتاب التوحيد، وسأل عن ذلك آخرون، وسيأتي مزيد بسط فيه في شرح حديث علي قريبا. قوله: "أيعرف أهل الجنة من أهل النار" في رواية حماد بن زيد عن يزيد عند مسلم بلفظ: "أعلم" بضم العين، والمراد بالسؤال معرفة الملائكة أو من أطلعه الله على ذلك؛ وأما معرفة العامل

(11/492)


أو من شاهده فإنما يعرف بالعمل. قوله: "فلم يعمل العاملون" في روايات حماد "ففيم"؟ وهو استفهام والمعنى إذا سبق القلم بذلك فلا يحتاج العامل إلى العمل لأنه سيصير إلى ما قدر له. قوله: "قال: كل يعمل لما خلق له أو لما ييسر له" وفي رواية الكشميهني: "يسر" بضم أوله وكسر المهملة الثقيلة. وفي رواية حماد المشار إليها "قال كل ميسر لما خلق له" وقد جاء هذا الكلام الأخير عن جماعة من الصحابة بهذا اللفظ يزيدون على العشرة سأشير إليها في آخر الباب الذي يلي الذي يليه، منها حديث أبي الدرداء عند أحمد بسند حسن بلفظ: "كل امرئ مهيأ لما خلق له" وفي الحديث إشارة إلى أن المآل محجوب عن المكلف فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به فإن عمله أمارة إلى ما يؤول إليه أمره غالبا وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك كما ثبت في حديث ابن مسعود وغيره لكن لا اطلاع له على ذلك فعليه أن يبذل جهده ويجاهد نفسه في عمل الطاعة لا يترك وكولا إلى ما يؤول إليه أمره فيلام على ترك المأمور ويستحق العقوبة، وقد ترجم ابن حبان بحديث الباب: "ما يجب على المرء من التشمير في الطاعات وإن جرى قبلها ما يكره الله من المحظورات" ولمسلم من طريق أبي الأسود عن عمران أنه قال له: أرأيت ما يعمل الناس اليوم أشيء قضي عليهم ومضي فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قضى عليهم ومضى فهيم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وفيه قصة لأبي الأسود الدؤلي مع عمران وفيه قوله له: أيكون ذلك ظلما؟ فقال: لا كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل. قال عياض: أورد عمران على أبي الأسود شبهة القدرية من تحكمهم على الله ودخولهم بآرائهم في حكمه، فلما أجابه بما دل على ثباته في الدين قواه بذكر الآية وهي حد لأهل السنة، وقوله كل خلق الله وملكه يشير إلى أن المالك الأعلى الخالق الآمر لا يعترض عليه إذا تصرف في ملكه بما يشاء، وإنما يعترض على المخلوق المأمور.

(11/493)


3 - باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
6597- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
6598- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
6599- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا"
6600- "قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
قوله: "باب الله أعلم بما كانوا عاملين" الضمير لأولاد المشركين كما صرح به في السؤال، وذكره من حديث

(11/493)


ابن عباس مختصرا ومن حديث أبي هريرة كذلك، وتقدم في أواخر الجنائز "باب ما قيل في أولاد المسلمين" وبعده "باب ما قيل في أولاد المشركين" وذكر في الثاني الحديثين المذكورين هنا من مخرجيهما وذكر الثالث أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة، وقد تقدم شرح ذلك مستوفي في الباب المذكور. قوله في الرواية الثانية عن ابن شهاب "قال وأخبرني عطاء بن يزيد" الواو عاطفة على شيء محذوف، كأنه حدث قبل ذلك بشيء ثم حديث بحديث عطاء، ووقع في رواية مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد وعند أبي عوانة في صحيحه من طريق شعيب عن الزهري "حدثني عطاء بن يزيد الليثي". قوله: "أخبرنا إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه كما بينته في المقدمة

(11/494)


4 - باب وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
6601- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"
6602- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"
6603- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الجُمَحِيُّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ كَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ"
6604- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ ذَكَرَهُ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِنْ كُنْتُ لاَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ"
6605- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ وَقَالَ "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَلاَ نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ"

(11/494)


قوله: "باب "وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً" أي حكما مقطوعا بوقوعه، والمراد بالأمر واحد الأمور المقدرة ويحتمل أن يكون واحد الأوامر، لأن كل موجود بكن. حديث أبي هريرة "لا تسأل المرأة طلاق أختها -إلى قوله في آخره- فإن لها ما قدر لها" وقد مضى شرحه في "باب الشروط التي لا تحل في النكاح" من كتاب النكاح قال ابن العربي: في هذا الحديث من أصول الدين السلوك في مجاري القدر، وذلك لا يناقض العمل في الطاعات ولا يمنع التحرف في الاكتساب والنظر لقوت غد وإن كان لا يتحقق أنه يبلغه. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم لما دل عليه من أن الزوج لو أجابها وطلق من تظن أنها تزاحمها في رزقها فإنه لا يحصل لها من ذلك إلا ما كتب الله لها سواء أجابها أو لم يجبها، وهو كقول الله تعالى في الآية الأخرى {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} حديث أسامة وهو ابن زيد، قوله: "عاصم" هو الأحول، وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "وعنده سعد" هو ابن عبادة، ومعاذ هو ابن جبل، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الجنائز وما قيل في تسمية الابن المذكور وبيان الجمع بين هذه الرواية والرواية التي فيها "أن ابنتها". حديث أبي سعيد، قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "جاء رجل من الأنصار" تقدم في غزوة المريسيع وفي عشرة النساء من كتاب النكاح عن أبي سعيد قال: "سألنا" وأخرجه النسائي من طريق ابن محيريز أن أبا سعيد وأبا صرمة أخبراه أنهم أصابوا سبايا، قال: "فتراجعنا في العزل، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" فلعل أبا سعيد باشر السؤال وإن كان الذين تراجعوا في ذلك جماعة، وقد وقع عند البخاري في تاريخه وابن السكن وغيره في الصحابة من حديث مجدي الضمري قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة المريسيع فأصبنا سبيا، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل" الحديث، وأبو صرمة مختلف في صحبته، وقد وقع في صحيح مسلم من طريق ابن محيريز "دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل" الحديث، والثابت أن أبا صرمة وهو بكسر المهملة وسكون الراء إنما سأل أبا سعيد، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في النكاح، والغرض منه هنا قوله في آخره: "وليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة" . قوله: "حدثنا موسى بن مسعود" هو أبو حذيفة النهدي، وسفيان هو الثوري، قوله: "لقد خطبنا" في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما". قوله: "إلا ذكره" في رواية جرير "إلا حدث به". قوله: "علمه من علمه وجهله من جهله" في رواية جرير "حفظه من حفظه ونسيه من نسيه" وزاد: "قد علمه أصحابي هؤلاء" أي علموا وقوع ذلك المقام وما وقع فيه من الكلام، وقد سميت في أول بدء الخلق من روى نحو حديث حذيفة هذا من الصحابة كعمر وأبي زيد بن أخطب وأبي سعيد قال وغيرهم فلعل حذيفة أشار إليهم أو إلى بعضهم، وقد أخرج مسلم من طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة "والله إني لأعلم كل فتنة كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى شيئا لم يكن يحدث به غيري" وقال في آخره: "فذهب أولئك الرهط غيري" وهذا لا يناقض الأول بل يجمع بأن يحمل على مجلسين، أو المراد بالأول أعم من المراد بالثاني. قوله: "إن كنت لأرى الشيء قد نسيت" كذا للأكثر بحذف المفعول. وفي رواية الكشميهني بإثباته ولفظه: "نسيته". قوله: "فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه" في رواية محمد بن يوسف عن سفيان عند الإسماعيلي: "كما يعرف الرجل" بحذف المفعول. وفي رواية الكشميهني:

(11/495)


"الرجل وجه الرجل غاب عنه ثم رآه فعرفه" قال عياض: في هذا الكلام تلفيق، وكذا في رواية جرير "وأنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه" قال والصواب كما ينسي الرجل وجه الرجل -أو كما لا يذكر الرجل وجه الرجل- إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه. قلت: والذي يظهر لي أن الرواية في الأصلين مستقيمة، وتقدير ما في حديث سفيان أنه يرى الشيء الذي كان نسيه فإذا رآه عرفه وقوله: "كما يعرف الرجل الرجل غاب عنه" أي الذي كان غاب عنه فنسى صورته ثم إذا رآه عرفه، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن المبارك عن سفيان بلفظ: "إني لأرى الشيء نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل إلخ". "تنبيه": أخرج هذا الحديث القاضي عياض في "الشفاء" من طريق أبي داود بسنده إلى قوله: "ثم إذا رآه عرفه" ثم قال حذيفة "ما أدري أنسى أصحابي أم تناسوه" والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة إلا قد سماه لنا" قلت: ولم أر هذه الزيادة في كتاب أبي داود، وإنما أخرجه أبو داود بسند آخر مستقل من وجه آخر عن حذيفة. حديث على، قوله: "عن أبي حمزة" بمهملة وزاي هو محمد بن ميمون السكري. قوله: "عن سعد بن عبيدة" بضم العين هو السلمي الكوفي يكني أبا حمزة وكان صهر أبي عبد الرحمن شيخه في هذا الحديث، ووقع في تفسير {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} من طريق شعبة عن الأعمش "سمعت سعد بن عبيدة" وأبو عبد الرحمن السلمي اسمه عبد الله بن حبيب وهو من كبار التابعين، ووقع مسمى في رواية معتمر ابن سليمان عن منصور عن سعد بن عبيدة عند الفريابي. قوله: "عن علي" في رواية مسلم البطين عن أبي عبد الرحمن السلمي" أخذ بيدي علي فانطلقنا نمشي حتى جلسنا على شاطئ الفرات، فقال على: قال رسول صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث مختصرا. قوله: "كنا جلوسا" في رواية عبد الواحد عن الأعمش "كنا قعودا" وزاد في رواية سفيان الثوري عن الأعمش "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد -بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة- في جنازة" فظاهره أنهم كانوا جميعا شهدوا الجنازة، لكن أخرجه في الجنائز من طريق منصور عن سعد بن عبيدة فبين أنهم سبقوا بالجنازة وأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ولفظه: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله". قوله: "ومعه عود ينكت به في الأرض" في رواية شعبة "وبيده عود فجعل ينكت به في الأرض" وفي رواية منصور "ومعه مخصرة" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه ويدفع به عنه ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبا للاتكاء عليها، وفي اللغة اختصر الرجل إذا أمسك المخصرة. قوله: "فنكس" بتشديد الكاف أي أطرق. قوله: "فقال ما منكم من أحد" زاد في رواية منصور "ما من نفس منفوسة" أي مصنوعة مخلوقة، واقتصر في رواية أبي حمزة والثوري على الأول. قوله: "إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة" أو للتنويع، ووقع في رواية سفيان ما قد يشعر بأنها بمعنى في الواو ولفظه: "إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" وكأنه يشير إلى ما تقدم من حديث ابن عمر الدال على أن لكل أحد مقعدين. وفي رواية منصور "إلا كتب مكانها من الجنة والنار" وزاد فيها "وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة" وإعادة "إلا" يحتمل أن يكون "ما من نفس" بدل "ما منكم" "وإلا" الثانية بدلا من الأولى وأن يكون من باب اللف والنشر فيكون فيه تعميم بعد تخصيص والثاني في كل منهما أعم من الأول أشار إليه الكرماني. قوله: "فقال رجل من القوم" في رواية سفيان وشعبة "فقالوا

(11/496)


يا رسول الله" وهذا الرجل وقع في حديث جابر عند مسلم أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولفظه: "جاء سراقة فقال يا رسول الله أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. فقال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وأخرجه الطبراني وابن مردويه نحوه وزاد: وقرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى -إلى قوله- العسرى} وأخرجه ابن ماجه من حديث سراقة نفسه لكن دون تلاوة الآية. ووقع هذا السؤال وجوابه سوى تلاوة الآية لشريح بن عامر الكلابي أخرجه أحمد والطبراني ولفظه: "قال: ففيم العمل إذا؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال: "قال عمر: يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو أمر قد فرغ منه؟ قال: فيما قد فرغ منه" فذكر نحوه. وأخرج البزار والفريابي من حديث أبي هريرة "إن عمر قال: يا رسول الله" فذكره. وأخرجه أحمد والبزار والطبراني من حديث أبي بكر الصديق "قلت يا رسول الله نعمل على ما فرغ منه" الحديث نحوه، ووقع في حديث سعد بن أبي وقاص "فقال رجل من الأنصار" والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك، فقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة ولفظه: "فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" الحديث أخرجه الفريابي. قوله: "ألا نتكل يا رسول الله" في رواية سفيان "أفلا" والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره أفإذا كان كذلك أفلا نتكل، وزاد في رواية منصور وكذا في رواية شعبة "أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل" أي نعتمد على ما قدر علينا، وزاد في رواية منصور "فمن كان منا من أهل السعادة فيصير إلى عمل السعادة ومن كان منا من أهل الشقاوة" مثله. قوله: "اعملوا فكل ميسر" زاد شعبة "لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل السعادة" الحديث. وفي رواية منصور قال: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة" الحديث. وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب: لا مشقة لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله. قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة فلا يجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار بل هي علامات فقط. قوله: "ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية" وساق في رواية سفيان ووكيع الآيات إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني نحو حديث عمر وفي آخره: "قال اعمل فكل ميسر" وفي آخره عند البزار "فقال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذا" وأخرجه الطبراني في آخر حديث سراقة ولفظه: "فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ قال كل ميسر لعمله، قال: الآن الجد الآن الجد" وفي آخر حديث عمر عند الفريابي "فقال عمر ففيم العمل إذا؟ قال: كل لا ينال إلا بالعمل، قال عمر: إذا نجتهد" وأخرج الفريابي بسند صحيح إلى بشير بن كعب أحد كبار التابعين قال: "سأل غلامان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم العمل: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم شيء نستأنفه؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، قالا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما هو عامل، قالا: فالجد الآن" وفي الحديث جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والموعظة. وقال المهلب: نكته الأرض بالمخصرة أصل في تحريك الأصبع في التشهد نقله ابن بطال، وهو بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرا منه صلى الله عليه وسلم في أمر الآخرة بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما

(11/497)


أبداه بعد ذلك لأصحابه من الحكم المذكورة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله. وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر لأن الجبر لا يكون إلا عن كره ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له. واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما تقدم في حديث ابن مسعود، وأن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل علامة وأمارة، فيحكم بظاهر الأمر وأمر الباطن إلى الله تعالى. قال الخطابي: لما أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبق الكائنات رام من تمسك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر: باطن وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر وهو العلامة اللازمة في حق العبودية، وإنما هي أمارة مخيلة في مطالعة علم العواقب غير مفيدة حقيقة، فبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل على مصيره في الآجل، ولذلك مثل بالآيات. ونظير ذلك الرزق مع الأمر بالكسب، والأجل مع الإذن في المعالجة. وقال في موضع آخر: هذا الحديث إذا تأملته وجدت فيه الشفاء مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل "أفلا نتكل وندع العمل" لم يدع شيئا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور التي عقلت معانيها وجرت معاملة البشر فيما بينهم عليها، بل طوى الله علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى عنهم أمر الساعة فلا يعلم أحد متى حين قيامها انتهى. وقد تقدم كلام ابن السمعاني في نحو ذلك في أول كتاب القدر. وقال غيره: وجه الانفصال عن شبهة القدرية أن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة على ما سبق مشيئته. فمن عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سر من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ. وفي أحاديث هذا الباب أن أفعال العباد وإن صدرت عنهم لكنها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدرية صريحا، والله أعلم.

(11/498)


5 - باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
6606- حدثنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام ثم هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال وكثرت به الجراح فأثبتته فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما إنه من أهل النار فكاد بعض المسلمين يرتاب فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهما فانتحر بها فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله صدق الله حديثك قد

(11/498)


انتحر فلان فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"
6607- حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان حدثني أبو حازم "عن سهل بن سعد أن رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال من أحب أن ينظر إلى الرجل من أهل النار فلينظر إلى هذا فأتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه فأقبل الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فقال أشهد أنك رسول الله فقال وما ذاك قال قلت لفلان من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين فعرفت أنه لا يموت على ذلك فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار, وإنما الأعمال بالخواتيم"
قوله: "باب العمل بالخواتيم" لما كان ظاهر حديث على يقتضي اعتبار العمل الظاهر أردفه بهذه الترجمة الدالة على أن الاعتبار بالخاتمة، وذكر فيه قصة الذي نحر نفسه في القتال من حديث أبي هريرة ومن حديث سهل ابن سعد، وقد تقدم شرحهما في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وذكرت هناك الاختلاف في اسم المذكور، وهل القصتان متغايرتان في موطنين لرجلين أو هما قصة واحدة، وقوله في آخر حديث أبي هريرة "وإنما الأعمال بالخواتيم" وقع في حديث أنس عند الترمذي وصححه "إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه" وأخرجه أحمد من هذا الوجه مطولا وأوله "لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له" فذكر نحو حديث ابن مسعود وأخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مختصرا. وأخرج البزار من حديث ابن عمر حديثا فيه ذكر الكتابين وفي آخره: "العمل بخواتيمه العمل بخواتيمه".

(11/499)


باب القاء العهد النذر إلى القدر
...
6 - باب إِلْقَاءِ الْعَبْدَ النَّذْر إِلَى الْقَدَرِ
6234- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن منصور عن عبد الله بن مرة "عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر قال إنه "لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل"
[الحديث 6608- طرفاه في: 6692، 6693]
6235- حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن همام بن منبه "عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يأتي بن آدم النذر بشيء لم يكن قد قدرته ولكن يلقيه القدر وقد قدرته له أستخرج به من البخيل"
[الحديث 6609- طرفه في: 6694]

(11/499)


قوله: "باب إلقاء العبد النذر إلى القدر" في رواية الكشميهني: "إلقاء النذر العبد" وفي الأول النذر بالرفع وهو الفاعل والإلقاء مضاف إلى المفعول وهو العبد وفي الثانية العبد بالنصب وهو المفعول والإلقاء مضاف إلى الفاعل وهو النذر، وسيأتي في "باب الوفاء بالنذر" من وجه آخر عن أبي هريرة على وفق رواية الكشميهني وذكر فيه حديث ابن عمر وأبي هريرة في ذلك وسيأتيان في "باب الوفاء بالنذر" من كتاب الأيمان والنذور مع شرحهما، فأما حديث أبي هريرة فهو صريح في الترجمة لكن لفظه: "ولكن يلقيه القدر" كذا للأكثر وللكشميهني: "يلقيه النذر" بنون ثم ذال معجمة. وقد اعترض بعض شيوخنا على البخاري فقال: ليس في واحد من اللفظين المرويين عنه في الترجمة مطابقة للحديث، والمطابق، أن يقول إلقاء القدر العبد إلى النذر بتقديم القدر بالقاف على النذر بالنون، لأن لفظ الخبر "يلقيه القدر" بالقاف، كذا قال، وكأنه لم يشعر برواية الكشميهني في متن الحديث، ثم ادعى أن الترجمة مع عدم مطابقتها للخبر ليس المعنى فيها صحيحا انتهى. وما نفاه مردود، بل المعنى بين لمن له أدنى تأمل، وكأنه استبعد نسبة الإلقاء إلى النذر، وجوابه أن النسبة مجازية، وسوغ ذلك كونه سببا إلى الإلقاء فنسب الإلقاء إليه، وأيضا فهما متلازمان. قال الكرماني الظاهر أن الترجمة مقلوبة إذ القدر هو الذي يلقى إلى النذر لقوله في الخبر "يلقيه القدر" والجواب أنهما صادقان إذ الذي يلقى في الحقيقة هو القدر وهو الموصل وبالظاهر هو النذر، قال وكان الأولى أن يقول: يلقيه القدر إلى النذر ليطابق الحديث، إلا أن يقال إنهما متلازمان، وكأنه أيضا ما نظر إلى رواية الكشميهني، وأيضا فقد جرت عادة البخاري أنه يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث وإن لم يسق ذلك اللفظ بعينه ليبعث ذلك الناظر في كتابه على تتبع الطرق وليقدح الفكر في التطبيق ولغير ذلك من المقاصد التي فاق بها غيره من المصنفين كما تقرر غير مرة. وأما حديث ابن عمر فهو بلفظ: "أنه -أي النذر- لا يرد شيئا" وهو يعطي معنى الرواية الأخرى، وقوله هنا "منصور" هو ابن المعتمر عن عبد الله بن مرة يأتي في الباب المذكور بلفظ: "أخبرنا عبد الله بن مرة" وهو الهمداني بسكون الميم الخارفي بمعجمة وراء مكسورة ثم فاء تابعي كبير، ولهم كوفي شيخ آخر في طبقته يقال له عبد الله بن مرة الزوفي بزاي وواو ساكنة ثم فاء مصري، ويقال له عبد الله بن أبي مرة وهو بها أشهر.

(11/500)


باب لاحول ولا قوة إلا بالله
...
7 - باب لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
6610- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لاَ نَصْعَدُ شَرَفًا وَلاَ نَعْلُو شَرَفًا وَلاَ نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلاَّ رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ قَالَ فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"
قوله: "باب" بالتنوين "لا حول ولا قوة إلا بالله" ترجم في أواخر الدعوات "باب قول لا حول" بالإضافة واقتصر هنا على لفظ الخبر واستغنى به لظهوره في أبواب القدر، لأن معنى لا حول لا تحويل للعبد عن معصية الله

(11/500)


إلا بعصمة الله ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وقيل معنى لا حول لا حيلة. وقال النووي: هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى. حديث أبي موسى وقد تقدم في الدعوات بهذا الإسناد بعينه لكن فيه سليمان التيمي بدل خالد الحذاء المذكور هنا، وهو محمول على أن لعبد الله وهو ابن المبارك فيه شيخين، وقد أخرجه النسائي من رواية سويد ابن نصر عن ابن المبارك عن خالد الحذاء. قوله: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة" تقدم في غزوة خيبر من كتاب المغازي بيان أنها غزوة خيبر. قوله: "إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير" في رواية سليمان التيمي المذكورة "فلما علا عليها رجل نادى فرفع صوته لا إله إلا الله والله أكبر" لم أقف على اسم هذا الرجل، ويجمع بأن الكل كبروا وزاد هذا عليهم بالتهليل، وتقدم في رواية عبد الواحد ما يدل على أن المراد بالتكبير قول لا إله إلا الله والله أكبر. قوله: "اربعوا" بفتح الموحدة أي ارفقوا، وقد تقدم بيانه في أوائل الدعاء، قال يعقوب بن السكيت: ربع الرجل يربع إذا رفق وكف، وكذا بقية ألفاظه. قال ابن بطال: كان عليه السلام معلما لأمته فلا يراهم على حالة من الخير إلا أحب لهم الزيادة، فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة فيجمعوا بين التوحيد والإيمان بالقدر، وقد جاء في الحديث: "إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلا بالله قال الله أسلم عبدي واستسلم". قلت: أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة بسند قوى. وفي رواية له "قال لي يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: تقول لا حول ولا قوة إلا بالله. فيقول الله أسلم عبدي واستسلم" وزاد في رواية له "ولا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه" قوله: "من كنوز الجنة" تقدم القول فيه، وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة أو محصلات نفائس الجنة، قال النووي: المعنى أن قولها يحصل ثوابا نفيسا يدخر لصاحبه في الجنة. وأخرج أحمد والترمذي وصححه ابن حبان عن أيوب "أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به مر على إبراهيم على نبينا و عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله". قوله: "لا تدعون" كذا أطلق على التكبير ونحوه دعاء من جهة أنه بمعنى النداء لكون الذاكر يريد إسماع من ذكره والشهادة له.

(11/501)


8 - باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عَاصِمٌ مَانِعٌ
قَالَ مُجَاهِدٌ سَدًّا عَنْ الْحَقِّ يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلاَلَةِ دَسَّاهَا أَغْوَاهَا
6611- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ"
[الحديث 6611- طرفه في: 7198]
قوله: "باب" بالتنوين "المعصوم من عصم الله" أي من عصمه الله بأن حماه من الوقوع في الهلاك أو ما يجر إليه يقال عصمه الله من المكروه وقاه وحفظه واعتصمت بالله لجأت إليه وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم

(11/501)


الصلاة والسلام حفظهم من النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفيسة والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة، والفرق بينهم وبين غيرهم أن العصمة في حقهم بطريق الوجوب وفي حق غيرهم بطريق الجواز. قوله: "عاصم مانع" يريد تفسير قوله تعالى في قصة نوح وابنه {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} وبذلك فسره عكرمة فيما أخرجه الطبري من طريق الحكم بن أبان عنه. وقال الراغب المعنى بقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ} أي لا شيء يعصم منه، وفسره بعضهم بمعصوم، ولم يرد أن العاصم بمعنى المعصوم وإنما نبه على أنهما متلازمان فأيهما حصل حصل الآخر.قوله: "قال مجاهد سدا عن الحق يترددون في الضلالة" كذا للأكثر سدا بتشديد الدال بعدها ألف، وصله ابن أبي حاتم من طريق ورقاء عن ابن نجيح عنه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} قال عن الحق، ووصله عبد بن حميد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {سَدّاً} قال: عن الحق وقد يترددون، ورأيته في بعض نسخ البخاري "سدى" بتخفيف الدال مقصورة وعليها شرح الكرماني فزعم أنه وقع هنا {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي مهملا مترددا في الضلالة، ولم أر في شيء من نسخ البخاري إلا اللفظ الذي أوردته "قال مجاهد {سَدّاً} إلخ" ولم أر في شيء من التفاسير التي تساق بالأسانيد لمجاهد في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} كلاما، ولم أر قوله: {فِي الضَّلالَةِ} في شيء من النقول بالسند عن مجاهد، ووقع في رواية النسفي لضلالة بدل قوله في الضلالة. قوله: {دَسَّاهَا بِطَغْوَاهَا} قال الفريابي: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} قال: من أغواها. وأخرج الطبري بسند صحيح عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد وسعيد بن جبير في قوله: " {دَسَّاهَا} قال: قال أحدهما أغواها وقال الآخر أضلها. وقال أبو عبيدة دساها أصله دسست، لكن العرب تقلب الحرف المضاعف إلى الياء مثل تظننت من الظن فتقول تظنيت بالتحتانية بعد النون. ومناسبة هذا التفسير للترجمة تؤخذ من المراد بفاعل دساها فقال قوم: هو الله أي قد أفلح صاحب النفس التي زكاها الله وخاب صاحب النفس التي أغواها الله. وقال آخرون: هو صاحب النفس إذا فعل الطاعات فقد زكاها وإذا فعل المعاصي فقد أغواها، والأول هو المناسب للترجمة. وقال الكرماني: مناسبة التفسيرين للترجمة أن من لم يعصمه الله كان سدي وكان مغوي. حديث أبي سعيد الخدري "ما استخلف من خليفة إلا وله بطانتان" الحديث وفيه: "والمعصوم من عصم الله" وسيأتي شرحه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. والبطانة بكسر الموحدة اسم جنس يشمل الواحد والجماعة، والمراد من يطلع على باطن حال الكبير من أتباعه.

(11/502)


باب { وحرم على قرية أهلكناها أنهم لايرجعون أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا }
...
9 - باب {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}
{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَجَبَ
6612- حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ

(11/502)


مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" وَقَالَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب وحِرْم على قرية أهلكناها" كذا لأبي ذر وفي رواية غيره "وحرام" بفتح أوله وزيادة الألف وزادوا بقية الآية والقراءتان مشهورتان: قرأ أهل الكوفة بكسر أوله وسكون ثانيه وقرأ أهل الحجاز والبصرة والشام بفتحتين وألف وهما بمعنى كالحلال والحل، وجاء في الشواذ عن ابن عباس قراءات أخرى بفتح أوله وتثليث الراء وبالضم أشهر وبضم أوله وتشديد الراء المكسورة، قال الراغب: في قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} هو تحريم تسخير، وحمل بعضهم عليه قوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ}. قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} كذا جمع بين بعض كل من الآيتين وهما من سورتين إشارة إلى ما ورد في تفسير ذلك، وقد أخرج الطبري من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ما قال نوح {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً -إلى قوله: كَفَّارًا} إلا بعد أن نزل عليه {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} . قلت: ودخول ذلك في أبواب القدر ظاهر، فإنه يقتضي سبق علم الله بما يقع من عبيده. قوله: "وقال منصور بن النعمان" هو اليشكري بفتح التحتانية وسكون المعجمة وضم الكاف بصري سكن مرو ثم بخاري، وما له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد زعم بعض المتأخرين أن الصواب منصور بن المعتمر والعلم عند الله. قوله: "عن عكرمة عن ابن عباس: وحرم بالحبشية وجب" لم أقف على هذا التعليق موصولا، وقرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن وغيره فقالوا: أخرجه أبو جعفر عن ابن قهزاد عن أبي عوانة عنه. قلت: ولم أقف على ذلك في تفسير أبي جعفر الطبري وإنما فيه وفي تفسير عبد بن حميد وابن أبي حاتم جميعا من طريق داود ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} قال: وجب، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: حرم عزم، ومن طريق عطاء عن عكرمة: وحرم وجب بالحبشية، وبالسند الأول قال: وقوله: {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يتوب منهم تائب، قال الطبري معناه أنهم أهلكوا بالطبع على قلوبهم فهم لا يرجعون عن الكفر، وقيل معناه يمتنع على الكفرة الهالكين أنهم لا يرجعون إلى عذاب الله، وقيل فيه أقوال أخر ليس هذا موضع استيعابها، والأول أقوى وهو مراد المصنف بالترجمة والمطابق لما ذكر معه من الآثار والحديث. قوله: "معمر عن ابن طاوس" هو عبد الله. قوله: "عن ابن عباس: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة" فذكر الحديث ثم قال: وقال شبابة "حدثنا ورقاء هو ابن عمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" فكأن طاوسا سمع القصة من ابن عباس عن أبي هريرة وكان سمع الحديث المرفوع من أبي هريرة أو سمعه من أبي هريرة بعد أن سمعه من ابن عباس، وقد أشرت إلى ذلك في أوائل كتاب الاستئذان وبينت الاختلاف في رفع الحديث ووقفه، ولم أقف على رواية شبابة هذه موصولة، وكنت قرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن الطبراني وصلها في المعجم الأوسط عن عمرو بن عثمان عن ابن المنادي عنه وقلدتهما في ذلك في تعليق التعليق ثم راجعت المعجم الأوسط فلم أجدها. قوله: "باللمم" بفتح اللام والميم هو ما يلم به الشخص من شهوات النفس، وقيل هو مقارفة الذنوب الصغار. وقال الراغب:

(11/503)


اللمم مقارفة المعصية ويعبر به عن الصغيرة، ومحصل كلام ابن عباس تخصيصه ببعضها، ويحتمل أن يكون أراد أن ذلك من جملة اللمم أو في حكم اللمم. قوله: "إن الله كتب على ابن آدم" أي قدر ذلك عليه أو أمر الملك بكتابته كما تقدم بيانه في شرح حديث ابن مسعود الماضي قريبا. قوله: "أدرك ذلك لا محالة" بفتح الميم أي لا بد له من عمل ما قدر عليه أنه يعمله، وبهذا تظهر مطابقة الحديث للترجمة. قال ابن بطال كل ما كتبه الله على الآدمي فهو قد سبق في علم الله وإلا فلا بد أن يدركه المكتوب عليه، وإن الإنسان لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه إلا أنه يلام إذا واقع ما نهى عنه بحجب ذلك عنه وتمكينه من التمسك بالطاعة، فبذلك يندفع قول القدرية والمجبرة. ويؤيده قوله: "والنفس تمني وتشتهي" لأن المشتهي بخلاف الملجأ. قوله: "حظه من الزنا" إطلاق الزنا على اللمس والنظر وغيرهما بطريق المجاز لأن كل ذلك من مقدماته. قوله: "فزنا العين النظر" أي إلى ما لا يحل للناظر "وزنا اللسان المنطق" في رواية الكشميهني: "النطق" بضم النون بغير ميم في أوله. قوله: "والنفس تمنى" بفتح أوله على حذف إحدى التاءين والأصل تتمنى. قوله: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" يشير إلى أن التصديق هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع والتكذيب عكسه، فكان الفرج هو الموقع أو الواقع فيكون تشبيها، ويحتمل أن يريد أن الإيقاع يستلزم الحكم بها عادة فيكون كناية. قال الخطابي: المراد باللمم ما ذكره الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وهو المعفو عنه. وقال في الآية الأخرى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فيؤخذ من الآيتين أن اللمم من الصغائر وأنه يكفر باجتناب الكبائر، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على حديث: "من هم بحسنة ومن هم بسيئة" في وسط كتاب الرقاق. وقال ابن بطال: تفضل الله على عباده بغفران اللمم إذا لم يكن للفرج تصديق بها فإذا صدقها الفرج كان ذلك كبيرة. ونقل الفراء أن بعضهم زعم أن "إلا" في قوله: "إلا اللمم" بمعنى الواو، وأنكره وقال: إلا صغائر الذنوب فإنها تكفر باجتناب كبارها، إنما أطلق عليها زنا لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا. وفي قوله: "والنفس تشتهي والفرج يصدق أو يكذب" ما يستدل به على أن العبد لا يخلق فعل نفسه لأنه قد يريد الزنا مثلا ويشتهيه فلا يطاوعه العضو الذي يريد أن يزني به ويعجزه الحيلة فيه ولا يدري لذلك سببا، ولو كان خالقا لفعله لما عجز عن فعل ما يريده مع وجود الطواعية واستحكام الشهوة فدل على أن ذلك فعل مقدر يقدرها إذا شاء ويعطلها إذا شاء.

(11/504)


باب { وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }
...
10 - باب وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ
6613- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ"
قوله: "باب وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" ذكر فيه حديث ابن عباس حديث ابن عباس قد تقدم في تفسير سورة سبحان مستوفي، ووجه دخوله في أبواب القدر من ذكر الفتنة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها وقد قال موسى عليه السلام {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} وأصل الفتنة الاختيار،

(11/504)


ثم استعملت فيما أخرجه الاختيار إلى المكروه، ثم استعملت في المكروه: فتارة في الكفر كقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وتارة في الإثم كقوله: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} وتارة في الإحراق كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} وتارة في الإزالة عن الشيء كقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} وتارة في غير ذلك، والمراد بها في هذا الموضع الاختبار على بابها الأصلي والله أعلم. قال ابن التين: وجه دخول هذا الحديث في كتاب القدر الإشارة إلى أن الله قدر على المشركين التكذيب لرؤيا نبيه الصادق فكان ذلك زيادة في طغيانهم حيث قالوا: كيف يسير إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ثم يرجع فيها؟ وكذلك جعل الشجرة الملعونة زيادة في طغيانهم حيث قالوا كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ وفيه خلق الله الكفر ودواعي الكفر من الفتنة، وسيأتي زيادة في تقرير ذلك في الكلام على خلق أفعال العباد في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. والجواب عن شبهتهم أن الله خلق الشجرة المذكورة من جوهر لا تأكله النار ومنها سلاسل أهل النار، وأغلالهم وخزنة النار من الملائكة وحياتها وعقاربها، وليس ذلك من جنس ما في الدنيا، وأكثر ما وقع الغلط لمن قاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، والله تعالى الموفق. قال سفيان: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

(11/505)


11- باب تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ
6614- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ لَهُ آدَمُ يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلاَثًا"
قَالَ سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. مِثْلَهُ
قوله: "باب تحاج آدم وموسى عند الله" أما "تحاج" فهو بفتح أوله وتشديد آخره وأصله تحاجج بجيمين، لفظ قوله: "عند الله" فزعم ببعض شيوخنا أنه أراد أن ذلك يقع منهما يوم القيامة، ثم رده بما وقع في بعض طرقه وذلك فيما أخرجه أبو داود من حديث عمر قال: "قال موسى يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم فقال: أنت أبونا" الحديث، قال: وهذا ظاهره أنه وقع في الدنيا، انتهى. وفيه نظر فليس قول البخاري "عند الله" صريحا في أن ذلك يقع يوم القيامة فإن العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان، فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين، وقد وردت العندية في القيامة بقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وفي الدنيا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وقد بينت في كتاب الصيام أنه بهذا اللفظ في مسند أحمد بسند في صحيح مسلم لكن لم يسق لفظ المتن. والذي ظهر لي أن البخاري لمح في الترجمة بما وقع في بعض طرق الحديث وهو ما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن هرمز عن أبي هريرة بلفظ: "احتج آدم وموسى عند ربهما" قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "حفظناه من عمرو" يعني ابن دينار، ووقع في مسند

(11/505)


الحميدي عن سفيان "حدثنا عمرو بن دينار" وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق الحميدي. قوله: "عن طاوس" في رواية أحمد عن سفيان عن عمرو سمع طاوسا، وعند الإسماعيلي من طريق محمد بن منصور الخراز عن سفيان عن عمرو بن دينار "سمعت طاوسا" قوله في آخره "وقال سفيان حدثنا أبو الزناد" هو موصول عطفا على قوله: "حفظناه من عمرو" ووقع في رواية الحميدي "قال وحدثنا أبو الزناد" بإثبات الواو وهي أظهر في المراد، وأخطأ من زعم أن هذه الطريق معلقة، وقد أخرجها الإسماعيلي منفردة بعد أن ساق طريق طاوس عن جماعة عن سفيان فقال: "أخبرنيه القاسم -يعني ابن زكريا- حدثنا إسحاق بن حاتم العلاف حدثنا سفيان عن عمرو مثله سواء وزاد: قال وحدثني سفيان عن أبي الزناد به" قال ابن عبد البر: هذا الحديث ثابت بالاتفاق رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى من رواية الأئمة الثقات الإثبات. قلت: وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة: منهم طاوس في الصحيحين والأعرج كما ذكرته وهو عند مسلم من رواية الحارث بن أبي الذباب وعند النسائي عن عمرو بن أبي عمرو كلاهما عن الأعرج وأبو صالح السمان عند الترمذي والنسائي وابن خزيمة كلهم من طريق الأعمش عنه والنسائي أيضا من طريق القعقاع بن حكيم عنه، ومنهم أبو سلمة بن عبد الرحمن عند أحمد وأبي عوانة من رواية الزهري عنه وقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب وقيل عنه عن حميد بن عبد الرحمن ومن رواية أيوب بن النجار عن أبي سلمة في الصحيحين أيضا وقد تقدم في تفسير سورة طه ومن رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عند ابن خزيمة وأبي عوانة وجعفر الفريابي في القدر ومن رواية يحيى بن أبي كثير عنه عند أبي عوانة، ومنهم حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كما تقدم في قصة موسى من أحاديث الأنبياء ويأتي في التوحيد وأخرجه مسلم، ومنهم محمد بن سيرين كما مضى في تفسير طه وأخرجه مسلم، ومنهم الشعبي أخرجه أبو عوانة والنسائي، ومنهم همام بن منبه أخرجه مسلم، ومنهم عمار بن أبي عمار أخرجه أحمد، ومن رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر عند أبي داود وأبي عوانة وجندب بن عبد الله عند النسائي وأبو سعيد عند البزار وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والحارث من وجه آخر عنه، وقد أشار إلى هذه الثلاثة الترمذي. قوله: "احتج آدم وموسى" في رواية همام ومالك "تحاج" كما في الترجمة وهي أوضح. وفي رواية أيوب ابن النجار ويحيى بن كثير "حج آدم وموسى" وعليها شرح الطيبي فقال: معنى قوله حج آدم وموسى غلبه بالحجة وقوله بعد ذلك "قال موسى أنت آدم إلخ" توضيح لذلك وتفسير لما أجمل، وقوله في آخره: "فحج آدم موسى" تقرير لما سبق وتأكيد له. وفي رواية يزيد بن هرمز كما تقدمت الإشارة إليه "عند ربهما" وفي رواية محمد بن سيرين "التقى آدم وموسى" وفي رواية عمار والشعبي "لقي آدم موسى" وفي حديث عمر "لقي موسى آدم" كذا عند أبي عوانة، وأما أبو داود فلفظه كما تقدم "قال موسى يا رب أرني آدم" وقد اختلف العلماء في وقت هذا اللفظ فقيل يحتمل أنه في زمان موسى فأحيا الله له آدم معجزة له فكلمه أو كشف له عن قبره فتحدثا أو أراه الله روحه كما أرى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أرواح الأنبياء أو أراه الله له في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولو كان يقع في بعضها ما يقبل التعبير كما في قصة الذبيح، أو كان ذلك بعد وفاة موسى فالتقيا في البرزخ أول ما مات موسى فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي، وقد وقع في حديث عمر لما قال موسى أنت آدم قال له من أنت قال أنا موسى وأن ذلك لم يقع بعد وإنما يقع في الآخرة: والتعبير عنه في الحديث بلفظ الماضي لتحقق

(11/506)


وقوعه. وذكر ابن الجوزي احتمال التقائهما في البرزخ واحتمال أن يكون ذلك ضرب مثل والمعنى لو اجتمعا لقالا ذلك، وخص موسى بالذكر لكونه أول نبي بعث بالتكاليف الشديدة، قال: وهذا وإن احتمل لكن الأول أولى، قال: وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه، ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم. وقال ابن عبد البر مثل هذا عندي يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلا. قوله: "أنت أبونا" في رواية يحيى بن أبي كثير "أنت الناس" وكذا في حديث عمر. وفي رواية الشعبي "أنت آدم أبو البشر" قوله: "خيبتنا وأخرجتنا من الجنة" في رواية حميد بن عبد الرحمن "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة" هكذا في أحاديث الأنبياء عنه، وفي التوحيد "أخرجت ذريتك" وفي رواية مالك "أنت الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة" ومثله في رواية همام وكذا في رواية أبي صالح. وفي رواية محمد بن سيرين "أشقيت" بدل "أغويت" ومعنى أغويت كنت سببا لغواية من غوى منهم، وهو سبب بعيد إذ لو لم يقع الأكل من الشجرة لم يقع الإخراج من الجنة ولو لم يقع الإخراج ما تسلط عليهم الشهوات والشيطان المسبب عنهما الإغواء، والغي ضد الرشد وهو الانهماك في غير الطاعة، يطلق أيضا على مجرد الخطأ يقال غوى أي أخطا صواب ما أمر به. وفي تفسير طه من رواية أبي سلمة "أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك" وعند أحمد من طريقه "أنت الذي أدخلت ذريتك النار" والقول فيه كالقول في أغويت، وزاد همام "إلى الأرض" وكذا في رواية يزيد بن هرمز "فأهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض" وأوله عنده "أنت الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته" ومثله في رواية أبي صالح لكن قال: "ونفخ فيك من روحه" ولم يقل "وأسجد لك ملائكته" ومثله في رواية محمد بن عمرو وزاد: "وأسكنك جنته" ومثله في رواية محمد بن سيرين وزاد: "ثم صنعت ما صنعت" وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج "يا آدم خلقك الله بيده ثم نفخ فيك من روحه ثم قال لك كن فكنت ثم أمر الملائكة فسجدوا لك ثم قال لك {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فنهاك عن شجرة واحدة فعصيت" وزاد الفريابي "وأكلت منها" وفي رواية عكرمة بن عمار عن أبي سلمة "أنت آدم الذي خلقك الله بيده" فأعاد الضمير في قوله خلقك إلى قوله أنت والأكثر عوده إلى الموصول، فكأنه يقول خلقه الله، ونحو ذلك ما وقع في رواية الأكثر "أنت الذي أخرجتك خطيئتك" وفي حديث عمر بعد قوله أنت آدم "قال نعم، قال أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها، أمر الملائكة فسجدوا لك، قال نعم، قال فلم أخرجتنا ونفسك من الجنة" وفي لفظ لأبي عوانة "فوالله لو لا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار" ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة: "فأهلكتنا وأغويتنا" وذكر ما شاء الله أن يذكر، من هذا وهذا يشعر بأن جميع ما ذكر في هذه الروايات محفوظ وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وقوله: "أنت آدم" استفهام تقرير، وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف وكذا إضافة روحه إلى الله، ومن في قوله من روحه زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق أي خلق فيك الروح، ومعنى قوله أخرجتنا كنت سببا لإخراجنا كما تقدم تقريره، وقوله أغويتنا وأهلكتنا من إطلاق الكل على البعض بخلاف أخرجتنا فهو على عمومه، ومعنى قوله أخطأت وعصيت ونحوهما

(11/507)


فعلت خلاف ما أمرت به، وأما قوله خيبتنا بالخاء المعجمة ثم الموحدة من الخيبة فالمراد به الحرمان، وقيل هي كأغويتنا من إطلاق الكل على البعض، والمراد من يجوز منه وقوع المعصية، ولا مانع من حمله على عمومه والمعنى أنه لو استمر على ترك الأكل من الشجرة لم يخرج منها ولو استمر فيها لولد له فيها وكان ولده سكان الجنة على الدوام، فلما وقع الإخراج فات أهل الطاعة من ولده استمرار الدوام في الجنة وإن كانوا إليها ينتقلون، وفات أهل المعصية تأخر الكون في الجنة مدة الدنيا وما شاء الله من مدة العذاب في الآخرة إما مؤقتا في حق الموحدين وإما مستمرا في حق الكفار فهو حرمان نسبي. قوله: "فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده" في رواية الأعرج "أنت موسى الذي أعطاك الله علم كل شيء واصطفاك على الناس برسالته" وفي رواية همام نحوه لكن بلفظ:" اصطفاك وأعطاه" وزاد في رواية يزيد بن هرمز "وقربك نجيا وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء" وفي رواية ابن سيرين "اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة" وفي رواية أبي سلمة "اصطفاك الله برسالته وكلامه" ووقع في رواية الشعبي "فقال نعم" وفي حديث عمر "قال أنا موسى، قال نبي بني إسرائيل؟ قال نعم، قال أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال نعم". قوله: "أتلومني على أمر قدر الله علي" كذا للسرخسي والمستملي بحذف المفعول وللباقين "قدره الله على". قوله: "قبل أن يخلقني بأربعين سنة" في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة "فكيف تلومني على أمر كتبه الله أو قدره الله على" ولم يذكر المدة وثبت ذكرها في رواية طاوس. وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة ولفظه: "فكم تجد في التوراة أنه كتب على العمل الذي عملته قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين سنة. قال: فكيف تلومني عليه" وفي رواية يزيد بن هرمز نحوه وزاد: "فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال نعم" وكلام ابن عبد البر قد يوهم تفرد ابن عيينة عن أبي الزناد بزيادتها لكنه بالنسبة لأبي الزناد وإلا فقد ذكر التقييد بالأربعين غير ابن عيينة كما ترى. وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عند أحمد "فهل وجدت فيها -يعني الألواح أو التوراة- أني أهبط" وفي رواية الشعبي أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها؟ قال بلى" وفي رواية عمار ابن أبي عمار "أنا أقدم أم الذكر؟ قال بل الذكر" وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج "ألم تعلم أن الله قدر هذا على قبل أن يخلقني" وفي رواية ابن سيرين "فوجدته كتب على قبل أن يخلقني؟ قال نعم" وفي رواية أبي صالح "فتلومني في شيء كتبه الله على قبل خلقي" وفي حديث عمر قال: "فلم تلومني على شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء" ووقع في حديث أبي سعيد الخدري "أتلومني على أمر قدره على قبل أن يخلق السماوات والأرض" والجمع بينه وبين الرواية المقيدة بأربعين سنة حملها على ما يتعلق بالكتابة وحمل الأخرى على ما يتعلق بالعلم. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إلى نفخ الروح في آدم، وأجاب غيره أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم. وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة، وقد ثبت في الصحيح يعني صحيح مسلم: "أن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كتبت قبل خلقه بأربعين سنة، ويجوز أن يكون ذلك القدر مدة لبثه طينا إلى أن نفخت فيه الروح، فقد ثبت في صحيح مسلم أن بين تصويره طينا ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة، ولا يخالف ذلك كتابة المقادير

(11/508)


عموما قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وقال المازري: الأظهر أن المراد أنه كتبه قبل خلق آدم بأربعين عاما، ويحتمل أن يكون المراد أظهره للملائكة أو فعل فعلا ما أضاف إليه هذا التاريخ وإلا فمشيئة الله وتقديره قديم، والأشبه أنه أراد بقوله: "قدره الله على قبل أن أخلق" أي كتبه في التوراة لقوله في الرواية المشار إليها قبل "فكم وجدته كتب في التوراة قبل أن أخلق" وقال النووي: المراد بتقديرها كتبه في اللوح المحفوظ أو في التوراة أو في الألواح، ولا يجوز أن يراد أصل القدر لأنه أزلي ولم يزل الله سبحانه تعالى مريدا لما يقع من خلقه. وكان بعض شيوخنا يزعم أن المراد إظهار ذلك عند تصوير آدم طينا فإن آدم أقام في طينته أربعين سنة، والمراد على هذا بخلقه نفخ الروح فيه. قلت: وقد يعكر على هذا رواية الأعمش عن أبي صالح "كتبه الله على قبل أن يخلق السماوات والأرض" لكنه يحمل قوله فيه: "كتبه الله على" قدره أو على تعدد الكتابة لتعدد المكتوب، والعلم عند الله تعالى. قوله: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثا" كذا في هذه الطرق ولم يكرر في أكثر الطرق عن أبي هريرة، ففي رواية أيوب بن النجار كالذي هنا لكن بدون قوله: "ثلاثا" وكذا لمسلم من رواية ابن سيرين، كذا في حديث جندب عند أبي عوانة، وثبت في حديث عمر بلفظ: "فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، قالها ثلاث مرات" وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج "لقد حج آدم موسى، لقد حج آدم موسى، لقد حج آدم موسى" وفي حديث أبي سعيد عند الحارث "فحج آدم موسى ثلاثا" وفي رواية الشعبي عند النسائي: "فخصم آدم موسى، فخصم آدم موسى واتفق الرواة والنقلة والشراح على أن آدم بالرفع وهو الفاعل، وشذ بعض الناس فقرأه بالنصب على أنه المفعول وموسى في محل الرفع على أنه الفاعل نقله الحافظ أبو بكر بن الخاصية عن مسعود ابن ناصر السجزي الحافظ قال: سمعته يقرأ: "فحج آدم" بالنصب، قال وكان قدريا. قلت: هو محجوج بالاتفاق قبله على أن آدم بالرفع على أنه الفاعل، وقد أخرجه أحمد من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "فحجه آدم" وهذا يرفع الإشكال فإن رواته أئمة حفاظ، والزهري من كبار الفقهاء الحفاظ فروايته هي المعتمدة في ذلك، ومعني حجه غلبه بالحجة، يقال حاججت فلانا فحججته مثل خاصمته فخصمته، قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر وأن الله قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق في علم الله، قال: وليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم. وقال الخطابي في "معالم السنن": يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر وقهر العبد ويتوهم أن غلبة آدم كانت من هذا الوجه، وليس كذلك وإنما معناه الأخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن تقدير سابق منه، فإن القدر اسم لما صدر عن فعل القادر، وإذا كان كذلك فقد نفي عنهم من وراء علم الله أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور عن قصد وتعمد واختيار، فالحجة إنما نلزمهم بها واللائمة إنما تتوجه عليها، وجماع القول في ذلك أنهما أمران لا يبدل أحدهما عن الآخر: أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء ونقضه وإنما جهة حجه آدم أن الله علم منهم أنه يتناول من الشجرة فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وإنما خلق للأرض وأنه لا يترك في الجنة بل ينقل منها إلى الأرض فكان تناوله من الشجرة سببا لإهباطه واستخلافه في الأرض كما قال تعالى قبل خلقه {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قال فلما لامه موسى عن نفسه قال له: أتلومني على أمر قدره الله على؟ فاللوم عليه من قبلك ساقط عني إذ ليس لأحد أن يعير أحدا بذنب كان منه، لأنه الخلق كلهم تحت العبودية

(11/509)


سواء، وإنما يتجه اللوم من قبل الله سبحانه وتعالى إذ كان نهاه فباشر ما نهاه عنه، قال: وقول موسى وإن كان في النفس منه شبهة وفي ظاهره تعلق لاحتجاجه بالسب لكن تعلق آدم بالقدر أرجح فلهذا غلبه. والغلبة تقع مع المعارضة كما تقع مع البرهان انتهى ملخصا. وقال في أعلام الحديث نحوه ملخصا وزاد: ومعنى قوله: "فحج آدم موسى" دفع حجته التي ألزمه اللوم بها. قال: ولم يقع من آدم إنكار لما صدر منه بل عارضه بأمر دفع به عنه اللوم. قلت: ولم يتلخص من كلامه مع تطويله في الموضعين دفع للشبهة إلا في دعواه أنه ليس للآدمي أن يلوم آخر مثله على فعل ما قدره الله عليه، وإنما يكون ذلك لله تعالى لأنه هو الذي أمره ونهاه. وللمعترض أن يقول: وما المانع إذا كان ذلك لله أن يباشره من تلقى عن الله من رسوله ومن تلقى عن رسله ممن أمر بالتبليغ عنهم؟ وقال القرطبي: إنما غلبه بالحجة لأنه علم من التوراة أن الله تاب عليه فكان لومه له على ذلك نوع جفاء كما يقال ذكر الجفاء بعث حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحي حتى كأنه لم يكن فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلا انتهى. وهو محصل ما أجاب به المازري وغيره من المحققين، وهو المعتمد. وقد أنكر القدرية هذا الحديث لأنه صريح في إثبات القدر السابق وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لآدم على الاحتجاج به وشهادته بأنه غلب موسى فقالوا: لا يصح لأن موسى لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه، وقد قتل هو نفسا لم يؤمر بقتلها، ثم قال: رب اغفر لي، فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غفر له؟ ثانيها لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذي فرغ من كتابته على العبد لا يصح هذا لكان من عوتب على معصية قد ارتكبها فيحتج بالقدر السابق ولو ساغ ذلك لانسد باب القصاص والحدود ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضي إلى لوازم قطعية، فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له. والجواب من أوجه: أحدها أن آدم إنما احتج بالقدر على المعصية لا المخالفة، فإن محصل لوم موسى إنما هو على الإخراج فكأنه قال أنا لم أخرجكم وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على الأكل من الشجر والذي رتب ذلك قدره قبل أن أخلق فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة إلا الأكل من الشجرة والإخراج المرتب عليها ليس من فعلي. قلت: وهذا الجواب لا يدفع شبهة الجبرية. ثانيها إنما حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم بالحجة في معنى خاص وذلك لأنه لو كانت في المعنى العام لما تقدم من الله تعالى لومه بقوله: "ألم أنهكما عن تلكما الشجرة" ولا أخذه بذلك حتى أخرجه من الجنة وأهبطه إلى الأرض، ولكن لما أخذ موسى في لومه وقدم قوله له أنت الذي خلقك الله بيده وأنت وأنت لم فعلت كذا؟ عارضه آدم بقوله أنت الذي اصطفاك الله وأنت وأنت. وحاصل جوابه إذا كنت بهذه المنزلة كيف يخفى عليك أنه لا محيد من القدر، وإنما وقعت الغلبة لآدم من وجهين: أحدهما أنه ليس لمخلوق أن يلوم مخلوقا في وقوع ما قدر عليه إلا بإذن من الله تعالى فيكون الشارع هو اللائم، فلما أخذ موسى في لومه من غير أن يؤذن له في ذلك عارضه بالقدر فأسكته. والثاني أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب، وقد كان الله تاب عليه فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم لأنه فعل الله ولا يسأل عما يفعل. ثالثها قال ابن عبد البر: هذا عندي مخصوص بآدم لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعا كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} فحسن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة لأنه كان قد تيب عليه من ذلك وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية كما لو قتل أو زنا أو سرق: هذا سبق في علم الله وقدره علي قبل أن يخلقني فليس لك أن تلومني عليه، فإن

(11/510)


الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك بل على استحباب ذلك كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة. قال: وقد حكى ابن وهب في كتاب القدر عن مالك عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه. رابعها إنما توجهت الحجة لآدم لأن موسى لامه بعد أن مات واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي ويقام عليه الحد والقصاص وغير ذلك، وأما بعد أن يموت فقد ثبت النهي عن سب الأموات "ولا تذكروا موتاكم إلا بخير" لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يثني العقوبة على من أقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمة إذا زنت وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه فسقط عنه اللوم، فلذلك عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غلب موسى بالحجة. قال المازري: لما تاب الله على آدم صار ذكر ما صدر منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق فلذلك غلب بالحجة. قال الداودي فيما نقله ابن التين: إنما قامت حجة آدم لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يحتج آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه لأنه لم يكن بد من ذلك. وقيل إن آدم أب وموسى ابن وليس للابن أن يلوم أباه، حكاه القرطبي وغيره، ومنهم من عبر عنه بأن آدم أكبر منه، وتعقبه بأنه بعيد من معنى الحديث، ثم هو ليس على عمومه بل يجوز للابن أن يلوم أباه في عدة مواطن، وقيل إنما غلبه لأنهما شريعتين متغايرتين، وتعقب بأنها دعوى لا دليل عليها، ومن أين يعلم أنه كان في شريعة آدم أن المخالف يحتج بسابق القدر وفي شريعة موسى أنه لا يحتج أو أنه يتوجه له اللوم على المخالف، وفي الجملة فأصح الأجوبة الثاني والثالث، ولا تنافي بينهما فيمكن أن يمتزج منهما جواب واحد وهو أن التائب لا يلام على ما يتب عليه منه ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف. وقد سلك النووي هذا المسلك فقال: معنى كلام آدم أنك يا موسى تعلم أن هذا كتب على قبل أن أخلق فلا بد من وقوعه، ولو حرصت أنا والخلق أجمعون على رد مثقال ذر منه لم نقدر فلا تلمني فإن اللوم على المخالفة شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله علي وغفر لي زال اللوم فمن لامني كان محجوجا بالشرع. فإن قيل فالعاصي اليوم لو قال هذه المعصية قدرت على فينبغي أن يسقط عني اللوم قلنا الفرق أن هذا العاصي باق في دار التكليف جارية عليه الأحكام من العقوبة واللوم وفي ذلك له ولغيره زجر وعظة، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف مستغن عن الزجر فلم يكن للومه فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل فلذلك كان الغلبة له. وقال التوربشتي: ليس معنى قوله كتبه الله علي ألزمني به وإنما معناه أثبته في أم الكتاب قبل أن يخلق آدم وحكم أن ذلك كائن. ثم إن هذه المحاججة إنما وقعت في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح ولم تقع في عالم الأسباب، والفرق بينهما أن عالم الأسباب لا يجوز قطع النظر فيه عن الوسائط والاكتساب، بخلاف العالم العلوي بعد انقطاع موجب الكسب وارتفاع الأحكام التكليفية، فلذلك احتج آدم بالقدر السابق. قلت: وهو محصل بعض الأجوبة المتقدم ذكرها، وفيه استعمال التعريض بصيغة المدح يؤخذ ذلك من قول آدم لموسى "أنت الذي اصطفاك الله برسالته" إلى آخر ما خاطبه به، وذلك أنه أشار بذلك إلى أنه اطلع على عذره وعرفه بالوحي فلو استحضر ذلك ما لامه مع وضوح عذره، وأيضا ففيه إشارة إلى شيء آخر أعم من ذلك وإن كان لموسى فيه اختصاص فكأنه قال: لو لم يقع إخراجي الذي رتب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك هذه المناقب لأني لو بقيت في الجنة واستمر نسلي فيها

(11/511)


ما وجد من تجاهر بالكفر الشنيع بما جاهر به فرعون حتى أرسلت أنت إليه وأعطيت ما أعطيت، فإذا كنت أنا السبب في حصول هذه الفضائل لك فكيف يسوغ لك أن تلومني. قال الطيبي مذهب الجبرية إثبات القدرة لله ونفيها عن العبد أصلا، ومذهب المعتزلة بخلافه، وكلاهما من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والطريق المستقيم القصد، فلما كان سياق كلام موسى يؤول إلى الثاني بأن صدر الجملة بحرف الإنكار والتعجب وصرح باسم آدم ووصفه بالصفات التي كل واحدة منها مستقلة في علية عدم ارتكابه المخالفة ثم أسند الإهباط إليه ونفس الإهباط منزلة دون فكأنه قال: ما أبعد هذا الانحطاط من تلك المناصب العالية، فأجاب آدم بما يقابلها بل أبلغ فصدر الجملة بهمزة الإنكار أيضا وصرح باسم موسى ووصفه بصفات كل واحدة مستقلة في علية عدم الإنكار عليه، ثم رتب العلم الأزلي على ذلك، ثم أتى بهمزة الإنكار بدل كلمة الاستبعاد فكأنه قال: تجد في التوراة هذا ثم تلومني قال: وفي هذا التقرير تنبيه على تحري قصد الأمور. قال وختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله: "فحج آدم موسى" تنبيها على أن بعض أمته كالمعتزلة ينكرون القدر فاهتم لذلك وبالغ في الإرشاد. قلت: ويقرب من هذا ما تقدم في كتاب الإيمان في الرد على المرجئة بحديث ابن مسعود رفعه: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" فلما كان المقام مقام الرد على المرجئة اكتفى به معرضا عما يقتضيه ظاهره من تقوية مذهب الخوارج المكفرين بالذنب اعتمادا على ما تقرر من دفعه في مكانه، فكذلك هنا لما كان المراد به الرد على القدرية الذين ينكرون سبق القدر اكتفى به معرضا عما يوهمه ظاهر من تقوية مذهب الجبرية لما تقرر من دفعه في مكانه والله أعلم. وفي هذا الحديث عدة من الفوائد غير ما تقدم: قال القاضي عياض ففيه حجة لأهل السنة في أن الجنة التي أخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وعد المتقون ويدخلونها في الآخرة، خلافا لمن قال من المعتزلة وغيرهم إنها جنة أخرى، ومنهم من زاد على ذلك فزعم أنها كانت في الأرض، وقد سبق الكلام على ذلك في أواخر كتاب الرقاق. وفيه إطلاق العموم وإرادة الخصوص في قوله: "أعطاك علم كل شيء" والمراد به كتابه المنزل عليه وكل شيء يتعلق به؛ وليس المراد عمومه لأنه قد أقر الخضر على قوله: "وإني على علم من علم الله لا تعلمه أنت" وقد مضى واضحا في تفسير سورة الكهف. وفيه مشروعية الحجج في المناظرة لإظهار طلب الحق وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحجاج ليتوصل إلى ظهور الحجة وأن اللوم على من أيقن وعلم اشد من اللوم على من لم يحصل له ذلك. وفيه مناظرة العالم من هو أكبر منه والابن أباه ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق أو الازدياد من العلم والوقوف على حقائق الأمور. وفيه حجة لأهل السنة في إثبات القدر وخلق أفعال العباد. وفيه أنه يغتفر للشخص في بعض الأحوال ما لا يغتفر في بعض كحالة الغضب والأسف وخصوصا ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب، فإن موسى عليه السلام لما غلبت عليه حالة الإنكار في المناظرة خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجردا وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة، ومع ذلك فأقره على ذلك وعدل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دفع شبهته.

(11/512)


باب لامانع لما أعطى
...
12 - باب لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ "كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاَةِ فَأَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ قَالَ:

(11/512)


سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاَةِ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَد ّ"ُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ أَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَهُ بِهَذَا ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ"
قوله: "باب لا مانع لما أعطى الله" هذا اللفظ منتزع من معنى الحديث الذي أورده. وأما لفظه فهو طرف من حديث معاوية أخرجه مالك. ولمح المصنف بذلك إلى أنه بعض حديث الباب كما قدمته عند شرحه في آخر صفة الصلاة، وأن معاوية استثبت المغيرة في ذلك، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي هناك. وقوله: "ولا معطي لما منعت" زاد فيه مسعر عن عبد الملك بن عمير عن وراد "ولا راد لما قضيت" أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه، وذكرت لهذه الزيادة طريقا أخرى هناك، وكذا رويناها في "فوائد أبي سعد الكنجرودي". قوله: "وقال ابن جريج" وصله أحمد ومسلم من طريق ابن جريج، والغرض التصريح بأن ورادا أخبر به عبدة لأنه وقع في الرواية الأولى بالعنعنة.

(11/513)


13 - باب مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}
6616- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ"
قوله: "باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء" تقدم شرح ذلك في أوائل الدعوات. قوله: "وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} يشير بذكر الآية إلى الرد على من زعم أن العبد يخلق فعل نفسه، لأنه لو كان السوء المأمور بالاستعاذة بالله منه مخترعا لفاعله لما كان للاستعاذة بالله منه معنى، لأنه لا يصح التعوذ إلا بمن قدر على إزالة ما استعيذ به منه. حديث أبي هريرة وهو يتضمن أن الله تعالى فاعل جميع ما ذكر، والمراد بسوء القضاء سوء المقضي كما تقدم تقريره مع شرح الحديث مستوفي في أوائل الدعوات.

(11/513)


14 - باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
قوله: "باب يحول بين المرء وقلبه" كأنه أشار إلى تفسير الحيلولة التي في الآية بالتقلب الذي في الخبر أشار إلى ذلك الراغب وقال: المراد أنه يلقي في قلب الإنسان ما يصرفه عن مراده لحكمة تقتضي ذلك، وورد في تفسير الآية ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا: "يحول بين المؤمن وبين الكفر ويحول بين الكافر وبين الهدي"
6617- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ " لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ"
[الحديث 6617- طرفاه في: 6628، 7391]
6618- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ وَبِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لِابْنِ صَيَّادٍ "خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئَا قَالَ الدُّخُّ قَالَ اخْسَأْ

(11/513)


باب { قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا }
...
15 - باب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} قَضَى
قَالَ مُجَاهِدٌ بِفَاتِنِينَ بِمُضِلِّينَ إِلاَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ
{قَدَّرَ فَهَدَى} قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَهَدَى الأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا
6619- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ "كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهِ وَيَمْكُثُ فِيهِ لاَ يَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ"
قوله: "باب قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، قضى" فسر كتب بقضى وهو أحد معانيها، وبه جزم الطبري في تفسيرها. وقال الراغب: ويعبر بالكتابة عن القضاء الممضى كقوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي فيما قدره، ومنه {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} يعني ما قدره وقضاه،

(11/514)


قال: وعبر بقوله لنا ولم يعبر بقوله علينا تنبيها على أن الذي يصيبنا نعده نعمة لا نقمة، قلت: ويؤيد هذا الآية التي تليها حيث قال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وقد تقدم في تفسيره أن المراد الفتح أو الشهادة وكل منهما نعمة. قال ابن بطال: وقد قيل إن هذه الآية وردت فيما أصاب العباد من أفعال الله التي اختص بها دون خلقه ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين. قلت: والصواب التعميم وأن ما يصيبهم باكتسابهم واختيارهم هو مقدور لله تعالى وعن إرادته وقع، والله أعلم. قوله: "قال مجاهد {بفاتنين} بمضلين، إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم" وصله عبد بن حميد بمعناه من طريق إسرائيل عن منصور في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال لا يفتنون إلا من كتب عليه الضلالة، ووصله أيضا من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، وأخرجه الطبري من تفسير ابن عبا من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظ: "لا تضلون أنتم ولا أضل منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الجحيم" ومن طريق حميد "سألت الحسن فقال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من كان في علم الله أنه سيصلى الجحيم" ومن طريق عمر بن عبد العزيز قال في تفسير هذه الآية "إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم بالذي تفتنون عليها إلا من قضيت أنه من سيصلى الجحيم". قوله: "قدر فهدى قدر الشقاء والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قدر للإنسان الشقوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها، وتفسير مجاهد هذا للمعنى لا للفظ وهو كقوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال الراغب: هداية الله للخلق على أربعة أضرب: الأول العامة لكل أحد بحسب احتماله وإليها أشار بقوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} والثاني الدعاء على ألسنة الأنبياء وإليها أشار بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} والثالث التوفيق الذي يختص به من اهتدى وإليها أشار بقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} والرابع الهدايات في الآخرة إلى الجنة وإليها أشار بقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} قال: وهذه الهدايات الأربع مرتبة فإنه من لا يحصل له الأولى لا تحصل له الثانية ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة ولا تحصل الرابعة إلا لمن حصلت له الثالثة ولا تحصل الثالثة إلا لمن حصلت له اللتان قبلها، وقد تحصل الأولى دون الثانية والثانية دون الثالثة، والإنسان لا يهدي أحدا إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون بقية الأنواع المذكورة، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وإلى بقية الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . حديث عائشة في الطاعون وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الطب، والغرض من قوله فيه: يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له. "تنبيه": سند حديث عائشة هذا من ابتدائه إلى يحيى بن يعمر مراوزة، وقد سكن يحيى المذكور مرو مدة فلم يبق من رجال السند من ليس مروزيا إلا طرفاه البخاري وعائشة.

(11/515)


باب { وماكنا لنهتدي لولا أن هدنا الله - لو أن الله هاني لكنت من المتقين }
...
16 - باب {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}
6620- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهُوَ يَقُولُ

(11/515)


وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ صُمْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا ... فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا ... وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
قوله: "باب {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} كذا ذكر بعض كل من الآيتين، والهداية المذكورة أولا هي الرابعة على ما ذكر الراغب، والمذكورة ثانيا هي الثالثة. حديث البراء في قوله: "والله لولا الله ما اهتدينا" الأبيات وقد تقدم شرحها في غزوه الخندق، وقوله هنا "ولا صمنا ولا صلينا" كذا وقع مزحوفا، وتقدم هناك من طريق شعبة عن أبي إسحاق بلفظ: "ولا تصدقنا" بدل "ولا صمنا" وبه يحصل الوزن وهو المحفوظ، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب القدر من الأحاديث المرفوعة على تسعة وعشرين حديثا، المعلق منها ثلاثة والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وعشرون والخالص سبعة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي سعيد "ما استخلف من خليفة" وحديث ابن عمر "لا ومقلب القلوب". وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين خمسة آثار. والله أعلم.

(11/516)


كتاب الأيمان والنذور
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
83 - كِتَاب الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
قوله: "كتاب الأيمان والنذور" الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء فسمى الحلف بذلك لحفظ المحلوف عليه، وسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها. ويجمع اليمين أيضا على أيمن كرغيف وأرغف. وعرفت شرعا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله وهذا أخصر التعاريف وأقربها. والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف. وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر.

(11/516)


باب قول الله تعالى { لايؤخذكم الله بالغو في أيمانكم ...} الخ .
...
1 - باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لايُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
6621- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَقَالَ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي"
6622- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ

(11/516)


2 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَايْمُ اللَّهِ"
6627- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم وايم الله" بكسر الهمزة وبفتحها والميم مضمومة، وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور وحرف عند الزجاج وهمزته همزة وصل عند الأكثر وهمزة قطع عند الكوفيين ومن وافقهم لأنه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه.
قال ابن مالك: فلو كان جمعا لم تحذف همزته، واحتج بقول عروة بن الزبير لما أصيب بولده ورجله "ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت" قال: فلو كان جمعا لم يتصرف فيه بحذف بعضه، قال: وفيه اثنتا عشرة لغة جمعتها في بيتين وهما:
همز ايم وايمن فافتح واكسر أو أم قل ... أو قل م أو من بالتثليث قد شكلا
وايمن اختم به والله كلا أضف ... إليه في قسم تستوف ما نقلا
قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك: فإنه أم بفتح الهمزة وهيم بالهاء بدل الهمزة وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم

(11/521)


الأندلسي في "شرح المفصل" وقد قدمت في أوائل هذا الشرح في آخر التيمم لغات في هذا فبلغت عشرين، وإذا حصر ما ذكر هنا زادت على ذلك. وقال غيره: أصله يمين الله ويجمع أيمنا فيقال وأيمن الله حكاه أبو عبيدة وأنشد لزهير بن أبي سلمى:
فتجمع أيمن منا ومنكم ... بمقسمة تمور بها الدماء
وقالوا عند القسم: وأيمن الله، ثم كثر فحذفوا النون كما حذفوها من لم يكن فقالوا لم يك، ثم حذفوا الياء فقالوا أم الله ثم حذفوا الألف فاقتصروا على الميم مفتوحة ومضمومة ومكسورة. وقالوا أيضا من الله بكسر الميم وضمها، وأجازوا في أيمن فتح الميم وضمها وكذا في أيم، ومنهم من وصل الألف وجعل الهمزة زائدة أو مسهلة وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين. وقال الجوهري: قالوا: أيم الله وربما حذفوا الياء فقالوا أم الله وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا م الله وربما كسروها لأنها صارت حرفا واحدا فشبهوها بالباء قالوا وألفها ألف وصل عند أكثر النحويين ولم يجيء ألف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل اللام للتأكيد فيقال ليمن الله قال الشاعر:
فقال فريق القوم لما نشدتهم ... نعم وفريق ليمن الله ما ندري
وذهب ابن كيسان وابن درستويه إلى أن ألفها ألف قطع وإنما خففت همزتها وطرحت في الوصل لكثرة الاستعمال، وحكى ابن التين عن الداودي قال: ايم الله معناه اسم الله أبدل السين ياء، وهو غلط فاحش لأن السين لا تبدل ياء، وذهب المبرد إلى أنها عوض من واو القسم وأن معنى قوله وايم الله والله لأفعلن. ونقل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله ومنه قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومن ثم قال المالكية والحنفية إنه يمين، وعند الشافعية إن نوى اليمين انعقدت وإن نوى غير اليمين لم ينعقد يمينا وإن أطلق فوجهان أصحهما لا ينعقد إلا إن نوى، وعن أحمد روايتان أصحهما الانعقاد، وحكى الغزالي في معناه وجهين أحدهما أنه كقوله تالله والثاني كقوله أحلف بالله وهو الراجح، ومنهم من سوى بينه وبين لعمر الله، وفرق الماوردي بأن لعمر الله شاع في استعمالهم عرفا بخلاف ايم الله، واحتج بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقا بأن معناه يمين الله ويمين الله من صفاته وصفاته قديمة، وجزم النووي في التهذيب أن قول وايم الله كقوله وحق الله وقال إنه تنعقد به اليمين عند الإطلاق وقد استغربوه. ووقع في الباب الذي بعده ما يقويه، وهو قوله في حديث أبي هريرة في قصة سليمان بن داود عليهما السلام "وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا" والله أعلم. واستدل من قال بالانعقاد مطلقا بهذا الحديث ولا حجة فيه إلا على التقدير المتقدم وأن معناه وحق الله. حديث ابن عمر في بعث أسامة وقد تقدم شرحه مستوفي في آخر المغازي وفي المناقب، وضبط قوله فيه وايم الله بالهمز وتركه، والله أعلم.

(11/522)


3 - باب كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ سَعْدٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"
وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَهَا اللَّهِ إِذًا يُقَالُ وَاللَّهِ وَبِاللَّهِ وَتَاللَّهِ

(11/522)


6628- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ"
6629- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ "عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
6630- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
6631- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"
6632- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لاَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْآنَ يَا عُمَرُ"
6633-6634- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأُمِرَ أُنَيْسٌ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا"

(11/523)


6635- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ خَابُوا وَخَسِرُوا قَالُوا نَعَمْ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ"
6636- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ "أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لاَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلُوهُ"
6637- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"
6638- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ يَقُولُ "هُمْ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" قُلْتُ مَا شَأْنِي أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ مَا شَأْنِي فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ فَقُلْتُ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "الأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا"
6639- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ سُلَيْمَانُ لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ"
6640- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ أُهْدِيَ إِلَى

(11/524)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهَا وَلِينِهَا
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْهَا" قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا" لَمْ يَقُلْ شُعْبَةُ وَإِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"
6641- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ شَكَّ يَحْيَى ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ قَالَ " لاَ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ"
6642- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ "حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضِيفٌ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ يَمَانٍ إِذْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا بَلَى قَالَ أَفَلَمْ تَرْضَوْا أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا بَلَى قَالَ " فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
6643- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"
6644- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ"
6645- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا أَوْلاَدٌ لَهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لاَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ"

(11/525)


قوله: "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم" أي التي كان يواظب على القسم بها أو يكثر، وجملة ما ذكر في الباب أربعة ألفاظ: أحدها والذي نفسي بيده وكذا نفس محمد بيده، فبعضها مصدر بلفظ لا وبعضها بلفظ أما وبعضها بلفظ أيم، ثانيها لا ومقلب القلوب. ثالثها والله رابعها ورب الكعبة، وأما قوله: "لاها الله إذا" فيؤخر منه مشروعيته من تقريره لا من لفظه والأول أكثرها ورودا، وفي سياق الثاني إشعار بكثرته أيضا، وقد وقع في حديث رفاعة بن عرابة عند ابن ماجه والطبراني "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلف قال: والذي نفسي بيده" ولابن أبي شيبة من طريق عاصم بن شميخ عن أبي سعيد "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: "لا والذي نفس أبي القاسم بيده" ولابن ماجه من وجه آخر في هذا الحديث: "كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحلف بها أشهد عند الله، والذي نفسي بيده" ودل ما سوى الثالث من الأربعة على أن النهي عن الحلف بغير الله لا يراد به اختصاص لفظ الجلالة بذلك بل يتناول كل اسم وصفة تختص به سبحانه وتعالى، وقد جزم ابن حزم وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية بأن جميع الأسماء الواردة في القرآن والسنة الصحيحة وكذا الصفات صريح في اليمين تنعقد به وتجب لمخالفته الكفارة، وهو وجه غريب عند الشافعية، وعندهم وجه أغرب منه أنه ليس في شيء من ذلك صريح إلا لفظ الجلالة وأحاديث الباب ترده. والمشهور عندهم وعند الحنابلة أنها ثلاثة أقسام. أحدها ما يختص به كالرحمن ورب العالمين وخالق الخلق فهو صريح تنعقد به اليمين سواء قصد الله أو أطلق. ثانيها ما يطلق عليه وقد يقال لغيره لكن بقيد كالرب والحق فتنعقد به اليمين إلا إن قصد به غير الله. ثالثها ما يطلق على السواء كالحي والموجود والمؤمن فإن نوى غير الله أو أطلق فليس بيمين وإن نوى به الله انعقد على الصحيح. وإذا تقرر هذا فمثل "والذي نفسي بيده" ينصرف عند الإطلاق لله جزما فإن نوى به غيره كملك الموت مثلا لم يخرج عن الصراحة على الصحيح، وفيه وجه عن بعض الشافعية وغيرهم، ويلتحق به "والذي فلق الحبة، ومقلب القلوب" وأما مثل "والذي أعبده، أو أسجد له، أو أصلي له" فصريح جزما، وجملة الأحاديث المذكورة في هذا الباب عشرون حديثا: قوله: "وقال سعد" هو ابن أبي وقاص، وقد مضى الحديث المشار إليه في مناقب عمر في حديث أوله "استأذن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة" الحديث وفيه: "أيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك" وقد مضى شرحه مستوفي هناك. قوله: "وقال أبو قتادة قال أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم: لاها الله إذا" وهو طرف من حديث موصول في غزوة حنين، وقد بسطت الكلام على هذه الكلمة هناك. قوله: "يقال والله وبالله وتالله" يعني أن هذه الثلاثة حروف القسم، ففي القرآن القسم بالواو وبالموحدة في عدة أشياء وبالمثناة في قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وغير ذلك وهذا قول الجمهور وهو المشهور عن الشافعي، ونقل قول عن الشافعي أن القسم بالمثناة ليس صريحا لأن أكثر الناس لا يعرفون معناها، والأيمان مختصة بالعرف، وتأول ذلك أصحابه وأجابوا عنه بأجوبة. نعم تفترق الثلاثة بأن الأولين يدخلان على اسم الله وغيره من أسمائه ولا تدخل المثناة إلا على الله وحده، وكأن المصنف أشار بإيراد هذا الكلام هنا عقب حديث أبي قتادة إلى أن أصل "لاها الله لا والله" فالهاء عوض عن الواو، وقد صرح بذلك جمع من أهل اللغة. وقيل الهاء نفسها أيضا حرف قسم بالأصالة. ونقل الماوردي أن أصل أحرف القسم الواو ثم الموحدة ثم المثناة. ونقل ابن الصباغ عن أهل اللغة أن الموحدة هي الأصل وأن الواو بدل منها وأن المثناة بدل

(11/526)


من الواو، وقواه ابن الرفعة واستدل بأن الباء تعمل في الضمير بخلاف الواو. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي وسفيان هو الثوري، وقد أخرج البخاري عن محمد بن يوسف وهو البيكندي عن سفيان وهو ابن عيينة وليس هو المراد هنا. وقد أخرج أبو نعيم في المستخرج هذا الحديث من طريق محمد بن يوسف الفريابي حدثنا سفيان وهو الثوري، وأخرجه الإسماعيلي وابن ماجه من رواية وكيع والنسائي من رواية محمد بن بشر كلاهما عن سفيان الثوري أيضا. قوله: "كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم" زاد الإسماعيلي من رواية وكيع "التي يحلف عليها" وفي أخرى له "يحلف بها". قوله: "لا ومقلب القلوب" تقدم في أواخر كتاب القدر من رواية ابن المبارك عن موسى بن عقبة بلفظ: "كثيرا ما كان" ويأتي في التوحيد من طريقه بلفظ: "أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف" فذكره. وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن الزهري بلفظ كان أكثر أيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ومصرف القلوب" وقوله: "لا" نفي للكلام السابق "ومقلب القلوب" هو المقسم به، والمراد بتقليب القلوب تقليب أعراضها وأحوالها لا تقليب ذات القلب. وفي الحديث دلالة على أن أعمال القلب من الإرادات والدواعي وسائر الأعراض بخلق الله تعالى، وفيه جواز تسمية الله تعالى بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به. وفي هذا الحديث حجة لمن أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث، ولا نزاع في أصل ذلك وإنما الخلاف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق أنها مختصة بالتي لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب، قال القاضي أبو بكر بن العربي: في الحديث جواز الحلف بأفعال الله إذا وصف بها ولم يذكر اسمه، قال وفرق الحنفية بين القدرة والعلم فقالوا: إن حلف بقدرة الله انعقدت يمينه وإن حلف بعلم الله لم تنعقد لأن العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}. والجواب أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم، والكلام إنما هو في الحقيقة. قال الراغب: تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي، والتقلب التصرف، قال تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} قال: وسمي قلب الإنسان لكثرة تقلبه. ويعبر بالقلب عن المعاني التي يختص بها من الروح والعلم والشجاعة، ومن قوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي الأرواح، وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي علم وفهم، وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أي نثبت به شجاعتكم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة، وحصل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل بها ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر، فالعقل بنوره يهديه والهوى بظلمته يغويه والقضاء والقدر مسيطر على الكل والقلب ينقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة واللمة من الملك تارة ومن الشيطان أخرى والمحفوظ من حفظه الله تعالى. حديث جابر بن سمرة "إذا هلك كسرى" وقد تقدم شرحه في أواخر علامات النبوة والغرض منه قوله: "والذي نفسي بيده". حديث أبي هريرة "إذا هلك كسرى" وقد تقدم شرحه في أواخر علامات النبوة والغرض منه قوله: "والذي نفسي بيده". حديث عائشة، وهو طرف من حديث طويل تقدم في صلاة الكسوف، واقتصر هنا على آخره لقوله: "والله لو تعلمون" ومحمد في أول هذا السند هو ابن سلام، وعبدة هو ابن سليمان. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" دلالة على اختصاصه بمعارف بصرية وقلبية، وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع الله له بين علم اليقين وعين اليقين مع الخشية القلبية واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ويشير إلى ذلك قوله في الحديث الماضي في

(11/527)


كتاب الإيمان من حديث عائشة "إن أتقاكم وأعلمكم بالله لأنا". حديث عبد الله بن هشام أي ابن زهرة بن عثمان التيمي من رهط الصديق. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب" تقدم هذا القدر من هذا الحديث بهذا السند في آخر مناقب عمر، فذكرت هناك نسب عبد الله بن هشام وبعض حاله، ويقدم له ذكر في الشركة والدعوات. قوله: "فقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي" اللام لتأكيد القسم المقدر كأنه قال: والله لأنت إلخ. قوله: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" أي لا يكفي ذلك لبلوغ الرتبة العليا حتى يضاف إليه ما ذكر. وعن بعض الزهاد: تقدير الكلام لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه الهلاك. وقد قدمت تقرير هذا في أوائل كتاب الأيمان. قوله: "فقال له عمر فإنه الآن يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر" قال الداودي: وقوف عمر أول مرة واستثناؤه نفسه إنما اتفق حتى لا يبلغ ذلك منه فيحلف بالله كاذبا، فلما قال له ما قال تقرر في نفسه أنه أحب إليه من نفسه فحلف، كذا قال. وقال الخطابي: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. قلت: فعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: "الآن يا عمر" أي الآن عرفت فنطقت بما يجب. وأما تقرير بعض الشراح الآن صار إيمانك معتدا به، إذ المرء لا يعتد بإيمانه حتى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول. ففيه سوء أدب في العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هذا في كلام الكبار عند عدم التأمل والتحرز لاستغراق الفكر في المعنى الأصلي، فلا ينبغي التشديد في الإنكار على من وقع ذلك منه بل يكتفي بالإشارة إلى الرد والتحذير من الاغترار به لئلا يقع المنكر في نحو مما أنكره. حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف وسيأتي شرحه مستوفى في الحدود، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لأقضين" وسقطت "أما" وهي بتخفيف الميم للافتتاح من بعض الروايات. قوله: "عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وفي شيوخ البخاري عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة لكنه لم يسم أباه في شيء من الأحاديث التي أخرجها إما يكنيه ويكنى أباه أو يسميه ويكنى أباه، بخلاف الجعفي فإنه ينسبه تارة وأخرى لا ينسبه كهذا الموضع، ووهب هو ابن جرير بن حازم، ومحمد بن أبي يعقوب نسبه إلى جده وهو محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبي، وأبو بكرة هو الثقفي، والإسناد من وهب فصاعدا بصريون. قوله: "أرأيتم إن كان أسلم" أي أخبروني، والمراد بأسلم ومن ذكر معها قبائل مشهورة، وقد تقدم شرح الحديث المذكور في أوائل المبعث النبوي والمراد منه قوله فيه: "فقال: والذي نفسي بيده أنتم خير منهم" والمراد خيرية المجموع على المجموع وإن جاز أن يكون في المفضولين فرد أفضل من فرد من الأفضلين. قوله: "استعمل عاملا" هو ابن اللتبية بضم اللام وسكون المثناة وكسر الموحدة ثم ياء النسب واسمه عبد الله كما تقدمت الإشارة إليه في كتاب الزكاة وشيء من شرحه في الهبة، ويأتي شرحه مستوفي في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله في آخره "قال أبو حميد: وقد سمع معي زيد بن ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم فسلوه" قد فتشت مسند زيد ثابت فلم أجد لهذه القصة فيه ذكرا. حديث أبي هريرة "لو تعلمون ما أعلم" الحديث مختصرا

(11/528)


وقد تقدمت الإشارة إليه في أحاديث الباب. حديث أبي ذر أورده مختصرا. وقد تقدم شرحه مستوفي في الرقاق، وساق بهذا السند في كتاب الزكاة المتن بتمامه. قوله: "قال سليمان" أي ابن داود نبي الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم منسوبا في أوائل الجهاد، وتقدم شرحه مستوفى في ترجمة سليمان من أحاديث الأنبياء، ويأتي ما يتعلق بقوله: "إن الله تعالى" في باب الاستثناء في الأيمان من كتاب كفارة الأيمان، وأورده هنا لقوله فيه: "وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله" الحديث هكذا وقع في هذه الرواية وفي سائر الطرق كما تقدم في ترجمة سليمان بغير يمين، واستدل بما وقع في هذا الموضع على جواز إضافة "ايم" إلى غير لفظ الجلالة وأجيب بأنه نادر ومنه قول عروة بن الزبير في قصته المتقدمة "ليمنك لئن ابتليت فقد عافيت" فأضافها إلى الضمير. حديث البراء بن عازب في ذكر مناديل سعد تقدم شرحه في المناقب وفي اللباس، قوله في آخره: "لم يقل شعبة وإسرائيل عن أبي إسحاق والذي نفسي بيده" يعني أنهما روياه عن أبي إسحاق عن البراء كما رواه أبو الأحوص وأن أبا الأحوص انفرد عنهما بهذه الزيادة، وقد تقدم حديث شعبة في المناقب وحديث إسرائيل في اللباس موصولا، قال الإسماعيلي وكذا رواه الحسين بن واقد عن أبي إسحاق، كذا قال أبو عاصم أحمد ابن جواس -بفتح الجيم وتشديد الواو ثم المهملة- عن أبي الأحوص أخرجه الإسماعيلي من طريقه وقال: هو من المتخصصين بأبي الأحوص. قلت: وشيخ البخاري الذي زادها عن أبي الأحوص هو محمد بن سلام، وقد وافقه هناد ابن السري عن أبي الأحوص أخرجه ابن ماجه. قوله: "يونس" هو ابن يزيد. قوله: "ما كان مما على ظهر الأرض أهل أخباء أو خباء" كذا فيه بالشك هل هو بصيغة الجمع أو الإفراد، وبين أن الشك من يحيى وهو ابن عبد الله بن بكير شيخ البخاري فيه، وقد تقدم في النفقات من رواية ابن المبارك عن يونس بن يزيد بلفظ: "أهل خباء" بالإفراد ولم يشك، وكذا للإسماعيلي من طريق عنبسة عن يونس، وتقدم شرح الحديث في أواخر المناقب. وقوله إن أبا سفيان هو ابن حرب والد معاوية، وقوله رجل مسيك بكسر الميم، وتشديد السين وبفتح الميم وتخفيف السين وتقدم ذلك واضحا في كتاب النفقات، وقوله: "لا بالمعروف" الباء متعلقة بالإنفاق لا بالنفي، وقد مضى في المناقب بلفظ: "فقال لا إلا بالمعروف" وهي أوضح والله أعلم. قوله: "حدثنا أحمد بن عثمان" هو الأودي وشريح بالشين المعجمة والحاء المهملة، وإبراهيم بن يوسف أي ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي فأبو إسحاق جد يوسف والسند كله كوفيون، ومضى شرح الحديث مستوفي في كتاب الرقاق. حديث أبي سعيد في قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن تقدم مشروحا في فضائل القرآن. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه وحبان بفتح أوله ثم الموحدة وتقدم شرح الحديث المذكور في صفة الصلاة.قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه أيضا. قوله: "أن امرأة من الأنصار" لم أقف على اسمها ولا على أسماء أولادها. قوله: "معها أولادها" في رواية الكشميهني أولاد لها. قوله: "إنكم لأحب الناس إلي" تقدم الكلام عليه في مناقب الأنصار، وفي هذه الأحاديث جواز الحلف بالله تعالى. وقال قوم: يكره لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ولأنه ربما عجز عن الوفاء بها، ويحمل ما ورد من ذلك على ما إذا كان في طاعة أو دعت إليها حاجة كتأكيد أمر أو تعظيم من يستحق التعظيم أو كان في دعوى عند الحاكم وكان صادقا.

(11/529)


4 - باب لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
6646- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ "أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ"
6647- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ سَالِمٌ "قَالَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا قَالَ مُجَاهِدٌ أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يَأْثُرُ عِلْمًا تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ"
6648- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار "قال سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحلفوا بآبائكم"
6649- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ "كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ إِلَى الطَّعَامِ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ آكُلَهُ فَقَالَ قُمْ فَلاَحَدِّثَنَّكَ عَنْ ذَاكَ إِنِّي أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ "وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ "أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ" فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحْمِلُنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا ثُمَّ حَمَلَنَا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا أَتَيْنَاكَ لِتَحْمِلَنَا فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا وَمَا عِنْدَكَ مَا تَحْمِلُنَا فَقَالَ "إِنِّي لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَاللَّهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قوله: "باب" بالتنوين "لا تحلفوا بآبائكم" هذه الترجمة لفظ رواية ابن دينار عن ابن عمر في الباب لكنها مختصرة على ما سأبينه، وقد أخرج النسائي وأبو داود في رواية ابن داسة عنه من حديث أبي هريرة مثله بزيادة ولفظه: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله" الحديث. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(11/530)


أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير" هذا السياق يقتضي أن الخبر من مسند ابن عمر وكذا وقع في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ولم أر عن نافع في ذلك اختلافا إلا ما حكى يعقوب بن شيبة أن عبد الله بن عمر العمري الضعيف المكبر رواه عن نافع فقال: "عن ابن عمر عن عمر" قال ورواه عبيد الله بن عمر العمرى المصغر الثقة عن نافع فلم يقل فيه: "عن عمر" وهكذا رواه الثقات عن نافع، لكن وقع في رواية أيوب عن نافع أن عمر لم يقل فيه عن ابن عمر. قلت: قد أخرجه مسلم من طريق أيوب فذكره، وأخرجه أيضا عن جماعة من أصحاب نافع بموافقة مالك، ووقع للمزي في "الأطراف" أنه وقع في رواية عبد الكريم "عن نافع عن ابن عمر" في مسند عمر، وهو معترض فإن مسلما ساق أسانيده فيه إلى سبعة أنفس من أصحاب نافع منهم عبد الكريم ثم قال سبعتهم "عن نافع عن ابن عمر" بمثل هذه القصة، وقد أورد المزي طرق الستة الآخرين في مسند ابن عمر على الصواب ووقع الاختلاف في رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه كما أشار المصنف إليه كما سأذكره. قوله: "في ركب" في مسند يعقوب بن شيبة من طريق ابن عباس عن عمر "بينا أنا راكب أسير في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "يحلف بأبيه" في رواية سفيان بن عيينة عن ابن شهاب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه وهو يقول وأبي وأبي" وفي رواية إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر من الزيادة "وكانت قريش تحلف بآبائها". قوله: "فقال ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" في رواية الليث عن نافع "فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في مصنف ابن أبي شيبه من طريق عكرمة قال: "قال عمر: حدثت قوما حديثا فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي. لا تحلفوا بآبائكم، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم" وهذا مرسل يتقوى بشواهده. وقد أخرج الترمذي من وجه آخر "عن ابن عمر أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك" قال الترمذي حسن وصححه الحاكم، والتعبير بقوله فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك. قوله: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن قد اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية، واختلفوا في انعقادها ببعض الصفات كما سبق، وكأن المراد بقوله: "بالله" الذات لا خصوص لفظ الله، وأما اليمين بغير ذلك فقد ثبت المنع فيها، وهل المنع للتحريم؟ قولان عند المالكية، كذا قال ابن دقيق العيد، والمشهور عندهم الكراهة، والخلاف أيضا عند الحنابلة لكن المشهور عندهم التحريم، وبه جزم الظاهرية. وقال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه، فإنه قال في موضع آخر: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، والخلاف موجود عند الشافعية من أجل قول الشافعي: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشعر بالتردد، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه. وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل، فإن اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به وكان بذلك الاعتقاد كافرا، وعليه يتنزل الحديث المذكور، وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه

(11/531)


قال الماوردي: لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر، وإذا حلف الحاكم أحدا بشيء من ذلك وجب عزله لجهله. قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد الأيلي، في رواية مسلم عن حرملة عن ابن وهب "أخبرني يونس". قوله: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ينهاكم" في رواية معمر عن ابن شهاب بهذا السند "عن عمر سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحلف بأبي فقال: إن الله" فذكر الحديث أخرجه أحمد عنه هكذا. قوله: "فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم في روايته: "ينهى عنها". قوله: "ذاكرا" أي عامدا. قوله: "ولا آثرا" بالمد وكسر المثلثة أي حاكيا عن الغير، أي ما حلفت بها ولا حكيت ذلك عن غيري، ويدل عليه ما وقع في رواية عقيل عن ابن شهاب عند مسلم: "ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها" وقد استشكل هذا التفسير لتصدير الكلام بحلفت والحاكي عن غيره لا يسمى حالفا، وأجيب باحتمال أن يكون العامل فيه محذوفا أي ولا ذكرتها آثرا عن غيري، أو يكون ضمن حلفت معني تكلمت ويقويه رواية عقيل. وجوز شيخنا في شرح الترمذي لقوله آثرا معنى آخر أي مختارا، يقال آثر الشيء إذا اختاره، فكأنه قال ولا حلفت بها مؤثرا لها على غيرها، قال شيخنا: ويحتمل أن يرجع قوله آثرا إلى معنى التفاخر بالآباء في الإكرام لهم، ومنه قولهم مأثرة ومآثر وهو ما يروى من المفاخر فكأنه قال: ما حلفت بآبائي ذاكرا لمآثرهم. وجوز في قوله: "ذاكرا" أن يكون من الذكر بضم المعجمة كأنه احترز عن أن يكون ينطق بها ناسيا، وهو يناسب تفسير آثرا بالاختيار كأنه قال لا عامدا ولا مختارا. وجزم ابن التين في شرحه بأنه من الذكر بالكسر لا بالضم، قال: وإنما هو لم أقله من قبل نفسي ولا حدثت به عن غيري أنه حلف به، قال وقال الداودي: يريد ما حلفت بها ولا ذكرت حلف غيري بها كقوله إن فلانا قال وحق أبي مثلا. واستشكل أيضا أن كلام عمر المذكور يقتضي أنه تورع عن النطق بذلك مطلقا فكيف نطق به في هذه القصة؟ وأجيب بأنه اغتفر ذلك لضرورة التبليغ. قوله: "قال مجاهد أو أثارة من علم يأثر علما" كذا في جميع النسخ يأثر بضم المثلثة، وهذا الأثر وصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: أحد يأثر علما، فكأنه سقط أحد من أصل البخاري، وقد تقدم في تفسير الأحقاف النقل عن أبي عبيدة وغيره في بيان هذه اللفظة والاختلاف في قراءتها ومعناها، وذكر الصغاني وغيره أنه قرئ أيضا إثارة بكسر أوله وأثرة بفتحتين وسكون ثانيه مع فتح أوله ومع كسره، وحديث ابن عباس المذكور هناك أخرجه أحمد وشك في رفعه، وأخرجه الحاكم موقوفا وهو الراجح. وفي رواية جودة الخط. وقال الراغب في قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} : وقرئ "أو أثرة" يعني بفتحتين وهو ما يروى أي يكتب فيبقى له أثر، تقول أثرت العلم رويته آثره أثرا وأثارة وأثرة، والأصل في أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده، ومحصل ما ذكروه ثلاثة أقوال: أحدها البقية وأصله أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار، الثاني من الأثر وهو الرواية، الثالث من الأثر وهو العلامة. قوله: "تابعه عقيل والزبيدي وإسحاق في الكلبي عن الزهري" أما متابعة عقيل فوصلها مسلم من طريق الليث بن سعد عنه وقد بينت ما فيها، ولليث فيه سند آخر رواه عن نافع عن ابن عمر فجعله من مسنده وقد مضى في الأدب. وأما متابعة الزبيدي فوصلها النسائي مختصرة من طريق محمد بن حرب عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه أخبره "عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ينهاكم أن=

38.

  مجلد  38 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 ------
 =تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فوالله ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا". وأما متابعة إسحاق الكلبي وهو ابن يحيى الحمصي فوقعت لنا موصولة في نسخته المروية من طريق أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان عن عبد القدوس بن موسى الحمصي عن سليم بن عبد الحميد عن يحيى بن صالح الوحاظي عن إسحاق ولفظه: "عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه أخبرني أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فذكر مثل رواية يونس عند مسلم، لكن قال بعد قوله: "ينهى عنها": ولا تكلمت بها ذاكرا ولا آثرا، فجمع بين لفظ يونس ولفظ عقيل. وقد صرح مسلم بأن عقيلا لم يقل في روايته ذاكرا ولا آثرا. قوله: "وقال ابن عيينة ومعمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر" أما رواية ابن عيينة فوصلها الحميدي في مسنده عنه بهذا السياق، وكذا قال أبو بكر بن أبي شيبة وجمهور أصحاب ابن عيينة عنه منهم الإمام أحمد. وقال محمد بن يحيي بن أبي عمر العدني ومحمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وسعيد من عبد الرحمن المخزومي بهذا السند عن ابن عمر عن عمر "سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد بين ذلك الإسماعيلي فقال: اختلف فيه على سفيان بن عيينة وعلى معمر، ثم ساقه من طريق ابن أبي عمر عن سفيان فقال في روايته: "عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يحلف بأبيه" قال وقال عمرو الناقد وغير واحد عن سفيان بسنده إلى ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر". وأما رواية معمر فوصلها الإمام أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجها أبو داود عن أحمد. قلت: وصنيع مسلم يقتضي أن رواية معمر كذلك، فإنه صدر برواية يونس ثم ساقه إلى عقيل ثم قال بعدها "وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا معمر" ثم قال كلاهما: عن الزهري بهذا الإسناد أي الإسناد الذي ساقه ليونس مثله، أي مثل المتن الذي ساقه له. قال: غير أن في حديث عقيل "ولا تكلمت بها" لكن حكى الإسماعيلي أن إسحاق ابن إبراهيم رواه عن عبد الرزاق كرواية أحمد عنه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن عبد الرزاق فقال في روايته عن عمر "سمعني النبي صلى الله عليه وسلم أحلف" وهكذا قال محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، وذكر الإسماعيلي أن عبد الأعلى رواه عن معمر فلم يقل في السند "عن عمر" كرواية أحمد. قلت: وكذا أخرجه أحمد في مسنده من رواية عبد الأعلى قال يعقوب بن شيبة رواه إسحاق بن يحيى عن سالم عن أبيه ولم يقل عن عمر، قلت: فكان الاختلاف فيه على الزهري رواه إسحاق بن يحيى، وهو متقن صاحب حديث، ويشبه أن يكون ابن عمر سمع المتن من النبي صلى الله عليه وسلم والقصة التي وقعت لعمر منه فحدث به على الوجهين. وفي هذا الحديث من الفوائد الزجر عن الحلف بغير الله، وإنما خص في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خص لكونه كان غالبا عليه لقوله في الرواية الأخرى "وكانت قريش تحلف بآبائها" ويدل على التعميم قوله: "من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله" وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله ففيه جوابان: أحدهما أن فيه حذفا والتقدير ورب الشمس ونحوه، والثاني أن ذلك يختص بالله فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك. وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي "أفلح وأبيه إن صدق" فقد تقدم في أوائل هذا الشرح في "باب الزكاة من الإسلام" في كتاب الأيمان الجواب عن ذلك وأن فيهم من طعن في صحة هذه اللفظة، قال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ: "أفلح والله إن صدق" قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ أفلح وأبيه لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح. ولم تقع في رواية مالك أصلا. وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله:

(11/533)


"وأبيه" من قوله: "والله" وهو محتمل ولكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال في حقه "وأبيك ما ليلك بليل سارق" أخرجه في الموطأ وغيره قال السهيلي: وقد ورد نحو في حديث آخر مرفوع قال للذي سأل أي الصدقة أفضل فقال: "وأبيك لتنبأن" أخرجه مسلم. فإذا ثبت ذلك فيجاب بأجوبة: الأول أن هذا اللفظ كان يجرى على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، وإلى هذا جنح البيهقي. وقال النووي: إنه الجواب المرضي. الثاني أنه كان يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما للتعظيم والآخر للتأكيد، والنهي إنما وقع عن الأول فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتأكيد لا للتعظيم قول الشاعر "لعمر أبي الواشين إني أحبها" وقول الآخر.
فإن تك ليلى استودعتني أمانة ... فلا وأبي أعدائها لا أذيعها
فلا يظن أن قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها كما لم يقصد الآخر تعظيم والد من وشى به، فدل على أن القصد بذلك تأكيد الكلام لا التعظيم. وقال البيضاوي: هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرد التقرير والتأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرد الاختصاص دون القصد إلى النداء، وقد تعقب الجواب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدل على أنه كان يحلفه لأن في بعض طرقه أنه كان يقول لا وأبي لا وأبي فقيل له لا تحلفوا، فلولا أنه أتى بصيغة الحلف ما صادف النهي محلا، ومن ثم قال بعضهم وهو الجواب الثالث: إن هذا كان جائزا ثم نسخ قاله الماوردي وحكاه البيهقي. وقال السبكي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك. قال: وترجمة أبي داود تدل على ذلك، يعني قوله: "باب الحلف بالآباء" ثم أورد الحديث المرفوع الذي فيه: "أفلح وأبيه إن صدق" قال السهيلي ولا يصح لأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله ولا يقسم بكافر، تالله إن ذلك لبعيد من شيمته. وقال المنذري: دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ. والجواب الرابع أن في الجواب حذفا تقديره أفلح ورب أبيه قاله البيهقي، وقد تقدم. الخامس أنه للتعجب قاله السهيلي، قال: ويدل عليه أنه لم يرد بلفظ: "أبي" وإنما ورد بلفظ: "وأبيه" أو "وأبيك" بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضرا أو غائبا. السادس أن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. وفيه أن من حلف بغير الله مطلقا لم تنعقد يمينه سواء كان المحلوف به يستحق التعظيم لمعنى غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء والملوك والآباء والكعبة، أو كان لا يستحق التعظيم كالآحاد، أو يستحق التحقير والإذلال كالشياطين والأصنام وسائر من عبد من دون الله، واستثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: تنعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث، فاعتل بكونه أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به. وأطلق ابن العربي نسبته لمذهب أحمد وتعقبه بأن الأيمان عند أحمد لا تتم إلا بفعل الصلاة فيلزمه أن من حلف بالصلاة أن تنعقد يمينه ويلزمه الكفارة إذا حنث. ويمكن الجواب عن إيراده والانفصال عما ألزمهم به، وفيه الرد على من قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر أنه ينعقد يمينا ومتى فعل تجب عليه الكفارة، وقد نقل ذلك عن الحنفية والحنابلة، ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله ولا بما يقوم مقام ذلك، وسيأتي مزيد لذلك بعد، وفيه أن من قال أقسمت لأفعلن كذا لا يكون يمينا؛ وعند الحنفية يكون يمينا، وكذا قال مالك وأحمد لكن بشرط أن ينوي بذلك الحلف بالله وهو متجه، وقد قال بعض الشافعية: إن قال على

(11/534)


أمانة الله لأفعلن كذا وأراد اليمين أنه يمين وإلا فلا. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون به تعظيما لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله وحق النبي والإسلام والحج والعمرة والهدى والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلا في النهي، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدى والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عاما لنهوا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئا انتهى. وتعقبه ابن عبد البر بأن ذكر هذه الأشياء وإن كانت بصورة الحلف فليست يمينا في الحقيقة وإنما خرج عن الاتساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله. وقال المهلب: كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم لينسيهم ذكر كل شيء سواه ويبقى ذكره، لأنه الحق المعبود فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء. وقال الطبري: في حديث عمر - يعني حديث الباب - أن اليمين لا تنعقد إلا بالله وأن من حلف بالكعبة أو آدم أو جبريل ونحو ذلك لم تنعقد يمينه ولزمه الاستغفار لإقدامه على ما نهى عنه ولا كفارة في ذلك، وأما ما وقع في القرآن من القسم بشيء من المخلوقات فقال الشعبي: فالخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق، قال: ولأن أقسم بالله فأحنث أحب إلي من أن أقسم بغيره فأبر. وجاء مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر. ثم أسند عن مطرف عن عبد الله أنه قال: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها، وقد أجمع العلماء على من وجبت له يمين على آخر في حق عليه أنه لا يحلف له إلا بالله، فلو حلف له بغيره وقال نويت رب المحلوف به لم يكن ذلك يمينا. وقال ابن هبيرة في كتاب الإجماع: أجمعوا على أن اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته كعزته وجلاله وعلمه وقوته وقدرته، واستثنى أبو حنيفة علم الله فلم يره يمينا وكذا حق الله، واتفقوا على أنه لا يحلف بمعظم غير الله كالنبي، وانفرد أحمد في رواية فقال تنعقد. وقال عياض: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الحلف بأسماء الله وصفاته لازم إلا ما جاء عن الشافعي من اشترط نية اليمين في الحلف بالصفات وإلا فلا كفارة، وتعقب إطلاقه ذلك عن الشافعي، وإنما يحتاج إلى النية عنده ما يصح إطلاقه عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره. وأما ما لا يطلق في معرض التعظيم شرعا إلا عليه تنعقد اليمين به وتجب الكفارة إذا حنث كمقلب القلوب وخالق الخلق ورازق كل حي ورب العالمين وفالق الحب وبارئ النسمة، وهذا في حكم الصريح كقوله والله، وفي وجه لبعض الشافعية أن الصريح الله فقط، ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال قصدت غير الله هل ينفعه في عدم الحنث، وسيأتي زيادة تفصيل فيما يتعلق بالصفات في باب الحلف بعزة الله وصفاته، والمشهور عن المالكية التعميم، وعن أشهب التفصيل في مثل وعزة الله إن أراد التي جعلها بين عبادة فليست بيمين، وقياسه أن يطرد في كل ما يصح إطلاقه عليه وعلى غيره. وقال به ابن سحنون منهم في عزة الله. وفي العتبية أن من حلف بالمصحف لا تنعقد، واستنكره بعضهم ثم أولها على أن المراد إذا أراد جسم المصحف، والتعميم عند الحنابلة حتى لو أراد بالعلم والقدرة المعلوم والمقدور انعقدت والله أعلم. "تنبيه": وقع في رواية محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر في آخر هذا الحديث زيادة أخرجها ابن ماجه من طريقه بلفظ:" سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه فقال:

(11/535)


لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله" وسنده حسن. حديث أبي موسى في قصة الذي حلف أن لا يأكل الدجاج وفيه قصة أبي موسى مع النبي صلى الله عليه وسلم لما استحمل النبي صلى الله عليه وسلم للأشعريين وفيه: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت" الحديث، وقد تقدم شرح ما يتعلق بالدجاج، وبما وقع في صدر الحديث من قصة الرجل الجرمي وتسميته في كتاب الذبائح، ويأتي شرح قصته في كفارات الأيمان؛ وقوله في السند "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وأيوب هو السختياني والقاسم التيمي هو ابن عاصم بصرى تابعي وهو من صغار شيوخ أيوب، قال ابن المنير: أحاديث الباب مطابقة للترجمة إلا حديث أبي موسى، لكن يمكن أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أيمانه أنها تقتضي الكفارة، والذي يشرح تكفيره ما كان الحلف فيه بالله تعالى فدل على أنه لم يكن يحلف إلا بالله تعالى.

(11/536)


باب لا يحلف باللات والعزى ، ولا بالطواغيبت
...
5 - باب لاَ يُحْلَفُ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى وَلاَ بِالطَّوَاغِيتِ
6650- حدثني عبد الله بن محمد حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق"
قوله: "باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت" أما الحلف باللات والعزى فذكر في حديث الباب وقد تقدم تفسيره في تفسير سورة النجم، وأما الطواغيت فوقع في حديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق هشام بن حسان عن الحسن البصري عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا: "لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم" وفي رواية مسلم وابن ماجه: "بالطواغي" وهو جمع طاغية والمراد الصنم، ومنه الحديث الآخر "طاغية دوس" أي صنمهم، سمى باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته لكونه السبب في طغيانهم، وكل من جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طغى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} ، وأما الطواغيت فهو جمع طاغوت وقد تقدم بيانه في تفسير سورة النساء، ويجوز أن يكون الطواغي مرخما من الطواغيت بدون حرف النداء على أحد الآراء، ويدل عليه مجيء أحد اللفظين موضع الآخر في حديث واحد، ولذلك اقتصر المصنف على لفظ الطواغيت لكونه الأصل وعطفه على اللات والعزى لاشتراك الكل في المعنى؛ وإنما أمر الحالف بذلك بقول لا إله إلا الله لكونه تعاطي صورة تعظيم الصنم حيث حلف به، قال جمهور العلماء: من حلف باللات والعزى أو غيرهما من الأصنام أو قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه وعليه أن يستغفر الله ولا كفارة عليه ويستحب أن يقول لا إله إلا الله، وعن الحنفية تجب الكفارة إلا في مثل قوله أنا مبتدع أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، واحتج بإيجاب الكفارة على المظاهر مع أن الظهار منكر من القول وزور كما قال الله تعال والحلف بهذه الأشياء منكر، وتعقب بهذا الخبر لأنه لم يذكر فيه إلا الأمر بلا إله إلا الله ولم يذكر فيه كفارة والأصل عدمها حتى يقام الدليل، وأما القياس على الظهار فلا يصح لأنهم لم يوجبوا فيه كفارة الظهار واستثنوا أشياء لم يوجبوا فيها كفارة أصلا مع أنه منكر من القول. وقال النووي في الأذكار: الحلف بما ذكر حرام تجب التوبة منه، وسبقه إلى ذلك الماوردي وغيره ولم يتعرضوا لوجوب قول لا إله إلا الله وهو ظاهر الخبر

(11/536)


وبه جزم ابن درباس في شرح المهذب. وقال البغوي في شرح السنة تبعا للخطابي: في هذا الحديث دليل على أن لا كفارة على من حلف بغير الإسلام وإن أثم به، لكن تلزمه التوبة لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بكلمة التوحيد فأشار إلى أن عقوبته تختص بذنبه ولم يوجب عليه في ماله شيئا، وإنما أمره بالتوحيد لأن الحلف باللات والعزى يضاهي الكفار فأمره أن يتدارك بالتوحيد. وقال الطيبي: الحكمة في ذكر القمار بعد الحلف باللات أن من حلف باللات وافق الكفار في حلفهم فأمر بالتوحيد، ومن دعا إلى المقامرة وافقهم في لعبهم فأمر بكفارة ذلك بالتصدق. قال: وفي الحديث أن من دعا إلى اللعب فكفارته أن يتصدق، ويتأكد ذلك في حق من لعب بطريق الأولى. وقال النووي: فيه أن من عزم على المعصية حتى استقر ذلك في قلبه أو تكلم بلسانه أنه تكتبه عليه الحفظة. كذا قال، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الدليل وقفة.

(11/537)


باب من حلف على شيء وإن لم يحلف
...
6 - باب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ
6651- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ يَلْبَسُهُ فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ فَصَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ
قوله: "باب من حلف على الشيء وإن لم يحلف" بضم أوله وتشديد اللام، تقدم قريبا في "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم" أمثلة كثيرة لذلك وهي ظاهرة في ذلك. حديث ابن عمر في لبس النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الذهب وفيه: "فرمى به ثم قال: والله لا ألبسه أبدا" وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر كتاب اللباس. وقد أطلق بعض الشافعية أن اليمين بغير استحلاف تكره فيما لم يكن طاعة، والأولى أن يعبر بما فيه مصلحة. قال ابن المنير: مقصود الترجمة أن يخرج مثل هذا من قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} يعني على أحد التأويلات فيها لئلا يتخيل أن الحالف قبل أن يستحلف يرتكب النهي، فأشار إلى أن النهي يختص بما ليس فيه قصد صحيح كتأكيد الحكم، كالذي ورد في حديث الباب من منع لبس خاتم الذهب.

(11/537)


7 - باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى مِلَّةِ الإِسْلاَمِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ"
6652- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ"
قوله: "باب من حلف بملة سوى الإسلام" الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان

(11/537)


باب لا يقول ماشاء الله وشئت . وهل يقول أنا بالله ثم بك؟
...
8 - باب لاَ يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ

(11/539)


6653- وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فَلاَ بَلاَغَ لِي إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب لا يقول ما شاء الله وشئت، وهل يقول أنا بالله ثم بك"؟ هكذا بت الحكم في الصورة الأولى وتوقفت في الصورة الثانية، وسببه أنها وإن كانت وقعت في حديث الباب الذي أورده مختصرا وساقه مطولا فيما مضى لكن إنما وقع ذلك من كلام الملك على سبيل الامتحان للمقول له فتطرق إليه الاحتمال. قوله: "وقال عمرو بن عاصم إلخ" وصله في ذكر بني إسرائيل فقال: "حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن عاصم" وساقه بطوله. وقد يتمسك به من يقول أنه قد يطلق "قال" لبعض شيوخه فيما لم يسمعه منه ويكون بينهما واسطة، كأنه أشار بالصورة الأولى إلى ما أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور وصححه من طريق عبد الله بن يسار بتحتانية ومهملة عن قتيلة بقاف ومثناة فوقانية والتصغير امرأة من جهينة "أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت" وأخرج النسائي وابن ماجه أيضا وأحد من رواية يزيد بن الأصم عن ابن عباس رفعه: "إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت" وفي أول حديث النسائي قصة وهي عند أحمد ولفظه: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال له: "أجعلتني والله عدلا، لا بل ما شاء الله وحده" وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه أيضا عن حذيفة "أن رجلا من المسلمين رأى رجلا من أهل الكتاب في المنام فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" وفي رواية النسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة الراوي، هذه رواية ابن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة. وقال أبو عوانة عن عبد الملك عن ربعي عن الطفيل بن سخيرة أخي عائشة بنحوه أخرجه ابن ماجه أيضا، وهكذا قال حماد بن سلمة عند أحمد وشعبة وعبد الله بن إدريس عن عبد الملك، وهو الذي رجحه الحفاظ وقالوا: إن ابن عيينة وهم في قوله عن حذيفة والله أعلم. وحكى ابن التين عن أبي جعفر الداودي قال: ليس في الحديث الذي ذكره نهى عن القول المذكور في الترجمة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} وغير ذلك، وتعقبه بأن الذي قاله أبو جعفر ليس بظاهر لأن قوله: "ما شاء الله وشئت" تشريك في مشيئة الله تعالى، وأما الآية فإنما أخبر الله تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول حقيقة باعتبار تعاطي الفعل، وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في المشيئة فإنها منصرفة لله تعالى في الحقيقة وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز وقال المهلب: إنما أراد البخاري أن قوله: "ما شاء الله ثم شئت" جائز مستدلا بقوله: "أنا بالله ثم بك" وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاز بدخول "ثم" لأن مشيئة الله سابقة على مشيئة خلقه، ولما لم يكن الحديث المذكور على شرطه استنبط من الحديث الصحيح الذي على شرطه ما يوافقه. وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم

(11/540)


النخعي أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: "ما شاء الله ثم شئت" وكان يكره "أعوذ بالله وبك" ويجيز "أعوذ بالله ثم بك" وهو مطابق لحديث ابن عباس وغيره مما أشرت إليه. "تنبيه": مناسبة إدخال هذه الترجمة في كتاب الأيمان من جهة ذكر الحلف في بعض طرق حديث ابن عباس كما ذكرت، ومن جهة أنه قد يتخيل جواز اليمين بالله ثم بغيره على وزان ما وقع في قوله: "أنا بالله ثم بك" فأشار إلى أن النهي ثبت عن التشريك وورد بصورة الترتيب على لسان الملك وذلك فيما عدا الأيمان، أما اليمين بغير ذلك فثبت النهي عنها صريحا فلا يلحق بها ما ورد في غيرها والله أعلم.

(11/541)


9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ "فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا قَالَ لاَ تُقْسِمْ"
6654- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ "عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ"
6655- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ "عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ أَنَّ ابْنِي قَدْ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ" فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ وَنَفْسُ الصَّبِيِّ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"
6656- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ"
6657- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ "سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ"
قوله: "باب قول الله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قال الراغب وغيره: القسم بفتحتين الحلف، وأصله من القسامة وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، ثم استعمل في كل حلف. قال الراغب ومعنى {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أنهم اجتهدوا في حلفهم فأتوا به على أبلغ ما في وسعهم انتهى، وهذا يدفع ما فهمه المهلب فيما حكاه ابن بطال عنه

(11/541)


من هذه الآية أنها تدل على أن الحلف بالله أكبر الأيمان لأن الجهد أكبر المشقة ففهم من قوله جهد أيمانهم أن اليمين بالله غاية الجهد، والذي قاله الراغب أظهر، وقد قال أهل اللغة: إن القسامة مأخوذة من القسمة لأن الأيمان تقسم على أولياء القتيل، وسيأتي مزيد لذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ابن عباس قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت في الرؤيا، قال: لا تقسم" هذا طرف مختصر من الحديث الطويل الآتي في كتاب التعبير من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف من السمن والعسل" الحديث وفيه تعبير أبي بكر لها وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "فأخبرني يا رسول الله أصبت أم أخطأت؟ قال: "أصبت بعضا أو أخطأت بعضا، قال فوالله إلخ" فقوله هنا: "في الرؤيا" من كلام المصنف إشارة إلى ما اختصره من الحديث؛ وتقديره في قصة الرؤيا التي رآها الرجل وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فعبرها أبو بكر إلخ؛ وسيأتي شرحه هناك، والغرض منه هنا قوله: "لا تقسم" موضع قوله لا تحلف فأشار إلى الرد على من قال إن من قال أقسمت انعقدت يمينا ولأنه لو قال بدل أقسمت حلفت لم تنعقد اتفاقا إلا إن نوى اليمين أو قصد الإخبار بأنه سبق منه حلف، وأيضا فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم، فلو كان أقسمت يمينا لأبر أبا بكر حين قالها، ومن ثم أورد حديث البراء عقبه، ولهذا أورد حديث حارثة آخر الباب: "لو أقسم على الله لأبره" إشارة إلى أنها لو كانت يمينا لكان أبو بكر أحق بأن يبر قسمه لأنه رأس أهل الجنة من هذه الأمة، وأما حديث أسامة في قصة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها أقسمت حقيقة، فقد تقدم في الجنائز بلفظ: "تقسم عليه ليأتينها" والله أعلم. قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردة فقال قوم هي يمين وإن لم يقصد، وممن روى ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والثوري والكوفيون. وقال الأكثرون لا تكون يمينا إلا أن ينوي. وقال مالك: أقسمت بالله يمينا وأقسمت مجردة لا تكون يمينا إلا إن نوى. وقال الإمام الشافعي: المجردة لا تكون يمينا أصلا ولو نوى، وأقسمت بالله إن نوى تكون يمينا. وقال إسحاق: لا تكون يمينا أصلا. وعن أحمد كالأول وعنه كالثاني وعنه إن قال قسما بالله فيمين جزما لان التقدير أقسمت بالله قسما، وكذا لو قال إلية بالله، قال ابن المنير في الحاشية: مقصود البخاري الرد على من لم يجعل القسم بصيغة أقسمت يمينا: قال: فذكر الآية وقد قرن فيها القسم بالله ثم بين أن هذا الاقتران ليس شرطا بالأحاديث فإن فيها أن هذه الصيغة بمجردها تكون يمينا تتصف بالبر وبالندب إلى إبرارها من غير الخلف، ثم ذكر من فروع هذه المسألة: لو قال أقسم بالله عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه يمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل انتهى، وفيما قال نظر، والذي يظهر أن مراد البخاري أن يقيد ما أطلق في الأحاديث بما قيد به في الآية والعلم عند الله تعالى. قوله: "بإبرار المقسم" أي بفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارا، وهذا أيضا طرف من حديث أورده المصنف مطولا ومختصرا في مواضع بينتها وذكرت كيفية ما أخرجها في كتاب اللباس وفي أول كتاب الاستئذان، واختلف في ضبط السين فالمشهور أنها بالكسر وضم أوله على أنه اسم فاعل، وقيل بفتحها أي الأقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلا بمعنى الإدخال وكذا أخرجته. وأشعث المذكور في السند هو ابن أبي الشعثاء وسفيان في الطريق الأولى هو الثوري. حديث أسامة وهو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو عثمان

(11/542)


الراوي عنه هو عبد الرحمن بن مل النهدي. قوله: "إن ابنة" في رواية الكشميهني: "إن بنتا" وقد تقدم اسمها في كتاب الجنائز. قوله: "ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة" فيه تجريد لأن الظاهر أن يقول وأنا معه، وقد تقدم في الطب بلفظ: "أرسلت إليه وهو معه". قوله: "وسعد" هو معطوف على أسامة، ومضى في الجنائز بلفظ: "ومعه سعد بن عبادة" قوله: "وأبي أو أبي" قال الكرماني أحدهما بلفظ المضاف إلى المتكلم والآخر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الياء يريد ابن كعب، قال ويحتمل أن يكون بلفظ المضاف مكررا كأنه قال ومعه سعد وأبي أو أبي فقط. قلت: والأول هو المعتمد، والثاني وإن احتمل لكنه خلاف الواقع. فقد تقدم في الجنائز بلفظ ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال. والذي تحرر لي أن الشك في هذا من شعبة، فإنه لم يقع في رواية غيره ممن رواه عن عاصم. قوله: "تقعقع" أي تضطرب وتتحرك، وقيل معناه كلما صار إلى حال لم يلبث أن يصير إلى غيرها وتلك حالة المحتضر. قوله: "ما هذا" قيل هو استفهام عن الحكم لا للإنكار، وقد تقدمت سائر مباحث هذا الحديث في كتاب الجنائز. حديث أبي هريرة "إلا تحلة القسم" بفتح التاء وكسر المهملة وتشديد اللام أي تحليلها، والمعنى أن النار لا تمس من مات له ثلاثة من الولد فصبر إلا بقدر الورود، قال ابن التين وغيره: والإشارة بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وقد قيل إن القسم فيه مقدر، وقيل بل هو مذكور عطفا على ما بعد قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ} وقد تقدم شرح الحديث أيضا مستوفي في كتاب الجنائز. حديث حارثة بن وهب وهو بالحاء المهملة وبالمثلثة. قوله: "ألا أدلكم على أهل الجنة إلخ" قال الداودي: المراد أن كلا من الصنفين في محله المذكور لا أن كلا من الدارين لا يدخلها إلا من كان من الصنفين فكأنه قيل كل ضعيف في الجنة وكل جواظ في النار، ولا يلزم أن لا يدخلها غيرهما. قوله: "كل ضعيف" قال أبو البقاء: كل بالرفع لا غير، والتقدير هم كل ضعيف إلخ، والمراد بالضعيف الفقير والمستضعف بفتح العين المهملة، وغلط من كسرها لأن المراد أن الناس يستضعفونه ويقهرونه ويحقرونه، وذكر الحاكم في "علوم الحديث" أن ابن خزيمة سئل من المراد بالضعيف هنا؟ فقال: هو الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة. وقال الكرماني: يجوز الكسر ويراد به المتواضع المتذلل، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في تفسير سورة ن، ونقل ابن التين عن الداودي أن الجواظ هو الكثير اللحم الغليظ الرقبة. وقوله: "لو أقسم على الله لأبره" أي لو حلف بمينا على شيء أن يقع طمعا في كرم الله بإبراره لأبره وأوقعه لأجله، وقيل هو كناية عن إجابة دعائه.

(11/543)


باب إذا قال : أشهد بالله ، أوشهدت بالله
...
10 - باب إِذَا قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ
6658- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ " قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ" قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ"
قوله: "باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله" أي هل يكون حالفا؟ وقد اختلف في ذلك فقال الحنفية والحنابلة نعم وهو قول النخعي والثوري، والراجح عند الحنابلة ولو لم يقل بالله أنه يمين، وهو قول ربيعة

(11/543)


والأوزاعي، وعند الشافعية لا يكون يمينا إلا إن أضاف إليه بالله، ومع ذلك فالراجح أنه كناية فيحتاج إلى القصد وهو نص الشافعي في المختصر لأنها تحتمل أشهد بأمر الله أو بوحدانية الله، وهذا قول الجمهور، وعن مالك كالروايات الثلاث، واحتج من أطلق بأنه ثبت في العرف والشرع في الأيمان، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ} ثم قال: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فدل على أنهما استعملوا ذلك في اليمين، وكذا ثبت في اللعان، والجواب أن هذا خاص باللعان فلا يقاس عليه والأول ليس صريحا لاحتمال أن يكون حلفوا مع ذلك، واحتج بعضهم بما أخرجه ابن ماجه من حديث رفاعة بن عوانة "كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحلف بها أشهد عند الله والذي نفسي بيده" وأجيب بأن في سنده ضعيفا وهو عبد الملك بن محمد الصنعاني، وعلى تقدير ثبوته فسياقه يقتضي أن مجموع ذلك يمين لا يمينان والله أعلم. وقال أبو عبيد: الشاهد يمين الحالف، فمن قال أشهد فليس بيمين ومن قال أشهد بالله فهو يمين، وقد قرأ الضحاك {اتَّخَذُوْا إيْمَانَهٌمْ} بكسر الهمزة وهي تدفع قول من حمل الشهادة على اليمين، وإلى ذلك أشار البخاري حيث أورد حديث الباب: "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" فإنه ظاهر في المغايرة بين الشهادة والحلف. حديث الباب: "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الشهادات، وشيبان في السند هو ابن عبد الرحمن ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "تسبق شهادة أحدهم يمينه" قال الطحاوي أي يكثرون الأيمان في كل شيء حتى يصير لهم عادة فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين ومن قبل أن يستحلف. وقال غيره: المراد يحلف على تصديق شهادته قبل أدائها أو بعده، وهذا إذا صدر من الشاهد قبل الحكم سقطت شهادته. وقيل المراد التسرع إلى الشهادة واليمين والحرص على ذلك حتى لا يدري بأيهما يبدأ لقلة مبالاته. قوله: "قال إبراهيم" هو النخعي، وهو موصول بالسند المتقدم. قوله: "وكان أصحابنا" يعني مشايخه ومن يصلح منه اتباع قوله، وتقدم في الشهادات بلفظ: "يضربوننا" بدل "ينهونا". قوله: "أن نحلف بالشهادة والعهد" أي أن يقول أحدنا أشهد بالله أو على عهد الله، قاله ابن عبد البر وتقدم البحث فيه في كتاب الشهادات.

(11/544)


باب عهد الله عزوجل
...
11 - باب عَهْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
6659- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ قَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ…}
6660- قَالَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِهِ فَمَرَّ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَالُوا لَهُ فَقَالَ الأَشْعَثُ نَزَلَتْ فِيَّ وَفِي صَاحِبٍ لِي فِي بِئْرٍ كَانَتْ بَيْنَنَا"
قوله: "باب عهد الله عز وجل" أي قول القائل: على عهد الله لأفعلن كذا. قال الراغب: العهد حفظ الشيء ومراعاته، ومن ثم قيل للوثيقة عهدة. ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق، ويراد به أيضا ما أمر به في الكتاب والسنة مؤكدا وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنذر. قلت: وللعهد معان

(11/544)


أخرى غير هذه كالأمان والوفاء والوصية واليمين ورعاية الحرمة والمعرفة واللقاء عن قرب والزمان والذمة وبعضها قد يتداخل والله أعلم. وقال ابن المنذر: من حلف بالعهد فحنث لزمه الكفارة سواء نوى أم لا عند مالك والأوزاعي والكوفيين، وبه قال الحسن والشعبي وطاوس وغيرهم. قلت: وبه قال أحمد. وقال عطاء والشافعي وإسحاق وأبو عبيد: لا تكون يمينا إلا إذ نوى، وقد تقدم في أوائل كتاب الإيمان النقل عن الشافعي فيمن قال أمانة الله مثله، وأغرب إمام الحرمين فادعى اتفاق العلماء على ذلك، ولعله أراد من الشافعية ومع ذلك فالخلاف ثابت عندهم كما حكاه الماوردي وغيره عن أبي إسحاق المروزي واحتج للمذهب بأن عهد الله يستعمل في وصيته لعباده باتباع أوامره وغير ذلك كما ذكر فلا يحمل على اليمين إلا بالقصد. وقال الشافعي: إذا قال على عهد الله احتمل أن يريد معهوده وهو وصيته فيصير كقوله على فرض الله أي مفروضة فلا يكون يمينا، لأن اليمين لا تنعقد بمحدث، فإن نوى بقوله عهد الله اليمين انعقدت. وقال ابن المنذر: قد قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} فمن قال على عهد الله صدق لأن الله أخبر أنه أخذ علينا العهد فلا يكون ذلك يمينا إلا إن نواه، واحتج الأولون بأن العرف قد صار جاريا به فحمل على اليمين. وقال ابن التين: هذا لفظ يستعمل على خمسة أوجه: الأول على عهد الله، والثاني وعهد الله، الثالث عهد الله، الرابع أعاهد الله، الخامس على العهد. وقد طرد بعضهم ذلك في الجميع وفصل بعضهم فقال: لا شيء في ذلك إلا إن قال على عهد الله ونحوها وإلا فليست بيمين نوى أو لم ينو. حديث عبد الله وهو ابن مسعود والأشعث بن قيس في نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} وسليمان في السند هو الأعمش ومنصور هو ابن المعتمر، وسيأتي شرحه مستوفى بعد خمسة أبواب، والله أعلم.

(11/545)


12 - باب الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَقَالَ أَيُّوبُ وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ"
6661- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ" رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ.
قوله: "باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه" كذا لأبي ذر، ولغيره: "وكلماته" وفي هذه الترجمة عطف العام على الخاص والخاص على العام لأن الصفات أعم من العزة والكلام، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر "باب لا تحلفوا بآبائكم" إلى أن الأيمان تنقسم إلى صريح وكناية ومتردد بينهما وهو الصفات وأنه اختلف هل يلتحق بالصريح فلا يحتاج إلى قصد أو لا فيحتاج، والراجح أن صفات الذات منها يلتحق بالصريح فلا تنفع معها التورية

(11/545)


إذا تعلق به حق آدمي، وصفات الفعل تلتحق بالكناية، فعزة الله من صفات الذات وكذا جلاله وعظمته. قال الشافعي فيما أخرجه البيهقي في المعرفة: من قال وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله يريد اليمين أو لا يريده فهي يمين انتهى. وقال غيره: والقدرة تحتمل صفة الذات فتكون اليمين صريحة وتحتمل إرادة المقدور فتكون كناية كقول من يتعجب من الشيء: انظر إلى قدرة الله، وكذا العلم كقوله: اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك. قوله: "وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أعوذ بعزتك" هذا طرف من حديث وصله المؤلف في التوحيد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عباس وسيأتي شرحه هناك، ووجه الاستدلال به على الحلف بعزة الله أنه وإن كان بلفظ الدعاء لكنه لا يستعاذ إلا بالله أو بصفة من صفات ذاته، وخفي هذا على ابن التين فقاله: ليس فيه جواز الحلف بالصفة كما بوب عليه. ثم وجدت في حاشية ابن المنير ما نصه، قوله أعوذ بعزتك دعاء وليس بقسم، ولكنه لما كان المقرر أنه لا يستعاذ إلا بالقديم ثبت بهذا أن العزة من الصفات القديمة لا من صفة الفعل فتنعقد اليمين بها. قوله: "وقال أبو هريرة إلخ" وفيه: "وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله" وهو مختصر من الحديث الطويل في صفة الحشر وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الرقاق، والغرض منها قول الرجل لا وعزتك لا أسألك غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك مقررا له فيكون حجة في ذلك. قوله: "وقال أيوب عليه السلام: وعزتك لا غنى لي عن بركتك" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني: "لا غناء" بفتح أوله والمد، والأول أولى فإن معنى الغناء بالمد الكفاية يقال ما عند فلان غناء أي لا يغتنى به، وهو أيضا طرف من حديث تقدم في كتاب الطهارة من رواية أبي هريرة وأوله "أن أيوب كان يغتسل فخر عليه جراد من ذهب" الحديث، ووجه الدلالة منه أن أيوب عليه السلام لا يحلف إلا بالله وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عنه وأقره. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "فتقول قط قط وعزتك" تقدم شرحه مستوفي في تفسير سورة ق والقول فيه ما تقدم، وحكى الداودي عن بعض المفسرين أنه قال في قول جهنم "هل من مزيد" معناه ليس في مزيد قال ابن التين وحديث الباب يرد عليه. قوله: "رواه شعبة عن قتادة" وصل روايته في تفسير ق وأشار بذلك إلى أن الرواية الموصولة عن أنس بالعنعنة، لكن شعبة ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما صرحوا فيه بالتحديث. "تنبيه": لمح المصنف بهذه الترجمة إلى رد ما جاء عن ابن مسعود من الزجر عن الحلف بعزة الله، ففي ترجمة عون بن عبد الله بن عتبة من "الحلية لأبي نعيم" من طريق عبد الله بن رجاء عن المسعودي عن عون قال: "قال عبد الله: لا تحلفوا بحلف الشيطان أن يقول أحدكم وعزة الله ولكن قولوا كما قال الله تعالى رب العزة" انتهى. وفي المسعودي ضعف، وعون عن عبد الله منقطع، وسيأتي الكلام على العزة في باب مفرد من كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(11/546)


13 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لَعَمْرُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَعَمْرُكَ لَعَيْشُكَ
6662- حَدَّثَنَا الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ "عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ

(11/546)


وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ وَفِيهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ"
قوله: "باب قول الرجل لعمر الله" أي هل يكون يمينا، وهو مبني على تفسير "لعمر" ولذلك ذكر أثر ابن عباس، وقد تقدم في تفسير سورة الحجر وأن ابن أبي حاتم وصله. وأخرج أيضا عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} أي حياتك، قال الراغب: العمر بالضم وبالفتح واحد ولكن خص الحلف بالثاني قال الشاعر "عمرك الله كيف يلتقيان" أي سألت الله أن يطيل عمرك. وقال أبو القاسم الزجاج: العمر الحياة، فمن قال لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله، واللام للتوكيد والخبر محذوف أي ما أقسم به، ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين لأن بقاء الله من صفة ذاته. وعن مالك لا يعجبني الحلف بذلك. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري. وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينا إلا بالنية لأنه يطلق على العلم وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم وبالحق ما أوجبه الله. وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعي وأجابوا عن الآية بأن لله أن يقسم من خلقه بما شاء وليس ذلك لهم لثبوت النهي عن الحلف بغير الله. وقد عد الأئمة ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن اللام ليست من أدوات القسم لأنها محصورة في الواو والباء والتاء كما تقدم بيانه في "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم". الحديث طرف من حديث الإفك والغرض منه قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "لعمر الله لنقتلنه" وقد مضى شرح الحديث مستوفى في تفسير النور، وتقدم في أواخر الرقاق في الحديث الطويل من رواية لقيط بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعمر إلهك" وكررها، وهو عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند وعند غيره.

(11/547)


باب { لا يؤخذكم الله باللغو في أيمانكم ،ولكن يؤخذكم...} الخ
...
14 - باب {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
6663- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَ قَالَتْ أُنْزِلَتْ فِي قَوْلِهِ لاَ وَاللَّهِ بَلَى وَاللَّهِ"
قوله: "باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره بدل قوله الآية {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ويستفاد منه أن المراد في هذه الترجمة آية البقرة، فإن آية المائدة ذكرها في أول كتاب الأيمان كما تقدم، ومضى هناك تفسير اللغو، وتمسك الشافعي فيه بحديث عائشة المذكور في الباب لكونها شهدت التنزيل فهي أعلم من غيرها بالمراد، وقد جزمت بأنها نزلت في قوله: "لا والله وبلى والله" ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق الحسن البصري مرفوعا في قصة الرماة وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب فيظهر أنه أخطأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة" وهذا لا يثبت لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعن أبي حنيفة وأصحابه وجماعة: لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظنه ثم يظهر خلافه فيختص بالماضي، وقيل يدخل أيضا في المستقبل بأن يحلف على شيء ظنا منه ثم يظهر بخلاف ما حلف، وبه قال

(11/547)


ربيعة ومالك ومكحول والأوزاعي والليث، وعن أحمد روايتان ونقل ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وعن القاسم وعطاء والشعبي وطاوس والحسن نحو ما دل عليه حديث عائشة، وعن أبي قلابة لا والله وبلى والله لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام، ونقل إسماعيل القاضي، عن طاوس لغو اليمين أن يحلف وهو غضبان، وذكر أقوالا أخرى عن بعض التابعين، وجملة ما يتحصل من ذلك ثمانية أقوال من جملتها قول إبراهيم النخعي أنه يحلف على الشيء لا يفعله ثم ينسى فيفعله أخرجه الطبري، وأخرجه عبد الرزاق عن الحسن مثله، وعنه هو كقول الرجل والله إنه لكذا وهو يظن أنه صادق ولا يكون كذلك. وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يحرم ما أحل الله له، وهذا يعارضه الخبر الثابت عن ابن عباس كما تقدم في موضعه أنه تجب فيه كفارة يمين، وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية وسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب. قال ابن العربي: القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة والحالف على فعل، المعصية تنعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه. قلت: الذي قال ذلك قال إنها في الثانية لا تنعقد أصلا فلذلك قال إنها لغو، قال ابن العربي ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الأحاديث يعني مما ذكر في الباب وغيرها، ومن قال دعاء الإنسان على نفسه إن فعل كذا أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الإنسان على نفسه ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا يتعلق به فإن الله رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا فلا إثم فيه ولا كفارة فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة حتى أن من وجب عليه الكفارة فخالف عوقب. قوله: "يحيى" هو القطان، قال ابن عبد البر تفرد يحيى القطان عن هشام بذكر السبب في نزول الآية قلت: قد صرح بعضهم برفعه عن عائشة أخرجه أبو داود من رواية إبراهيم الصائغ عن عطاء عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" وأشار أبو داود إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه، وقد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة: لغو اليمين ما كان في المراء والهزل والمراجعة في الحديث الذي كان يعقد عليه القلب، وهذا موقوف ورواية يونس تقارب الزبيدي، ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا والله وبلى والله وكلا والله ولا يقصد الحلف وليس مخالفا للأول وهو المعتمد. وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، وهذا يوافق القول الثاني، لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفة من هو أوثق منه وأكثر عددا.

(11/548)


15 - باب إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا فِي الأَيْمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَقَالَ {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}
6664- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ

(11/548)


قَالَ "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ"
6665- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا لِهَؤُلاَءِ الثَّلاَثِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
6666- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ "لاَ حَرَجَ" قَالَ آخَرُ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ "لاَ حَرَجَ" قَالَ آخَرُ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ " لاَ حَرَجَ"
6667- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَعْلِمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا"
6668- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ فَصَرَخَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فَقَالَ أَبِي أَبِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
6669- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفٌ عَنْ خِلاَسٍ وَمُحَمَّدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ"
6670- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ انْتَظَرَ النَّاسُ

(11/549)


تَسْلِيمَهُ فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ"
6671- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ "عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ صَلاَةَ الظُّهْرِ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا قَالَ مَنْصُورٌ لاَ أَدْرِي إِبْرَاهِيمُ وَهِمَ أَمْ عَلْقَمَةُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ قَالَ "وَمَا ذَاكَ" قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ "هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لاَ يَدْرِي زَادَ فِي صَلاَتِهِ أَمْ نَقَصَ فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ"
6672- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ "حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قَالَ كَانَتْ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا"
6673- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ "قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ لَهُمْ فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ وَيُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَبَلَغَتْ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لاَ رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6674- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ "مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ"
قوله: "باب إذا حنث ناسيا في الأيمان" أي هل تجب عليه الكفارة أو لا؟ قوله: "وقول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به" كذا لأبي ذر ولغيره: "وليس" بثبوت الواو في أوله، وقد تمسك بهذه الآية من قال بعدم حنث من لم يتعمد وفعل المحلوف عليه ناسيا أو مكرها، ووجه بأنه لا ينسب فعله إليه شرعا لرفع حكمه عنه بهذه الآية فكأنه لم يفعله. قوله: "لا تؤاخذني بما نسيت" قال المهلب: حاول البخاري في إثبات العذر بالجهل والنسيان ليسقط الكفارة، والذي يلائم مقصوده من أحاديث الباب الأول وحديث: "من أكل ناسيا" وحديث نسيان التشهد الأول وقصة موسى فإن الخضر عذره بالنسيان وهو عبد من عباد الله فالله أحق بالمسامحة، قال وأما

(11/550)


بقية الأحاديث ففي مساعدتها على مراده نظر. قلت: ويساعده أيضا حديث عبد الله بن عمرو وحديث ابن عباس في تقديم بعض النسك على بعض فإنه لم يأمر فيه بالإعادة بل عذر فاعله بجهل الحكم. وقال غيره: بل أورد البخاري أحاديث الباب على الاختلاف إشارة إلى أنها أصول أدلة الفريقين ليستنبط كل أحد منها ما يوافق مذهبه كما صنع في حديث جابر في قصة جمله فإنه أورد الطرق على اختلافها وان كان قد بين في الآخر أن إسناد الاشتراط أصح، وكذا قول الشعبي في قدر الثمن؛ وبهذا جزم ابن المنير في الحاشية فقال: أورد الأحاديث المتجاذبة ليفيد الناظر مظان النظر، ومن ثم لم يذكر الحكم في الترجمة بل أفاد مراد الحكم والأصول التي تصلح أن يقاس عليها، وهو أكثر إفادة من قول المجتهد في المسألة قولان وإن كان لذلك فائدة أيضا انتهى ملخصا. والذي يظهر لي أن البخاري يقول بعدم الكفارة مطلقا، وتوجيه الدلالة من الأحاديث التي ساقها ممكن. وأما ما يخالف ظاهر ذلك فالجواب عنه ممكن: فمنها الدية في قتل الخطأ ولولا أن حذيفة أسقطها لكانت له المطالبة بها، والجواب أنها من خطاب الوضع وليس الكلام فيه. ومنها إبدال الأضحية التي ذبحت قبل الوقت، والجواب أنها من جنس الذي قبله. ومنها حديث المسيء صلاته فإنه لو لم يعذره بالجهل لما أقره على إتمام الصلاة المختلة، لكنه لما رجا أنه يتفطن لما عابه عليه أمره بالإعادة فلما علم أنه فعل ذلك عن جهل بالحكم علمه، وليس في ذلك متمسك لمن قال بوجوب الكفارة في صورة النسيان، وأيضا فالصلاة إنما تتقوم بالأركان فكل ركن اختل منها اختلت به ما لم يتدارك، وإنما الذي يناسب ما لو فعل ما يبطل الصلاة بعده أو تكلم به فإنها لا تبطل عند الجمهور كما دل عليه حديث أبي هريرة في الباب: "من أكل أو شرب ناسيا" قال ابن التين: أجرى البخاري قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} في كل شيء. وقال غيره: هي في قصة مخصوصة وهي ما إذا قال الرجل يا بني وليس هو ابنه، وقيل إذا أتى امرأته حائضا وهو لا يعلم، قال: والدليل على عدم التعميم أن الرجل إذا قتل خطأ تلزمه الدية وإذا أتلف مال غيره خطأ فإنه يلزمه انتهى. وانفصل غيره بأن المتلفات من خطاب الوضع والذي يتعلق بالآية ما يدخل في خطاب التكليف، ولو سلم أن الآية نزلت فيما ذكر لم يمنع ذلك من الاستدلال بعمومها، وقد أجمعوا على العمل بعمومها في سقوط الإثم، وقد اختلف السلف في ذلك على مذاهب ثالثها التفرقة بين الطلاق والعتاق فتجب فيه الكفارة مع الجهل والنسيان بخلاف غيرهما من الأيمان فلا تجب، وهذا قول عن الإمام الشافعي ورواية عن أحمد، والراجح عند الشافعية التسوية بين الجميع في عدم الوجوب، وعن الحنابلة عكسه وهو قول المالكية والحنفية. وقال ابن المنذر: كان أحمد يوقع الحنث في النسيان في الطلاق حسب ويقف عما سوى ذلك. قوله: "زرارة بن أوفى" هو قاضي البصرة مات وهو ساجد أورده الترمذي وكان ذلك سنة ثلاث وتسعين. قوله: "عن أبي هريرة يرفعه" سبق في العتق من رواية سفيان عن مسعر بلفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بدل قوله هنا يرفعه، وكذا لمسلم من طريق وكيع. وللنسائي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس كلاهما عن مسعر بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال الكرماني: إنما قال يرفعه ليكون أعم من أن يكون سمعه منه أو من صحابي آخر سمعه منه. قلت: ولا اختصاص لذلك بهذه الصيغة بل مثله في قوله قال وعن، وإنما يرتفع الاحتمال إذا قال سمعت ونحوها، وذكر الإسماعيلي أن وكيعا رواه عن مسعر فلم يرفعه قال والذي رفعه ثقة فيجب المصير إليه. قوله: "عن أبي هريرة" لم أقف على التصريح بسماع زرارة لهذا الحديث من أبي هريرة، لكنه لم

(11/551)


يوصف بالتدليس فيحمل على السماع. وذكر الإسماعيلي أن الفرات بن خالد أدخل بين زرارة وبين أبي هريرة في هذا الإسناد رجلا من بني عامر، وهو خطأ فإن زرارة من بني عامر فكأنه كان فيه عن زرارة رجل من بني عامر فظنه آخر أبهم وليس كذلك. قوله: "لأمتي" في رواية هشام عن قتادة "تجاوز عن أمتي". قوله: "عما وسوست أو حدثت به أنفسها" في رواية هشام "ما حدثت به أنفسها" ولم يتردد، وكذا في رواية سعيد وأبي عوانة عند مسلم. وفي رواية ابن عيينة "ما وسوست بها صدورها" ولم يتردد أيضا، وضبط أنفسها بالنصب للأكثر ولبعضهم بالرفع. وقال الطحاوي بالثاني وبه جزم أهل اللغة يريدون بغير اختيارها كقوله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}. قوله: "ما لم تعمل به أو تكلم" في رواية عبد الله بن إدريس أو تتكلم به، قال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث ذكر النسيان، وإنما فيه ذكر ما خطر على قلب الإنسان. قلت: مراد البخاري إلحاق ما يترتب على النسيان بالتجاوز لأن النسيان من متعلقات عمل القلب. وقال الكرماني: قاس الخطأ والنسيان على الوسوسة، فكما أنها لا اعتبار لها عند عدم التوطن فكذا الناسي والمخطئ لا توطين لهما. وقد وقع في رواية هشام بن عمار عن ابن عيينة عن مسعر في هذا الحديث بعد قوله أو تكلم به "وما استكرهوا عليه" وهذه الزيادة منكرة من هذا الوجه وإنما تعرف من رواية الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد أخرجه ابن ماجه عقب حديث أبي هريرة من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، والحديث عند هشام بن عمار عن الوليد فلعله دخل له بعض حديث في حديث، وقد رواه عن ابن عيينة الحميدي وهو أعرف أصحاب ابن عيينة بحديثه، وتقدم في العتق عنه بدون هذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زياد بن أيوب وابن المقري وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي كلهم عن سفيان بدون هذه الزيادة. قال الكرماني: فيه أن الوجود الذهني لا أثر له وإنما الاعتبار بالوجود القولي في القوليات والعملي في العمليات، وقد احتج به من لا يرى المؤاخذة بما وقع في النفس ولو عزم عليه، وانفصل من قال يؤاخذ بالعزم بأنه نوع من العمل يعني عمل القلب. قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ: "ما لم يعمل" يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن، وقد تقدم البحث في ذلك في أواخر الرقاق في الكلام على حديث: "من هم بسيئة لا تكتب عليه". وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صلى الله عليه وسلم لقوله: "تجاوز لي" وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم وإن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: "لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتد ذلك على الصحابة" فذكر الحديث في شكواهم ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم لهم "تريدون أن تقولوا مثل ما قال أهل الكتاب سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها فنزلت: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة" وفيه قوله: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال نعم. وأخرجه من حديث ابن عباس بنحوه وفيه قال قد فعلت. قوله: "حدثنا عثمان بن الهيثم أو محمد عنه" وقع مثل هذا في "باب الذريرة" في أواخر كتاب اللباس، وتقدم الكلام عليه هناك. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن عثمان بن الهيثم به. قوله: "كنت احسب يا رسول الله كذا وكذا قبل كذا وكذا" في رواية الإسماعيلي: "إني كنت أحسب أن كذا قبل كذا". قوله: "هؤلاء الثلاث" قد كنت أظن ذلك خاصا بهذه الرواية، وأن

(11/552)


البخاري أشار بذلك إلى ما في الحديث الذي يليه فإنه فيه الحلق والنحر والرمي، لكن وجدته في رواية الإسماعيلي بالإبهام كما أشرت إليه، وكذا أخرجه مسلم من رواية عيسى بن يونس ومحمد بن بكر كلاهما عن ابن جريج مثل رواية عثمان بن الهيثم سواء، إلا إن ابن بكر لم يقل "لهؤلاء الثلاث" ومن رواية يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج بلفظ: "حلقت قبل أن أنحر ونحرت قبل أن أرمي" فالظاهر أن الإشارة المذكورة من ابن جريج، وقد أخرجه الشيخان من رواية مالك عن ابن شهاب شيخ ابن جريج فيه مفسرا كما تقدم في كتاب الحج مع شرحه. حديث ابن عباس في ذلك. وقد تقدم بسنده ومتنه مشروحا في كتاب الحج. حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته، وقد تقدم شرحه في كتاب الصلاة. قوله: "حدثني إسحاق بن منصور حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله بن عمر" هو العمرى، وسعيد هو المقبري، وقد تقدم في كتاب الاستئذان بهذا السند سواء لكن فيه عبد الله بن نمير بدل أبي أسامة، وفي بعض سياقهما اختلاف بينته هناك، فكأن لإسحاق بن منصور فيه شيخين. وقد أخرجه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الله بن نمير وحده، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير جميعا، وله طرق عن هذين عند مسلم وغيره. حديث حذيفة في قصة قتل أبي اليمان يوم أحد، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر المناقب وفي غزوة أحد، وقوله في آخره: "بقية خير" بالإضافة للأكثر أي استمر الخير فيه، ووقع في: رواية الكشميهني: "بقية" بالتنوين وسقط عنده لفظ: "خير" وعليها شرح الكرماني فقال: أي بقية حزن وتحسر من قتل أبيه بذلك الوجه، وهو وهم سبقه غيره إليه، والصواب أن المراد أنه حصل له خير بقوله للمسلمين. الذين قتلوا أباه خطأ "عفا الله عنكم" واستمر ذلك الخير فيه إلى أن مات. حديث أبي هريرة "من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه" الحديث؛ وقد تقدم شرحه في "باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا" من كتاب الصيام، وعوف في السند هو الأعرابي، وخلاس بكسر المعجمة وتخفيف اللام بعدها مهملة وهو ابن عمرو، ومحمد هو ابن سيرين، والبخاري لا يخرج لخلاس إلا مقرونا. ومما ينبه عليه هنا أن المزي في "الأطراف" ذكر هذا الحديث في ترجمة خلاس عن أبي هريرة فقال: "خلاس في الصيام عن يوسف بن موسى" فوهم في ذلك وإنما هو في الأيمان والنذور، ولم يورده في الصيام من طريق خلاس أصلا. وقال ابن المنير في الحاشية: أوجب مالك الحنث على الناسي ولم يخالف ذلك في ظاهر الأمر إلا في مسألة واحدة وهي من حلف بالطلاق ليصومن غدا فأكل ناسيا بعد أن بيت الصيام من الليل، فقال مالك: لا شيء عليه، فاختلف عنه فقيل لا قضاء عليه وقيل لا حنث ولا قضاء وهو الراجح، أما عدم القضاء فلأنه لم يتعمد إبطال العبادة، وأما عدم الحنث فهو على تقدير صحة الصوم لأنه المحلوف: عليه، وقد صحح الشارع صومه، فإذا صح صومه لم يقع عليه حنث. حديث عبد الله بن بحينة في سجود السهو قبل السلام لترك التشهد الأول، وقد تقدم في أبواب سجود السهو من أواخر كتاب الصلاة مع شرحه. حديث ابن مسعود في سجود السهو بعد السلام لزيادة ركعة في الصلاة، وقد تقدم شرحه أيضا هناك عقب حديث ابن بحينة، وقوله هنا "حدثنا إسحاق بن إبراهيم" هو المعروف بابن راهويه، وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من مسنده، وقوله سمع عبد العزيز أي إنه سمع ولفظة "إنه" يسقطونها في الخط أحيانا، وعبد العزيز المذكور هو العمى بفتح المهملة والتثقيل، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن

(11/553)


قيس. وقوله فيه: "فزاد أو نقص" قال منصور لا أدري إبراهيم وهم أم علقمة كذا أطلق "وهم" موضع "شك" وتوجيهه أن الشك ينشأ عن النسيان إذ لو كان ذكرا لأحد الأمرين لما وقع له التردد، يقال وهم في كذا إذا غلط فيه ووهم إلى كذا إذا ذهب وهمه إليه، وقد تقدم في أبواب القبلة من رواية جرير عن منصور قال: "قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص" فجزم بأن إبراهيم هو الذي تردد، وهذا يدل على أن منصورا حين حدث عبد العزيز كان مترددا هل علقمة قال ذلك أم إبراهيم، وحين حدث جريرا كان جازما بإبراهيم. وقال الكرماني لفظ: "أقصرت" صريح في أنه نقص ولكنه وهم من الراوي والصواب ما تقدم في الصلاة بلفظ: "أحدث في الصلاة شيء" وقد تقدمت مباحا هذا الحديث هناك أيضا ولله الحمد. الحديث ذكر فيه طرفا يسيرا من حديث أبي بن كعب في قصة موسى والخضر وقوله قلت لابن عباس فقال حدثنا أبي بن كعب هكذا حذف مقول سعيد بن جبير، وقد ذكره في تفسير الكهف بلفظ: "قلت لابن عباس إن نوفا البكالي" فذكر قصة، فقال ابن عباس رادا عليه "حدثنا أبي بن كعب إلخ" فحذفها البخاري هنا كما حذف أكثر الحديث، إلى أن قال: "لا تؤاخذني". قوله: "إنه سمع رسول الله يقول قال لا تؤاخذني بما نسيت" فيه حذف تقديره: يقول في تفسير قوله تعالى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي} إلخ. قوله: "كانت الأولى من موسى نسيانا" يعني أنه كان عند إنكاره خرق السفينة كان ناسيا لما شرط عليه الخضر في قوله: "فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا" فإن قيل ترك مؤاخذته بالنسيان متجه وكيف وأخذه؟ قلنا عملا بعموم شرطه الذي التزمه، فلما اعتذر له بالنسيان علم أنه خارج بحكم الشرع من عموم الشرط، وبهذا التقرير يتجه إيراد هذا الحديث في هذه الترجمة. فإن قيل فالقصة الثانية لم تكن إلا عمدا فما الحامل له على خلف الشرط؟ قلنا: لأنه في الأولى كان يتوقع هلاك أهل السفينة فبادر للإنكار فكان ما كان واعتذر بالنسيان وقدر الله سلامتهم، وفي الثانية كان قتل الغلام فيها محققا فلم يصبر على الإنكار فأنكر ذاكرا للشرط عامدا لإخلافه تقديما لحكم الشرع، ولذلك لم يعتذر بالنسيان وإنما أراد أن يجرب نفسه في الثالثة لأنها الحد المبين غالبا لما يخفى من الأمور. فإن قيل: فهل كانت الثالثة عمدا أو نسيانا؟ قلنا: يظهر أنها كانت نسيانا وإنما وأخذه صاحبه بشرطه الذي شرطه على نفسه من المفارقة في الثالثة، وبذلك جزم ابن التين، وإنما لم يقل إنها كانت عمدا استبعادا لأن يقع من موسى عليه السلام إنكار أمر مشروع وهو الإحسان لمن أساء والله أعلم. حديث البراء وحديث أنس في تقديم صلاة العيد على الذبح، وقد سبق شرحهما مستوفى في كتاب الأضاحي. قوله: "كتب إلي محمد بن بشار" لم تقع هذه الصيغة للبخاري في صحيحه عن أحد من مشايخه إلا في هذا الموضع، وقد أخرج بصيغة المكاتبة فيه أشياء كثيرة لكن من رواية التابعي عن الصحابي أو من رواية غير التابعي عن التابعي ونحو ذلك، ومحمد بن بشار هذا هو المعروف ببندار، وقد أكثر عنه البخاري، وكأنه لم يسمع منه هذا الحديث فرواه عنه بالمكاتبة. وقد أخرج أصل الحديث من عدة طرق أخرى موصولة كما تقدم في العيدين وغيره، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن محمد بن سنان قال: قرأت على بندار فذكره، وأخرجه أبو نعيم من رواية حسين بن محمد بن حماد قال حدثنا محمد بن بشار بندار. قوله: "قال قال البراء بن عازب وكان عندهم ضيف" في رواية الإسماعيلي: "كان عندهم ضيف" بغير واو، وظاهر السياق أن القصة وقعت للبراء، لكن المشهور أنها وقعت لخاله أبي بردة بن نيار كما تقدم في كتاب الأضاحي من طريق

(11/554)


زبيد عن الشعبي عن البراء فذكر الحديث وفيه: "فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال إن عندي جذعة" الحديث، ومن طريق مطرف عن الشعبي عن البراء "ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة". قوله: "قبل أن يرجع" في رواية السرخسي والمستملي: "قبل أن يرجعهم" والمراد قبل أن يرجع إليهم. قوله: "فأمره أن يعيد الذبح" قال ابن التين: رويناه بكسر الذال وهو ما يذبح وبالفتح وهو مصدر ذبحت. قوله: "فقال يا رسول الله" في رواية الإسماعيلي: "قال البراء يا رسول الله" وهذا صريح في أن القصة وقعت للبراء، فلولا اتحاد المخرج لأمكن التعدد، لكن القصة متحدة والسند متحد من رواية الشعبي عن البراء والاختلاف من الرواة عن الشعبي، فكأنه وقع في هذه الرواية اختصار وحذف، ويحتمل أن يكون البراء شارك خاله في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن القصة فنسبت كلها إليه تجوزا. قال الكرماني: كان البراء وخاله أبو بردة أهل بيت واحد فنسب القصة تارة لخاله وتارة لنفسه انتهى، والمتكلم في القصة الواحدة أحدهما فتكون نسبة القول للآخر مجازية والله أعلم. قوله: "خير من شاتى لحم" تقدم البحث فيه هناك أيضا. قوله: "وكان ابن عون" هو عبد الله راوي الحديث عن الشعبي، وهو موصول بالسند المذكور. قوله: "يقف في هذا المكان عن حديث الشعبي" أي يترك تكملته. قوله: "ويحدث عن محمد بن سيرين" أي عن أنس. قوله: "بمثل هذا الحديث" أي حديث الشعبي عن البراء. قوله: "ويقف في هذا المكان" أي في حديث ابن سيرين أيضا. قوله: "ويقول لا أدري إلخ" يأتي بيانه في الذي بعده. قوله: "رواه أيوب عن ابن سيرين عن أنس" وصله المصنف في أوائل الأضاحي من رواية إسماعيل وهو المعروف بابن علية عن أيوب بهذا السند ولفظه: "من ذبح قبل الصلاة فليعد، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن هذا يوم يشتهي فيه اللحم -وذكر جيرانه- وعندي جذعة خير من شاتى لحم، فرخص له في ذلك فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" وهذا ظاهره في أن الكل من رواية ابن سرين عن أنس، وقد أوضحت ذلك أيضا في كتاب الأضاحي. حديث جندب وهو ابن عبد الله البجلي. فوله "خطب ثم قال من ذبح فليبدل مكانها" تقدم في الأضاحي عن آدم عن شعبة بهذا السند بلفظ: "من ذبح قبل أن يصلي فليعد" الحديث وتقدم شرحه هناك أيضا. قال الكرماني: ومناسبة حديثي البراء وجندب للترجمة الإشارة إلى التسوية بين الجاهل بالحكم والناسي.

(11/555)


16 - باب الْيَمِينِ الْغَمُوسِ
{وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} دَخَلًا مَكْرًا وَخِيَانَةً
6675- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا فِرَاسٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ"
[الحديث 6675- طرفاه في 6870، 6920]
قوله: "باب اليمين الغموس" بفتح المعجمة وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة، قيل سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فهي فعول بمعنى فاعل، وقيل الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا

(11/555)


أحضروا جفنة فجعلوا فيها طيبا أو دما أو رمادا ثم يحلفون عندما يدخلون أيديهم فيها ليتم لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا. فسميت تلك اليمين إذا غدر صاحبها غموسا لكونه بالغ في نقض العهد وكأنها على هذا مأخوذة من اليد المغموسة فيكون فعول بمعنى مفعولة. وقال ابن التين: اليمين الغموس التي ينغمس صاحبها في الإثم، ولذلك قال مالك لا كفارة فيها، واحتج أيضا بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وهذه يمين غير منعقدة لأن المنعقد ما يمكن حله ولا يتأتى في اليمين الغموس البر أصلا. قوله: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى "عظيم". قوله: "دخلا مكرا وخيانة" هو من تفسير قتادة وسعيد بن جبير أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: خيانة وغدرا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: يعني مكرا وخديعة. وقال الفراء: يعني خيانة. وقال أبو عبيدة: الدخل كل أمر كان على فساد؛ وقال الطبري: معنى الآية لا تجعلوا أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم توفون بالعهد لمن عاهدتموه دخلا أي خديعة وغدرا ليطمئنوا إليكم وأنتم تضمرون لهم الغدر انتهى. ومناسبة ذكر هذه الآية لليمين الغموس ورود الوعيد على من حلف كاذبا متعمدا. قوله: "النضر" بفتح النون وسكون المعجمة هو ابن شميل بالمعجمة مصغر، ووقع منسوبا في رواية النسائي، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية جعفر بن إسماعيل عن محمد بن مقاتل شيخ البخاري فيه فقال: "عن عبد الله بن المبارك عن شعبة" وكأن لابن مقاتل فيه شيخين إن كان حفظه، وفراس بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره سين مهملة. قوله: "عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص. قوله: "الكبائر الإشراك بالله" في رواية شيبان عن فواس في أوله "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر" فذكره، ولم أقف على اسم هذا الأعرابي. قوله: "الكبائر الإشراك بالله إلخ" ذكر هنا ثلاثة أشياء بعد الشرك وهو العقوق وقتل النفس واليمين الغموس، ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قال اليمين الغموس شك شعبة" أخرجه أحمد عنه هكذا، وكذا أخرجه المصنف في أوائل الديات والترمذي جميعا عن بندار عن غندر وعلقه البخاري هناك، ووصله الإسماعيلي من رواية معاذ بن معاذ عن شعبة بلفظ: "الكبائر الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين أو قال قتل النفس" ووقع في رواية شيبان التي أشرت إليها "الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس" ولم يذكر قتل النفس، وزاد في رواية شيبان "قلت وما اليمين الغموس؟ قال: التي تقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كذب" والقائل قلت هو عبد الله بن عمرو راوي الخبر والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون السائل من دون عبد الله بن عمرو والمجيب هو عبد الله أو من دونه، ويؤيد كونه مرفوعا حديث ابن مسعود والأشعث المذكور في الباب الذي بعده، ثم وقفت على تعيين القائل "قلت وما اليمين الغموس" وعلى تعيين المسئول فوجدت الحديث في النوع الثالث من القسم الثاني من صحيح ابن حبان وهو قسم النواهي، وأخرجه عن النضر بن محمد عن محمد بن عثمان العجلي عن عبيد الله بن موسى بالسند الذي أخرجه به البخاري فقال في آخره بعد قوله ثم اليمين الغموس "قلت لعامر ما اليمين الغموس إلخ" فظهر أن السائل عن ذلك فراس والمسئول الشعبي وهو عامر فلله الحمد على ما أنعم ثم لله الحمد ثم لله الحمد، فإني لم أر من تحرر له ذلك من الشراح، حتى أن الإسماعيلي وأبا نعيم لم يخرجاه في هذا الباب من رواية شيبان بل اقتصر على رواية شعبة، وسيأتي عد الكبائر وبيان الاختلاف في ذلك في كتاب

(11/556)


الحدود في شرح حديث أبي هريرة "اجتنبوا السبع الموبقات" إن شاء الله تعالى، وقد بينت ضابط الكبيرة والخلاف في ذلك، وأن في الذنوب صغيرا وكبيرا وأكبر، في أوائل كتاب الأدب، وذكرت ما يدل على أن المراد بالكبائر في حديث الباب أكبر الكبائر، وأنه ورد من وجه آخر عند أحمد عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "من أكبر الكبائر" وأن له شاهدا عند الترمذي عن عبد الله بن أنيس وذكر فيه اليمين الغموس أيضا، واستدل به الجمهور على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها للاتفاق على أن الشرك والعقوق والقتل لا كفارة فيه وإنما كفارتها التوبة منها والتمكين من القصاص في القتل العمد، فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه، وأجيب بأن الاستدلال بذلك ضعيف لأن الجمع بين مختلف الأحكام جائز كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} والإيتاء واجب والأكل غير واجب، وقد أخرج ابن الجوزي في "التحقيق" من طريق ابن شاهين بسنده إلى خالد بن معدان عن أبي المتوكل عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس فيها كفارة يمين صبر يقتطع بها مالا بغير حق، وظاهر سنده الصحة، لكنه معلول لأن فيه عنعنة بقية فقد أخرجه أحمد من هذا الوجه فقال في هذا السند عن المتوكل أو أبي المتوكل، فظهر أنه ليس هو الناجي الثقة بل آخر مجهول، وأيضا فالمتن مختصر ولفظه عند أحمد "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة" الحديث، وفيه: "وخمس ليس لها كفارة الشرك بالله" وذكر في آخرها "ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق" ونقل محمد بن نصر في اختلاف العلماء ثم ابن المنذر ثم ابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس، وروى آدم بن أبي إياس في مسند شعبة وإسماعيل القاضي في الأحكام عن ابن مسعود "كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه" قال ولا مخالف له من الصحابة، واحتجوا بأنها أعظم من أن تكفر، وأجاب من قال بالكفارة كالحكم وعطاء والأوزاعي ومعمر والشافعي بأنه أحوج للكفارة من غيره وبأن الكفارة لا تزيده إلا خيرا، والذي يجب عليه الرجوع إلى الحق ورد المظلمة، فإن لم يفعل كفر فالكفارة لا ترفع عنه حكم التعدي بل تنفعه في الجملة. وقد طعن ابن حزم في صحة الأثر عن ابن مسعود واحتج بإيجاب الكفارة فيمن تعمد الجماع في صوم رمضان وفيمن أفسد حجه، قال: ولعلهما أعظم إثما من بعض من حلف اليمين الغموس، ثم قال: وقد أوجب المالكية الكفارة على من حلف أن لا يزني ثم زنى ونحو ذلك، ومن حجة الشافعي قوله في الحديث الماضي في أول كتاب الأيمان "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فأمر من تعمد الحنث أن يكفر فيؤخذ منه مشروعية الكفارة لمن حلف حانثا.

(11/557)


باب قول الله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ...} الخ
...
17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}

(11/557)


6676- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ"
6677- "فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ "لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
قوله: "باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية" كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله: "عذاب أليم" وقد سبق تفسير العهد قبل خمسة أبواب، ويستفاد من الآية أن العهد غير اليمين لعطف اليمين عليه، ففيه حجة على من احتج بها بأن العهد يمين، واحتج بعض المالكية بأن العرف جرى على أن العهد والميثاق والكفالة والأمانة أيمان لأنها من صفات الذات، ولا يخفي ما فيه. قال ابن بطال: وجه الدلالة أن الله خص العهد بالتقدمة على سائر الأيمان فدل على تأكد الحلف به لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية لأنه قدم على ترك الوفاء به. قوله: "وقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "وقوله جل ذكره": قال ابن التين وغيره: اختلف في معناه فعن زيد بن أسلم: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بررة، وفائدة ذلك إثبات الهيبة في القلوب، ويشير إليه قوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} وعن سعيد بن جبير: هو أن يحلف أن لا يصل رحمه مثلا فيقال له صل، فيقول قد حلفت وعلى هذا فمعنى قوله أن تبروا كراهة أن تبروا فينبغي أن يأتي الذي هو خير ويكفر انتهى. وقد أخرجه الطبري من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس ولفظه: "لا تجعل الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر واصنع الخير" وقيل هو أن يحلف أن يفعل نوعا من الخير تأكيدا له بيمينه فنهى عن ذلك حكاه الماوردي، وهو شبيه النهي عن النذر كما سيأتي نظيره، وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير لا، قال الراغب وغيره: العرضة ما يجعل معرضا لشيء آخر كما قالوا بعير عرضة للسفر، ومنه قول الشاعر "ولا يجعلني عرضة للوائم" ويقولون فلان عرضة للناس أي يقعون فيه، وفلانة عرضة للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه، وجعلت فلانا عرضة في كذا أي أقمته فيه، وتطلق العرضة أيضا على الهمة كقول حسان "هي الأنصار عرضتها اللقاء". قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً - إلى قوله:- وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} هكذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط ذلك لجميعهم، ووقع فيه تقديم وتأخير، والصواب قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً -إلى قوله- وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وقد وقع في رواية النسفي بعد قوله عرضة لأيمانكم ما نصه "وقوله {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية وقوله {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية "وقد مشى شرح ابن بطال على ما وقع عند أبي ذر فقال: في هذا دليل على تأكيد لوفاء بالعهد لأن الله تعالى قال ولا تنقضوا الأيمان

(11/558)


بعد توكيدها، ولم يتقدم غير ذلك العهد فعلم أنه يمين. ثم ظهر لي أنه أراد ما وقع قبل قوله: "ولا تنقضوا" وهو قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} لكن لا يلزم من عطف الأيمان على العهد أن يكون العهد يمينا بل هو كالآية السابقة {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فالآيات كلها دالات على تأكيد الوفاء بالعهد، وأما كونه يمينا فشيء آخر، ولعل البخاري أشار إلى ذلك، وقد تقدم كلام الشافعي "من حلف بعهد الله" قبل خمسة أبواب، وقوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي شهيدا في العهد أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. وأخرج عن مجاهد قال: يعني وكيلا، واستدل بقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن ابن عباس فسرها بأن الرجل يحلف أن لا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير وأمره أن يصل قرابته ويكفر عن يمينه ولم يجعل لحالف الغموس مخرجا كذا قال، وتعقبه الخطابي بأنه لا يدل على ترك الكفارة في اليمين الغموس بل قد يدل لمشروعيتها. قوله: "حدثنا موسى بن إسماعيل" هو التبوذكي. قوله: "حدثنا أبو عوانة" هو الوضاح، وقد تقدم عن موسى هذا بعض هذا الحديث بدون قصة الأشعث في الشهادات لكن عن عبد الواحد وهو ابن زياد بدل أبي عوانة فالحديث عند موسى المذكور عنهما جميعا. قوله: "عن أبي وائل" هو شقيق بن سلمة، وقد تقدم في الشرب من رواية أبي حمزة وهو السكري، وفي الأشخاص من رواية أبي معاوية كلاهما عن الأعمش عن شقيق، وقد تقدم قريبا من رواية شعبة عن سليمان وهو الأعمش، ويستفاد منه أنه مما لم يدلس فيه الأعمش فلا يضر مجيئه عنه بالعنعنة. قوله: "عن عبد الله" في تفسير آل عمران عن حجاج بن منهال عن أبي عوانة بهذا السند عن عبد الله بن مسعود. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع التصريح بالرفع في رواية الأعمش، ولم يقع ذلك في رواية منصور الماضية في الشهادات وفي الرهن، ووقع مرفوعا في رواية شعبة الماضية قريبا عن منصور والأعمش جميعا. قوله: "من حلف على يمين صبر" بفتح الصاد وسكون الموحدة، ويمين الصبر هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها يقال أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق، زاد أبو حمزة عن الأعمش "هو بها فاجر" وكذا للأكثر. وفي رواية أبي معاوية "هو عليها فاجر ليقتطع" وكأن فيها حذفا تقديره هو في الإقدام عليها، والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وقد وقع في رواية شعبة "على يمين كاذبة". قوله: "يقتطع بها مال امرئ مسلم" في رواية حجاج بن منهال "ليقتطع بها" بزيادة لام تعليل ويقتطع يفتعل من القطع كأنه قطعه عن صاحبه أو أخذ قطعة من ماله بالحلف المذكور. قوله: "لقي الله وهو عليه غضبان" في حديث وائل بن حجر عند مسلم: "وهو عنه معرض" وفي رواية كردوس عن الأشعث عند أبي داود "إلا لقي الله وهو أجذم" وفي حديث أبي أمامة بن ثعلبة عند مسلم والنسائي نحوه في هذا الحديث: "فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة" وفي حديث عمران عند أبي داود "فليتبوأ مقعده من النار". قوله: "فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} كذا في رواية الأعمش ومنصور، ووقع في رواية جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين عند مسلم والترمذي وغيرهما جميعا عن أبي وائل عن عبد الله "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه" الحديث ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فذكر هذه الآية، ولولا التصريح في رواية الباب بأنها نزلت في ذلك لكان ظاهر هذه الرواية أنها نزلت قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير آل عمران أنها نزلت فيمن أقام سلعته بعد العصر فحلف كاذبا، وتقدم أنه يجوز

(11/559)


أنها نزلت في الأمرين معا. وقال الكرماني: لعل الآية لم تبلغ ابن أبي أوفى إلا عند إقامته السلعة فظن أنها نزلت في ذلك، أو أن القصتين وقعتا في وقت واحد فنزلت الآية، واللفظ عام متناول لهما ولغيرهما.
قوله: "فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن"؟ كذا وقع عند مسلم من رواية وكيع عن الأعمش، وأبو عبد الرحمن هي كنية ابن مسعود. وفي رواية جرير في الرهن "ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن" والجمع بينهما أنه خرج عليهم من مكان كان فيه فدخل المكان الذي كانوا فيه. وفي رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا -كما سيأتي في الأحكام- فجاء الأشعث وعبد الله يحدثهم، ويجمع بأن خروجه من مكانه الذي كان فيه إلى المكان الذي كان فيه عبد الله وقع وعبد الله يحدثهم فلعل الأشعث تشاغل بشيء فلم يدرك تحديث عبد الله فسأل أصحابه عما حدثهم به. قوله: "فقالوا كذا وكذا" في رواية جرير "فحدثناه" وبين شعبة في روايته أن الذي حدثه بما حدثهم به ابن مسعود هو أبو وائل الراوي ولفظه في الأشخاص "قال فلقيني الأشعث فقال: ما حدثكم عبد الله اليوم؟ قلت كذا وكذا" وليس بين قوله فلقيني وبين قوله في الرواية خرج إلينا فقال ما يحدثكم منافاة، وإنما انفرد في هذه الرواية لكونه المجيب. قوله: "قال في أنزلت" رواية جرير "قال فقال صدق، لفي والله أنزلت" واللام لتأكيد القسم دخلت على في، ومراده أن الآية ليست بسب خصومته التي يذكرها. وفي رواية أبي معاوية "في والله كان ذلك" وزاد جرير عن منصور "صدق" قال ابن مالك "لفي والله نزلت": شاهد على جواز توسط القسم بين جزءي الجواب، وعلى أن اللام يجب وصلها بمعمولي الفعل الجوابي المتقدم لا بالفعل. قوله: "كان لي" في رواية الكشميهني: "كانت". قوله: "بئر" في رواية أبي معاوية "أرض" وادعى الإسماعيلي في الشرب أن أبا حمزة تفرد بقوله: "في بئر" وليس كما قال فقد وافقه أبو عوانة كما ترى، وكذا يأتي في الأحكام من رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا، ومثله في رواية شعبة الماضية قريبا عنهم لكن بين أن ذلك في حديث الأعمش وحده، ووقع في رواية جرير عن منصور "في شيء" ولبعضهم "في بئر" ووقع عند أحمد من طريق عاصم عن شقيق أيضا: "في بئر". قوله: "في أرض ابن عم لي" كذا للأكثر أن الخصومة كانت في بئر يدعيها الأشعث في أرض لخصمه. وفي رواية أبي معاوية "كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني" ويجمع بأن المراد أرض البئر لا جميع الأرض التي هي أرض البئر والبئر من جملتها، ولا منافاة بين قوله ابن عم لي وبين قوله من اليهود لأن جماعة من اليمن كانوا تهودوا لما غلب يوسف ذو نواس على اليمن فطرد عنها الحبشة فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية مبسوطا، وقد تقدم في الشرب أن اسم ابن عمه المذكور الخفشيش بن معدان بن معد يكرب، وبينت الخلاف في ضبط الخفشيش وأنه لقب واسمه جرير وقيل معدان حكاه ابن طاهر، والمعروف أنه اسم كنيته أبو الخير. وأخرج الطبراني من طريق الشعبي عن الأشعث قال: "خاصم رجل من الحضرميين رجلا منا يقال له الخفشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للحضرمي جيء بشهودك على حقك وإلا حلف لك" الحديث. قلت: وهذا يخالف السياق الذي في الصحيح، فإن كان ثابتا حمل على تعدد القصة، وقد أخرج أحمد والنسائي من حديث عدي بن عميرة الكندي قال: "خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي رجلا من حضر موت في أرض" فذكر نحو قصة الأشعث وفيه: "إن مكنته من اليمين ذهبت أرضي. وقال من حلف" فذكر الحديث وتلا الآية، ومعد يكرب جد الخفشيش وهو جد

(11/560)


الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمه حقيقة. ووقع في رواية لأبي داود من طريق كردوس عن الأشعث "أن رجلا من كندة ورجلا من حضر موت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرص من اليمن" فذكر قصة تشبه قصة الباب إلا أن بينهما اختلافا في السياق، وأظنها قصة أخرى فإن مسلما أخرج من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي" وإنما جوزت التعدد لأن الحضرمي يغاير الكندي لأن المدعي في حديث الباب هو الأشعث وهو الكندي جزما والمدعي في حديث وائل هو الحضرمي فافترقا، ويجوز أن يكون الحضرمي: نسب إلى البلد لا إلى القبيلة فإن أصل نسبة القبيلة كانت إلى البلد ثم اشتهرت النسبة إلى القبيلة، فلعل الكندي في هذه القصة كان يسكن حضر موت فنسب إليها والكندي لم يسكنها فاستمر على نسبته. وقد ذكروا الخفشيش في الصحابة، واستشكله بعض مشايخنا لقوله في الطريق المذكورة قريبا إنه يهودي ثم قال يحتمل أنه أسلم. قلت: وتمامه أن يقال إنما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أولا، ويؤيد إسلامه أنه وقع في رواية كردوس عن الأشعث في آخر القصة أنه لما سمع الوعيد المذكور قال: هي أرضه، فترك اليمين تورعا، ففيه إشعار بإسلامه. ويؤيده أنه لو كان يهوديا ما بالى بذلك لأنهم يستحلون أموال المسلمين، وإلى ذنك وقعت الإشارة بقوله تعالى حكاية عنهم "ليس علينا في الأميين سبيل" أي حرج، ويؤيد كونه مسلما أرضا رواية الشعبي الآتية قريبا. قوله: "فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الثوري "خاصمته" وفي رواية جرير عن منصور "فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي معاوية "فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: بينتك أو يمينه" في رواية أبي معاوية "فقال: ألك بينة؟ فقلت: لا. فقال لليهودي: احلف" وفي رواية أبي حمزة "فقال لي: شهودك. قلت: ما لي شهود. قال: فيمينه" وفي رواية وكيع عند مسلم: "ألك عليه بينة" وفي رواية جرير عن منصور "شاهداك أو يمينه" وتقدم في الشهادات توجيه الرفع وأنه يجوز النصب، ويأتي نظيره في لفظ رواية الباب، ويجوز أن يكون توجيه الرفع: لك إقامة شاهديك أو طلب يمينه، فحذف فيهما المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فرفع، والأصل في هذا التقدير قول سيبويه المثبت لك ما تدعيه شاهداك، وتأويله المثبت لك هو شهادة شاهديك إلخ. قوله: "قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله" لم يقع في رواية أبي حمزة ما بعد قوله: "يحلف" وتقدم في الشرب "أن يحلف" بالنص لوجود شرائطه من الاستقبال وغيره وأنه يجوز الرفع وذكر فيه توجيه ذلك، وزاد في رواية أبي معاوية "إذا يحلف ويذهب بمالي" ووقع في حديث وائل من الزيادة بعد قوله ألك بينة "قال لا قال فلك يمينه، قال إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه وليس يتورع من شيء، قال ليس لك منه إلا ذلك" ووقع في رواية

(11/561)


الشعبي عن الأشعث قال: "أرضي أعظم شأنا أن يحلف عليها، فقال: إن يمين المسلم يدرا بها أعظم من ذلك". قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف" فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء وزاد: "وهو فيها فاجر" وقد بينت أن هذه الزيادة وقعت في حديث ابن مسعود عند أبي حمزة وغيره، وزاد أبو حمزة "فأنزل الله ذلك تصديقا له" أي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في رواية منصور حديث: "من حلف" من رواية الأشعث بل اقتصر على قوله: "فأنزل الله" وساق الآية. ووقع في رواية كردوس عن الأشعث "فتهيأ الكندي لليمين" وفي حديث وائل "فانطلق ليحلف، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. ووقع في رواية الشعبي عن الأشعث "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هو حلف كاذبا أدخله الله النار. فذهب الأشعث فأخبره القصة فقال: أصلح بيني وبينه، قال فأصلح بينهما" وفي حديث عدي بن عميرة "فقال له أمرؤ القيس: ما لمن تركها يا رسول الله؟ قال: الجنة. قال أشهد أني قد تركتها له كلها" وهذا يؤيد ما أشرت إليه من تعدد القصة. وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا وصف وحدد وعرفه المتداعيان، لكن لم يقع في الحديث تصريح بوصف ولا تحديد، فاستدل به القرطبي على أن الوصف والتحديد ليس بلازم لذاته بل يكفي في صحة الدعوى تمييز المدعي به تمييزا ينضبط به. قلت: ولا يلزم من ترك ذكر التحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع، ولا يستدل بسكوت الراوي عنه بأنه لم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطا بدليله فإذا ثبت حمل على أنه ذكر في الحديث ولم ينقله الراوي. وفيه أن الحاكم يسأل المدعي هل له بينة؟ وقد ترجم بذلك في الشهادات "وأن البينة على المدعي في الأموال كلها" واستدل به لمالك في قوله إن من رضى بيمين غريمه ثم أراد إقامة البينة بعد حلفه أنها لا تسمع إلا إن أتي بعذر يتوجه له في ترك إقامتها قبل استحلافه، قال ابن دقيق العيد: ووجهه أن "أو" تقتضي أحد الشيئين. فلو جاز إقامة البينة بعد الاستحلاف لكان له الأمران معا والحديث يقتضي أنه ليس له إلا أحدهما، قال: وقد يجاب بأن المقصود من هذا الكلام نفي طريق أخرى لإثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في البينة واليمين. ثم أشار إلى أن النظر إلى اعتبار مقاصد الكلام وفهمه يضعف هذا الجواب، قال وقد يستدل الحنفية به في ترك العمل بالشاهد واليمين في الأموال. قلت: والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشاهد واليمين أنها زيادة صحيحة يجب المصير إليها لثبوت ذلك بالمنطوق وإنما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم، واستدل به على توجيه اليمين في الدعاوي كلها على من ليست له بينة. وفيه بناء الأحكام على الظاهر وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلا. وفيه دليل للجمهور أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن حلالا له خلافا لأبي حنيفة كذا أطلقه النووي، وتعقب بأن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الحكم لا يحل حراما في الباطن في الأموال. قال: واختلفوا في حل عصمة نكاح من عقد عليها بظاهر الحكم وهي في الباطن بخلافه فقال الجمهور: الفروج كالأموال. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكية: إن ذلك إنما هو في الأموال دون الفروج، وحجتهم في ذلك اللعان انتهى. وقد طرد ذلك بعض الحنفية في بعض المسائل في الأموال والله أعلم. وفيه التشديد على من حلف باطلا ليأخذ حق مسلم، وهو عند الجميع محمول على من مات على غير توبة صحيحة، وعند أهل السنة محمول على من شاء الله أن يعذبه كما تقدم تقريره مرارا وآخرها في الكلام على حديث أبي ذر في كتاب الرقاق، وقوله: "ولا ينظر الله إليه" قال في الكشاف: هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند من يجوز عليه النظر، مجاز عند من لا يجوزه، والمراد بترك التزكية ترك الثناء عليه وبالغضب إيصال الشر إليه وقال المازري: ذكر بعض أصحابنا أن فيه دلالة على أن صاحب اليد أولى بالمدعي فيه. وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء لأنه بدأ بالطالب فقال ليس لك إلا يمين الآخر، ولم يحكم بها للمدعى عليه إذا حلف بل إنما جعل اليمين تصرف دعوى المدعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى عليه أن لا يحكم له بملك المدعى فيه ولا بحيازته بل يقره على حكم يمينه، واستدل به على أنه لا يشترط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط أو يكونا ممن يتهم بذلك ويليق به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المدعى عليه هنا بالحلف بعد أن سمع الدعوى ولم يسأل عن حالهما، وتعقب بأنه ليس فيه التصريح بخلاف ما ذهب إليه من قال به من المالكية

(11/562)


لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من حاله ما أغناه عن السؤال فيه وقد قال خصمه عنه إنه فاجر لا يبالي ولا يتورع عن شيء ولم ينكر عليه ذلك ولو كان بريئا مما قال لبادر للإنكار عليه، بل في بعض طرق الحديث ما يدل على أن الغصب المدعى به وقع في الجاهلية ومثل ذلك تسمع الدعوى بيمينه فيه عندهم. وفي الحديث أيضا أن يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، وأن فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى، وأن المدعى عليه إن أقر أن أصل المدعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه ما لم يعلم إنكاره لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال، قال: وفيه أن من جاء بالبينة قضى له بحقه من غير يمين لأنه محال أن يسأله عن البينة دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له بينتك ويمينك على صدقها، وتعقب بأنه لا يلزم من كونه لا يحلف مع بينته على صدقها فيما شهدت أن الحكم له لا يتوقف بعد البينة على حلفه بأنه ما خرج عن ملكه ولا وهبه مثلا وأنه يستحق قبضه، فهذا وإن كان لم يذكر في الحديث فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يشعر بالاستغناء عن ذكر ذلك لأن في بعض طرقه أن الخصم اعترف وسلم المدعى به للمدعي فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أن المدعي ذكر أنه لا بينة له فلم تكن اليمين إلا في جانب المدعى عليه فقط. وقال القاضي عياض: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا البداءة بالسماع من الطالب ثم من المطلوب هل يقر أو ينكر، ثم طلب البينة من الطالب إن أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لم يجد الطالب البينة، وأن الطالب إذا ادعى أن المدعى به في يد المطلوب فاعترف استغنى عن إقامة البينة بأن يد المطلوب عليه، قال: وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يجرى بين المتداعيين من تساب بخيانة وفجور هدر لهذا الحديث، وفيه نظر لأنه إنما نسبه إلى الغصب في الجاهلية وإلى الفجور وعدم التوقي في الأيمان في حال اليهودية فلا يطرد ذلك في حق كل أحد. وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفا من أن يحلف باطلا فيرجع إلى الحق بالموعظة. واستدل به القاضي أبو بكر بن الطيب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه فيقول له ألك دليل على ذلك؟ فإن قال نعم سأله عنه ولا يقول له ابتداء ما دليلك على ذلك؟ ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قال للطالب: ألك بينة. ولم يقل له قرب بينتك. وفيه إشارة إلى أن لليمين مكانا يختص به لقوله في بعض طرقه: "فانطلق ليحلف" وقد عهد في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره، وبذلك احتج الخطابي فقال: كانت المحاكمة والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فانطلق المطلوب ليحلف فلم يكن انطلاقه إلا إلى المنبر لأنه كان في المسجد فلا بد أن يكون انطلاقه إلى موضع أخص منه. وفيه أن الحالف يحلف قائما لقوله: "فلما قام ليحلف" وفيه نظر لأن المراد بقوله قام ما تقدم من قوله انطلق ليحلف، واستدل به الشافعي أن من أسلم وبيده مال لغيره أنه يرجع إلى مالكه إذا أثبته، وعن المالكية اختصاصه بما إذا كان المال لكافر، وأما إذا كان لمسلم وأسلم عليه الذي هو بيده فإنه يقر بيده والحديث حجة عليهم. ومال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه أن الآية المذكورة في هذا الحديث نزلت في نقض العهد، وأن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن نقض العهد لا كفارة فيه، كذا قال، وغايته أنها دلالة اقتران. وقال النووي يدخل في قوله: "من اقتطع حق امرئ مسلم" من حلف على غير مال كجلد الميتة والسرجين وغيرهما مما ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزوجة بالقسم، وأما التقييد بالمسلم فلا يدل على عدم تحريم حق الذمي بل هو حرام أيضا، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة، وهو تأويل حسن لكن ليس في الحديث المذكور دلالة على تحريم حق الذمي بل ثبت بدليل آخر. والحاصل أن المسلم والذمي

(11/563)


لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقهما باطلا وإنما يفترق قدر العقوبة بالنسبة إليهما، قال: وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره في ذلك، وكأن مراده عدم الفرق في غلط التحريم لا في مراتب الغلظ، وقد صرح ابن عبد السلام في "القواعد" بالفرق بين القليل والكثير وكذا بين ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها، وقد ورد الوعيد في الحالف الكاذب في حق الغير مطلقا في حديث أبي ذر "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم" الحديث، وفيه: "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" أخرجه مسلم، وله شاهد عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "ورجل حلف على سلعته بعد العصر كاذبا".

(11/564)


باب اليمين فيما لا يمللك ، وفي المعصية ، وفي الغضب
...
18 - باب الْيَمِينِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَفِي الْمَعْصِيَةِ وَفِي الْغَضَبِ
6678- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ الْحُمْلاَنَ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّهَ أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ"
6679- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَرَاءَتِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لاَحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا"
6680- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قوله: "باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية والغضب" ذكر فيه ثلاثة أحاديث يؤخذ منها حكم ما في الترجمة على الترتيب، وقد تؤخذ الأحكام الثلاثة من كل منها ولو بضرب من التأويل، وقد ورد في الأمور الثلاثة على غير

(11/564)


شرطه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم" أخرجه أبو داود والنسائي ورواته لا بأس بهم، لكن اختلف في سنده على عمرو، وفي بعض طرقه عند أبي داود "ولا في معصية" وللطبراني في الأوسط عن ابن عباس رفعه: "لا يمين في غضب" الحديث وسنده ضعيف. حديث أبي موسى في قصة طلبهم الحملان في غزوة تبوك، اقتصر منه على بعضه، وفيه: "فقال لا أحملكم" وقد ساقه تاما غزوة تبوك بالسند المذكور هنا وفيه: "فقال والله لا أحملكم" وهو الموافق للترجمة، وأشار بقوله: "فيما لا يملك" إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي في "باب الكفارة قبل الحنث" فقال: "والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم" وقد أحلت بشرح الحديث على الباب المذكور، قال ابن المنير: فهم ابن بطال عن البخاري أنه نحا بهذه الترجمة لجهة تعليق الطلاق قبل ملك العصمة أو الحرية قبل ملك الرقبة، فنقل الاختلاف في ذلك وبسط القول فيه والحجج، والذي يظهر أن البخاري قصد غير هذا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يحملهم فلما حملهم راجعوه في يمينه فقال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، فبين أن يمينه إنما انعقدت فيما يملك فلو حملهم على ما يملك لحنث كفر، ولكنه حملهم على ما لا يملكه ملكا خاصا وهو مال الله وبهذا لا يكون قد حنث في يمينه. وأما قوله عقب ذلك "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها" فهو تأسيس قاعدة مبتدأة كأنه يقول ولو كنت حلفت ثم رأيت ترك ما حلفت عليه خيرا منه لأحنثت نفسي وكفرت عن يميني، قال وهم إنما سألوه أن يحملهم ظنا أنه يملك حملانا فحلف لا يحملهم على شيء يملكه لكونه كان حينئذ لا يملك شيئا من ذلك، قال: ولا خلاف أن من حلف على شيء وليس في ملكه أنه لا يفعل فعلا معلقا بذلك الشيء مثل قوله والله لئن ركبت مثلا هذا البعير لأفعلن كذا لبعير لا يملكه أنه لو ملكه وركبه حنث وليس هذا من تعليق اليمين على الملك، قلت: وما قاله محتمل، وليس ما قاله ابن بطال أيضا ببعيد بل هو أظهر، وذلك أن الصحابة الذين سألوا الحملان فهموا أنه حلف وأنه فعل خلاف ما حلف أنه لا يفعله، فلذلك لما أمر لهم بالحملان بعد قالوا "تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه" وظنوا أنه نسى حلفه الماضي، فأجابهم أنه لم ينس ولكن الذي فعله خير مما حلف عليه، وأنه إذا حلف فرأى خيرا من يمينه فعل الذي حلف أن لا يفعله وكفر عن يمينه، وسيأتي واضحا في "باب الكفارة قبل الحنث" ويأتي مزيد لمسألة اليمين فيما لا يملك في "باب النذر فيها لا يملك" إن شاء الله تعالى. ذكر طرفا من حديث الإفك، وعبد العزيز شيخه هو ابن عبد الله الأويسي، وإبراهيم هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، وحجاج شيخه في السند الثاني هو ابن المنهال، وقد أورده عن عبد العزيز بطوله في المغازي، وأورد عن حجاج بهذا السند أيضا منه قطعة في الشهادات تتعلق بقول بريرة "ما علمت إلا خيرا" وقطعة في الجهاد فيمن أراد سفرا فأقرع بين نسائه، وقطعة في تفسير سورة يوسف مقررنا أيضا برواية عبد العزيز في قول يعقوب "فصبر جميل"، وقطعة في غزوة بدر في قصة أم مسطح وقول عائشة لها "تسبين رجلا شهد بدرا" وقطعة في التوحيد في قول عائشة "ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى" ومجموع ما أورده عنه لا يجيء قدر عشر الحديث، والغرض منه قوله فيه: "قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح والله لا أنفق على مسطح" وهو موافق لترك اليمين في المعصية لأنه حلف أن لا ينفع مسطحا لكلامه في عائشة فكان حالفا على ترك طاعة فنهى الاستمرار على ما حلف عليه فيكون النهي عن الحلف على فعل المعصية بطريق الأولى، والظاهر من حاله عند الحلف أن يكون قد غضب على مسطح من أجل قوله الذي قاله.

(11/565)


وقال الكرماني: لا مناسبة لهذا الحديث بالجزءين الأولين إلا أن يكون قاسهما على الغضب، أو المراد بقوله وفي المعصية وفي شأن المعصية لأن الصديق حلف بسبب إفك مسطح والإفك من المعصية؛ وكذا كل ما لا يملك الشخص فالحلف عليه موجب للتصرف فيما لا يملكه قبل ذلك أي ليس له أن يفعله شرعا انتهى، ولا يخفى تكلفه، والأولى أنه لا يلزم أن يكون كل خبر في الباب يطابق جميع ما في الترجمة. ثم قال الكرماني: الظاهر أنه من تصرفات النقلة من أصل البخاري فإنه مات وفيه مواضع مبيضة من تراجم بلا حديث وأحاديث بلا ترجمة فأضافوا بعضا إلى بعض. قلت: وهذا إنما يصار إليه إذا لم تتجه المناسبة وقد بينا توجيهها والله أعلم. قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وأيوب وهو السختياني، والقاسم هو ابن عاصم، وزهدم هو ابن مضرب الجرمي والجميع بصريون، وقوله: "فوافقته وهو غضبان" مطابق لبعض الترجمة، وفي القصة نحو ما في قصة أبي بكر من الحلف على ترك طاعة، لكن بينهما فرق، وهو أن حلف النبي صلى الله عليه وسلم وافق أن لا شيء عنده مما حلف عليه، بخلاف حلف أبي بكر فإنه حلف وهو قادر على فعل ما حلف على تركه. قال ابن المنير: لم يذكر البخاري في الباب ما يناسب ترجمة اليمين على المعصية إلا أن يريد بيمين أبي بكر على قطيعة مسطح وليست بقطيعة بل هي عقوبة له على ما ارتكب من المعصية بالقذف، ولكن يمكن أن يكون أبو بكر حلف على خلاف الأولى، فإذا نهى عن ذلك حتى أحنث نفسه فعل ما حلف على تركه، فمن حلف على فعل المعصية يكون أولى. قال: وكذلك قوله: "فأرى خيرا منها" يقتضي أن الحنث لفعل ما هو الأولى يقتضي الحنث لترك ما هو معصية بطريق الأولى، قال: ولهذا يقضي بحنث من حلف على معصية من قبل أن يفعلها انتهى. والقضاء المذكور عند المالكية كما سيأتي بسطه في "باب النذر في المعصية" قال ابن بطال: في حديث أبي موسى الرد على من قال إن يمين الغضبان لغو

(11/566)


باب إذا قال والله لا أتكلم فصلى أو قرأ أوسبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته
...
19 - باب إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ فَصَلَّى أَوْ قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ حَمِدَ أَوْ هَلَّلَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الْكَلاَمِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ" قَالَ أَبُو سُفْيَانَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَلِمَةُ التَّقْوَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
6681- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"
6682- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ"
6683- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(11/566)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ" وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ لاَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ"
قوله: "باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح -إلى أن قال- فهو على نيته" أي إن أراد إدخال القراءة والذكر حنث إذا قرأ أو ذكر وإن أراد أن لا يدخلهما لم يحنث، ولم يتعرض إذا أطلق، والجمهور على أنه لا يحنث. وعن الحنفية يحنث، وفرق بعض الشافعية بين القرآن فلا يحنث به ويحنث بالذكر، وحجة الجمهور أن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين وأنه لا يحنث بالقراءة والذكر داخل الصلاة فليكن كذلك خارجها، ومن الحجة في ذلك الحديث الذي عند مسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءه القرآن" فحكم للذكر والقراءة بغير حكم كلام الناس. وقال ابن المنير: معنى قول البخاري "هو على نيته" أى العرفية، قال: ويحتمل أن يكون مراده أنه لا يحنث بذلك إلا إن لغوى إدخاله في نيته فيؤخذ منه حكم الإطلاق؛ قال: ومن فروع المسألة لو حلف لا كلمت زيدا ولا سلمت عليه فصلى خلفه فسلم الإمام وسلم المأموم التسليمة التي يخرج بها من الصلاة فلا يحنث بها جزما بخلاف التسليمة التي يرد بها على الإمام فلا يحنث أيضا لأنها ليست مما ينويه الناس عرفا، وفيه الخلاف انتهى. وهو على مذهبهم، ويأتي نظيره عندنا في التسليمة الثانية إذا كان من حلف لا يكلمه عن يساره فلا يحنث إلا إن قصد الرد عليه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل الكلام أربع سبحان الله إلخ" هذا من الأحاديث التي لم يصلها البخاري في موضع آخر، وقد وصله النسائي من طريق ضرار بن مرة عن أبي صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا بلفظه، وأخرجه مسلم من حديث سمرة بن جندب لكن بلفظ: "أحب" بدل "أفضل" وأخرجه ابن حبان من هذا الطريق بلفظ: "أفضل" ولحديث أبي هريرة طريق أخرى أخرجها النسائي وصححها ابن حبان من طريق أبي حمزة السكري عن الأعمش عن أبي صالح عنه بلفظ: "خير الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت" فذكره، وأخرجه أحمد عن وكيع عن الأعمش فأبهم الصحابي، وأخرجه النسائي من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن السلولي عن كعب الأحبار من قوله، وقد بينت معاني هذه الألفاظ الأربعة في "باب فضل التسبيح" من كتاب الدعوات. قوله: "وقال أبو سفيان: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" هذا طرف ذكره بالمعنى من الحديث الطويل وقد شرحته بطوله في أول الصحيح وفي تفسير آل عمران، والغرض منه ومن جميع ما ذكر في الباب أن ذكر الله من جملة الكلام وإطلاق "كلمة" على مثل سبحان الله وبحمده من إطلاق البعض على الكل. قوله: "وقال مجاهد: كلمة التقوى لا إله إلا الله" وصله عبد بن حميد من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد بهذا موقوفا على مجاهد، وقد جاء مرفوعا من أحاديث جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وأبو هريرة وابن عباس وسلمة بن الأكوع وابن عمر أخرجها كلها أبو بكر بن مردويه في تفسيره، وحديث أبي عند الترمذي وذكر أنه سأل أبا زرعة عنه فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وأخرجه أبو العباس البريقي في جزئه المشهور موقوفا على جماعة من الصحابة والتابعين. حديث سعيد بن المسيب عن أبيه لما حضرت أبا طالب الوفاة الحديث مختصر، وقد تقدم بتمامه وشرحه في السيرة النبوية، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج" بضم أوله وتشديد أخره وأصله

(11/567)


أحاجج والمراد أظهر لك بها الحجة. وحديث أبي هريرة "كلمتان خفيفتان على اللسان" الحديث وقد تقدم في الدعوات ويأتي شرحه مستوفى في آخر الكتاب. وحديث عبد الله وهو ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمة وقلت أخرى" الحديث وقد مضى، الكلام عليه في أوائل كتاب الجنائز، وذكرت ما وقع للنووي فيه، ووقع في تفسير البقرة بيان الكلمة المرفوعة من الكلمة الموقوفة؛ قال الكرماني: المتجه أن يقول من مات لا يجعل لله ندا لا يدخل النار، لكن لما كان دخول الجنة محققا للموحد جزم به ولو كان آخرا.

(11/568)


20 - باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا وَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
6684- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان بن بلال عن حميد "عن أنس رضي الله عنه قال آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة تسعا وعشرين ليلة ثم نزل فقال يا رسول الله آليت شهرا فقال "إن الشهر يكون تسعا وعشرين"
قوله: "باب من حلف أن لا يدخل على أهله شهرا وكان الشهر تسعا وعشرين" أي ثم دخل فإنه لا يحنث، هذا يتصور إذا وقع الحلف أول جزء من الشهر اتفاقا، فإن وقع في أثناء الشهر ونقص هل يتعين أن يلفق ثلاثين أو يكتفي بتسع وعشرين؟ فالأول قول الجمهور. وقالت طائفة منهم ابن عبد الحكم من المالكية بالثاني، وقد تقدم بيان ذلك في آخر شرح حديث عمر الطويل في آخر النكاح، ومضى الكلام على تفسير الإيلاء وعلى حديث أنس المذكور في هذا الباب في باب الإيلاء، واحتج الطحاوي للجمهور بالحديث الصحيح الماضي في الصيام بلفظ: "الشهر تسع وعشرون فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإذا غم عليكم فأكملوا ثلاثين" قال فأوجب عليهم إذا أغمى ثلاثين وجعله على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك. قلت: وهذا إنما يحتج به على من زعم أنه إذا وقعت يمينه في أثناء الشهر أن يكتفي بتسع وعشرين سواء كان ذلك الشهر الذي حلف فيه تسعا وعشرين أو ثلاثين، وقد نقل هو هذا المذهب عن قوم، وأما قول ابن عبد الحكم فإنما يصلح تعقبه بحديث عائشة قالت: "لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشهر تسع وعشرون، وإنما والله أعلم بما قال في ذلك أنه قال حين هجرنا لأهجرنكن شهرا ثم جاء لتسع وعشرين فسألته فقال إن شهرنا هذا كان تسعا وعشرين" قال الطحاوي بعد تخريجه: يعرف بذلك أن يمينه كانت مع رؤية الهلال، كذا قال وليس ذلك صريحا في الحديث، والله أعلم.

(11/568)


باب إذا حلف أن لا يشرب نبيذا فشرب طلاء أوسكرا أوعصيرا لم يحنث في قول بعض الناس وليست بأنبذة عنده
...
21 - باب إِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ طِلاَءً أَوْ سَكَرًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ
6685- حَدَّثَنِي عَلِيٌّ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْسِهِ فَكَانَتْ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ قَالَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ"

(11/568)


باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز ، ومايكون منه الأدم.
...
22 - باب إِذَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ الأُدْمِ
6687- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ بِهَذَا"
6688- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ "سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ نَعَمْ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أأَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ" فَقُلْتُ نَعَمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَنْ مَعَهُ "قُومُوا فَانْطَلَقُوا" وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ حَتَّى دَخَلاَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ" فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا"
قوله: "باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز" أي هل يكون مؤتدما فيحنث أم لا؟ قوله: "وما يكون منه الأدم" هي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، أي وباب بيان ما يحصل به الائتدام. حديث عائشة "ما شبع آل محمد من خبز بر مأدوم" وهو طرف من حديث مضى في الأطعمة بتمامه، وكذا التعليق المذكور بعده عن محمد بن كثير مضى ذكر من وصله عنه. وعابس بمهملة وبعد الألف موحدة ثم مهملة، وقوله

(11/570)


في آخره: "قال لعائشة بهذا" قال الكرماني أي روى عنها أو قال لها مستفهما ما شبع آل محمد؟ فقالت: نعم. قلت: والواقع خلاف هذا التقدير؛ وهو بين فيما أخرجه الطبراني والبيهقي من وجهين آخرين وهو أن عابسا قال لعائشة: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الأضاحي؟ فذكر الحديث في آخره: "ما شبع إلخ" والنكتة في إيراده طريق محمد بن كثير الإشارة إلى أن عابسا لقي عائشة وسألها لرفع ما يتوهم في العنعنة في الطريق التي قبلها من الانقطاع، وقد تقدم شرح الحديث في كتاب الرقاق. حديث أنس في قصة أقراص الشعير وأكل القوم وهم سبعون أو ثمانون رجلا حتى شبعوا، وقد مضى شرحه في علامات النبوة، والقصد منه قوله: "فأمر بالخبز ففت وعصرت أم سليم عكة لها فأدمته" أي خلطت ما حصل من السمن بالخبز المفتوت: قال ابن المنير وغيره: مقصود البخاري الرد على من زعم أنه لا يقال ائتدم إلا إذا أكل بما اصطبغ به، قال: ومناسبته لحديث عائشة أن المعلوم أنها أرادت نفي الإدام مطلقا بقرينة ما هو معروف من شظف عيشهم فدخل فيه التمر وغيره. وقال الكرماني: وجه المناسبة أن التمر لما كان موجودا عندهم وهو غالب أقواتهم وكانوا شباعى منه علم أن أكل الخبز به ليس ائتداما، قال: ويحتمل أن يكون ذكر هذا الحديث في هذا الباب لأدنى ملابسة وهو لفظ المأدوم لكونه لم يجد شيئا على شرطه، قال: ويحتمل أن يكون إيراد هذا الحديث في هذه الترجمة من تصرف النقلة. قلت: والأول مباين لمراد البخاري، والثاني هو المراد، لكن بأن ينضم إليه ما ذكره ابن المنير، والثالث بعيدا جدا. قال ابن المنير، وأما قصة أم سليم فظاهرة المناسبة لأن السمن اليسير الذي فضل في قعر العكة لا يصطبغ به الأقراص التي فتتها، وإنما غابته أن يصير في الخبز من طعم السمن فأشبه ما إذا خالط التمر عند الأكل، ويؤخذ منه أن كل شيء يسمى عند الإطلاق إداما، فإن الحالف أن لا يأتدم يحنث إذا أكله مع الخبز، وهذا قول الجمهور سواء كان يصطبغ به أم لا. وقال، أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحنث إذا ائتدم بالجبن، والبيض، وحالفهما محمد بن الحسن فقال: كل شيء يؤكل مع الخبز مما الغالب عليه ذلك كاللحم المشوي والجبن أدم، وعن المالكية يحنث بكل ما هو عند الحالف أدم ولكل قوم عادة، ومنهم من استثنى الملح جريشا كان أو مطيبا. "تنبيه": من حجة الجمهور حديث عائشة في قصة بريدة "فدعا بالغداء فأتى بخبز وإدام من أدم البيت" الحديث، وقد مضى شرحه مستوفى في مكانه، وترجم له المصنف في الأطعمة "باب الأدم" قال ابن بطال: دل هذا الحديث عن أن كل شيء في البيت مما جرت العادة بالائتدام به يسمى أدما مائعا كان أو جامدا. وكذا حديث: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة وإدامهم زائدة كبد الحوت" وقد تقدم شرحه في كتاب الرقاق، وفي خصوص اليمين المذكورة في الترجمة حديث يوسف بن عبد الله بن سلام "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه" أخرجه أبو داود والترمذي بسند حسن، قال ابن القصار: لا خلاف بين أهل اللسان أن من أكل خبزا بلحم مشوي أنه ائتدم به، فلو قال أكلت خبزا بلا إدام كذا وإن قال أكلت خبزا بإدام صدق، وأما قول الكوفيين: الإدام اسم للجمع بين الشيئين فدل على أن المراد أن يستهلك الخبز فيه بحيث يكون تابعا له بأن تتداخل أجزاؤه في أجزائه وهذا لا يحصل إلا بما يصطبغ به، فقد أجاب من خالفهم بأن الكلام الأول مسلم لكن دعوى التداخل لا دليل عليه قبل التناول، وإنما المراد الجمع ثم الاستهلاك بالأكل فيتداخلان حينئذ.

(11/571)


23 - باب النِّيَّةِ فِي الأَيْمَانِ

(11/571)


6689- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب قال سمعت يحيى بن سعيد يقول أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول "سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"
قوله: "باب النية في الأيمان" بفتح الهمزة للجميع وحكى الكرماني أن في بعض النسخ بكسر الهمزة ووجهه بأن مذهب البخاري أن الأعمال داخلة في الإيمان. قلت: وقرينة ترجمة كتاب الأيمان والنذور كافية في نوهين الكسر. وعبد الوهاب المذكور في السند هو ابن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، وقد تقدم شرح حديث الأعمال في أول بدء الوحي، ومناسبته للترجمة أن اليمين من جملة الأعمال فيستدل به على تخصيص الألفاظ بالنية زمانا ومكانا وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك، كمن حلف أن لا يدخل دار زيد وأراد في شهر أو سنة مثلا أو حلف أن لا يكلم زيدا مثلا وأراد في منزله دون غيره فلا يحنث إذا دخل بعد شهر أو سنة في الأولى ولا إذا كلمه في دار أخرى في الثانية، واستدل به الشافعي ومن تبعه فيمن قال: إن فعلت كذا فأنت طالق ونوى عددا أنه يعتبر العدد المذكور وإن لم يلفظ به، وكذا من قال إن فعلت كذا فأنت بائن إن نوى ثلاثا بانت وإن نوى ما دونها وقع ما نوى رجعيا، وخالف الحنفية في الصورتين، واستدل به على أن اليمين على نية الحالف لكن فيما عدا حقوق الآدميين فهي على نية المستحلف، ولا ينتفع بالتورية في ذلك إذا اقتطع بها حقا لغيره وهذا إذا تحاكما وما في غير المحاكمة فقال الأكثر نية الحالف. وقال مالك وطائفة نية المحلوف له. وقال النووي من ادعى حقا على رجل فأحلفه الحاكم انعقدت يمينه على ما نواه الحاكم ولا تنفعه التورية اتفاقا، فإن حلف بغير استحلاف الحاكم نفعت التورية إلا أنه إن أبطل بها حقا أثم وإن لم يحنث، وهذا كله إذا حلف بالله فإن حلف بالطلاق أو العتاق نفعته التورية ولو حلفه الحاكم لأن الحاكم ليس له أن يحلفه بذلك كذا أطلق، وينبغي فيما إذا كان الحاكم يرى جواز التحليف بذلك أن لا تنفعه التورية.

(11/572)


24 - باب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ
6690- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ "سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"
قوله: "باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة" كذا الجميع إلا للكشميهني فعنده "القربة" بدل "التوبة" وكذا رأيته في مستخرج الإسماعيلي قال الكرماني: وقوله أهدى أي تصدق بماله أو جعله هدية للمسلمين. وهذا الباب هو أول أبواب النذور، والنذر في اللغة التزام خير أو شر، وفي الشرع التزام المكلف شيئا لم يكن عليه

(11/572)


منجزا أو معلقا وهو قسمان: نذر تبرر ونذر لجاج، ونذر التبرر قسمان: أحدهما ما يتقرب به ابتداء كلله على أن أصوم كذا، ويلتحق به ما إذا قال لله على أن أصوم كذا شكرا على ما أنعم به على من شفاء مريضي مثلا. وقد نقل بعضهم الاتفاق على صحته واستحبابه، وفي وجه شاذ لبعض الشافعية أنه لا ينعقد. والثاني ما يتقرب به معلقا بشيء ينتفع به إذا حصل له كأن قدم غائبي أو كفاني شر عدوي فعلى صوم كذا مثلا. والمعلق لازم اتفاقا وكذا المنجز في الراجح. ونذر اللجاج قسمان: أحدهما ما يعلقه على فعل حرام أو ترك واجب فلا ينعقد في الراجح إلا إن كان فرض كفاية أو كان في فعله مشقة فيلزمه، ويلتحق به ما يعلقه على فعل مكروه. والثاني ما يعلقه على فعل خلاف الأولى أو مباح أو ترك مستحب وفيه ثلاث أقوال للعلماء: الوفاء أو كفارة يمين أو التخير بينهما، واختلف الترجيح عند الشافعية وكذا عند الحنابلة، وجزم الحنفية بكفارة اليمين في الجميع والمالكية بأنه لا ينعقد أصلا. قوله: "أخبرني يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "عن عبد الله بن كعب" هو والد عبد الرحمن الراوي عنه، وقد مضى تفسير سورة براءة عن أحمد ابن صالح "حدثني ابن وهب أخبرني يونس "قال أحمد" وحدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن كعب أخبرني عبد الله بن كعب "ثم أخرجه من طريق إسحاق بن راشد عن ابن شهاب "أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه". قوله: "سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} " أي الحديث الطويل في قصة تخلفه في غزوة تبوك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامه وكلام رفيقيه، وقد تقدم بطوله مع شرحه في المغازي لكن بوجه آخر عن ابن شهاب. قوله: "فقال في آخر حديثه إن من توبتي أن أنخلع" بنون وخاء معجمة أي أعرى من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه. قوله: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند "فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر" وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب، وقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند عند أبي داود بلفظ: "إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة، قال لا، قلت فنصفه، قال لا، قلت فثلثه. قال نعم، قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر" وأخرج من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: "وإني أنخلع من مالي كله صدقة، قال "يجزي عنك الثلث" وفي حديث أبي لبابة عند أحمد وأبي داود نحوه. وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب فقال مالك: يلزمه الثلث بهذا الحديث، ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر ولا بمعناه، بل يحتمل أنه نجز النذر، ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن، والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهر في صدور النذر منه، وإنما الظاهر أنه أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ماله شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه وقال الفاكهاني في شرح العمدة: كان الأولى بكعب أن يستشير ولا يستبد برأيه، لكن كأنه قامت عنده حال لفرحه بتوبته ظهر له فيها أن التصدق بجميع ماله مستحق عليه في الشكر فأورد الاستشارة بصيغة الجزم انتهى وكأنه أراد أنه استبد برأيه في كونه جزم بأن من توبته أن ينخلع من جميع ماله إلا أنه نجز ذلك. وقال ابن المنير: لم يبت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أو لا؟ قلت: ويحتمل أن يكون استفهم وحذفت أداة الاستفهام، ومن ثم كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء لمن التزم أن يتصدق بجميع ماله إلا إذا كان على سبيل القرية، وقيل إن كان مليا لزمه وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين، وهذا قول الليث ووافقه ابن وهب

(11/573)


وزاد. وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله، والأخير عن أبي حنيفة بغير تفصيل وهو قول ربيعة، وعن الشعبي وابن أبي لبابة لا يلزم شيء أصلا، وعن قتادة يلزم الغني العشر والمتوسط السبع والمملق الخمس، وقيل يلزم الكل إلا في نذر اللجاج فكفارته يمين، وعن سحنون يلزمه أن يخرج ما لا يضر به، وعن الثوري والأوزاعي وجماعة يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل، وعن النخعي يلزمه الكل بغير تفصيل. وإذا تقرر ذلك فمناسبة حديث كعب للترجمة أن معنى الترجمة أن من أهدى أو تصدق بجميع ماله إذا تاب من ذنب أو إذا نذر هل ينفذ ذلك إذا نجزه أو علقه؟ وقصة كعب منطبقة على الأول وهو التنجيز، لكن لم يصدر منه تنجيز كما تقرر وإنما استشار فأشير عليه بإمساك البعض فيكون الأولى لمن أراد أن ينجز التصدق بجميع ماله أو يعلقه أن يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ. وقد تقدمت الإشارة في كتاب الزكاة إلى أن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين ولو كان بهم خصاصة، ومن لم يكن كذلك فلا وعليه يتنزل "لا صدقة إلا عن ظهر غني" وفي لفظ: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني" قال ابن دقيق العيد: في حديث كعب أن للصدقة أثرا في محو الذنوب ومن ثم شرعت الكفارة المالية، ونازعه الفاكهاني فقال: التوبة تجب ما قبلها، وظاهر حال كعب أنه أراد فعل ذلك على جهة الشكر. قلت: مراد الشيخ أنه يؤخذ من قول كعب "إن من توبتي إلخ" أن للصدقة أثرا في قبول التوبة التي يتحقق بحصولها محو الذنوب، والحجة فيه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على القول المذكور.

(11/574)


25 - باب إِذَا حَرَّمَ طَعَامَهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَوْلُهُ {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
6691- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ "لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ" فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا و قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ فَلاَ تُخْبِرِي بِذَلِكِ أَحَدًا"
قوله: "باب إذا حرم طعاما" في رواية غير أبي ذر "طعامه" وهذا من أمثلة نذر اللجاج وهو أن يقول مثلا طعام كذا أو شراب كذا علي حرام أو نذرت أو لله علي أن لا أكل كذا أو لا أشرب كذا، والراجح من أقوال العلماء أن ذلك لا ينعقد إلا إن قرنه بحلف فيلزمه كفارة يمين. قوله: "وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ

(11/574)


اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} " وزاد غير أبي ذر" إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك في كتاب الطلاق. وهل نزلت الآية في تحريم مارية أو في تحريم شرب العسل، وإلى الثاني أشار المصنف حيث ساقه في الباب. ويؤخذ حكم الطعام من حكم الشراب، قال ابن المنذر: اختلف فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا يحل فقالت طائفة: لا يحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وبهذا قال أهل العراق. وقالت طائفة: لا تلزمه الكفارة إلا إن حلف، وإلى ترجيح هذا القول أشار المصنف بإيراد الحديث لقوله وقد حلفت وهو قول مسروق والشافعي ومالك، لكن استثنى مالك المرأة فقال تطلق قال إسماعيل القاضي: الفرق بين المرأة والأمة أنه لو قال امرأتي علي حرام فهو فراق التزمه فتطلق، ولو قال لأمته من غير أن يحلف فإنه ألزم نفسه ما لم يلزمه فلا تحرم عليه أمته، قال الشافعي: لا يقع عليه شيء إذا لم يحلف إلا إذا نوى الطلاق فتطلق أو العتق فتعتق، وعنه يلزمه كفارة يمين. قوله: "وقوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} كأنه يشير إلى ما أخرجه الثوري في جامعه وابن المنذر من طريقه بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جيء عنده بطعام فتنحى رجل فقال إني حرمته أن لا آكله فقال: إذن فكل وكفر عن يمينك، ثم تلا هذه الآية إلى قوله: {لا تَعْتَدُوا} قال ابن المنذر: وقد تمسك بعض من أوجب الكفارة ولو لم يحلف بما وقع في حديث أبي موسى في قصة الرجل الجرمي والدجاج، وتلك رواية مختصرة، وقد ثبت في بعض طرقه الصحيحة أن الرجل قال: حلفت أن لا آكله. قلت وقد أخرجه الشيخان في الصحيحين كذلك. قوله: "حدثنا الحسن بن محمد" هو الزعفراني، والحجاج بن محمد هو المصيصي. قوله: "زعم عطاء" وقع في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن حجاج قال قال ابن جريج عن عطاء، وكذا في رواية هشام بن يوسف المذكورة في آخر الباب. قوله في آخر الباب "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} – {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة. {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله بل شربت عسلا" قلت: أشكل هذا السياق على بعض من لم يمارس طريقة البخاري في الاختصار، وذلك أن الحديث في الأصل عنده بتمامه كما تقدم [في التفسير والنكاح والطلاق] فلما أراد اختصاره هنا اقتصر منه على الكلمات التي تتعلق باليمين من الآيات مضيفا لها تسمية من أبهم فيها من آدمي وغيره، فلما ذكر "إن تتوبا" فسرهما بعائشة وحفصة، ولما ذكر "أسر حديثا" فسره بقوله: "لا بل شربت عسلا" . قوله: "وقال إبراهيم بن موسى" كذا لأبي ذر ولغيره: "قال لي إبراهيم بن موسى" وقد تقدم في التفسير بلفظ: "حدثنا إبراهيم بن موسى". قوله: "عن هشام" هو ابن يوسف وصرح به في التفسير، وقد اختصر هنا بعض السند ومراده أن هشاما رواه عن ابن جريج بالسند المذكور والمتن إلى قوله: "ولن أعود" فزاد له "وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا"

(11/575)


26 - باب الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَقَوْلِ الله تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}
6692- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ "سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ"

(11/575)


6693- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ "إِنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ"
6694- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"
قوله: "باب الوفاء بالنذر" أي حكمه أو فضله. قوله: "وقول الله تعالى يوفون بالنذر" يؤخذ منه أن الوفاء به قربة للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة، وقد أخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: إذا نذروا في طاعة الله، قال القرطبي: النذر من العقود المأمور بالوفاء بها المثنى على فاعلها، وأعلى أنواعه ما كان غير معلق على شيء كمن يعافى من مرض فقال: "لله علي أن أصوم كذا أو أتصدق بكذا شكرا لله تعالى" ويليه المعلق على فعل طاعة كأن شفى الله مريضي صمت كذا أو صليت كذا، وما عدا هذا من أنواعه كنذر اللجاج كمن يستثقل عبده فينذر أن يعتقه ليتخلص من صحبته فلا يقصد القربة بذلك، أو يحمل على نفسه فينذر صلاة كثيرة أو صوما مما يشق عليه فعله ويتضرر بفعله فإن ذلك يكره وقد يبلغ بعضه التحريم. قوله: "حدثنا يحيى بن صالح" هو الوحاظي بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبعد الألف ظاء معجمة. قوله: "سعيد بن الحارث" هو الأنصاري. قوله: "سمعت ابن عمر يقول: أو لم ينهوا عن النذر" كذا فيه، وكأنه اختصر السؤال فاقتصر على الجواب، وقد بينه الحاكم في "المستدرك" من طريق المعافى بن سليمان والإسماعيلي من طريق أبي عامر العقدي ومن طريق أبي داود واللفظ له قالا "حدثنا فليح عن سعيد بن الحارث قال: كنت عند ابن عمر فأتاه مسعود بن عمرو أحد بني عمرو بن كعب فقال: يا أبا عبد الرحمن إن ابني كان مع عمر بن عبيد الله بن معمر بأرض فارس فوقع فيها وباء وطاعون شديد فجعلت على نفسي لئن سلم الله ابني ليمشين إلى بيت الله تعالى، فقدم علينا وهو مريض ثم مات فما تقول؟ فقال ابن عمر: أولم تنهوا عن النذر؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث المرفوع وزاد: "أوف بنذرك" وقال أبو عامر "فقلت يا أبا عبد الرحمن إنما نذرت أن يمشي ابني. فقال: أوف بنذرك قال سعيد بن الحارث فقلت له: أتعرف سعيد بن المسيب؟ قال: نعم. قلت له: اذهب إليه ثم أخبرني ما قال لك، قال فأخبرني أنه قال له "امش عن ابنك" قلت يا أبا محمد وترى ذلك مقبولا؟ قال: نعم، أرأيت لو كان على ابنك دين لا قضاء له فقضيته أكان ذلك مقبولا؟ قال: نعم. قال فهذا مثل هذا انتهى. وأبو عبد الرحمن كنية عبد الله بن عمر وأبو محمد كنية سعيد بن المسيب، وأخرجه ابن حبان في النوع السادس والستين من القسم الثالث من طريق زيد بن أبي أنيسة متابعا لفليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث فذكر نحوه بتمامه ولكن لم يسم الرجل، وفيه أن ابن عمر لما قال له أوف بنذرك قال له الرجل: إنما نذرت أن يمشي ابني وإن ابني قد مات. فقال له: أوف بنذرك، كرر ذلك عليه ثلاثا، فغضب عبد الله فقال: أولم تنهوا عن النذر؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث المرفوع، قال سعيد: فلما رأيت ذلك قلت له انطلق إلى سعيد بن المسيب، وسياق الحاكم نحوه وأخصر منه

(11/576)


وقد وهم الحاكم في المستدرك فإن البخاري أخرجه كما ترى لكن اختصر القصة لكونها موقوفة. وهذا الفرع غريب وهو أن ينذر عن غيره فيلزم الغير الوفاء بذلك ثم إذا تعذر لزم الناذر. وقد كنت أستشكل ذلك، ثم ظهر لي أن الابن أقر بذلك والتزم به، ثم لما مات أمره ابن عمر وسعيد أن يفعل ذلك عن ابنه كما يفعل سائر القرب عنه كالصوم والحج والصدقة. ويحتمل أن يكون مختصا عندهما بما يقع من الوالد في حق ولده فيعقد لوجوب بر الوالدين على الولد بخلاف الأجنبي. وفي قول ابن عمر في هذه الرواية: "أولم تنهوا عن النذر" نظر، لأن المرفوع الذي ذكره ليس فيه تصريح بالنهي، لكن جاء عن ابن عمر التصريح، ففي الرواية التي بعدها من طريق عبد الله بن مرة وهو الهمداني بسكون الميم عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر" وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن النذر" وجاء بصيغة النهي الصريحة في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "لا تنذروا". قوله: "لا يقدم شيئا ولا يؤخر" في رواية عبد الله بن مرة "لا يرد شيئا" وهي أعم، ونحوها في حديث أبي هريرة "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له" وفي رواية العلاء المشار إليها "فإن النذر لا يغني من القدر شيئا" وفي لفظ عنه "لا يرد القدر" وفي حديث أبي هريرة عنده "لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له" ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة، وفيها إشارة إلى تعليل النهي عن النذر. وقد اختلف العلماء في هذا النهي: فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوله. قال ابن الأثير في النهاية: تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يغير قضاء فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم، انتهى كلامه. ونسبه بعض شراح المصابيح للخطابي وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال: كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به. ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة، وإلى ذلك أشار المازري بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب، وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار، ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب. قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: "إنه لا يأتي بخير" وقوله: "إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له" وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ. والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازات، وزاد القاضي عياض: ويقال إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة. قال: ومحصل مذهب مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤبدا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيب نفس

(11/577)


وغير خالص النية فحينئذ يكره. قال: وهذا أحد محتملات قوله: "لا يأتي بخير" أي إن عقباه لا تحمد وقد يتعذر الوفاء به، وقد يكون معناه لا يكون سببا لخير لم يقدر كما في الحديث، وبهذا الاحتمال الأخير صدر ابن دقيق العيد كلامه فقال: يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له، وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها، لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه،. وقال النووي: معنى قوله: "لا يأتي بخير" أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينته الروايات الأخرى. "تنبيه": قوله: "لا يأتي" كذا للأكثر، ووقع في بعض النسخ "لا يأت" بغير ياء وليس بلحن لأنه قد سمع نظيره من كلام العرب. وقال الخطابي في الأعلام: هذا باب من العلم غريب، وهو أن ينهي عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا، وقد ذكر أكثر الشافعية -ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي- أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة، قال: واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها. وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر. وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية، فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر. قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكال على القواعد فإنها تقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة فيلزم أن يكون قربة إلا أن الحديث دل على الكراهة. ثم أشار إلى التفرقة بين نذر المجازاة فحمل النهي عليه وبين نذر الابتداء فهو قربة محضة. وقال ابن أبي الدم في شرح الوسيط: القياس استحبابه، والمختار أنه خلاف الأولى وليس بمكروه، كذا قال، ونوزع بأن خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهي والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه فيكون مكروها، وإني لأتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت الصريح عنه فأقل درجاته أن يكون مكروها كراهة تنزيه، وممن بنى على استحبابه النووي في شرح المهذب فقال: إن الأصح أن التلفظ بالنذر في الصلاة لا يبطلها لأنها مناجاة لله فأشبه الدعاء ا هـ. وإذا ثبت النهي عن الشيء مطلقا فترك فعله داخل الصلاة أولى فكيف يكون مستحبا، وأحسن ما يحمل عليه كلام هؤلاء نذر التبرر المحض بأن يقول لله علي أن أفعل كذا أو لأفعلنه على المجازاة، وقد حمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه حكاه شيخنا في شرح الترمذي، ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربة قال: يمكن أن يتوسط فيقال: الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة وأما نذر التبرر فهو قربة محضة لأن للناذر فيه غرضا صحيحا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع ا هـ. وجزم القرطبي في "المفهم" بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال: هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا، ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعارضة، ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه

(11/578)


على شفائه، وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا. وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله: "إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه" قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا: "فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا" والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح. قلت: بل تقرب من الكفر أيضا. ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ. وهو تفصيل حسن، ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة، وكأن البخاري رمز في الترجمة إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه النسائي وصححه ابن حبان، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي. ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه" ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى، والاتفاق الذي ذكره مسلم، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر وسيأتي شرحه بعد باب. قوله: "وإنما يستخرج بالنذر من البخيل" يأتي في حديث أبي هريرة الذي بعد بيان المراد بالاستخراج المذكور. قوله: "من البخيل" كذا في أكثر الروايات، ووقع في رواية مسلم في حديث ابن عمر، "من الشحيح" وكذا للنسائي. وفي رواية ابن ماجه: "من اللئيم" ومدار الجميع على منصور بن المعتمر عن عبد الله بن مرة فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرواة عن منصور، والمعاني متقاربة لأن الشح أخص واللؤم أعم، قال الراغب: البخل إمساك ما يقتضي عمن يستحق، والشح بخل مع حرص، واللؤم فعل ما يلام عليه. قوله في حديث أبي هريرة "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء" ابن آدم بالنصب مفعول مقدم والنذر بالرفع هو الفاعل. قوله: "لم أكن قدرته" هذا من الأحاديث القدسية لكن سقط منه التصريح بنسبته إلى الله عز وجل، وقد أخرجه أبو داود في رواية ابن العبد عنه من رواية مالك، والنسائي وابن ماجه من رواية سفيان الثوري كلاهما عن أبي الزناد، وأخرجه مسلم من رواية عمرو بن أبي وعمر عن الأعرج، وتقدم في أواخر كتاب القدر من طريق همام عن أبي هريرة ولفظه: "لم يكن قدرته" وفي رواية للنسائي: "لم أقدره عليه" وفي رواية ابن ماجه: "إلا ما قدر له ولكن يغلبه النذر فأقدر له" وفي رواية مالك "بشيء لم يكن قدر له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قدرته" وفي رواية مسلم: "لم يكن الله قدره له" وكذا وقع الاختلاف في قوله: "فيستخرج الله به من البخيل" ففي رواية مالك "فيستخرج به" على البناء لما لم يسم فاعله وكذا في رواية ابن ماجه والنسائي وعبدة "ولكنه شيء يستخرج به من البخيل" وفي رواية همام "ولكن يلقيه النذر وقد قدرته له أستخرج به من البخيل" وفي رواية مسلم: "ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج". قوله: "ولكن يلقيه النذر إلى القدر" تقدم البحث فيه في "باب إلقاء العبد النذر إلى القدر" وأن هذه الرواية

(11/579)


مطابقة للترجمة المشار إليها. قال الكرماني: فإن قيل القدر هو الذي يلقيه إلى النذر قلنا تقدير النذر غير تقدير الإلقاء فالأول يلجئه إلى النذر والنذر يلجئه إلى الإعطاء. قوله: "فيستخرج الله" فيه التفات ونسق الكلام أن يقال فأستخرج ليوافق قوله أولا "قدرته" وثانيا "فيؤتيني". قوله: "فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل" كذا للأكثر أي يعطيني، ووقع في رواية الكشميهني: "يؤتني" بالجزم ووجهت بأنها بدل من قوله: "يكن" فجزمت بلم، ووقع في رواية مالك "يؤتي" في الموضعين. وفي رواية ابن ماجه: "فييسر عليه ما لم يكن ييسر عليه من قبل ذلك" وفي رواية مسلم: "فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج" وهذه أوضح الروايات: قال البيضاوي: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة، فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا، لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه، لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه، قال ابن العربي: فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر، لأن الحديث نص على ذلك بقوله: "يستخرج به" فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه، إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج. وفي الحديث الرد على القدرية كما تقدم تقريره في الباب المشار إليه، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أنس "إن الصدقة تدفع ميتة السوء" فظاهره يعارض قوله: "إن النذر لا يرد القدر" ويجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدرة كالمسببات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرقي هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: "هي من قدر الله" أخرجه أبو داود والحاكم، ونحوه قول عمر "نفر من قدر الله إلى قدر الله" كما تقدم تقريره في كتاب الطب، ومثل ذلك مشروعية الطب والتداوي. وقال ابن العربي: النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا، ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع، وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم. وفي الحديث أن كل شيء يبتدئه المكلف من وجوه البر أفضل مما يلتزمه بالنذر قاله الماوردي، وفيه الحث على الإخلاص في عمل الخير وذم البخل، وأن من اتبع المأمورات واجتنب المنهيات لا يعد بخيلا. "تنبيه": قال ابن المنير: مناسبة أحاديث الباب لترجمة الوفاء بالنذر قوله: "يستخرج به من البخيل" وإنما يخرج البخيل ما تعين عليه إذ لو أخرج ما يتبرع به لكان جوادا. وقال الكرماني: يؤخذ معنى الترجمة من لفظ: "يستخرج" قلت: ويحتمل أن يكون البخاري أشار إلى تخصيص النذر المنهي عنه بنذر المعاوضة واللجاج بدليل الآية، فإن الثناء الذي تضمنته محمول على نذر القربة كما تقدم أول الباب، فيجمع بين الآية والحديث بتخصيص كل منهما بصورة من صور النذر والله أعلم.

(11/580)


27 - باب إِثْمِ مَنْ لاَ يَفِي بِالنَّذْرِ
6695- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ حَدَّثَنَا زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ "سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" قَالَ عِمْرَانُ

(11/580)


لاَ أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا بَعْدَ قَرْنِهِ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"
قوله: "باب إثم من لا يفي بالنذر" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره لفظ إثم، ذكر فيه حديث عمران بن حصين في "خير القرون" حديث عمران بن حصين في "خير القرون" وفي سنده أبو جمرة وهو بالجيم والراء واسمه نصر بن عمران، وزهدم بمعجمة أوله وزن جعفر ابن مضرب بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها موحدة، وقد تقدم شرحه مستوفى في الشهادات وفي فصائل الصحابة، والغرض منه هنا قوله: "ينذرون" بكسر الذال وبضمها لغتان. قوله: "ولا يفون" في رواية الكشميهني: "ولا يوفون" وهي رواية مسلم، وفي أخرى له كالأولى وهما لغتان أيضا. قوله: "ولا يؤتمنون" أي إنها خيانة ظاهرة بحيث لا يأمنهم أحد بعد ذلك. قال ابن بطال ما ملخصه: سوى بين من يخون أمانته ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموما، وبهذا تظهر المناسبة للترجمة. وقال الباجي: ساق ما وصفهم به مساق العيب، والجائز لا يعاب فدل على أنه غير جائز

(11/581)


28 - باب النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
6696- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ الْقَاسِمِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ"
[الحديث 6696- ظرفه في 6700]
قوله: "باب النذر في الطاعة" أي حكمه. ويحتمل أن يكون باب بالتنوين ويريد بقوله النذر في الطاعة حصر المبتدأ في الخبر فلا يكون نذر المعصية نذرا شرعا. قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} ساق غير أبي ذر إلى قوله: {مِنْ أَنْصَارٍ} . وذكر هذه الآية مشيرا إلى أن الذي وقع الثناء على فاعله نذر الطاعة، وهو يؤيد ما تقدم قريبا. قوله: "عن طلحة بن عبد الملك" هو الأيلي بفتح الهمزة وسكون المثناة من تحت نزيل المدينة، ثقة عندهم من طبقة ابن جريج، والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. ذكر ابن عبد البر عن قوم من أهل الحديث أن طلحة تفرد برواية هذا الحديث عن القاسم، وليس كذلك، فقد تابعه أيوب ويحيى بن أبي كثير عند ابن حبان، وأشار الترمذي إلى رواية يحيى ومحمد بن أبان عند ابن عبد البر وعبيد الله بن عمر عند الطحاوي، ولكن أخرجه الترمذي من رواية عبيد الله بن عمر عن طلحة عن القاسم، وأخرجه البزار من رواية يحيى بن أبي كثير عن محمد بن أبان فرجعت رواية عبيد الله إلى طلحة ورواية يحيى إلى محمد بن أبان وسلمت رواية أيوب من الاختلاف وهي كافية في رد دعوى انفراد طلحة به، وقد رواه أيضا عبد الرحمن بن المجبر بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الموحدة عن القاسم أخرجه الطحاوي. قوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه إلخ" الطاعة أعم من أن تكون في واجب أو مستحب، ويتصور النذر في فعل الواجب بأن يؤقته، كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته، وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيده به

(11/581)


الناذر والخبر صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن ترك الوفاء به إذا كان في معصية، وهل يجب في الثاني كفارة يمين أو لا؟ قولان للعلماء سيأتي بيانهما بعد بابين، ويأتي أيضا بيان الحكم فيما سكت عنه الحديث وهو نذر المباح. وقد قسم بعض الشافعية الطاعة إلى قسمين: واجب عينا فلا ينعقد به النذر كصلاة الظهر مثلا وصفة فيه فينعقد كإيقاعها أول الوقت، وواجب على الكفاية كالجهاد فينعقد ومندوب عبادة عينا كان أو كفاية فينعقد ومندوب لا يسمى عبادة كعيادة المريض وزيارة القادم ففي انعقاده وجهان والأرجح انعقاده وهو قول الجمهور والحديث يتناوله فلا يخص من عموم الخبر إلا القسم الأول لأنه تحصيل الحاصل.

(11/582)


29 - باب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ
6697- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ "أَوْفِ بِنَذْرِكَ"
قوله: "باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانا في الجاهلية ثم أسلم" أي هل يجب عليه الوفاء أو لا؟ والمراد بالجاهلية جاهلية المذكور وهو حاله قبل إسلامه، وأصل الجاهلية ما قبل البعثة، وقد ترجم الطحاوي لهذه المسألة من نذر وهو مشرك ثم أسلم فأوضح المراد، وذكر فيه حديث ابن عمر في نذر عمر في الجاهلية أنه يعتكف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" حديث ابن عمر في نذر عمر في الجاهلية أنه يعتكف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" قال ابن بطال قاس البخاري اليمين على النذر وترك الكلام على الاعتكاف فمن نذر أو حلف قبل أن يسلم على شيء يجب الوفاء به لو كان مسلما فإنه إذا أسلم يجب عليه على ظاهر قصة عمر، قال وبه يقول الشافعي وأبو ثور، كذا قال وكذا نقله ابن حزم عن الإمام الشافعي، والمشهور عند الشافعية أنه وجه لبعضهم وأن الشافعي وجل أصحابه على أنه لا يجب بل يستحب وكذا قال المالكية والحنفية، وعن أحمد في رواية يجب وبه جزم الطبري والمغيرة بن عبد الرحمن من المالكية والبخاري وداود وأتباعه. قلت: إن وجد عن البخاري التصريح بالوجوب قبل وإلا فمجرد ترجمته لا يدل على أنه يقول بوجوبه لأنه محتمل لأن يقول بالندب فيكون تقدير جواب الاستفهام يندب له ذلك، قال القابسي: لم يأمر عمر على جهة الإيجاب بل على جهة المشورة كذا قال، وقيل أراد أن يعلمهم أن الوفاء بالنذر من آكد الأمور فغلظ أمره بأن أمر عمر بالوفاء، واحتج الطحاوي بأن الذي يجب الوفاء به ما يتقرب به إلى الله والكافر لا يصح منه التقرب بالعبادة، وأجاب عن قصة عمر باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم فهم من عمر أنه سمح بأن يفعل ما كان نذره فأمره به لأن فعله حينئذ طاعة لله تعالى فكان ذلك خلاف ما أوجبه على نفسه لأن الإسلام يهدم أمر الجاهلية. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث يخالف هذا، فإن دل دليل أقوى منه على أنه لا يصح من الكافر قوي هذا التأويل وإلا فلا. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عبيد الله بن عمر" هو العمري، ولعبد الله بن المبارك فيه شيخ آخر تقدم في غزوة حنين فأخرجه عن محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن أيوب عن نافع وأول حديثه "لما قفلنا من حنين سأل عمر" فذكر الحديث فأفاد تعيين زمان السؤال المذكور، وقد بينت الاختلاف على نافع ثم على أيوب في وصله وإرساله هناك وكذا ذكرت فيه فوائد زوائد تتعلق بسياقه وكذلك في فرض الخمس، وتقدم في أبواب الاعتكاف ما يتعلق به

(11/582)


وذكرت هناك ما يرد على من زعم أن عمر إنما نذر بعد أن أسلم وعلى من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل النهي عن الصيام في الليل، وبقي هنا ما يتعلق بالنذر إذا صدر من شخص قبل أن يسلم ثم أسلم هل يلزمه؟ وقد ذكرت ما فيه. وقوله: "أوف بنذرك" لم يذكر في هذه الرواية متى اعتكف، وقد تقدم في غزوة حنين التصريح بأن سؤاله كان بعد قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالطائف، وتقدم في فرض الخمس أن في رواية سفيان بن عيينة عن أيوب من الزيادة "قال عمر فلم أعتكف حتى كان بعد حنين وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني جارية من السبي، فبينا أنا معتكف إذ سمعت تكبيرا" فذكر الحديث في من النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن بإطلاق سبيهم، وفي الحديث لزوم النذر للقربة من كل أحد حتى قبل الإسلام وقد تقدمت الإشارة إليه، أجاب ابن العربي بأن عمر لما نذر في الجاهلية ثم أسلم أراد أن يكفر ذلك بمثله في الإسلام فلما أراده ونواه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمه أنه لزمه، قال: وكل عبادة ينفرد بها العبد عن غيره تنعقد بمجرد النية العازمة الدائمة كالنذر في العبادة والطلاق في الأحكام وإن لم يتلفظ بشيء من ذلك، كذا قال، ولم يوافق على ذلك بل نقل بعض المالكية الاتفاق على أن العبادة لا تلزم إلا بالنية مع القول أو الشروع، وعلى التنزل فظاهر كلام عمر مجرد الإخبار بما وقع مع الاستخبار عن حكمه هل لزم أو لا؟ وليس فيه ما يدل على ما ادعاه من تجديد نية منه في الإسلام. وقال الباجي: قصة عمر هي كمن نذر أن يتصدق بكذا إن قدم فلان بعد شهر فمات فلان قبل قدومه فإنه لا يلزم الناذر قضاؤه فإن فعله فحسن، فلما نذر عمر قبل أن يسلم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بوفائه استحبابا وإن كان لا يلزمه لأنه التزمه في حالة لا ينعقد فيها. ونقل شيخنا في شرح الترمذي أنه استدل به على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وإن كان لا يصح منهم إلا بعد أن يسلموا لأمر عمر بوفاء ما التزمه في الشرك، ونقل أنه لا يصح الاستدلال به لأن الواجب بأصل الشرع كالصلاة لا يجب عليهم قضاؤها فكيف يكلفون بقضاء ما ليس واجبا بأصل الشرع؟ قال: ويمكن أن يجاب بأن الواجب بأصل الشرع مؤقت بوقت وقد خرج قبل أن يسلم الكافر ففات وقت أدائه فلم يؤمر بقضائه لأن الإسلام يجب ما قبله، فأما إذا لم يؤقت نذره فلم يتعين له وقت حتى أسلم فإيقاعه له بعد الإسلام يكون أداء لاتساع ذلك باتساع العمر. قلت: وهذا البحث يقوي ما ذهب إليه أبو ثور ومن قال بقوله، وإن ثبت النقل عن الشافعي بذلك فلعله كان يقوله أولا فأخذه عنه أبو ثور، ويمكن أن يؤخذ من الفرق المذكور وجوب الحج على من أسلم لاتساع وقته بخلاف ما فات وقته، والله أعلم. "تنبيه": المراد بقول عمر في الجاهلية قبل إسلامه لأن جاهلية كل أحد بحسبه، ووهم من قال: الجاهلية في كلامه زمن فترة النبوة والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فإن هذا يتوقف على نقل، وقد تقدم أنه نذر قيل أن يسلم وبين البعثة وإسلامه مدة.

(11/583)


30 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءٍ فَقَالَ صَلِّي عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ
6698- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ"

(11/583)


6699- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ إِنَّ أُخْتِي قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ"
قوله: "باب من مات وعليه نذر" أي هل يقضى عنه أو لا؟ والذي ذكره في الباب يقتضي الأول، لكن هل هو على سبيل الوجوب أو الندب؟ خلاف يأتي بيانه. قوله: "وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء" يعني فماتت "فقال صلى عنها. وقال ابن عباس نحوه" وصله مالك عن عبد الله بن أبي بكر أي ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمته أنها حدثته عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها، وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال مرة عن ابن عباس قال: إذا مات وعليه نذر قضى عنه وليه. ومن طريق عون بن عبد الله بن عتبة أن امرأة نذرت أن تعتكف عشرة أيام فماتت ولم تعتكف فقال ابن عباس اعتكف عن أمك. وجاء عن ابن عمر وابن عباس خلاف ذلك فقال مالك في الموطأ: إنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد. وأخرج النسائي من طريق أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفا ثم قال: والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قلت: ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي، ثم وجدت عنه ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شيء واجب فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال: يصام عنه النذر. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله: "صلى عنها" العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" فعد منها الولد لأن الولد من كسبه فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى صلى عنها أن صلاتك مكتتبة لها ولو كنت إنما تنوي عن نفسك، كذا قال ولا يخفى تكلفه. وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك جنح ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك، وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد لا فرضا ولا سنة لا عن حي ولا عن ميت، ونقل عن المهلب أن ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنية ولكان الشارع أحق بذلك أن يفعله عن أبويه، ولما نهي عن الاستغفار لعمه، ولبطل معنى قوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} انتهى. وجميع ما قال لا يخفى وجه تعقبه خصوصا ما ذكره في حق الشارع، وأما الآية فعمومها مخصوص اتفاقا والله أعلم. "تنبيه": ذكر الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "قال صلى عليها" وجه بأن "على" بمعنى "عن" على رأي قال: أو الضمير راجع إلى قباء. حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى في نذر كان على أمه، وقد تقدم شرحه في كتاب الوصايا وذكرت من قال فيه عن سعد بن عبادة فجعله من مسنده. قوله في آخر الحديث في قصة سعد بن عبادة "فكانت سنة بعد" أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوبا أو ندبا، ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب عن الزهري، فقد أخرج الحديث الشيخان من رواية مالك والليث وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل والنسائي من رواية الأوزاعي والإسماعيلي من

(11/584)


رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري بدونها، وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه، وفيها تعقب على ما نقل عن مالك لا يحج أحد عن أحد، واحتج بأنه لم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج عن أحد ولا أمر به ولا أذن فيه، فيقال لمن قلد، قد بلغ ذلك غيره؛ وهذا الزهري معدود في فقهاء أهل المدينة وكان شيخه في هذا الحديث، وقد استدل بهذه الزيادة ابن حزم للظاهرية ومن وافقهم في أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات، قال: وقد وقع نظير ذلك في حديث الزهري عن سهيل في اللعان لما فارقها الرجل قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها قال: فكانت سنة. واختلف في تعيين نذر أم سعد فقيل كان صوما لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم" الحديث، وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة، وقيل كان عتقا قاله ابن عبد البر، واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد "أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم" وتعقب بأنه مع إرساله ليس فيه التصريح بأنها كانت نذرت ذلك، وقيل كان نذرها صدقة وقد ذكرت دليله من الموطأ وغيره من وجه آخر عن سعد بن عبادة "أن سعدا خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لأمه: أوص، قالت: المال مال سعد؛ فتوفيت قبل أن يقدم فقال: يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم" وعند أبي داود من وجه آخر نحوه وزاد: "فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء" الحديث. وليس في شيء من ذلك التصريح بأنها نذرت ذلك. قال عياض: والذي يظهر أنه كان نذرها في المال أو مبهما. قلت: بل ظاهر حديث الباب أنه كان معينا عند سعد والله أعلم. وفي الحديث قضاء الحقوق الواجبة عن الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا إن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقا، واستدل للجمهور بقصة أم سعد هذه، وقول الزهري إنها صارت سنة بعد، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرع به. وفيه استفتاء الأعلم، وفيه فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم. وقد اختلف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان هل يكون كالأمر بعد الحظر أو لا؟ فرجح صاحب" المحصول" أنه مثله، والراجح عند غيره أنه للإباحة كما رجح جماعة في الأمر بعد الحظر أنه للاستحباب. حديث ابن عباس "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت" الحديث وفيه: "فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء" وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الحج، وذكر الاختلاف في السائل أهو رجل كما وقع هنا أو امرأة كما وقع هناك؟ وأنه الراجح، وذكرت ما قيل في اسمها وأنها حمنة، وبينت أنها هي السائلة عن الصيام أيضا، وبالله التوفيق.

(11/585)


باب النذر فيما لايملك وفي معصية
...
31 - باب النَّذْرِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَفِي مَعْصِيَةٍ
6700- حدثنا أبو عاصم عن مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"
6701- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ

(11/585)


تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ وَرَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ"
وَقَالَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ
6702- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ"
6703- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ"
6704- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب النذر فيما لا يملك وفي معصية" وقع في شرح ابن بطال "ولا نذر في معصية" وقال: ذكر فيه حديث عائشة "من نذر أن يطيع الله فليطعه" الحديث، وحديث أنس في الذي رآه يمشي بين ابنيه فنهاه، وحديث ابن عباس في الذي طاف وفي أنفه خزامة فنهاه، وحديثه في الذي نذر أن يقوم ولا يستظل فنهاه، قال ولا مدخل لهذه الأحاديث في النذر فيما لا يملك وإنما تدخل في نذر المعصية، وأجاب ابن المنير بأن الصواب مع البخاري فإنه تلقى عدم لزوم النذر فيما لا يملك من عدم لزومه في المعصية لأن نذره في ملك غيره تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهي معصية ثم قال: ولهذا لم يقل باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية بل قال النذر فيما لا يملك ولا نذر في معصية. فأشار إلى اندراج نذر مال الغير في نذر المعصية فتأمله انتهى. وما نفاه ثابت في معظم الروايات عن البخاري لكن بغير لام وهو لا يخرج عن التقرير الذي قرره لأن التقدير باب النذر فيما لا يملك وحكم النذر في معصية، فإذا ثبت نفي النذر في المعصية التحق به النذر فيما لا يملك لأنه يستلزم المعصية لكونه تصرفا في ملك الغير. وقال الكرماني: الدلالة على الترجمة من جهة أن الشخص لا يملك تعذيب نفسه ولا التزام المشقة التي لا تلزمه حيث لا قربة فيها، ثم استشكله بأن الجمهور فسروا ما لا يملك بمثل النذر بإعتاق عبد فلان انتهى. وما وجهه به ابن المنير أقرب، لكن يلزم عليه تخصيص ما لا يملك بما إذا نذر شيئا معينا كعتق عبد فلان إذا ملكه مع أن اللفظ عام فيدخل فيه ما إذا نذر عتق عبد غير معين فإنه يصح، ويجاب بأن دليل التخصيص الاتفاق على انعقاد النذر في المبهم وإنما وقع الاختلاف في المعين، وقد تقدم التنبيه في "باب من حلف بملة سوى الإسلام" على الموضع الذي أخرج البخاري فيه التصريح بما يطابق الترجمة وهو في حديث ثابت بن الضحاك بلفظ: "وليس على

(11/586)


ابن آدم نذر فيما لا يملك" وقد أخرجه الترمذي مقتصرا على هذا القدر من وأخرج أبو داود سبب هذا الحديث مقتصرا عليه أيضا ولفظه: نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر ببوانة -يعني موضعا وهو بفتح الموحدة وتخفيف الواو وبنون- فذكر الحديث، وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين أسروا المرأة انتهبوها فنذرت إن سلمت أن تنحرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي ثعلبة الحديث دون القصة بنحوه، ووقعت مطابقة جميع الترجمة في حديث عمران بن حصين المذكور، وأخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن سلمة مثله وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك" وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، واختلف فيمن وقع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة، واحتج من أوجبها بحديث عائشة "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" أخرجه أصحاب السنن ورواته ثقات، لكنه معلول فإن الزهري رواه عن أبي سلمة ثم بين أنه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلسه بإسقاط اثنين، وحسن الظن بسليمان وهو عند غيره ضعيف باتفاقهم، وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال: لا يصح، ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النسائي وضعفه وشواهد أخرى ذكرتها آنفا. وأخرج الدار قطني من حديث عدي بن حاتم نحوه. وفي الباب أيضا عموم حديث عقبة بن عامر" كفارة النذر كفارة اليمين" أخرجه مسلم، وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب وبعضهم على النذر المطلق، لكن أخرج الترمذي وابن ماجه حديث عقبة بلفظ: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" ولفظ ابن ماجه: "من نذر نذرا لم يسمه" الحديث، وفي الباب حديث ابن عباس رفعه: "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين" أخرجه أبو داود، وفيه: "ومن نذر في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" ورواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا وهو أشبه، وأخرجه الدار قطني من حديث عائشة، وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه لكن قالوا: إن الناذر مخير بين الوفاء بما التزمه وكفارة اليمين، وقد تقدم حديث عائشة المذكور أول الباب قريبا وهو بمعنى حديث: "لا نذر في معصية" ولو ثبتت الزيادة لكانت مبينة لما أجمل فيه، واحتج بعض الحنابلة بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة ولا يحفظ عن صحابي خلافه قال والقياس يقتضيه، لأن النذر يمين كما وقع في حديث عقبة لما نذرت أخته أن تحج ماشية لتكفر عن يمينها فسمي النذر يمينا، ومن حيث النظر هو عقدة لله تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله ملتزما بشيء ثم بين أن النذر آكد من اليمين ورتب عليه أنه لو نذر معصية ففعلها لم تسقط عنه الكفارة بخلاف الحالف، وهو وجه للحنابلة، واحتج له بأن الشارع نهى عن المعصية وأمر بالكفارة فتعينت، واستدل بحديث: "لا نذر في معصية" لصحة النذر في المباح لأن فيه نفي النذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتا، واحتج من قال إنه يشرع في المباح بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة "أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال:

(11/587)


"أوف بنذرك" وزاد في حديث بريدة أن ذلك وقت خروجه في غزوة فنذرت إن رده الله تعالى سالما. قال البيهقي: يشبه أن يكون أذن لها في ذلك لما فيه من إظهار الفرح بالسلامة، ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النذر به، ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح حديث ابن عباس ثالث أحاديث الباب فإنه أمر الناذر بأن يقوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم ولا يفطر بأن يتم صومه ويتكلم ويستظل ويقعد، فأمره بفعل الطاعة وأسقط عنه المباح. وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا: "إنما النذر ما يبتغى به وجه الله" والجواب عن قصة التي نذرت الضرب بالدف ما أشار إليه البيهقي، ويمكن أن يقال: إن من قسم المباح ما قد يصير بالفصد مندوبا كالنوم في القائلة للتقوى على قيام الليل وأكلة السحر للتقوى على صيام النهار، فيمكن أن يقال إن إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وسلم سالما معنى مقصود يحصل به الثواب، وقد اختلف في جواز الضرب بالدف في غير النكاح والختان، ورجح الرافعي في "المحرر" وتبعه في "المنهاج" الإباحة، والحديث حجة في ذلك، وقد حمل بعضهم إذنه لها في الضرب بالدف على أصل الإباحة لا على خصوص الوفاء بالنذر كما تقدم، ويشكل عليه أن في رواية أحمد في حديث بريدة "إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا" وزعم بعضهم أن معنى قولها "نذرت" حلفت، والإذن فيه للبر بفعل المباح، ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث: "أن عمر دخل فتركت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر" فلو كان ذلك مما يتقرب به ما قال ذلك، لكن هذا بعينه يشكل على أنه مباح لكونه نسبه إلى الشيطان، ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أن الشيطان حضر لمحبته في سماع ذلك لما يرجوه من تمكنه من الفتنة به فلما حضر عمر فر منه لعلمه بمبادرته إلى إنكار مثل ذلك، أو أن الشيطان لم يحضر أصلا وإنما ذكر مثالا لصورة ما صدر من المرأة المذكورة وهي إنما شرعت في شيء أصله من اللهو فلما دخل عمر خشيت من مبادرته لكونه لم يعلم بخصوص النذر أو اليمين الذي صدر منها فشبه النبي صلى الله عليه وسلم حالها بحالة الشيطان الذي يخاف من حضور عمر والشيء بالشيء يذكر، وقرب من قصتها قصة القينتين اللتين كانتا تغنيان عند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فأنكر أبو بكر عليهما وقال: "أبمزمور الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم" فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة مثل ذلك في يوم العيد. فهذا ما يتعلق بحديث عائشة. حديث أنس وهو الثاني من أحاديث الباب فذكره هنا مختصرا وتقدم في أواخر الحج قبيل فضائل المدينة بتمامه وأوله "رأى شيخا يهادي بين ابنيه قال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي" فذكر الحديث وفيه: "وأمره أن يركب" وقوله: "قال الفزاري" يعني مروان بن معاوية "عن حميد حدثني ثابت عن أنس" كأنه أراد بهذا التعليق تصريح حميد بالتحديث، وقد وصله في الباب المشار إليه في الحج عن محمد بن سلام عن الفزاري، وبينت هناك من رواه عن حميد موافقا للفزاري ومن رواه عن حميد بدون ذكر ثابت فيه، وذكر المصنف هناك حديث عقبة بن عامر قال: "ندرت أختي أن تمشي إلى بيت الله" الحديث وفيه: "لتمشي ولتركب" وتقدم بعض الكلام عليه ثم. ووقع للمزي في "الأطراف" فيه وهم فإنه ذكر أن البخاري أخرجه في الحج عن إبراهيم بن موسى وفي النذور عن أبي عاصم، والموجود في نسخ البخاري أن الطريقين معا في الباب المذكور من الحج، وليس لحديث عقبة في النذور ذكر أصلا، وإنما أمر الناذر في حديث أنس أن يركب جزما وأمر أخت عقبة أن تمشي وأن تركب، لأن الناذر في حديث أنس كان شيخا ظاهر العجز وأخت عقبة لم توصف بالعجز فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت وتركب إن عجزت، وبهذا ترجم البيهقي للحديث، وأورد في

(11/588)


بعض طرقه من رواية عكرمة عن ابن عباس "أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية فقال: إن الله غني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة" وأصله عند أبي داود بلفظ: "ولتهد هديا" ووهم من نسب إليه أنه أخرج هذا الحديث بلفظ ولتهد بدنة، وأورده من طريق أخرى عن عكرمة بغير ذكر الهدي، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: "جاء رجل فقال إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت وأنه يشق عليها المشي، فقال: مرها فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي فما أغنى الله أن يشق على أختك" ومن طريق كريب عن ابن عباس "جاء رجل فقال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية، فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، لتحج راكبة ثم لتكفر يمينها" وأخرجه أصحاب السنن من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر قال: "نذرت أختي أن تحج ماشية غير مختمرة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مر أختك فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" ونقل الترمذي عن البخاري أنه لا يصح فيه الهدي، وقد أخرج الطبراني من طريق أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر في هذه القصة "نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة" وفيه: "لتركب ولتلبس ولتصم" وللطحاوي من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عقبة بن عامر نحوه. وأخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي هريرة "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في جوف الليل إذ بصر بخيال نفرت منه الإبل، فإذا امرأة عريانة نافضة شعرها، فقالت: نذرت أن أحج ماشية عريانة نافضة شعري، فقال: "مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دما" وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه: "إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيا فليهد هديا وليركب" وفي سنده انقطاع، وفي الحديث صحة النذر بإتيان البيت الحرام، وعن أبي حنيفة إذا لم ينو حجا ولا عمرة لا ينعقد، ثم إن نذره راكبا لزمه فلو مشى لزمه دم لترفهه بتوفر مؤنة الركوب، وإن نذره ماشيا لزمه من حيث أحرم إلى أن تنتهي العمرة أو الحج، وهو قول صاحبي أبي حنيفة، فإن ركب بعذر أجزأه ولزمه دم في أحد القولين عن الشافعي، واختلف هل يلزمه بدنة أو شاة؟ وإن ركب بلا عذر لزمه الدم، وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا إن عجز مطلقا فيلزمه الهدي، وليس في طرق حديث عقبة ما يقتضي الرجوع، فهو حجة للشافعي ومن تبعه، وعن عبد الله بن الزبير لا يلزمه شيء مطلقا، قال القرطبي زيادة الأمر بالهدي رواتها ثقات ولا ترد، وليس سكوت من سكت عنها بحجة على من حفظها وذكرها، قال: والتمسك بالحديث في عدم إيجاب الرجوع ظاهر، ولكن عمدة مالك عمل أهل المدينة. "تنبيه": يقال إن الرجل المذكور في حديث أنس هو أبو إسرائيل المذكور في حديث ابن عباس الذي بعد الباب، كذا نقله مغلطاي عن الخطيب، وهو تركيب منه، وإنما ذكر الخطيب ذلك في الرجل المذكور في حديث ابن عباس آخر الباب، وتغاير القصتين أوضح من أن يتكلف لبيانه. حديث ابن عباس في الذي طاف بزمام وهو الحديث الثالث فأورده بعلو عن أبي عاصم عن ابن جريج ولفظه: "رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه" ثم أورده بنزول عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج بلفظ: "مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها ثم أمره أن يقوده بيده "والخزامة بكسر المعجمة وتخفيف الزاي حلقة من شعر أو وبر تجعل في الحاجز الذي بين منخري البعير يشد فيها الزمام ليسهل انقياده إذا كان صعبا، وقد تقدم في "باب الكلام في الطواف" من كتاب الحج من هذين الوجهين عن ابن جريج وذكرت ما قيل في اسم القائد والمقود، ووجه إدخاله في أبواب النذر، وأنه عند النسائي من وجه آخر عن ابن جريج، وفيه التصريح بأنه نذر ذلك

(11/589)


بزمام أو غيره فقطعه" ثم أورده بنزول عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج بلفظ: "مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها ثم أمره أن يقوده بيده" والخزامة بكسر المعجمة وتخفيف الزاي حلقة من شعر أو وبر تجعل في الحاجز الذي بين منخري البعير يشد فيها الزمام ليسهل انقياده إذا كان صعبا، وقد تقدم في "باب الكلام في الطواف" من كتاب الحج من هذين الوجهين عن ابن جريج وذكرت ما قيل في اسم القائد والمقود، ووجه إدخاله في أبواب النذر، وأنه عند النسائي من وجه آخر عن ابن جريج، وفيه التصريح بأنه نذر ذلك وأن الداودي استدل به على أن من نذر ما لا طاعة لله فيه لا ينعقد نذره، وتعقب ابن التين له والجواب عن الداودي وتصويبه في ذلك. وهيب في سنده هو ابن خالد، وعبد الوهاب الذي علق عنه البخاري آخر الباب هو ابن عبد المجيد الثقفي، وقد يتمسك بهذا من يرى أن الثقات إذا اختلفوا في الوصل والإرسال يرجح قول من وصل لما معه من زيادة العلم، لأن وهيبا وعبد الوهاب ثقتان، وقد وصله وهيب وأرسله عبد الوهاب وصححه البخاري مع ذلك، والذي عرفناه بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يعمل في هذه الصورة بقاعدة مطردة بل يدور مع الترجيح إلا إن استووا فيقدم الوصل، والواقع هنا أن من وصله أكثر ممن أرسله، قال الإسماعيلي: وصله مع وهيب عاصم بن هلال والحسن بن أبي جعفر وأرسله مع عبد الوهاب خالد الواسطي. قلت وخالد متقن وفي عاصم والحسن مقال فيستوي الطرفان فيترجح الوصل، وقد جاء الحديث المذكور من وجه آخر فازداد قوة أخرجه عبد الرزاق عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي إسرائيل. قوله: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب" زاد الخطيب في "المبهمات" من وجه آخر "يوم الجمعة". قوله: "إذا هو برجل" في رواية أبي يعلى عن إبراهيم بن الحجاج عن وهيب "إذ التفت فإذا هو برجل". قوله: "قائم" زاد أبو داود عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري فيه: "في الشمس" وكذا في رواية أبي يعلى. وفي رواية طاوس "وأبو إسرائيل يصلي". قوله: "فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل" في رواية أبي داود "فقالوا هو أبو إسرائيل" زاد الخطيب "رجل من قريش". قوله: "نذر أن يقوم" قال البيضاوي: ظاهر اللفظ السؤال عن اسمه فلذلك ذكروه وزادوا فعله، قال: ويحتمل أن يكون سأل عن حاله فذكروه وزادوا التعريف به ثم قال: ولعله لما كان السؤال محتملا ذكروا الأمرين جميعا. قوله: "ولا يستظل" في رواية الخطيب "ويقوم في الشمس". قوله: "مره" في رواية أبي داود "مروه" بصيغة الجمع. وفي رواية طاوس "ليقعد وليتكلم" وأبو إسرائيل المذكور لا يشاركه أحد في كنيته من الصحابة واختلف في اسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغر، وقيل يسير بتحتانية ثم مهملة مصغر أيضا، وقيل قيصر باسم ملك الروم، وقيل بالسين المهملة بدل الصاد، وقيل بغير راء في آخره، وهو قرشي ثم عامري، وترجم له ابن الأثير في الصحابة تبعا لغيره فقال: أبو إسرائيل الأنصاري. واغتر بذلك الكرماني فجزم بأنه من الأنصار، والأول أولى. وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله، وقد أخرج أبو داود من حديث علي "ولا صمت يوما إلى الليل" وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق للمرأة إن هذا -يعني الصمت- من فعل الجاهلية" وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة كالمشي حافيا والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله فلا ينعقد به النذر، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل، قال القرطبي: في قصة أبي إسرائيل هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه فقد قال مالك لما ذكره: ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة.

(11/590)


32 - باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ النَّحْرَ أَوْ الْفِطْرَ
6705- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ

(11/590)


أَبِي حُرَّةَ الأَسْلَمِيُّ أَنَّهُ "سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلاَّ صَامَ فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ فَقَالَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلاَ يَرَى صِيَامَهُمَا"
6706- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلاَثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِثْلَهُ لاَ يَزِيدُ عَلَيْهِ"
قوله: "باب من نذر أن يصوم أياما" أي معينة "فوافق النحر أو الفطر" أي هل يجوز له الصيام أو البدل أو الكفارة؟ انعقد الإجماع على أنه لا يجوز له أن يصوم يوم الفطر ولا يوم النحر لا تطوعا ولا عن نذر سواء عينهما أو أحدهما بالنذر أو وقعا معا أو أحدهما اتفاقا، فلو نذر لم ينعقد نذره عند الجمهور، وعند الحنابلة روايتان في وجوب القضاء، وخالف أبو حنيفة فقال لو أقدم فصام وقع ذلك عن نذره، وقد تقدم بسط ذلك في أواخر الصيام، وذكرت هناك الاختلاف في تعيين اليوم الذي نذره الرجل وهل وافق يوم عيد الفطر أو النحر، وإني لم أقف على اسمه مع بيان الكثير من طرقه، ثم وجدت في ثقات ابن حبان من طريق كريمة بنت سيرين أنها "سألت ابن عمر فقالت: جعلت على نفسي أن أصوم كل أربعاء واليوم يوم أربعاء وهو يوم النحر فقال أمر الله بوفاء النذر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحر" ورواته ثقات، فلولا توارد الرواة بأن السائل رجل لفسرت المبهم بكريمة، ولا سيما في السند الأول فإن قوله سئل بضم أوله يشمل ما إذا كان السائل رجلا أو امرأة، وقد ظهر من رواية ابن حبان أنها امرأة فيفسر بها المبهم في رواية حكيم، بخلاف رواية زياد ابن جبير حيث قال فسأله رجل" ثم وجدت الخبر في كتاب الصيام ليوسف بن يعقوب القاضي أخرجه عن محمد بن أبي بكر المقدمي شيخ البخاري فيه وأخرجه أبو نعيم من طريقه وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن محمد بن أبي بكر المقدمي ولفظه أنه "سمع رجلا يسأل عبد الله بن عمر عن رجل نذر" فذكر الحديث، وفضيل في السند الأول بالتصغير وحكيم بفتح أوله وأبو حرة أبوه بضم المهملة والتشديد لا يعرف اسمه وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وقد أورده متابعا لرواية زيادة بن جبير عن ابن عمر، وفي سياق الرواية الأولى إشعار برجحان المنع عند ابن عمر فإن لفظه فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر ولا يرى صيامهما" ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة في آخره: قال يونس بن عبيد فذكرت ذلك للحسن فقال: يصوم يوما مكانه، أخرجه من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع الذي أخرجه البخاري من طريقه. قال الكرماني: قوله: "لم يكن" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: "ولا نرى" بلفظ المتكلم فيكون من جملة مقول عبد الله بن عمر، وفي بعضها بلفظ الغائب وفاعله عبد الله وقائله حكيم. قلت: وقع في رواية يوسف بن يعقوب المذكورة بلفظ: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الأضحى ولا يوم الفطر ولا يأمر بصيامهما" ومثله في رواية الإسماعيلي، وجوز الكرماني -بناء على تعدد القصة- أن ابن عمر تغير اجتهاده فجزم بالمنع بعد أن كان يتردد ا هـ.

(11/591)


وليس فيما أجاب به ابن عمر أولا وآخرا ما يصرح بالمنع في خصوص هذه القصة، وقد بسطت القول في ذلك في "باب صوم يوم النحر" وبالله التوفيق. انظر شرح الحديث في شرح الباب قوله: "يونس" هو ابن عبيد وصرح به الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع. قوله: "فأعاد عليه" زاد ابن المنهال في روايته: "فخيل إلى الرجل أنه لم يفهم فأعاد عليه الكلام ثانية"

(11/592)


باب هل يدخل في الأيمان والنذور والأرض والغنم والزرع والأمتعة؟
...
33 - باب هَلْ يَدْخُلُ فِي الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ الأَرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُوعُ وَالأَمْتِعَةُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ قَالَ إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةِ الْمَسْجِدِ
6707- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً إِلاَّ الأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلاَمًا يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادِي الْقُرَى بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ"
قوله: "باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزرع والأمتعة" قال ابن عبد البر وتبعه جماعة: المال في لغة دوس قبيلة أبي هريرة غير العين كالعروض والثياب، وعند جماعة المال هو العين كالذهب والفضة، والمعروف من كلام العرب أن كل ما يتمول ويملك فهو مال، فأشار البخاري في الترجمة إلى رجحان ذلك بما ذكره من الأحاديث كقول عمر "أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه" وقول أبي طلحة "أحب أموالي إلي بيرحاء" وقول أبي هريرة "لم نغنم ذهبا ولا ورقا" ويؤيده قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فإنه يتناول كل ما يملكه الإنسان، وأما قول أهل اللغة: العرب لا توقع اسم المال عند الإطلاق إلا على الإبل لشرفها عندهم فلا يدفع إطلاقهم المال على غير الإبل، فقد أطلقوه أيضا على غير الإبل من المواشي، ووقع في السيرة "فسلك في الأموال" يعني الحوائط "ونهي عن إضاعة المال" وهو يتناول كل ما يتمول، وقيل المراد به هنا الأرقاء وقيل الحيوان كله وفي الحديث أيضا: "ما جاءك من الرزق وأنت غير مشرف فخذه وتموله" وهو يتناول كل ما يتمول، والأحاديث الثلاثة مخرجة في الصحيحين والموطأ، وحكي عن ثعلب: المال كل ما تجب فيه الزكاة قل أو كثر فما نقص عن ذلك فليس بمال، وبه جزم ابن الأنباري. وقال غيره: المال في الأصل العين، ثم أطلق على كل ما يتملك، واختلف السلف فيمن حلف أو نذر أنه يتصدق بماله على مذاهب تقدم نقلها في "باب إذا أهدى ماله" ومن قال كأبي حنيفة لا يقع نذره إلا على ما فيه الزكاة، ومن قال كمالك يتناول جميع ما يقع عليه اسم مال، قال ابن

(11/592)


بطال: وأحاديث هذا الباب تشهد لقول مالك ومن تابعه. وقال الكرماني معنى قول البخاري "هل يدخل" أي هل يصح اليمين أو النذر على الأعيان مثل: والذي نفسي بيده إن هذه الشملة لتشتعل عليه نارا، ومثل أن يقول هذه الأرض لله ونحوه. قلت: والذي فهمه ابن بطال أولى فإنه أشار إلى أن مراد البخاري الرد على من قال إذا حلف أو نذر أن يتصدق بماله كله اختص ذلك بما فيه الزكاة دون ما يملكه مما سوى ذلك، ونقل محمد بن نصر المروزي في "كتاب الاختلاف" عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن نذر أن يتصدق بماله كله: يتصدق بما تجب فيه الزكاة من الذهب والفضة والمواشي لا فيما ملكه مما لا زكاة فيه من الأرضين والدور ومتاع البيت والرقيق والحمير ونحو ذلك فلا يجب عليه فيها شيء، ثم نقل بقية المذاهب على نحو ما قدمته في "باب من أهدى ماله" فعلى هذا فمراد البخاري موافقة الجمهور وأن المال يطلق على كل ما يتمول، ونص أحمد على أن من قال مالي في المساكين إنما يحمل ذلك على ما نوى أو على ما غلب على عرفه كما لو قال ذلك أعرابي فإنه لا يحمل ذلك إلا على الإبل، وحديث ابن عمر في قول عمر تقدم موصولا مشروحا في كتاب الوصايا، وقوله: "وقال أبو طلحة" هو زيد بن سهل الأنصاري وقد تقدم موصولا أيضا هناك من حديث أنس في أبواب الوقف، وتقدم شيء من شرحه في كتاب الزكاة. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وقوله فيه: "فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والمتاع والثياب" كذا للأكثر ولابن القاسم والقعنبي والمتاع بالعطف قال بعضهم وفي تنزيل ذلك على لغة دوس نظر لأنه استثنى الأموال من الذهب والفضة فدل على أنه منها إلا أن يكون ذلك منقطعا فتكون "إلا" بمعنى لكن، كذا قال، والذي يظهر أن الاستثناء من الغنيمة التي في قوله: "فلم نغنم" فنفى أن يكونوا غنموا العين وأثبت أنهم غنموا المال فدل على أن المال عنده غير العين وهو المطلوب. وقوله: "الضبيب" بضاد معجمة وموحدة مكررة بصيغة التصغير، ومدعم بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين، وقوله: "سهم عائر" بعين مهملة وبعد الألف تحتانية لا يدري من رمى به و "الشراك" بكسر المعجمة وتخفيف الراء وآخره كاف من سيور النعل، وقد تقدم جميع ذلك بإعانة الله تعالى، وله الحمد على كل حال.

(11/593)


كتاب كفارات الأيمان
باب قول الله تعالى: { فكفارته إطعام عشرة مساكين }
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
84 - كِتَاب كَفَّارَاتِ الأَيْمَانِ
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ
6708- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى "عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ أَتَيْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ادْنُ فَدَنَوْتُ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟

(11/593)


قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ"
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب كفارات الأيمان" في رواية غير أبي ذر "باب" وله عن المستملي: "كتاب الكفارات" وسميت كفارة لأنها تكفر الذنب أي تستره، ومنه قيل للزارع كافر لأنه يغطي البذر. وقال الراغب: الكفارة ما يعطي الحانث في اليمين، واستعمل في كفارة القتل والظهار، وهو من التكفير وهو ستر الفعل وتغطيته فيصير بمنزلة ما لم يعمل، قال ويصح أن يكون أصله إزالة الكفر نحو التمريض في إزالة المرض، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي أزلناها، وأصل الكفر الستر يقال كفرت الشمس النجوم سترتها، ويسمى السحاب الذي يستر الشمس كافرا، ويسمى الليل كافرا لأنه يستر الأشياء عن العيون، وتكفر الرجل بالسلاح إذا تستر به. قوله: "وقول الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يريد إلى آخر الآية، وقد تمسك به من قال بتعين العدد المذكور وهو قول الجمهور خلافا لمن قال لو أعطى ما يجب للعشرة واحدا كفى، وهو مروي عن الحسن أخرجه ابن أبي شيبة، ولمن قال كذلك لكن قال عشرة أيام متوالية، وهو مروي عن الأوزاعي حكاه ابن المنذر، وعن الثوري مثله لكن قال: إن لم يجد العشرة. قوله: "وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" يشير إلى حديث كعب بن عجرة الموصول في الباب.قوله: "وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية" يعني كعب بن عجرة كما ذكره في الباب. قوله: "ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن "أو أو" فصاحبه بالخيار" أما أثر ابن عباس فوصله سفيان الثوري في تفسيره عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أو نحو قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فهو فيه مخير، وما كان "فمن لم يجد" فهو على الولاء أي على الترتيب. وليث ضعيف ولذلك لم يجزم به المصنف، وقد جاء عن مجاهد من قوله بسند صحيح عند الطبري وغيره، وأما أثر عطاء فوصله الطبري من طريق ابن جريج قال قال عطاء: ما كان في القرآن "أو أو" فلصاحبه أن يختار أيه شاء. قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار نحوه وسنده صحيح. وقد أخرجه ابن عيينة في تفسيره عن ابن جريج عن عطاء بلفظ الأصل وسنده صحيح أيضا. وأما أثر عكرمة فوصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عنه قال: كل شيء في القرآن "أو أو" فليتخير أي الكفارات شاء، فإذا كان "فمن لم يجد" فالأول الأول قال ابن بطال: هذا متفق عليه بين العلماء، وإنما اختلفوا في قدر الإطعام فقال الجمهور لكل إنسان مد من طعام بمد الشارع صلى الله عليه وسلم وفرق مالك في جنس الطعام بين أهل المدينة فاعتبر ذلك في حقهم لأنه وسط من عيشهم بخلاف سائر الأمصار فالمعتبر في حق كل منهم ما هو وسط من عيشه وخالفه ابن القاسم فوافق الجمهور. وذهب الكوفيون إلى أن الواجب إطعام نصف صاع، والحجة للأول أنه صلى الله عليه وسلم أمر في كفارة المواقع في رمضان بإطعام مد لكل مسكين، قال وإنما ذكر البخاري حديث كعب هنا من أجل آية التخيير فإنها وردت في كفارة اليمين كما وردت في كفارة الأذى. وتعقبه ابن المنير فقال يحتمل أن يكون البخاري وافق الكوفيين في هذه المسألة فأورد حديث كعب بن عجرة لأنه وقع التنصيص في خبر كعب على نصف صاع ولم يثبت في قدر طعام الكفارة فحمل المطلق على المقيد. قلت:

(11/594)


ويؤيده أن كفارة المواقع ككفارة الظهار وكفارة الظهار ورد النص فيها بالترتيب بخلاف كفارة الأذى فإن النص ورد فيها بالتخيير، وأيضا فإنهما متفقان في قدر الصيام بخلاف الظهار فكان حمل كفارة اليمين عليها لموافقتها لها في التخيير أولى من حملها على كفارة المواقع مع مخالفتها، وإلى هذا أشار ابن المنير. وقد يستدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس قال: "كفر النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر" وهذا لو ثبت لم يكن حجة لأنه لا قائل به، وهو من رواية عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة وهو ضعيف جدا. والذي يظهر لي أن البخاري أراد الرد على من أجاز في كفارة اليمين أن تبعض الخصلة من الثلاثة المخير فيها كمن أطعم خمسة وكساهم أو كسا خمسة غيرهم أو أعتق نصف رقبة وأطعم خمسة أو كساهم، وقد نقل ذلك عن بعض الحنفية والمالكية، وقد احتج من ألحقها بكفارة الظهار بأن شرط حمل المطلق على المقيد أن لا يعارضه مقيد آخر، فلما عارضه هنا والأصل براءة الذمة أخذ بالأقل، وأيده الماوردي من حيث النظر بأنه في كفارة اليمين وصف بالأوسط وهو محمول على الجنس وأوسط ما يشبع الشخص رطلان من الخبز والمد رطل وثلث من الحب فإذا خبز كان قدر رطلين. وأيضا فكفارة اليمين وإن وافقت كفارة الأذى في التخيير لكنها زادت عليها بأن فيها ترتيبا، لأن التخيير وقع بين الإطعام والكسوة والعتق، والترتيب وقع بين الثلاثة وصيام ثلاثة أيام وكفارة الأذى وقع التخيير فيها بين الصيام والإطعام والذبح حسب، قال ابن الصباغ: ليس في الكفارات ما فيه تخيير وترتيب إلا كفارة اليمين وما ألحق بها. قوله: "أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده، وأبو شهاب هو الأصغر واسمه عبد ربه ابن نافع، وابن عون هو عبد الله. قوله: "أتيته يعني النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في الأصل، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق بشر بن المفضل عن ابن عون بهذا السند عن كعب بن عجرة قال: "في نزلت هذه الآية، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم" فذكره. وفي رواية معتمر بن سليمان عن ابن عون عند الإسماعيلي: "نزلت في هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادن". قوله: "قال وأخبرني ابن عون" هو مقول أبي شهاب وهو موصول بالأول، وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق أزهر بن سعد عن ابن عون به وقال في آخره: فسره لي مجاهد فلم أحفظه، فسألت أيوب فقال: الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين والنسك ما استيسر من الهدي. قلت: وقد تقدم في الحج وفي التفسير من طرق أخرى عن مجاهد وفي الطب والمغازي من طريق أيوب عن مجاهد به وسياقها أتم، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج.

(11/595)


2 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؟
6709- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ فِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ قَالَ "وَمَا شَأْنُكَ" قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ "قَالَ تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً" قَالَ لاَ قَالَ "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَ لاَ قَالَ "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" قَالَ لاَ قَالَ اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَالْعَرَقُ

(11/595)


الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ قَالَ "خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ" قَالَ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ "أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ"
قوله: "باب متى تجب الكفارة على الغني والفقير؟ وقول الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} إلى قوله: الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} كذا لأبي ذر، ولغيره: "باب قول الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} وساقوا الآية وبعدها "متى تجب الكفارة على الغني والفقير"؟ وسقط لبعضهم ذكر الآية؛ وأشار الكرماني إلى تصويبه فقال: قوله تحلة أيمانكم أي تحليلها بالكفارة، والمناسب أن يذكر هذه الآية في الباب الذي قبله. حديث أبي هريرة في قصة المجامع في نهار رمضان، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، وقوله فيه: "سفيان عن الزهري" وقع في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري" وتقدم أيضا بيان الاختلاف فيمن لا يجد ما يكفر به ولا يقدر على الصيام هل يسقط عنه أو يبقى في ذمته؟ قال ابن المنير: مقصوده أن ينبه على أن الكفارة إنما تجب بالحنث كما أن كفارة المواقع إنما تجب باقتحام الذنب، وأشار إلى أن الفقير لا يسقط عنه إيجاب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم فقره وأعطاه مع ذلك ما يكفر به كما لو أعطى الفقير ما يقضي به دينه، قال: ولعله كما نبه على احتجاج الكوفيين بالفدية نبه هنا على ما احتج به من خالفهم من إلحاقها بكفارة المواقع وأنه مد لكل مسكين.

(11/596)


3 - باب مَنْ أَعَانَ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ
6710- حدثنا محمد بن محبوب حدثنا عبد الواحد حدثنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت فقال: " وما ذاك؟" قال: وقعت بأهلي في رمضان قال: "تجد رقبة" قال: لا قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فتستطيع أن تطعم ستين مسكينا" قال لا قال: فجاء رجل من الأنصار بعرق والعرق المكتل فيه تمر فقال اذهب بهذا فتصدق به قال: أعلى أحوج منا يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك"
قوله: "باب من أعان المعسر في الكفارة" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبل وهو ظاهر فيما ترجم له، فكما جاز إعانة المعسر بالكفارة عن وقاعه في رمضان كذلك تجوز إعانة المعسر بالكفارة عن يمينه إذا حنث فيه.

(11/596)


4 - باب يُعْطِي فِي الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا
6711- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد "عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ثم هلكت قال وما شأنك قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال " هل تجد ما قوما رقبة" قال لا قال " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فهل تستطيع أن

(11/596)


5 - باب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
6712- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ"
6713- حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ وَهْوَ سَلْمٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدِّ الأَوَّلِ وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ لَنَا مَالِكٌ مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ وَلاَ نَرَى الْفَضْلَ إِلاَّ فِي مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِي مَالِكٌ لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ قُلْتُ كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفَلاَ تَرَى أَنَّ الأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6714- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ"
قوله: "باب صاع المدينة ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته" أشار في الترجمة إلى وجوب الإخراج في الواجبات بصاع

(11/597)


أهل المدينة لأن التشريع وقع على ذلك أولا وأكد ذلك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالبركة في ذلك. قوله: "وما توارث أهل المدينة من ذلك قرنا بعد قرن" أشار بذلك إلى أن مقدار المد والصاع في المدينة لم يتغير لتواتره عندهم إلى زمنه، وبهذا احتج مالك على أبي يوسف في القصة المشهورة بينهما فرجع أبو يوسف عن قول الكوفيين في قدر الصاع إلى قول أهل المدينة. قوله: "كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا بمدكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز" قال ابن بطال: هذا يدل على أن مدهم حين حدث به السائب كان أربعة أرطال فإذا زيد عليه ثلثه وهو رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث وهو الصاع بدليل أن مده صلى الله عليه وسلم رطل وثلث وصاعه أربعة أمداد، ثم قال مقدار ما زيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز لا نعلمه، وإنما الحديث يدل على أن مدهم ثلاثة أمداد بمده انتهى، ومن لازم ما قال أن يكون صاعهم ستة عشر رطلا لكن لعله لم يعلم مقدار الرطل عندهم إذ ذاك، وقد تقدم في "باب الوضوء بالمد" من كتاب الطهارة بيان الاختلاف في مقدار المد والصاع، ومن فرق بين الماء وغيره من المكيلات فخص صاع الماء بكونه ثمانية أرطال ومده برطلين فقصر الخلاف على غير الماء من المكيلات. قوله: "حدثنا أبو قتيبة وهو سلم" بفتح المهملة وسكون اللام. وفي رواية الدار قطني من وجه آخر عن المنذر "حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة". قلت: وهو الشعيري بفتح الشين المعجمة وكسر المهملة بصري أصله من خراسان أدركه البخاري بالسن ومات قبل أن يلقاه، وهو غير سلم بن قتيبة الباهلي ولد أمير خراسان قتيبة بن مسلم وقد ولي هو إمرة البصرة وهو أكبر من الشعيري ومات قبله بأكثر من خمسين سنة. قوله: "المد الأول" هو نعت مد النبي صلى الله عليه وسلم وهي صفة لازمة له، وأراد نافع بذلك أنه كان لا يعطي بالمد الذي أحدثه هشام، قال ابن بطال: وهو أكبر من مد النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي رطل وهو كما قال فإن المد الهشامي رطلان والصاع منه ثمانية أرطال. قوله: "قال لنا مالك" هو مقول أبي قتيبة وهو موصول. قوله: "مدنا أعظم من مدكم" يعني في البركة أي مد المدينة وإن كان دون مد هشام في القدر لكن مد المدينة مخصوص بالبركة الحاصلة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها فهو أعظم من مد هشام، ثم فسر مالك مراده بقوله: ولا ترى الفضل إلا في مد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال لي مالك لو جاءكم أمير إلخ" أراد مالك بذلك إلزام مخالفه إذ لا فرق بين الزيادة والنقصان في مطلق المخالفة، فلو احتج الذي تمسك بالمد الهشامي في إخراج زكاة الفطر وغيرها مما شرع إخراجه بالمد كإطعام المساكين في كفارة اليمين بأن الأخذ بالزائد أولى، قيل: كفى باتباع ما قدره الشارع بركة، فلو جازت المخالفة بالزيادة لجازت مخالفته بالنقص، فلما امتنع المخالف من الأخذ بالناقص قال له أفلا ترى أن الأمر إنما يرجع إلى مد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا تعارضت الأمداد الثلاثة الأول والحادث وهو الهشامي وهو زائد عليه والثالث المفروض وقوعه وإن لم يقع وهو دون الأول كان الرجوع إلى الأول أولى لأنه الذي تحققت شرعيته. قال ابن بطال: والحجة فيه نقل أهل المدينة له قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، قال: وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا في تقدير المد والصاع إلى مالك وأخذ بقوله. "تنبيه": هذا الحديث غريب لم يروه عن مالك إلا أبو قتيبة ولا عنه إلا المنذر، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نعيم فلم يستخرجاه بل ذكراه من طريق البخاري، وقد أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق البخاري وأخرجه أيضا عن ابن عقدة عن الحسين بن القاسم البجلي عن المنذر به دون كلام مالك وقال: صحيح أخرجه البخاري عن المنذر به. حديث أنس في

(11/598)


دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في مكيالهم وصاعهم ومدهم" وقد تقدم في البيوع عن القعنبي عن مالك وزاد في آخره: "يعني أهل المدينة" وكذا عند رواة الموطأ عن - مالك قال ابن المنير: يحتمل أن تختص هذه الدعوة بالمد الذي كان حينئذ حتى لا يدخل المد الحادث بعده ويحتمل أن تعم كل مكيال لأهل المدينة إلى الأبد، قال والظاهر الثاني، كذا قال، وكلام مالك المذكور في الذي قبله يجنح إلى الأول وهو المعتمد. وقد تغيرت المكاييل في المدينة بعد عصر مالك وإلى هذا الزمان، وقد وجد مصداق الدعوة بأن بورك في مدهم وصاعهم بحيث اعتبر قدرهما أكثر فقهاء الأمصار ومقلدوهم إلى اليوم في غالب الكفارات، وإلى هذا أشار المهلب والله أعلم.

(11/599)


باب قول الله تعالى: { أو تحرير } وأي الرقاب أزكى؟
...
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَأَيُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟
6715- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يشير إلى أن الرقبة في آية كفارة اليمين مطلقة بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالإيمان، قال ابن بطال: حمل الجمهور ومنهم الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق المطلق على المقيد كما حملوا المطلق في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} على المقيد في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وخالف الكوفيون فقالوا: يجوز إعتاق الكافر، ووافقهم أبو ثور وابن المنذر، واحتج له في كتابه الكبير بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين، ومن ثم اشترط التتابع في صيام القتل دون اليمين. قوله: "وأي الرقاب أزكى"؟ يشير إلى الحديث الماضي في أوائل العتق عن أبي ذر وفيه: "قلت فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وقد تقدم شرحه مستوفى هناك، وكأن البخاري رمز بذلك إلى موافقة الكوفيين لأن أفعل التفضيل يقتضي الاشتراك في أصل الحكم. وقال ابن المنير: لم يبت البخاري الحكم في ذلك ولكنه ذكر الفضل في عتق المؤمنة لينبه على مجال النظر، فلقائل أن يقول: إذا وجب عتق الرقبة في كفارة اليمين كان الأخذ بالأفضل أحوط، وإلا كان المكفر بغير المؤمنة على شك في براءة الذمة. قال: وهذا أقوى من الاستشهاد بحمل المطلق على المقيد لظهور الفرق بينهما. حديث أبي هريرة "من أعتق رقبة مسلمة" وقد تقدم أيضا في أوائل العتق من وجه آخر عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة، وذكر فيه قصة لسعيد ابن مرجانة مع علي بن حسين أي ابن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين وهو المذكور هنا أيضا، وكأنه بعد أن سمعه من سعيد بن مرجانة وعمل به حدث به عن سعيد فسمعه منه زيد بن أسلم. وفي رواية الباب زيادة في آخره وهي قوله: "حتى فرجه بفرجه" وحتى هنا عاطفة لوجود شرائط العطف فيها فيكون فرجه بالنصب، وقد تقدمت فوائد هذا الحديث وبيان ما ورد فيه من الزيادة هناك. وأخرج مسلم حديث الباب عن داود بن رشيد شيخ شيخ البخاري فيه، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين فإن بينه وبين أبي غسان محمد بن مطرف في عدة أحاديث في كتابه راويا واحدا كسعيد بن أبي مريم في الصيام والنكاح والأشربة وغيرها وكعلي بن عياش في البيوع

(11/599)


والأدب، ومحمد بن عبد الرحيم شيخه فيه هو المعروف بصاعقة وهو من أقرانه، وداود بن رشيد بشين ومعجمة مصغر من طبقة شيوخه الوسطى، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق زيد وعلي وسعيد والثلاثة مدنيون وزيد وعلي قرينان.

(11/600)


7 - باب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا
وَقَالَ طَاوُسٌ يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ
6716- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي" فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ"
قوله: "باب عتق المدبر وأم الولد والمكاتب في الكفارة وعتق ولد الزنا" ذكر فيه حديث جابر في عتق المدبر، وعمرو في السند هو ابن دينار، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب العتق وبيان الاختلاف فيه والاحتجاج لمن قال بصحة بيعه، وقضية ذلك صحة عتقه في الكفارة لأن صحة بيعه فرع بقاء الملك فيه فيصح تنجيز عتقه، وأما أم الولد فحكمها حكم الرقيق في أكثر الأحكام كالجناية والحدود واستمتاع السيد، وذهب كثير من العلماء إلى جواز بيعها، ولكن استقر الأمر على عدم صحته، وأجمعوا على جواز تنجيز عتقها فتجزئ في الكفارة، وأما عتق المكاتب فأجازه مالك والشافعي والثوري كذا حكاه ابن المنذر، وعن مالك أيضا لا يجزئ أصلا. وقال أصحاب الرأي إن كان أدى بعض الكتابة لم يجزئ لأنه يكون أعتق بعض الرقبة وبه قال الأوزاعي والليث، وعن أحمد وإسحاق إن أدى الثلث فصاعدا لم يجزئ. قوله: "وقال طاوس يجزئ المدبر وأم الولد" وصله ابن أبي شيبة من طريقه بلفظ يجزئ عتق المدبر في الكفارة وأم الولد في الظهار، وقد اختلف السلف فوافق طاوسا الحسن في المدبر والنخعي في أم الولد وخالفه فيهما الزهري والشعبي. وقال مالك والأوزاعي لا يجزئ في الكفارة مدبر ولا أم ولد ولا معلق عتقه وهو قول الكوفيين. وقال الشافعي يجزئ عتق المدبر. وقال أبو ثور يجزئ عتق المكاتب ما دام عليه شيء من كتابته، واحتج لمالك بأن هؤلاء ثبت لهم عقد الحرية لا سبيل إلى رفعها والواجب في الكفارة تحرير رقبة، وأجاب الشافعي بأنه لو كانت في المدبر شعبة من حرية ما جاز بيعه، وأما عتق ولد الزنا فقال ابن المنير لا أعلم مناسبة بين عتق ولد الزنا وبين ما أدخله في الباب إلا أن يكون المخالف في عتقه خالف في عتق ما تقدم ذكره، فاستدل عليه بأنه لا قائل بالفرق ثم قال: ويظهر أنه لما جوز عتق المدبر استدل له ولم يأت في أم الولد إلا بقول طاوس ولا في ولد الزنا بشيء أشار إلى أنه قد تقدم الحث على عتق الرقبة المؤمنة فيدخل ما ذكر بعده في العموم بل في الخصوص لأن ولد الزنا مع إيمانه أفضل من الكافر. قلت: جاء المنع من ذلك في الحديث الذي أخرجه البيهقي بسند صحيح عن الزهري أخبرني أبو حسن مولى عبد الله بن الحارث وكان من أهل العلم والصلاح أنه سمع امرأة تقول لعبد الله بن نوفل تستفتيه في غلام لها ابن زنية تعتقه في رقبة كانت عليها فقال: لا أراه يجزئك، سمعت عمر يقول لأن أحمل على نعلين في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ابن زنية، وصح عن

(11/600)


أبي هريرة قال: لأن أتبع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد زنية، أخرجه ابن أبي شيبة. نعم في الموطأ عن أبي هريرة أنه أفتى بعتق ولد الزنا، وعن ابن عمر أنه أعتق ابن زنا، وأخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح عنه وزاد: قد أمرنا الله أن نمن على من هو شر منه، قال الله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وقال الجمهور: يجزئ عتقه، وكرهه علي وابن عباس وابن عمرو بن العاص أخرجه ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد لينة، ومنع الشعبي والنخعي والأوزاعي. وأخرج ابن أبي شيبة ذلك بسند صحيح عن الأولين، والحجة للجمهور قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد صح ملك الحالف له فيصح إعتاقه له، وقد أخرج ابن المنذر بسند صحيح عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنه سئل عن ذلك فمنع، قال أبو الخير: فسألنا فضالة بن عبيد فقال: يغفر الله لعقبة، وهل هو إلا نسمة من النسم؟ وذكر المصنف حديث جابر في بيع المدبر فأشار في الترجمة إلى أنه إذا جاز بيعه جاز ما ذكر معه بطريق الأولى.

(11/601)


باب إذا أعتق عبداً بينه وبين آخر
قوله "باب إذا أعتق عبدا بينه وبين آخر" أي في الكفارة، ثبتت هذه الترجمة المستملي وحده بغير حديث فكأن المصنف أراد أن يثبت فيها حديث الباب الذي بعده من وجه آخر فلم يتفق، أو تردد في الترجمتين فاقتصر الأكثر على الترجمة التي تلي هذه وكتب المستملي الترجمتين احتيطا، والحديث في الباب الذي يليه صالح لهما بضرب من التأويل، وجمع أبو نعيم الترجمتين في باب واحد

(11/601)


8 - باب إِذَا أَعْتَقَ فِي الْكَفَّارَةِ لِمَنْ يَكُونُ وَلاَؤُهُ
6717- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلاَءَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون ولاؤه" أي العتيق. حديث عائشة في قصة بريرة مختصرا وفي آخره: "فإنما الولاء لمن أعتق" وقضيته أن كل من أعتق فصح عتقه كان الولاء له، فيدخل في ذلك ما لو أعتق العبد المشترك فإنه إن كان موسرا صح وضمن لشريكه حصته، ولا فرق بين أن يعتقه مجانا أو عن الكفارة وهذا قول الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة، وعن أبي حنيفة لا يجزئه عتق العبد المشترك عن الكفارة لأنه يكون أعتق بعض عبد لا جميعه، لأن الشريك عنده يخير بين أن يقوم عليه نصيبه وبين أن يعتقه هو وبين أن يستسعي العبد في نصيب الشريك.

(11/601)


9 - باب الِاسْتِثْنَاءِ فِي الأَيْمَانِ
6718- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى "عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأُتِيَ بِإِبِلٍ فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاَثَةِ ذَوْدٍ فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ لاَ يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا أَتَيْنَا رَسُولَ

(11/601)


10 - باب الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
6721- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الْقَاسِمِ الْتَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ وَمَعْرُوفٌ قَالَ فَقُدِّمَ طَعَامٌ قَالَ وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ قَالَ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى قَالَ فَلَمْ يَدْنُ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى ادْنُ فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا قَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ أَطْعَمَهُ أَبَدًا فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنْ ذَلِكَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ قَالَ أَيُّوبُ أَحْسِبُهُ قَالَ وَهُوَ غَضْبَانُ قَالَ "وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَقِيلَ أَيْنَ هَؤُلاَءِ الأَشْعَرِيُّونَ فَأَتَيْنَا فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى قَالَ فَانْدَفَعْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا فَحَمَلَنَا نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا ارْجِعُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْنُذَكِّرْهُ يَمِينَهُ فَرَجَعْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا ثُمَّ حَمَلْتَنَا فَظَنَنَّا أَوْ فَعَرَفْنَا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ قَالَ "انْطَلِقُوا فَإِنَّمَا حَمَلَكُمْ اللَّهُ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا".
تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيِّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا.
6722- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْحَسَنِ "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ"
تَابَعَهُ أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ.
وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَسِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَحُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ وَمَنْصُورٌ وَهِشَامٌ وَالرَّبِيعُ.

(11/608)


قوله: "باب الكفارة قبل الحنث وبعده" ذكر فيه حديث أبي موسى في قصة سؤالهم الحملان وفيه: "إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وقد مضى في الباب الذي قبله بلفظ: "إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" وحديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن سؤال الإمارة وفيه: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزئ قبل الحنث. إلا أن الشافعية استثنى الصيام فقال لا يجزئ إلا بعد الحنث وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث. قلت: ونقل الباجي عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصدقة والعتق، ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالفه ابن حزم، واحتج لهم الطحاوي بقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فإذا المراد إذا حلفتم فحنثتم، ورده مخالفوه فقالوا: بل التقدير فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التقدير أعم من ذلك، فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر. واحتجوا أيضا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين، ورده من أجاز بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقا. واحتجوا أيضا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام الفرض. وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث وإلا فلا يجزئ كما في تقديم الزكاة. وقال عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحب مالك والشافعي والأوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث، قال عياض: ومنع بعض المالكية تقديم كفارة حنث المعصية لأن فيه إعانة على المعصية، ورده الجمهور. قال ابن المنذر: واحتج للجمهور بأن اختلاف ألفاظ حديثي أبو موسى وعبد الرحمن لا يدل على تعيين أحد الأمرين، وإنما أمر الحالف بأمرين فإذا أتى بهما جميعا فقد فعل ما أمر به وإذا لم يدل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر، فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام فلأن تحله الكفارة وهو فعل مالي أو بدني أولي، ويرجح قولهم أيضا بالكثرة، وذكر أبو الحسن بن القصار وتبعه عياض وجماعة أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيا وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة، مع أنه قال فيمن أخرج ظبية من الحرم إلى الحل فولدت أولادا ثم ماتت في يده هي وأولادها أن عليه جزاءها وجزاء أولادها، لكن إن كان حين إخراجها أدى جزاءها لم يكن عليه في أولادها شيء مع أن الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفارة اليمين أولى. وقال ابن حزم: أجاز الحنفية تعجيل الزكاة قبل الحول وتقديم زكاة الزرع، وأجازوا تقديم كفارة القتل قبل موت المجني عليه، واحتج للشافعي بأن الصيام من حقوق الأبدان ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة والصيام، بخلاف العتق والكسوة والإطعام فإنها من حقوق الأموال فيجوز تقديمها كالزكاة، ولفظ الشافعي في "الأم" إن كفر بالإطعام قبل الحنث رجوت أن يجزئ عنه، وأما الصوم فلا لأن حقوق المال يجوز تقديمها بخلاف العبادات فإنها لا تقدم على وقتها كالصلاة والصوم، وكذا لو حج الصغير والعبد لا يجزئ عنهما إذا بلغ أو عتق. وقال في موضع آخر: من حلف فأراد أن يحنث فأحب إلي أن لا يكفر حتى يحنث فإن كفر قبل الحنث أجزأ، وساق نحوه مبسوطا. وادعى الطحاوي أن إلحاق الكفارة بالكفارة أولى من إلحاق الإطعام بالزكاة وأجيب بالمنع. وأيضا فالفرق الذي أشار إليه الشافعي بين حق المال وحق البدن ظاهر جدا، وإنما خص منه الشافعي الصيام بالدليل المذكور

(11/609)


ويؤخذ من نص الشافعي أن الأولى تقديم الحنث على الكفارة، وفي مذهبه وجه اختلف فيه الترجيح أن كفارة المعصية يستحب تقديمها. قال القاضي عياض: الخلاف في جواز تقديم الكفارة مبني على أن الكفارة رخصة لحل اليمين أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنها رخصة شرعها الله لحل ما عقد من اليمين فلذلك تجزئ قبل وبعد. قال المازري: للكفارة ثلاث حالات أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقا. ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقا. ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها الخلاف. وقد اختلف لفظ الحديث فقدم الكفارة مرة وأخرها أخرى لكن بحرف الواو الذي لا يوجب رتبة، ومن منع رأى أنها لم تجز فصارت كالتطوع والتطوع لا يجزئ عن الواجب. وقال الباجي وابن التين وجماعة: الروايتان دالتان على الجواز لأن الواو لا ترتب. قال ابن التين: فلو كان تقديم الكفارة لا يجزئ لأبانه ولقال: فليأت ثم ليكفر، لأن تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز، فلما تركهم على مقتضى اللسان دل على الجواز. قال: وأما الفاء في قوله: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" فهي كالفاء الذي في قوله: "فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير" ولو لم تأت الثانية لما دلت الفاء على الترتيب لأنها أبانت ما يفعله بعد الحلف وهما شيئان كفارة وحنث ولا ترتيب فيهما، وهو كمن قال: إذا دخلت الدار فكل واشرب. قلت: قد ورد في بعض الطرق بلفظ: "ثم" التي تقتضي الترتيب عند أبي داود والنسائي في حديث الباب، ولفظ أبي داود من طريق سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن به "كفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير" وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه لكن أحال بلفظ المتن على ما قبله، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق سعيد كأبي داود، وأخرجه النسائي من رواية جرير بن حازم عن الحسن مثله، لكن أخرجه البخاري ومسلم من رواية جرير بالواو، وهو في حديث عائشة عند الحاكم أيضا بلفظ: "ثم" وفي حديث أم سلمة عند الطبراني نحوه ولفظه: "فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير". قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو المعروف بابن علية، وأيوب هو السختياني، والقاسم التميمي هو ابن عاصم، وقد تقدم في "باب اليمين فيما لا يملك" من طريق عبد الوارث عن أيوب عن القاسم وحده أيضا، واقتصر على بعضه، ومضى في "باب لا تحلفوا بآبائكم" من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم التميمي جميعا عن زهدم، وتقدم في المغازي من طريق عبد السلام بن حرب عن أيوب عن أبي قلابة وحده، وقد تقدم في فرض الخمس عن عبد الله بن عبد الوهاب عن حماد وهو ابن زيد، وكذا أخرجه مسلم عن أبي الربيع العتكي عن حماد قال: "وحدثني القاسم بن عاصم الكليبي" بموحدة مصغر نسبة إلى بني كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهو القاسم التميمي المذكور قبل، قال وأنا لحديث القاسم أحفظ عن زهدم. وفي رواية العتكي وعن القاسم بن عاصم كلاهما عن زهدم، قال أيوب: وأنا لحديث القاسم أحفظ. قوله: "كنا عند أبي موسى" أي الأشعري، ونسب كذلك في رواية عبد الوارث. قوله: "وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء ومعروف" في رواية الكشميهني: "وكان بيننا وبينهم هذا الحي إلخ" وهو كالأول لكن زاد الضمير وقدمه على ما يعود عليه. قال الكرماني: كان حق العبارة أن يقول بيننا وبينه أي أبي موسى يعني لأن زهدما من جرم فلو كان من الأشعريين لاستقام الكلام، قال: وقد تقدم على الصواب في "باب لا تحلفوا بآبائكم" حيث قال: "كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين" ثم حمل ما وقع هنا على أنه جعل نفسه من قوم أبي موسى لكونه من أتباعه فصار كواحد من الأشعريين فأراد

(11/610)


بقوله بيننا أبا موسى وأتباعه وأن بينهم وبين الجرميين ما ذكر من الإخاء وغيره، وتقدم بيان ذلك أيضا في كتاب الذبائح. قلت: وقد تقدم في رواية عبد الوارث في الذبائح بلفظ هذا الباب إلى قوله: "إخاء" وقد أخرجه أحمد وإسحاق في مسنديهما عن إسماعيل بن علية الذي أخرجه البخاري من طريقه ولم يذكر هذا الكلام بل اقتصر على قوله: "كنا عند أبي موسى فقدم طعامه" نعم أخرجه النسائي عن علي بن حجر شيخ البخاري فيه بقصة الدجاج وقول الرجل ولم يسق بقيته، وقوله: "إخاء" بكسر أوله وبالخاء المعجمة والمد أي صداقة، وقوله: "ومعروف" أي إحسان. ووقع في رواية عبد الوهاب الثقفي الماضية قريبا "ود وإخاء" وقد ذكر بيان سبب ذلك في "باب قدوم الأشعريين" من أواخر المغازي من طريق، عبد السلام بن حرب عن أيوب، وأول الحديث عنده "لما قدم أبو موسى الكوفة أكرم هذا الحي من جرم" وذكرت هناك نسب جرم إلى قضاعة. قوله: "فقدم طعامه" أي وضع بين يديه، في رواية الكشميهني: "طعام" بغير ضمير، ومضى في "باب قدوم الأشعريين" بلفظ: "وهو يتغذى لحم دجاج" ويستفاد من الحديث جواز أكل الطيبات على الموائد واستخدام الكبير من يباشر له نقل طعامه ووضعه بين يديه، قال القرطبي: ولا يناقض ذلك الزهد ولا ينقصه خلافا لبعض المتقشفة. قلت: والجواز ظاهر، وأما كونه لا ينقص الزهد ففيه وقفة. قوله: "وقدم في طعامه لحم دجاج" ذكر ضبطه في "باب لحم الدجاج" من كتاب الذبائح وأنه اسم جنس، وكلام الحربي في ذلك، ووقع في فرض الخمس بلفظ: "دجاجة" وزعم الداودي أنه يقال للذكر والأنثى واستغربه ابن التين. قوله: "وفي القوم رجل من بني تيم الله" هو اسم قبيلة يقال لهم أيضا تيم اللات وهم من قضاعة، وقد تقدم الكلام على ما قيل في تسمية هذا الرجل مستوفى في كتاب الذبائح. قوله: "أحمر كأنه مولى" تقدم في فرض الخمس "كأنه من الموالي" قال الداودي: يعني أنه من سبي الروم، كذا قال فإن كان اطلع على نقل في ذلك وإلا فلا اختصاص لذلك بالروم دون الفرس أو النبط أو الديلم. قوله: "فلم يدن" أي لم يقرب من الطعام فيأكل منه، زاد عبد الوارث في روايته في الذبائح "فلم يدن من طعامه". قوله: "ادن" بصيغة فعل الأمر. وفي رواية عبد السلام "هلم" في الموضعين، وهو يرجع إلى معنى ادن، كذا في رواية حماد عن أيوب، ولمسلم من هذا الوجه "فقال له هلم فتلكأ" بمثناة ولام مفتوحتين وتشديد أي تمنع وتوقف وزنه ومعناه. قوله: "يأكل شيئا قذرته" بكسر الذال المعجمة وقد تقدم بيان ذلك وحكم أكل لحم الجلالة والخلاف فيه في كتاب الذبائح مستوفى. قوله: "أخبرك عن ذلك" أي عن الطريق في حل اليمين، فقص قصة طلبهم الحملان والمراد منه ما في آخره من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" ومعنى تحللتها فعلت ما ينقل المنع الذي يقتضيه إلى الإذن فيصير حلالا، وإنما يحصل ذلك بالكفارة، وأما ما زعم بعضهم أن اليمين تتحلل بأحد أمرين إما الاستثناء وإما الكفارة فهو بالنسبة إلى مطلق اليمين لكن الاستثناء إنما يعتبر في أثناء اليمين قبل كمالها وانعقادها والكفارة تحصل بعد ذلك، ويؤيد أن المراد بقوله تحللتها كفرت عن يميني وقوع التصريح به في رواية حماد بن زيد وعبد السلام وعبد الوارث وغيرهم. قوله: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين" ووقع في رواية عبد السلام بن حرب عن أيوب بلفظ: "إنا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين" فاستدل به ابن مالك لصحة قول الأخفش يجوز أن يبدل من ضمير الحاضر بدل كل من كل وحمل عليه قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} قال ابن مالك: واحترزت بقولي بدل كل من كل عن البعض والاشتمال فذلك جائز

(11/611)


اتفاقا، ولما حكاه الطيبي أقره وقال: هو عند علماء البديع يسمى التجريد. قلت: وهذا لا يحسن الاستشهاد به إلا لو اتفقت الرواة، والواقع أنه بهذا اللفظ انفرد به عبد السلام، وقد أخرجه البخاري في مواضع أخرى بإثبات "في" فقال في معظمها "في رهط" كما هي رواية ابن علية عن أيوب هنا، وفي بعضها "في نفر" كما هي رواية حماد عن أيوب في فرض الخمس. قوله: "يستحمله" أي يطلب منه ما يركبه، ووقع عند مسلم من طريق أبي السليل بفتح المهملة ولامين الأولى مكسورة عن زهدم عن أبي موسى "كنا مشاة فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله" وكان ذلك في غزوة تبوك كما تقدم في أواخر المغازي. قوله: "وهو يقسم نعما" بفتح النون والمهملة. قوله: "قال أيوب أحسبه قال وهو غضبان" هو موصول بالسند المذكور، ووقع في رواية عبد الوارث عن أيوب "فوافقته وهو غضبان وهو يقسم نعما من نعم الصدقة" وفي رواية وهيب عن أيوب عن أبي عوانة في صحيحه "وهو يقسم ذودا من إبل الصدقة" وفي رواية بريد بن أبي بردة الماضية قريبا في "باب اليمين فيما لا يملك" عن أبي موسى "أرسلني أصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان فقال: لا أحملكم على شيء فوافقته وهو غضبان" ويجمع بأن أبا موسى حضر هو والرهط فباشر الكلام بنفسه عنهم. قوله: "والله لا أحملكم" قال القرطبي: فيه جواز اليمين عند المنع ورد السائل الملحف عند تعذر الإسعاف وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول. قوله: "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل" بفتح النون وسكون الهاء بعدها موحدة أي غنيمة، وأصله ما يؤخذ اختطافا بحسب السبق إليه على غير تسوية بين الآخذين، وتقدم في الباب الذي قبله من طريق غيلان بن جرير عن أبي بردة عن موسى بلفظ: "فأتى بإبل" وفي رواية: "شائل" وتقدم الكلام عليها. وفي رواية بريد عن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع الإبل التي حمل عليها الأشعريين من سعد، وفي الجمع بينها وبين رواية الباب عسر، لكن يحتمل أن تكون الغنيمة لما حصلت حصل لسعد منها القدر المذكور فابتاع النبي صلى الله عليه وسلم منه نصيبه فحملهم عليه. قوله: "فقيل: أين هؤلاء الأشعريون؟ فأتينا فأمر لنا" في رواية عبد السلام عن أيوب "ثم لم نلبث أن أتى النبي صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فأمر لنا" وفي رواية حماد "وأتى بنهب إبل فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا" ومثله في رواية عبد الوهاب الثقفي. وفي رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة "ثم لبثنا ما شاء الله فأتى" وفي رواية يزيد "فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي: أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال خذ". قوله: "فأمر لنا بخمس ذود" تقدم بيان الاختلاف في الباب الذي قبله وطريق الجمع بين مختلف الروايات في ذلك. قوله: "فاندفعنا" أي سرنا مسرعين والدفع السير بسرعة. وفي رواية عبد الوارث "فلبثنا غير بعيد" وفي رواية عبد الوهاب "ثم انطلقنا". قوله: "فقلت لأصحابي" في رواية حماد وعبد الوهاب "قلنا ما صنعنا" وفي رواية غيلان عن أبي بردة "فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض" وقد عرف من رواية الباب البادئ بالمقالة المذكورة. قوله: "نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لئن تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدا" في رواية عبد السلام "فلما قبضناها قلنا تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدا" ونحوه في رواية عبد الوهاب ومعنى "تغفلنا" أخذنا منه ما أعطانا في حال غفلته عن يمينه من غير أن نذكره بها ولذلك خشوا. وفي رواية حماد "فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا" ولم يذكر النسيان أيضا. وفي رواية غيلان "لا يبارك الله لنا" وخلت رواية يزيد عن هذه الزيادة كما خلت عما بعدها إلى آخر الحديث، ووقع في روايته من الزيادة قول أبي موسى لأصحابه "لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم

(11/612)


إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني في منعهم أولا وإعطائهم ثانيا إلى آخر القصة المذكورة ولم يذكر حديث: "لا أحلف على يمين إلخ"، قال القرطبي: فيه استدراك جبر خاطر السائل الذي يؤدب على الحاجة بمطلوبه إذا تيسر، وأن من أخذ شيئا يعلم أن المعطى لم يكن راضيا بإعطائه لا يبارك له فيه. قوله: "فظننا أو فعرفنا أنك نسيت يمينك، قال: "انطلقوا فإنما حملكم الله" في رواية حماد "فنسيت. قال لست أنا أحملكم ولكن الله حملكم" وفي رواية عبد السلام "فأتيته فقلت: يا رسول الله إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا، قال: أجل" ولم يذكر "ما أنا حملتكم" إلخ. وفي رواية غيلان "ما أنا حملتكم بل الله حملكم" ولأبي يعلى من طريق فطر عن زهدم "فكرهنا أن نمسكها، فقال: إني والله ما نسيتها" وأخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه أبو يعلى ولم يسق منه إلا قوله: "قال والله ما نسيتها". قوله: "إني والله إن شاء الله إلخ" تقدم بيانه في الباب الذي قبله. قوله: "لا أحلف على يمين" أي محلوف يمين، فأطلق عليه لفظ يمين للملابسة والمراد ما شأنه أن يكون محلوفا عليه؛ فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون فيه تضمين فقد وقع في رواية لمسلم: "على أمر"، ويحتمل أن يكون "على" بمعنى الباء، فقد وقع في رواية النسائي: "إذا حلفت بيمين" ورجح الأول بقوله: "فرأيت غيرها خيرا منها" لأن الضمير في غيرها لا يصح عوده على اليمين، وأجيب بأنه يعود على معناها المجازي للملابسة أيضا. وقال ابن الأثير في النهاية: الحلف هو اليمين فقوله أحلف أي أعقد شيئا بالعزم والنية، وقوله: "على يمين" تأكيد لعقده وإعلام بأنه ليست لغوا. قال الطيبي: ويؤيده رواية النسائي بلفظ: "ما على الأرض يمين أحلف عليها" الحديث، قال: فقوله أحلف عليها صفة مؤكدة لليمين، قال: والمعنى لا أحلف يمينا جزما لا لغو فيها ثم يظهر لي أمر آخر يكون فعله أفضل من المضي في اليمين المذكورة إلا فعلته وكفرت عن يميني، قال: فعلى هذا يكون قوله: "على يمين" مصدرا مؤكدا لقوله أحلف. تكملة: اختلف هل كفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه المذكور كما اختلف هل كفر في قصة حلفه على شرب العسل أو على غشيان مارية، فروي عن الحسن البصري أنه قال: لم يكفر أصلا لأنه مغفور له، وإنما نزلت كفارة اليمين تعليما للأمة، وتعقب بما أخرجه الترمذي من حديث عمر في قصة حلفه على العسل أو مارية، فعاتبه الله وجعل له كفارة يمين، وهذا ظاهر في أنه كفر وإن كان ليس نصا في رد ما ادعاه الحسن، وظاهر أيضا في حديث الباب: "وكفرت عن يميني" أنه لا يترك ذلك، ودعوى أن ذلك كله للتشريع بعيد. قوله: "وتحللتها" كذا في رواية حماد وعبد الوارث وعبد الوهاب كلهم عن أيوب، ولم يذكر في رواية عبد السلام "وتحللتها" وكذا لم يذكرها أبو السليل عن زهدم عند مسلم، ووقع في رواية غيلان عن أبي بردة "إلا كفرت عن يميني" بدل "وتحللتها" وهو يرجح أحد احتمالين أبداهما ابن دقيق العيد ثانيهما إتيان ما يقتضي الحنث فإن التحلل يقتضي سبق العقد والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل الإتيان بخلاف مقتضاها، لكن يلزم على هذا أن يكون فيه تكرار لوجود قوله: "أتيت الذي هو خير" فإن إتيان الذي هو خير تحصل به مخالفة اليمين والتحلل منها، لكن يمكن أن تكون فائدته التصريح بالتحلل، وذكره بلفظ يناسب الجواز صريحا ليكون أبلغ مما لو ذكره بالاستلزام، وقد يقال إن الثاني أقوى لأن التأسيس أولى من التأكيد، وقيل معنى "تحللتها" خرجت من حرمتها إلى ما يحل منها وذلك يكون بالكفارة، وقد يكون بالاستثناء بشرطه السابق، لكن لا يتجه في هذه القصة إلا إن كان وقع منه استثناء لم يشعروا به كأن يكون قال إن شاء الله مثلا أو قال والله لا أحملكم إلا إن حصل

(11/613)


شيء ولذلك قال: "وما عندي ما أحملكم" قال العلماء في قوله: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" المعنى بذلك إزالة المنة عنهم وإضافة النعمة لمالكها الأصلي، ولم يرد أنه لا صنع له أصلا في حملهم لأنه لو أراد ذلك ما قال بعد ذلك "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت" وقال المازري: معنى قوله: "إن الله حملكم" إن الله أعطاني ما حملتكم عليه ولولا ذلك لم يكن عندي ما حملتكم عليه، وقيل يحتمل أنه كان نسي يمينه والناسي لا يضاف إليه الفعل، ويرده التصريح بقوله: "والله ما نسيتها" وهي عند مسلم كما بينته، وقيل المراد بالنفي عنه والإثبات لله الإشارة إلى ما تفضل الله به من الغنيمة المذكورة لأنها لم تكن بتسبب من النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان متطلعا إليها ولا منتظرا لها، فكان المعنى ما أنا حملتكم لعدم ذلك أولا ولكن الله حملكم بما ساقه إلينا من هذه الغنيمة. قوله: "تابعه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم بن عاصم الكليبي" قال الكرماني: إنما أتى بلفظ تابعه أولا وبحدثنا ثانيا وثالثا إشارة إلى أن الأخيرين حدثاه بالاستقلال والأول مع غيره، قال: والأول يحتمل التعليق بخلافهما. قلت: لم يظهر لي معنى قوله: "مع غيره" وقوله: "يحتمل التعليق" يستلزم أنه يحتمل عدم التعليق، وليس كذلك بل هو في حكم التعليق لأن البخاري لم يدرك حمادا، وقد وصل المصنف متابعة حماد بن زيد في فرض الخمس، ثم إن هذه المتابعة وقعت في الرواية عن القاسم فقط ولكن زاد حماد ذكر أبي قلابة مضموما إلى القاسم. قوله: "حدثنا قتيبة حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "بهذا" أي بجميع الحديث، وقد أشرت إلى أن رواية حماد وعبد الوهاب متفقتان في السياق، وقد ساق رواية قتيبة هذه في "باب لا تحلفوا بآبائكم" تامة، وقد ساقها أيضا في أواخر كتاب التوحيد عن عبد الله ابن عبد الوهاب الحجبي عن الثقفي وليس بعد الباب الذي ساقها فيه من البخاري سوى بابين فقط. قوله: "حدثنا أبو معمر" تقدم سياق روايته في كتاب الذبائح، وقد بينت ما في هذه الروايات من التخالف مفصلا. وفي الحديث غير ما تقدم ترجيح الحنث في اليمين إذا كان خيرا من التمادي، وأن تعمد الحنث في مثل ذلك يكون طاعة لا معصية، وجواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الخبر ولو كان مستقبلا وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث بشرطه المذكور، وفيه تطييب قلوب الأتباع، وفيه الاستثناء بإن شاء الله تبركا، فإن قصد بها حل اليمين صح بشرطه المتقدم. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي الحافظ المشهور فيما جزم به المزي وقال: نسبه إلى جده. وقال أبو علي الجياني: لم أره منسوبا في شيء من الروايات. قلت: وقد روى البخاري في بدء الخلق عن محمد بن عبد الله المخرمي عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج وهما من هذه الطبقة، وروى أيضا في عدة مواضع عن محمد بن عبد الله بن حوشب ومحمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن عبد الله الرقاشي وهم أعلى من طبقة المخرمي ومن معه، وروي أيضا بواسطة تارة وبغير واسطة أخرى عن محمد بن عبد الله الأنصاري وهو أعلى من طبقة ابن نمير ومن ذكر معه، فقد ثبت هذا الحديث بعينه من روايته عن ابن عون شيخ عثمان بن عمر شيخ محمد بن عبد الله المذكور في هذا الباب، فعلى هذا لم يتعين من هو شيخ البخاري في هذا الحديث، وابن عون هو عبد الله البصري المشهور، وقوله في آخر الحديث: "تابعه أشهل" بالمعجمة وزن أحمر "عن ابن عون" وقعت روايته موصولة عند أبي عوانة والحاكم والبيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي "حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري وأشهل بن حاتم قالا أنبأنا ابن عون به". قوله: "وتابعه يونس وسماك بن عطية وسماك بن حرب وحميد

(11/614)


وقتادة ومنصور وهشام والربيع" يريد أن الثمانية تابعوا ابن عون فرووه عن الحسن، فالضمير في قوله أولا "تابعه أشهل" لعثمان بن عمر، والضمير في قوله ثانيا "وتابعه يونس" وما بعده لعبد الله بن عون شيخ عثمان بن عمر، ووقع في نسخة من رواية أبي ذر "وحميد عن قتادة" وهو خطأ والصواب "وحميد وقتادة" بالواو وكذا وقع في رواية النسفي عن البخاري وكذا في رواية من وصل هذه المتابعات، فأما رواية يونس وهو ابن عبيد فستأتي موصولة في كتاب الأحكام، وأما متابعة سماك بن عطية فوصلها مسلم من طريق حماد بن زيد عنه وعن يونس جميعا عن الحسن. وقال البزار: ما رواه عن سماك بن عطية إلا حماد، ولا روى سماك هذا عن الحسن إلا هذا. وأما متابعة سماك بن حرب فوصلها عبد الله بن أحمد في زياداته والطبراني في الكبير من طريق حماد بن زيد عنه عن الحسن، وأما متابعة حميد وهو الطويل ومنصور هو ابن زاذان فوصلها مسلم من طريق هشيم عنهما، قال البزار وتبعه الطبراني في الأوسط: لم يروه عن منصور بن زاذان إلا هشيم، ولا روى منصور هذا عن الحسن إلا هذا الحديث. قلت: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بمنصور منصور بن المعتمر، وقد أخرجه النسائي من طريقه من رواية جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن الحسن، قال البزار أيضا: لم يرو منصور بن المعتمر عن الحسن إلا هذا. وأما متابعة قتادة فوصلها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه. وأما رواية هشام وهو ابن حسان فأخرجها أبو نعيم في "المستخرج على مسلم" من طريق حماد بن زيد عن هشام عن الحسن ووقع لنا في "الغيلانيات" من وجه آخر عن هشام ومطر الوراق جميعا عن الحسن وهو عند أبي عوانة في صحيحه من هذا الوجه. وأما حديث الربيع فقد جزم الدمياطي في حاشيته بأنه ابن مسلم، والذي يغلب على ظني أنه ابن صبيح، فقد وقع لنا في "الشرانيات" من رواية شبابة عن الربيع بن صبيح بوزن عظيم عن الحسن، وأخرجه أبو عوانة من طريق الأسود بن عامر عن الربيع بن صبيح، وأخرجه الطبراني من رواية مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة بن خالد والمبارك بن فضالة والربيع بن صبيح قالوا حدثنا الحسن به، ووقع لنا من رواية الربيع غير منسوب عن الحسن أخرجه الحافظ يوسف بن خليل في الجزء الذي جمع فيه طرق هذا الحديث من طريق وكيع عن الربيع عن الحسن. وهذا يحتمل أن يكون هو الربيع ابن صبيح المذكور ويحتمل أن يكون الربيع بن مسلم. وقد روي هذا الحديث عن الحسن غير من ذكر جرير بن حازم وتقدمت روايته في أول كتاب الأيمان والنذور، وأخرجه مسلم من رواية معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن. ولما أخرج طريق سماك بن عطية قرنها بيونس بن عبيد وهشام بن حسان وقال: في آخرين. وأخرجه أبو عوانة من طريق علي بن زيد بن جدعان ومن طريق إسماعيل بن مسلم ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد كلهم عن الحسن، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن نحو الأربعين من أصحاب الحسن منهم من لم يتقدم ذكره يزيد بن إبراهيم وأبو الأشهب واسمه جعفر بن حيان وثابت البناني وحبيب بن الشهيد وخليد بن دعلج وأبو عمرو ابن العلاء ومحمد بن نوح وعبد الرحمن السراج وعرفطة والمعلى بن زياد وصفوان بن سليم ومعاوية بن عبد الكريم وزياد مولى مصعب وسهل السراج وشبيب بن شيبة وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ومحمد بن عقبة والأشعث ابن سوار والأشعث بن عبد الملك والحسن بن دينار والحسن بن ذكوان وسفيان بن حسين والسري بن يحيى وأبو عقيل الدورقي وعباد بن راشد وعباد بن كثير، فهؤلاء الأربعة وأربعون نفسا. وقد خرج طرقه الحافظ عبد القادر الرهاوي في الأربعين

(11/615)


البلدانية له عن سبعة وعشرين نفسا من الرواة عن الحسن، فيهم ممن لم يتقدم ذكره يحيى بن أبي كثير وجرير بن حازم وإسرائيل أبو موسى ووائل بن داود وعبد الله بن عون وقرة بن خالد وأبو خالد الجزار وأبو عبيدة الباجي وخالد الحذاء وعوف الأعرابي وحماد بن نجيح ويونس بن يزيد ومطر الوراق وعلي بن رفاعة ومسلم بن أبي الذيال والعوام بن جويرية وعقيل بن صبيح وكثير بن زياد وسودة بن أبي العالية ثم قال: رواه عن الحسن العدد الكثير من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ولعلهم يزيدون على الخمسين، ثم خرج طرقه الحافظ يوسف ابن خليل عن أكثر من ستين نفسا عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة، وسرد الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده في تذكرته أسماء من رواه عن الحسن فبلغوا مائة وثمانين نفسا وزيادة ثم قال: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن سمرة عبد الله بن عمرو وأبو موسى وأبو الدرداء وأبو هريرة وأنس وعدي بن حاتم وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وعمران بن حصين انتهى. ولما أخرج الترمذي حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: "وفي الباب" فذكر الثمانية المذكورين أولا وأهمل خمسة، واستدركهم شيخنا في شرح الترمذي إلا ابن مسعود وابن عمر وزاد معاوية بن الحكم وعوف بن مالك الجشمي والد أبي الأحوص وأذينة والد عبد الرحمن فكملوا ستة عشر نفسا. قلت: أحاديث المذكورين كلها فيما يتعلق باليمين، وليس في حديث أحد منهم "لا تسأل الإمارة" لكن سأذكر من روى معنى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. ولم يذكر ابن منده أن أحدا رواه عن عبد الرحمن بن سمرة غير الحسين، لكن ذكر عبد القادر أن محمد بن سيرين رواه عن عبد الرحمن، ثم أسند من طريق أبي عامر الخراز عن الحسن وابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة" الحديث. وقال: غريب ما كتبته إلا من هذا الوجه، والمحفوظ رواية الحسن عن عبد الرحمن انتهى. وهذا مع ما في سنده من ضعف ليس فيه التصريح برواية ابن سيرين عن عبد الرحمن، وأخرجه يوسف بن خليل الحافظ من رواية عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الرحمن بن سمرة أورده من المعجم الأوسط للطبراني وهو في ترجمة محمد بن علي المروزي بسنده إلى عكرمة قال: كان اسم عبد الرحمن بن سمرة عبد كلوب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن فمر به وهو يتوضأ فقال: "تعال يا عبد الرحمن لا تطلب الإمارة" الحديث، وهذا لم يصرح فيه عكرمة بأنه حمله عن عبد الرحمن لكنه محتمل، قال الطبراني: لم يروه عن عكرمة إلا عبد الرحمن بن كيسان ولا عنه إلا ابنه إسحاق تفرد به أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب. قلت: عبد الله بن كيسان ضعفه أبو حاتم الرازي، وابنه إسحاق لينه أبو أحمد الحاكم. قوله: "عن عبد الرحمن بن سمرة" في رواية إبراهيم بن صدقة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عبد الرحمن ابن سمرة وكان غزا معه كإبل شنؤة أو شنؤتين أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وكذا للطبراني من طريق أبي حمزة إسحاق بن الربيع عن الحسن لكن بلفظ: "غزونا مع عبد الرحمن بن سمرة" وأخرجه أيضا من طريق علي بن زيد عن الحسن "حدثني عبد الرحمن بن سمرة" ومن طريق المبارك بن فضالة عن الحسن "حدثنا عبد الرحمن". قوله: "لا تسأل الإمارة" سيأتي شرحه في الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "وإذا حلفت على يمين" تقدم توجيهه في الكلام على حديث أبي موسى قريبا في قوله: "لا أحلف على يمين" وقد اختلف فيما تضمنه حديث عبد الرحمن بن سمرة هل لأحد الحكمين تعلق بالآخر أو لا؟ فقيل: له به تعلق، وذلك أن أحد الشقين

(11/616)


أن يعطى الإمارة من غير مسألة فقد لا يكون له فيها أرب فيمتنع فيلزم فيحلف فأمر أن ينظر ثم يفعل الذي هو أولى فإن كان في الجانب الذي حلف على تركه فيحنث ويكفر، ويأتي مثله في الشق الآخر. قوله: "فرأيت غيرها" أي غير المحلوف عليه، وظاهر الكلام عود الضمير على اليمين، ولا يصح عوده على اليمين بمعناها الحقيقي بل بمعناها المجازي كما تقدم، والمراد بالرؤية هنا الاعتقادية لا البصرية، قال عياض: معناه إذا ظهر له أن الفعل أو الترك خير له في دنياه أو آخرته أو أوفق لمراده وشهوته ما لم يكن إثما. قلت: وقد وقع عند مسلم في حديث عدي بن حاتم "فرأى غيرها أتقى لله فليأت التقوى" وهو يشعر بقصر ذلك على ما فيه طاعة. وينقسم المأمور به أربعة أقسام إن كان المحلوف عليه فعلا فكان الترك أولى، أو كان محلوف عليه تركا فكان الفعل أولى، أو كان كل منهما فعلا وتركا لكن يدخل القسمان الأخيران في القسمين الأولين لأن من لازم فعل أحد الشيئين أو تركه ترك الآخر أو فعله. قوله: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" هكذا وقع للأكثر، وللكثير منهم "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" وقد ذكر قبل من رواه بلفظ: "ثم ائت الذي هو خير" ووقع في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود "فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن كفارتها تركها" فأشار أبو داود إلى ضعفه وقال: الأحاديث كلها "فليكفر عن يمينه" إلا شيئا لا يعبأ به كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "من حلف فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارته" ويحيى ضعيف جدا، وقد وقع في حديث عدي بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك وأنه أخرجه بلفظ: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه" هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ: "فرأى خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير" ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طريفة عن عدي، والذي زاد ذلك حافظ فهو المعتمد، قال الشافعي: في الأمر بالكفارة مع تعمد الحنث دلالة على مشروعية الكفارة في اليمين الغموس لأنها يمين حانثة. واستدل به على أن الحالف يجب عليه فعل أي الأمرين كان أولى من المضي في حلفه أو الحنث والكفارة، وانفصل عنه من قال إن الأمر فيه للندب بما مضى في قصة الأعرابي الذي قال: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" فقال: "أفلح إن صدق" فلم يأمره بالحنث والكفارة مع أن حلفه على ترك الزيادة مرجوح بالنسبة إلى فعلها.
"خاتمة": اشتمل كتاب الأيمان والنذور والكفارة والملحقة به من الأحاديث المرفوعة على مائة وسبعة وعشرين حديثا، المعلق منها فيه وفيما مضى ستة وعشرون والبقية موصولة، والمكرر منها فيه وفيما مضى مائة وخمسة عشر والخالص اثنا عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة عن أبي بكر، وحديثها "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وحديث ابن عباس في قصة أبي إسرائيل، وحديثه "أعوذ بعزتك" وحديث عبد الله بن عمرو في اليمين الغموس، وحديث ابن عمر في نذر وافق يوم عيد. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم عشرة آثار. والله المستعان.

(11/617)


المجلد الثاني عشر
كتاب الفرائض
باب قول الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ...} الآية
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
85- كِتَاب الْفَرَائِضِ
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
6723- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ"
قوله: "كتاب الفرائض" جمع فريضة كحديقة وحدائق، والفريضة فعيلة بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض. وهو القطع، يقال فرضت لفلان كذا أي قطعت له شيئا من المال قاله الخطابي، وقيل هو من فرض القوس وهو الحز الذي في طرفيه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول، وقيل الثاني خاص بفرائض الله وهي ما ألزم به عباده. وقال الراغب: الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى :{نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي مقدرا أو معلوما أو مقطوعا عن غيرهم. قوله: "وقول الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أفاد السهيلي أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المضارع لا بلفظ الفعل الماضي كما في قوله تعالى:{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}و{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم كما سيأتي بيانه قريبا في " باب ميراث الزوج: قال: وأضاف الفعل إلى اسم المظهر تنويها بالحكم وتعظيما له وقال: {فِي أَوْلادِكُمْ} ولم يقل بأولادكم إشارة إلى الأمر بالعدل فيهم، ولذلك لم يخص الوصية بالميراث بل أتى باللفظ عاما وهو كقوله:

(12/3)


"لا أشهد على جور" وأضاف الأولاد إليهم مع أنه الذي أوصى بهم إشارة إلى أنه أرحم بهم من آبائهم. قوله: "إلى قوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}" كذا لأبي ذر، وأما غيره فساق الآية الأولى وقال بعد قوله عليما حكيما إلى قوله :{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وذكر فيه حديث جابر "مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي "فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث" هكذا وقع في رواية قتيبة، وقد تقدم في تفسير سورة النساء أن مسلما أخرجه عن عمرو الناقد عن سفيان وهو ابن عيينة شيخ قتيبة فيه وزاد في آخره {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وبينت هناك أن هذه الزيادة مدرجة وأن الصواب ما أخرجه الترمذي من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة "حتى نزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ" وأما قول البخاري في الترجمة "إلى والله عليم حليم" فأشار به إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} وقد سبق في آخر تفسير النساء ما أخرجه النسائي من وجه آخر عن جابر أن "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" نزلت فيه، وقد أشكل ذلك قديما قال ابن العربي بعد أن ذكر الروايتين في إحداهما فنزلت يستفتونك وفي أخرى آية المواريث: هذا تعارض لم يتفق بيانه إلى الآن ثم أشار إلى ترجيح آية المواريث وتوهيم يستفتونك، ويظهر أن يقال أن كلا من الآيتين لما كان فيها ذكر الكلالة نزلت في ذلك، لكن الآية الأولى لما كانت الكلالة فيها خاصة بميراث الإخوة من الأم كما كان ابن مسعود يقرأ: "وله أخ أو أخت من أم" وكذا قرأ سعد بن أبي وقاص أخرجه البيهقي بسند صحيح استفتوا عن ميراث غيرهم من الإخوة فنزلت الأخيرة، فيصح أن كلا من الآيتين نزل في قصة جابر، لكن المتعلق به من الآية الأولى ما يتعلق بالكلالة، وأما سبب نزول أولها فورد من حديث جابر أيضا في قصة ابنتي سعد بن الربيع ومنع عمهما أن يرثا من أبيهما فنزلت يوصيكم الله الآية فقال للعم أعط ابنتي سعد الثلثين، وقد بينت سياقه من وجه آخر هناك وبالله التوفيق. قد وقع في بعض طرق حديث جابر المذكور في الصحيحين "فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة" وقوله: "فلم يجبني بشيء" استدل به على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجتهد، ورد بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القصة الخاصة عموم ذلك في كل قصة ولا سيما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيه، سلمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها لكن لعله كان ينتظر الوحي أولا فإن لم ينزل اجتهد، فلا يدل على نفي الاجتهاد مطلقا.

(12/4)


2- باب تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ يَعْنِي الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ
6724- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا"
قوله: "باب تعليم الفرائض، وقال عقبة بن عامر: تعلموا قبل الظانين، يعني الذين يتكلمون بالظن" هذا الأثر لم أظفر به موصولا، وقوله: "قبل الظانين" فيه إشعار بأن أهل ذلك العصر كانوا يقفون عند النصوص ولا يتجاوزونها، وإن نقل عن بعضهم الفتوى بالرأي فهو قليل بالنسبة، وفيه إنذار بوقوع ما حصل من كثرة القائلين بالرأي. وقيل مراده قبل اندراس العلم وحدوث من يتكلم بمقتضى ظنه غير مستند إلى علم. قال ابن المنير: وإنما خص البخاري قول عقبة بالفرائض لأنها أدخل فيه من غيرها، لأن الفرائض الغالب عليها التعبد

(12/4)


وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة الحديث المرفوع للترجمة. وقيل وجه المناسبة أن فيه إشارة إلى أن النهي عن العمل بالظن يتضمن الحث على العمل بالعلم وذلك فرع تعلمه، وعلم الفرائض يؤخذ غالبا بطريق العلم كما تقدم تقريره. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال لما كان في الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانا " يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي: إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة " تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي " وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري بلفظ "تعلموا الفرائض وعلموها الناس " أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف، وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا " تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن " وفي لفظ عنه " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وعن ابن مسعود موقوفا أيضا: "من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض " ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم. ثم ذكر حديث أبي هريرة "إياكم والظن" الحديث وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في " باب ما ينهي عن التحاسد " في أوائل كتاب الأدب، وتقدم شرحه مستوفى وفيه بيان المراد بالظن هنا وأنه الذي لا يستند إلى أصل، ويدخل فيه ظن السوء بالمسلم، وابن طاوس المذكور في السند هو عبد الله.
وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة الحديث المرفوع للترجمة. وقيل وجه المناسبة أن فيه إشارة إلى أن النهي عن العمل بالظن يتضمن الحث على العمل بالعلم وذلك فرع تعلمه، وعلم الفرائض يؤخذ غالبا بطريق العلم كما تقدم تقريره. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال لما كان في الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانا " يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي: إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة " تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي " وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري بلفظ "تعلموا الفرائض وعلموها الناس " أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف، وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا " تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن " وفي لفظ عنه " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وعن ابن مسعود موقوفا أيضا: "من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض " ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم. ثم ذكر حديث أبي هريرة "إياكم والظن" الحديث وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في " باب ما ينهي عن التحاسد " في أوائل كتاب الأدب، وتقدم شرحه مستوفى وفيه بيان المراد بالظن هنا وأنه الذي لا يستند إلى أصل، ويدخل فيه ظن السوء بالمسلم، وابن طاوس المذكور في السند هو عبد الله.

(12/5)


باب قول النبي صلى الله عليه و سلم لا نورث ، ما تركنا صدقة
...
3 -باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ
6725- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَيْهِمَا مِنْ فَدَكَ وَسَهْمَهُمَا مِنْ خَيْبَرَ
6726- فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لاَ أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلاَّ صَنَعْتُهُ، قَالَ فَهَجَرَتْهُ

(12/5)


فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ
6727- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ".
6728- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ذَلِكَ قَالاَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ قَدِيرٌ فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ فَتَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ وَلِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا مَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا.
6729- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ".

(12/6)


6730- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَلَيْسَ قَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" ؟
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا صدقة" هو بالرفع أي المتروك عنا صدقة وادعى الشيعة أنه بالنصب على أن ما نافية ورد عليهم بأن الرواية ثابتة بالرفع، وعلى التنزل فيجوز النصب على تقدير حذف تقديره ما تركنا مبذول صدقة قاله ابن مالك، وينبغي الإضراب عنه والوقوف مع ما ثبتت به الرواية. وذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث أبي بكر في ذلك وقصته مع فاطمة، قد مضى في فرض الخمس مشروحا وسياقه أتم مما هنا، وقوله فيه: "إنما يأكل آل محمد من هذا المال " كذا وقع وظاهره الحصر وأيهم لا يأكلون إلا من هذا المال، وليس ذلك مرادا وإنما المراد العكس وتوجيهه أن من للتبعيض والتقدير إنما يأكل آل محمد بعض هذا المال يعني بقدر حاجتهم وبقيته للمصالح. ثانيها حديث عائشة بلفظ الترجمة، وأورده آخر الباب بزيادة فيه. ثالثها حديث عمر في قصة علي والعباس مع عمر في منازعتهما في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قول عمر لعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بي أبي وقاص والزبير بن العوام: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة " يريد نفسه؟ فقالوا: قد قال ذلك. وفيه أنه قال مثله لعلي وللعباس فقالا كذلك الحديث بطوله، وقد مضى مطولا في فرض الخمس وذكر شرحه هناك. "تنبيهات": الراء من قوله: "لا نورث " بالفتح في الرواية، ولو روي بالكسر لصح المعنى أيضا، وقوله: فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا للأكثر، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني خاصة، وقوله: لقد أعطاكموه " أي المال في رواية الكشميهني: أعطاكموها أي الخالصة له، وقوله: "فوالله الذي بإذنه" في رواية الكشميهني بحذف الجلالة. رابعها حديث أبي هريرة وإسماعيل شيخه هو ابن أبي أويس المدني ابن أخت مالك وقد أكثر عنه، وأما إسماعيل بن أبان شيخه في الحديث الذي قبله بحديث فلا رواية له عن مالك. قوله: "لا يقتسم" كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني وللباقين "لا يقسم" بحذف التاء الثانية، قال ابن التين: الرواية في الموطأ وكذا قرأته في البخاري برفع الميم على أنه خبر والمعنى ليس يقسم، ورواه بعضهم بالجزم كأنه نهاهم إن خلف شيئا لا يقسم بعده، فلا تعارض بين هذا وما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث الخزاعي "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما" ويحتمل أن يكون الخبر بمعنى النهي فيتحد معنى الروايتين، ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يخلف شيئا مما جرت العادة بقسمته كالذهب والفضة وأن الذي يخلفه من غيرهما لا يقسم أيضا بطريق الإرث بل تقسم منافعه لمن ذكر. قوله: "ورثتي" أي بالقوة لو كنت ممن يورث، أو المراد لا يقسم مال تركه لجهة الإرث فأتى بلفظ: "ورثتي " ليكون الحكم معللا بما به الاشتقاق وهو الإرث، فالمنفي اقتسامهم بالإرث عنه قاله السبكي الكبير. قوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" تقدم الكلام على المراد بقوله: "عاملي" في أوائل فرض الخمس مع شرح الحديث وحكيت فيه ثلاثة أقوال، ثم وجدت في "الخصائص لابن دحية " حكاية قول رابع أن المراد خادمه وعبر عن العامل على الصدقة بالعامل على النخل وزاد أيضا وقيل الأجير،

(12/7)


ويتحصل من المجموع خمسة أقوال: الخليفة والصانع والناظر والخادم وحافر قبره عليه الصلاة والسلام، وهذا إن كان المراد بالخادم الجنس، وإلا فإن كان الضمير للنخل فيتحد مع الصانع أو الناظر، وقد ترجم المصنف عليه في أواخر الوصايا " باب نفقة قيم الوقف " وفيه إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر. ومما يسأل عنه تخصيص النساء بالنفقة والمؤنة بالعامل وهل بينهما مغايرة؟ وقد أجاب عنه السبكي الكبير بأن المؤنة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بذل القوت، قال: وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة، والسر في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بد لهن من القوت فاقتصر على ما يدل عليه، والعامل لما كان في صورة الأجير فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدل عليه انتهى ملخصا، ويؤيده قول أبي بكر الصديق " إن حرفتي كانت تكفي عائلتي فاشتغلت عن ذلك بأمر المسلمين " فجعلوا له قدر كفايته. ثم قال السبكي: لا يعترض بأن عمر كان فضل عائشة في العطاء لأنه علل ذلك بمزيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. قلت: وهذا ليس مما بدأ به لأن قسمة عمر كانت من الفتوح، وأما ما يتعلق بحديث الباب ففيما يتعلق بما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يبدأ منه بما ذكر، وأفاد رحمه الله أنه يدخل في لفظ: "نفقة نسائي " كسوتهن وسائر اللوازم وهو كما قال، ومن ثم استمرت المساكن التي كن فيها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم كل واحدة باسم التي كانت فيه، وقد تقدم تقرير ذلك في أول فرض الخمس، وإذا انضم قوله: "إن الذي تخلفه صدقة" إلى أن آله تحرم عليهم الصدقة تحقق قوله: "لا نورث" وفي قول عمر "يريد نفسه" إشارة إلى أن النون في قوله: "نورث" للمتكلم خاصة لا للجمع، وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ: "نحن " لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" الحديث أخرجه عن محمد ابن منصور عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدار قطني في "العلل" من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السلام عن أبي بكر الصديق بلفظ: "إن الأنبياء لا يورثون" قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك والله أعلم أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرا كما قال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في أن لا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم، قال: وقوله تعالى :{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة، وكذا قول زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ونقله عن الحسن البصري عياض في" شرح مسلم: "وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله تعالى حكاية عن زكريا {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} قال: العصبة. ومن قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة، ومن طريق قتادة عن الحسن نحوه لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه مرسلا " رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من يرث ماله". قلت: وعلى تقدير تسليم القود المذكور فلا معارض من القرآن لقول نبينا عليه الصلاة والسلام "لا نورث ما تركنا صدقة" فيكون ذلك من

(12/8)


خصائصه التي أكرم بها، بل قول عمر "يريد نفسه" يؤيد اختصاصه بذلك، وأما عموم قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} إلخ فأجيب عنها بأنها عامة فيمن ترك شيئا كان يملكه، وإذا ثبت أنه وقفه قبل موته فلم يخلف ما يورث عنه فلم يورث، وعلى تقدير أنه خلف شيئا مما كان يملكه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص لما عرف من كثرة خصائصه، وقد اشتهر عنه أنه لا يورث فظهر تخصيصه بذلك دون الناس. وقيل الحكمة في كونه لا يورث حسم المادة في تمني الوارث موت المورث من أجل المال، وقيل لكون النبي كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع، وهذا معنى الصدقة العامة. وقال ابن المنير في الحاشية: يستفاد من الحديث أن من قال داري صدقة لا تورث أنها تكون حبسا ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف أو الحبس، وهو حسن لكن هل يكون ذلك صريحا أو كناية؟ يحتاج إلى نية، وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات وأن الوقف لا يختص بالعقار لعموم قوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي " إلخ. ذكر حديث عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" أورده من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة، وهذا الحديث في الموطأ ووقع في رواية ابن وهب عن مالك حدثني ابن شهاب، وفي الموطأ للدار قطني من طريق القعنبي "يسألنه ثمنهن" وكذا أخرجه من طريق جويرية بن أسماء عن مالك. وفي الموطأ أيضا أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق، وفيه فقالت لهن عائشة وفيه: "ما تركنا فهو صدقة" وظاهر سياقه أنه من مسند عائشة، وقد رواه إسحاق بن محمد الفروي عن مالك بهذا السند عن عائشة عن أبي بكر الصديق أورده الدار قطني في الغرائب وأشار إلى أنه تفرد بزيادة أبي بكر في مسنده، وهذا يوافق رواية معمر عن ابن شهاب المذكورة في أول هذا الباب فإن فيه عن عائشة أن أبا بكر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فذكره، فيحتمل أن تكون عائشة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه أبوها ويحتمل أن تكون إنما سمعته من أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلته عن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالب الأزواج ذلك والله أعلم.

(12/9)


باب قول النبي صلى الله عليه و سلم (( من ترك مالا فلأهله ))
...
4 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ"
6731- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ".
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك مالا فلأهله" هذه الترجمة لفظ الحديث المذكور في الباب من طريق أخرى عن أبي سلمة، وأخرجه الترمذي في أول كتاب الفرائض من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وبعده "ومن ترك ضياعا فإلي" وقال بعده: رواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أطول من هذا. قوله في السند "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد، وقد بينت في الكفالة الاختلاف على الزهري في صحابية وأن معمرا انفرد عنه بقوله: "عن جابر" بدل "أبي هريرة". قوله: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" هكذا أورد، مختصرا، وتقدم في الكفالة من طريق عقيل عن ابن شهاب بذكر سببه في أوله ولفظه:

(12/9)


إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول: "هل ترك لدينه قضاء؟ فإن قيل نعم صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" الحديث، وتقدم في الفرض وفي تفسير الأحزاب من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة بلفظ: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} " الحديث وفي حديث جابر عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه" وقوله هنا "فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه" يخص ما أطلق في رواية عقيل بلفظ: "فمن توفي من المؤمنين وترك دينا فعلي قضاؤه " وكذا قوله في الرواية الأخرى في تفسير الأحزاب " فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه أو وليه " فعرف أنه مخصوص بمن لم يترك وفاء، وقوله: "فليأتني " أي من يقوم مقامه في السعي في وفاء دينه، أو المراد صاحب الدين، وأما الضمير في قوله: "مولاه " فهو للميت المذكور، وسيأتي بعد قليل من رواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فأنا وليه فلا دعي له " وقد تقدم شرح ما يتعلق بهذا الشق في الكفالة وبيان الحكمة في ترك الصلاة على من مات وعليه دين بلا وفاء وأنه كان إذا وجد من يتكفل بوفائه صلى عليه وأن ذلك كان قبل أن يفتح الفتوح كما في رواية عقيل، وهل كان ذلك من خصائصه أو يجب على ولاة الأمر بعده؟ والراجح الاستمرار، لكن وجوب الوفاء. إنما هو من مال المصالح. ونقل ابن بطال وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يتبرع بذلك، وعلى هذا لا يجب على من بعده، وعلى الأول قال ابن بطال: فإن لم يعط الإمام عنه من بيت المال لم يحبس عن دخول الجنة لأنه يستحق القدر الذي عليه في بيت المال ما لم يكن دينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلا. قلت: والذي يظهر أن ذلك يدخل في المقاصة، وهو كمن له حق وعليه حق، وقد مضى أنهم إذا خلصوا من الصراط حبسوا عند قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون المظالم حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فيحمل قوله لا يحبس أي معذبا مثلا والله أعلم. قوله: "ومن ترك مالا فلورثته" أي فهو لورثته وثبتت كذلك هنا في رواية الكشميهني وكذا لمسلم. وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة " فليرثه عصبته من كانوا " ولمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة " فإلى العصبة من كان " وسيأتي بعد قليل من رواية عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فما له لموالي العصبة " أي أولياء العصبة، قال الداودي: المراد بالعصبة هنا الورثة لا من يرث بالتعصيب، لأن العاصب في الاصطلاح من له سهم مقدر من المجمع على توريثهم ويرث كل المال إذا انفرد ويرث ما فضل بعد الفروض بالتعصيب، وقيل المراد بالعصبة هنا قرابة الرجل وهم من يلتقي مع الميت في أب ولو علا، سموا بذلك لأنهم يحيطون به يقال عصب الرجل بفلان أحاط به ومن ثم قيل تعصب لفلان أي أحاط به. وقال الكرماني: المراد العصبة بعد أصحاب الفروض، قال: ويؤخذ حكم أصحاب الفروض من ذكر العصبة بطريق الأولى، ويشير إلى ذلك قوله: "من كانوا " فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه بالنفس أو بالغير، قال ويحتمل أن تكون من شرطية.

(12/10)


باب ميراث الولد من أبيه و أمه
...
5- باب مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا تَرَكَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بُدِئَ بِمَنْ شَرِكَهُمْ فَيُؤْتَى فَرِيضَتَهُ فَمَا بَقِيَ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ

(12/10)


6732- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
[الحديث 6732- أطرافه في: 6735 ، 6737 ، 6746]
قوله: "باب ميراث الولد من أبيه وأمه" لفظ الولد أعم من الذكر والأنثى ويطلق على الولد للصلب وعلى ولد الولد وإن سفل، قال ابن عبد البر: أصل ما بنى عليه مالك والشافعي وأهل الحجاز ومن وافقهم في الفرائض قول زيد بن ثابت، وأصل ما بنى عليه أهل العراق ومن وافقهم فيها قول علي بن أبي طالب، وكل من الفريقين لا يخالف قول صاحبه إلا في اليسير النادر إذا ظهر له مما يجب عليه الانقياد إليه. قوله: "وقال زيد بن ثابت إلخ" وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد بن ثابت عن أبيه فذكر مثله سواء إلا أنه قال بعد قوله وإن كان معهن ذكر فلا فريضة لأحد منهن ويبدأ بمن شركهم فيعطى فريضته فما بقي بعد ذلك فللذكر مثل حظ الأنثيين، قال ابن بطال: قوله: "وإن كان معهن قال شركهم ولم يقل شركهن فيعطى الأب مثلا فرضه ويقسم ما بقي بين الابن والبنات للذكر مثل حظ الأنثيين، قال: وهذا تأويل حديث الباب وهو قوله ألحقوا الفرائض بأهلها. قوله: "ابن طاوس" هو عبد الله. قوله: "عن ابن عباس" قيل تفرد وهيب بوصله، ورواه الثوري عن ابن طاوس لم يذكر ابن عباس بل أرسله أخرجه النسائي والطحاوي وأشار النسائي إلى ترجيح الإرسال ورجح عند صاحبي " صحيح الموصول " لمتابعة روح بن القاسم وهيبا عندهما ويحيى بن أيوب عند مسلم وزياد بن سعد وصالح عند الدار قطني، واختلف على معمر فرواه عبد الرزاق عنه موصولا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ورواه عبد الله بن المبارك عن معمر والثوري جميعا مرسلا أخرجه الطحاوي، ويحتمل أن يكون حمل رواية معمر على رواية الثوري وإنما صححاه لأن الثوري وإن كان أحفظ منهم لكن العدد الكثير يقاومه، وإذا تعارض الوصل والإرسال ولم يرجح أحد الطريقين قدم الوصل والله أعلم. قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن، ووقع في رواية روح ابن القاسم عن ابن طاوس " اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله " أي على وفق ما أنزل في كتابه. قوله: "فما بقي" في رواية روح بن القاسم فما تركت أي أبقت. قوله: "فهو لأولى" في رواية الكشميهني: "فلأولى " بفتح الهمزة واللام بينهما واو ساكنة أفعل تفضيل من الولي بسكون اللام وهو القرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث، وليس المراد هنا الأحق، وقد حكى عياض أن في رواية ابن الحذاء عن ابن ماهان في مسلم: "فهو لأدنى " بدال ونون وهي بمعنى الأقرب، قال الخطابي: المعنى أقرب رجل من العصبة. وقال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد فإن استووا اشتركوا، قال: ولم يقصد في هذا الحديث من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة، كذا قال ابن المنير. وقال ابن التين إنما المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع

(12/11)


ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى :{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ويستثنى من ذلك من يحجب كالأخ للأب مع البنت والأخت الشقيقة وكذا يخرج الأخ والأخت لأم لقوله تعالى :{فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقد نقل الإجماع على أن المراد بها الأخوة من الأم، وسيأتي مزيد في هذا في. "باب ابني عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج". قوله: "رجل ذكر" هكذا في جميع الروايات، ووقع في كتب الفقهاء كصاحب النهاية وتلميذه الغزالي " فلأولى عصبة ذكر " قال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة ليست محفوظة، وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة فضلا عن الرواية فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد، كذا قال والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدل عليه ما وقع في بعض طرق حديث أبي هريرة الذي في الباب قبله " فليرثه عصبته من كانوا " قال ابن دقيق العيد: قد استشكل بأن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي بعد الفروض، والجواب أنه من طريق المفهوم، وقد اختلف هل له عموم؟ وعلى التنزل فيخص بالخبر الدال على أن الأخوات عصبات البنات، وقد استشكل التعبير بذكر بعد التعبير برجل فقال الخطابي: إنما كرر للبيان في نعته بالذكورة ليعلم أن العصبة إذا كان عما أو ابن عم مثلا وكان معه أخت له أن الأخت لا ترث ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وتعقب بأن هذا ظاهر من التعبير بقوله: "رجل " والإشكال باق إلا أن كلامه ينحل إلى أنه للتأكيد، وبه جزم غيره كابن التين قال: ومثله ابن لبون ذكر، وزيفه القرطبي فقال: قيل إنه للتأكيد اللفظي، ورد بأن العرب إنما تؤكد حيث يفيد فائدة إما تعين المعنى في النفس وإما رفع توهم المجاز وليس ذلك موجوداً هنا. وقال غيره: هذا التوكيد لمتعلق الحكم وهو الذكورة، لأن الرجل قد يراد به معنى النجدة والقوة في الأمر، فقد حكى سيبويه مررت برجل رجل أبوه فلهذا احتاج الكلام إلى زيادة التوكيد بذكر حتى لا يظن أن المراد به خصوص البالغ، وقيل خشية أن يظن بلفظ رجل الشخص وهو أعم من الذكر والأنثى. وقال ابن العربي: في قوله ذكر الإحاطة بالميراث إنما تكون للذكر دون الأنثى، ولا: يرد قول من قال إن البنت تأخذ جميع المال لأنها إنما تأخذه بسببين متغايرين والإحاطة مختصة بالسبب الواحد وليس إلا الذكر فلهذا نبه عليه بذكر الذكورية، قال: وهذا لا يتفطن له كل مدع. وقيل إنه احتراز عن الخنثى في الموضعين فلا تؤخذ الخنثى في الزكاة ولا يحرز الخنثى المال إذا انفرد، وقيل للاعتناء بالجنس، وقيل للإشارة إلى الكمال في ذلك كما يقال امرأة أنثى، وقيل لنفي توهم اشتراك الأنثى معه لئلا يحمل على التغليب، وقيل ذكر تنبيها على سبب الاستحقاق بالعصوبة وسبب الترجيح في الإرث ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين وحكمته أن الرجال تلحقهم المؤن كالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين ومواساة السائلين وتحمل الغرامات وغير ذلك، هكذا قال النووي، وسبقه القاضي عياض فقال: قيل هو على معنى اختصاص الرجال بالتعصيب بالذكورية التي بها القيام على الإناث، وأصله للمازري فإنه قال بعد أن ذكر استشكال ما ورد في هذا وهو رجل ذكر وفي الزكاة ابن لبون ذكر قال والذي يظهر لي أن قاعدة الشرع في الزكاة الانتقال من سن إلى أعلى منها ومن عدد إلى أكثر منه وقد جعل في خمسة وعشرين بنت مخاض وسنا أعلى منها وهو ابن لبون فقد يتخيل أنه على خلاف القاعدة وأن السنين كالسن الواحد لأن ابن اللبون أعلى سنا لكنه أدنى قدرا فنبه بقوله ذكر على أن الذكورية تبخسه حتى يصير مساويا لبنت مخاض مع كونها أصغر سنا منه، وأما في الفرائض

(12/12)


فلما علم أن الرجال هم القائمون بالأمور وفيهم معنى التعصيب وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء فعبر بلفظ ذكر إشارة إلى العلة التي لأجلها اختص بذلك، فهما وإن اشتركا في أن السبب في وصف كل منهما بذكر التنبيه على ذلك لكن متعلق التنبيه فيهما مختلف، فإنه في ابن اللبون إشارة إلى النقص وفي الرجل إشارة إلى الفضل، وهذا قد لخصه القرطبي وارتضاه. وقيل إنه وصف لأولى لا لرجل قاله السهيلي وأطال في تقريره وتبجح به فقال: هذا الحديث أصل في الفرائض وفيه إشكال وقد تلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى من أوتى جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا فقالوا: هو نعت لرجل، وهذا لا يصح لعدم الفائدة لأنه لا يتصور أن يكون الرجل إلا ذكرا وكلامه أجل من أن يشتمل على حشو لا فائدة فيه ولا يتعلق به حكم، ولو كان كما زعموا لنقص فقه الحديث لأنه لا يكون فيه بيان حكم الطفل الذي لم يبلغ سن الرجولية، وقد اتفقوا على أن الميراث يجب له ولو كان ابن ساعة فلا فائدة في تخصيصه بالبالغ دون الصغير، قال: والحديث إنما سبق لبيان من يستحق الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، ولو كان كما زعموا لم يكن فيه تفرقة بين قرابة الأب وقرابة الأم، قال فإذا ثبت هذا فقوله: "أولى رجل ذكر " يريد القريب في النسب الذي قرابته من قبل رجل وصلب لا من قبل بطن ورحم، فالأولى هنا هو ولي الميت فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ وهو في اللفظ مضاف إلى النسب وهو الصلب فعبر عن الصلب بقوله: "أولى رجل" لأن الصلب لا يكون إلا رجلا فأفاد بقوله: "لأولى رجل" نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبل الأم كالخال، وأفاد بقوله: "ذكر" نفي الميراث عن النساء وإن كن من المدلين إلى الميت من قبل صلب لأنهن إناث، قال: وسبب الإشكال من وجهين أحدهما أنه لما كان مخفوضا ظن نعتا لرجل ولو كان مرفوعا لم يشكل كأن يقال فوارثه أولى رجل ذكر، والثاني أنه جاء بلفظ أفعل وهذا الوزن إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه كفلان أعلم إنسان فمعناه أعلم الناس فتوهم أن المراد بقوله: "أولى رجل" أولى الرجال وليس كذلك وإنما هو أولى الميت بإضافته النسب وأولى صلب بإضافته كما تقول هو أخوك أخو الرخاء لا أخو البلاء، قال: فالأولى في الحديث كالولي. فإن قيل كيف يضاف للواحد وليس بجزء منه؟ فالجواب إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإن لم يكن جزءا منه كقوله صلى الله عليه وسلم في البر "بر أمك ثم أباك ثم أدناك " قال وعلى هذا فيكون في هذا الكلام الموجز من المتانة وكثرة المعاني ما ليس في غيره، فالحمد لله الذي وفق وأعان انتهى كلامه. ولا يخلو من استغلاق. وقد لخصه الكرماني فقال: ذكر صفة لأولى لا لرجل، والأولى بمعنى القريب الأقرب فكأنه قال: فهو لقريب الميت ذكر من جهة رجل وصلب لا من جهة بطن ورحم، فالأولى من حيث المعنى مضاف إلى الميت، وأشير بذكر الرجل إلى الأولوية فأفاد بذلك نفي الميراث عن الأولى الذي من جهة الأم كالخال، وبقوله ذكر نفيه عن النساء بالعصوبة وإن كن من المدلين للميت من جهة الصلب انتهى. وقد أوردته كما وجدته ولم أحذف منه إلا أمثلة أطال بها وكلمات طويلة تبجح بها بسبب ما ظهر له من ذلك، والعلم عند الله تعالى. قال النووي: أجمعوا على أن الذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع عاصب قريب، والعصبة كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له. قال القرطبي: وأما تسمية الفقهاء الأخت مع البنت عصبة فعلى سبيل التجوز لأنها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت  العاصب، قلت: وقد ترجم البخاري بذلك كما سيأتي قريبا. قال الطحاوي: استدل قوم - يعني ابن عباس ومن تبعه - بحديث ابن عباس على أن من خلف بنتا وأخا شقيقا وأختا شقيقة كان لابنته النصف وما بقي لأخيه ولا شيء لأخته ولو كانت شقيقة، وطردوا ذلك فيما لو كان مع الأخت الشقيقة عصبة فقالوا لا شيء لها مع البنت بل الذي يبقى بعد البنت للعصبة ولو بعدوا، واحتجوا أيضا بقوله تعالى:{ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} قالوا: فمن أعطى الأخت مع البنت خالف ظاهر القرآن. قال: واستدل عليهم بالاتفاق على أن من ترك بنتا وابن ابن وبنت ابن متساويين أن للبنت النصف وما بقي بين ابن الابن وبنت الابن ولم يخصوا ابن الابن بما بقي لكونه ذكرا بل ورثوا معه شقيقته وهي أنثى، قال فعلم بذلك أن حديث ابن عباس ليس على عمومه بل هو في شيء خاص وهو ما إذا ترك بنتا وعما وعمة فإن للبنت النصف وما بقي للعم دون العمة إجماعا قال: فاقتضى النظر ترجيح إلحاق الأخت مع الأخ بالابن والبنت لا بالعم والعمة، لأن الميت لو لم يترك إلا أخا وأختا شقيقتين فالمال بينهما، فكذلك لو ترك ابن ابن وبنت ابن، بخلاف ما لو ترك عما وعمة فإن المال كله للعم دون العمة باتفاقهم، قال: وأما الجواب عما احتجوا به من الآية فهو أنهم أجمعوا على أن الميت لو ترك بنتا وأخا لأب كان للبنت النصف وما بقي للأخ، وأن معنى قوله تعالى :{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} إنما هو ولد يحوز المال كله لا الولد الذي لا يحوز، وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأب ثم الجد والأخ إذا انفرد واحد منهما، فإن اجتمعا فسيأتي حكمه، ثم بنو الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا ومن أدلى بأبوين يقدم على من أدلى بأب لكن يقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين ويقدم ابن أخ لأب على عم لأبوين ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين، واستدل به البخاري على أن ابن الابن يحوز المال إذا لم يكن دونه ابن وعلى أن الجد يرث جميع المال. إذا لم يكن دونه أب وعلى أن الأخ من الأم إذا كان ابن عم يرث بالفرض والتعصيب، وسيأتي جميع ذلك والبحث فيه.

  6- باب مِيرَاثِ الْبَنَاتِ
6733- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا فَأَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَتِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ "قَالَ: لاَ"، قَالَ: قُلْتُ فَالشَّطْرُ، "قَالَ: لاَ" قُلْتُ: الثُّلُثُ قَالَ: "الثُّلُثُ كَبِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آأُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي فَقَالَ: "لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً وَلَعَلَّ أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ" قَالَ سُفْيَانُ: وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ

  6734- حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا وَأَمِيرًا فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ فَأَعْطَى الِابْنَةَ النِّصْفَ وَالأُخْتَ النِّصْفَ"
[الحديث 6734- طرفه في: 6741]
قوله: "باب ميراث البنات" الأصل فيه كما تقدم في أول كتاب الفرائض قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقد تقدمت الإشارة إليه وإلى سبب نزولها وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات كما حكاه أبو جعفر بن حبيب في "كتاب المحبر" وحكى أن بعض عقلاء الجاهلية ورث البنت لكن سوى بينها وبين الذكر وهو عامر بن جشم بضم الجيم وفتح المعجمة، وقد تمسك بالسبب المذكور من أجاب عن السؤال المشهور في قوله تعالى :{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} حيث قيل ذكر في الآية حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن دون الانفراد وذكر حكم البنت الواحدة في الحالين وكذا حكم ما زاد على البنتين، وقد انفرد ابن عباس بان حكمهما حكم الواحدة وأبى ذلك الجمهور، واختلف في مأخذهم فقيل حكمهما حكم الثلاث فما زاد، ودليله بيان السنة فإن الآية لما كانت محتملة بينت السنة أن حكمهما حكم ما زاد عليهما، وذلك واضح في سبب النزول فإن العم لما منع البنتين من الإرث وشكت ذلك أمهما قال صلى الله عليه وسلم لها " يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل إلى العم فقال: "أعط بنتي سعد الثلثين " فلا يرد على ذلك أنه يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة فإنه بيان لا نسخ، وقيل بالقياس على الأختين وهما أولى لما يختص بهما من أنهما أمس رحما بالميت من أختيه فلا يقصر بهما عنهما، وقيل إن لفظ: "فوق" في الآية مقحم وهو غلط، وقال المبرد: يؤخذ من جهة أن أقل عدد يجتمع فيه الصنفان ذكر وأنثى فإن كان للواحدة الثلث كان للبنتين الثلثان، وقال إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن": يؤخذ ذلك من قوله تعالى :{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} لأنه يقتضي أنه إذا كان ذكر وأنثى فللذكر الثلثان وللأنثى الثلث، فإذا استحقت الثلث مع الذكر فاستحقاقها الثلث مع أنثى مثلها بطريق الأولى. وقال السهيلي: يؤخذ ذلك من المجيء بلام التعريف التي للجنس في قوله: "حظ الأنثيين، فإنه يدل على أنهما استحقا الثلثين وأن الواحدة لها مع الذكر الثلث، وكان ظاهر ذلك أنهن لو كن ثلاثا لاستوعبن المال فلذلك ذكر حكم الثلاث فما زاد واستغنى عن إعادة حكم الأنثيين لأنه قد تقدم بدلالة اللفظ. وقال صاحب "الكشاف": وجهه أن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالثنتان كذلك يحوزان الثلثين، فلما ذكر ما دل على حكم الثنتين ذكر بعده حكم ما فوق الثنتين وهو منتزع من كلام القاضي، وقرر الطيبي فقال: اعتبر القاضي الفاء في قوله تعالى :{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} لأن مفهوم ترتيب الفاء ومفهوم الوصف في قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} مشعران بذلك، فكأنه لما قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} علم بحسب الظاهر من عبارة النص حكم الذكر مع الأنثى إذا اجتمعا، وفهم منه بحسب إشارة النص حكم الثنتين لأن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالثنتان يحوزان الثلثين، ثم أراد أن يعلم حكم ما زاد على الثنتين فقال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} فمن نظر إلى عبارة النص قال أريد حالة الاجتماع دون الانفراد، ومن نظر إلى إشارة النص قال إن حكم الثنتين حكم الذكر مطلقا. واعترض على هذا التقرير بأنه ثبت بما ذكر أن لهما الثلثين في صورة

(12/15)


ما، وليست هي صورة الاجتماع دائما إذ ليس للبنتين مع الابن الثلثان، والجواب عنه عسر إلا إن انضم إليه أن الحديث بين ذلك، ويعتذر عن ابن عباس بأنه لم يبلغه فوقف مع ظاهر الآية وفهم أن قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} لانتفاء الزيادة على الثلثين لا لإثبات ذلك للثنتين، وكذا يرد على جواب السهيلي أن الاثنتين لا يستمر الثلثان حظهما في كل صورة والله أعلم. ذكر المصنف في الباب حديث سعد بن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد مضى شرحه مستوفى في الوصايا، والغرض منه قوله: "وليس يرثني إلا ابنتي " وقد تقدم أن الذي نفاه سعد أولاده وإلا فقد كان له من العصبات من يرثه، وحديث معاذ في توريث البنت والأخت سيأتي شرحه قريبا في " باب ميراث الأخوات مع البنات " من وجه آخر عن الأسود، وأبو النضر المذكور في سنده هو هشام بن هارون في القاسم وشيبان هو ابن عبد الرحمن والأشعث هو ابن أبي الشعثاء سليم المحاربي، وقد أخرجه يزيد بن هارون في "كتاب الفرائض" له عن سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن الأسود بن يزيد قال قضى ابن الزبير في ابنة وأخت فأعطى الابنة النصف وأعطى العصبة بقية المال، فقلت له إن معاذا قضى فيها باليمن فذكره قال فقال له أنت رسولي إلى عبد الله بن عتبة وكان قاضي الكوفة فحدثه بهذا الحديث، وأخرجه الدارمي والطحاوي من طريق الثوري نحوه.

(12/16)


7-باب مِيرَاثِ ابْنِ الِابْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ابْنٌ، وَقَالَ زَيْدٌ وَلَدُ الأَبْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُمْ وَلَدٌ ذَكَرُهُمْ كَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ كَأُنْثَاهُمْ يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ وَيَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ وَلاَ يَرِثُ وَلَدُ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ
6735- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
قوله: "ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن" أي للميت لصلبه سواء كان أباه أو عمه. قوله: "وقال زيد بن ثابت إلخ" وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد عن أبيه، وقوله: "بمنزلة الولد" أي للصلب وقوله: "إذا لم يكن دونهم" أي بينهم وبين الميت، وقوله: "ولد ذكر" احترز به عن الأنثى، وسقط لفظ ذكر من رواية الأكثر وثبت للكشميهني وهي في رواية سعيد بن منصور المذكورة، وقوله: "يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون " أي يرثون جميع المال إذا انفردوا ويحجبون من دونهم في الطبقة ممن بينه وبين الميت مثلا اثنان فصاعدا ولم يرد تشبيههم بهم من كل جهة، وقوله في آخره: "ولا يرث ولد الابن مع الابن" تأكيد لما تقدم، فإن حجب أولاد الابن بالابن إنما يؤخذ من قوله إذا لم يكن دونهم إلى آخره بطريق المفهوم. ثم ذكر حديث ابن عباس "ألحقوا الفرائض بأهلها" قد مضى شرحه قريبا، قال ابن بطال قال أكثر الفقهاء فيمن خلفت زوجا وأبا وبنتا وابن ابن وبنت ابن: تقدم الفروض فللزوج الربع وللأب السدس وللبنت النصف وما بقي بين ولدي الابن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كانت البنت أسفل من الابن فالباقي له دونها، وقيل الباقي له مطلقا لقوله فما بقي فلأولى رجل ذكر، وتمسك زيد بن ثابت والجمهور بقوله تعالى :{فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقد أجمعوا أن بني البنين ذكورا وإناثا كالبنين عند فقد البنين إذا استووا في التعدد، فعلى هذا تخص هذه الصورة من عموم "فلأولى رجل ذكر".

(12/16)


8- باب مِيرَاثِ ابْنَةِ ابْنِ مَعَ ابنة
6736- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو قَيْسٍ "سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ قَالَ: "سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ: ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ لاَ تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ"
[الحديث 6736- طرفه في: 6742]
قوله: "باب ميراث ابنة ابن مع ابنة" في رواية الكشميهني: "مع بنت". قوله: "حدثنا أبو قيس" هو عبد الرحمن بن ثروان بفتح المثلثة وسكون الراء، وهزيل بالزاي مصغر ووقع في كتب كثير من الفقهاء هذيل بالذال المعجمة وهو تحريف هو ابن شرحبيل وهو والراوي عنه كوفيان أوديان، ووقع في رواية النسائي من طريق وكيع عن سفيان "عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن". قوله: "سئل أبو موسى" في رواية غندر عن شعبة عند النسائي: "جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وهو الأمير وإلى سلمان بن ربيعة الباهلي فسألهما " وكذا أخرجه أبو داود من طريق الأعمش عن أبي قيس لكن لم يقل وهو الأمير، وكذا للترمذي وابن ماجه والطحاوي والدارمي من طرق عن سفيان الثوري بزيادة سلمان بن ربيعة مع أبي موسى، وقد ذكروا أن سلمان المذكور كان على قضاء الكوفة. قوله: "وائت ابن مسعود فسيتابعني" في رواية الأعمش والثوري المشار إليهما "فقال له أبو موسى وسلمان ابن ربيعة" وفيها أيضا: "فسيتابعنا" وهذا قاله أبو موسى على سبيل الظن لأنه اجتهد في المسألة ووافقه سلمان فظن أن ابن مسعود يوافقهما، ويحتمل أن يكون سبب قوله: "ائت ابن مسعود" الاستثبات. قوله: "فقال لقد ضللت إذا" قاله جوابا عن قول أبي موسى أنه سيتابعه، وأشار إلى أنه لو تابعه لخالف صريح السنة عنده وأنه لو خالفها عامدا لضل. قوله: "أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الدار قطني من طريق حجاج بن أرطاة عن عبد الرحمن بن مروان " فقال ابن مسعود كيف أقول " يعني مثل قول أبي موسى، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره. "فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود" فيه إشارة إلى أن هزيلا الراوي توجه مع السائل إلى ابن مسعود فسمع جوابه فعاد إلى أبي موسى معهم فأخبروه. قوله: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر" بفتح المهملة وبكسرها أيضا وسكون الموحدة حكاه الجوهري ورجح الكسر وجزم الفراء بأنه بالكسر وقال سمي باسم الحبر الذي يكتب به، وقال أبو عبيد الهروي هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين وأنكر أبو الهيثم الكسر، وقال الراغب سمي العالم حبرا لما يبقى من أثر علومه، وكانت هذه القصة في زمن عثمان هو الذي أمر أبا موسى على الكوفة وكان ابن مسعود قبل ذلك أميرها ثم عزل قبل ولاية أبي موسى عليها بمدة، قال ابن بطال: فيه أن العالم يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة ولا يتولى الجواب إلى أن يبحث عن ذلك، وفيه أن الحجة عند التنازع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليها، وفيه ما كانوا عليه من الإنصاف

(12/17)


والاعتراف بالحق والرجوع إليه، وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل، وكثرة اطلاع ابن مسعود على السنة، وتثبت أبي موسى في الفتيا حيث دل على من ظن أنه أعلم منه، قال: ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله. وقال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل سلمان أيضا رجع كأبي موسى، وسلمان المذكور مختلف في صحبته وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان واستشهد في زمن عثمان وكان يقال له سلمان الخيل لمعرفته بها، واستدل الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا على أن المراد بحديث ابن عباس "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" من يكون أقرب العصبات إلى الميت، فلو كان هناك عصبة أقرب إلى الميت ولو كانت أنثى كان المال الباقي لها، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأخوات من قبل الأب مع البنت عصبة فصرن مع البنات في حكم الذكور من قبل الإرث، وقال غيره: وجه كون الولد المذكور في قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ذكرا أنه الذي يسبق إلى الوهم من قول القائل قال ولد فلان كذا، فأول ما يقع في نفس السامع أن المراد الذكر وإن كان الإناث أيضا أولادا بالحقيقة ولكن هو أمر شائع وقد قال الله تعالى :{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} وقال حكاية عن الكافر الذي قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} والمراد بالأولاد والولد في هذه الآي الذكور دون الإناث لأن العرب ما كانت تتكاثر بالبنات فإذا حمل قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} على الولد الذكر لم يمنع الأخت الميراث مع البنت، وعلى تقدير أن يكون الولد في الآية أعم فإنه محتمل لأن يراد به العموم على ظاهره وأن يراد به خصوص الذكر فبينت السنة الصحيحة أن المراد به الذكور دون الإناث، قال ابن العربي: يؤخذ من قصة أبي موسى وابن مسعود جواز العمل بالقياس قبل معرفة الخبر، والرجوع إلى الخبر بعد معرفته، ونقض الحكم إذا خالف النص. قلت: ويؤخذ من صنيع أبي موسى أنه كان يرى العمل بالاجتهاد قبل البحث عن النص وهو لائق بمن يعمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وقد نقل ابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص، وتعقب بأن أبوي إسحاق الإسفرايني والشيرازي حكيا الخلاف، وقال أبو بكر الصيرفي وطائفة: وهو المشهور؛ وعن الحنفية يجب الانقياد للعموم في الحال، وقال ابن شريح وابن خيران والقفال: يجب البحث، قال أبو حامد: وكذا الخلاف في الأمر والنهي المطلق.

(12/18)


باب ميراث الجد مع الأب و الإخوة
...
9- باب مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الأَبِ وَالإِخْوَةِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ الْجَدُّ أَبٌ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَا بَنِي آدَمَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرِثُنِي ابْنُ ابْنِي دُونَ إِخْوَتِي وَلاَ أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِي وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ
6737- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"

(12/18)


6738- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَمَّا الَّذِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُهُ وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ" - أَوْ قَالَ - خَيْرٌ فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا أَوْ قَالَ قَضَاهُ – أَبًا
قوله: "باب ميراث الجد مع الأب والإخوة" المراد بالجد هنا من يكون من قبل الأب والمراد بالإخوة الأشقاء ومن الأب، وقد انعقد الإجماع على أن الجد لا يرث مع وجود الأب. قوله: "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير الجد أب" أي هو أب حقيقة لكن تتفاوت مراتبه بحسب القرب والبعد، وقيل المعنى أنه ينزل منزلة الأب في الحرمة ووجوه البر، والمعروف عن المذكورين الأول، قال يزيد بن هارون في كتاب الفرائض له أخبرنا محمد بن سالم عن الشعبي أن أبا بكر وابن عباس وابن الزبير كانوا يجعلون الجد أبا يرث ما يرث ويحجب ما يحجب، ومحمد بن سالم ضعيف والشعبي عن أبي بكر منقطع، وقد جاء من طريق أخرى، وإذا حمل ما نقله الشعبي على العموم لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه في صورة وهي أم الأب إذا علت تسقط بالأب ولا تسقط بالجد، واختلف في صورتين إحداهما أن بني العلات والأعيان يسقطون بالأب ولا يسقطون بالجد إلا عند أبي حنيفة ومن تابعه، والأم مع الأب وأحد الزوجين تأخذ ثلث ما بقي ومع الجد تأخذ ثلث الجميع إلا عند أبي يوسف فقال هو كالأب، وفي الإرث بالولاء صورة ثالثة فيها اختلاف أيضا، فأما قول أبي بكر وهو الصديق فوصله الدارمي بسند على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر الصديق جعل الجد أبا، وبسند صحيح إلى أبي موسى أن أبا بكر مثله، وبسند صحيح أيضا إلى عثمان بن عفان أن أبا بكر كان يجعل الجد أبا، وفي لفظ له أنه جعل الجد أبا إذا لم يكن دونه أب وبسند صحيح عن ابن عباس أن أبا بكر كان يجعل الجد أبا، وقد أسند المصنف في آخر الباب عن ابن عباس أن أبا بكر أنزله أبا، وكذا مضى في المناقب موصولا عن ابن الزبير أن أبا بكر أنزله أبا، وأما قول ابن عباس فأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الفرائض من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: الجد أب، وأخرج الدارمي بسند صحيح عن طاوس عنه أنه جعل الجد أبا. وأخرج يزيد بن هارون من طريق ليث عن طاوس أن عثمان وابن عباس كانا يجعلان الجد أبا. وأما قول ابن الزبير فتقدم في المناقب موصولا من طريق ابن أبي مليكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال: إن أبا بكر أنزله أبا، وفيه دلالة على أنه أفتاهم بمثل قول أبي بكر وأخرج يزيد بن هارون من طريق سعيد بن جبير قال: كنت كاتبا لعبد الله بن عتبة فأتاه كتب ابن الزبير أن أبا بكر جعل الجد أبا. قوله: "وقرأ ابن عباس: {يَا بَنِي آدَمَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أما احتجاج ابن عباس بقوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} فوصله محمد بن نصر من طريق عبد الرحمن بن معقل قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له كيف تقول في الجد؟ قال: أي أب لك أكبر؟ فسكت، وكأنه عيي عن جوابه، فقلت أنا: آدم، فقال أفلا تسمع إلى قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} أخرجه الدارمي من هذا الوجه. وأما احتجاجه بقوله تعالى :{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} فوصله سعيد بن منصور من طريق عطاء عن ابن عباس قال: الجد أب وقرأ: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} الآية، واحتج بعض من قال بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب " وإنما هو ابن ابنه. قوله: "ولم يذكر" هو بضم أوله على البناء للمجهول

(12/19)


قوله: "إن أحدا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون" كأنه يريد بذلك تقوية حجة القول المذكور فإن الإجماع السكوتي حجة وهو حاصل في هذا، وممن جاء عنه التصريح بأن الجد يرث ما كان يرث الأب عند عدم الأب غير من سماه المصنف معاذ وأبو الدرداء وأبو موسى وأبي بن كعب وعائشة وأبو هريرة، ونقل ذلك أيضا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود على اختلاف عنهم كما سيأتي، ومن التابعين عطاء وطاوس وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو الشعثاء وشريح والشعبي، ومن فقهاء الأنصار عثمان التيمي وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وداود وأبو ثور والمزني وابن سريح، وذهب عمر وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الإخوة مع الجد لكن اختلفوا في كيفية ذلك كما سيأتي بيانه. قوله: "وقال ابن عباس يرثني ابن ابني دون أخوتي ولا أرث أنا ابن ابني" وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء عنه قال فذكره. قال ابن عبد البر: وجه قياس ابن عباس أن ابن الابن لما كان كالابن عند عدم الابن كان أبو الأب عند عدم الأب كالأب، وقد ذكر من وافق ابن عباس في هذا توجيه قياسه المذكور من جهة أنهم أجمعوا على أنه كالأب في الشهادة له وفي العتق عليه وأنه لا يقتص منه وأنه ذو فرض أو عاصب وعلى أن من ترك ابنا وأبا أن للأب السدس والباقي للابن وكذا لو ترك جدة لأبيه وابنا وعلى أن الجد يضرب مع أصحاب الفروض بالسدس كما يضرب الأب سواء قيل بالعول أم لا، واتفقوا على أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجب الزوج عن النصف والمرأة عن الربع والأم عن الثلث كالابن سواء، فلو أن رجلا ترك أبويه وابن ابنه كان لكل من أبويه السدس وأن من ترك أبا جده وعمه أن المال لأبي جده دون عمه فينبغي أن يكون لوالد أبيه دون إخوته فيكون الجد أولى من أولاد أبيه كما أن أباه أولى من أولاد أبيه، وعلى أن الإخوة من الأم لا يرثون مع الجد كما لا يرثون مع الأب فحجبهم الجد كما حجبهم الأب فينبغي أن يكون الجد كالأب في حجب الإخوة وكذا القول في بني الإخوة ولو كانوا أشقاء؛ وقال السهيلي: لم ير زيد بن ثابت لاحتجاج ابن عباس بقوله تعالى :{يَا بَنِي آدَمَ} ونحوها مما ذكر عنه حجة لأن ذلك ذكر في مقام النسبة والتعريف فعبر بالبنوة ولو عبر بالولادة لكان فيه متعلق، ولكن بين التعبير بالولد والابن فرق، ولذلك قال تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ولم يقل في أبنائكم، ولفظ الولد يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع بخلاف الابن، وأيضا فلفظ الولد يليق بالميراث بخلاف الابن تقول ابن فلان من الرضاعة ولا تقول ولده، وكذا كان من يتبنى ولد غيره قال له ابني وتبناه ولا يقول ولدي ولا ولده ومن ثم قال في آية التحريم {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} إذ لو قال وحلائل أولادكم لم يحتج إلى أن يقول من أصلابكم لأن الولد لا يكون إلا من صلب أو بطن. قوله: "ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة" سقط ذكر زيد من شرح ابن بطال فلعله من النسخة، وقد أخذ بقوله جمهور العلماء وتمسكوا بحديث: "أفرضكم زيد" وهو حديث حسن أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من رواية أبي قلابة عن أنس وأعله بالإرسال، ورجحه الدار قطني والخطيب وغيرهما، وله متابعات وشواهد ذكرتها في تخريج أحاديث الرافعي، فأما عمر فأخرج الدارمي بسند صحيح عن الشعبي قال: "أول جد ورث في الإسلام عمر فأخذ ماله، فأتاه علي وزيد - يعني ابن ثابت - فقالا ليس لك ذلك إنما أنت كأحد الأخوين" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن غنم مثله دون قوله: "فأتاه إلخ" لكن قال: "فأراد عمر أن يحتاز المال فقلت له: يا أمير المؤمنين إنهم شجرة دونك، يعني بني أبيه، وأخرج الدار قطني

(12/20)


بسند قوي عن زيد بن ثابت أن عمر أتاه فذكر قصة فيها "أن مثل الجد كمثل شجرة نبتت على ساق واحد فخرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصن فإن قطعت الغصن رجع الماء إلى الساق وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول، فخطب عمر الناس فقال إن زيدا قال في الجد قولا وقد أمضيته" وأخرج الدارمي من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: "قال عمر خذ من الجد ما اجتمع عليه الناس" وهذا منقطع، وأخرج الدارمي من طريق عيسى الخياط عن الشعبي قال: "كان عمر يقاسم الجد مع الأخ والأخوين فإذا زادوا أعطاه الثلث وكان يعطيه مع الولد السدس" وأخرج البيهقي بسند صحيح عن يونس بن يزيد عن الزهري " حدثني سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيب أن عمر قضى أن الجد يقاسم الإخوة للأب والأم والإخوة للأب ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث، فإن كثر الإخوة أعطى الجد الثلث " وأخرج يزيد ابن هارون في كتاب الفرائض عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو قال: "إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا " وروينا في الجزء الحادي عشر من "فوائد أبي جعفر الرازي" بسند صحيح إلى ابن عون عن محمد بن سيرين " سألت عبيدة عن الجد فقال: قد حفظت عن عمر في الجد مائة قضية مختلفة " وقد استبعد بعضهم هذا عن عمر، وتأول البزار صاحب المسند قوله: "قضايا مختلفة" على اختلاف حال من يرث مع الجد كأن يكون أخ واحد أو أكثر أو أخت واحدة أو أكثر، ويدفع هذا التأويل ما تقدم من قول عبيدة بن عمرو " ينقض بعضها بعضا " وسيأتي عن عمر أقوال أخرى. وأما علي فأخرج ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر بسند صحيح عن الشعبي " كتب ابن عباس إلى علي يسأله عن ستة إخوة وجد، فكتب إليه أن اجعله كأحدهم وامح كتابي " وأخرج الدارمي بسند قوي عن الشعبي قال: "كتب ابن عباس إلى علي - وابن عباس بالبصرة - إني أتيت بجد وستة إخوة، فكتب إليه على أن أعط الجد سبعا ولا تعطه أحدا بعده " وبسند صحيح إلى عبد الله بن سلمة أن عليا كان يجعل الجد أخا حتى يكون سادسا، ومن طريق الحسن البصري أن عليا كان يشرك الجد مع الإخوة إلى السدس، ومن طريق إبراهيم النخعي عن علي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الشعبي عن علي أنه أتى في جد وستة إخوة فأعطى الجد السدس، وأخرج يزيد بن هارون في الفرائض له عن محمد بن سالم عن الشعبي عن علي نحوه، ومحمد بن سالم هذا فيه ضعف، وسيأتي عن علي أقوال أخرى، وأخرج الطحاوي من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: حدثت أن عليا كان ينزل بني الإخوة مع الجد منزلة آبائهم ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره، ومن طريق السري بن يحيى عن الشعبي عن علي كقول الجماعة، وأما عبد الله بن مسعود فأخرج الدارمي بسند صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي قال: دخلت على شريح وعنده عامر - يعني الشعبي - وعبد الرحمن بن عبد الله - أي ابن مسعود - في فريضة امرأة منا تسمى العالية تركت زوجها وأمها وأخاها لأبيها وجدها، فذكر قصة فيها فأتيت عبيدة بن عمرو - وكان يقال ليس بالكوفة أعلم بفريضة من عبيدة والحارث الأعور - فسألته فقال: إن شئتم نبأتكم بفريضة عبد الله بن مسعود في هذا فجعل للزوج ثلاثة أسهم النصف وللأم ثلث ما بقي وهو السدس من رأس المال وللأخ سهم وللجد سهم، وروينا في كتاب الفرائض لسفيان الثوري من طريق النخعي قال: كان عمر وعبد الله يكرهان أن يفضلا أما على جد، وأخرج سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة بسند واحد صحيح إلى عبيد بن نضلة قال: كان عمر وابن مسعود يقاسمان الجد مع

(12/21)


الإخوة ما بينه وبين أن يكون السدس خيرا له من مقاسمة الإخوة، وأخرجه محمد بن نصر مثله سواء وزاد: ثم إن عمر كتب إلى عبد الله ما أرانا إلا قد أجحفنا بالجد، فإذا جاءك كتابي هذا فقاسم به مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون الثلث خيرا له من مقاسمتهم، فأخذ بذلك عبد الله. وأخرج محمد بن نصر بسند صحيح إلى عبيدة بن عمرو قال: كان يعطى الجد مع الإخوة الثلث، وكان عمر يعطيه السدس، ثم كتب عمر إلى عبد الله: إنا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجد فأعطه الثلث، ثم قدم علي هاهنا - يعني الكوفة - فأعطاه السدس، قال عبيدة فرأيهما في الجماعة أحب إلي من رأى أحدهما في الفرقة. ومن طريق عبيد بن نضلة أن عليا كان يعطي الجد الثلث ثم تحول إلى السدس وأن عبد الله كان يعطيه السدس ثم تحول إلى الثلث. وأما زيد بن ثابت فأخرج الدارمي من طريق الحسن البصري قال: كان زيد يشرك الجد مع الإخوة إلى الثلث، وأخرج البيهقي من طريق ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: أخذ أبو الزناد هذه الرسالة من خارجة بن زيد بن ثابت ومن كبراء آل زيد بن ثابت فذكر قصة فيها: قال زيد بن ثابت وكان رأيي أن الإخوة أولى بميراث أخيهم من الجد، وكان عمر يرى أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته، وأخرجه ابن حزم من طريق إسماعيل القاضي عن إسماعيل بن أبي أويس عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: كان رأيي أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وكان أمير المؤمنين - يعني عمر - يعطيهم بالوجه الذي يراه على قدر كثرة الإخوة وقلتهم. قلت: فاختلف النقل عن زيد. وأخرج عبد الرزاق من طريق إبراهيم قال: كان زيد بن ثابت يشرك الجد مع الإخوة إلى الثلث فإذا بلغ الثلث أعطاه إياه والإخوة ما بقي ويقاسم الأخ للأب ثم يرد على أخيه ويقاسم بالإخوة من الأب مع الإخوة الأشقاء ولا يورث الإخوة للأب شيئا ولا يعطي أخا لأم مع الجد شيئا. قال ابن عبد البر: تفرد زيد من بين الصحابة في معادلته الجد بالإخوة بالأب مع الإخوة الأشقاء وخالفه كثير من الفقهاء القائلين بقوله في الفرائض في ذلك لأن الإخوة من الأب لا يرثون مع الأشقاء فلا معنى لإدخالهم معهم لأنه حيف على الجد في المقاسمة، وقد سأل ابن عباس زيدا عن ذلك فقال: إنما أقول في ذلك برأيي كما تقول أنت برأيك. وقال الطحاوي: ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف إلى قول زيد بن ثابت في الجد إن كان معه إخوة أشقاء قاسمهم ما دامت المقاسمة خيرا له من الثلث وإن كان الثلث خيرا له أعطاه إياه ولا ترث الإخوة من الأب مع الجد شيئا ولا بنو الإخوة ولو كانوا أشقاء، وإذا كان مع الجد والإخوة أحد من أصحاب الفروض بدأ بهم ثم أعطى الجد خير الثلاثة من المقاسمة ومن ثلث ما بقي ومن السدس ولا ينقصه من السدس إلا في الأكدرية. قال: وروى هشام عن محمد بن الحسن أنه وقف في الجد، قال أبو يوسف وكان ابن أبي ليلى يأخذ في الجد بقول علي، ومذهب أحمد أنه كواحد الإخوة فإن كان الثلث أحظ له أخذه وله مع ذي فرض بعده الأحظ من مقاسمة كأخ أو ثلث الباقي أو سدس الجميع. والأكدرية المشار إليها تسمى مربعة الجماعة لأنهم أجمعوا على أنها أربعة ولكن اختلفوا في قسمها وهي زوج وأم وأخت وجد فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت النصف، وتصح من سبعة وعشرين للزوج تسعة وللأم ستة وللأخت أربعة وللجد ثمانية، وقد نظمها بعضهم:
ما فرض أربعة يوزع بينهم ... ميراث ميتهم بفرض واقع
فلواحد ثلث الجميع وثلث ما ... يبقى لثانيهم بحكم جامع

(12/22)


ولثالث من بعد ذا ثلث الذي ... يبقى وما يبقى نصيب الرابع
ذكر المصنف حديث ابن عباس "ألحقوا الفرائض" وقد تقدم شرحه، ووجه تعلقه بالمسألة أنه دل على أن الذي يبقى بعد الفرض يصرف لأقرب الناس للميت فكان الجد أقرب فيقدم، قال ابن بطال: وقد احتج به من شرك بين الجد والأخ فإنه أقرب إلى الميت بدليل أنه ينفرد بالولاء ولأنه يقوم مقام الولد في حجب الأم من الثلث إلى السدس ولأن الجد إنما يدلي بالميت وهو ولد ابنه والأخ يدلي بالميت وهو ولد أبيه والابن أقوى من الأب لأن الابن ينفرد بالمال ويرد الأب إلى السدس ولا كذلك الأب فتعصيب الأخ تعصيب بنوة وتعصيب الجد تعصيب أبوة والبنوة أقوى من الأبوة في الإرث، ولأن الأخت فرضها النصف إذا انفردت فلم يسقطها الجد كالبنت، ولأن الأخ يعصب أخته بخلاف الجد فامتنع من قوة تعصيبه عليه أن يسقط به. وقال السهيلي: الجد أصل ولكن الأخ في الميراث أقوى سببا منه لأنه يدلي بولاية الأب فالولادة أقوى الأسباب في الميراث فإن قال الجد وأنا أيضا ولدت الميت قيل له إنما ولدت والده وأبوه ولد الإخوة فصار سببهم قويا وولد الولد ليس ولدا إلا بواسطة وإن شاركه في مطلق الولدية. ثم ذكر حديث ابن عباس أيضا في فضل أبي بكر وقد تقدم شرحه مستوفى في المناقب، وقوله: "أفضل أو قال خير" شك من الراوي وكذا قوله: "أنزله أبا أو قال قضاه أبا".

(12/23)


باب ميراث الزوج مع الولد و غيره
...
10- باب مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6739- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ"
قوله: "باب ميراث الزوج مع الولد وغيره" أي من الوارثين فلا يسقط الزوج بحال وإنما يحطه الولد عن النصف إلى الربع. ذكر فيه حديث ابن عباس "كان المال - أي المخلف عن الميت - للولد والوصية للوالدين" الحديث، قد تقدم في الوصايا وذكرت شرحه هناك مستوفى سندا ومتنا ولله الحمد. قال ابن المنير: استشهاد البخاري بحديث ابن عباس هذا مع أن الدليل من الآية واضح إشارة منه إلى تقرير سبب نزول الآية وأنها على ظاهرها غير مؤولة ولا منسوخة، وأفاد السهيلي أن في الآية التي نسختها وهي {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى استمرارها؛ فلذلك عبر بالفعل الدال على الدوام بخلاف غيرها من الآيات حيث قال في الآية المنسوخة الحكم {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} الآية. قوله: وجعل للأبوين {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أفاد السهيلي أن الحكمة في إعطاء الوالدين ذلك والتسوية بينهما ليستمرا فيه فلا يجحف بهما إن كثرت الأولاد مثلا، وسوى بينهما في ذلك مع وجود الولد أو الإخوة لما يستحقه كل منهما على الميت من التربية ونحوها، وفضل الأب على الأم عند عدم الولد والإخوة لما للأب من الامتياز بالإنفاق والنصرة ونحو ذلك، وعوضت الأم عن ذلك بأمر الولد بتفضيلها على الأب في البر في حال حياة الولد. انتهى ملخصا. وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة عن بعض أهل العلم أن الأب حجب الإخوة وأخذ سهامهم لأنه يتولى إنكاحهم والإنفاق عليهم دون الأم.

(12/23)


باب ميراث المرأة و الزوج مع الولد و غيره
...
11- باب مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6740- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا"
قوله: "باب ميراث المرأة والزوج مع الوالد وغيره" أي من الوارثين فلا يسقط إرث واحد منهما بحال، بل يحط الولد الزوج من النصف إلى الربع، ويحط المرأة من الربع إلى الثمن. ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة المرأة التي ضربت الأخرى فأسقطت جنينا ثم ماتت الضاربة فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وأن العقل على عصبة القاتلة وأن ميراث الضاربة لبنيها وزوجها، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. ووجه الدلالة منه على الترجمة ظاهرة، لأن ميراث الضاربة لبنيها وزوجها لا لعصبتها الذين عقلوا عنها فورث الزوج مع ولده، وكذا لو كان الأب هو الميت لورثت الأم مع الأولاد، أشار إلى ذلك ابن التين. وكذا لو كان هناك عصبة بغير ولد.

(12/24)


12- باب مِيرَاثُ الأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ
6741- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :النِّصْفُ لِلْابْنَةِ، وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6742- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لاَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للْابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ"
قوله: "باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة" قال ابن بطال: أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات فيرثن ما فضل عن البنات، فمن لم يخلف إلا بنتا وأختا فللبنت النصف وللأخت النصف الباقي على ما في حديث معاذ وإن خلف بنتين وأختا فلهما الثلثان وللأخت ما بقي، وإن خلف بنتا وأختا وبنت ابن فللبنت النصف ولبنت الابن تكملة الثلثين وللأخت ما بقي على ما في حديث ابن مسعود، لأن البنات لا يرثن أكثر من الثلثين، ولم يخالف في شيء من ذلك إلا ابن عباس فإنه كان يقول: للبنت النصف وما بقي للعصبة وليس للأخت شيء، وكذا للبنتين الثلثان وللبنت وبنت الابن كما مضى والباقي للعصبة، فإذا لم تكن عصبة رد الفضل على البنت أو البنات. وقد تقدم البحث في ذلك. قال: ولم يوافق ابن عباس على ذلك أحد إلا أهل الظاهر. قال: وحجة الجماعة من جهة النظر أن عدم الولد في قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} إنما جعل شرطا في فرضها الذي تقاسم به الورثة لا في توريثها مطلقا، فإذا عدم الشرط سقط الفرض، ولم يمنع ذلك أن ترث بمعنى

(12/24)


آخر كما شرط في ميراث الأخ من أخته عند عدم الولد، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقد أجمعوا على أنه يرثها مع البنت، وهو كما جعل النصف في ميراث الزوج شرطا إذا لم يكن ولد ولم يمنع ذلك أن يأخذ النصف مع البنت فبأخذ نصف النصف بالفرض والنصف الآخر بالتعصيب إن كان ابن عم مثلا، فكذلك الأخت والله أعلم. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش وإبراهيم هو النخعي والأسود هو ابن يزيد وهو خال إبراهيم الراوي عنه. قوله: "ثم قال سليمان قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" القائل ذلك هو شعبة وسليمان هو الأعمش وهو موصول بالسند المذكور، وحاصله أن الأعمش روى الحديث أولا بإثبات قوله: "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيكون مرفوعا على الراجح في المسألة ومرة بدونها فيكون موقوفا، وقد أخرجه الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن بشر بن خالد شيخ البخاري فيه مثله لكن قال: قال سليمان بعد قال القاسم وحدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد بسنده بلفظ: "قضى بذلك معاذ فينا". قلت وقد مضى في "باب ميراث البنات" من وجه آخر عن الأسود بن يزيد قال: "أتانا معاذ بن جبل باليمن معلما وأميرا، فسألناه عن رجل فذكره" وسياقه مشعر بأن ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره على اليمن كما مضى صريحا في كتاب الزكاة وغيره، وأخرجه أبو داود والدار قطني من وجه ثالث عن الأسود "أن معاذا ورث فذكره" وزاد: "هو باليمن ونبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حي" وللدار قطني من وجه آخر عن الأسود "قدم علينا معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكره باختصار. وهذا أصرح ما وجدت في ذلك. قوله: "عبد الرحمن" هو ابن مهدي وسفيان هو الثوري وأبو قيس هو عبد الرحمن، وقد مضى ذكره وشرح حديثه قبل هذا بأربعة أبواب من طريق شعبة عن أبي قيس وفيه قصة أبي موسى وجزم فيه بقوله: "لأقضين فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما قوله هنا " أو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم" فهو شك من بعض رواته، وأكثر الرواة أثبتوا الزيادة، ففي رواية وكيع وغيره عن سفيان عند النسائي وغيره: "سأقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومراده بالقضاء بالنسبة إليه الفتيا فإن ابن مسعود يومئذ لم يكن قاضيا ولا أميرا.

(12/25)


باب ميراث الأخوات و الإخوة
...
13- باب مِيرَاثِ الأَخَوَاتِ وَالإِخْوَةِ
6743- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ "سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ نَضَحَ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا لِي أَخَوَاتٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ"
قوله: "باب ميراث الأخوات والإخوة" ذكر فيه حديث جابر المذكور في أول كتاب الفرائض، والغرض منه قوله: "إنما لي أخوات" فإنه يقتضي أنه لم يكن له ولد، واستنبط المصنف الإخوة بطريق الأولى، وقدم الأخوات في الذكر للتصريح بهن في الحديث، وعبد الله المذكور في السند هو بن المبارك قال بن بطال: أجمعوا على أن الإخوة الأشقاء أو من الأب لا يرثون مع الابن وان سفل ولا مع الأب، وأختلفوا فيهم مع الجد على ما مضت الإشارة اليه، وما عدا ذلك فللواحدة من الأخوات النصف وللبنتين فصاعدا الثلثان وللأخ الجميع فما زاد فبالقسمة السوية وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين كما نص عليه القرآن ولم يقع

(12/25)


في كل ذلك اختلاف إلا في زوج وأم وأختين لأم وأخ شقيق فقال الجمهور: يشرك بينهم، وكان علي وأبي وأبو موسى لايشركون الإخوة ولو كانوا أشقاء مع الإخوة للأم لأنهم عصبة وقد استغرقت الفرائض المال وبذلك قال جمع من الكوفيين

(12/26)


باب { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد و له أخت فلها نصف ما ترك ، و هو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } الآية
...
14- باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
6744- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}
قوله: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ذكر فيه حديث البراء من طريق أبي إسحاق عنه "آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" وأراد بذلك ما فيها من التنصيص على ميراث الإخوة، وقد أخرج أبو داود في "المراسيل" من وجه آخر عن أبي إسحاق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن " جاء رجل، فقال: يا رسول الله ما الكلالة؟ قال: من لم يترك ولدا ولا والدا فورثته كلالة". ووقع في صحيح مسلم عن عمر أنه خطب ثم قال: "إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما راجعته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري فقال: ألا يكفيك آية النصف التي في آخر سورة النساء". وقد اختلف في تفسير الكلالة، والجمهور على أنه من لا ولد له ولا والد، واختلف في بنت وأخت هل ترث الأخت مع البنت؟ وكذا في الجد هل يتنزل منزلة الأب فلا ترث معه الإخوة؟ قال السهيلي: الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس لأن الكلالة وراثة تكللت العصبة أي أحاطت بالميت من الطرفين، وهي مصدر كالقرابة، وسمي أقرباء الميت كلالة بالمصدر كما يقال هم قرابة أي ذوو قرابة، وإن عنيت المصدر قلت ورثوه عن كلالة، وتطلق الكلالة على الورثة مجازا. قال: ولا يصح قول من قال الكلالة المال ولا الميت إلا على إرادة تفسيره معنى من غير نظر إلى حقيقة اللفظ. ثم قال: ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله ليس له ولد، وقيد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثت مع البنت، والحكمة فيها أن الأولى عبر فيها بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال فأغنى لفظ يورث عن القيد، ومثله قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يحيط بميراثها. وأما الآية الثانية: فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يعبر فيها بلفظ يورث فلذلك ورثت الأخت مع البنت. وقال ابن المنير: الاستدلال بآية الكلالة على أن الأخوات عصبة لطيف جدا، وهو أن العرف في آيات الفرائض قد اطرد على أن الشرط المذكور فيما هو لمقدار الفرض لا لأصل الميراث، فيفهم أنه إذا لم يوجد الشرط أن يتغير قدر الميراث، فمن ذلك قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فتغير القدر ولم يتغير أصل الميراث، وكذا في الزوج وفي الزوجة، فقياس ذلك أن يطرد في الأخت فلها النصف إن لم

(12/26)


يكن ولد، فإن كان ولد تغير القدر ولم يتغير أصل الإرث، وليس هناك قدر يتغير إليه إلا التعصيب، ولا يلزم من ذلك أن ترث الأخت مع الابن لأنه خرج بالإجماع فيبقى ما عداه على الأصل والله أعلم. وقد تقدم الكلام في آخر ما نزل من القرآن في آخر تفسير سورة البقرة، وقال الكرماني: اختلف في تعيين آخر ما نزل فقال البراء هنا: خاتمة سورة النساء. وقال ابن عباس كما تقدم في آخر سورة البقرة: آية الربا، وهذا اختلاف بين الصحابيين ولم ينقل واحد منهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل على أن كلا منهما قال يظنه، وتعقب بأن الجمع أولى كما تقدم بيانه هناك.

(12/27)


باب ابني عم أحدهما أخ للأم و الآخر زوج
...
15- باب ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلْأُمِّ وَالْآخَرُ زَوْجٌ وَقَالَ عَلِيٌّ: "لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأَخِ مِنْ الأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ"
6745- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ، فَلِأُدْعَى لَهُ". الْكَلُّ: الْعِيَالُ
6746- حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا تَرَكَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
قوله: "باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج" صورتها أن رجلا تزوج امرأة فأتت منه بابن ثم تزوج أخرى فأتت منه بآخر ثم فارق الثانية فتزوجها أخوه فأتت منه ببنت فهي أخت الثاني لأمه وابنة عمه، فتزوجت هذه البنت الابن الأول وهو ابن عمها ثم ماتت عن ابني عمها. قوله: "وقال علي للزوج النصف وللأخ من الأم السدس وما بقي بينهما نصفان" وحاصله أن الزوج يعطى النصف لكونه زوجا ويعطى الآخر السدس لكونه أخا من أم فيبقى الثلث فيقسم بينهما بطريق العصوبة فيصح للأول الثلثان بالفرض والتعصيب وللآخر الثلث بالفرض والتعصيب، وهذا الأثر وصله عن علي رضي الله عنه سعيد بن منصور من طريق حكيم بن غفال قال: أتى شريح في امرأة تركت ابني عمها أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها فجعل للزوج النصف والباقي للأخ من الأم، فأتوا عليا فذكروا له ذلك فأرسل إلى شريح فقال: ما قضيت أبكتاب الله أو بسنة من رسول الله؟ فقال: بكتاب الله قال: أين؟ قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} قال: فهل قال للزوج النصف وللأخ ما بقي ثم أعطى الزوج النصف وللأخ من الأم السدس ثم قسم ما بقي بينهما. وأخرج يزيد بن هارون والدارمي من طريق الحارث قال: أتى علي في ابني عم أحدهما أخ لأم فقيل له إن عبد الله كان يعطي الأخ للأم المال كله، فقال: يرحمه الله إن كان لفقيها ولو كنت أنا لأعطيت الأخ من الأم السدس ثم قسمت ما بقي بينهما. قال ابن بطال: وافق عليا زيد بن ثابت والجمهور. وقال عمر وابن مسعود: جميع المال - يعني الذي يبقى بعد نصيب الزوج - الذي جمع القرابتين فله السدس بالفرض والثلث الباقي بالتعصيب، وهو قول الحسن وأبي ثور وأهل الظاهر، واحتجوا

(12/27)


بالإجماع في أخوين أحدهما شقيق والآخر لأب أن الشقيق يستوعب المال لكونه أقرب بأم، وحجة الجمهور ما أشار إليه البخاري في حديث أبي هريرة الذي أورده في الباب بلفظ: "فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة" والمراد بموالي العصبة بنو العم، فسوى بينهم ولم يفضل أحدا على أحد، وكذا قال أهل التفسير في قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} أي بني العم. فإن احتجوا بالحديث الآخر المذكور في الباب أيضا من حديث ابن عباس " فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر " فالجواب أنهما من جهة التعصيب سواء، والتقدير ألحقوا الفرائض بأهلها أي أعطوا أصحاب الفروض حقهم فإن بقي شيء فهو للأقرب، فلما أخذ الزوج فرضه والأخ من الأم فرضه صار ما بقي موروثا بالتعصيب وهما في ذلك سواء، وقد أجمعوا في ثلاثة إخوة للأم أحدهم ابن عم أن للثلاثة الثلث والباقي لابن العم. قال المازري: مراتب التعصيب البنوة ثم الأبوة ثم الجدودة، فالابن أولى من الأب وإن فرض له معه السدس، وهو أولى من الإخوة وبنيهم لأنهم ينتسبون بالمشاركة في الأبوة والجدودة، والأب أولى من الإخوة ومن الجد لأنهم به ينتسبون فيسقطون مع وجوده، والجد أولى من بني الإخوة لأنه كالأب معهم، ومن العمومة لأنهم به ينتسبون، والإخوة وبنوهم أولى من العمومة وبنيهم لأن تعصيب الإخوة بالأبوة والعمومة بالجدودة، هذا ترتيبهم وهم يختلفون في القرب، فالأقرب أولى كالإخوة مع بنيهم والعمومة مع بنيهم فإن تساووا في الطبقة والقرب ولأحدهما زيادة كالشقيق مع الأخ لأب قدم، وكذا الحال في بنيهم وفي العمومة وبنيهم، فإن كانت زيادة الترجيح بمعنى غير ما هما فيه كابني عم أحدهما أخ لأم فقيل يستمر الترجيح فيأخذ ابن العم الذي هو أخ لأم جميع ما بقي بعد فرض الزوج وهو قول عمر وابن مسعود وشريح والحسن وابن سيرين والنخعي وأبي ثور والطبري وداود ونقل عن أشهب، وأبى ذلك الجمهور فقالوا: بل يأخذ الأخ من الأم فرضه ويقسم الباقي بينهما، والفرق بين هذه الصورة وبين تقدم الشقيق على الأخ لأب طريق الترجيح لأن الشرط فيها أن يكون فيه معنى مناسب لجهة التعصيب لأن الشقيق شارك شقيقه في جهة القرب المتعلقة بالتعصيب بخلاف الصورة المذكورة والله أعلم. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان وعبيد الله شيخه هو ابن موسى وقد حدث البخاري عنه كثيرا بغير واسطة وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم وأبو صالح هو ذكوان السمان. قوله: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" زاد في رواية الأصيلي هنا "أزواجه أمهاتهم" قال عياض: وهي زيادة في الحديث لا معنى لها هنا. قول "فلأدعى له" قال ابن بطال: هي لام الأمر أصلها الكسر وقد تسكن مع الفاء والواو غالبا فيهما وإثبات الألف بعد العين جائز كقوله: "ألم يأتيك والأخبار تنمى" والأصل عدم الإشباع للجزم، والمعنى فادعوني له أقوم بكله وضياعه. قوله: "والكل العيال" ثبت هذا التفسير في آخر الحديث في رواية المستملي والكشميهني، وأصل الكل الثقل ثم استعمل في كل أمر يصعب والعيال فرد من أفراده، وقال صاحب الأساس: كل بصره فهو كليل وكل عن الأمر لم تنبعث نفسه له وكل كلالة أي قصر عن بلوغ القرابة، قد مضى شرح حديث ابن عباس في أوائل الفرائض، وروح شيخ يزيد بن زريع فيه هو ابن القاسم المنبري.

(12/28)


16- باب ذَوِي الأَرْحَامِ

(12/28)


6747- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ إِدْرِيسُ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الأَنْصَارِيُّ الْمُهَاجِرِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ نَسَخَتْهَا {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}
قوله: "باب ذوي الأرحام" أي بيان حكمهم هل يرثون أو لا؟ وهم عشرة أصناف: الخال والخالة والجد للأم وولد البنت وولد الأخت وبنت الأخ وبنت العم والعمة والعم للأم وابن الأخ للأم ومن أدلى بأحد منهم، فمن ورثهم، قال أولاهم أولاد البنت ثم أولاد الأخت وبنات الأخ ثم العم والعمة والخال والخالة، وإذا استوى اثنان قدم الأقرب إلى صاحب فرض أو عصبة. قوله: "إسحاق بن إبراهيم" هو الإمام المعروف بابن راهويه. قوله: "قلت لأبي أسامة حدثكم إدريس" أي ابن يزيد بن عبد الرحمن الأودي والد عبد الله، وطلحة شيخه هو ابن مصرف، وقد نسبه المصنف في التفسير من رواية الصلت بن محمد عن أبي أسامة وقال في آخره: "سمع إدريس من طلحة وأبو أسامة من إدريس " وقد صرح هنا بالثاني. ووقع في رواية أبي داود عن هارون ابن عبد الله عن أبي أسامة " حدثني إدريس بن يزيد حدثنا طلحة بن مصرف " وكذا أخرجه الإسماعيلي عن الهنجاني عن أبي كريب عن أبي أسامة، وكذا عند الطبري عن أبي كريب. قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}. قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ابن بطال: كذا وقع في جميع النسخ نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} والصواب أن المنسوخة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} والناسخة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال ووقع في رواية الطبري بيان ذلك ولفظه: "فلما نزلت هذه الآية {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت". قلت: وقد تقدم في الكفالة التفسير من رواية الصلت بن محمد عن أبي أسامة مثل ما عزاه للطبري فكان عزوه إلى ما في البخاري أولى، مع أن في سياقه فائدة أخرى وهو أنه قال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} ورثة، فأفاد تفسير الموالي بالورثة، وأشار إلى أن قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ابتداء شيء يريد أن يفسره أيضا، ويؤيده أنه وقع في رواية الصلت " ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وبقي قوله نسختها مشكلا كما قال ابن بطال " وقد أجاب ابن المنير في الحاشية فقال: الضمير في نسختها عائد على المؤاخاة لا على الآية والضمير في نسختها وهو الفاعل المستتر يعود على قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بدل من الضمير، وأصل الكلام لما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقال الكرماني: فاعل نسختها آية جعلنا والذين عاقدت منصوب بإضمار أعني. قلت: ووقع في سياقه هنا أيضا موضع آخر وهو أنه عبر بقوله: "يرث الأنصاري المهاجري " وتقدم في رواية الصلت بالعكس، وأجاب عنه الكرماني بأن المقصود إثبات الوراثة بينهما في الجملة. قلت: والأولى أن يقرأ الأنصاري بالنصب على أنه مفعول مقدم فتتحد الروايتان، ووقع في رواية الصلت موضع ثالث مشكل وهو قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النصر إلخ، وظاهر الكلام أن قوله من النصر يتعلق بعاقدت أيمانكم وليس كذلك وإنما يتعلق بقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وقد بين ذلك أبو كريب في روايته،

(12/29)


وكذلك أخرجه أبو داود عن هارون بن عبد الله عن أبي أسامة، وقد تقدم في تفسير النساء عدة طرق لذلك مع إعراب الآية، والكلام على حكم المعاقدة المذكورة ونسخها بما يغني عن إعادته، والمراد بإيراد الحديث هنا أن قوله تعالى :{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخ حكم الميراث الذي دل عليه {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ابن بطال: أكثر المفسرين على أن الناسخ لقوله تعالى :{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قوله تعالى في الأنفال: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وبذلك جزم أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ". قلت: كذا أخرجه أبو داود بسند حسن عن ابن عباس " قال ابن الجوزي: كان جماعة من المحدثين يرون الحديث من حفظهم فتقصر عباراتهم خصوصا العجم فلا يبين للكلام رونق مثل هذه الألفاظ في هذا الحديث، وبيان ذلك أن مراد الحديث المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بين المهاجرين والأنصار فكانوا يتوارثون بتلك الأخوة ويرونها داخلة في قوله تعالى :{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فلما نزل قوله تعالى :{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} نسخ الميراث بين المتعاقدين وبقي النصر والرفادة وجواز الوصية لهم، وقد وقع في رواية العوفي عن ابن عباس بيان السبب في إرثهم قال: كان الرجل في الجاهلية يلحق به الرجل فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأقاربه الميراث وبقي تابعه ليس له شيء، فنزلت: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكانوا يعطونه من ميراثه، ثم نزلت: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فنسخ ذلك. قلت: والعوفي ضعيف، والذي في البخاري هو الصحيح المعتمد، وتصحيح السياق قد ظهر من نفس الرواية وأن بعض الرواة قدم بعض الألفاظ على بعض وحذف منها شيئا وأن بعضهم ساقها على الاستقامة وذلك هو المعتمد. قال ابن بطال: اختلف الفقهاء في توريث ذوي الأرحام وهم من لا سهم له وليس بعصبة، فذهب أهل الحجاز والشام إلى منعهم الميراث، وذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق إلى توريثهم، واحتجوا بقوله تعالى :{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} واحتج الآخرون بأن المراد بها من له سهم في كتاب الله لأن آية الأنفال مجملة وآية المواريث مفسرة وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فلعصبته " وأنهم أجمعوا على ترك القول بظاهرها فجعلوا ما يخلفه المعتوق إرثا لعصبته دون مواليه فإن فقدوا فلمواليه دون ذوي رحمه، واختلفوا في توريثهم فقال أبو عبيد: رأى أهل العراق رد ما بقي من ذوي الفروض إذا لم تكن عصبة على ذوي الفروض وإلا فعليهم وعلى العصبة، فإن فقدوا أعطوا ذوي الأرحام، وكان ابن مسعود ينزل كل ذي رحم منزلة من يجر إليه، وأخرج بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جعل العمة كالأب والخالة كالأم فقسم المال بينهما أثلاثا، وعن علي أنه كان لا يرد على البنت دون الأم، ومن أدلتهم حديث: "الخال وارث من لا وارث له" وهو حديث حسن أخرجه الترمذي وغيره، وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يراد به إذا كان عصبة ويحتمل أن يريد بالحديث المذكور السلب كقولهم "الصبر حيلة من لا حيلة له" ويحتمل أن يكون المراد به السلطان لأنه خال المسلمين، حكى هذه الاحتمالات ابن العربي.

(12/30)


17- باب مِيرَاثِ الْمُلاَعَنَةِ
6748- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا لاَعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ"

(12/30)


قوله: "باب ميراث الملاعنة" بفتح العين المهملة ويجوز كسرها والمراد بيان ما ترثه من ولدها الذي لاعنت عليه، ذكر فيه حديث ابن عمر المختصر في الملاعنة وقد مضى شرحه في كتاب اللعان ومن وجه آخر مطول عن ابن عمر ومن حديث سهل بن سعد، والغرض منه هنا قوله: "وألحق الولد بالمرأة" وقد اختلف السلف في معنى إلحاقه بأمه مع اتفاقهم على أنه لا ميراث بينه وبين الذي نفاه، فجاء عن علي وابن مسعود أنهما قالا في ابن الملاعنة: "عصبته عصبة أمه يرثهم ويرثونه " أخرجه ابن أبي شيبة وبه قال النخعي والشعبي، وجاء عن علي وابن مسعود أنهما كانا يجعلان أمه عصبة وحدها فتعطى المال كله، فإن ماتت أمه قبله فماله لعصبتها، وبه قال جماعة منهم الحسن وابن سيرين ومكحول والثوري وأحمد في رواية، وجاء عن علي أن ابن الملاعنة ترثه أمه وإخوته منها فإن فضل شيء فهو لبيت المال، وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار، قال مالك: وعلى هذا أدركت أهل العلم. وأخرج عن الشعبي قال: بعث أهل الكوفة إلى الحجاز في زمن عثمان يسألوني عن ميراث ابن الملاعنة فأخبروهم أنه لأمه وعصبتها، وجاء عن ابن عباس عن علي أنه أعطى الملاعنة الميراث وجعلها عصبة، قال ابن عبد البر: الرواية الأولى أشهر عند أهل الفرائض، قال ابن بطال: هذا الخلاف إنما نشأ من حديث الباب حيث جاء فيه: "وألحق الولد بالمرأة " لأنه لما ألحق بها قطع نسب أبيه فصار كمن لا أب له من أولاد البغي، وتمسك الآخرون بأن معناه إقامتها مقام أبيه فجعلوا عصبة أمه عصبة أبيه. قلت: وقد جاء في المرفوع ما يقوي القول الأول، فأخرج أبو داود من رواية مكحول مرسلا ومن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها " ولأصحاب السنن الأربعة عن واثلة رفعه: "تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه " قال البيهقي: ليس بثابت. قلت: وحسنه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه سوى عمر بن رؤية بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة مختلف فيه، قال البخاري: فيه نظر، ووثقه جماعة، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن المنذر ومن طريق داود بن أبي هند عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن رجل من أهل الشام " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمة هي بمنزلة أبيه وأمه " وفي رواية أن عبد الله بن عبيد كتب إلى صديق له من أهل المدينة يسأله عن ولد الملاعنة فكتب إليه " إني سألت فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمه " وهذه طرق يقوى بعضها ببعض، قال ابن بطال: تمسك بعضهم بالحديث الذي جاء أن الملاعنة بمنزلة أبيه وأمه، وليس فيه حجة لأن المراد أنها بمنزلة أبيه وأمه في تربيته وتأديبه وغير ذلك مما يتولاه أبوه، فأما الميراث فقد أجمعوا أن ابن الملاعنة لو لم تلاعن أمه وترك أمه وأباه كان لأمه السدس، فلو كانت بمنزلة أبيه وأمه لورثت سدسين فقط سدس بالأمومة وسدس بالأبوة، كذا قال وفيه نظر تصويرا واستدلالا وحجة الجمهور ما تقدم في اللعان أن في رواية فليح عن الزهري عن سهل في آخره: "فكانت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض لها " أخرجه أبو داود، وحديث ابن عباس " فهو لأولى رجل ذكر " فإنه جعل ما فضل عن أهل الفرائض لعصبة الميت دون عصبة أمه، وإذا لم يكن لولد الملاعنة عصبة من قبل أبيه فالمسلمون عصبته، وقد تقدم من حديث أبي هريرة "ومن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا".

(12/31)


18- باب الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً

(12/31)


6749- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ عُتْبَةُ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
6750- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ" سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ"
[الحديث 6750- طرفه في: 6818]
قوله: "باب الولد للفراش حرة كانت" أي المستفرشة "أو أمة". قوله: "عن عروة" في رواية شعيب عن الزهري في العتق " حدثني عروة " وكذا وقع في رواية عبد الله ابن مسلمة عن مالك في المغازي لكن أخرجه في الوصايا بلفظ عن عروة. قوله: "كان عتبة عهد إلى أخيه" في رواية يحيى بن قزعة عن مالك في أوائل البيوع ابن أبي وقاص في الموضوعين وكذا في رواية شعيب والليث وغيرهما عن الزهري وفي رواية ابن عيينة عن الزهري الماضية في الأشخاص: أوصاني أخي إذا قدمت يعني مكة أن أقبض إليك ابن أمة زمعة فإنه ابني. قوله: "أن ابن وليدة زمعة" في رواية ابن عيينة عن ابن شهاب الماضية في المظالم ابن أمة زمعة، والوليدة في الأصل المولودة وتطلق على الأمة وهذه الوليدة لم أقف على اسمها لكن ذكر مصعب الزبيري وابن أخيه الزبير في "نسب قريش" أنها كانت أمة يمانية، والوليدة فعيلة من الولادة بمعنى مفعولة، قال الجوهري: هي الصبية والأمة والجمع ولائد، وقيل إنها اسم لغير أم الولد. وزمعة بفتح الزاي وسكون الميم وقد تحرك، قال النووي: التسكين أشهر. وقال أبو الوليد الوقشي: التحريك هو الصواب. قلت: والجاري على ألسنة المحدثين التسكين في الاسم والتحريك في النسبة، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشي العامري والد سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد بن زمعة بغير إضافة، ووقع في "مختصر ابن الحاجب" عبد الله وهو غلط، نعم عبد الله بن زمعة آخر، وفي بعض الطرق من غير رواية عائشة عند الطحاوي في هذا الحديث عبد الله بن زمعة ونبه على أنه غلط وأن عبد الله بن زمعة هو ابن الأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزي آخر. قلت: وهو الذي مضى حديثه في تفسير {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وقد وقع لابن منده خبط في ترجمة عبد الرحمن بن زمعة فإنه زعم أن عبد الرحمن وعبد الله وعبدا إخوة ثلاثة أولاد زمعة بن الأسود، وليس كذلك بل عبد بغير إضافة وعبد الرحمن أخوان عامريان من قريش، وعبد الله ابن زمعة قرشي أسدي من قريش أيضا، وقد أوضحت ذلك في "الإصابة في تمييز الصحابة" والابن المذكور اسمه عبد الرحمن وذكره ابن عبد البر في الصحابة وغيره، وقد أعقب بالمدينة. وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد مختلف

(12/32)


في صحبته فذكره في الصحابة العسكري وذكر ما نقله الزبير بن بكار في النسب أنه كان أصاب دما بمكة في قريش فانتقل إلى المدينة ولما مات أوصى إلى سعد، وذكره ابن منده في الصحابة ولم يذكر مستندا إلا قول سعد "عهد إلى أخي أنه ولده" واستنكر أبو نعيم ذلك وذكر أنه الذي شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، قال وما علمت له إسلاما، بل قد روى عبد الرزاق من طريق عثمان الجزري عن مقسم " أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن لا يحول على عتبة الحول حتى يموت كافرا فمات قبل الحول " وهذا مرسل، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيب بنحوه، وأخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق صفوان بن سليم عن أنس أنه سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول: "إن عتبة لما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل تبعته فقتلته"، كذا قال وجزم ابن التين والدمياطي بأنه مات كافرا. قلت: وأم عتبة هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة، وأم أخيه سعد حمنة بنت سفيان بن أمية. قوله: "فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي" في رواية يونس عن الزهري في المغازي " فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح". وفي رواية معمر عن الزهري عند أحمد وهي لمسلم لكن لم يسق لفظها " فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه وقال ابن أخي ورب الكعبة " وفي رواية الليث " فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه " وعتبة بالجر بدل من لفظ أخي أو عطف بيان، والضمير في أخي لسعد لا لعتبة. قوله: "فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه" في رواية معمر "فجاء عبد بن زمعة فقال بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته" وفي رواية يونس "يا رسول الله هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه" زاد في رواية الليث " انظر إلى شبهه يا رسول الله " وفي رواية يونس " فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص " وفي رواية الليث " فرأى شبها بينا بعتبة " وكذا لابن عيينة عند أبي داود وغيره، قال الخطابي وتبعه عياض والقرطبي وغيرهما: كان أهل الجاهلية يقتنون الولائد ويقررون عليهن الضرائب فيكتسبن بالفجور، وكانوا يلحقون النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كما في النكاح، وكانت لزمعة أمة وكان يلم بها فظهر بها حمل زعم عتبة بن أبي وقاص أنه منه وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبد بن زمعة، فقال لي سعد: هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. وقال عبد: هو أخي على ما استقر عليه الأمر في الإسلام، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم حكم الجاهلية وألحقه بزمعة، وأبدل عياض قوله إذا ادعوا الولد بقوله إذا اعترفت به الأم، وبنى عليهما القرطبي فقال: ولم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهلية إما لعدم الدعوى وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة. قلت: وقد مضى في النكاح من حديث عائشة ما يؤيد أنهم كانوا يعتبرون استلحاق الأم في صورة وإلحاق القائف في صورة ولفظها "إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء" الحديث وفيه: "يجتمع الرهط ما دون العشر فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومضت ليال أرسلت إليهم فاجتمعوا عندها فقالت: قد ولدت فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع " إلى أن قالت: "ونكاح البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت جمعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف لا يمتنع من ذلك" انتهي. واللائق بقصة أمة زمعة الأخير، فلعل جمع القافة لهذا الولد تعذر بوجه من الوجوه، أو أنها لم تكن بصفة البغايا بل أصابها عتبة سرا من زنا وهما كافران فحملت وولدت ولدا يشبهه فغلب على ظنه أنه منه فبغته الموت قبل استلحاقه فأوصى أخاه أن يستلحقه، فعمل سعد بعد ذلك تمسكا بالبراءة الأصلية

(12/33)


قال القرطبي: وكان عبد بن زمعة سمع أن الشرع ورد بأن الولد للفراش وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به، كذا قاله، وما أدري من أين له هذا الجزم بالنفي، وكأنه بناه على ما قال الخطابي أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهن من الضرائب، فكان الإلحاق مختصا باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لم يذكر الخطابي مستندا لذلك، والذي يظهر من سياق القصة ما قدمته أنها كانت أمة مستفرشة لزمعة فاتفق أن عتبة زنى بها كما تقدم، وكانت طريقة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إن استلحقه لحقه وإن نفاه انتفى عنه وإذا ادعاه غيره كان مرد ذلك إلى السيد أو القافة، وقد وقع في حديث ابن الزبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيد ما قلته، وأما قوله: إن عبد بن زمعة سمع أن الشرع إلخ ففيه نظر، لأنه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة وهو بمكة لم يسلم بعد ولا يسمعه سعد بن أبي وقاص وهو من السابقين الأولين الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حين إسلامه إلى حين فتح مكة نحو العشرين سنة، حتى ولو قلنا إن الشرع لم يرد بذلك إلا في زمن الفتح فبلوغه لعبد قبل سعد بعيد أيضا، والذي يظهر لي أن شرعية ذلك إنما عرفت من قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة " الولد للفراش " وإلا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليدعيه، بل الذي يظهر أن كلا من سعد وعتبة بني على البراءة الأصلية، وأن مثل هذا الولد يقبل النزاع، وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسند حسن إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قام رجل فقال: يا رسول الله إن فلانا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر " وقد وقع في بعض طرقه أن ذلك وقع في زمن الفتح وهو يؤيد ما قلته، واستدل بهذه القصة على أن الاستلحاق لا يختص بالأب بل للأخ أن يستلحق وهو قول الشافعية وجماعة بشرط أن يكون الأخ حائزا أو يوافقه باقي الورثة وإمكان كونه من المذكور وأن يوافق على ذلك إن كان بالغا عاقلا وأن لا يكون معروف الأب، وتعقب بأن زمعة كان له ورثة غير عبد، وأجيب بأنه لم يخلف وارثا غيره إلا سودة، فإن كان زمعة مات كافرا فلم يرثه إلا عبد وحده، وعلى تقدير أن يكون أسلم وورثته سودة فيحتمل أن تكون وكلت أخاها في ذلك أو ادعت أيضا، وخص مالك وطائفة الاستلحاق بالأب، وأجابوا بأن الإلحاق لم ينحصر في استلحاق عبد لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك بوجه من الوجوه كاعتراف زمعة بالوطء، ولأنه إنما حكم بالفراش لأنه قال بعد قوله هو لك "الولد للفراش" لأنه لما أبطل الشرع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق صاحب الفراش. وجرى المزني على القول بأن الإلحاق يختص بالأب فقال: أجمعوا على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، والذي عندي في قصة عبد بن زمعة أنه صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم أن الحكم كذا بشرط أن يدعي صاحب الفراش لا أنه قبل دعوى سعد عن أخيه عتبة ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة بل عرفهم أن الحكم في مثلها يكون كذلك. قال ولذلك قال: "احتجبي منه يا سودة" وتعقب بأن قوله لعبد بن زمعة " هو أخوك " يدفع هذا التأويل، واستدل به على أن الوصي يجوز له أن يستلحق ولد موصيه إذا أوصى إليه بأن يستلحقه ويكون كالوكيل عنه في ذلك، وقد مضى التبويب بذلك في كتاب الأشخاص وعلى أن الأمة تصير فراشا بالوطء، فإذا اعترف السيد بوطء أمته أو ثبت ذلك بأي طريق كان ثم أتت بولد لمدة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق كما في الزوجة، لكن الزوجة تصير فراشا بمجرد العقد فلا يشترط في الاستلحاق إلا الإمكان لأنها تراد الموطء فجعل العقد عليها كالوطء. بخلاف الأمة فإنها تراد لمنافع أخرى فاشترط في حقها الوطء

(12/34)


ومن ثم يجوز الجمع بين الأختين بالملك دون الوطء وهذا قول الجمهور، وعن الحنفية لا تصير الأمة فراشا إلا إذا ولدت من السيد ولدا ولحق به فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه، وعن الحنابلة من اعترف بالوطء فأتت منه لمدة الإمكان لحقه وإن ولدت منه أولا فاستلحقه لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف على الراجح عندهم، وترجيح المذهب الأول ظاهر لأنه لم ينقل أنه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر، والكل متفقون على أنها لا تصير فراشا إلا بالوطء، قال النووي: وطء زمعة أمته المذكورة علم إما ببينة وإما باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قلت: وفي حديث ابن الزبير ما يشعر بأن ذلك كان أمرا مشهورا وسأذكر لفظه قريبا، واستدل به على أن السبب لا يخرج ولو قلنا إن العبرة بعموم اللفظ. ونقل الغزالي تبعا لشيخه والآمدي ومن تبعه عن الشافعي قولا بخصوص السبب تمسكا بما نقل عن الشافعي أنه ناظر بعض الحنفية لما قال إن أبا حنيفة خص الفراش بالزوجة وأخرج الأمة من عموم " الولد للفراش " فرد عليه الشافعي بأن هذا ورد على سبب خاص، ورد ذلك الفخر الرازي على من قاله بأن مراد الشافعي أن خصوص السبب لا يخرج، والخبر إنما ورد في حق الأمة فلا يجوز إخراجه، ثم رفع الاتفاق على تعميمه في الزوجات لكن شرط الشافعي والجمهور الإمكان زمانا ومكانا، وعن الحنفية يكفي مجرد العقد فتصير فراشا ويلحق الزوج الولد، وحجتهم عموم قوله: "الولد للفراش" لأنه لا يحتاج إلى تقدير وهو الولد لصاحب الفراش لأن المراد بالفراش الموطوءة، ورده القرطبي بأن الفراش كناية عن الموطوءة لكون الواطئ يستفرشها أي يصيرها بوطئه لها فراشا له يعني فلا بد من اعتبار الوطء حتى تسمى فراشا وألحق به إمكان الوطء فمع عدم إمكان الوطء لا تسمى فراشا. وفهم بعض الشراح عن القرطبي خلاف مراده فقال: كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرد كون الفراش هو الموطوءة وليس هو المراد فعلم أنه لا بد من تقدير محذوف لأنه قال إن الفراش هو الموطوءة والمراد به أن الولد لا يلحق بالواطئ، قال المعترض: وهذا لا يستقيم إلا مع تقدير الحذف. قلت: وقد بينت وجه استقامته بحمد الله، ويؤيد ذلك أيضا أن ابن الأعرابي اللغوي نقل أن الفراش عند العرب يعبر به عن الزوج وعن المرأة والأكثر إطلاقه على المرأة، ومما ورد في التعبير به عن الرجل قول جرير فيمن تزوجت بعد قتل زوجها أو سيدها:
باتت تعانقه وبات فراشها ... خلق العباءة بالبلاء ثقيلا
وقد يعبر به عن حالة الافتراش ويمكن حمل الخبر عليها فلا يتعين الحذف، نعم لا يمكن حمل الخبر على كل واطئ بل المراد من له الاختصاص بالوطء كالزوج والسيد، ومن ثم قال ابن دقيق العيد: معنى "الولد للفراش" تابع للفراش أو محكوم به للفراش أو ما يقارب هذا، وقد شنع بعضهم على الحنفية بأن من لازم مذهبهم إخراج السبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال، وأجاب بعضهم بأنه خصص الظاهر القوي بالقياس، وقد عرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد وهذا منها، واستدل به على أن القائف إنما يعتمد في الشبه إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه لأن الشارع لم يلتفت هنا إلى الشبه والتفت إليه في قصة زيد بن حارثة، وكذا لم يحكم بالشبه في قصة الملاعنة لأنه عارضه حكم أقوى منه وهو مشروعية اللعان، وفيه تخصيص عموم "الولد للفراش" وقد تمسك بالعموم الشعبي وبعض المالكية وهو شاذ، ونقل عن الشافعي أنه قال: لقوله: "الولد للفراش" معنيان أحدهما هو له ما لم ينفه فإذا نفاه بما شرع له كاللعان انتفى عنه، والثاني إذا تنازع رب الفراش

(12/35)


والعاهر فالولد لرب الفراش. قلت: والثاني منطبق على خصوص الواقعة والأول أعم. قوله: "فتساوقا" أي تلازما في الذهاب بحيث أن كلا منهما كان كالذي يسوق الآخر. قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" كذا للأكثر، وقد تقدم ضبط عبد وأنه يجوز فيه الضم والفتح، وأما ابن فهو منصوب على الحالين، ووقع في رواية للنسائي: "هو لك عبد بن زمعة" بحذف حرف النداء، وقرأه بعض المخالفين بالتنوين وهو مردود فقد وقع في رواية يونس المعلقة في المغازي "هو لك، هو أخوك يا عبد" ووقع لمسدد عن ابن عيينة عند أبي داود "هو أخوك يا عبد" قال ابن عبد البر: تثبت الأمة فراشا عند أهل الحجاز إن أقر سيدها أنه كان يلم بها، وعند أهل العراق إن أقر سيدها بالولد، وقال المازري: يتعلق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه، وهو صحيح عند الشافعي إذا لم يكن له وارث سواه، وقد تعلق أصحابه بهذا الحديث لأنه لم يرد أن زمعة ادعاه ولدا ولا اعترف بوطء أمه فكان المعول في هذه القصة على استلحاق عبد بن زمعة، قال: وعندنا لا يصح استلحاق الأخ، ولا حجة في هذا الحديث لأنه يمكن أن يكون ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أن زمعة كان يطأ أمته فألحق الولد به لأن من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء، وإنما يصعب هذا على العراقيين ويعسر عليهم الانفصال عما قاله الشافعي لما قررناه أنه لم يكن لزمعة ولد من الأمة المذكورة سابق، ومجرد الوطء لا عبرة به عندهم فيلزمهم تسليم ما قال الشافعي، قال: ولما ضاق عليهم الأمر قالوا الرواية في هذا الحديث: "هو لك عبد بن زمعة" وحذف حرف النداء بين عبد وابن زمعة والأصل يا ابن زمعة، قالوا والمراد أن الولد لا يلحق بزمعة بل هو عبد لولده لأنه وارثه ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه لأنها لم ترث زمعة لأنه مات كافرا وهي مسلمة، قال وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة ولو وردت لرددناها إلى الرواية المشهورة وقلنا بل المحذوف حرف النداء بين لك وعبد كقوله تعالى حكاية عن صاحب يوسف حيث قال: "يوسف أعرض عن هذا" انتهى. وقد سلك الطحاوي فيه مسلكا آخر فقال: معنى قوله: "هو لك" أي يدك عليه لا أنك تملكه ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبين أمره كما قال لصاحب اللقطة "هي لك" وقال له "إذا جاء صاحبها فأدها إليه" قال ولما كانت سودة شريكة لعبد في ذلك لكن لم يعلم منها تصديق ذلك ولا الدعوى به ألزم عبدا بما أقر به على نفسه ولم يجعل ذلك حجة عليها فأمرها بالاحتجاب، وكلامه كله متعقب بالرواية الثانية المصرح فيها بقوله: "هو أخوك " فإنها رفعت الإشكال وكأنه لم يقف عليها ولا على حديث ابن الزبير وسودة الدال على أن سودة وافقت أخاها عبدا في الدعوى بذلك. قوله: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" تقدم في غزوة الفتح تعليقا من رواية يونس عن ابن شهاب " قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد إلخ " وهذا منقطع، وقد وصله غيره عن ابن شهاب، ووقع في رواية يونس أيضا، قال ابن شهاب: وكان أبو هريرة يصيح بذلك، وقد قدمت هناك أن مسلما أخرجه موصولا من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وأبي هريرة، وقوله: "وللعاهر الحجر" أي للزاني الخيبة والحرمان، والعهر بفتحتين الزنا، وقيل يختص بالليل، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب "له الحجر وبفيه الحجر والتراب" ونحو ذلك، وقيل المراد بالحجر هنا أنه يرجم، قال النووي: وهو ضعيف لأن الرجم مختص بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد. وقال السبكي: والأول أشبه بمساق الحديث لتعم الخيبة كل زان، ودليل الرجم، مأخوذ من موضع آخر فلا حاجة للتخصيص من غير دليل. قلت: ويؤيد

(12/36)


الأول أيضا ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه " الولد للفراش وفي فم العاهر الحجر " وفي حديث ابن عمر عند ابن حبان: "الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب " بمثلثة ثم موحدة بينهما لام وبفتح أوله وثالثه ويكسران قيل هو الحجر وقيل دقاقه وقيل التراب. قوله: "ثم قال لسودة احتجبي منه" في رواية الليث " واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة". قوله: "فما رآها حتى لقي الله" في رواية معمر " قالت عائشة فوالله ما رآها حتى ماتت " وفي رواية الليث " فلم تره سودة قط " يعني في المدة التي بين هذا القول وبين موت أحدهما، وكذا لمسلم من طريقه. وفي رواية ابن جريج في صحيح أبي عوانة مثله، وفي رواية الكشميهني الآتية في حديث الليث أيضا: "فلم تره سودة بعد " وهذه إذا ضمت إلى رواية مالك ومعمر استفيد منها أنها امتثلت الأمر وبالغت في الاحتجاب منه حتى إنها لم تره فضلا عن أن يراها، لأنه ليس في الأمر المذكور دلالة على منعها من رؤيته. وقد استدل به الحنفية على أنه لم يلحقه بزمعة لأنه لو ألحقه به لكان أخا سودة والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه، وأجاب الجمهور بأن الأمر بذلك كان للاحتياط لأنه وإن حكم بأنه أخوها لقوله في الطرق الصحيحة "هو أخوك يا عبد" وإذا ثبت أنه أخو عبد لأبيه فهو أخو سودة لأبيها، لكن لما رأى الشبه بينا بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطا، وأشار الخطابي إلى أن في ذلك مزية لأمهات المؤمنين لأن لهن في ذلك ما ليس لغيرهن، قال: والشبه يعتبر في بعض المواطن لكن لا يقضي به إذا وجد ما هو أقوى منه، وهو كما يحكم في الحادثة بالقياس ثم يوجد فيها نص فيترك القياس، قال: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث وليس بالثابت " احتجبي منه يا سودة فإنه ليس لك بأخ " وتبعه النووي فقال: هذه الزيادة باطلة مردودة، وتعقب بأنها وقعت في حديث عبد الله بن الزبير عند النسائي بسند حسن ولفظه: كانت لزمعة جارية يطؤها وكان يظن بآخر أنه يقع عليها فجاءت بولد يشبه الذي كان يظن به فمات زمعة، فذكرت ذلك سودة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ " ورجال سنده رجال الصحيح إلا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل الزبير. وقد طعن البيهقي في سنده فقال: فيه جرير وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف وهو غير معروف، وعلى تقدير ثبوته فلا يعارض حديث عائشة المتفق على صحته، وتعقب بأن جريرا هذا لم ينسب إلى سوء حفظ وكأنه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأن الجمع بينهما ممكن فلا ترجيح، وبأن يوسف معروف في موالي آل الزبير، وعلى هذا فيتعين تأويله، وإذا ثبتت هذه الزيادة تعين تأويل نفي الأخوة عن سودة على نحو ما تقدم من أمرها بالاحتجاب منه، ونقل ابن العربي في "القوانين" عن الشافعي نحو ما تقدم وزاد، ولو كان أخاها بنسب محقق لما منعها كما أمر عائشة أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة. وقال البيهقي: معنى قوله: "ليس لك بأخ " إن ثبت ليس لك بأخ شبها فلا يخالف قوله لعبد "هو أخوك". قلت: أو معنى قوله: "ليس لك بأخ" بالنسبة للميراث من زمعة لأن زمعة مات كافرا وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة فلا حق لسودة في إرثه بل حازه عبد قبل الاستلحاق فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة فلهذا قال لعبد "هو أخوك" وقل لسودة "ليس لك بأخ" وقال القرطبي بعد أن قرر أن أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط وتوقي الشبهات: ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق أمهات المؤمنين كما قال: "أفعمياوان أنتما " فنهاهما عن رؤية الأعمى مع قوله لفاطمة بنت قيس "اعتدى عند ابن أم مكتوم فإنه أعمى" فغلظ الحجاب في حقهن دون غيرهن، وقد

(12/37)


تقدم في تفسير الحجاب قول من قال: إنه كان يحرم عليهن بعد الحجاب إبراز أشخاصهن ولو كن مستترات إلا لضرورة بخلاف غيرهن فلا يشترط، وأيضا فإن للزوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها فلعل المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع به في الخلوة، وقال ابن حزم: لا يجب على المرأة أن يراها أخوها بل الواجب عليها صلة رحمها، ورد على من زعم أن معنى قوله: "هو لك" أي عبد، بأنه لو قضى بأنه عبد لما أمر سودة بالاحتجاب منه إما لأن لها فيه حصة وإما لأن من في الرق لا يحتجب منه على القول بذلك، وقد تقدم جواب المزني عن ذلك قريبا، واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين حكمين وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فيعطى أحكاما بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة فأعطى الفرع حكما بين حكمين فروعي الفراش في النسب والشبه البين في الاحتجاب، قال: وإلحاقه بهما ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. قال ابن دقيق العيد: ويعترض على هذا بأن صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين وهنا الإلحاق شرعي للتصريح بقوله: "الولد للفراش" فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلا لأنه يناقض الإلحاق فتعين أنه للاحتياط لا لوجوب حكم شرعي وليس فيه إلا ترك مباح مع ثبوت المحرمية. واستدل به على أن حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن كما لو حكم بشهادة فظهر أنها زور لأنه حكم بأنه أخو عبد وأمر سودة بالاحتجاب بسبب الشبه بعتبة، فلو كان الحكم يحل الأمر في الباطن لما أمرها بالاحتجاب، واستدل به على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة وهو قول الجمهور، ووجه الدلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنه أخوها لأجل الشبه بالزاني. وقال مالك في المشهور عنه والشافعي: لا أثر لوطء الزنا بل للزاني أن يتزوج أم التي زنى بها وبنتها، وزاد الشافعي ووافقه ابن الماجشون: والبنت التي تلدها المزني بها ولو عرفت أنها منه، قال النووي: وهذا احتجاج باطل لأنه على تقدير أن يكون من الزنا فهو أجنبي من سودة لا يحل لها أن تظهر له سواء ألحق بالزاني أم لا فلا تعلق له بمسألة البنت المخلوقة من الزنا، كذا قال وهو رد للفرع برد الأصل، وإلا فالبناء الذي بنوه صحيح، وقد أجاب الشافعية عنه بما تقدم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط ويحمل الأمر في ذلك إما على الندب وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير الندب فالشافعي قائل به في المخلوقة من الزنا وعلى التخصيص فلا إشكال والله أعلم. ويلزم من قال بالوجوب أن يقول به في تزويج البنت المخلوقة من ماء الزنا فيجيز عند فقد الشبه ويمنع عند وجوده، واستدل به على صحة ملك الكافر الوثني الأمة الكافرة وإن حكمها بعد أن تلد من سيدها حكم القن لأن عبدا وسعدا أطلقا عليها أمة ووليدة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كذا أشار إليه البخاري في كتاب العتق عقب هذا الحديث بعد أن ترجم له "أم الولد" ولكنه ليس في أكثر النسخ، وأجيب بأن عتق أم الولد بموت السيد ثبت بأدلة أخرى، وقيل إن غرض البخاري بإيراده أن بعض الحنفية لما ألزم أن أم الولد المتنازع فيه كانت حرة رد ذلك وقال بل كانت عتقت، وكأنه قد ورد في بعض طرقه أنها أمة فمن ادعى أنها عتقت فعليه البيان. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد القطان ومحمد بن زياد هو الجمحي. قوله: "الولد لصاحب الفراش" كذا في هذه الرواية، وزاد آدم عن شعبة "وللعاهر الحجر" وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة، ولهذا الحديث سبب غير قصة ابن زمعة فقد أخرجه أبو داود وغيره من رواية حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قام رجل فقال لما فتحت مكة: إن فلانا ابني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا دعوة في

(12/38)


الإسلام ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الأثلب. قيل: ما الأثلب؟ قال: الحجر". "تكملة" حديث: "الولد للفراش" قال ابن عبد البر هو من أصح ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عن بضعة وعشرين نفسا من الصحابة فذكره البخاري في هذا الباب عن أبي هريرة وعائشة. وقال الترمذي عقب حديث أبي هريرة: وفي الباب عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو وأبي أمامة وعمرو بن خارجة والبراء وزيد بن أرقم، وزاد شيخنا عليه معاوية وابن عمر، وزاد أبو القاسم بن منده في تذكرته معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعلي بن أبي طالب والحسين ابن علي وعبد الله بن حذافة وسعد بن أبي وقاص وسودة بنت زمعة، ووقع لي من حديث ابن عباس وأبي مسعود البدري وواثلة بن الأسقع وزينب بنت جحش، وقد رقمت عليها علامات من أخرجها من الأئمة فطب علامة الطبراني في الكبير وطس علامته في الأوسط وبز علامة البزار وص علامة أبي يعلى الموصلي وتم علامة تمام في فوائده وجميع هؤلاء وقع عندهم "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ومنهم من اقتصر على الجملة الأولى وفي حديث عثمان قصة وكذا علي وفي حديث معاوية قصة أخرى له مع نصر بن حجاج وعبد الرحمن ابن خالد بن الوليد فقال له نصر: فأين قضاؤك في زياد؟ فقال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من قضاء معاوية. وفي حديث أبي أمامة وابن مسعود وعبادة أحكام أخرى، وفي حديث عبد الله بن حذافة قصة له في سؤاله عن اسم أبيه، وفي حديث ابن الزبير قصة نحو قصة عائشة باختصار وقد أشرت إليه، وفي حديث سودة نحوه ولم تسم في رواية أحمد بل قال: "عن بنت زمعة" وفي حديث زينب قصة ولم يسم أبوها بل فيه: "عن زينب الأسدية" وبالله التوفيق. وجاء من مرسل عبيد بن عمير وهو أحد كبار التابعين أخرجه ابن عبد البر بسند صحيح إليه.

(12/39)


باب الولاء لمن أعتق ، و ميراث اللقيط
...
19- باب: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَمِيرَاثُ اللَّقِيطِ. وَقَالَ عُمَرُ: اللَّقِيطُ حُرٌّ
6751- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشْتَرِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ " وَأُهْدِيَ لَهَا شَاةٌ، فَقَالَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ. قَالَ الْحَكَمُ وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَقَوْلُ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا
6752- حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما الولاء لمن أعتق"
قوله: "باب إنما الولاء لمن أعتق وميراث اللقيط، وقال عمر: اللقيط حر" هذه الترجمة معقودة لميراث اللقيط فأشار إلى ترجيح قول الجمهور أن اللقيط حر وولاؤه في بيت المال، وإلى ما جاء عن النخعي أن ولاءه للذي التقطه واحتج بقول عمر لأبي جميلة في الذي التقطه "اذهب فهو حر وعلينا نفقته ولك ولاؤه" وتقدم هذا الأثر معلقا بتمامه في أوائل الشهادات وذكرت هناك من وصله، وأجبت عنه بأن معنى قول عمر "لك ولاؤه" أي أنت الذي تتولى تربيته والقيام بأمره فهي ولاية الإسلام لا ولاية العتق، والحجة لذلك صريح الحديث المرفوع "إنما الولاء لمن أعتق" فاقتضى أن من لم يعتق لا ولاء له لأن العتق يستدعي سبق ملك واللقيط من دار الإسلام لا يملكه الملتقط

(12/39)


لأن الأصل في الناس الحرية إذ لا يخلو المنبوذ أن يكون ابن حرة فلا يسترق أو ابن أمة قوم فميراثه لهم فإذا جهل وضع في بيت المال ولا رق عليه للذي التقطه، وجاء عن علي أن اللقيط مولى من شاء وبه قال الحنفية إلى أن يعقل عنه فلا ينتقل بعد ذلك عمن عقل عنه، وقد خفي كل هذا على الإسماعيلي فقال: "ذكر ميراث اللقيط" في ترجمة الباب وليس له في الحديث ذكر ولا عليه دلالة، يريد أن حديث عائشة وابن عمر مطابق لترجمة "إنما الولاء لمن أعتق" وليس في حديثهما ذكر ميراث اللقيط، وقد جرى الكرماني على ذلك فقال: فإذ قلت فأين ذكر ميراث اللقيط؟ قلت: هو ما ترجم به ولم يتفق له إيراد الحديث فيه. قلت: وهذا كله إنما هو بحسب الظاهر، وأما بحسب تدقيق النظر ومناسبة إيراده في أبواب المواريث فبيانه ما قدمت والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن اللقيط حر إلا رواية عن النخعي، وعنه كالجماعة، وعنه كالمنقول عن الحنفية، وقد جاء عن شريح نحو الأول وبه قال إسحاق بن راهويه. قوله: "الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد والثلاثة تابعيون كوفيون. قوله: "قال الحكم وكان زوجها حرا" هو موصول إلى الحكم بالإسناد المذكور، ووقع في رواية الإسماعيلي من رواية أبي الوليد عن شعبة مدرجا في الحديث، ولم يقل ذلك الحكم من قبل نفسه فسيأتي في الباب الذي يليه من طريق منصور عن إبراهيم أن الأسود قاله أيضا فهو سلف الحكم فيه. قوله: "وقول الحكم مرسل" أي ليس بمسند إلى عائشة راوية الخبر فيكون في حكم المتصل المرفوع. قوله: "وقال ابن عباس رأيته عبدا" زاد في الباب الذي يليه "وقول الأسود منقطع" أي لم يصله بذكر عائشة فيه وقول ابن عباس أصح لأنه ذكر أنه رآه، وقد صح أنه حضر القصة وشاهدها فيترجح قوله على قول من لم يشهدها، فإن الأسود لم يدخل المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحكم فولد بعد ذلك بدهر طويل، ويستفاد من تعبير البخاري قول الأسود منقطع جواز إطلاق المنقطع في موضع المرسل خلافا لما اشتهر في الاستعمال من تخصيص المنقطع بما يسقط منه من أثناء السند واحد إلا في صورة سقوط الصحابي بين التابعي والنبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك يسمى عندهم المرسل، ومنهم من خصه بالتابعي الكبير فيستفاد من قول البخاري أيضا: "وقول الحكم مرسل" أنه يستعمل في التابعي الصغير أيضا لأن الحكم من صغار التابعين، واستدل به لإحدى الروايتين عن أحمد أن من أعتق عن غيره فالولاء للمعتق والأجر للمعتق عنه، وسيأتي البحث فيه في " باب ما يرث النساء من الولاء".

(12/40)


20- باب: مِيرَاثِ السَّائِبَةِ
6753- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ عَنْ "عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الإِسْلاَمِ لاَ يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ"
6754- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ لِتُعْتِقَهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ لِأُعْتِقَهَا وَإِنَّ أَهْلَهَا يَشْتَرِطُونَ وَلاَءَهَا فَقَالَ: "أَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، أَوْ قَالَ: "أَعْطَى الثَّمَنَ" قَالَ: فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا قَالَ: وَخُيِّرَتْ"

(12/40)


فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَالَتْ: لَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا كُنْتُ مَعَهُ" قَالَ الأَسْوَدُ وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا" قَوْلُ الأَسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ "رَأَيْتُهُ عَبْدًا أَصَحُّ"
قوله: "باب ميراث السائبة" بمهملة وموحدة بوزن فاعلة وتقدم بيانها في تفسير المائدة، والمراد بها في الترجمة العبد الذي يقول له سيده لا ولاء لأحد عليك أو أنت سائبة يريد بذلك عتقه وأن لا ولاء لأحد عليه، وقد يقول له أعتقتك سائبة أو أنت حر سائبة، ففي الصيغتين الأوليين يفتقر في عتقه إلى نية وفي الأخريين يعتق، واختلف في الشرط فالجمهور على كراهيته وشذ من قال بإباحته، واختلف في ولائه، وسأبينه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. قوله: "عن هزيل" في رواية يزيد بن أبي حكيم العدني عن سفيان عند الإسماعيلي: "حدثني هزيل بن شرحبيل" وهو بالزاي مصغر، ووهم من قاله بالذال المعجمة وقد تقدم ذلك قريبا، وأن سفيان في السند هو الثوري وأن أبا قيس هو عبد الرحمن. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "إن أهل الإسلام لا يسبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسبون" هذا طرف من حديث أخرجه الإسماعيلي بتمامه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بسنده هذا إلى هزيل قال: "جاء رجل إلى عبد الله فقال إني أعتقت عبدا لي سائبة فمات فترك مالا ولم يدع وارثا، فقال عبد الله " فذكر حديث الباب وزاد: "وأنت ولي نعمته فلك ميراثه، فإن تأثمت أو تحرجت في شيء فنحن نقبله ونجعله في بيت المال" وفي رواية العدني "فإن تحرجت" ولم يشك وقال: "فأرنا (1) نجعله في بيت المال " ومعنى " تأثمت " بالمثلثة قبل الميم خشيت أن تقع في الإثم، وتحرجت بالحاء المهملة ثم الجيم بمعناه، وبهذا الحكم في السائبة قال الحسن البصري وابن سيرين والشافعي وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن سيرين " أن سالما مولى أبي حذيفة الصحابي المشهور أعتقته امرأة من الأنصار سائبة وقالت له وال من شئت، فوالى أبا حذيفة، فلما استشهد باليمامة دفع ميراثه للأنصارية أو لابنها " وأخرج ابن المنذر من طريق بكر بن عبد الله المزني " أن ابن عمر أتى بمال مولى به مات فقال إنا كنا أعتقناه سائبة فأمر أن يشتري بثمنه رقابا فتعتق " وهذا يحتمل أن يكون فعله على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب، وقد أخذ بظاهره عطاء فقال: إذا لم يخلف السائبة وارثا دعي الذي أعتقه فإن قبل ماله وإلا ابتيعت به رقاب فأعتقت، وفيه مذهب آخر أن ولاءه للمسلمين يرثونه ويعقلون عنه، قاله عمر ابن عبد العزيز والزهري، وهو قول مالك، وعن الشعبي والنخعي والكوفيين: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته، قال ابن المنذر: واتباع ظاهر قوله: "الولاء لمن أعتق" أولى. قلت: وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد حديث عائشة في قصة بريرة وفيه: "فإنما الولاء لمن أعتق، وفيه قول الأسود إن زوج بريرة كان حرا، وقد تقدم الكلام على ذلك في الباب الذي قبله.
ـــــــ
(1) كذا في النسخ بالراء، ولعله محرف من "فآذنا"

(12/41)


21- باب: إِثْمِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ مَوَالِيهِ
6755- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ: فَأَخْرَجَهَا فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ

(12/41)


وَأَسْنَانِ الإِبِلِ قَالَ: وَفِيهَا" الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ"
6756- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ"
قوله: "باب إثم من تبرأ من مواليه" هذه الترجمة لفظ حديث. أخرجه أحمد والطبراني من طريق سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله عبادا لا يكلمهم الله تعالى " الحديث وفيه: "ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم " وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه عند أحمد " كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق " وله شاهد عن أبي بكر الصديق، وأما حديث الباب فلفظه: "من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ومثله لأحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان عن ابن عباس، ولأبي داود من حديث أنس " فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة " وقد مضى شرح حديث الباب في فضل المدينة وفي الجزية ويأتي في الديات، وفي معنى حديث علي في هذا حديث عائشة مرفوعا: "من تولى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار " صححه ابن حبان، ووالد إبراهيم التيمي الراوي له عن علي اسمه يزيد بن شريك، وقد رواه عن علي جماعة منهم أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي ومضى في كتاب العلم، وذكرت هناك وفي فضائل المدينة اختلاف الرواة عن علي فيما في الصحيفة وأن جميع ما رووه من ذلك كان فيها، وكان فيها أيضا ما مضى في الخمس من حديث محمد بن الحنفية أن أباه علي بن أبي طالب أرسله إلى عثمان بصحيفة فيها فرائض الصدقة، فإن رواية طارق بن شهاب عن علي في نحو حديث الباب عند أحمد أنه كان في صحيفته فرائض الصدقة، وذكرت في العلم سبب تحديث علي بن أبي طالب بهذا الحديث وإعراب قوله: "إلا كتاب الله" وتفسير الصحيفة وتفسير العقل، ومما وقع فيه في العلم " لا يقتل مسلم بكافر " وأحلت بشرحه على كتاب الديات، والذي تضمنه حديث الباب مما في الصحيفة المذكورة أربعة أشياء: أحدها الجراحات وأسنان الإبل، وسيأتي شرحه في الديات، وهل المراد بأسنان الإبل المتعلقة بالخراج أو المتعلقة بالزكاة أو أعم من ذلك. ثانيها "المدينة حرم" وقد مضى شرحه مستوفى في مكانه في فضل المدينة في أواخر الحج، وذكرت فيه ما يتعلق بالسند، وبيان الاختلاف في تفسير الصرف والعدل. ثالثها "ومن والي قوما" هو المقصود هنا وقوله فيه: "بغير إذن مواليه " قد تقدم هناك أن الخطابي زعم أن له مفهوما وهو أنه إذا استأذن مواليه منعوه، ثم راجعت كلام الخطابي وهو ليس إذن الموالي شرطا في ادعاء نسب وولاء ليس هو منه وإليه، وإنما ذكر تأكيدا للتحريم ولأنه إذا استأذنهم منعوه وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك انتهى، وهذا لا يطرد لأنهم قد يتواطئون معه على ذلك لغرض ما، والأولى ما قال

(12/42)


غيره إن التعبير بالإذن ليس لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه وإنما ورد الكلام بذلك على أنه الغالب انتهى. ويحتمل أن يكون قول "من تولى" شاملا للمعنى الأعم من الموالاة وأن منها مطلق النصرة والإعانة والإرث، ويكون قوله: "بغير إذن مواليه" يتعلق بمفهومه بما عدا الميراث، ودليل إخراجه حديث: "إنما الولاء لمن أعتق " والعلم عند الله تعالى. وكأن البخاري لحظ هذا فعقب الحديث بحديث ابن عمر في النهي عن بيع الولاء وعن هبته، فإنه يؤخذ منه عدم اعتبار الإذن في ذلك بطريق الأولى، لأنه إذا منع السيد من بيع الولاء مع ما تحصل له من العوض ومن هبته مع ما يحصل له من المانة بذلك فمنعه من الإذن بغير عرض ولا مانة أولى، وهو مندرج في الهبة. وفي الحديث أن انتماء المولى من أسفل إلى غير مولاه من فوق حرام لما فيه من كفر النعمة وتضييع حق الإرث بالولاء والعقل وغير ذلك، وبه استدل مالك على ما ذكره عنه ابن وهب في موطئه قال: سئل عن عبد يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء فقال لا يجوز ذلك واحتج بحديث ابن عمر ثم قال: فتلك الهبة المنهي عنها، وقد شذ عطاء ابن أبي رباح بالأخذ بمفهوم هذا الحديث فقال فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه: إن أذن الرجل لمولاه أن يوالي من شاء جاز، واستدل بهذا الحديث، قال ابن بطال: وجماعة الفقهاء على خلاف ما قال عطاء، قال: ويحمل حديث علي على أنه جرى على الغالب مثل قوله تعالى :{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وقد أجمعوا على أن قتل الولد حرام سواء خشي الإملاق أم لا، وهو منسوخ بحديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته. قلت: قد سبق عطاء إلى القول بذلك عثمان، فروى ابن المنذر أن عثمان اختصموا إليه في نحو ذلك فقال للعتيق: وال من شئت، وأن ميمونة وهبت ولاء مواليها للعباس وولده، والحديث الصحيح مقدم على جميع ذلك فلعله لم يبلغ هؤلاء أو بلغهم وتأولوه وانعقد الإجماع على خلاف قولهم. قال ابن بطال، وفي الحديث لأنه لا يجوز للعتيق أن يكتب فلان ابن فلان ويسمي نفسه ومولاه الذي أعتقه، بل يقول فلان مولى فلان، ولكن يجوز له أن ينتسب إلى نسبه كالقرشي وغيره، قال والأولى أن يفصح بذلك أيضا كأن يقول: القرشي بالولاء أو مولاهم. قال: وفيه أن من علم ذلك وفعله سقطت شهادته لما ترتب عليه من الوعيد ويجب عليه التوبة والاستغفار. وفيه جواز لعن أهل الفسق عموما ولو كانوا مسلمين. رابعها "وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الجزية، وأما حديث الباب الثاني فقد مضى في كتاب العتق وأحلت بشرحه على ما هنا. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن عبد الله بن دينار" هكذا قال الحفاظ من أصحاب سفيان الثوري عنه، منهم عبد الرحمن بن مهدي ووكيع وعبد الله بن نمير وغيرهم. قوله: "عن ابن عمر" في رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن سنان عن عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة وسفيان عن ابن دينار " سمعت ابن عمر " وقد اشتهر هذا الحديث عن عبد الله بن دينار حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه: الناس في هذا الحديث عيال عليه. وقال الترمذي بعد تخريجه: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار رواه عنه سعيد وسفيان ومالك، ويروى عن شعبة أنه قال وددت أن عبد الله ابن دينار لما حدث بهذا الحديث أذن لي حتى كنت أقوم إليه فأقبل رأسه. قال الترمذي: وروى يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار. قلت: وصل رواية يحيى بن سليم ابن ماجه، ولم ينفرد به يحيى بن سليم فقد تابعه أبو ضمرة أنس بن عياض ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن عبيد الله بن عمر أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريقهما لكن قرن كل منهما نافعا بعبد الله بن دينار،

(12/43)


وأخرجه ابن حبان في الثقات في ترجمة أحمد بن أبي أوفى وساقه من طريقه عن شعبة عن عبد الله بن دينار وعمرو بن دينار جميعا عن ابن عمر وقال عمرو بن دينار غريب، وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجمع طرقه عن عبد الله بن دينار فأورده عن خمسة وثلاثين نفسا ممن حدث به عن عبد الله ابن دينار منهم من الأكابر يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة ويزيد بن الهاد وعبيد الله العمري وهؤلاء من صغار التابعين وممن دونهم مسعر والحسن بن صالح بن حي وورقاء وأيوب بن موسى وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. وعبد العزيز بن مسلم وأبو أويس، وممن لم يقع له ابن جريج وهو عند أبي عوانة وسليمان ابن بلال وهو عند مسلم وأحمد بن حازم المغافري في جزء الهروي من طريق الطبراني. قوله: "عن ابن عمر" في رواية أبي داود الحفري عن سفيان عند الإسماعيلي: "سمعت ابن عمر" وكذا مضى في العتق من رواية شعبة وفي مسند الطيالسي عن شعبة " قلت لعبد الله بن دينار أنت سمعت هذا من ابن عمر؟ قال: نعم، سأله ابنه عنه، وذكره أبو عوانة عن بهز بن أسيد عن شعبة " قلت لابن دينار أنت سمعته من ابن عمر؟ قال: نعم وسأله ابنه حمزة عنه، وكذا وقع في رواية عفان عن شعبة عند أبي نعيم، وأخرجه من وجه آخر أن شعبة قال: "قلت لابن دينار: والله لقد سمعت ابن عمر يقول هذا؟ فيحلف له " وقيل لابن عيينة إن شعبة يستحلف عبد الله بن دينار، قال لكنا لم نستحلفه سمعته منه مرارا رويناه في مسند الحميدي عن سفيان، وأخرجه الدار قطني في " غرائب مالك " من طريق الحسن بن زياد اللؤلؤي عن مالك عن ابن دينار عن حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سأل أباه عن شراء الولاء فذكر الحديث، فهذا ظاهره أن ابن دينار لم يسمعه من ابن عمر وليس كذلك، وقال ابن العربي في "شرح الترمذي": تفرد بهذا الحديث عبد الله بن دينار وهو من الدرجة الثانية من الخبر لأنه لم يذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نقل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق " قلت: ويؤيده أن ابن عمر روى هذا الحديث عن عائشة في قصة بريرة كما مضى في العتق، لكن جاءت عنه صيغة الحديث من وجه آخر أخرجه النسائي وأبو عوانة من طريق الليث عن يحيى بن أيوب عن مالك ولفظه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الولاء وعن هبته " ووقع في رواية محمد بن أبي سليمان التي أشرت إليها بلفظ: "الولاء لا يباع ولا يوهب " وفي رواية عتبان بن عبيد عن شعبة مثله ذكره أبو نعيم، وزاد محمد بن سليمان الخراز في السند عن ابن عمر "عن عمر" فوهم أخرجه الدار قطني أيضا وضعفه، واتفق جميع من ذكرنا على هذا اللفظ وخالفهم أبو يوسف القاضي فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بلفظ: "الولاء لحمة كلحمة النسب" أخرجه الشافعي ومن طريقه الحاكم ثم البيهقي، وأدخل بشر بن الوليد بين أبي يوسف وبين ابن دينار عبيد الله بن عمر أخرجه أبو يعلى في مسنده عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى، وأخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن جعفر بن أعين عن بشر فزاد في المتن "لا يباع ولا يوهب" ومن طريق عبد الله بن نافع عن عبد الله بن دينار " إنما الولاء نسب لا يصح بيعه ولا هبته " والمحفوظ في هذا ما أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد ابن المسيب موقوفا عليه " الولاء لحمة كلحمة النسب " وكذا ما أخرجه البزار والطبراني من طريق سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده رفعه: "الولاء ليس بمنتقل ولا متحول " وفي سنده المغيرة بن جميل وهو مجهول، نعم عن ابن عباس من قوله الولاء لمن أعتق لا يجوز بيعه ولا هبته. وقال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب فإذا كان حكم الولاء حكم النسب فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في

(12/44)


الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك، وقال ابن عبد البر: اتفق الجماعة على العمل بهذا الحديث إلا ما روي عن ميمونة أنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء. قلت: وقد تقدم البحث فيه في الباب الذي قبله. وقال ابن بطال وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء وكذا عن ابن عباس ولعلهم لم يبلغهم الحديث، قلت: قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان فأخرج عبد الرزاق عنه أنه كان يقول: أيبيع أحدكم نسبه؟ ومن طريق علي: الولاء شعبة من النسب، ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته، ومن طريق عطاء أن ابن عمر كان ينكره، ومن طريق عطاء عن ابن عباس لا يجوز وسنده صحيح ومن ثم فصلوا في النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة، وقال ابن العربي: معنى "الولاء لحمة كلحمة النسب" أن الله أخرجه بالحرمة إلى النسب حكما كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حسا لأن العبد كان كالمعدوم في حق الأحكام لا يقضي ولا يلي ولا يشهد، فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام من عدمها، فلما شابه حكم النسب أنيط بالمعتق فلذلك جاء " إنما الولاء لمن أعتق " وألحق برتبة النسب فنهى عن بيعه وهبته، وقال القرطبي استدل للجمهور بحديث الباب، ووجه الدلالة أنه أمر وجودي لا يتأتى الانفكاك عنه كالنسب، فكما لا تنتقل الأبوة والجدودة فكذلك لا ينتقل الولاء، إلا أنه يصح في الولاء جرما يترتب عليه من الميراث كما لو تزوج عبد معتقة آخر فولد له منها ولد فإنه ينعقد حرا لحرية أمه فيكون ولاؤه لمواليها لو مات في تلك الحالة، ولو أعتق السيد أباه قبل موت الولد فإن ولاءه ينتقل إذا مات لمعتق أبيه اتفاقا انتهى. وهذا لا يقدح في الأصل المذكور أن "الولاء لحمة كلحمة النسب" لأن التشبيه لا يستلزم التسوية من كل وجه، واختلف فيمن اشترى نفسه من سيده كالمكاتب فالجمهور على أن ولاءه لسيده وقيل لا ولاء عليه، وفي ولاء من أعتق سائبة وقد تقدم قريبا.

(12/45)


22- باب إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ لاَ يَرَى لَهُ وِلاَيَةً وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَيُذْكَرُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَفَعَهُ قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ
6757- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكِ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
6758- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ". قَالَتْ فَأَعْتَقْتُهَا، قَالَتْ: "فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا" فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا بِتُّ عِنْدَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا".
قوله: "باب إذا أسلم على يديه" كذا للنسفي، وزاد الفربري والأكثر "رجل" ووقع في رواية الكشميهني:

(12/45)


"الرجل" وبالتنكر أولى. قوله: "وكان الحسن لا يرى له ولاية" كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهني: "ولاء" بالهمز بدل الياء، من الولاء وهو المراد بالولاية، وأثر الحسن هذا وهر البصري وصله سفيان الثوري في جامعه عن مطرف عن الشعبي وعن وهو ابن عبيد عن الحسن قالا في الرجل يوالي الرجل قالا: هو بين المسلمين وقال سفيان: وبذلك أقول. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان، وكذا رواه الدارمي عن أبي نعيم عن سفيان، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا من طريق يونس عن الحسن: لا يرثه، إلا إن شاء أوصى له بماله. قوله: "ويذكر عن تميم الداري رفعه: هو أولى الناس بمحياه ومماته" هذا الحديث أغفله من صنف في الأطراف وكذا من صنف في رجال البخاري، لم يذكروا تميما الداري فيمن أخرج له، وهو ثابت في جميع النسخ هنا. وذكر البخاري من روايته حديثا في الإيمان لكن جعله ترجمة باب وهو "الدين النصيحة" وقد أخرجه مسلم من حديثه وليس له عنده غيره، وقد تكلمت عليه هناك، وذكرته من حديث أبي هريرة وغيره أيضا فلم تعين المراد في تميم، وهو ابن أوس بن خارجة بن سواد اللخمي ثم الداري نسب إلى بنى الدار بن لخم، وكان من أهل الشام ويتعاطى التجارة في الجاهلية، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم فيقبل منه، وكان إسلامه سنة تسع من الهجرة، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو على المنبر عن تميم بقصة الجساسة والدجال وعد ذلك في مناقبه، وفي رواية الأكابر عن الأصاغر، وقد وجدت رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن غير تميم، وذلك فيما أخرجه أبو عبد الله بن منده في "معرفة الصحابة" في ترجمة زرعة بن سيف بن ذي يزن فساق بسنده إلى زرعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه كتابا وفيه: "وأن مالك بن مزرد الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت وقاتلت المشركين فأبشر بخير، الحديث. وكان تميم الداري من أفاضل الصحابة وله مناقب، وهو أول من أسرج المساجد وأول من قضى على الناس أخرجهما الطبراني، وسكن تميم بيت المقدس وكان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون وغيرها إذا فتحت ففعل فتسلمها بذلك لما فتحت في زمن عمر، ذكر ذلك ابن سعد وغيره، ومات تميم سنة أربعين. وقوله: "رفعه: "هو في معنى قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ونحوها، وقد وصله البخاري في تاريخه وأبو داود. وابن أبي عاصم والطبراني والباغندي في "مسند عمر بن عبد العزيز" بالعنعنة كلهم من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: "سمعت عبيد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري قال: قلت يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي رجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته " قال البخاري قال بعضهم عن ابن موهب سمع تميما ولا يصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق " وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت إنما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهب، وابن موهب ليس بالمعروف ولا نعلمه لقي تميما ومثل هذا لا يثبت، وقال الخطابي: ضعف أحمد هذا الحديث. وأخرجه أحمد والدارمي والترمذي والنسائي من رواية وكيع وغيره عن عبد العزيز عن ابن موهب عن تميم. وصرح بعضهم بسماع ابن موهب من تميم. وأما الترمذي فقال: ليس إسناده بمتصل. قال: وأدخل بعضهم بين ابن موهب وبين تميم قبيصة رواه يحيى بن حمزة. قلت: ومن طريقه أخرجه من بدأت بذكره، وقال بعضهم إنه تفرد فيه بذكر قبيصة، وقد رواه أبو إسحاق السبيعي عن ابن موهب بدون ذكر تميم أخرجه النسائي أيضا، وقال ابن المنذر: هذا الحديث مضطرب: هل هو عن ابن موهب عن تميم أو بينهما قبيصة؟ وقال بعض الرواة فيه عن عبد الله بن موهب وبعضهم ابن موهب وعبد العزيز راويه ليس بالحافظ. قلت: هو من رجال البخاري كما تقدم

(12/46)


في الأشربة ولكنه ليس بالمكثر، وأما ابن موهب فلم يدرك تميما، وقد أشار النسائي إلى أن الرواية التي وقع التصريح فيها بسماعه من تميم خطأ ولكن وثقه بعضهم، وكان عمر بن عبد العزيز ولاه القضاء، ونقل أبو زرعة الدمشقي في تاريخه بسند له صحيح عن الأوزاعي أنه كان يدفع هذا الحديث ولا يرى له وجها، وصحح هذا الحديث أبو زرعة الدمشقي وقال: "هو حديث حسن الخرج متصل " وإلى ذلك أشار البخاري بقوله واختلفوا في صحة هذا الخبر، وجزم في " التاريخ " بأنه لا يصح لمعارضته حديث: "إنما الولاء لمن أعتق " ويؤخذ منه أنه لو صح سنده لما قاوم هذا الحديث، وعلى التنزل فتردد في الجمع هل يخص عموم الحديث المتفق على صحته بهذا فيستثنى منه من أسلم أو تؤول الأولوية في قوله: "أولى الناس " بمعنى النصرة والمعاونة وما أشبه ذلك لا بالميراث ويبقى الحديث المتفق على صحته على عمومه؟ جنح الجمهور إلى الثاني ورجحانه ظاهر، وبه جزم ابن القصار فيما حكاه ابن بطال فقال: لو صح الحديث لكان تأويله أنه أحق بموالاته في النصر والإعانة والصلاة عليه إذا مات ونحو ذلك، ولو جاء الحديث بلفظ أحق بميراثه لوجب تخصيص الأول والله أعلم. قال ابن المنذر: قال الجمهور بقول الحسن في ذلك، وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه وروي عن النخعي أنه يستمر إن عقل عنه، وإن لم يعقل عنه فله أن يتحول لغيره واستحق الثاني وهلم جرا، وعن النخعي قول آخر: ليس له أن يتحول، وعنه إن استمر إلى أن مات تحول عنه وبه قال إسحاق وعمر بن عبد العزيز، ووقع ذلك في طريق الباغندي التي أسلفتها، وفي غيرها أنه أعطى رجلا أسلم على يديه رجل فمات وترك مالا وبنتا نصف المال الذي بقي بعد نصيب البنت. ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في قصة بريرة من أجل قوله فيه: "فإن الولاء لمن أعتق، لأن اللام فيه للاختصاص أي الولاء مختص بمن أعتق، وقد تقدم توجيهه. وقوله فيه: "لا يمنعك" وقع في رواية الكشميهني: "لا يمنعك" بالتأكيد. ثم ذكر حديث عائشة في ذلك مختصرا وقال في آخره: "قال وكان زوجها حرا" وقد تقدم قبل باب من وجه آخر عن منصور أن قائل ذلك هو الأسود راويه عن عائشة، وفي الباب الذي قبله من طريق الحكم عن إبراهيم أنه الحكم، ومضى الكلام على ذلك مستوفى بحمد الله تعالى، ومحمد المذكور في أول السند الثاني قال أبو علي العساني هو ابن سلام إن شاء الله، وجرير هو ابن عبد الحميد. قلت: وقد وقع في الاستقراض "حدثنا محمد حدثنا جرير" كذا عند الأكثر غير منسوب ووقع في رواية أبي علي بن شبوية عن الفربري "محمد بن سلام" وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "محمد بن يوسف " يعني البيكندي، وليس في الكتاب محمد عن جرير سوى هذين الموضعين والمرجح أنه ابن سلام، وقد أغرب أبو نعيم فأخرج الحديث من طريق عثمان ابن أبي شيبة عن جرير ثم قال: أخرجه البخاري عن عثمان، كذا وجدته وما أظنه إلا ذهولا.

(12/47)


23- باب: مَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلاَءِ
6759- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَقَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ الْوَلاَءَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
6760- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ وَوَلِيَ النِّعْمَةَ"

(12/47)


قوله: "باب ما يرث النساء من الولاء" ذكر في حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر عن نافع وحديث عائشة من وجه آخر عن منصور مقتصرا على قوله: "الولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة " وهذا اللفظ لوكيع عن سفيان الثوري عن منصور، وقد أخرجه الترمذي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بملفظ: "أنها أرادت أن تشتري بريرة فاشترطوا الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذكره. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع أيضا ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي جميعا عن سفيان تاما وقال: لفظهما واحد، فعرف أن وكيعا كان ربما اختصره، وعرف أنه في قصة بريرة، وقد ذكره أصحاب منصور كأبي عوانة بلفظ: "إنما الولاء لمن أعتق" وكذلك ذكره أصحاب إبراهيم كالحاكم والأعمش وأصحاب الأسود وأصحاب عائشة وكلها في الكتب الستة، وتفرد الثوري وتابعه جرير عن منصور بهذا اللفظ، فيحتمل أن يكون منصور رواه لهما بالمعنى، وقد تفرد الثوري بزيادة قوله: "وولي النعمة" ومعنى قوله أعطى الورق أي الثمن، وإنما عبر بالورق لأنه الغالب، ومعنى قوله: "وولي النعمة" أعتق، ومطابقته لقوله: "الولاء لمن أعتق" أن صحة العتق تستدعي سبق ملك والملك يستدعي ثبوت العوض، قال ابن بطال: هذا الحديث يقتضي أن الولاء لكل معتق ذكرا كان أو أنثى وهو مجمع عليه، وأما جر الولاء فقال الأبهري: ليس بين الفقهاء اختلاف أنه ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أولاد من أعتقن، إلا ما جاء عن مسروق أنه قال: لا يختص الذكور بولاء من أعتق آباؤهم بل الذكور والإناث فيه سواء كالميراث، ونقل ابن المنذر عن طاوس مثله، وعليه اقتصر سحنون فيما نقله ابن التين، وتعقب الحصر الذي ذكره الأبهري تبعا لسحنون وغيره بأنه يرد عليه ولد الإناث من ولد من أعتقن، قال: والعبارة السالمة أن يقال إلا ما أعتقن أو جره إليهن من أعتقن بولادة أو عتق، احترازا ممن لها ولد من زنا أو كانت ملاعنة أو كان زوجها عبدا فإن ولاء ولد هؤلاء كلهن لمعتق الأم، والحجة للجمهور اتفاق الصحابة، ومن حيث النظر أن المرأة لا تستوعب المال بالفرض الذي هو آكد من التعصيب، فاختص بالولاء من يستوعب المال وهو الذكر وإنما ورثن من عتقن لأنه عن مباشرة لا عن جر الإرث، واستدل بقوله: "الولاء لمن أعطى الورق " على من قال فيمن أعتق عن غيره بوصية من المعتق عنه أن الولاء للمعتق عملا بعموم قوله: "الولاء لمن أعتق " وموضع الدلالة منه قوله: "الولاء لمن أعطى الورق" فدل على أن المراد بقوله: "لمن أعتق " لمن كان من عتق في ملكه حين العتق لا لمن باشر العتق فقط.

(12/48)


باب مولى القوم من أنفسهم ، و ابن الأخت منهم
...
24- باب مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَابْنُ الأُخْتِ مِنْهُمْ
6761- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَقَتَادَةُ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" أَوْ كَمَا قَالَ
6763- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن قتادة "عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم"
قوله: "باب" بالتنوين "مولى القوم من أنفسهم" أي عتيقهم ينسب نسبتهم ويرثونه. قوله: "وابن الأخت منهم" أي لأنه ينتسب إلى بعضهم وهي أمه. قوله: "حدثنا شعبة حدثنا معاوية بن قرة وقتادة عن أنس" هكذا

(12/48)


وقع في رواية آدم عن شعبة مقرونا، وأكثر الرواة قالوا "عن شعبة عن قتادة وحده عن أنس" وقد تقدم بيان ذلك في مناقب قريش وأورده مختصرا، ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة مطولا في غزوة حنين وتقدمت فوائده هناك وفي كتاب الجزية، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن شعبة عن قتادة وقال: المعروف عن شعبة في "مولى القوم منهم أو من أنفسهم" روايته عن قتادة وعن معاوية بن قرة، والمعروف عنه في "ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم" روايته عن قتادة وحده، وانفرد علي بن الجعد عن شعبة به عن معاوية بن قرة أيضا. قلت: وليس كما قال، بل تابعه أبو النصر عن شعبة عن معاوية بن قرة أيضا أخرجه أحمد في مسنده عنه وأفاد فيه أن المعنى بذلك النعمان بن مقرن المزني وكانت أمه أنصارية والله أعلم. واستدل بقوله: "ابن أخت القوم منهم" من قال بأن ذوي الأرحام يرثون كما ورث العصبات، وحمله من لم يقل بذلك على ما تقدم، وكأن البخاري رمز إلى الجواب بإيراد هذا الحديث، لأنه لو صح الاستدلال بقوله: "ابن أخت القوم منهم" على إرادة الميراث لصح الاستدلال له على أن العتيق يرث ممن أعتقه لورود مثله في حقه، فدل على أن المراد بقوله: "من أنفسهم " وكذا " منهم " في المعاونة والانتصار والبر والشفقة ونحو ذلك لا في الميراث. وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذكر ذلك إبطال ما كانوا علية في الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلا عن أولاد الأخوات حتى قال قائلهم:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فأراد بهذا الكلام التحريض كل الألفة بين الأقارب. قلت: وأما القول في الموالي فالحكمة فيه ما تقدم ذكره من جواز نسبة العبد إلى مولاه لا بلفظ البنوة لما سيأتي قريبا من الوعيد الثابت لمن انتسب إلى غير أبيه وجواز نسبته إلى نسب مولاه بلفظ النسبة، وفي ذلك جمع بين الأدلة، وبالله التوفيق.

(12/49)


25- باب: مِيرَاثِ الأَسِيرِ
قَالَ وَكَانَ شُرَيْحٌ يُوَرِّثُ الأَسِيرَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ وَيَقُولُ: "هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "أَجِزْ وَصِيَّةَ الأَسِيرِ وَعَتَاقَهُ وَمَا صَنَعَ فِي مَالِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ"
6763- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عدي عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإلينا".
قوله: "باب ميراث الأسير" أي سواء عرف خبره أم جهل. قوله: "وكان شريح" بمعجمة أوله ومهملة آخره وهو ابن الحارث القاضي الكندي الكوفي المشهور. قوله: "يورث الأسير في أيدي العدو ويقول هو أحوج إليه" وصله ابن أبي شيبة والدارمي من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن شريح قال: "يورث الأسير إذا كان في أرض العدو " وزاد ابن أبي شيبة: قال شريح أحوج ما يكون إلى ميراثه وهو أسير. قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز: أجز وصية الأسير وعتاقته وما صنع في ماله ما لم يتغير عن دينه، فإنما هو ماله يصنع فيه ما يشاء" في رواية الكشميهني: "ما شاء" وهذا وصله عبد الرزاق عن معمر عن إسحاق بن راشد أن عمر كتب إليه أن أجز وصية الأسير، وأخرجه الدارمي من طريق ابن المبارك عن معمر عن إسحاق بن راشد عن عمر بن عبد

(12/49)


العزيز في الأسير يوصي قال: أجز لي وصيته ما دام على الإسلام لم يتغير عن دينه. قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث أنه يوقف له، وعن سعيد بن المسيب أنه لم يورث الأسير في أيدي العدو، قال: وقول الجماعة أولى، لأنه إذا كان مسلما دخل تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فلورثته " وإلى هذا أشار البخاري بإيراد حديث أبي هريرة، وقد تقدم شرحه قريبا. وأيضا فهو مسلم تجري عليه أحكام المسلمين فلا يخرج عن ذلك إلا بحجة كما أشار إليه عمر بن عبد العزيز، ولا يكفي أن يثبت أنه ارتد حتى يثبت أن ذلك وقع منه طوعا فلا يحكم بخروج ماله عنه حتى يثبت أنه ارتد طائعا لا مكرها، وما ذكره ابن بطال عن سعيد بن المسيب أخرجه ابن أبي شيبة، وأخرج عنه أيضا رواية أخرى أنه يرث، وعن الزهري روايتين أيضا، وعن النخعي لا يرث. "تنبيه" تقدم في أواخر النكاح في " باب حكم المفقود في أهله وماله " أشياء تتعلق بالأسير في حكم زوجته وماله وأن زوجته لا تتزوج وماله لا يقسم ما تحققت حياته وعلم مكانه، فإذا انقطع خبره فهو مفقود، وتقدم بيان الاختلاف في حكمه هناك.

(12/50)


باب لا يرث المسلم الكافر و لا الكافر المسلم ، و إذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له
...
26- باب: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَإِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الْمِيرَاثُ فَلاَ مِيرَاثَ لَهُ
6764- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ"
قوله: "باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" هكذا ترجم بلفظ الحديث ثم قال: "وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له " فأشار إلى أن عمومه يتناول هذه الصورة، فمن قيد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل، وحجة الجماعة أن الميراث يستحق بالموت، فإذا انتقل عن ملك الميت بموته لم ينتظر قسمته لأنه استحق الذي انتقل عنه ولو لم يقسم المال. قال ابن المنير: صورة المسألة إذا مات مسلم وله ولدان مثلا مسلم وكافر فأسلم الكافر قبل قسمة المال قال ابن المنذر: ذهب الجمهور إلى الأخذ بما دل عليه عموم حديث أسامة يعني المذكور في هذا الباب إلا ما جاء عن معاذ قال: يرث المسلم من الكافر من غير عكس، واحتج بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص، وهو حديث أخرجه أبو داود وصححه الحاكم من طريق يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي عنه قال الحاكم صحيح الإسناد، وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ ولكن سماعه منه ممكن، وقد زعم الجوزقاني أنه باطل وهي مجازفة. وقال القرطبي في "المفهم": هو كلام محكي ولا يروى كذا قال، وقد رواه من قدمت ذكره فكأنه ما وقف على ذلك. وأخرج أحمد بن منيع بسند قوي عن معاذ أنه كان يورث المسلم من الكافر بغير عكس وأخرج مسدد عنه أن أخوين اختصما إليه: مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ماله فنازعه المسلم فورث معاذ المسلم، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق، وحجة الجمهور أنه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده، وأما الحديث فليس نصا في المراد بل هو محمول على أنه يفضل غيره من الأديان ولا تعلق له بالإرث، وقد عارضه قياس آخر وهو أن التوارث يتعلق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله

(12/50)


تعالى :{لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وبأن الذمي يتزوج الحربية ولا يرثها، وأيضا فإن الدليل ينقلب فيما لو قال الذمي أرث المسلم لأنه يتزوج إلينا، وفيه قول ثالث وهو الاعتبار بقسمة الميراث جاء ذلك عن عمر وعثمان وعن عكرمة والحسن وجابر بن زيد وهو رواية عن أحمد. قلت: ثبت عن عمر خلافه كما مضى في " باب توريث دور مكة " من كتاب الحج فإن فيه بعد ذكر حديث الباب مطولا في ذكر عقيل ابن أبي طالب فكان عمر يقول فذكر المتن المذكور هنا سواء. قوله: "عن ابن شهاب" هو الزهري، وكذا وقع في رواية للإسماعيلي من وجه آخر عن أبي عاصم. قوله: "عن علي بن حسين" هو المعروف بزين العابدين وعمرو بن عثمان أي ابن عفان، وقد تقدم في الحج من هذا الشرح بيان من رواه عن الزهري مصرحا بالإخبار بينه وبين علي وكذا بين علي وعمرو، واتفق الرواة عن الزهري أن عمرو بن عثمان بفتح أوله وسكون الميم إلا أن مالكا وحده قال: "عمر" بضم أوله وفتح الميم، وشذت روايات عن غير مالك على وفقه وروايات عن مالك على وفق الجمهور وقد بين ذلك ابن عبد البر وغيره، ولم يخرج البخاري رواية مالك وقد عد ذلك ابن الصلاح في " علوم الحديث: "له في أمثلة المنكر وفيه نظر أوضحه شيخنا في "النكت" وزدت عليه في "الإفصاح". قوله: "لا يرث المسلم الكافر إلخ" تقدم في المغازي بلفظ: "المؤمن" في الموضعين وأخرجه النسائي كل من رواية هشيم (1) عن الزهري بلفظ: "لا يتوارث أهل ملتين " وجاءت رواية شاذة عن ابن عيينة عن الزهري مثلها، وله شاهد عند الترمذي من حديث جابر وآخر من حديث عائشة عند أبي يعلى وثالث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في السنن الأربعة وسند أبي داود فيه إلى عمرو صحيح، وتمسك بها من قال لا يرث أهل ملة كافرة من أهل ملة أخرى كافرة، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام وبالأخرى الكفر فيكون مساويا للرواية التي بلفظ حديث الباب، وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها حتى يمتنع على اليهودي مثلا أن يرث من النصراني، والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر وهو قول الحنفية والأكثر ومقابله عن مالك وأحمد، وعنه التفرقة بين الذمي والحربي وكذا عند الشافعية وعن أبي حنيفة لا يتوارث حربي من ذمي فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة، وعند الشافعية لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية، وعن الثوري وربيعة وطائفة الكفر ثلاث ملل يهودية ونصرانية وغيرهم فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين، وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة كل فريق من الكفار ملة فلم يورثوا مجوسيا من وثني ولا يهوديا من نصراني وهو قول الأوزاعي، وبالغ فقال ولا يرث أهل نحلة من دين واحد أهل نحلة أخرى منه كاليعقوبية والملكية من النصارى، واختلف في المرتد فقال الشافعي وأحمد يصير ماله إذا مات فيئا للمسلمين. وقال مالك يكون فيئا إلا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم، وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد لورثته المسلمين، وعن أبي حنيفة ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين وبعد الردة لبيت المال، وعن بعض التابعين كعلقمة يستحقه أهل الدين الذي انتقل إليه، وعن داود يختص بورثته من أهل الدين الذي انتقل إليه ولم يفصل، فالحاصل من ذلك ستة مذاهب حررها الماوردي، واحتج القرطبي في "المفهم" لمذهبه بقوله تعالى :{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فهي ملل متعددة وشرائع مختلفة، قال: وأما ما احتجوا به في قوله تعالى :{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} فوحد الملة فلا حجة فيه لأن الوحدة في اللفظ
ـــــــ
(1) كذا في نسخة، وفي أخرى "من رواية إبراهيم"

(12/51)


وفي المعنى الكثرة لأنه أضافه إلى مفيد الكثرة كقول القائل: أخذ عن علماء الدين علمهم يريد علم كل منهم، قال: واحتجوا بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخرها، والجواب أن الخطاب بذلك وقع لكفار قريش وهم أهل وثن، وأما ما أجابوا به عن حديث: "لا يتوارث أهل ملتين " بأن المراد ملة الكفر وملة الإسلام فالجواب عنه بأنه إذا صح في حديث أسامة فمردود في حديث غيره، واستدل بقوله: "لا يرث الكافر المسلم: "على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد لأن قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} عام في الأولاد فخص منه الولد الكافر فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور، وأجيب بأن المنع حصل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على وفقه كان التخصيص بالإجماع لا بالخبر فقط. قلت: لكن يحتاج من احتج في الشق الثاني به إلى جواب، وقد قال بعض الحذاق: طريق العام هنا قطعي ودلالته على كل فرد ظنية وطريق الخاص هنا ظنية ودلالته عليه قطعية فيتعادلان، ثم يترجح الخاص بأن العمل به يستلزم الجمع بين الدليلين المذكورين بخلاف عكسه.

(12/52)


باب ميراث العبد النصراني و المكاتب النصراني و إثم من انتفى من ولده - باب من ادعى أخا أو ابن أخ
...
27- باب: مِيرَاثِ الْعَبْدِ النَّصْرَانِيِّ وَالْمُكَاتَبِ النَّصْرَانِيِّ وَإِثْمِ مَنْ انْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ
28- بَاب مَنْ ادَّعَى أَخًا أَوْ ابْنَ أَخٍ
6765- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ بعد"
قوله: "باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني" كذا للأكثر بغير حديث، ولأبي ذر عن المستملى والكشميهني: "باب من ادعى أخا أو ابن أخ " ولم يذكر فيه حديثا، ثم قال عن الثلاثة " باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني، ولم يذكر أيضا فيه حديثا، ثم قال عنهم " باب إثم من انتفى من ولده " وذكر قصة سعد وعبد بن زمعة فجرى ابن بطال وابن التين على حذف " باب من انتفي من ولده " وجعل قصة ابن زمعة لباب من ادعى أخا ولم يذكروا في " باب ميراث العبد " حديثا على ما وقع عند الأكثر، وأما الإسماعيلي فلم يقع عنده " باب ميراث العبد النصراني " بل وقع عنده " باب إثم من انتفى من ولده " وقال: ذكره بلا حديث، ثم قال: "باب من ادعى أخا أو ابن أخ " وذكر قصة عبد بن زمعة، ووقع عند أبي نعيم " باب ميراث النصراني ومن انتفى من ولده ومن ادعى أخا أو ابن أخ " وهذا كله راجع إلى رواية الفربري عن البخاري، وأما النسفي فوقع عنده " باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني " وقال: لم يكتب فيه حديثا، وفي عقبه " باب من انتفى من ولده ومن ادعى أخا أو ابن أخ " وذكر فيه قصة ابن زمعة، فتلخص لنا من هذا كله أن الأكثر جعلوا قصة ابن زمعة

(12/52)


لترجمة من ادعى أخا أو ابن أخ ولا إشكال فيه، وأما الترجمتان فسقطت إحداهما عند بعض وثبتت عند بعض، قال ابن بطال: لم يدخل البخاري تحت هذا الرسم حديثا، ومذهب العلماء أن العبد النصراني إذا مات فماله لسيده بالرق لأن ملك العبد غير صحيح ولا مستقر فهو مال السيد يستحقه لا بطريق الميراث وإنما يستحق بطريق الميراث ما يكون ملكا مستقرا لمن يورث عنه. وعن ابن سيرين ماله لبيت المال وليس للسيد فيه شيء لاختلاف دينهما، وأما المكاتب فإن مات قبل أداء كتابته وكان في ماله وفاء لباقي كتابته أخذ ذلك في كتابته فما فضل فهو لبيت المال. قلت: وفي مسألة المكاتب خلاف ينشأ من الخلاف فيمن أدى بعض كتابته هل يعتق منه بقدر ما أدى أو يستمر على الرق ما بقي عليه شيء؟ وقد مضى الكلام على ذلك في كتاب العتق. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون البخاري أراد أن يدرج هذه الترجمة تحت الحديث الذي قبلها لأن النظر فيه محتمل كأن يقال يأخذ المال لأن العبد ملكه وله انتزاعه منه حيا فكيف لا يأخذه ميتا؟ ويحتمل أن يقال لا يأخذه لعموم "لا يرث المسلم الكافر" والأول أوجه. قلت: وتوجيهه ما تقدم، وجرى الكرماني عل ما وقع عند أبي نعيم فقال: هاهنا ثلاث تراجم متوالية والحديث ظاهر للثالثة وهب من ادعى أخا أو ابن أخ، قال: وهذا يؤيد ما ذكروا أن البخاري ترجم لأبواب وأراد أن يلحق بها الأحاديث فلم يتفق له إتمام ذلك، وكان أخلى بين كل ترجمتين بياضا فضم النقلة بعض ذلك إلى بعض. قلت: ويحتمل أن يكون في الأصل ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني كان مضموما إلى "لا يرث المسلم الكافر إلخ" وليس بعد ذلك ما يشكل إلا ترجمة من انتفى من ولده ولا سيما على سياق أبي ذر وسأذكره في الباب الذي يليه. "تكميل": لم يذكر البخاري ميراث النصراني إذا أعتقه المسلم، وقد حكى فيه ابن التين ثمانية أقوال فقال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعي: هو كالمولى المسلم إذا كانت له ورثة وإلا فماله لسيده، وقيل يرثه الولد خاصة، وقيل الولد والوالد خاصة، وقيل هما والإخوة، وقيل هم والعصبة، وقيل ميراثه لذوي رحمه وقيل لبيت المال فيئا، وقيل يوقف فمن ادعاه من النصارى كان له. انتهى ملخصا. وما نقله عن الشافعي لا يعرفه أصحابه، واختلف في عكسه فالجمهور أن الكافر إذا أعتق مسلما لا يرثه بالولاء، وعن أحمد رواية لأنه يرثه، ونقل مثله عن علي، وأما ما أخرج النسائي والحاكم من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته " وأعله ابن حزم بتدليس أبي الزبير، وهو مردود فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابرا، فلا حجة فيه لكل من المسألتين لأنه ظاهر في الموقوف.
قوله: "باب إثم من انتفى من ولده" أورد فيه حديث عائشة في قصة مخاصمة سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعة، وقد مضى شرحه مستوفى في "باب الولد للفراش" وقد خفي توجيه هذه الترجمة لهذا الحديث، ويحتمل أن يخرج على أن عتبة بن أبي وقاص مات مسلما وأن الذي حمله على أن يوصي أخاه بأخذ ولد وليدة زمعة خشية أن يكون سكوته عن ذلك مع اعتقاده أنه ولده يتنزل منزلة النفي، وكان سمع ما ورد في حق من انتفى من ولده من الوعيد فعهد إلى أخيه أنه ابنه وأمره باستلحاقه، وعلى تقدير أن يكون عتبة مات كافرا فيحتمل أن يكون ذلك هو الحامل لسعد على استلحاق ابن أخيه ويلحق انتفاء ولد الأخ بالانتفاء من الولد لأنه قد يرث من عمه كما يرث من أبيه؛ وقد ورد الوعيد في حق من انتفى من ولده من رواية مجاهد عن ابن عمر رفعه: "من انتفى من ولده

(12/53)


ليفضحه في الدنيا فضحه الله يوم القيامة" الحديث، وفي سنده الجراح والد وكيع مختلف فيه، وله طريق أخرى عن ابن عمر أخرجه ابن عدي بلفظ: "من انتفى من ولده فليتبوأ مقعده من النار" وفي سنده محمد بن أبي الزعيزعة راوية عن نافع قال أبو حاتم منكر الحديث، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ: "وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه" الحديث، وفي سنده عبيد الله بن يوسف حجازي ما روى عنه سوى يزيد بن الهاد.

(12/54)


29- باب: مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ
6766- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ - حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ"
6767- فَذَكَرْتُهُ لِأَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ "وَأَنَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6768- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ"
قوله: "باب من ادعى إلى غير أبيه" لعل المراد إثم من ادعى كما صرح به في الذي قبله، أو أطلق لوقوع الوعيد فيه بالكفر وبتحريم الجنة فوكل ذلك إلى نظر من يسعى في تأويله. قوله: "خالد هو ابن عبد الله" يعني الواسطي الطحان، وخالد شيخه هو ابن مهران الحذاء، وأبو عثمان هو النهدي، وسعد هو ابن أبي وقاص، والسند إلى سعد كله بصريون، والقائل "فذكرته لأبي بكرة" هو أبو عثمان، وقد وقع في رواية هشيم عن خالد الحذاء عند مسلم في أوله قصة، ولفظه عن أبي عثمان قال: "لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: "فذكر الحديث مرفوعا: "فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والمراد بزياد الذي ادعى زياد بن سمية وهي أمه كانت أمة للحارث بن كلدة زوجها لمولى عبيد فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف، فلما كان في خلافة عمر سمع أبو سفيان بن حرب كلام زياد عند عمر وكان بليغا فأعجبه فقال: إني لأعرف من وضعه في أمه ولو شئت لسميته ولكن أخاف من عمر، فلما ولي معاوية الخلافة كان زياد على فارس من قبل علي فأراد مداراته فأطمعه في أنه يلحقه بأبي سفيان فأصغى زياد إلى ذلك فجرت في ذلك خطوب إلى أن ادعاه معاوية وأمره على البصرة ثم على الكوفة وأكرمه، وسار زياد سيرته المشهورة وسياسته المذكورة، فكان كثير من أصحابه والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث: "الولد للفراش " وقد مضى قريبا شيء من ذلك، وإنما خص أبو عثمان أبا بكرة بالإنكار لأن زيادا كان أخاه من أمه، ولأبي بكرة مع زياد قصة تقدمت الإشارة إليها في كتاب الشهادات، وقد تقدم الحديث في غزوة حنين من رواية عاصم الأحول عن أبي عثمان قال: "سمعت سعدا وأبا بكرة" وتقدم هناك ما يتعلق بأبي بكرة. قوله: "من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام" وفي رواية عاصم المشار إليها عند مسلم: "من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه" والثاني مثله وقد تقدم شرحه في مناقب قريش في الكلام على حديث أبى ذر وفيه:

(12/54)


"ومن ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر" ووقع هناك "إلا كفر بالله" وتقدم القول فيه، وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق "كفر بالله انتفى من نسب وإن دق" أخرجه الطبراني. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث وعراك بكسر المهملة وتخفيف الراء وآخره كاف هو ابن مالك. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية مسلم عن هارون بن سعيد عن ابن وهب بسنده إلى عراك أنه سمع أبا هريرة. قوله: "لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر" كذا للأكثر وكذا لمسلم، ووقع للكشميهني: "فقد كفر" وسيأتي في " باب رجم الحبلى من الزنا " في حديث عمر الطويل " لا ترغبوا عن آبائهم فهو كفر بربكم " قال ابن بطال: ليس معنى هذين الحديثين أن من اشتهر بالنسبة إلى غير أبيه أن يدخل في الوعيد كالمقداد بن الأسود، وإنما المراد به من تحول عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالما عامدا مختارا، وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه حتى نزل قوله تعالى :{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} وقوله سبحانه وتعالى :{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} فنسب كل واحد إلى أبيه الحقيقي وترك الانتساب إلى من تبناه لكن بقي بعضهم مشهورا بمن تبناه فيذكر به لقصد التعريف لا لقصد النسب الحقيقي كالمقداد بن الأسود، وليس الأسود أباه، وإنما كان تبناه واسم أبيه الحقيقي عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني، وكان أبوه حليف كندة فقيل له الكندي، ثم حالف هو الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبنى المقداد فقيل له ابن الأسود. انتهى ملخصا موضحا. قال: وليس المراد بالكفر حقيقة الكفر التي يخلد صاحبها في النار، وبسط القول في ذلك، وقد تقدم توجيهه في مناقب قريش وفي كتاب الأيمان في أوائل الكتاب. وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله كأنه يقول خلقني الله من ماء فلان، وليس كذلك لأنه إنما خلقه من غيره، واستدل به على أن قوله في الحديث الماضي قريبا "ابن أخت القوم من أنفسهم" و "مولى القوم من أنفسهم" ليس على عمومه إذ لو كان على عمومه لجاز أن ينسب إلى خاله مثلا وكان معارضا لحديث الباب المصرح بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك، فعرف أنه خاص، والمراد به أنه منهم في الشفقة والبر والمعاونة ونحو ذلك.

(12/55)


30- باب: إِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ ابْنًا
6769-حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتْ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتْ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى"
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ"
قوله: "باب إذا ادعت المرأة ابنا" ذكر قصة المرأتين اللتين كان مع كل منهما ابن فأخذ، الذئب أحدهما

(12/55)


فاختلفتا في أيهما الذاهب، فتحاكمتا إلى داود، وفيه حكم سليمان، وقد مضى شرحه مستوفى في ترجمة سليمان من أحاديث الأنبياء. قال ابن بطال: أجمعوا على أن الأم لا تستلحق بالزوج ما ينكره، فإن أقامت البينة قبلت حيث تكون في عصمته، فلو لم تكن ذات زوج وقالت لمن لا يعرف له أب: هذا ابني ولم ينازعها فيه أحد فإنه يعمل بقولها وترثه ويرثها ويرثه وإخوته لأمه، ونازعه ابن التين فحكى عن ابن القاسم: لا يقبل قولها إذا ادعت اللقيط، وقد استنبط النسائي في "السنن الكبرى" من هذا الحديث أشياء نفيسة فترجم " نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله أو أجل إذا اقتضى الأمر ذلك " ثم ساق الحديث من طريق علي بن عياش عن شعيب بسنده المذكور هنا، وصرح فيه بالتحديث بين أبي الزناد وبين الأعرج وأبي هريرة، وساق الحديث نحو أبي اليمان، وترجم أيضا الحاكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به، وساق الحديث من طريق مسكين بن بكير عن شعيب وفيه: "فقال اقطعوه نصفين لهذه نصف ولهذه نصف، فقالت الكبرى نعم اقطعوه، فقالت الصغرى لا تقطعوه هو ولدها فقضى به للتي أبت أن يقطعه " فأشار إلى قول الصغرى هو ولدها ولم بعمل سليمان بهذا الإقرار بل قضى به لها مع إقرارها بأنه لصاحبتها، وترجم له " التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله افعل ليستبين له الحق " وساقه من طريق محمد بن عجلان عن أبي الزناد وفيه: "فقال ائتوني بالسكين أشق الغلام بينهما، فقالت الصغرى أتشقه؟ فقال: نعم، فقالت: لا تفعل، حظي منه لها " وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الزناد ولم يسق لفظه بل أحال به على رواية ورقاء عن أبي الزناد، وقد ذكرت ما فيها في ترجمة سليمان. ثم ترجم "الفهم في القضاء والتدبر فيه والحكم بالاستدلال" ثم ساقه من طريق بشر بن نهيك عن أبي هريرة وذكر الحديث مختصرا وقال في آخره: "فقال سليمان - يعني للكبرى - لو كان ابنك لم ترضي أن يقطع".

(12/56)


31- باب الْقَائِفِ
6770- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"
6771- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"
قوله: "باب القائف" هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر، سمي بذلك لأنه يقفو الأشياء أي يتبعها فكأنه مقلوب من القافي، تقل الأصمعي: هو الذي يقفو الأثر ويقتافه قفوا وقيافة والجمع القافة، كذا وقع في الغريبين والنهاية. قوله في الطريق الثانية "عن الزهري" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا الزهري" أخرجه أبو نعيم. قوله: "دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه" تقدم شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقال ألم ترى إلى مجزز"

(12/56)


في الرواية التي بعدها "ألم ترى أن مجززا" والمراد من الرؤية هنا الإخبار أو العلم، ومضى في مناقب زيد من طريق ابن عيينة عن الزهري "ألم تسمعي ما قال المدلجي" ومضى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق إبراهيم بن محمد عن الزهري بلفظ: "دخل على قائف" الحديث وفيه فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه وأخبر به عائشة، ولمسلم من طريق معمر وابن جريج عن الزهري " وكان مجزز قائفا " ومجزز بضم الميم وكسر الزاي الثقيلة وحكى فتحها وبعدها زاي أخرى هذا هو المشهور، ومنهم من قال بسكون الحاء المهملة وكسر الراء ثم زاي وهو ابن الأعور بن جعدة المدلجي نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك، وليس ذلك خاصا بهم على الصحيح، وقد أخرج يزيد بن هارون في الفرائض بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب أن عمر كان قائفا أورده في قصته، وعمر قرشي ليس مدلجيا ولا أسديا لا أسد قريش ولا أسد خزيمة، ومجزز المذكور هو والد علقمة بن مجزز الماضي ذكره في "باب سرية عبد الله بن حذافة" من المغازي، وذكر مصعب الزبيري والواقدي أنه سمي مجززا لأنه كان إذا أخذ أسيرا في الجاهلية جز ناصيته وأطلقه، وهذا يدفع فتح الزاي الأولى من اسمه، وعلى هذا فكان له اسم غير مجزز. لكني لم أر من ذكره. وكان مجزز عارفا بالقيافة، وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر وقال: لا أعلم له رواية. قوله: "نظر آنفا" بالمد ويجوز القصر أي قريبا أو أقرب وقت. قوله: "إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد" في الرواية التي بعدها " دخل علي فرأى أسامة بن زيد وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامها " وفي رواية إبراهيم بن سعد "وأسامة وزيد مضطجعان" وفي هذه الزيادة دفع توهم من يقول: لعله حاباهما بذلك لما عرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة. قوله: "بعضها من بعض" في رواية الكشميهني: "لمن بعض" قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة لأنه كان أسود شديد السواد وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكونه كافا لهم عن الطعن فيه لاعتقادهم ذلك، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين، أن أم أسامة - وهي أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم - كانت سوداء فلهذا جاء أسامة أسود، وقد وقع في الصحيح عن ابن شهاب أن أم أيمن كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله، وتزوجت قبل زيد عبيد الحبشي فولدت له أيمن فكنيت به واشتهرت بذلك، وكان يقال لها أم الظباء، وقد تقدم لها ذكر في أواخر الهبة. قال عياض: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود. قتلت: يحتمل أنها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد فوقع الإنكار لذلك، وفي الحديث جواز الشهادة على المنتقبة والاكتفاء بمعرفتها من غير رؤية الوجه، وجواز اضطجاع الرجل مع ولده في شعار واحد، وقبول شهادة من يشهد قبل أن يستشهد عند عدم التهمة، وسرور الحاكم لظهور الحق لأحد الخصمين عند السلامة من الهوى، وتقدم في "باب إذا عرض بنفي الولد" من كتاب اللعان حدث أبي هريرة في قصة الذي قال: "إن امرأتي ولدت غلاما أسود، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعله نزعه عرق " ومضى شرحه هناك وبالله التوفيق "تنبيه": وجه إدخال هذا الحديث في كتاب الفرائض الرد على من زعم أن القائف لا يعتبر قوله، فإن من اعتبر قوله فعمل به لزم منه حصول التوارث بين الملحق والملحق به.

(12/57)


"خاتمة": اشتمل كتاب الفرائض من الأحاديث المرفوعة على ثلاثة وأربعين حديثا، المعلق منها حديث تميم الداري فيمن أسلم على يديه رجل والبقية موصولة، والمكرر منها فيه وفيما مضى سبعة وثلاثون حديثا والبقية خالصة لم يخرج مسلم منها سوى حديث أبي هريرة " في الجنين غرة " وحديث ابن عباس " ألحقوا الفرائض بأهلها " وأما حديث معاذ في توريث الأخت والبنت وحديث ابن مسعود في توريث بنت الابن وحديثه في السائبة وحديث تميم الداري المعلق فانفرد البخاري بتخريجها. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة وعشرون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(12/58)


كتاب الحدود
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
86- كِتَاب الْحُدُودِ
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الحدود". جمع حد، والمذكور فيه هنا حد الزنا والخمر والسرقة، وقد حصر بعض العلماء ما قيل بوجوب. الحد به في سبعة عشر شيئا، فمن المتفق عليه الردة والحرابة ما لم يتب قبل القدرة والزنا والقذف به وشرب الخمر سواء أسكر أم لا والسرقة، ومن المختلف فيه جحد العارية وشرب ما يسكر كثيره من غير الخمر والقذف بغير الزنا والتعريض بالقذف واللواط ولو بمن يحل له نكاحها وإتيان البهيمة والسحاق وتمكين المرأة القرد وغيره من الدواب من وطئها والسحر وترك الصلاة تكاسلا والفطر في رمضان، هذا كله خارج عما تشرع فيه المقاتلة كما لو ترك قوم الزكاة ونصبوا لذلك الحرب. وأصل الحد ما يحجز بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وحد الدار ما يميزها، وحد الشيء وصفه المحيط به المميز له عن غيره. وسميت عقوبة الزاني ونحوه حدا لكونها تمنعه المعاودة أو لكونها مقدرة من الشارع، وللإشارة إلى المنع سمي البواب حدادا. قال الراغب: وتطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي كقوله تعالى :{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وعلى فعل فيه شيء مقدر، ومنه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وكأنها لما فصلت بين الحلال والحرام سميت حدودا. فمنها ما زجر عن فعله ومنها ما زجر من الزيادة عليه والنقصان منه، وأما قوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فهو من الممانعة، ويحتمل أن يراد استعمال الحديد إشارة إلى المقاتلة، وذكرت البسملة في رواية أبي ذر سابقة على "كتاب".

(12/58)


باب الزنا و شرب الخمر
...
1- باب: مَا يُحْذَرُ مِنْ الْحُدُودِ
قوله: "باب ما يحذر من الحدود" كذا للمستملى ولم يذكر فيه حديثا، ولغيره: "ما يحذر" عطفا على الحدود. وفي رواية النسفي جعل البسملة بين الكتاب والباب ثم قال: "لا يشرب الخمر. وقال ابن عباس إلخ"
2- باب: الزنا وشرب الْخَمْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإِيمَانِ فِي الزِّنَا
6772- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ

(12/58)


2- بَاب مَا جَاءَ فِي ضَرْبِ شَارِبِ الْخَمْرِ
6773- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح وحَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ، وَالنِّعَالِ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ"
[الحديث 6773- طرفه في: 6776]
قوله: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر" أي خلافا لمن قال يتعين الجلد وبيان الاختلاف في كميته، وقد تقدم الكلام على تحريم الخمر ووقته وسبب نزوله وحقيقتها وهل هي مشتقة وهل يجوز تذكيرها في أول كتاب الأشربة. قوله: "عن قتادة عن أنس" في رواية لمسلم والنسائي: "سمعت أنسا " أخرجاها من طريق خالد بن الحارث عن شعبة، وهو يدل على أن رواية شبابة عن شعبة بزيادة الحسن بين قتادة وأنس التي أخرجها النسائي من المزيد في متصل الأسانيد. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ذكر طريق شعبة عن قتادة ولم يسق المتن وتحول إلى طريق هشام عن قتادة (1) فساق المتن على لفظه، وقد ذكره في الباب الآتي بعد باب عن شيخ آخر عن هشام بهذا اللفظ،
ـــــــ
(1) في نسخ الصحيح التي بايدينا لم يسق المتن في طريق هشام وتحول إلى طريق شعبة

(12/63)


وأما لفظ شعبة فأخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق جعفر بن محمد القلانسي عن آدم شيخ البخاري فيه بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر فضربه بجريدتين نحوا من أربعين، ثم صنع أبو بكر مثل ذلك فلما كان عمر استشار الناس فقال له عبد الرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانون ففعله عمر " ولفظ رواية خالد التي ذكرتها إلى قوله: "نحوا من أربعين " وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة مثل رواية آدم إلا أنه قال: "وفعله أبو بكر فلما كان عمر - أي في خلافته - استشار الناس فقال عبد الرحمن - يعني ابن عوف - أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر " ووقع لبعض رواة مسلم: "أخف الحدود ثمانين" قال ابن دقيق العيد: فيه حذف عامل النصب والتقدير جعله، وتعقبه الفاكهي فقال: هذا بعيد أو باطل وكأنه صدر عن غير تأمل لقواعد العربية ولا لمراد المتكلم إذ لا يجوز أجود الناس الزيدين على تقدير اجعلهم، لأن مراد عبد الرحمن الإخبار بأخف الحدود لا الأمر بذلك، فالذي يظهر أن راوي النصب وهم واحتمال توهيمه أولى من ارتكاب ما لا يجوز لفظا ولا معنى، ورد عليه تلميذه ابن مرزوق بأن عبد الرحمن مستشار والمستشار مسئول والمستشير سائل ولا يبعد أن يكون المستشار آمرا، قال: والمثال الذي مثل به غير مطابق. قلت بل هو مطابق لما ادعاه أن عبد الرحمن قصد الإخبار فقط، والحق أنه أخبر برأيه مستندا إلى القياس، وأقرب التقادير أخف الحدود أجده ثمانين أو أجد أخف الحدود ثمانين فنصبهما، وأغرب ابن العطار صاحب النووي في " شرح العمدة " فنقل عن بعض العلماء أنه ذكره بلفظ أخف الحدود ثمانون بالرفع وأعربه مبتدأ وخبرا، قال ولا أعلمه منقولا رواية، كذا قال والرواية بذلك ثابتة والأولى في توجيهها ما أخرجه مسلم أيضا من طريق معاذ بن هشام عن أبيه " ثم جلد أبو بكر أربعين فلما كان عمرو دنا الناس من الريف والقرى قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود قال فجلد عمر ثمانين " فيكون المحذوف من هذه الرواية المختصرة أرى أن تجعلها وأداة التشبيه. وأخرج النسائي من طريق يزيد بن هارون عن شعبة " فضربه بالنعال نحوا من أربعين، ثم أتى به أبو بكر فصنع به مثل ذلك " ورواه همام عن قتادة بلفظ: "فأمر قريبا من عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال " أخرجه أحمد والبيهقي، وهذا يجمع بين ما اختلف فيه على شعبة وإن جملة الضربات كانت نحو أربعين لا إنه جلده بجريدتين أربعين فتكون الجملة ثمانين كما أجاب به بعض الناس. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ: "جلد بالجريد والنعال أربعين " علقه أبو داود بسند صحيح ووصله البيهقي، وكذا أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام بلفظ: "كان يضرب في الخمر مثله " وقد نسب صاحب العمدة قصة عبد الرحمن هذه إلى تخريج الصحيحين ولم يخرج البخاري منها شيئا وبذلك جزم عبد الحق في الجمع ثم المنذري، نعم ذكر معنى صنيع عمر فقط في حديث السائب في الباب الثالث، وسيأتي بسط ذلك فيه. "تنبيه": الرجل المذكور لم أقف على اسمه صريحا لكن سأذكر في " باب ما يكره من لعن الشارب " ما يؤخذ منه، أنه النعيمان.

(12/64)


3- بَاب: مَنْ أَمَرَ بِضَرْبِ الْحَدِّ فِي الْبَيْتِ
6774- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ - أَوْ بِابْنِ النُّعَيْمَانِ – شَارِبًا"، "فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ بِالْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ، قَالَ فَضَرَبُوهُ،

(12/64)


فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ"
قوله: "باب من أمر بضرب الحد في البيت" يعني خلافا لمن قال: لا يضرب الحد سرا، وقد ورد عن عمر في قصة ولده أبي شحمة لما شرب بمصر فحده عمرو بن العاص في البيت أن عمر أنكر عليه وأحضره إلى المدينة وضربه الحد جهرا، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه الزبير وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولا، وجمهور أهل العلم على الاكتفاء، وحملوا صنيع عمر على المبالغة في تأديب ولده لا أن إقامة الحد لا تصح إلا جهرا. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وأيوب هو السختياني، وابن أبي مليكة هو عبد الله ابن عبيد الله وقد سمي في الباب الذي بعده من رواية وهيب بن خالد عن أيوب. قوله: "عن عقبة بن الحارث" أي ابن عامر بن نوفل بن عبد مناف، ووقع في رواية عبد الوارث عن أيوب عند أحمد " حدثني عقبة بن الحارث " وقد اتفق هؤلاء على وصله، وخالفهم إسماعيل بن علية فقال: "عن أيوب عن ابن أبي مليكة مرسلا " أخرجه مسدد عنه. قوله: "جيء" كذا لهم على البناء للمجهول، وقد ذكرت في الوكالة تسمية الذي أتى به ولم ينبه عليه أحد ممن صنف في المبهمات. قوله: "بالنعيمان أو بابن النعيمان" في رواية الكشميهني في الباب الذي يليه " نعيمان " بغير ألف ولام في الموضعين وقد تقدم التنبيه على ذلك في كتاب الوكالة وأنه وقع عند الإسماعيلي: "النعيمان" بغير شك، فإن الزبير بن بكار وابن منده أخرجا الحديث من وجهين فيهما "النعيمان" بغير شك وذكرت نسبه هناك. وفي رواية الزبير " كان النعيمان يصيب الشراب " وهذا يعكر على قول ابن عبد البر أن الذي كان أتى به قد شرب الخمر هو ابن النعيمان فإنه قيل في ترجمة النعيمان: كان رجلا صالحا وكان له ابن انهمك في شرب الخمر فجلده النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في موضع آخر أظن ابن النعيمان جلد في الخمر أكثر من خمسين مرة، وذكر الزبير في بكار أيضا أنه كان مزاحا وله في ذلك قصة مع سويبط بن حرملة ومع مخرمة بن نوفل والد المسور مع أمير المؤمنين عثمان ذكرها الزبير مع نظائر لها في " كتاب الفكاهة والمزاح " وذكر محمد ابن سعد أنه عاش إلى خلافة معاوية. قوله: "شاربا" في رواية وهيب "وهو سكران" وزاد: "فشق عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم: "ووقع في رواية معلى بن أسد عن وهيب عند النسائي: "فشق على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة " وسيأتي بقية ما يتعلق بقصة النعيمان في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. واستدل به على جواز إقامة الحد على السكران في حال سكره، وبه قال بعض الظاهرية والجمهور على خلافه وأولوا الحديث بأن المراد ذكر سبب الضرب وأن ذلك الوصف استمر في حال ضربه وأيدوا ذلك بالمعنى وهو أن المقصود بالضرب في الحد الإيلام ليحصل به الردع، وفي الحديث تحريم الخمر ووجوب الحد على شاربها سواء كان شرب كثيرا أم قليلا وسواء أسكر أم لا.

(12/65)


باب الضرب بالجريد و النعال
...
4- باب الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ
6775- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِنُعَيْمَانَ - أَوْ بِابْنِ نُعَيْمَانَ - وَهُوَ سَكْرَانُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ مَنْ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَكُنْتُ فِيمَنْ ضَرَبَهُ"

(12/65)


6776- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ"
6777- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: اضْرِبُوهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ. قَالَ: لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"
[الحديث 6777- طرفه في 6781]
6778- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ سَمِعْتُ عُمَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ النَّخَعِيَّ قَالَ "سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ فَأَجِدَ فِي نَفْسِي، إِلاَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ"
6779- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْجُعَيْدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ "عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ فصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ"
قوله: "باب الضرب بالجريد والنعال" أي في شرب الخمر، وأشار بذلك إلى أنه لا يشترط الجلد. وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال وهي أوجه عند الشافعية: أصحها يجوز الجلد بالسوط ويجوز الاقتصار على الضرب س بالأيدي والنعال والثياب، ثانيها يتعين الجلد، ثالثها يتعين الضرب. وحجة الراجح أنه فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت نسخه والجلد في عهد الصحابة فدل على جوازه، وحجة الآخر أن الشافعي قال في " الأم ": لو أقام عليه الحد بالسوط فمات وجبت الدية فسوى بينه وبين ما إذا زاد فدل على أن الأصل الضرب بغير السوط، وصرح أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط، وصرح القاضي حسين بتعيين السوط واحتج بأنه إجماع الصحابة ونقل عن النص في القضاء ما يوافقه، ولكن في الاستدلال بإجماع الصحابة نظر فقد قال النووي في " شرح مسلم: ": أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب، ثم قال: والأصح جوازه بالسوط، وشذ من قال هو شرط وهو غلط منابذ للأحاديث الصحيحة. قلت: وتوسط بعض المتأخرين فعين السوط للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم وهو متجه، ونقل ابن دقيق العيد عن بعضهم أن معنى قوله: "نحوا من أربعين" تقدير أربعين ضربة بعصا مثلا لا أن المراد عدد معين، ولذلك وقع في بعض طرق عبد الرحمن بن أزهر أن أبا بكر سأل من حضر ذلك الضرب فقومه أربعين فضرب أبو بكرم أربعين، قال: وهذا عندي خلاف الظاهر، ويبعده قوله في الرواية الأخرى "جلد في الخمر أربعين" قلت: ويبعد التأويل المذكور ما تقدم من

(12/66)


رواية همام في حديث أنس "فأمر عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال، وذكر المصنف فيه خمسة أحاديث: الأول حديث عقبة بن الحارث قد تقدم في الباب الذي قبله وهو ظاهر فيما ترجم له. الثاني حديث أنس وقد تقدم أيضا في الباب الأول، وقوله فيه: "جلد" تقدم في الباب الأول بلفظ: "ضرب" ولا منافاة بينهما لأن معنى جلد هنا ضربه فأصاب جلده وليس المراد به ضربه بالجلد. الثالث حديث أبي هريرة: قوله: "أبو ضمرة أنس" يعني ابن عياض. قوله: "عن يزيد بن الهاد" هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن عبد الله بن شداد بن الهاد فنسب إلى جده الأعلى، وهو وشيخه وشيخ شيخه مدنيون تابعيون، ووقع في آخر الباب الذي يليه " أنس بن عياض حدثنا ابن الهاد". قوله: "عن محمد بن إبراهيم" أي ابن الحارث بن خالد التيمي، زاد في رواية الطحاوي من طريق نافع ابن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم أنه حدثه عن أبي سلمة. قوله: "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وصرح به في رواية الطحاوي. قوله: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب" في الرواية التي في الباب الذي يليه " بسكران " وهذا الرجل يحتمل أن يفسر بعبد الله الذي كان يلقب حمارا المذكور في الباب الذي بعده من حديث عمر، ويحتمل أن يفسر بابن النعيمان، والأول أقرب لأن في قصته " فقال رجل من القوم اللهم العنه " ونحوه في قصة المذكور في حديث أبي هريرة لكن لفظه: "قال بعض القوم أخزاك الله " ويحتمل أن يكون ثالثا فإن الجواب في حديثي عمر وأبي هريرة مختلف، وأخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال " الحديث، ولعبد الرزاق بسند صحيح عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين " كان الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه". قوله: "قال اضربوه" هذا يفسر الرواية الآتية بلفظ: "فأمر بضربه " ولكن لم يذكر فيهما عددا. قوله: "قال بعض القوم" في الرواية الآتية " فقال رجل " وهذا الرجل هو عمر بن الخطاب إن كانت هذه القصة متحدة مع حديث عمر في قصة حمار كما سأبينه. قوله: "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان" في الرواية الأخرى " لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم، ووجه عونهم الشيطان بذلك أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخزي فإذا دعوا عليه بالخزي فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان. ووقع عند أبي داود من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح ويحيى بن أيوب وابن لهيعة ثلاثتهم عن يزيد بن الهاد نحوه وزاد في آخره: "ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه " زاد فيه أيضا بعد الضرب" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأصحابه بكتوه " وهو أمر بالتبكيت وهو مواجهته بقبيح فعله، وقد فسره في الخبر بقوله: "فأقبلوا عليه يقولون له ما اتقيت الله عز وجل، ما خشيت الله جل ثناؤه، ما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرسلوه " وفي حديث عبد الرحمن بن أزهر عند الشافعي بعد ذكر الضرب ثم قال عليه الصلاة والسلام : "بكتوه فبكتوه، ثم أرسله " ويستفاد من ذلك منع الدعاء على العاصي بالإبعاد عن رحمة الله كاللعن، وسيأتي مزيد لذلك في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. الحديث الرابع قوله: "سفيان" هو الثوري، وصرح به في رواية مسلم وأبو حصين بمهملتين مفتوح أوله، وعمير بن سعيد بالتصغير وأبوه بفتح أوله وكسر ثانيه تابعي كبير ثقة، قال النووي: هو في جميع النسخ من الصحيحين هكذا، ووقع في الجمع للحميدي "سعد" بسكون العين وهو غلط، ووقع في المهذب وغيره: "عمر بن سعد" بحذف الياء فيهما وهو غلط فاحش. قلت: ووقع في بعض النسخ من البخاري كما ذكر الحميدي، ثم رأيته في تقييد أبي علي الجياني منسوبا لأبي زيد

(12/67)


المروزي قال: والصواب سعيد، وجزم بذلك ابن حزم وأنه في البخاري سعد بسكون العين فلعله سلف الحميدي، ووقع للنسائي والطحاوي "عمر" بضم العين وفتح الميم كما في المهذب لكن الذي عندهما في أبيه "سعيد" ووقع عند ابن حزم في النسائي: "عمرو" بفتح أوله وسكون الميم والمحفوظ "عمير" كما قال النووي، وقد أعل ابن حزم الخبر بالاختلاف في اسم عمير واسم أبيه، وليست بعلة تقدح في روايته وقد عرفه ووثقه من صحح حديثه، وقد عمر عمير المذكور وعاش إلى سنة خمس عشرة ومائة. قوله: "ما كنت لأقيم" اللام لتأكيد النفي كما في قوله تعالى :{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . قوله: "فيموت فأجد" بالنصب فيهما، ومعنى أجد من الوجد، وله معان اللائق منها هنا الحزن، وقوله: "فيموت" مسبب عن "أقيم" وقوله: "فأجد" مسبب عن السبب والمسبب معا. قوله: "إلا صاحب الخمر" أي شاربها وهو بالنصب، ويجوز الرفع، والاستثناء منقطع أي لكن أجد من حد شارب الخمر إذا مات، ويحتمل أن يكون التقدير ما أجد من موت أحد يقام عليه الحد شيئا إلا من موت شارب الخمر فيكون الاستثناء على هذا متصلا قاله الطيبي. قوله: "فإنه لو مات وديته" أي أعطيت ديته لمن يستحق قبضها، وقد جاء مفسرا من طريق أخرى أخرجها النسائي وابن ماجه من رواية الشعبي عن عمير بن سعيد قال: "سمعت عليا يقول من أقمنا عليه حدا فمات فلا دية له إلا من ضربناه في الخمر". قوله: "لم يسنه" أي لم يسن فيه عددا معينا، في رواية شريك " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستن فيه شيئا " ووقع في رواية الشعبي "فإنما هو شيء صنعناه". "تكملة": اتفقوا على أن من مات من الضرب في الحد لا ضمان على قاتله إلا في حد الخمر، فعن علي ما تقدم، وقال الشافعي: إن ضرب بغير السوط فلا ضمان وإن جلد بالسوط ضمن قبل الدية وقيل قدر تفاوت ما بين الجلد بالسوط وبغيره، والدية في ذلك على عاقلة الإمام، وكذلك لو مات فيما زاد على الأربعين. الحديث الخامس قوله: "عن الجعيد" بالجيم والتصغير، ويقال الجعد بفتح أوله ثم سكون، وهو تابعي صغير تقدمت روايته عن السائب بن يزيد في كتاب الطهارة، وروي عنه هنا بواسطة، وهذا السند للبخاري في غاية العلو لأن بينه وبين التابعي فيه واحدا فكان في حكم الثلاثيات، وإن كان التابعي رواه عن تابعي آخر وله عنده نظائر، ومثله ما أخرجه في العلم عن عبيد الله بن موسى عن معروف عن أبي الطفيل عن علي فإن أبا الطفيل صحابي فيكون في حكم الثلاثيات لأن بينه وبين الصحابي فيه اثنين وإن كان صحابيه إنما رواه عن صحابي آخر، وقد أخرجه النسائي من رواية حاتم بن إسماعيل عن الجعيد سمعت السائب، فعلى هذا فإدخال يزيد ابن خصيفة بينهما إما من المزيد في متصل الأسانيد وإما أن يكون الجعيد سمعه من السائب، وثبته فيه يزيد، ثم ظهر لي السبب في ذلك وهو أن رواية الجعيد المذكورة عن السائب مختصرة فكأنه سمع الحديث تاما من يزيد عن السائب فحدث بما سمعه من السائب عنه من غير ذكر يزيد، وحدث أيضا بالتام فذكر الواسطة، ويزيد ابن خصيفة المذكور هو ابن عبد الله بن خصيفة نسب لجده وقيل هو يزيد بن عبد الله بن يزيد بن خصيفة فيكون نسب إلى جد أبيه، وخصيفة هو ابن يزيد بن ثمامة أخو السائب بن يزيد صحابي هذا الحديث فتكون رواية يزيد بن خصيفة لهذا الحديث عن عم أبيه أو عم جده. قوله: "كنا نؤتى بالشارب" فيه إسناد القائل الفعل بصيغة الجمع التي يدخل هو فيها مجازا لكونه مستويا معهم في أمر ما وإن لم يباشر هو ذلك الفعل الخاص لأن السائب كان صغيرا جدا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم في الترجمة النبوية أنه كان ابن ست سنين فيبعد أن يكون شارك من كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من ضرب الشارب، فكأن مراده بقوله: "كنا" أي

(12/68)


الصحابة، لكن يحتمل أن يحضر مع أبيه أو عمه فيشاركهم في ذلك فيكون الإسناد على حقيقته. قوله: "وإمرة أبي بكر" بكسر الهمزة وسكون الميم أي خلافته، وفي رواية حاتم " من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض زمان عمر". قوله: "وصدرا من خلافة عمر" أي جانبا أوليا. قوله: "فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا" أي فنضربه بها. قوله: "حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين" ظاهره أن التحديد بأربعين إنما وقع في آخر خلافة عمر، وليس كذلك لما في قصة خالد بن الوليد وكتابته إلى عمر فإنه يدل على أن أمر عمر بجلد ثمانين كان في وسط إمارته لأن خالدا مات في وسط خلافة عمر، وإنما المراد بالغاية المذكورة أولا استمرار الأربعين فليست الفاء معقبة لآخر الإمرة بل لزمان أبي بكر وبيان ما وقع في زمن عمر، فالتقدير فاستمر جلد أربعين، والمراد بالغاية الأخرى في قوله: "حتى إذا عتوا " تأكيدا لغاية الأولى وبيان ما صنع عمر بعد الغاية الأولى. وقد أخرجه النسائي من رواية المغيرة بن عبد الرحمن عن الجعيد بلفظ: "حتى كان وسط إمارة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا " وهذه لا إشكال فيها، قوله: "حتى إذا عتوا" بمهملة ثم مثناة من العتو وهو التجبر، والمراد هنا انهماكهم في الطغيان والمبالغة في الفساد في شرب الخمر لأنه ينشأ عنه الفساد. قوله: "وفسقوا" أي خرجوا عن الطاعة، ووقع في رواية للنسائي: "فلم ينكلوا " أي يدعوا. قوله: "جلد ثمانين" وقع في مرسل عبيد بن عمير أحد كبار التابعين فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحو حديث السائب وفيه: "أن عمر جعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال: هذا أدنى الحدود " وهذا يدل على أنه وافق عبد الرحمن بن عوف في أن الثمانين أدنى الحدود، وأراد بذلك الحدود المذكورة في القرآن وهي حد الزنا وحد السرقة للقطع وحد القذف وهو أخفها عقوبة وأدناها عددا، وقد مضى من حديث أنس في رواية شعبة وغيره سبب ذلك وكلام عبد الرحمن فيه حيث قال: "أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر" وأخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد (1) "أن عمر استشار في الخمر فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجعله ثمانين، فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى " فجلد عمر في الخمر ثمانين، وهذا معضل وقد وصله النسائي والطحاوي من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مطولا ولفظه: "أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفي فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك حتى أتى برجل " فذكر قصة وأنه تأول قوله تعالى:{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} وأن ابن عباس ناظره في ذلك واحتج ببقية الآية وهو قوله تعالى :{إِذَا مَا اتَّقَوْا} والذي يرتكب ما حرمه الله ليس بمتق، فقال عمر: ما ترون؟ فقال علي فذكره وزاد بعد قوله وإذا هذى افترى " وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر به عمر فجلده ثمانين " ولهذا الأثر عن علي طرق أخرى منها ما أخرجها الطبراني والطحاوي والبيهقي من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن " أن رجلا من بني كلب يقال له ابن دبرة أخبره أن أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين وكان عمر يجلد فيها أربعين، قال فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر فقلت: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال ووجدت عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في المسجد،
ـــــــ
(1) هو الكلاعي، وفي النسخة "ثور بن زيد" وهو الديلي، وقد روى مالك عن كليلهما، وكلاهما ثقة

(12/69)


فقال علي" فذكر مثل رواية ثور الموصولة، ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة " أن عمر شاور الناس في الخمر فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى " الحديث، ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: "شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية المذكورة فاستشار عمر فيهم فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين وإلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما حرم الله، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين " وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بحنين وفيه: "فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة، قال وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين. وقال علي" فذكر مثله وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر عن ابن شهاب قال: "فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطا وفرض فيها عمر ثمانين " قال الطحاوي: جاءت الأخبار متواترة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في الخمر شيئا، ويؤيده فذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييد بعدد حديث أبي هريرة وحديث عقبة بن الحارث المتقدمين وحديث عبد الرحمن بن أزهر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فقال للناس اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضربه بالعصا ومنهم من ضربه بالجريد، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترابا فرمى به في وجهه " وتعقب بأنه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله وهو ما عند أبي داود والنسائي في هذا الحديث: "ثم أتى أبو بكر بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه أربعين، ثم أتى عمر بسكران فضربه أربعين " فإنه يدل على أنه وإن لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك. ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حضير بمهملة وضاد معجمة مصغر ابن لمنذر " أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر اجلده فجلده، فلما بلغ أربعين قال: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلي " فإن فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها " نحو الأربعين " والجمع بينها أن عليا أطلق الأربعين فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب، وادعى الطحاوي أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج بنون وجيم ضعيف، وتعقبه البيهقي بأنه حديث صحيح مخرج في المسانيد والسنن، وأن الترمذي سأل البخاري عنه فقواه، وقد صححه مسلم وتلقاه الناس بالقبول. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب، قال البيهقي: وصحة الحديث إنما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوهم، وتضعيفه الداناج لا يقبل لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يقبل إلا مفسرا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه ولا سيما مع ظهور الجمع، قلت: وثق الداناج المذكور أبو زرعة والنسائي، وقد ثبت عن علي في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين، ثم ساقه من طريق هشام بن يوسف عن معمر وقال: أخرجه البخاري، وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان وأن بعض الرواة قال فيه إنه جلد ثمانين، وذكرت ما قيل في ذلك هناك. وطعن الطحاوي ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضا بأن عليا قال وهذا أحب إلي أي جلد أربعين مع أن عليا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن علي أن حد النبيذ ثمانون، والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن علي، الثاني على

(12/70)


تقدير ثبوته فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب، وأن حد الخمر لا ينقص عن الأربعين ولا يزاد على الثمانين، والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وقد جمع الطحاوي بينهما بما أخرجه هو والطبري من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان، وأخرج الطحاوي أيضا من طريق عروة مثله لكن قال: "له ذنبان أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان " قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن عليا جلده ثمانين لأن كل سوط سوطان، وتعقب بأن السند الأول منقطع فإن أبا جعفر ولد بعد موت علي بأكثر من عشرين سنة، وبأن الثاني في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف وعروة لم يكن في الوقت المذكور مميزا وعلى تقدير ثبوته فليس في الطريقين أن الطرفين أصاباه في كل ضربة. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ضربه بالطرفين عشرين فأراد بالأربعين ما اجتمع من عشرين وعشرين، ويوضح ذلك قوله في بقية الخبر " وكل سنة وهذا أحب إلي " لأنه لا يقتضي التغاير، والتأويل المذكور يقتضي أن يكون كل من الفريقين جلد ثمانين فلا يبقى هناك عدد يقع التفاضل فيه. وأما دعوى من زعم أن المراد بقوله هذا الإشارة إلى الثمانين فيلزم من ذلك أن يكون علي رجح ما فعل عمر على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهذا لا يظن به قاله البيهقي، واستدل الطحاوي لضعف حديث أبي ساسان بما تقدم ذكره من قول علي " إنه إذا سكر هذى إلخ " قال فلما اعتمد علي في ذلك على ضرب المثل واستخرج الحد بطريق الاستنباط دل على أنه لا توقيف عنده من الشارع في ذلك، فيكون جزمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين غلطا من الراوي، إذ لو كان عنده الحديث المرفوع لم يعدل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصحابة كعمر وسائر من ذكر في ذلك شيء مرفوع لأنكروا عليه، وتعقب بأنه إنما يتجه الإنكار لو كان المنزع واحدا فأما مع الاختلاف فلا يتجه الإنكار، وبيان ذلك أن في سياق القصة ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحد أربعون وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع يزيد على ما كان مقررا، ويشير إلى ذلك ما وقع من التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة وانهمكوا فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى الحد المذكور قدره إما اجتهادا بناء على جواز دخول القياس في الحدود فيكون الكل حدا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحد لا النقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التعزير تحذيرا وتخويفا، لأن من احتقر العقوبة إذا عرف أنها غلظت في حقه كان أقرب إلى ارتداعه، فيحتمل أن يكونوا ارتدعوا بذلك ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك فرأى علي الرجوع إلى الحد المنصوص وأعرض عن الزيادة لانتفاء سببها، ويحتمل أن يكون القدر الزائد كان عندهم خاصا بمن تمرد وظهرت منه أمارات الاشتهار بالفجور، ويدل على ذلك أن في بعض طرق حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عند الدار قطني وغيره: "فكان عمر إذا أتى بالرجل الضعيف تكون منه الزلة جلده أربعين" قال وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين، وقال المازري: لو فهم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدا معينا لما قالوا فيه بالرأي كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه انتهى. وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه ورجح القول بأن الذي اجتهدوا فيه زيادة على الحد إنما هو التعزير على القول بأنهم اجتهدوا في الحد المعين لما يلزم منه من المخالفة التي ذكرها كما سبق في تقريره. وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنبأنا عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم، فلما كان عمر فعل ذلك حتى خشي فجعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال: هذا أخف الحدود. والجمع

(12/71)


بين حديث علي المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وأنه سنة وبين حديثه المذكور في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه بأن يحمل النفي على أنه لم يحد الثمانين أي لم يسن شيئا زائدا على الأربعين، يؤيده قوله: "وإنما هو شيء صنعناه نحن " يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله: "لو مات لوديته " أي في الأربعين الزائدة وبذلك جزم البيهقي وابن حزم، ويحتمل أن يكون قوله: "لم يسنه " أي الثمانين لقوله في الرواية الأخرى " وإنما هو شيء صنعناه " فكأنه خاف من الذي صنعوه باجتهادهم أن لا يكون مطابقا، واختص هو بذلك لكونه الذي كان أشار بذلك واستدل له ثم ظهر له أن الوقوف عندما كان الأمر عليه أولا أولى فرجع إلى ترجيحه وأخبر بأنه لو أقام الحد ثمانين فمات المضروب وداه للعلة المذكورة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "لم يسنه " لصفة الضرب وكونها بسوط الجلد أي لم يسن الجلد بالسوط وإنما كان يضرب فيه بالنعال وغيرها مما تقدم ذكره، أشار إلى ذلك البيهقي. وقال ابن حزم أيضا: لو جاء عن غير علي من الصحابة في حكم واحد أنه مسنون وأنه غير مسنون لوجب حمل أحدهما على غير ما حمل عليه الآخر فضلا عن علي مع سعة علمه وقوة فهمه، وإذا تعارض خبر عمر بن سعيد وخبر أبي ساسان فخبر أبي ساسان أولى بالقبول لأنه مصرح فيه برفع الحديث عن علي وخبر عمير موقوف على علي، وإذا تعارض المرفوع والموقوف قدم المرفوع. وأما دعوى ضعف سند أبي ساسان فمردودة والجمع أولى مهما أمكن من توهين الأخبار الصحيحة، وعلى تقدير أن تكون إحدى الروايتين وهما فرواية الإثبات مقدمة على رواية النفي، وقد ساعدتها رواية أنس على اختلاف ألفاظ النقلة عن قتادة، وعلى تقدير أن يكون بينهما تمام التعارض فحديث أنس سالم من ذلك، واستدل بصنيع عمر في جلد شارب الخمر ثمانين على أن حد الخمر ثمانون و هو قول الأئمة الثلاثة وأحد القولين للشافعي واختاره ابن المنذر، والقول الآخر للشافعي وهو الصحيح أنه أربعون. قلت: جاء عن أحمد كالمذهبين، قال القاضي عياض: أجمعوا على وجوب الحد في الخمر واختلفوا في تقديره، فذهب الجمهور إلى الثمانين، وقال الشافعي في المشهور عنه وأحمد في رواية وأبو ثور وداود أربعين، وتبعه على نقل الإجماع ابن دقيق العيد والنووي ومن تبعهما، وتعقب بأن الطبري وابن المنذر وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير واستدلوا بأحاديث الباب فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب وأصرحها حديث أنس ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه، وقد قال عبد الرزاق " أنبأنا ابن جريج ومعمر سئل ابن شهاب: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ فقال: لم يكن فرض فيها حدا، كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم ارفعوا، وورد أنه لم يضربه أصلا وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي " عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا، قال ابن عباس: وشرب رجل فسكر فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم يأمر فيه بشيء " وأخرج الطبري من وجه آخر " عن ابن عباس ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرا، ولقد غزا تبوك فغشى حجرته من الليل سكران فقال ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى رجله " والجواب أن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحد لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السكران فصيره حدا واستمر عليه، وكذا استمر من بعده وإن اختلفوا في العدد، وجمع القرطبي بين الأخبار بأنه لم يكن أولا في شرب الخمر حد وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزيز على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد

(12/72)


ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين، ومن ثم توخى أبو بكر ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر، ثم رأي عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين إما حدا بطريق الاستنباط وإما تعزيرا. قلت: وبقي ما ورد في الحديث أنه إن شرب فحد ثلاث مرات ثم شرب قتل في الرابعة وفي رواية في الخامسة وهو حديث مخرج في السنن من عدة طرق أسانيدها قوية، ونقل الترمذي الإجماع على ترك القتل وهو محمول على من بعد من نقل غيره عنه القول به كعبد الله بن عمرو فيما أخرجه أحمد والحسن البصري وبعض أهل الظاهر، وبالغ النووي فقال: كل قول باطل مخالف لإجماع الصحابة فمن بعدهم والحديث الوارد فيه منسوخ إما بحديث: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث " وإما لأن الإجماع دل على نسخه. قلت: بل دليل النسخ منصوص وهو ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري عن قبيصة في هذه القصة قال: "فأتى برجل قد شرب فجلده، ثم أتى به قد شرب فجلده، ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده فرفع القتل وكانت رخصة " وسيأتي بسط ذلك في الباب الذي يليه. واحتج من قال إن حده ثمانون بالإجماع في عهد عمر حيث وافقه على ذلك كبار الصحابة، وتعقب بأن عليا أشار على عمر بذلك ثم رجع علي عن ذلك واقتصر على الأربعين لأنها القدر الذي اتفقوا عليه وفي زمن أبي بكر مستندين إلى تقدير ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذي أشار به فقد تبين من سياق قصته أنه أشار بذلك ردعا للذين انهمكوا لأن في بعض طرق القصة كما تقدم أنهم "احتقروا العقوبة" وبهذا تمسك الشافعية فقالوا: أقل ما في حد الخمر أربعون وتجوز الزيادة فيه إلى الثمانين على سبيل التعزير ولا يجاوز الثمانين، واستندوا إلى أن التعزير إلى رأي الإمام فرأى عمر فعله بموافقة علي ثم رجع علي ووقف عندما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ووافقه عثمان على ذلك، وأما قول علي "وكل سنة" فمعناه أن الاقتصار على الأربعين سنة النبي صلى الله عليه وسلم فصار إليه أبو بكر، والوصول إلى الثمانين سنة عمر ردعا للشاربين الذين احتقروا العقوبة الأولى ووافقه من ذكر في زمانه للمعنى الذي تقدم وسوغ لهم ذلك إما اعتقادهم جواز القياس في الحدود على رأي من يجعل الجميع حدا وإما أنهم جعلوا الزيادة تعزيرا بناء على جواز أن يبلغ بالتعزير قدر الحد ولعلهم لم يبلغهم الخبر الآتي في باب التعزير، وقد تمسك بذلك من قال بجواز القياس في الحدود وادعى إجماع الصحابة، وهي دعوى ضعيفة لقيام الاحتمال، وقد شنع ابن حزم على الحنفية في قولهم إن القياس لا يدخل في الحدود والكفارات مع جزم الطحاوي ومن وافقه منهم بأن حد الخمر وقع بالقياس على حد القذف، وبه تمسك من قال بالجواز من المالكية والشافعية، واحتج من منع ذلك بأن الحدود والكفارات شرعت بحسب المصالح، وقد تشترك أشياء مختلفة وتختلف أشياء متساوية فلا سبيل إلى علم ذلك إلا بالنص، وأجابوا عما وقع في زمن عمر بأنه لا يلزم من كونه جلد قدر حد القذف أن يكون جعل الجميع حدا بل الذي فعلوه محمول على أنهم لم يبلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حد فيه أربعين إذ لو بلغهم لما جاوزوه كما لم يجاوزوا غيره من الحدود المنصوصة، وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال فرجح أن الزيادة كانت تعزيرا، ويؤيده ما أخرجه أبو عبيد في " غريب الحديث: "بسند صحيح عن أبي رافع بن عمر أنه أتى بشارب فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غدا فاضربه، فجاء عمر فوجده يضربه ضربا شديدا فقال: كم ضربته؟ قال ستين قال اقتص عنه بعشرين، قال أبو عبيد: يعني اجعل شدة ضربك له قصاصا بالعشرين التي بقيت من الثمانين، قال أبو عبيد: فيؤخذ من هذا الحديث أن ضرب الشارب لا يكون شديدا وأن لا يضرب في حال السكر لقوله: "إذا

(12/73)


أصبحت فاضربه" قال البيهقي: ويؤخذ منه أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حدا لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به. وقال صاحب "المفهم" ما ملخصه بعد أن ساق الأحاديث الماضية: هذا كله يدل على أن الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان أدبا وتعزيرا، ولذلك قال علي: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه، فلذلك ساغ للصحابة الاجتهاد فيه فألحقوه بأخف الحدود، وهذا قول طائفة من علمائنا. ويرد عليهم قول علي "جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين" وكذا وقوع الأربعين في عهد أبي بكر وفي خلافة عمر أولا أيضا ثم في خلافة عثمان، فلولا أنه حد لاختلف التقدير، ويؤيده قيام الإجماع على أن في الخمر الحد وإن وقع الاختلاف في الأربعين والثمانين، قال: والجواب أن النقل عن الصحابة اختلف في التحديد والتقدير، ولا بد من الجمع بين مختلف أقوالهم، وطريقه أنهم فهموا أن الذي وقع في زمنه صلى الله عليه وسلم كان أدبا من أصل ما شاهدوه من اختلاف الحال، فلما كثر الإقدام علي الشرب ألحقوه بأخف الحدود المذكورة في القرآن، وقوى ذلك عندهم وجود الافتراء من السكر فأثبتوها حذا، ولهذا أطلق على أن عمر جلد ثمانين وهي سنة ثم ظهر لعلي أن الاقتصار على الأربعين أولى مخافة أن يموت فتجب فيه الدية ومراده بذلك الثمانون وبهذا يجمع بين قوله: "لم يسنه " وبين تصريحه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين قال: وغاية هذا البحث أن الضرب في الخمر تعزير يمنع من الزيادة على غايته وهي مختلف فيها، قال: وحاصل ما وقع من استنباط الصحابة أنهم أقاموا السكر مقام القذف لأنه لا يخلوا عنه غالبا فأعطوه حكمه، وهو من أقوى حجج القائلين بالقياس، فقد اشتهرت هذه القصة ولم ينكرها في ذلك الزمان منكر. قال: وقد اعترض بعض أهل النظر بأنه إن ساغ إلحاق حد السكر بحد القذف فليحكم له بحكم الزنا والقتل لأنهما مظنته وليقتصروا في الثمانين على من سكر لا على من اقتصر على الشرب ولم يسكر، قال: وجوابه أن المظنة موجودة غالبا في القذف نادرة في الزنا والقتل، الوجود يحقق ذلك، وإنما أقاموا الحد على الشارب وإن لم يسكر مبالغة في الردع لأن القليل يدعو إلى الكثير والكثير يسكر غالبا وهو المظنة، ويؤيده أنهم اتفقوا على إقامة الحد في الزنا بمجرد الإيلاج وإن لم يتلذذ ولا أنزل ولا أكمل. قلت: والذي تحصل لنا من الآراء في حد الخمر ستة أقوال: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل فيها حدا معلوما بل كان يقتصر في ضرب الشارب على ما يليق به، قال ابن المنذر قال بعض أهل العلم: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمرهم بضربه وتبكيته، فدل على أن لا حد في السكر بل فيه التنكيل والتبكيت ولو كان ذلك على سبيل الحد لبينه بيانا واضحا. قال: فلما كثر الشراب في عهد عمر استشار الصحابة، ولو كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء محدود لما تجاوزوه كما لم يتجاوزوا حد القذف ولو كثر القاذفون وبالغوا في الفحش، فلما اقتضى رأيهم أن يجعلوه كحد القذف، وأستدل علي بما ذكر من أن في تعاطيه ما يؤدي إلى وجود القذف غالبا أو إلى ما يشبه القذف، ثم رجع إلى الوقوف عند تقدير ما وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، دل على صحة ما قلناه، لأن الروايات في التحديد بأربعين اختلفت عن أنس وكذا عن علي فالأولى أن لا يتجاوزوا أقل ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربه لأنه المحقق سواء كان ذلك حدا أو تعزيرا. الثاني أن الحد فيه أربعون ولا تجوز الزيادة عليها. الثالث مثله لكن للإمام أن يبلغ به ثمانين، وهل تكون الزيادة من تمام الحد أو تعزيرا؟ قولان. الرابع أنه ثمانون ولا تجوز الزيادة عليها. الخامس كذلك وتجوز الزيادة تعزيرا. وعلى الأقوال كلها هل يتعين الجلد بالسوط أو يتعين بما عداه أو يجوز بكل من ذلك؟ أقوال. السادس إن شرب فجلد ثلاث مرات فعاد الرابعة وجب قتله، وقيل إن شرب أربعا فعاد الخامسة وجب قتله، وهذا السادس في الطرف الأبعد من

(12/74)


القول الأول وكلاهما شاذ وأظن الأول رأي البخاري فإنه لم يترجم بالعدد أصلا ولا أخرج هنا في العدد الصريح شيئا مرفوعا، وتمسك من قال لا يزاد على الأربعين بأن أبا بكر تحرى ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فوجده أربعين فعمل به. ولا يعلم له في زمنه مخالف، فإن كان السكوت إجماعا فهذا الإجماع سابق على ما وقع في عهد عمر والتمسك به أولى لأن مستنده فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم رجع إليه علي ففعله في زمن عثمان بحضرته وبحضرة من كان عنده من الصحابة منهم عبد الله بن جعفر الذي باشر ذلك والحسن بن علي، فإن كان السكوت إجماعا فهذا هو الأخير فينبغي ترجيحه، وتمسك من قال بجواز الزيادة بما صنع في عهد عمر من الزيادة، ومنهم من أجاب عن الأربعين بأن المضروب كان عبدا وهو بعيد فاحتمل الأمرين: أن يكون حدا أو تعزيرا، وتمسك من قاد بجواز الزيادة على الثمانين تعزيرا بما تقدم في الصيام أن عمر حد الشارب في رمضان ثم نفاه إلى الشام، وبما أخرجه ابن أبي شيبة أن عليا جلد النجاشي الشاعر ثمانين ثم أصبح فجلده عشرين بجراءته بالشرب في رمضان، وسيأتي الكلام في جواز الجمع بين الحد والتعزير في الكلام على تغريب الزاني إن شاء الله تعالى. وتمسك من قال يقتل في الرابعة أو الخامسة بما سأذكره في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. وقد استقر الإجماع على ثبوت حد الخمر وأن لا قتل فيه واستمر الاختلاف في الأربعين والثمانين، وذلك خاص بالحر المسلم وأما الذمي فلا يحد فيه، وعن أحمد رواية أنه يحد، وعنه إن سكر والصحيح عندهم كالجمهور، وأما من هو في الرق فهو على النصف من ذلك إلا عند أبي ثور وأكثر أهل الظاهر فقالوا الحر والعبد في ذلك سواء لا ينقص عن الأربعين نقله ابن عبد البر وغيره عنهم، وخالفهم ابن حزم فوافق الجمهور.

(12/75)


باب ما يكره من لعن شارب الخمر ، و أنه ليس بخارج من الملة
...
5- باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْ الْمِلَّةِ
6780- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: "اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ"! فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
6781- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِه"ِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ! فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ"
قوله: "باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة" يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهي عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول "لا يشرب الخمر وهو مؤمن" وأن المراد به نفي

(12/75)


كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعبر بالكراهة هنا إشارة إلى أن النهي للتنزيه في حق من يستحق اللعن إذا قصد به اللاعن محض السب لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة الله، فأما إذا قصده فيحرم ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن كهذا الذي يحب الله ورسوله ولا سيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله في الكلام على حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، وبسبب هذا التفصيل عدل عن قوله في الترجمة كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله: "ما يكره من " فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هذا التقرير فلا حجة فيه لمنع لعن الفاسق المعين مطلقا، وقيل إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث أبي هريرة " لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم " وقيل المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد، لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل المنع مطلقا في حق ذي الزلة والجواز مطلقا في حق المجاهرين، وصوب ابن المنير أن المنع مطلقا في حق المعين والجواز في حق غير المعين لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل وفي حق المعين أذى له وسب وقد ثبت النهي عن آذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتعقب بأنه إنما يستحق اللعن بوصف الإبهام ولو كان لعنه قبل الحد جائزا لاستمر بعد الحد كما لا يسقط التغريب بالجلد، وأيضا فنصيب غير المعين من ذلك يسير جدا والله أعلم. قال النووي في "الأذكار": وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم وأشار الغزالي إلى تحريمه وقال في "باب الدعاء على الظلمة" بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي: وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل "لا أصح الله جسمه" وكل ذلك مذموم انتهى. والأولى حمل كلام الغزالي على الأول، وأما الأحاديث فتدل على الجواز كما ذكره النووي في قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال: "لا استطعت" فيه دليل على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته، وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا. واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسي بالمعصوم مشروع والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود. قوله: "إن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا" ذكر الواقدي في غزوة خيبر من مغازيه عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال ووجد في حصن الصعب بن معاذ فذكر ما وجد من الثياب وغيرها إلى أن قال: "وزقاق خمر فأريقت، وشرب يومئذ من تلك الخمر رجل يقال له عبد الله الحمار " وهو باسم الحيوان المشهور، وقد وقع في حديث الباب أن الأول اسمه والثاني لقبه، وجوز ابن عبد البر أنه ابن النعيمان المبهم في حديث عقبة بن الحارث فقال في ترجمة النعيمان "كان رجلا صالحا وكان له ابن انهمك في الشراب

(12/76)


فجلده النبي صلى الله عليه وسلم: "فعلى هذا يكون كل من النعيمان وولده عبد الله جلد في الشرب، وقوى هذا عنده بما أخرجه الزبير بن بكار في الفاكهة من حديث محمد بن عمرو بن حزم قال: كان بالمدينة رجل يصيب الشراب فكان يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه قال له رجل لعنك الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله " وحديث عقبة اختلف ألفاظ ناقليه هل الشارب النعيمان أو ابن النعيمان والراجح النعيمان فهو غير المذكور هنا لأن قصة عبد الله كانت في خيبر فهي سابقة على قصة النعيمان فإن عقبة بن الحارث من مسلمة الفتح والفتح كان بعد خيبر بنحو من عشرين شهرا، والأشبه أنه المذكور في حديث عبد الرحمن بن أزهر لأن عقبة بن الحارث ممن شهدها من مسلمة الفتح لكن في حديثه أن النعيمان ضرب في البيت وفي حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه أتى به والنبي صلى الله عليه وسلم عند رحل خالد بن الوليد، ويمكن الجمع بأنه أطلق على رحل خالد بيتا فكأنه كان بيتا من شعر فإن كان كذلك فهو الذي في حديث أبي هريرة لأن في كل منهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "بكتوه" كما تقدم. قوله: "وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يقول بحضرته أو يفعل ما يضحك منه، وقد أخرج أبو يعلى من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم بسند الباب: "أن رجلا كان يلقب حمارا وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعسل فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى " ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله: "يحب الله ورسوله " قال: "وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء فقال: يا رسول الله هذا أهديت لك، فإذا جاء صاحبه طلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول ألم تهده إلي؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه " وهذا مما يقوى أن صاحب الترجمة والنعيمان واحد والله أعلم. قوله: "قد جلده في الشراب" أي بسبب شربه الشراب المسكر وكان فيه مضمرة أي كان قد جلده، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم بسنده هذا عند عبد الرزاق " أتى برجل قد شرب الخمر فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد أربع مرات". قوله: "فأتى به يوما" فذكر سفيان اليوم الذي أتى به فيه والشراب الذي شربه من عند الواقدي، ووقع في روايته: "وكان قد أتى به في الخمر مرارا". قوله: "فأمر به فجلد" في رواية الواقدي " فأمر به فخفق بالنعال، وعلى هذا فقوله: "فجلد " أي ضرب ضربا أصاب جلده، وقد يؤخذ منه أنه المذكور في حديث أنس في الباب الأول. قوله: "قال رجل من القوم" لم أر هذا الرجل مسمى، وقد وقع في رواية معمر المذكورة " فقال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم رأيته مسمى في رواية الواقدي فعنده " فقال عمر". قوله: "ما أكثر ما يؤتى به" في رواية الواقدي " ما يضرب " وفي رواية معمر " ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد". قوله: "لا تلعنوه" في رواية الواقدي " لا تفعل يا عمر " وهذا قد يتمسك به من يدعي اتحاد القصتين، وهو بعيد لما بينته من اختلاف الوقتين، ويمكن الجمع بأن ذلك وقع للنعيمان ولابن النعيمان وأنه اسمه عبد الله ولقبه حمار، والله أعلم. قوله: "فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله" كذا للأكثر بكسر الهمزة ويجوز على رواية ابن السكن الفتح والكسر، وقال بعضهم الرواية بفتح الهمزة، على أن "ما" نافية يحيل المعنى إلى ضده، وأغرب بعض شراح المصابيح فقال ما موصولة وإن مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي علمت لكونه مشتملا على المنسوب والمنسوب إليه والضمير في أنه يعود إلى الموصول والموصول مع صلته خبر مبتدأ محذوف تقديره هو الذي علمت والجملة في

(12/77)


جواب القسم، قال الطيبي: وفيه تعسف. وقال صاحب "المطالع": ما موصولة وإنه بكسر الهمزة مبتدأ، وقيل بفتحها وهو مفعول علمت. قال الطيبي: فعلى هذا علمت بمعنى عرفت وأنه خبر الموصول: وقال أبو البقاء في إعراب الجمع: ما زائدة أي فوالله علمت أنه والهمزة على هذا مفتوحة. قال: ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا أي ما علمت عليه أو فيه سوءا، ثم استأنف فقال: إنه يحب الله ورسوله. ونقل عن رواية ابن السكن أن التاء بالفتح للخطاب تقريرا، ويصح على هذا كسر الهمزة وفتحها، والكسر على جواب القسم والفتح معمول علمت، وقيل ما زائدة للتأكيد والتقدير لقد علمت. قلت: وقد حكى في "المطالع" أن في بعض الروايات "فوالله لقد علمت" وعلى هذا فالهمزة مفتوحة، ويحتمل أن تكون ما مصدرية وكسرت إن لأنها جواب القسم. قال الطيبي: وجعل ما نافية أظهر لاقتضاء القسم أن يلتقي بحرف النفي وبإن وباللام خلاف الموصولة، ولأن الجملة القسمية جيء بها مؤكدة لمعنى النفي مقررة للإنكار، ويؤيده أنه وقع في شرح السنة " فوالله ما علمت إلا أنه قال: "فمعنى الحصر في هذه الرواية بمنزلة تاء الخطاب في الرواية الأخرى لإرادة مزيد الإنكار على الخاطب. قلت: وقد وقع في رواية أبي ذر: عن الكشميهني مثل ما عزاه لشرح السنة، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه: "فوالله ما علمت إنه ليحب الله ورسوله " ويصح معه أن تكون ما زائدة وأن تكون ظرفية أي مدة علي، ووقع في رواية معمر والواقدي " فإنه يحب الله ورسوله " وكذا في رواية محمد بن عمرو بن حزم، ولا إشكال فيها لأنها جاءت تعليلا لقوله: "لا تفعل يا عمر " والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب وقد تقدم القول فيه في كتاب الأدب، وهو محمود هنا على أنه كان لا يكرهه، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد الله، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك. وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه والأمر بالدعاء له. وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه. وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفي كماله كما تقدم، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه ذلك نسأل الله العفو والعافية. وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة، والأمر المنسوخ أخرجه الشافعي في رواية حرملة عنه وأبو داود وأحمد والنسائي والدارمي وابن المنذر وصححه ابن حبان (1) كلهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه: "إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلده، ثم إذا سكر فاقتلوه" ولبعضهم "فاضربوا عنقه " وله من طريق أخرى عن أبي هريرة أخرجها عبد الرزاق وأحمد والترمذي تعليقا والنسائي كلهم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه بلفظ: "إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثا، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم " وروي عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح فقال أبو بكر بن عياش عنه عن أبي صالح
ـــــــ
(1) في بعض النسخ "وصححه الحاكم"

(12/78)


عن أبي سعيد كذا أخرجه ابن حبان من رواية عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عنه فقال: "عن معاوية" بدل "أبي سعيد" وهو المحفوظ، وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عنه، وتابعه الثوري وشيبان بن عبد الرحمن وغيرهما عن عاصم، ولفظ الثوري عن عاصم " ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه " ووقع في رواية أبان عند أبي داود " ثم إن شربوا فاجلدوهم " ثلاث مرات بعد الأولى ثم قال: "إن شربوا فاقتلوهم " ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال: "وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه " قال وكذا في حديث عطيف في الخامسة، قال أبو داود " وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه وسهيل بن أبي صالح عن أبيه كلاهما عن أبي هريرة في الرابعة " وكذا في رواية ابن أبي نعيم عن ابن عمر، وكذا في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص والشريد. وفي رواية معاوية: "فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه " وقال الترمذي بعد تخريجه: وفي الباب عن أبي هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وأبي الرمداء وجرير وعبد الله بن عمرو. قلت: وقد ذكرت حديث أبي هريرة، وأما حديث الشريد وهو ابن أوس الثقفي فأخرجه أحمد والدارمي والطبراني وصححه الحاكم بلفظ: "إذا شرب فاضربوه " وقال في آخره: "ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه " وأما حديث شرحبيل وهو الكندي فأخرجه أحمد والحاكم والطبراني وابن منده في " المعرفة " ورواته ثقات نحو رواية الذي قبله، وصححه الحاكم من وجه آخر. وأما حديث أبي الرمداء وهو بفتح الراء وسكون الميم بعدها دال مهملة وبالمد وقيل بموحدة ثم ذال معجمة وهو بدوي نزل مصر فأخرجه الطبراني وابن منده وفي سنده ابن لهيعة وفي سياق حديثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذي شرب الخمر في الرابعة أن تضرب عنقه فضربت " فأفاد أن ذلك عمل به قبل النسخ، فإن ثبت كان فيه رد على من زعم أنه لم بعمل به. وأما حديث جرير فأخرجه الطبراني والحاكم ولفظه: "من شرب الخمر فاجلدوه " وقال فيه: "فإن عاد في الرابعة فاقتلوه " وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه أحمد والحاكم من وجهين عنه وفي كل منهما مقال، ففي رواية شهر بن حوشب عنه " فإن شربها الرابعة فاقتلوه". قلت: ورويناه عن أبي سعيد أيضا كما تقدم وعن ابن عمر، وأخرجه النسائي والحاكم من رواية عبد الرحمن بن أبي نعيم عن ابن عمر ونفر من الصحابة بنحوه، وأخرجه الطبراني موصولا من طريق عياض بن عطيف عن أبيه وفيه: "في الخامسة " كما أشار إليه أبو داود، وأخرجه الترمذي تعليقا والبزار والشافعي والنسائي والحاكم موصولا من رواية محمد بن المنكدر عن جابر، وأخرجه البيهقي والخطيب في "المبهمات" من وجهين آخرين عن ابن المنكدر، وفي رواية الخطيب "جلد". وللحاكم من طريق يزيد بن أبي كبشة سمعت رجلا من الصحابة يحدث عبد "الملك" بن مروان رفعه بنحوه " ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه " وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر مرسلا وفيه: "أتى بابن النعيمان بعد الرابعة فجلده " وأخرجه الطحاوي من رواية عمرو بن الحارث عن ابن المنكدر أنه بلغه، وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق وأبو داود من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قال - ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه، قال فأتى برجل قد شرب فجلده ثم أتى به قد شرب فجلده ثم أتى به وقد شرب فجلده، ثم أتى به في الرابعة قد شرب فجلده فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة " وعلقه الترمذي فقال روى الزهري وأخرجه الخطيب في " المبهمات " من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري وقال فيه: "فأتى برجل من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات،

(12/79)


فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب" وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله، لكنه أعل بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي عن الزهري قال: "بلغني عن قبيصة " ويعارض ذلك رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح لأن يونس أحفظ لرواية الزهري من الأوزاعي، والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي فيكون الحديث على شرط الصحيح لأن إبهام الصحابي لا يضر، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال حدثت به ابن المنكدر فقال: ترك ذلك، قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان فجلده ثلاثا ثم أتى به في الرابعة فجلده ولم يزده ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر " عن جابر فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله " وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ: "فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع " قال الشافعي بعد تخريجه: هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمته. وذكره أيضا عن أبي الزبير مرسلا. وقال: أحاديث القتل منسوخة، وأخرجه أيضا من رواية ابن أبي ذئب حدثني ابن شهاب " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب فجلده ولم يضرب عنقه . وقال الترمذي: لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافا في القديم والحديث. قال وسمعت محمدا يقول: حديث معاوية في هذا أصح، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد، وقال في "العلل" آخر الكتاب: جميع ما في هذا الكتاب قد عمل به أهل العلم إلا هذا الحديث وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر، وتعقبه النووي فسلم قوله في حديث الباب دون الآخر، ومال الخطابي إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل فقال: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل وإنما قصد به الردع والتحذير، ثم قال: ويحتمل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبا ثم تسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل، وأما ابن المنذر فقال: كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده فإن تكرر ذلك أربعا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد "خلافه" خلافا. قلت: وكأنه أشار إلى بعض أهل الظاهر، فقد نقل عن بعضهم واستمر عليه ابن حزم منهم واحتج له وادعى أن لا إجماع وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ائتوني برجل أقيم عليه الحد يعني ثلاثا ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كذاب، وهذا منقطع لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به بن المديني وغيره فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله في عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من نزره المخالف، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال: لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته. وأما قول بعض من انتصر لابن حزم فطعن في النسخ بأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح وليس في شيء من أحاديث غيره الدالة على نسخه التصريح بأن ذلك متأخر عنه، وجوابه أن معاوية أسلم قبل الفتح وقيل في الفتح، وقصة ابن النعيمان كانت بعد ذلك لأن عقبة بن الحارث حضرها إما بحنين وإما بالمدينة، وهو إنما أسلم في الفتح وحنين، وحضور عقبة إلى المدينة كان بعد الفتح جزما فثبت ما نفاه هذا القائل، وقد عمل بالناسخ بعض الصحابة فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرار، وأورد نحو ذلك عن

(12/80)


سعد بن أبي وقاص، وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار ثم قال له: أنت خليع، فقال: أما إذ خلعتني فلا أشربها أبداً. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر" هو المعروف بابن المديني. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه" وقع في رواية المستملى "فقام ليضربه" وهو تصحيف فقد تقدم الحديث في الباب الذي قبله من وجه آخر عن أبي ضمرة على الصواب بلفظ: "فقال اضربوه " قال القرطبي ظاهره ويقتضي أن السكر بمجرده موجب للحد لأن الفاء للتعليل كقوله سهى فسجد، ولم يفصل هل سكر من ماء عنب أو غيره ولا هل شرب قليلا أو كثيرا، ففيه حجة للجمهور على الكوفيين في التفرقة، وقد مضى بيان ذلك في الأشربة.

(12/81)


6- باب: السَّارِقِ حِينَ يَسْرِقُ
6782- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"
[الحديث 6782- طرفه في: 6809]
قوله: "باب السارق حين يسرق" ذكر فيه حديث ابن عباس نحو حديث أبي هريرة الماضي في أول الحدود مقتصرا فيه على الزنا والسرقة، ولأبي ذر "ولا يسرق السارق" وسقط لفظ السارق من رواية غيره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عمرو بن علي شيخ البخاري فيه، وأخرجه أيضاً من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق عن الفضيل بن غزوان بسنده فيه: "ولا يشرب الخمر حين يشربها هو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن" قال عكرمة قلت لابن عباس: كيف ينتزع منه الإيمان؟ قال: هكذا فإن تاب راجعه الإيمان. وقد تقدم بسط هذا في أول كتاب الحدود.

(12/81)


باب امن السارق إذا لم يسم
...
7- باب: لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ
6783- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ". قَالَ الأَعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يَسْوَى دَرَاهِمَ
[الحديث 6783- طرفه في: 6799]
قوله: "باب لعن السارق إذا لم يسم" أي إذا لم يعين، إشارة إلى الجمع بين النهي عن لعن الشارب المعين كما مضى تقريره وبين حديث الباب. قال ابن بطال: معناه لا ينبغي تعيين أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك ليكون ردعا لهم وزجرا عن انتهاك شيء منها، ولا يكون لمعين لئلا يقنط، قال: فإن كان هذا مراد البخاري فهو غير صحيح لأنه إنما نهى عن لعن الشارب وقال: "لا تعينوا عليه الشيطان بعد إقامة الحد عليه " قلت: وقد تقدم تقرير ذلك قريبا. وقال الداودي: قوله في هذا الحديث: "لعن الله السارق" يحتمل أن يكون خبرا ليرتدع من سمعه عن السرقة، ويحتمل أن يكون دعاء، قلت: ويحتمل أن لا يراد

(12/81)


8- بَاب: الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ
6784- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ"
قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" لم أره منسوبا ويحتمل أن يكون هو البيكندي ويحتمل أن يكون الفريابي وبه جزم أبو نعيم في المستخرج، وابن عيينة هو سفيان. قوله: "عن الزهري" في رواية الحميدي عن سفيان بن عيينة "سمعت الزهري" أخرجه أبو نعيم. وذكر حديث عبادة بن الصامت وفيه: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة " وقد تقدم أن عند مسلم من وجه آخر " ومن أتى منكم حدا " ولأحمد من حديث خزيمة بن ثابت رفعه: "من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته " وسنده حسن. وفي الباب عن جرير بن عبد الله نحوه عند أبي الشيخ، وفي حديث عمرو في شعيب عن أبيه عن جده عنده بسند صحيح إليه نحو حديث عبادة وفيه: "فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه الحد فهو كفارته " وعن ثابت بن الضحاك نحوه عند أبي الشيخ، وقد ذكرت شرح حديث الباب مستوفى في الباب العاشر من كتاب الإيمان في أول الصحيح. وقد استشكل ابن بطال قوله: "الحدود كفارة" مع قوله في الحديث الآخر " ما أدري الحدود كفارة لأهلها أو لا " وأجاب بأن سند حديث عبادة أصح، وأجيب بأن الثاني كان قبل أن يعلم بأن الحدود كفارة ثم أعلم فقال الحديث الثاني، وبهذا جزم ابن التين وهو المعتمد. وقد أجيب من توقف في ذلك لأجل أن الأول من حديث أبي هريرة وهو متأخر الإسلام عن بيعة العقبة، والثاني وهو التردد من حديث عبادة بن الصامت وقد ذكر في الخبر أنه ممن بايع ليلة العقبة وبيعة العقبة كانت قبل إسلام أبي هريرة بست سنين. وحاصل الجواب أن البيعة المذكورة في حديث الباب كانت متأخرة عن إسلام أبي هريرة بدليل أن الآية المشار إليها في قوله: "وقرأ الآية كلها" هي قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} إلى آخرها وكان نزولها في فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة بنحو سنتين، وقررت ذلك تقريرا بينا. وإنما وقع الإشكال من قوله هناك إن عبادة بن الصامت وكان أحد النقباء ليلة العقبة قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بايعوني على أن لا تشركوا " فإنه يوهم أن ذلك كان ليلة العقبة، وليس كذلك بل البيعة التي وقعت في ليلة العقبة كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره إلخ وهو من حديث عبادة أيضا كما أوضحته هناك، قال ابن العربي: دخل في عموم قوله المشرك، أو هو مستثنى فإن المشرك إذا عوقب على شركه لم يكن ذلك كفارة له بل زيادة في نكاله، قلت: وهذا لا خلاف فيه قال: وأما القتل فهو كفارة بالنسبة إلى الولي المستوفي للقصاص في حق المقتول، لأن القصاص ليس بحق له بل يبقى حق المقتول فيطالبه به في الآخرة كسائر الحقوق. قلت: والذي قاله في مقام المنع، وقد نقلت في الكلام على قوله

(12/84)


تعالى :{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} قول من قال: يبقى للمقتول حق التشفي، وهو أقرب من إطلاق ابن العربي هنا. قال: وأما السرقة فتتوقف براءة السارق فيها على رد المسروق لمستحقه وأما الزنا فأطلق الجمهور أنه حق الله، وهي غفلة لأن لآل المزني بها في ذلك حقا لما يلزم منه من دخول العار على أبيها وزوجها وغيرهما، ومحصل ذلك أن الكفارة تختص بحق الله تعالى دون حق الآدمي في جميع ذلك.

(12/85)


9- باب ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلاَّ فِي حَدٍّ أَوْ حَقٍّ
6785- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَبِي "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَلاَ أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلاَ شَهْرُنَا هَذَا قَالَ: أَلاَ أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلاَ بَلَدُنَا هَذَا. قَالَ: أَلاَ أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا أَلاَ يَوْمُنَا هَذَا. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ - إِلاَّ بِحَقِّهَا - كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ "ثَلاَثًا"؟ كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلاَ نَعَمْ قَالَ: وَيْحَكُمْ - أَوْ وَيْلَكُمْ - لاَ تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
قوله: "باب ظهر المؤمن حمى" أي محمي معصوم من الإيذاء. قوله: "إلا في حد أو في حق" أي لا يضرب ولا يذل إلا على سبيل الحد والتعزير تأديبا، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب السرقة من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهور المسلمين حمى إلا في حدود الله " وفي محمد بن عبد العزيز ضعف، وأخرجه الطبراني من حديث عصمة بن مالك الخطمي بلفظ: "ظهر المؤمن حمى إلا بحقه " وفي سنده الفضل بن المختار وهو ضعيف، ومن حديث أبي أمامة " من جرد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان " وفي سنده أيضا مقال. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" في رواية غير أبي ذر " حدثني " قال الحاكم: محمد بن عبد الله هذا هو الذهلي، وقال أبو علي الجياني: لم أره منسوبا في شيء من الروايات. قلت: وعلى قول الحاكم فيكون نسب لجده لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وقد حدث البخاري في الصحيح عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي وعن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج بالمثلثة والجيم وعن غيرهما، وقد بينت ذلك موضحا في آخر حديث في كتاب الأيمان والنذور، وقد سقط محمد بن عبد الله من رواية أبي أحمد الجرجاني عن الفربري، واعتمد أبو نعيم في مستخرجه على ذلك فقال: رواه البخاري عن عاصم بن علي وعاصم المذكور هو ابن عاصم الواسطي، وشيخه عاصم بن محمد أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر، وشيخه واقد هو أخوه. قوله: "قال عبد الله" هو ابن عمر جد الراوي عنه. قوله: "ألا أي شهر تعلمونه؟" هو بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف افتتاح للتنبيه لما يقال، وقد كررت في هذه الرواية سؤالا وجوابا، وقوله في هذه الرواية: "أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: يومنا هذا " يعارضه أن يوم عرفة أعظهم الأيام، وأجاب الكرماني بأن المراد باليوم الوقت الذي تؤدي فيه المناسك، ويحتمل أن يختص يوم النحر بمزيد الحرمة، ولا يلزم من ذلك حصول المزية التي اختص بها يوم عرفة، وقد تقدم بعض الكلام على هذا الحديث في كتاب العلم،

(12/85)


وتقدم ما يتعلق بالسؤال والجواب مبسوطا في "باب الخطبة أيام مني" من كتاب الحج، ومضى ما يتعلق بقوله: "ويلكم أو ويحكم" في كتاب الأدب، ويأتي ما يتعلق بقوله: "لا ترجعوا بعدي" مستوفى في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى.

(12/86)


باب إقامة الحدود ، و الانتقام لحرمات الله
...
10- باب: إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالِانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ
6786- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ. وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ"
قوله: "باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله" ذكر فيه حديث عائشة "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما" وقد تقدم شرحه مستوفى في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "من كتاب المناقب، وقوله هنا " ما لم يأثم " في رواية المستملي: "ما لم يكن إثم" قال ابن بطال: هذا التخيير ليس من الله لأن الله لا يخير رسوله بين أمرني أحدهما إثم إلا إن كان في الدين وأحدهما يؤول إلى الإثم كالغلو فإنه مذموم كما لو أوجب الإنسان على نفسه شيئا شاقا من العبادة فعجز عنه، ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الترهب، قال ابن التين: المراد التخيير في أمر الدنيا وأما أمر الآخرة فكلما صعب كان أعظم ثوابا، كذا قال، وما أشار إليه ابن بطال أولى، وأولى منهما أن ذلك في أمور الدنيا لأن بعض أمورها قد يفضي إلى الإثم كثيرا، والأقرب أن فاعل التخيير الآدمي وهو ظاهر وأمثلته كثيرة ولا سيما إذا صدر من الكافر.

(12/86)


باب إقامة الحدود على الشريف و الوضيع
...
11- باب: إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ
6887- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ"، فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"
قوله: "باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع" هو من الوضع وهو النقص، ووقع هنا بلفظ الوضيع وفي الطريق التي تليه بلفظ الضعيف، وهي رواية الأكثر في هذا الحديث، وقد رواه بلفظ الوضيع أيضا النسائي من طريق إسماعيل بن أمية عن الزهري، والشريف يقابل الاثنين لما يستلزم الشرف من الرفعة والقوة، ووقع للنسائي أيضا في رواية لسفيان بلفظ: "الدون الضعيف". قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "حدثنا الليث عن ابن شهاب" في رواية أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث عند أحمد "حدثنا ابن شهاب" ولا يعارض ذلك رواية أبي صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب فيما أخرجه أبو داود لأن لفظ السياقين مختلف فيحمل على أنه عند الليث بلا واسطة باللفظ الأول وعنده باللفظ الثاني بواسطة وسأوضح ذلك. قوله: "عن عروة" في رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب "أخبرني عروة بن الزبير" وقد مضى سياقه في غزوة الفتح. قوله: "أن أسامة" هو

(12/86)


12- باب: كَرَاهِيَةِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ إِذَا رُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ
6788- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: "مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا"
قوله: "باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان" كذا قيد ما أطلقه في حديث الباب: "أتشفع في حد من حدود الله" وليس القيد صريحا فيه، وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه صريحا، وهو في مرسل حبيب بن أبي ثابت الذي أشرت إليه وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما شفع فيها: لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليس لها مترك " وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب " ترجم له أبو داود " العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان " وصححه الحاكم وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح. وأخرج أبو داود أيضا وأحمد وصححه الحاكم من طريق يحيى بن راشد قال خرج علينا ابن عمر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره " وأخرجه ابن أي شيبة من وجه آخر أصح منه عن ابن عمر موقوفا، وللمرفوع شاهد من حديث أبي هريرة في الأوسط للطبراني وقال: "فقد ضاد الله في ملكه " وأخرج أبو يعلي من طريق أبي المحياة عن أبي مطر: رأيت عليا أتى بسارق فذكر قصة فيها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق " فذكر قصة فيها " قالوا يا رسول الله أفلا عفوت؟ قال ذلك سلطان سوء الذي يعفو عن الحدود بينكم " وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قال: "لقي الزبير سارقا فشفع فيه، فقيل له حتى يبلغ الإمام فقال إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع " وأخرج الموطأ عن ربيعة عن الزبير نحوه وهو منقطع مع وقفه، وهو عند ابن أبي شيبة بسند حسن عن الزبير

(12/87)


موقوفا وبسند آخر حسن عن علي نحوه كذلك، وبسند صحيح عن عكرمة أن ابن عباس وعمارا والزبير أخذوا سارقا فخلوا سبيله فقلت لابن عباس: بئسما صنعتم حين خليتم سبيله، فقال: لا أم لك أما لو كنت أنت لسرك أن يخلي سبيلك. وأخرجه الدار قطني من حديث الزبير موصولا مرفوعا بلفظ : "اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل الوالي فعفا فلا عفا الله عنه " والموقوف هو المعتمد، وفي الباب غير ذلك حديث صفوان بن أمية عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في قصة الذي سرق رداؤه ثم أراد أن لا يقطع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لا قبل أن تأتيني به " وحدث ابن مسعود في قصة الذي سرق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه فرأوا منه أسفا عليه فقالوا: يا رسول الله كأنك كرهت قطعه، فقال: "وما يمنعني؟ لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم، أنه ينبغي للإمام إذا أنهى إليه حد أن يقيمه، والله عفو يحب العفو " وفي الحديث قصة مرفوعة، وأخرج موقوفا أخرجه أحمد وصححه الحاكم وحديث عائشة مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلا في الحدود " أخرجه أبو داود. ويستفاد منه جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزير. وقد نقل ابن عبد البر وغيره فيه الاتفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة في ندب الستر على المسلم، وهي محمولة على ما لم يبلغ الإمام. قوله: "عن عائشة" كذا قال الحفاظ من أصحاب ابن شهاب عن عروة، وشذ عمر بن قيس الماصر بكسر المهملة فقال: "ابن شهاب عن عروة عن أم سلمة " فذكر حديث الباب سواء أخرجه أبو الشيخ في كتاب السرقة والطبراني وقال: تفرد به عمر بن قيس، يعني من حديث أم سلمة. قال الدار قطني في "العلل": الصواب رواية الجماعة. قوله: "أن قريشا" أي القبيلة المشهورة، وقد تقدم بيان المراد بقريش الذي انتسبوا إليه في المناقب وأن الأكثر أنه فهر بن مالك، والمراد بهم هنا من أدرك القصة التي تذكر بمكة. قوله: "أهمتهم المرأة" أي أجلبت إليهم هما أو صيرتهم ذوي هم بسبب ما وقع منها، يقال أهمني الأمر أي أقلقني، ومضى في المناقب من رواية قتيبة عن الليث بهذا السند " أهمهم شأن المرأة " أي أمرها المتعلق بالسرقة وقد وقع في رواية مسعود بن الأسود الآتي التنبيه عليها " لما سرقت تلك المرأة أعظمنا ذلك فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومسعود المذكور من بطن آخر من قريش، وهو من بني عدي بن كعب رهط عمر. وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرخص في الحدود، وكان قطع السارق معلوما عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السارق فاستمر الحال فيه، وقد عقد ابن الكلبي بابا لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم ومقيس ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وغيرهما وأن عوفا السابق لذلك. قوله: "المخزومية" نسبة إلى مخزوم بن يقظة بفتح التحتانية والقاف بعدها ظاء معجمة مشالة ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مرة الذي نسب إليه بنو عبد مناف. ووقع في رواية إسماعيل بن أمية عن محمد بن مسلم وهو الذي عند النسائي: "سرقت امرأة من قريش من بني مخزوم" واسم المرأة على الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وهي بنت أخي أبي سلمة ابن عبد الأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قتل أبوها كافرا يوم بدر قتله حمزة بن عبد المطلب، ووهم من زعم أن له صحبة. وقيل هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد وهي بنت عم المذكورة أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "أخبرني بشر بن تيم أنها أم عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وهذا معضل، ووقع مع ذلك في سياقه أنه قاله "عن ظن

(12/88)


وحسبان" وهو غلط ممن قاله لأن قصتها مغايرة للقصة المذكورة في هذا الحديث كما سأوضحه. قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد هي التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها لأنها سرقت حليا فكلمت قريش أسامة فشفع فيها وهو غلام. الحديث قلت: وقد ساق ذلك ابن سعد في ترجمتها في الطبقات من طريق الأجلح بن عبد الله الكندي عن حبيب بن أبي ثابت رفعه: "أن فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد سرقت حليا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشفعوا" الحديث. وأورد عبد الغني بن سعيد المصري في "المبهمات" من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن عمار الدهني عن شقيق قال: "سرقت فاطمة بنت أبي أسد بنت أخي أبي سلمة، فأشفقت قريش أن يقطعها النبي صلى الله عليه وسلم: "الحديث. والطريق الأولى أقوى، ويمكن أن يقال: لا منافاة بين قوله بنت الأسود وبنت أبي الأسود لاحتمال أن تكون كنية الأسود أبا الأسود، وأما قصة أم عمرو فذكرها ابن سعد أيضا وابن الكلبي في المثالب وتبعه الهيثم بن عدي فذكروا أنها خرجت ليلا فوقعت بركب نزول فأخذت عيبة لهم فأخذها القوم فأوثقوها، فلما أصبحوا أتوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بحقوي أم سلمة، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، وأنشدوا في ذلك شعرا قاله خنيس بن يعلي بن أمية، وفي رواية ابن سعد أن ذلك كان في حجة الوداع، وقد تقدم في الشهادات وفي غزوة الفتح أن قصة فاطمة بنت الأسود كانت عام الفتح، فظهر تغاير القصتين وأن بينهما أكثر من سنتين، ويظهر في ذلك خطأ من اقتصر على أنها أم عمرو كابن الجوزي، ومن رددها بين فاطمة وأم عمرو كابن طاهر وابن بشكوال ومن تبعهما فلله الحمد. وقد تقلد ابن حزم ما قاله بشر بن تيم لكنه جعل قصة أم عمرو بنت سفيان في جحد العارية وقصة فاطمة في السرقة، وهو غلط أيضا لوقوع التصريح في قصة أم عمرو بأنها سرقت. قوله: "التي سرقت" زاد يونس في روايته: "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح " ووقع بيان المسروق في حديث مسعود بن أبي الأسود المعروف بابن العجماء. فأخرج ابن ماجه وصححه الحاكم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة بن ركانة عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود عن أبيها قال: "لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه " وسنده حسن، وقد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث في رواية الحاكم، وكذا علقه أبو داود فقال: "روى مسعود بن الأسود " وقال الترمذي بعد حديث عائشة المذكور هنا " وفي الباب عن مسعود بن العجماء " وقد أخرجه أبو الشيخ في " كتاب السرقة " من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد ابن طلحة فقال: "عن خالته بنت مسعود بن العجماء عن أبيها " فيحتمل أن يكون محمد بن طلحة سمعه من أمه ومن خالته، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت الذي أشرت إليه أنها سرقت حليا، ويمكن الجمع بأن الحلي كان في القطيفة فالذي ذكر القطيفة أراد بما فيها، والذي ذكر الحلي ذكر المظروف دون الظرف.
ثم رجح عندي أن ذكر الحلي في قصة هذه المرأة وهم كما سأبينه، ووقع في مرسل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن الحسن أخبره قال: سرقت امرأة، قال عمرو: وحسبت أنه قال: "من ثياب الكعبة " الحديث، وسنده إلى الحسن صحيح فإن أمكن الجمع وإلا فالأول أقوى. وقد وقع في رواية معمر عن الزهري في هذا الحديث: "أن المرأة المذكورة كانت تستعير المتاع وتجحده" أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرجه النسائي من رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري بلفظ: "استعارت امرأة على ألسنة ناس يعرفون وهي لا تعرف حليا فباعته وأخذت ثمنه" الحديث وقد بينه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام

(12/89)


فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح إليه "أن امرأة جاءت امرأة فقالت: إن فلانة تستعيرك حليا فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها فسألتها فقالت: ما استعرتك شيئا، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها فسألها فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا فقال: اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها. فأتوه فأخذوه، وأمر بها فقطعت " الحديث فيحتمل أن تكون سرقت القطيفة وجحدت الحلي، وأطلق عليها في جحد الحلي في رواية حبيب بن أبي ثابت سرقت مجازا" قال شيخنا في "شرح الترمذي" اختلف على الزهري: فقال الليث ويونس وإسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد سرقت، وقال معمر وشعيب إنها استعارت وجحدت، قال ورواه سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن الزهري فاختلف عليه سندا ومتنا: فرواه البخاري - يعني كما تقدم في الشهادات - عن علي بن المديني عن ابن عيينة قال: ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية فصاح علي، فقلت لسفيان: فلم يحفظه عن أحد قال: وجدت في كتاب كتبه أيوب بن موسى عن الزهري وقال فيه إنها سرقت، وهكذا قال محمد بن منصور عن ابن عيينة إنها سرقت أخرجه النسائي عنه، وعن رزق الله بن موسى عن سفيان كذلك لكن قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه " فذكره مختصرا، ومثله لأبي يعلى عن محمد بن عباد عن سفيان، وأخرجه أحمد عن سفيان كذلك لكن في آخره: "قال سفيان لا أدري ما هو" وأخرجه النسائي أيضا عن إسحاق بن راهويه عن سفيان عن الزهري بلفظ: "كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده " الحديث وقال في آخره: "قيل لسفيان من ذكره؟ قال أيوب بن موسى " فذكره بسنده المذكور، وأخرجه من طريق ابن أبي زائدة عن ابن عيينة عن الزهري بغير واسطة وقال فيه: "سرقت " قال شيخنا: وابن عيينة لم يسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري إنما وجده في كتاب أيوب بن موسى ولم يصرح بسماعه من أيوب بن موسى ولهذا قال في رواية أحمد " لا أدري كيف هو " كما تقدم، وجزم جماعة بأن معتمرا تفرد عن الزهري بقوله: "استعارت وجحدت " وليس كذلك بل تابعه شعيب كما ذكره شيخنا عند النسائي، ويونس كما أخرجه أبو داود من رواية أبي صالح كاتب الليث عن الليث عنه، وعلقه البخاري لليث عن يونس لكن لم يسق لفظه كما نبهت عليه وكذا ذكر البيهقي أن شبيب بن سعيد رواه عن يونس، وكذلك رواه ابن أخي الزهري عن الزهري أخرجه ابن أيمن في مصنفه عن إسماعيل القاضي بسنده إليه، وأخرج أصله أبو عوانة في صحيحه، والذي اتضح لي أن الحديثين محفوظان عن الزهري وأنه كان يحدث تارة بهذا وتارة بهذا، فحدث يونس عنه بالحديثين، واقتصرت كل طائفة من أصحاب الزهري غير يونس على أحد الحديثين، فقد أخرج أبو داود والنسائي وأبو عوانة في صحيحه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر " أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها " وأخرجه النسائي وأبو عوانة أيضا من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: "استعارت حليا" وقد اختلف نظر العلماء في ذلك فأخذ بظاهره أحمد في أشهر الروايتين عنه وإسحاق وانتصر له ابن حزم من الظاهرية، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع في جحد العارية وهي رواية عن أحمد أيضا، وأجابوا عن الحديث بأن رواية من روى " سرقت " أرجح، وبالجمع بين الروايتين بضرب من التأويل فأما الترجيح فنقل النووي أن رواية معمر شاذة مخالفة لجماهير الرواة، قال: والشاذة لا يعمل بها. وقال ابن المنذر في الحاشية وتبعه المحب الطبري: قيل إن معمرا انفرد بها. وقال القرطبي: رواية أنها سرقت أكثر وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على

(12/90)


ذلك من لا يقتدى بحفظه كابن أخي الزهري ونمطه. هذا قول المحدثين. قلت: سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يشعر بأنه لم يقف على روايته شعيب ويونس بموافقة معمر إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر وأن من وافقه كابن أخي الزهري ونمطه ولا زاد القرطبي نسبة ذلك للمحدثين إذ لا يعرف عن أحد من المحدثين أنه قرن شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد وأيوب بن موسى بابن أخي الزهري بل هم متفقون على أن شعيبا ويونس أرفع درجة في حديث الزهري من ابن أخيه، ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه إلا لكون رواية: "سرقت" متفقا عليها ورواية: "جحدت" انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع إذا أمكن بين الروايتين، وقد جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبي فقال: لم يختلف على معمر ولا على شعيب وهما في غاية الجلالة في الزهري، وقد وافقهما ابن أخي الزهري، وأما الليث ويونس وإن كانا في الزهري كذلك فقد اختلف عليهما فيه، وأما إسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد فدون معمر وشعيب في الحفظ قلت: وكذا اختلف على أيوب بن موسى كما تقدم، وعلى هذا فيتعادل الطريقان ويتعين الجمع فهو أولى من إطراح أحد الطريقين، فقال بعضهم كما تقدم عن ابن حزم وغيره: هما قصتان مختلفتان لامرأتين مختلفتين، وتعقب بأن في كل من الطريقين أنهم استشفعوا بأسامة وأنه شفع وأنه قيل له: "لا تشفع في حد من حدود الله " فيبعد أن أسامة يسمع النهي المؤكد عن ذلك ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى ولا سيما أن اتحد زمن القصتين، وأجاب ابن حزم بأنه يجوز أن ينسى ويجوز أن يكون الزجر عن الشفاعة في حد السرقة تقدم فظن أن الشفاعة في جحد العارية جائز وأن لا حد فيه فشفع فأجيب بأن فيه الحد أيضا، ولا يخفى ضعف الاحتمالين. وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أن القصة لامرأة واحدة استعارت وجحدت وسرقت فقطعت للسرقة لا للعارية، قال: وبذلك نقول وقال الخطابي في "معالم السنن" بعد أن حكى الخلاف وأشار إلى ما حكاه ابن المنذر: وإنما ذكرت العارية والجحد في هذه القصة تعريفا لها بخاص صفتها إذ كانت تكثر ذلك كما عرفت بأنها مخزومية، وكأنها لما كثر منها ذلك ترقت إلى السرقة وتجرأت عليها. وتلقف هذا الجواب من الخطابي جماعة منهم البيهقي فقال: تحمل رواية من ذكر جحد الجارية على تعريفها بذلك والقطع على السرقة. وقال المنذري نحوه، ونقله المازري ثم النووي عن العلماء. وقال القرطبي: يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه: أحدها قوله في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية "لو أن فاطمة سرقت" فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغيا، ولقال: لو أن فاطمة جحدت العارية. قلت: وهذا قد أشار إليه الخطابي أيضا. ثانيها لو كانت قطعت في جحد العارية لوجب قطع كل من جحد شيئا إذا ثبت عليه ولو لم يكن بطريق العارية. ثالثها أنه عارض ذلك حديث: "ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع " وهو حديث قوي. قلت: أخرجه الأربعة وصححه أبو عوانة والترمذي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رفعه، وصرح ابن جريج في رواية للنسائي بقوله: "أخبرني أبو الزبير " ووهم بعضهم هذه الرواية، فقد صرح أبو داود بأن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، قال: وبلغني عن أحمد إنما سمعه ابن جريج من ياسين الزيات، ونقل ابن عدي في " الكامل " عن أهل المدينة أنهم قالوا: لم يسمع ابن جريج من أبي الزبير. وقال النسائي: رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه عن أبي الزبير فلم يقل أجد منهم أخبرني ولا أحسبه سمعه. قلت: لكن وجد له متابع عن

(12/91)


أبي الزبير أخرجه النسائي أيضا من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير، لكن أبو الزبير مدلس أيضا وقد عنعنه عن جابر، لكن أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن جابر بمتابعة أبي الزبير فقوي الحديث، وقد أجمعوا على العمل به إلا من شذ، فنقل ابن المنذر عن إياس بن معاوية أنه قال: المختلس يقطع، كأنه ألحقه بالسارق لاشتراكهما في الأخذ خفية، ولكنه خلاف ما صرح به في الخبر، وإلا ما ذكر من قطع جاحد العارية، وأجمعوا على أن لا قطع على الخائن في غير ذلك ولا على المنتهب إلا إن كان قاطع طريق والله أعلم. وعارضه غيره ممن خالف فقال ابن القيم الحنبلي: لا تنافي بين جحد العارية وبين السرقة، فإن الجحد داخل في اسم السرقة فيجمع بين الروايتين بأن الذين قالوا سرقت أطلقوا على الجحد سرقة، كذا قال ولا يخفى بعده. قال: والذي أجاب به الخطابي مردود لأن الحكم المرتب على الوصف معمول به، ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة وفي الأخرى على الجحد على حد سواء، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلمية، فكل من الروايتين دل على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة من أسامة، وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك، وأبسط ما وجدت من طرقه ما أخرجه النسائي في رواية له " أن امرأة كانت تستعير الحلي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعارت من ذلك حليا فجمعته ثم أمسكته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لتتب امرأة إلى الله تعالى وتؤد ما عندها، مرارا. فلم تفعل، فأمر بها فقطعت " وأخرج النسائي بسند صحيح من مرسل سعيد بن المسيب " أن امرأة من بني مخزوم استعارت حليا على لسان أناس فجحدت، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت " وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح أيضا إلى سعيد قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة في بيت عظيم من بيوت قريش قد أتت أناسا فقالت إن آل فلان يستعيرونكم كذا فأعاروها ثم أتوا أولئك فأنكروا، ثم أنكرت هي، فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم". وقال ابن دقيق العيد: صنيع صاحب " العمدة " حيث أورد الحديث بلفظ الليث ثم قال وفي لفظ فذكر لفظ معمر يقتضي أنها قصة واحدة واختلف فيها هل كانت سارقة أو جاحدة، يعني لأنه أورد حديث عائشة باللفظ الذي أخرجاه من طريق الليث ثم قال: وفي لفظ كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وهذه رواية معمر في مسلم فقط قال: وعلى هذا فالحجة في هذا الخبر في قطع المستعير ضعيفة لأنه اختلاف في واقعة واحدة فلا يبت الحكم فيه بترجيح من روى أنها جاحدة على الرواية الأخرى، يعني وكذا عكسه فيصح أنها قطعت بسبب الأمرين، والقطع في السرقة متفق عليه فيترجح على القطع في الجحد المختلف فيه. قلت: وهذه أقوى الطرق في نظري، وقد تقدم الرد على من زعم أن القصة وقعت لامرأتين فقطعتا في أوائل الكلام على هذا الحديث، والإلزام الذي ذكره القرطبي في أنه لو ثبت القطع في جحد العارية للزم القطع في جحد غير العارية قوي أيضا، فإن من يقول بالقطع في جحد العارية لا يقول به في جحد غير العارية فيقاس المختلف فيه على المتفق عليه إذ لم يقل أحد بالقطع في الجحد على الإطلاق، وأجاب ابن القيم بأن الفرق بين جحد العارية وجحد غيرها أن السارق لا يمكن الاحتراز منه وكذلك جاحد العارية بخلاف المختلس من غير حرز والمنتهب، قال: ولا شك أن الحاجة ماسة بين الناس إلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه لجر ذلك إلى سد باب العارية وهو خلاف ما تدل عليه حكمة الشريعة، بخلاف ما إذا علم أنه يقطع فإن ذلك يكون أدعى إلى استمرار العارية. وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر في أن لا قطع على خائن،

(12/92)


وقد فر من هذا بعض من قال بذلك فخص القطع بمن استعار على لسان غيره مخادعا للمستعار منه ثم تصرف في العارية وأنكرها لما طولب بها، فإن هذا لا يقطع بمجرد الخيانة بل لمشاركته السارق في أخذ المال خفية. "تنبيه" قول سفيان المتقدم: ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية التي سرقت فصاح على مما يكثر السؤال عنه وعن سببه، وقد أوضح ذلك بعض الرواة عن سفيان، فرأينا في كتاب المحدث الفاضل لأبي محمد الرامهرمزي من طريق سليمان بن عبد العزيز أخبرني محمد بن إدريس قال: قلت لسفيان بن عيينة كم سمعت من الزهري؟ قال: أما مع الناس فما أحصى، وأما وحدي فحديث واحد، دخلت يوما من باب بني شيبة فإذا أنا به جالس إلى عمود فقلت: يا أبا بكر حدثني حديث المخزومية التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها، قال فضرب وجهي بالحصى ثم قال: قم؛ فما يزال عبد يقدم علينا بما نكره، قال: فقمت منكسرا، فمر رجل فدعاه فلم يسمع فرماه بالحصى فلم يبلغه فاضطر إلى فقال: ادعه لي، فدعوته له فأتاه فقضى حاجته، فنظر إلي فقال: تعال، فجئت فقال: "أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جبار " الحديث، ثم قال لي: هذا خير لك من الذي أردت. قلت: وهذا الحديث الأخير أخرجه مسلم والأربعة من طريق سفيان بدون القصة. قوله: "فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يشفع عنده فيها أن لا تقطع إما عفوا وإما بفداء، وقد وقع ما يدل على الثاني في حديث مسعود بن الأسود ولفظه بعد قوله أعظمنا ذلك " فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال: تطهر خير لها " وكأنهم ظنوا أن الحد يسقط بالفدية كما ظن ذلك من أفتى والد العسيف الذي زنى بأنه يفتدي منه بمائة شاة ووليدة. ووجدت لحديث مسعود هذا شاهدا عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو " أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قومها: نحن نفديها". قوله: "من يجترئ عليه" بسكون الجيم وكسر الراء يفتعل الجرأة بضم الجيم وسكون الراء وفتح الهمزة، ويجوز فتح الجيم والراء مع المد. ووقع في رواية قتيبة " فقالوا ومن يجترئ عليه " وهو أوضح لأن الذي استفهم بقوله: "من يكلم" غير الذي أجاب بقوله: "ومن يجترئ " والجرأة هي الإقدام بإدلال، والمعنى ما يجترئ عليه إلا أسامة. وقال الطيبي: الواو عاطفة على محذوف تقديره لا يجترئ عليه أحد لمهابته، لكن أسامة له عليه إدلال فهو يجسر على ذلك. ووقع في حديث مسعود بن الأسود بعد قوله تطهر خير لها " فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة " ووقع في رواية يونس الماضية في الفتح " ففزع قومها إلى أسامة " أي لجئوا وفي رواية أيوب بن موسى في الشهادات " فلم يجترئ أحد أن يكلمه إلا أسامة " وكان السبب في اختصاص أسامة بذلك ما أخرجه ابن سعد من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: لا تشفع في حد، وكان إذا شفع شفعه " بتشديد الفاء أي قبل شفاعته، وكذا وقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفعه". قوله: "حب رسول الله صلى الله عليه وسلم" بكسر المهملة بمعنى محبوب مثل قسم بمعنى مقسوم، وفي ذلك تلميح بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أحبه فأحبه " وقد تقدم في المناقب. قوله: "فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالنصب. وفي رواية قتيبة " فكلمه أسامة " وفي الكلام شيء مطوي تقديره فجاءوا إلى أسامة فكلموه في ذلك فجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، ووقع في رواية يونس " فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها" فأفادت هذه الرواية أن الشافع يشفع بحضرة المشفوع له ليكون أعذر له عنده إذا لم تقبل شفاعته. وعند النسائي من رواية إسماعيل بن أمية "فكلمه فزبره" بفتح الزاي والموحدة أي

(12/93)


أغلظ له في النهي حتى نسبه إلى الجهل، لأن الزبر بفتح ثم سكون هو العقل، وفي رواية يونس " فكلمه فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زاد شعيب عند النسائي: "وهو يكلمه" وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت " فلما أقبل أسامة ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تكلمني يا أسامة". قوله: "فقال: أتشفع في حد من حدود الله" بهمزة الاستفهام الإنكاري لأنه كان سبق له منع الشفاعة في الحد قبل ذلك، زاد يونس وشعيب " فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله " ووقع في حديث جابر عند مسلم والنسائي: "أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة " بذال معجمة أي استجارت أخرجاه من طريق معقل بن يسار عن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر، وذكره أبو داود تعليقا، والحاكم موصولا من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر " فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال المنذري: يجوز أن تكون عاذت بكل منهما، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ماتت قبل هذه القصة لأن هذه القصة كما تقدم كانت في غزوة الفتح وهي في رمضان سنة ثمان وكان موت زينب قبل ذلك في جمادى الأولى من السنة فلعل المراد أنها عاذت بزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت أم سلمة فتصحفت على بعض الرواة. قلت: أو نسبت زينب بنت أم سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازا لكونها ربيبته فلا يكون فيه تصحيف. ثم قال شيخنا: وقد أخرج أحمد هذا الحديث من طريق ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة وقال فيه: "فعاذت بربيب النبي صلى الله عليه وسلم: "براء وموحدة مكسورة وحذف لفظ بنت، وقال في آخره: قال ابن أبي الزناد وكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة وعمر بن أبي سلمة فعاذت بأحدهما. قلت: وقد ظفرت بما يدل على أنه عمر بن أبي سلمة، فأخرج عبد الرزاق من مرسل الحسن بن محمد بن علي " قال سرقت امرأة - فذكر الحديث وفيه - فجاء عمر بن أبي سلمة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أبه، إنها عمتي، فقال: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " قال عمرو بن دينار الراوي عن الحسن: فلم أشك أنها بنت الأسود بن عبد الأسد. قلت: ولا منافاة بين الروايتين عن جابر، فإنه يحمل على أنها استجارت بأم سلمة بأولادها واختصها بذلك لأنها قريبتها وزوجها عمها، وإنما قال عمر بن أبي سلمة " عمتي " من جهة السن، وإلا فهي بنت عمه أخي أبيه، وهو كما قالت خديجة لورقة في قصة المبعث " أي عم اسمع من ابن أخيك " وهو ابن عمها أخي أبيها أيضا. ووقع عند أبي الشيخ من طريق أشعث عن أبي الزبير عن جابر " أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فعاذت بأسامة " وكأنها جاءت مع قومها فكلموا أسامة بعد أن استجارت بأم سلمة، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت " فاستشفعوا على النبي صلى الله عليه وسلم بغير واحد فكلموا أسامة". قوله: "ثم قام فخطب" في رواية قتيبة "فاختطب" وفي رواية يونس "فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا". قوله: "فقال يا أيها الناس" في رواية قتيبة بحذف يا من أوله، وفي رواية يونس فقام خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد". قوله: "إنما ضل من كان قبلكم" في رواية أبي الوليد " هلك " وكذا لمحمد بن رمح عند مسلم. وفي رواية سفيان عند النسائي: "إنما هلك بنو إسرائيل " وفي رواية قتيبة " أهلك من كان قبلكم " قال ابن دقيق العيد: الظاهر أن هذا الحصر ليس عاما، فإن بني إسرائيل كان فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود فلا ينحصر ذلك في حد السرقة. قلت: يؤيد هذا الاحتمال ما أخرجه أبو الشيخ في "كتاب السرقة" من طريق زازان عن عائشة مرفوعا: "أنهم عطلوا الحدود عن الأغنياء وأقاموها على الضعفاء" والأمور التي أشار إليها الشيخ سبق منها في ذكر==

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...