Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الخميس، 12 مايو 2022

مجلد 3 و 4.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

3.

: مجلد 3.فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) =والنسائي لا يحتج به قلت قد علق البخاري كثيرا عن أبيه عن الأعرج ومن روايته هو عن موسى بن عقبة وعن هشام بن عروة وروى له مسلم في المقدمة فقط ء اعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي علم عليه المزي علامة التعليق ولم يعلق له البخاري شيئا كما تقدم "ء ا" عبد العزيز بن أبي رواد المكي وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه أحمد للإرجاء وقال ابن الجنيد كان ضعيفا وقال أبو حاتم لا يترك حديثه لرأي أخطأ فيه قلت له مواضيع يسيرة متابعة "م ت ق" عبد العزيز بن المطلب المدني قال أبو حاتم صالح وقال الدارقطني يعتبر به له موضع معلق في الأحكام "ت س ق" عبد الكريم بن أبي المخارق علم عليه المزي علامة التعليق ولم يعلق له البخاري شيئا وقد تقدم "خ س ق" عبد الواحد بن أبي عون المدني وثقه بن معين وغيره وقال ابن حبان يخطىء ماله في البخاري سوى موضع واحد متابعة "خ د ت" قعبيدة بن معقب الضبي أبو عبد الرحيم الكوفي ضعيف عندهم ماله في البخاري سوى موضع واحد معلق في الأضاحي "م ء ا" عكرمة بن عمار مشهور مختلف فيه له موضع واحد معلق "م ء ا" عمارة بن غزية الأنصاري وثقه يحيى بن معين وغيره وشذ بن حزم فضعفه وعلق له البخاري قليلا ت قعمرو بن عبيد المعتزلي المشهور علم له المزي علامة التعليق ولم يعلق له البخاري شيئا وقد تقدم "ء ا" عمرو بن أبي قيس الرازي قال أبو داود في حديثه خطأ له موضع واحد متابعة في البيوع "ء ا" عمران القطان البصري صاحب قتادة صدوق ضعفه النسائي وقال الدارقطني كان كثير الوهم وعلق له البخاري قليلا قعيسى بن موسى غنجار البخاري مشهور تكلم فيه الدارقطني ووثقه الحاكم وله موضع واحد في بدء الخلق "م ء ا" ليث بن أبي سليم الكوفي ضعفه أحمد وغيره علق له قليلا وروى له مسلم مقرونا "م ء ا" محمد بن إسحاق بن يسار الإمام في المغازي مختلف في الاحتجاج به والجمهور على قبوله في السير قد استفسر من أطلق عليه الجرح فبان أن سببه غير قادح وأخرج له مسلم في المتابعات وله في البخاري مواضع عديدة معلقة عنه وموضع واحد قال فيه قال إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق فذكر حديثا "م ء ا" محمد بن مسلم الطائفي وثقه بن معين وقال كان إذا حدث من حفظه يخطىء أخرج له مسلم متابعة والبخاري تعليقا "م ء ا" محمد بن عجلان المدني صدوق مشهور فيه مقال من قبل حفظه له مواضع معلقة "د ت ق" مبارك بن فضالة مختلف فيه وكان يدلس قال ابن عدي أرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة علق له البخاري مواضع "م د س" محاضر بن المورع القول فيه كالقول في أبان العطار وحماد بن سلمة فإن البخاري أخرج في الحج له زيادة قال فيها زادني محمد حدثنا محاضر وهو مختلف فيه وله عنده مواضع في المتابعات خت مرجي بن رجاء العطاردي الضرير مختلف فيه وليس له سوى موضع واحد في الفطر على التمر في العيدين "م ء ا" هشام بن سعد المدني أبو عباد صاحب زيد بن أسلم قال أبو داود أنه أثبت الناس فيه قال أحمد لم يكن بالحافظ وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين صالح وليس بالمتروك وقال أبو زرعة محله الصدق وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وضعفه النسائي وقال الحاكم استشهد به مسلم قلت وعلق له البخاري قليلا خت هلال بن رداد عن الزهري لا يعرف حاله له موضع في بدء الوحي ت هلال أبو ظلال عن أنس ضعفه بن معين والنسائي وقال البخاري مقارب الحديث له موضع متابعة عن أنس في فضل العمي "د ت" يحيى بن أيوب بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي اختلف فيه قول يحيى بن معين وعلق له البخاري قليلا "س" يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتي صاحب

(1/458)


الأوزاعي علق له قليلا وفيه مقال "س ت" يحيى بن ميمون أبو المعلى العطار مشهور بكنيته قال إسحاق بن منصور عن ابن معين ثقة وزعم بن الجوزي أن ابن حبان ضعفه ووهم في ذلك إنما ضعف يحيى بن ميمون أبا أيوب البصري وأبي المعلى في البخاري موضع واحد بكنيته م "ع" يزيد بن أبي زياد الكوفي مختلف فيه والجمهور على تضعيف حديثه إلا أنه ليس بمتروك علق له البخاري موضعا واحدا في اللباس عقب حديث أبي بردة عن علي في الفتنة "ع" يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي قال النسائي ليس به بأس ولينه الدارقطني له موضع معلق في الطب "ت" يعقوب بن محمد الزهري المدني قال ابن معين صدوق ولكن لا يبالي عمن حدث وقال مرة أحاديثه تشبه أحاديث الواقدي وضعفه الجمهور وقال الحاكم وحده ثقة مأمون علق له البخاري موضعا واحدا في حد جزيرة العرب وهو في الحج "د م ت ق" يونس بن بكير بن واصل الشيباني الكوفي مختلف فيه وقال أبو حاتم محله الصدق وعلق له قليلا

(1/459)


فصل في تميز الطعن في المذكورين
...
فصل
في تمييز أسباب الطعن في المذكورين ومنه يتضح من يصلح منهم للاحتجاج به ومن لا يصلح وهو على قسيمن "الأول" من ضعفه بسبب الاعتقاد وقد قدمنا حكمه وبينا في ترجمة كل منهم أنه ما لم يكن داعية أو كان وتاب أو اعتضدت روايته بمتابع وهذا بيان ما رموا به فالإجاء بمعنى التأخير وهو عندهم على قسمين منهم من أراد به تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللذين تقاتلوا بعد عثمان ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائر وترك الفرائض بالنار لأن الإيمان عندهم الإقرار والاعتقاد ولا يضر العمل مع ذلك والتشيع محبة على وتقديمه علىالصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو والقدرية من يزعم أن الشر فعل العبد وحده والجهمية من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة ويقول إن القرآن مخلوق والنصب بغض علي وتقديم غيره عليه والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم والإباضية منهم أتباع عبد الله بن أباض والقعدية الذين يزينون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك والواقف في القرآن من لا يقول مخلوق ولا ليس بمخلوق وهذه أسماؤهم "خ م" إبراهيم بن طهمان رمى بالإرجاء "خ م" إسحاق بن سويد العدوي رمى بالنصب "خ" إسماعيل بن أبان رمى بالتشيع "خ م" أيوب بن عائذ الطائي رمى بالإرجاء "خ م" بشر بن السري رمى برأي جهم بهز بن أسد رمى بالنصب "خ م" ثور بن زيد الديلي المدني رمى بالقدر "خ م" ثور بن يزيد الحمصي رمى بالقدر "خ م" جرير بن عبد الحميد رمى بالتشيع "ع ا" جرير بن عثمان الحمصي رمى بالنصب "خ م" حسأن ابن عطية المحاربي رمى بالقدر "خ" الحسن بن ذكوان رمى بالقدر خ حصين بن نمير الواسطي رمى بالنصب خ خالد بن مخلد القطواني رمى بالتشيع "خ م" داود بن الحصين رمى بالقدر "خ م" ذر بن عبد الله المرهبي رمى بالإرجاء زكريا بن إسحاق رمى بالقدر سالم بن عجلان رمى بالقدر سعيد بن فيروز

(1/459)


البختري رمى بالتشيع سعيد بن عمرو بن أشوع رمى بالتشيع سعيد بن كثير بن عفير رمى بالتشيع "خ م" سلام بن مسكين الأزدي أبو روح البصري رمى بالقدر "خ م" سيف بن سليمان المكي رمى بالقدر "خ" شبابة بن سوار رمى بالإرجاء خ شبل بن عباد المكي رمى بالقدر "خ م" شريك بن عبد الله بن أبي نمر رمى بالقدر "خ م" عباد بن العوام رمى بالتشيع "خ" عباد بن يعقوب رمى بالرفض "خ" عبد الله بن سالم الأشعري رمى بالنصب "خ م" عبد الله بن عمرو أبو معمر رمى بالقدر "خ م" عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى رمى بالتشيع "خ م" عبد الله بن أبي لبيد المدني رمى بالقدر "خ م" عبد الله بن أبي نجيح المكي رمى بالقدر عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري رمى بالقدر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن إسحاق الحماني رمى بالإرجاء عبد الرزاق بن همام الصنعاني رمى بالتشيع عبد الملك بن أعين رمى بالتشيع عبد الوارث بن سعيد التنوري رمى بالقدر عبد الله بن موسى العبسي رمى بالتشيع عثمان ابن غياث البصري رمى بالإرجاء عدي بن ثابت الأنصاري رمى بالتشيع عطاء بن أبي ميمون رمى بالقدر عكرمة مولى بن عباس رمى برأي الأباضية من الخوارج علي بن الجعد رمى بالتشيع علي بن أبي هاشم رمى بالوقف في القرآن عمر بن ذر رمى بالإرجاء عمر بن أبي زائدة رمى بالقدر عمرو بن مرة رمى بالإرجاء عمرأن ابن حطان رمى برأي القعدية من الخوارج عمرأن ابن مسلم القصير رمى بالقدر عمير بن هانئ الدمشقي رمى بالقدر عوف الأعرابي البصري رمى بالقدر الفضل بن دكين أبو نعيم رمى بالتشيع فطر بن خليفة الكوفي رمى بالتشيع فتادة بن دعامة رمى بالقدر وقال أبو داود لم يثبت عندنا عنه قيس بن أبي حازم رمى بالنصب كهمس بن المنهال رمى بالقدر محمد بن جحادة الكوفي رمى بالتشيع محمد بن حازم أبو معاوية الضرير رمى بالإرجاء محمد بن سواء البصري رمى بالقدر محمد بن فضيل بن غزوان رمى بالتشيع مالك بن إسماعيل أبو غسان رمى بالتشيع هارون بن موسى الأعور النحوي رمى بالقدر هشام بن عبد الله الدستوائي رمى بالقدر ورقاء بن عمرو اليشكري رمى بالإرجاء الوليد بن كثير بن حيي المدني رمى برأي الإباضية من الخوارج وهب بن منبه اليماني رمى بالقدر ورجع عنه يحيى بن حمزة الحضرمي رمى بالقدر يحيى بن صالح الوحاظي رمى بالإرجاء "القسم الثاني" فيمن ضعف بأمر مردود كالتحامل أو التعنت أو عدم الاعتماد على المضعف لكونه من غير أهل النقد ولكونه قليل الخبرة بحديث من تكلم فه أو بحاله أو لتأخر عصره ونحو ذلك ويلتحق به من تكلم فيه بأمر لا يقدح في جميع حديثه كمن ضعف في بعض شيوخه دون بعض وكذا من اختلط أو تغير حفظه أو كان ضابطا لكتابه دون الضبط لحفظه فإن جميع هؤلاء لا يجعل إطلاق الضعف عليهم بل الصواب في أمرهم التفصيل كما قدمناه مشروحا بحمد الله تعالى وهذا سياق أسمائهم أحمد بن شبيب الحبطي تكلم فيه الأزدي وهو غير مرضي أحمد بن صالح المصري تحامل عليه النسائي ولم يصح طعن يحيى بن معين فيه أحمد بن عاصم البلخي جهله أبو حاتم لأنه لم يخبر حاله أحمد بن المقدام العجلي طعن فيه أبو داود لمزاحه أحمد بن واقد الحراني تكلم فيه أحمد لدخوله في عمل السلطان أبان ابن يزيد العطار ونقل الكديمي تضعيفه والكديمي واه إبراهيم بن سعد قال أحمد لم يخبره يحيى القطان إبراهيم بن سويد بن حيان تكلم فيه بن حبان بلا حجة إبراهيم بن عبد الرحمن المخزومي جهله بن القطان الفاسي وعرفه غيره إبراهيم بن المنذر الحراني تكلم فيه أحمد لدخوله إلى بن أبي داود أزهر بن سعد السمان أورده العقيلي بلا مستند أسامة بن حفص المدني

(1/460)


ضعفه الأزدي وليس بمرضي وجهله الساجي وقد عرفه غيره أسباط أبو اليسع جهله أبو حاتم وعرفه غيره إسحاق بن إبراهيم أبو النضر الفراديسي وقد ينسب إلى جده يزيد تكلم فيه الأزدي وابن حبان بلا حجة وقال ابن عدي الحمل على شيخه إسرائيل بن موسى البصري ضعفه الأزدي بلا حجة إسرائيل بن أبي إسحاق تحامل عليه القطان والحمل على شيخه أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة تكلم فيه الساجي والأزدي بلا مستند إسماعيل بن إبراهيم بن معمر أبو معمر غمزه أحمد لأنه أجاب في المحنة أفلح بن حميد الأنصاري أنكر عليه أحمد حديثا واحدا أوس بن عبد الله أبو الجوزاء تكلم فيه للإرسال أيمن بن نابل تكلموا فيه لزيادة في حديث واحد لعلها مردجة أيوب بن سليمان ابن بلال تكلم فيه الأزدي بلا مستند أيوب بن موسى الأشدق تكلم فيه الأزدي أيضا بلا حجة أيوب بن النجار نقل عن العجلي أنه ضعفه ولم يثبت ذلك بدل بن المحبر تكلم فيه بسبب حديث واحد عن زائدة بريد بن عبد الله بن أبي بردة أنكر عليه حديث واحد بشر بن شعيب بن أبي حمزة غلط بن حبان على البخاري في تضعيفه بشير بن نهيك تعنت أبو حاتم في قوله: "لا يحتج به بكر بن عمرو أبو الصديق الناجي تكلم فيه بن سعد بلا حجة بهز بن أسد العمي تكلم فيه الأزدي بلا مستند بيأن ابن عمرو جهله أبو حاتم وعرفه غيره توبة العنبري ضعفه الأزدي بلا حجة ثابت بن عجلان ذكره العقيلي بلا موجب قدح ثمامة بن عبد الله بن أنس تكلم فيه من أجل روايته من الكتاب جرير بن حازم ضعفه بن معين في قتادة خاصة وضعف أحمد ما حدث به بمصر وضعفه بن سعد لاختلاطه وصح أنه ما حدث في حال اختلاطه جعفر بن إياس أبو بشر تكلم فيه للإرسال الجعيد بن عبد الرحمن ضعفه الساجي والأزدي بلا مستند حبيب المعلم متفق على توثيقه لكن تعنت فيه النسائي حبيب بن أبي ثابت عابوا عليه التدليس حجاج بن محمد الأعور ذكر فيمن اختلط إلا أنه لم يحدث في تلك الحالة فما ضره حرمي بن عمارة بن أبي حفصة ذكره العقيلي بأمر فيه عنت الحسن بن الصباح البزار تعنت فيه النسائي الحسن بن علي الحلواني تكلم فيه أحمد بسبب الكلام الحسن بن مدرك الطحان تكلم فيه أبو داود بأمر فيه عنت الحسن بن موسى الأشيب لم يثبت عن ابن المديني تضعيفه الحسين بن الحسن بن بشار جهله أبو حاتم وعرفه غيره الحسين بن ذكوان المعلم ألانه القطان بلا قادح حصين بن عبد الرحمن ذكر فيمن اختلط حفص بن غياث تغير حفظه لما ولي القضاء الحكم بن عبد الله جهله أبو حاتم وعرفه غيره الحكم بن نافع أبو اليمان تكلم فيه بسبب الرواية بالإجازة حماد بن سلمة ذكر فيمن تغير حفظه حماد بن أسامة أبو أسامة ضعفه الأزدي بلا مستند حميد الأسود بن أبي الأسود تكلم فيه الساجي بلا حجة حميد بن قيس الأعرج أختلف قول أحمد فيه قال ابن عدي الإنكار من جهة غيره حميد الطويل تركه زائدة لدخوله في شيء من عمل السلطان حميد بن هلال العدوي كأن ابن سيرين لا يرضاه لدخوله في العمل حنظلة بن أبي سفيان ذكره بن عدي بلا حجة خالد بن سعيد الكوفي ذكره بن عدي بلا مستند خالد بن مهران الحذاء تكلم فيه شعبة لدخوله في شيء من العمل خثيم بن عراك ضعفه الأزدي بلا مستند خلاد بن يحيى قال الدارقطني أخطأ في حديث واحد خلاس بن عمرو الهجري تكلم فيه بسبب الإرسال داود بن رشيد ضعفه أبو محمد بن حزم بلا حجة داود بن عبد الرحمن العطار تكلم فيه الأزدي بلا حجة ولم يصح عن ابن معين تضعيفه الربيع بن يحيى قال الدارقطني يخطىء في حديث شعبة والثوري وما له في البخاري عنهما شيء ربيعة بن أبي عبد الرحمن تكلم فيه بسبب الإفتاء بالرأي روح بن عبادة تكلم فيه بعضهم

(1/461)


بلا مستند الزبير بن الحريث تكلم فيه لأن شعبة لم يرو عنه زكريا بن أبي زائدة تكلم فيه للتدليس زياد بن الربيع اليحمدي ذكره بن عدي بلا حجة زيد بن أبي أنيسة تكلم فيه أحمد بكلام لين زيد بن وهب تكلم فيه يعقوب بن سفيان بعنت سريج بن النعمان الجوهري تكلم أبو داود في بعض حديثه سعيد بن إياس الجريري ذكره فيمن اختلط سعيد بن أبي سعيد المقبري تغير حفظه في الآخر سعيد بن أبي عروبة ذكر فيمن اختلط سعيد بن سليمان الواسطي تكلموا فيه بلا حجة سعيد بن أبي هلال ذكره الساجي بلا حجة ولم يصح عن أحمد تضعيفه سلم بن قتيبة قال أبو حاتم كان كثير الوهم سليمان ابن بلال تكلم فيه عثمان ابن أبي شيبة بلا حجة سليمان ابن داود أبو الربيع الزهراني تكلم فيه بن خراش بلا حجة سليمان ابن مهران الأعمش تكلم فيه للتدليس سهل بن بكار البصري ذكره بن حبان بلا مستند سهيل بن أبي صالح ذكر فيمن تغير سلام بن أبي مطيع تكلم في حديثه عن قتادة خاصة شجاع بن الوليد أبو بدر السكوني تكلم فيه أبو حاتم بعنت شيبأن ابن عبد الرحمن النحوي تكلم فيه الساجي بلا حجة صالح بن صالح بن حيان والد الحسن لم يصح أن العجلي تكلم فيه صخر بن جوير ضاع كتابه فتكلم فيه لذلك طلق بن غنام ضعفه بن حزم بلا مستند طلحة بن نافع أبو سفيان تكلم فيه للتدليس عاصم بن سليمان الأحول تكلم فيه وهيب لأجل ولايته الحسبة عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري لم يصح قول عبد الحق أن بعضهم ضعفه عامر بن واثلة أبو الطفيل صحابي أخطأ من تكلم فيه عباد بن عباد المهلبي تكلم فيه أبو حاتم بعنت عباس بن الحسين القنطري جهله أبو حاتم وعرفه غيره عبد الله بن بريدة لم يثبت أن أحمد ضعفه وإنما تكلم فيه للإرسال عبد الله بن جعفر الرقي ذكر فيمن تغير حفظه عبد الله بن ذكوان أبو الزناد كرهه مالك لدخوله في عمل السلطان عبد الله بن سعيد بن أبي هند تكلم فيه أبو حاتم بعنت عبد الله بن العلاء بن زبر ضعفه بن حزم بلا مستند عبد الله بن عبيد الربذي تكلم فيه والعهدة على أخيه موسى عبد الله بن محمد أبو بكر بن أبي الأسود تكلم في سماعه من أبي عوانة عبد الحميد بن عبد الله أبو بكر بن أبي أويس تكلم فيه الأزدي بلا مستند عبد الرحمن بن ثروان أبو قيس تكلموا في بعض حديثه عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله الأنصاري تكلم فيه بن سعد بلا حجة عبد الرحمن بن خالد بن مسافر تكلم فيه الساجي بلا حجة عبد الرحمن بن شريح أبو شريح تكلم فيه بن سعد بلا مستند عبد الرحمن بن عبد الله أبو سعيد مولى بني هاشم تكلم فيه الساجي بلا مستند ولم يصح عن أحمد تضعيفه عبد الرحمن بن أبي الموالي تكلم أحمد في بعض حديثه عبد الرحمن بن محمد المحاربي تكلم فيه للتدليس عبد الرحمن بن نمر ضعف بسبب تفرد الوليد بن مسلم عنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ضعفه الفلاس بلا مستند عبد الرحمن بن يونس المستملي كان صاعقة لا يحمد أمره عبد العزيز بن أبي حازم تكلم في سماعه من أبيه عبد العزيز بن عبد الله الأويسي لم يصح أن أبا داود ضعفه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز لم يثبت عن أحمد تضعيفه عبد العزيز بن المختار اختلف قول بن معين فيه ولم يثبت عنه تضعيفه عبد الكريم بن مالك الجزري تكلم بن معين في حديثه عن عطاء خاصة عبد المتعال بن طالب لم يثبت عن ابن معين تضعيفه عبد الملك بن عمير ذكر فيمن تغير عبد الواحد بن زياد البصري تكلم القطان في حفظه وأثنوا كلهم على كتابه عبد الواحد بن عبد الله البصري تكلم فيه بن حاتم بعنت عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ذكر فيمن اختلط وقال العقيلي لم يحدث في تلك الحالة عبيد الله بن أبي جعفر لم يثبت عن أحمد تضعيفه عبيد الله بن عبد المجيد ضعفه العقيلي بلا مستند

(1/462)


عثمان ابن أبي صالح المصري تكلم في بعض حديثه عثمان ابن محمد بن أبي شيبة تكلم في بعض حديثه وقد ثبته الخطيب عثمان ابن عمر بن فارس لم يثبت عن القطان أنه تركه عفأن ابن مسلم تكلم فيه سليمان ابن حرب بعنت عقيل بن خالد تكلم فيه القطان بعنت علي بن المبارك الهنائي تكلم في روايته من الكتاب عمر بن علي بن مقدم تكلم فيه للتدليس عمر بن محمد الحسن التلي تكلم في بعض حديثه من حفظه عمرو بن نافع تكلم فيه بن سعد بلا مستند ولم يثبت عن ابن معين أنه ضعفه عمرو بن سليم الزرقي تكلم فيه بن خراش بلا حجة عمرو بن عاصم الكلابي غمزه أبو داود بلا مستند عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي مذكور فيمن اختلط عمرو بن علي الفلاس أنكر بن المديني حديثه يزيد بن زريع عمرو بن أبي عمر مولى المطلب ضعفوا روايته عن عكرمة عمرو بن محمد الناقد أنكر بن المديني بعض حديثه عن ابن عيينة عمرو بن يحيى بن سعيد ذكره بن عدي بلا مستند عمرو بن يحيى المازني غمزه بن معين من أجل حديثين خولف فيهما عنبسة بن خالد الأيلي وقع فيه يحيى بن بكير بلا حجة العلاء بن المسيب تكلم فيه الأزدي بلا مستند عيسى بن طهمان ضعفه بن حبان بلا مستند والحمل على غيره غالب القطان ذكره بن عدي بلا مسند والعهدة على راويه فراس بن يحيى أنكر القطان حديثه في الاستبراء الفضل بن موسى استنكر بن المديني بعض حديثه القاسم بن مالك ضعفه الساجي بلا مستند قتادة تكلم فيه للتدليس قريش بن أنس ذكر فيمن تغير كهمس بن الحسن ضعفه الساجي بلا حجة محمد بن إبراهيم التيمي استنكر أحمد بعض حديثه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك تكلم فيه بن سعد بلا مستند محمد بن بشار بندار تكلم فيه الفلاس فلم يلتفت إليه محمد بن بكر البرساني لينه النسائي بلا حجة محمد بن جعفر غندر تكلم أبو حاتم في حديثه عن غير شعبة محمد بن الحسن الواسطي ذكره بن حبان بلا حجة محمد بن الحكم المرزوي جهله أبو حاتم وعرفه غيره محمد بن زياد الزيادي ذكره بن منده وابن حبان بلا حجة محمد بن سابق ضعف بن معين بعض حديثه محمد بن الصلت أبو يعلى التوزي لين أبو زرعة بعض حديثه محمد بن الصلت الأسدي لينه بعضهم بلا مستند محمد بن عبد الله الأنصاري أنكر القطان بعض حديثه وذكر فيمن تغير محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري أنكر أحمد بعض حديثه عن سفيان محمد بن عبد الرحمن الطفاوي قال أبو حاتم يهم أحيانا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وهن أحمد حديثه في الزهري ولم يثبت عنه القدر محمد عبيد الطنافسي أخطأ في بعض حديثه فيما حكى عن أحمد محمد بن أبي عدي قيل إن أبا حاتم تكلم فيه تعنتا محمد بن الفضل أبو النعمان المعروف بعارم مذكور فيمن اختلط وقيل لم يحدث في تلك الحالة محمد بن أبي القاسم لم يعرفه بن المديني وعرفه غيره محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير عابوا عليه التدليس محمد بن مطرف أبو غسان قال ابن المديني كان وسطا محمد بن ميمون أبو حمزة السكري عمي في آخر عمره فتكلم فيه بعضهم تعنتا محمد بن يوسف الفريابي خطأه العجلي في بعض حديثه مبشر بن إسماعيل ضعفه بن قانع وهو أضعف منه محارب بن دثار تكلم فيه بن سعد بلا مستند مخلد بن يزيد استنكر أبو داود بعض حديثه مروأن ابن الحكم الخليفة يقال له رؤية تكلم فيه لأجل الولاية مروأن ابن معاوية الفزاري غمز لإكثاره عن الضعفاء مسكين بن بكير خطأ أحمد بعض حديثه مطرف بن عبد الله تكلم أبو حاتم في بعض حديثه معتمر بن سليمان التيمي تكلم في حديثه من صدره واتفق على كتابه معبد بن سيرين تردد بن معين في بعض حديثه

(1/463)


معمر بن راشد تكلم في حديثه عن ثابت والأعمش معلى بن منصور تكلم أحمد فيه لكتابته الشروط مغيرة بن مقسم ذكر بالتدليس في حديث إبراهيم مقسم مولى بن عامر ضعفه بن سعد بلا حجة مفضل بن فضالة المصري تكلم فيه بن سعد بلا مستند منصور بن عبد الرحمن وهو بن صفية قال ابن حزم وحده ليس بالقوي المنهال بن عمرو تكلم فيه بلا حجة موسى بن إسماعيل أبو سلمة تكلم فيه بن خراش بلا مستند موسى بن نافع أبو شهاب استنكر أحمد بعض حديثه موسى بن عقبة تكلم بن معين في روايته عن نافع نافع بن عمر الجمحي تكلم فيه بن سعد بلا مستند هدبة بن خالد ضعفه النسائي بلا حجة هشام بن حسان تكلموا في حديثه عن بعض مشايخه هشام بن عروة ذكر بالتدليس أو الإرسال هشام بن عمار مذكور فيمن تغير هشيم بن بشير عابوا عليه التدليس همام بن يحيى تكلم في بعض حديثه من حفظه الوضاح أبو عوانة تكلم في حديثه من حفظه وكتابه معتمد الوليد بن مسلم عابوا عليه التدليس والتسوية يحيى بن أبي إسحاق تكلم فيه العقيلي بلا حجة يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال ابن معين أخطأ في حديث واحد يحيى بن سعيد الأموي ذكره العقيلي بلا حجة يحيى بن عباد الضبعي وسط عند بن معين يحيى بن عبد الله بن بكير تكلم في سماعه من مالك يحيى بن أبي كثير مذكور بالتدليس والإرسال يحيى بن واضح أبو تميلة لم يثبت أن البخاري ضعفه يزيد بن إبراهيم التستري تكلم القطان في حديثه عن قتادة فقط يزيد بن عبد الله بن حفص تكلم أحمد في بعض افراده يزيد بن عبد الله بن قسيط لينه أبو حاتم بلا حجة يزيد بن هارون الواسطي تغير لما عمي يزيد الرشك ضعفه بعضهم بلا حجة يعلى بن عبيد الطنافسي تكلم بن معين في حديثه عن الثوري يوسف بن أبي إسحاق تكلم العقيلي فيه بلا حجة يونس بن أبي الفرات تكلم فيه بن حبان بلا مستند يونس بن القاسم استنكر البرذعي حديثه بلا حجة يونس بن يزيد الأيلي في حفظه شيء وكتابه معتمد أبو بكر بن عياش ساء حفظه لما كبر وكتابه معتمد أبو بكر بن أبي موسى الأشعري ضعفه بن سعد بلا مستند فجميع من ذكر في هذين الفصلين ممن احتج به البخاري لا يلحقه في ذلك عاب لما فسرناه
وأما من عدا من ذكر فيهما ممن وصف بسوء الضبط أو الوهم أو الغلط ونحو ذلك وهو القسم الثالث فلم يخرج لهم إلا ما توبعوا عليه عنده أو عند غيره وقد شرحنا من ذلك ما فيه كفاية ومقنع والله الموفق إلى سبيل الرشاد نفع الله بجميع ذلك بمنه وكرمه

(1/464)


الفصل العاشر : في عد أحاديث الجامع
مدخل
...
الفصل العاشر:
في عد أحاديث الجامع
قال الشيخ تقي الدين بن الصلاح فيما رويناه عنه في علوم الحديث عدد أحاديث صحيح البخاري سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون بالأحاديث المكررة قال وقيل إنما بإسقاط المكرر أربعة آلاف هكذا أطلق بن الصلاح وتبعه الشيخ محي الدين النووي في مختصره ولكن خالف في الشرح فقيدها بالمسندة ولفظه جملة ما في صحيح البخاري من الأحاديث المسندة بالمكرر فذكر العدة سواء فأخرج ب قوله: "المسندة الأحاديث المعلقة وما أورده في التراجم والمتابعة وبيان الاختلاف بغير إسناد موصل فكل ذلك خرج ب قوله: "المسندة بخلاف إطلاق بن الصلاح قال الشيخ محي الدين وقد رأيت أن أذكرها مفصلة ليكون كالفهرسة لأبواب الكتاب وتسهل معرفة مظان أحاديثه على الطلاب قلت ثم ساقها ناقلا لذلك من كتاب جواب المتعنت لأبي الفضل بن طاهر بروايته من طريق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي قال عدد أحاديث صحيح البخاري بدء الوحي خمسة أحاديث قلت بل هي سبعة وكأنه لم يعد حديث الأعمال ولم يعد حديث جابر في أول ما نزل وبيان كونها سبعة أن أول ما في الكتاب حديث عمر الأعمال الثاني حديث عائشة في سؤال الحارث بن هشام الثالث حديثها أول ما بدء به من الوحي الرابع حديث جابر وهو يحدث عن فترة الوحي وهو معطوف على إسناد حديث عائشة وهما حديثان مختلفان لا ريب في ذلك الخامس حديث بن عباس في نزول لا تحرك به لسانك السادس حديثه في معارضة جبريل في رمضان السابع حديثه عن أبي سفيان في قصة هرقل وفي أثنائه حديث آخر موقوف وهو حديث الزهري عن ابن الناطور في شأن هرقل وفيه من التعليق موضعان ومن المتابعات ستة مواضع وإنما أوردت هذا القدر ليتبين منه أن كثيرا من المحدثين وغيرهم يسترحون بنقل كلام من يتقدمهم مقلدين له ويكون الأول ما أتقن ولا حرر بل يتبعونه تحسينا للظن به والإتقان بخلاف فلا شيء أظهر من غلطه في هذا الباب في أول الكتاب فياعجباه لشخص يتصدى لعد أحاديث كتاب وله به عناية ورواية ثم يذكر ذلك جملة وتفصيلا فيقلد في ذلك لظهور عنايته به حتى يتداوله المصنفون ويعتمده الأئمة الناقدون ويتكلف نظمه ليستمر على استحضاره المذاكرون أنشد أبو عبد الله بن عبد الملك الأندلسي في فوائده عن أبي الحسين الرعيني عن أبي عبد الله بن عبد الحق لنفسه:
جميع أحاديث الصحيح الذي روى ال ...
بخاري خمس ثم سبعون للعد
وسبعة آلاف تضاف وما مضى ... إلى مائتين عد ذاك أولوا الجد
ومع هذا جميعه فيكون قلدوه في ذلك لم يتقن ما تصدى له من ذلك وسيظهر لك في عدة أحاديث الصوم أعجب من هذا الفصل وها أنا أسوق ما ذكر وأتعقبه بالتحرير إن شاء الله تعالى وإذا انتهيت إلى آخره رجعت فعددت المعلقات والمتابعات فإن اسم الأحاديث يشملها وإطلاق التكرير يعمها وفي ضمن ذلك من الفوائد ما لا يخفى

(1/465)


قال رحمه الله الإيمان خمسون حديثا قلت بل هي أحد وخمسون وذلك أنه أورد حديث أنس " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده" الحديث من رواية قتادة عن أنس ومن رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس إسنادين مختلفين فلكون المتن واحدا لم يعده حديثين ولا شك أن عده حديثين أولى من عد المكرر إسنادا ومتنا انتهى قال العلم خمسة وسبعون الوضوء مائة وتسعة أحاديث قلت بل مائة وخمسة عشر حديثا على التحرير قال الغسل ثلاثة وأربعون قلت بل سبعة وأربعون الحيض سبعة وثلاثون التيمم خمسة عشر فرض الصلاة حديثان وجوب الصلاة في الثياب تسعة وثلاثون قلت بل إحدى وأربعون القبلة ثلاثة عشر المساجد ستة وسبعون سترة المصلي ثلاثون قلت وإثنان مواقيت الصلاة خمسة وسبعون قلت بل ثمانون حديثا الأذان ثمانية وعشرون قلت بل ثلاثة وثلاثون صلاة الجماعة أربعون قلت واثنان الإمامة أربعون الصفوف ثمانية عشر قلت بل أربعة عشر فقط وقد حررتها وكررت مراجعتها افتتاح الصلاة ثمانية وعشرون القراءة ثلاثون قلت بل سبعة وعشرون الركوع والسجود والتشهد اثنان وخمسون انقضاء الصلاة سبعة عشر قلت بل أربعة عشر اجتناب أكل الثوم خمسة قلت بل أربعة فقط صلاة النساء والصبيان خمسة عشر قلت بل فيه أحد وعشرون حديثا الجمعة خمسة وستون صلاة الخوف ستة صلاة العيدين أربعون الوتر خمسة عشر الاستسقاء خمسة وثلاثون قلت بل أحد وثلاثون الكسوف خمسة وعشرون سجود القرآن أربعة عشر القصر ستة وثلاثون الاستخارة ثمانية التحريض على قيام الليل أحد وأربعون قلت لم أر الاستخارة في هذا المكان بل هنا باب التهجد ثم إن مجموع ذلك أربعون حديثا لا غير التطوع ثمانية عشر قلت بل ستة وعشرون الصلاة بمسجد مكة تسعة العمل في الصلاة ستة وعشرون السهو أربعة عشر قلت بل خمسة عشر بحديث أم سلمة الجنائز مائة وأربعة وخمسون الزكاة مائة وثلاثة عشر صدقة الفطر عشرة الحج مائتان وأربعون العمرة اثنان وأربعون الإحصار أربعون قلت لا والله بل ستة عشر فقط جزاء الصيد أربعون قلت بل ستة عشر أيضا الإحرام وتوابعه اثنان وثلاثون فضل المدينة أربعة وعشرون الصوم ستة وستون ليلة القدر عشرة قيام رمضان ستة الاعتكاف عشرون قلت لم يحرر الصوم ولم يتقنه فإن جملة ما بعد قوله كتاب الصيام إلى قوله كتاب الحج من الأحاديث المسندة بالمكرر مائة وستة وخمسون حديثا ففاته من العدد أربعة وسبعون حديثا وهذا في غاية التفريط البيوع مائة وأحد وتسعون السلم تسعة عشر الشفعة ثلاثة الإجارة أربعة وعشرون الحوالة ثلاثون قلت كذا رأيت في غيره ما نسخه وهو غلط والصواب ثلاثة أحاديث الكفالة ثمانية الوكالة سبعة عشر المزارعة والشرب تسعة وعشرون قلت بل المزارعة فقط ثلاثون حديثا والشرب هو الذي عدده تسعة وعشرون الاستقراض وأداء الديون والأشخاص والملازمة أربعون اللقطة خمسة عشر المظالم والغصب أحد وأربعون قلت بل خمسة وأربعون الشركة ثلاثة وعشرون الرهن ثمانية العتق أربعة وثلاثون المكاتب ستة قلت بل خمسة الهبة تسعة وستون الشهادات ثمانية وخمسون قلت بل ستة وخمسون الصلح اثنان وعشرون قلت بل عشرون فقط الشروط أربعة وعشرون الوصايا والوقف أحد وأربعون الجهاد والسير مائتان وخمسة وخمسون بقية الجهاد اثنان وأربعون فرض الخمس ثمانية وخمسون قلت من قوله: كتاب الجهاد إلى قوله: فرض الخمس عدة أحاديثه مائتان وأربعة وتسعون حديثا فقط

(1/466)


وأما فرض الخمس فهو ثلاثة وستون حديثا الجزية والموادعة ثلاثة وستون قلت بل ثمانية وعشرون حديثا فقط بدء الخلق مائتان وحديثان الأنبياء والمغازي أربعمائة وثمانية وعشرون حديثا جزء آخر بعد المغازي مائة وثمانية قلت لم يقع في هذا الفصل تحرير فأما بدء الخلق فإنما عدة أحاديثه علىالتحرير مائة وخمسة وأربعون حديثا وأحاديث الأنبياء وأوله باب قول الله عز وجل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِه}ِ وآخره ما ذكر عن ابني إسرائيل مائة وأحد عشر حديثا أخبار بني إسرائيل وما يليه ستة وأربعون حديثا المناقب وفيه علامات النبوة مائة وخمسون حديثا فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مائة وخمسة وستون حديثا بنيان الكعبة وما يليه من أخبار الجاهلية عشرون حديثا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته إلى ابتداء الهجرة ستة وأربعون حديثا الهجرة إلى ابتداء المغازي خمسون حديثا المغازي إلى آخر الوفاة أربعمائة حديث واثنا عشر حديثا فانظر إلى هذا التفاوت العظيم بين ما ذكر هذا الرجل واتبعوه عليه وبين ما حررته من الأصل التفسير خمسمائة وأربعون قلت بل هو أربعمائة وخمسة وستون حديثا من غير التعاليق والموقوفات فضائل القرآن أحمد وثمانون حديثا النكاح والطلاق مائتان وأربعة وأربعون حديثا قلت ويحتاج هذا الفصل أيضا إلى تحرير فأما النكاح وحده فهو مائة وثلاثة وثمانون حديثا والطلاق ومعه الخلع والظهار واللعان والعدد ثلاثة وثمانون حديثا النفقات اثنان وعشرون حديثا الأطعمة سبعون حديثا قلت الصواب تسعون بتقديم التاء المثناة على السين العقيقة أحد عشر حديثا قلت بل تسعة أحاديث وفيه غير ذلك من التعاليق والمتابعة الذبائح والصيد وغيره تسعون حديثا قلت بل الجميع ستة وستون حديثا الأضاحي ثلاثون حديثا الأشربة خمسة وستون حديثا الطب تسعة وسبعون حديثا اللباس مائة وعشرون المرضى أحد وأربعون اللباس أيضا مائة قلت هكذا رأيته في عدة نسخ والذي في أصل الصحيح بعد الأشربة كتاب المرضى فذكر ما يتعلق بثواب المريض وأحوال المرضى وعد به أربعون حديثا ثم قال كتاب الطب وعدته سبعة وتسعون حديثا بتقديم السين على الباء في سبعة وبتقديم التاء على السين في التسعين ثم قال كتاب اللباس فذكر متعلقات اللباس والزينة وأحوال البدن في ذلك وختمه بأحاديث في الارتداف على الدواب وآخره حديث الاضطجاع في المسجد رافعا إحدى رجليه على الأخرى وعدته مائة واثنان وثمانون حديثا كتاب الأدب مائتان وستة وخمسون حديثا وقد حررتها وهي خارج عن التعاليق والمكرر كتاب الاستئذان سبعة وسبعون وهو بتقديم السين فيهما الدعوات ستة وسبعون ومن الدعوات أيضا ثلاثون قلت هو مائة وستة أحاديث كما قال كتاب الرقاق مائة حديث الحوض ستة عشر الجنة والنار سبعة وخمسون قلت لكل من كتاب الرقاق وأما صفة الجنة والنار فقد تقدم ذكرهما في بدء الخلق وعدة الرقاق على ما ذكر مائة وثلاثة وسبعون حديثا وقد حررته فزاد على ذلك أربعة أحاديث القدر ثمانية وعشرون الأيمان والنذور أحد وثلاثون قلت كذا هو في عدة نسخ وهو خطأ وإنما هو أحد وثمانون كفارة اليمين خمسة عشر حديثا قلت بل ثمانية عشر حديثا الفرائض خمسة وأربعون حديثا قلت ستة وأربعون الحدود ثلاثون قلت بل اثنان وثلاثون المحاربة اثنان وخمسون الديات أربعة وخمسون استتابه المرتدين عشرون الإكراه ثلاثة عشر قلت بل اثنا عشر حديثا ترك الحيل ثلاثة وعشرون قلت بل ثمانية وعشرون التعبير ستون حديث قلت وثلاثة الفتن ثمانون قلت وحديثان الأحكام اثنان وثمانون حديثا التمني اثنان وعشرون قلت بل عشرون من غير المعلق إجازة خبر الواحد تسعة عشر

(1/467)


قلت بل اثنان وعشرون الاعتصام ستة وتسعون قلت بل ثمانية وتسعون حديثا التوحيد إلى آخر الكتاب مائة وتسعون حديثا قلت فجميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات على ما حررته وأتقنته سبعة آلاف وثلاث مائة وسبعة وتسعون حديثا فقد زاد على ما ذكروه مائة حديث واثنان وعشرون حديثا على أنني لا أدعي العصمة ولا السلامة من السهو ولكن هذا جهد من لا جهد له والله الموفق وهذا عدد ما فيه من التعاليق والمتابعات على ترتيب ما سبق بدء الوحي فيه من المعلقات حديثان ومن المتابعات ستة مواضع الإيمان فيه من التعاليق عشرة ومن المتابعات ستة العلم فيه من التعاليق عشرون ومن المتابعات ثلاثة الوضوء فيه من التعاليق ستة وعشرون ومن المتابعات تسعة الغسل فيه من التعاليق عشرة ومن المتابعات اثنان الحيض فيه من التعاليق ستة ومن المتابعات اثنان التيمم فيه من التعاليق ثلاثة فرض الصلاة فيه حديث معلق الصلاة في الثياب فيه من التعاليق خمسة عشر حديثا القبلة فيه من التعاليق ستة أحاديث المساجد فيه من التعاليق ستة عشر سترة المصلي فيه من التعاليق اثنان مواقيت الصلاة فيه من التعاليق خمسة وثلاثون ومن المتابعات ثلاثة أحاديث الأذان فيه من التعاليق أربعة صلاة الجماعة فيه من التعاليق عشرة أحاديث ومن المتابعات أربعة الإمامة فيه من التعاليق تسعة ومن المتابعات أحد عشر الصفوف فيه من التعاليق ثلاثة افتتاح الصلاة فيه من التعاليق ثمانية القراءة في الصلاة فيه من التعاليق ثلاثة ومن المتابعات اثنان الركوع والسجود والتشهد فيه من التعاليق تسعة انقضاء الصلاة منه من التعاليق سبعة اجتناب أكل الثوم فيه من التعاليق أربعة صلاة النساء والصبيان فيه متابعة واحدة الجمعة فيه من التعاليق عشرة ومن المتابعات خمسة صلاة الخوف فيه حديث معلق صلاة العيدين فيه من التعاليق ثلاثة الوتر فيه حديث معلق الاستسقاء فيه من التعاليق ستة ومن المتابعات حديث واحد الكسوف فيه من التعاليق عشرة ومن المتابعات اثنان سجود القرآن فيه من التعاليق اثنان القصر فيه من التعاليق ثمانية ومن المتابعات ستة التهجد فيه من التعاليق ستة ومن المتابعات أربعة التطوع فيه من التعاليق ستة ومن المتابعات خمسة الصلاة بمكة فيه تعليق واحد العمل في الصلاة فيه من التعاليق خمسة السهو فيه تعليق واحد ومتابعة واحدة الجنائز فيه من التعاليق ثمانية وأربعون حديثا ومن المتابعات ثمانية الزكاة فيه من التعاليق سبعة وأربعون حديثا ومن المتابعات سبعة الحج فيه من التعاليق خمسون ومن المتابعات أربعة عشر العمرة فيه من التعاليق خمسة الإحصار فيه من التعاليق حديثان جزاء الصيد فيه موضع واحد معلق الإحرام فيه من التعاليق سبعة ومن المتابعات خمسة فضل المدينة فيه من التعاليق حديث ومن المتابعات ثلاثة الصوم فيه من التعاليق اثنان وثلاثون ومن المتابعات أربعة ليلة القدر فيه متابعتان البيوع فيه من التعاليق خمسون ومن المتابعات ثلاثة السلم فيه من التعاليق ثلاثة الإجارة فيه من التعاليق سبعة الكفالة فيه من التعاليق حديثان الوكالة فيه من التعاليق ثلاثة ومن المتابعات موضوعان المزارعة فيه من التعاليق ثمانية الشرب فيه من التعاليق خمسة ومن المتابعات موضع واحد الاستقراض وما معه فيه من التعاليق ثمانية اللقطة فيه من التعاليق أربعة المظالم والغصب فيه من التعاليق ستة الشركة فيه من التعاليق حديثان العتق فيه من التعاليق أربعة عشر ومن المتابعات أربعة المكاتبة فيه من التعاليق حديثان الهبة فيه من التعاليق أربعة وعشرون الشهادات فيه من التعاليق سبعة الصلح فيه من التعاليق عشرة الشروط فيه من التعاليق أربعة وعشرون ومن المتابعات أربعة الوصايا والوقف فيه من التعاليق سبعة عشر ومن المتابعات موضوعان الجهاد وفرض الخمس فيه من التعاليق ستة وستون

(1/468)


ومن المتابعات ثمانية الجزية فيه من التعاليق ستة بدء الخلق فيه من التعاليق خمسة وعشرون ومن المتابعات أحد عشر أحاديث الأنبياء فيه من التعاليق أربعة وعشرون ومن المتابعات سبعة عشر المناقب وعلامات النبوة فيه من التعاليق خمسة عشر ومن المتابعات موضع واحد فضائل الصحابة فيه من التعاليق سبعة وثلاثون حديثا ومن المتابعات ستة السيرة إلى آخر المغازي فيه من التعاليق سبعة وتسعون حديثا ومن المتابعات عشرون التفسير فيه من التعاليق تسعة وستون ومن المتابعات أربعة عشر فضائل القرآن فيه من التعاليق عشر أحاديث ومن المتابعات سبعة النكاح فيه من التعاليق سبعة وثلاثون ومن المتابعات ثمانية الطلاق وما معه فيه من التعاليق أربعة وعشرون حديثا ومن المتابعات أربعة النفقات فيه من التعاليق ثلاثة الأطعمة فيه من التعاليق خمسة عشر حديثا العقيقة فيه من التعاليق أربعة الذبائح والصيد فيه من التعاليق ثلاثة عشر ومن المتابعات تسعة الأضاحي فيه من التعاليق عشرة ومن المتابعات أربعة الأشربة فيه من التعاليق أحد عشر ومن المتابعات خمسة كفارة المرض والطب فيه من التعاليق اثنان وعشرون ومن المتابعات ثمانية اللباس فيه من التعاليق ثلاثون حديثا ومن المتابعات ستة عشر حديثا الأدب فيه من التعاليق ثلاثة وستون حديثا ومن المتابعات اثنا عشر حديثا الاستئذان فيه من التعاليق ستة عشر ومن المتابعات أربعة عشر الدعوات فيه من التعاليق أربعة وثلاثون ومن المتابعات خمسة الرقاق فيه من التعاليق ثمانية وعشرون ومن المتابعات أربعة عشر القدر فيه من التعاليق أربعة الأيمان والنذور وكفارة اليمين فيه من التعاليق أحد وعشرون ومن المتابعات ثلاثة عشر الفرائض فيه من التعاليق حديثان الحدود فيه من التعاليق عشرة ومن المتابعات ثلاثة عشر الديات فيه من التعاليق ثمانية ومن المتابعات موضع واحد استتابة المرتدين فيه من التعاليق حديث واحد الإكراه فيه من التعاليق ثلاثة ترك الحيل فيه من التعاليق ثلاثة التعبير فيه من التعاليق خمسة عشر ومن المتابعات ستة الفتن فيه من التعاليق سبعة عشر حديثا الأحكام فيه من التعاليق ثلاثون حديثا ومن المتابعات ثلاثة الاعتصام فيه من التعاليق خمسة وعشرون حديثا ومن المتابعات ثلاثة التوحيد فيه من التعاليق خمسون حديثا ومن المتابعات خمسة أحاديث فجملة ما في الكتاب من التعاليق ألف وثلاث مائة واحد وأربعون حديثا وأكثرها مكرر مخرج في الكتاب أصول متونه وليس فيه من المتون التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مائة وستون حديثا قد أفردتها في كتاب مفرد لطيف متصلة الأسانيد إلى من علق عنه وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلاثمائة واحد وأربعون حديثا فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا وهذه العدة خارج عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم وقد استوعبت وصل جميع ذلك في كتاب تعليق التعليق وهذا الذي حررته من عدة ما في صحيح البخاري تحرير بالغ فتح الله به لا أعلم من تقدمني إليه وأنا مقر بعدم العصمة من السهو والخطأ والله المستعان

(1/469)


ذكر مناسبة الترتيب المذكورة بالآبواب ملخصا من كلام شيخ الإسلام ألى حفص عمر البلقينى
...
ذكرمناسبة الترتيب المذكوربالأبواب المذكورة ملخصا من كلام
شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص عمر البلقيني تغمده الله برحمته
قال رضي الله عنه بدأ البخاري بقوله: كيف بدء الوحي ولم يقل كتاب بدء الوحي لأن بدء الوحي من بعض ما يشتمل عليه الوحي قلت ويظهر لي أنه إنما عراه من باب لأن كل باب يأتي بعده ينقسم منه فهو أم الأبواب فلا يكون قسيما لها قال وقدمه لأنه منبع الخيرات وبه قامت الشرائع وجاءت الرسالات ومنه عرف الإيمان والعلوم وكان أوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الإيمان من القراءة والربوبية وخلق الإنسان فذكر بعد كتاب الإيمان والعلوم وكان الإيمان أشرف العلوم فعقبه بكتاب العلم وبعد العلم يكون العمل وأفضل الأعمال البدنية الصلاة ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة فقال كتاب الطهارة فذكر أنواعها وأجناسها وما يصنع من لم يجد ماء ولا ترابا إلى غير ذلك مما يشترك فيه الرجال والنساء وما تنفرد به النساء ثم كتاب الصلاة وأنواعها ثم كتاب الزكاة على ترتيب ما جاء في حديث بني الإسلام على خمس واختلفت النسخ في الصوم والحج أيهما قبل الآخر وكذا اختلفت الرواية في الأحاديث وترجم عن الحج بكتاب المناسك يعم الحج والعمرة وما يتعلق بهما وكان في الغالب من يحج يجتاز بالمدينة الشريفة فذكر ما يتعلق بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بحرم المدينة قلت ظهر لي أن يقال في تعقيبه الزكاة بالحج أن الأعمال لما كانت بدنية محضة ومالية محضة وبدنية مالية معا رتبها كذلك فذكر الصلاة ثم الزكاة ثم الحج ولما كان الصيام هو الركن الخامس المذكور في حديث بن عمر بني الإسلام على خمس عقب بذكره وإنما أخره لأنه من المتروك وإن كان عملا أيضا لكنه عمل النفس لا عمل الجسد فلهذا أخره وإلا لو كان اعتمد على الترتيب الذي في حديث بن عمر لقدم الصيام على الحج لأن ابن عمر أنكر على من روى عنه الحديث بتقديم الحج على الصيام وهو وإن كان ورد عن ابن عمر من طريق أخرى كذلك فذاك محمول على أن الراوي روى عنه بالمعنى ولم يبلغه نهيه عن ذلك والله أعلم وهذه التراجم كلها معاملة العبد مع الخالق وبعدها معاملة العبد مع الخلق فقال كتاب البيوع وذكر تراجم بيوع الأعيان ثم بيع دين على وجه مخصوص وهو السلم وكان البيع يقع قهريا فذكر الشفعة التي هي بيع قهري ولما تم الكلام على بيوع العين الاختياري والقهري وكان ذلك قد يقع فيه غبن من أحد الجانبين أما في ابتداء العقد أو في مجلس العقد وكان في البيوع ما يقع على دينين لا يجب فيهما قبض في المجلس ولا تعيين أحدهما وهو الحوالة فذكرها وكانت الحوالة فيها انتقال الدين من ذمة إلى ذمة أردفها بما يقتضي ضم ذمة إلى ذمة أو ضم شيء يحفظ به العلقة وهو الكفالة والضمان وكان الضمان شرع للحفظ فذكر الوكالة التي هي حفظ للمال وكانت الوكالة فيها توكل على آدمي فأردفها بما فيه التوكل على الله فقال كتاب الحرث والمزارعة وذكر فيها متعلقات الأرض والموات والغرس والشرب وتوابع ذلك كان في كثير من ذلك يقع الارتفاق فعقبه بكتاب الاستقراض لما فيه من الفضل والإرفاق ثم ذكر العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه للإعلام بمعاملة الأرقاء فلما تمت المعاملات كان لابد أن يقع فيها من منازعات فذكر الأشخاص والملازمة والالتقاط وكان الالتقاط وضع اليد بالأمانة الشرعية فذكر بعده وضع اليد تعديا وهو الظلم والغضب وعقبه بما قد يظن فيه غصب ظاهر وهو حق شرعي فذكر

(1/470)


وضع الخشب في جدار الجار وصب الخمر في الطريق والجلوس في الأفنية والآبار في الطريق وذكر في ذلك الحقوق المشتركة وقد يقع في الاشتراك نهي فترجم النهي بغير إذن صاحبه ثم ذكر بعد الحقوق المشتركة العامة الاشتراك الخاص فذكر كتاب الشركة وتفاريعها ولما أن كانت هذه المعاملات في مصالح الخلق ذكر شيئا يتعلق بمصالح المعاملة وهي الرهن وكان الرهن يحتاج إلى فك رقبة وهو جائز من جهة المرتهن لازم من جهة الراهن أردفه بالعتق الذي هو فك الرقبة والملك الذي يترتب عليه جائز من جهة السيد لا من جهة العبد فذكر متعلقات العتق من التدبير والولاء وأم الولد الإحسان إلى الرقيق وأحكامهم ومكاتباتهم ولما كانت الكتابة تستدعي إيتاء ل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فأردفه بكتاب الهبة وذكر معها العمري والرقبى ولما كانت الهبة نقل ملك الرقبة بلا عوض أردفه بنقل المنفعة بلا عوض وهو العارية المنيحة ولما تمت المعاملات وانتقال الملك على الوجوه السابقة وكان ذلك قد يقع فيه تنازع فيحتاج إلى الأشهاد فأردفه بكتاب الشهادات ولما كانت البينات قد يقع فيها تعارض ترجم القرعة في المشكلات وكان ذلك التعارض قد يقتضي صلحا وقد يقع بلا تعارض ترجم كتاب الصلح ولما كان الصلح قد يقع فيه الشرط عقبه بالشروط في المعاملات ولما كانت الشروط قد تكون في الحياة وبعد الوفاة ترجم كتاب الوصية والوقف فلما انتهى ما يتعلق بالمعاملات مع الخالق ثم ما يتعلق بالمعاملات مع الخلق أردفها بمعاملة جامعة بين معاملة الخالق وفيها نوع اكتساب فترجم كتاب الجهاد إذ به يحصل إعلاء كلمة الله تعالى وإذلال الكفار بقتلهم واسترقاقهم نسائهم وصبيانهم وعبيدهم وغنيمة أموالهم العقار والمنقول والتخيير في كامليهم وبدأ بفضل الجهاد ثم ذكر ما يقتضي أن المجاهد ينبغي أن يعد نفسه في القتلى فترجم باب التحنط عند القتال وقريب منه من ذهب ليأتي بخبر العدو وهو الطليعة وكان الطليعة يحتاج إلى ركوب الخيل ثم ذكر من الحيوان ما له خصوصية وهو بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وناقته وكان الجهاد في الغالب للرجال وقد يكون النساء معهم تبعا فترجم أحوال النساء في الجهاد وذكر باقي ما يتعلق بالجهاد ومنها آلات الحرب وهيئتها والدعاء قبل القتال وكل ذلك من آثار بعثته العامة فترجم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام وكان عزم الإمام على الناس في الجهاد إنما هو بحسب الطاقة فترجم عزم الإمام على الناس فيما يطيقون وتوابع ذلك وكانت الاستعانة في الجهاد تكون بجعل أو بغير جعل فترجم الجعائل وكان الإمام ينبغي أن يكون إمام القوم فترجم المبادرة عند الفزغ وكانت المبادرة لا تمنع من التوكل ولا سيما في حق من نصر بالرعب فذكره وذكر مبادرته على أن تعاطي الأسباب لا يقدح في التوكل فترجم حمل الزاد في الغزو ثم ذكر آداب السفر وكان القادمون من الجهاد قد تكون معهم الغنيمة فترجم فرض الخمس وكان ما يؤخذ من الكفارة تارة يكون بالحرب ومرة بالمصالحة فذكر كتاب الجزية وأحوال أهل الذمة ثم ذكر تراجم تتعلق بالموادعة والعهد والحذر من الغدر ولما تمت المعاملات الثلاث وكلها من الوحي المترجم عليه بدء الوحي فذكر بعد هذه المعاملات بدء الخلق قلت ويظهر إلى أنه إنما ذكر بدء الخلق عقب كتاب الجهد لما أن الجهاد يتشمل على إزهاق النفس فأراد أن يذكر أن هذه المخلوقات محدثات وأن مآلها إلى الفناء وأنه لا خلود لأحد انتهى ومن مناسبته ذكر الجنة والنار اللتين مآل الخلق إليهما وناسب ذكر إبليس وجنوده عقب صفة النار لأنهم أهلها ثم ذكر الجن ولما كان خلق الدواب قبل خلق آدم عقبة بخلق آدم وترجم الأنبياء نبيا نبيا على الترتيب الذي نعتقده وذكر فيهم ذا القرنين لأنه عنده نبي وأنه قبل إبراهيم ولهذا ترجمه بعد ترجمة إبراهيم وذكر ترجمة أيوب بعد يوسف لما بينهما من مناسبة الابتلاء وذكر قوله:

(1/471)


{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} بعد قصة يونس لأن يونس التقمه الحوت فكان ذلك بلوى له فصبر فنجا أولئك ابتلوا بحيتان فمنهم من صبر فنجا ومنهم من تعدى فعذب وذكر لقمان بعد سليمان إما لأنه عنده نبي وإما لأنه من جملة أتباع داود عليه السلام وذكر مريم لأنها عنده نبيه ثم ذكر بعد الأنبياء أشياء من العجائب الواقعة في زمن بني إسرائيل ثم ذكر الفضائل والمناقب المتعلقة بهذه الأمة وأنهم ليسوا بأنبياء مع ذلك وبدأ بقريش لأن بلسانهم أنزل الكتاب ولما ذكر أسلم وغفارا ذكر قريبا منه إسلام أبي ذر لأنه أول من أسلم من غفار ثم ذكر أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله وعلامات نبوته في الإسلام ثم فضائل أصحابه ولما كان المسلمون الذين اتبعوه وسبقوا إلى الإسلام هم المهاجرون والأنصار والمهاجرون مقدمون في السبق ترجم مناقب المهاجرين ورأسهم أبو بكر الصديق فذكرهم ثم أتبعهم بمناقب الأنصار وفضائهم ثم شرع بعد ذكر مناقب الصحابة في سياق سيرهم في إعلاء كلمة الله تعالى مع نبيهم فذكر أولا أشياء من أحوال الجاهلية قبل البعثة التي أزالت الجاهلية ثم ذكر أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى الحبشة وأحوال الإسراء وغير ذلك ثم الهجرة إلى المدينة النبوية ثم ساق المغازي على ترتيب ما صح عنده وبدأ بإسلام بن سلام تفاؤلا بالسلامة في المغازي ثم بعد إيراد المغازي والسرايا ذكر الوفود ثم حجة الوداع ثم مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته وما قبض صلى الله عليه وسلم إلا وشريعته كاملة بيضاء نقية وكتابه قد كمل نزوله فأعقب ذلك بكتاب التفسير ثم ذكر عقب ذلك فضائل القرآن ومتعلقاته وآداب تلاوته وكان ما يتعلق بالكتاب والسنة من الحفظ والتفسير وتقرير الأحكام يحصل به حفظ الدين في الأقطار واستمرار الأحكام على الأعصار وبذلك تحصل الحياة المعتبرة أعقب ذلك بما يحصل به النسل والذرية التي يقوم منها جيل بعد جيل يحفظون أحوال التنزيل فقال كتاب النكاح ثم أعقبه بالرضاع لما فيه من متعلقات التحريم به ثم ذكر ما يحرم من النساء وما يحل ثم أردف ذلك بالمصاهرة والنكاح الحرام والمكروه والخطبة والعقد والصداق والولي وضرب الدف في النكاح والوليمة والشروط في النكاح وبقية أحوال الوليمة ثم عشرة النساء ثم أردفه كتاب الطلاق ثم ذكر أنكحه الكفار ولما كان الإيلاء في كتاب الله مذكورا بعد نكاح المشركين ذكره البخاري عقبه ثم ذكر الظهار وهو فرقة مؤقتة ثم ذكر اللعان وهو فرقة مؤبدة ثم ذكر العدد والمراجعة ثم ذكر حكم الوطء من غير عقد لما فرغ من توابع العقد الصحيح فقال مهر البغي والنكاح الفاسد ثم ذكر المتعة ولما انتهت الأحكام المتعلقة بالنكاح وكان من أحكامه أمر يتعلق بالزوج تعلقا مستمرا وهو النفقة ذكرها ولما انقضت النفقات وهي من المأكولات غالبا أردف كتاب الأطعمة وأحكامها وآدابها ثم كان من الأطعمة ما هو خاص فذكر العقيقة وكان ذلك بما يحتاج فيه إلى ذبح فذكر الذبائح وكان من المذبوح ما يصاد فذكر أحكام الصيد وكان من الذبح ما يذبح في العام مرة فقال كتاب الأضاحي وكانت المآكل تعقبها المشارب فقال كتاب الأشربة وكانت المأكولات والمشروبات قد يحصل منها في البدن ما يحتاج إلى طبيب فقال كتاب الطب وذكر تعلقات المرض وثواب المرض وما يجوز أن يتداوى به وما يجوز من الرقي وما يكره منها ويحرم ولما انقضى الكلام على المأكولات والمشروبات وما يزيل الداء المتولد منها أردف بكتاب اللباس والزينة وأحكام ذلك والطيب وأنواعه وكان كثير منها يتعلق بآداب النفس فأردفها بكتاب الأدب والبر والصلة والاستئذان ولما كان السلام والاستئذان سببا لفتح الأبواب السفلية أردفها بالدعوات التي هي فتح الأبواب العلوية ولما كان الدعاء سبب المغفرة ذكر الاستغفار ولما

(1/472)


كان الإستغفار سببا لهدم الذنوب قال باب التوبة ثم ذكر الأذكار الموقتة وغيرها والاستعاذة ولما كان الذكر والدعاء سببا للاتعاظ ذكر المواعظ والزهد وكثيرا من أحوال يوم القيامة ثم ذكر ما يبين أن الأمور كلها بتصريف الله تعالى فقال كتاب القدر وذكر أحواله ولما كان القدر قد تحال عليه الأشياء المنذورة قال كتاب النذر كان المنذر فيه كفارة فأضاف إليه الأيمان وكانت الأيمان والنذور تحتاج إلى الكفارة فقال كتاب الكفارة ولما تمت أحوال الناس في الحياة الدنيا ذكر أحوالهم بعد الموت فقال كتاب الفرائض فذكر أحكامه ولما تمت الأحوال بغير جناية ذكر الجنايات الواقعة بين الناس فقال كتاب الحدود وذكر في آخره أحوال المرتدين ولما كان المرتد قد لا يكفر إذا كان مكرها قال كتاب الإكراه وكان المكره قد يضمر في نفسه حيلة دافعة فذكر الحيل وما يحل منها وما يحرم ولما كانت الحيل فيها ارتكاب ما يخفى أدرف ذلك بتعبير الرؤيا لأنها مما يخفي وإن ظهر للمعبر وقال الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} فأعقب ذلك بقوله:كتاب الفتن وكان من الفتن ما يرجع فيه إلى الحكام فهم الذين يسعون في تسكين الفتنة غالبا فقال كتاب الأحكام وذكر أحوال الأمراء والقضاة ولما كانت الإمامة والحكم قد يتمناها قوم أردف ذلك بكتاب التمني ولما كان مدار حكم الحكام في الغالب على أخبار الآحاد قال ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق ولما كانت الأحكام كلها تحتاج إلى الكتابة والسنة قال الاعتصام بالكتاب والسنة وذكر أحكام الاستنباط من الكتاب والسنة والاجتهاد وكراهية الاختلاف وكان أصل العصمة أولا وآخرا هو توحيد الله فختم بكتاب التوحيد وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر ثقل الموازين وخفتها فجعله آخر تراجم كتابه فقال باب قول الله تعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وأن أعمال بني آدم توزن فبدأ بحديث إنما الأعمال بالنيات وختم بأن أعمال بني آدم توزن وأشار بذلك إلى أنه إنما يتقبل منها ما كان بالنية الخالصة لله تعالى وهو حديث كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم فقوله كلمتان فيه ترغيب وتخفيف وقوله حبيبتان فيه حث على ذكرهما لمحبة الرحمن إياهما وقوله خفيفتان فيه حث بالنسبة إلى ما يتعلق بالعمل وقوله: "ثقيلتان فيه إظهار ثوابهما وجاء الترتيب بهذا الحديث على أسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال وبعد ذلك ثواب هاتين الكلمتين إلى يوم القيامة وهاتان الكلمتان معناهما جاء في ختام دعاء أهل الجنة ل قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
انتهى كلام الشيخ ملخصا ولقد أبدى فيه لطائف وعجائب جزاه الله خير بمنه وكرمه

(1/473)


ذكر عدة ما لكل صحابى في صحيح البخارى موصولا ومعلقا على ترتيب حروف المعجم وبه صحة عدده بلا تكرير
...
ذكر
عدة ما لكل صحابي في صحيح البخاري موصولا ومعلقا على ترتيب حروف المعجم
وبه يتبين صحة عدده بلا تكرير
وقد قدمت عن ابن الصلاح أنه قال يقال أنه أربعة آلاف وبذلك جزم الشيخ محي الدين في شرحه لكنه عبر بقوله: وجملة ما فيه بغير المكرر نحو أربعة آلاف وسيظهر لك أنه لا يبلغ هذا القدر ولا يقاربه والله الموفق أبي بن كعب سيد القراء سبعة أحاديث أسامة بن زيد بن حارثة ستة عشر حديثا وعده الحميدي سبعة عشر أسيد بن حضير الأنصاري حديث واحد الأشعث بن قيس الكندي حديث واحد أنس بن مالك الأنصاري مائتان وثمانية وستون حديثا ونقص الحميدي العدة لأنه بعد الحديثين إذا تقاربت ألفاظهما حديثا واحدا كما صنع في حديث الزهري عن أنس قال لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي وحديث محمد بن سيرين عن أنس في الحسين بن علي كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم فعد الحميدي هذين الحديثين حديثا واحدا مع اختلافهما في اللفظ والمعنى ويقع له عكس ذلك فلم افلده فيما عده والله الموفق أهبأن ابن أوس الأسلمي حديث واحد البراء بن عازب الأنصاري ثمانية وثلاثون حديثا بريدة بن الحصيب الأسلمي ثلاثة أحاديث بلال بن رباح المؤذن الحبشي ثلاثة أحاديث ثابت بن الضحاك الأنصاري حديثان ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري حديث واحد جابر بن سمرة بن جنادة الأنصاري السوائي حديثان جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري تسعون حديثا جبير بن مطعم النوفلي تسعة أحاديث جرير بن عبد الله البجلي عشرة أحاديث جندب بن عبد الله القسري ثمانية أحاديث حارثة بن وهب الخزاعي أربعة أحاديث حذيفة بن اليمان العبسي اثنان وعشرون حديثا حزن بن أبي وهب المخزومي حديثان حسأن ابن ثابت بن المنذر الأنصاري الشاعر حديث واحد حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي أربعة أحاديث خالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري سبعة أحاديث خالد بن الوليد المخزومي حديثان خباب بن الأرث الخزاعي خمسة أحاديث خفاف بن إيماء الغفاري الخزاعي ذكر المزي في الأطراف أن البخاري أخرج له حديثا والحديث الذي أشار إليه إنما هو من مسند ابنته رافع بن خديج بن رافع الأنصاري ستة أحاديث ووهم الحميدي فأسقط حديثا رافع بن مالك العجلاني الأنصاري حديث واحد في المغازي أنه كان يقول لابنه رفاعة وكان رفاعة شهد بدرا وأبوه رافع شهد العقبة ولم يشهد بدرا ما يسرني أني شهدت بدرا بالعقبة وهذا الحديث لم يذكره أصحاب الأطراف في كتبهم ولا أفرد من صنف في رجال البخاري لرافع هذا ترجمة وهو على شرطهم رفاعة بن رافع بن مالك ولد الذي قبله ثلاثة أحاديث الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي تسعة أحاديث زيد بن أرقم الأنصاري ستة أحاديث زيد بن ثابت الأنصاري ثمانية أحاديث زيد بن خالد الجهني خمسة أحاديث زيد بن الخطاب العدوي أخو عمر له حديث واحد زيد بن سهل أبو طلحة الأنصاري ثلاثة أحاديث السائب بن يزيد الكندي ستة أحاديث سراقة بن مالك بن جعشم حديث واحد سعد بن أبي وقاص الزهري عشرون حديثا سعد بن مالك أبو سعيد الخدري ستة وستون حديثا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ثلاثة أحاديث سفيان ابن

(1/474)


أبي زهير الأزدي حديثان سلمأن ابن عامر الضبي حديث واحد سلمان الفارسي أربعة أحاديث سلمة بن الأكوع الأسلمي عشرون حديثا سلمة الجرمي والد عمرو حديث واحد سليمان ابن صرد الخزاعي حديث واحد سمرة بن جنادة السوائي حديث واحد سمرة بن جندب الفزاري ثلاثة أحاديث سنين أبو جميلة السلمي حديث واحد سهل بن أبي حثمة الأنصاري ثلاثة أحاديث سهل بن حنيف الأنصاري أربعة أحاديث سهل بن سعد الساعد أحد وأربعون حديثا سويد بن النعمان الأنصاري حديث واحد شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري حديث واحد شيبة بن عثمان ابن أبي طلحة العبدري حديث واحد صخر بن حرب أبو سفيان الأموي حديث واحد عدي بن عجلان أبو أمامة الباهلي ثلاثة أحاديث الصعب بن جثامة الليثي ثلاثة أحاديث طلحة بن عبيد الله التيمي أحد العشرة أربعة أحاديث ظهير بن رافع الأنصاري حديث واحد عامر بن ربيعة العنزي حديثان عائذ بن عمرو المزني حديث واحد عبادة بن الصامت الأنصاري تسعة أحاديث العباس بن عبد المطلب بن هاشم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أحاديث عبد الله بن أبي أوفى خمسة عشر حديثا عبد الله بن بسر المازني حديث واحد عبد الله بن ثعلبة بن صغير حديث واحد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي حديثان عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري حديث واحد عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي عشرة أحاديث عبد الله بن زمعة بن الأسود الأسدي حديث واحد عبد الله بن زيد بن عاصم المازني تسعة أحاديث عبد الله بن سلام حديثان عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي مائتا حديث وسبعة عشر حديثا عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق بن أبي قحافة اثنان وعشرون حديثا عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي مائتان وسبعون حديثا عبد الله بن عمرو بن العاص ستة وعشرون حديثا عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري سبعة وخمسون حديثا عبد الله بن مالك الأزدي المعروف بابن بحينة أربعة أحاديث عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي أبو عبد الرحمن خمسة وثمانون حديثا عبد الله بن مغفل المزني ثمانية أحاديث عبد الله بن هشام بن زهرة التيمي ثلاثة أحاديث عبد الله بن يزيد الخطمي حديثان عبد الرحمن بن أبزي الخزاعي حديث واحد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثلاثة أحاديث أبو عبس بن جبر الأنصاري واسمه عبد الرحمن حديث واحد عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب العبشمي حديث واحد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة الزهري أحد العشرة تسعة أحاديث عتبأن ابن مالك الأنصاري حديث واحد عثمان ابن عفأن ابن أبي العاص بن أمية الأموي تسعة أحاديث عدي بن حاتم الطائي سبعة أحاديث عروة بن أبي الجعد البارقي حديثان عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل النوفلي ثلاثة أحاديث عقبة بن عامر الجهني تسعة أحاديث عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري البدري أحد عشر حديثا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي تسعة وعشرون حديثا عمار بن ياسر العبسي أربعة أحاديث عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي أمير المؤمنين ستون حديثا عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي حديثان عمرو بن أمية الضمري حديثان عمرو بن تغلب النمري حديثان عمرو بن الحارث المصطلقي حديث واحد عمرو بن العاص السهمي ثلاثة أحاديث عمرو بن عوف الأنصاري حديث واحد عمرأن ابن حصين الخزاعي اثنا عشر حديثا عوف بن مالك الأشجعي حديث واحد عويمر أبو الدرداء الأنصاري أربعة أحاديث العلاء بن الحضرمي حديث واحد الفضل بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي ثلاثة أحاديث قتادة بن النعمان الأنصاري حديث واحد قيس بن سعد بن

(1/475)


عبادة الخزرجي حديثان كعب بن عجرة البلوي حليف الأنصار حديثان كعب بن مالك الأنصاري أربعة أحاديث مالك بن الحويرث الليثي أربعة أحاديث مالك بن ربيعة أبو أسيد الساعدي أربعة أحاديث مالك بن صعصعة الأنصاري حديث واحد مجاشع بن مسعود السلمي حديث واحد أخوه مجالد حديث واحد محمد بن مسلمة الأنصاري حديث واحد محمود بن الربيع الأنصاري حديث واحد مرداس بن مالك الأسلمي حديث واحد مروأن ابن الحكم الأموي حديثان المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري ثمانية أحاديث المسيب بن حزن والد سعيد المخزومي ثلاثة أحاديث معاذ بن جبل الأنصاري ستة أحاديث معاوية بن أبي سفيان الأموي ثمانية أحاديث معقل بن يسار المزني حديثان معن ابن يزيد السلمي حديث واحد معيقيب الدوسي حديث واحد المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي أحد عشر حديثا المقداد بن الأسود الكندي حديث واحد المقدام بن معد يكرب الكندي حديثان نضلة بن عبيد أبو برزة الأسلمي أربعة أحاديث النعمان ابن بشير بن سعد الأنصاري ستة أحاديث النعمان ابن مقرن المزني حديث واحد نفيع بن الحارث أبو بكرة الثقفي أربعة عشر حديثا نوفل بن معاوية الديلي حديث واحد هانئ أبو بردة بن نيار الأنصاري حديث واحد واثلة بن الأسقع الليثي حديث واحد وحشي بن حرب الحبشي حديث واحد وهب بن عبد الله أبو جحيفة السوائي سبعة أحاديث يعلى بن أمية التميمي ثلاثة أحاديث

(1/476)


ذكر من لا يعرف اسمه أو اختلف فيه
أبو بشير الأنصاري حديث واحد أبو ثعلبة الخشني ثلاثة أحاديث أبو جهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري حديثان أبو حميد الساعدي أربعة أحاديث أبو ذر الغفاري أربعة عشر حديثا أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد أبو سعيد بن المعلى الأنصاري حديث واحد أبو شريح الخزاعي ثلاثة أحاديث أبو قتادة الأنصاري ثلاثة عشر حديثا أبو لبابة الأنصاري حديث واحد أبو هريرة الدوسي أربعمائة وستة وأربعون حديثا أبو واقد الليثي حديث واحد النساء أسماء بنت أبي بكر الصديق ستة عشر حديثا أسماء بنت عميس حديث واحد أميمة بنت خالد بن سعيد بن العاص أم خالد حديثان حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين خمسة أحاديث خنساء بنت خذام حديث واحد خولة بنت قيس الأنصارية حديث واحد الربيع بنت معوذ الأنصارية ثلاثة أحاديث رملة بنت أبي سفيان أم حبيبة أم المؤمنين حديثان زينب بنت جحش أم المؤمنين حديثان زينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد حديثان زينب الثقفية امرأة بن مسعود حديث واحد سبيعة بنت الحارث الأسلمية حديث واحد سودة بنت زمعة العامرية أم المؤمنين حديث واحد صفية بنت حيي أم المؤمنين حديث واحد صفية بنت شيبة العبدرية حديث واحد عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين مائتان واثنان وأربعون حديثا فاختة أم هانئ بنت أبي طالب الهاشمية حديثان فاطمة بنت قيس الفهرية حديث واحد فاطمة الزهراء بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد لبابة أم الفضل حديثان ميمونة بنت الحارث الهلالية

(1/476)


أم المؤمنين سبعة أحاديث نسيبة أم عطية الأنصارية خمسة أحاديث هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية أم سلمة أم المؤمنين ستة عشر حديثا أم حرام بنت ملحان حديثان أم رومان والدة عائشة حديثان أم سليم الأنصارية حديثان أم شريك العامرية حديث واحد أم العلاء الأنصارية حديث واحد أم قيس بنت محصن الأسدية حديثان أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط حديث واحد بنت خفاف بن أيماء حديث واحد فجميع ما في صحيح البخاري من المتون الموصولة بلا تكرير على التحرير ألفا حديث1 وستمائة حديث وحديثان ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع المذكور مائة وتسعة وخمسون حديثا فجميع ذلك ألفا حديثا وسبعمائة وأحد وستون حديثا وبين هذا العدد الذي حررته والعدد الذي ذكره بن الصلاح وغيره تفاوت كثير وما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك ثم تأولته على أنه يحتمل أن يكون العاد الأول الذي قلدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطولا في موضع ومختصرا في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول إما لبعد العهد به أو لقلة المعرفة بالصناعة ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير وحينئذ يتبين السبب في تفاوت ما بين العددين والله الموفق وإذا انتهى ما أردت تحريره من فصول هذه المقدمة فلنرجع إلى ما تقدم الوعد به من تحرير الترجمة فأقول
ـــــــ
1 قوله وستمائة حديث وحديثان وقوله بعد فجميع ذلك ألفا حديث الخ. كذا في نسخة وحاصل الجمع عليها صحيح وفي أخرى ألفا حديث وأربعمائة وأربعة وستون ثم قال فجميع ذلك ألفا حديث وستمائة وثلاثة وعشرون وهو صحيح أيضا على حدته فحرر العدد في العواقع. وقال في الفتح آخر كتاب التوحيد وجميع ما فيه موصولا ومعلقا بغير تكرار ألفا حديث وخمسمائة وثلاثة عشر حديثا

(1/477)


ذكر نسبه ومولده ومنشئه ومبدأ طلبه للحديث
...
ذكر نسبه ومولده ومنشئته ومبدأ طلبه للحديث
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي ولد يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارا قال المستنير بن عتيق أخرج لي ذلك محمد بن إسماعيل بخط أبيه وجاء ذلك عنه من طرق وجده بردزبه بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها هاء هذا هو المشهور في ضبطه وبه جزم بن ماكولا وقد جاء في ضبطه غير ذلك وبردزبه بالفارسية الزراع كذا ي قوله: "أهل بخارى وكان بردزبه فارسيا على دين قومه ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجعفي وأتى بخارى فنسب إليه نسبة ولاء عملا بمذهب من يرى أن من أسلم على يده شخص كان ولاؤه له وإنما قيل له الجعفي لذلك وأما ولده إبراهيم بن المغيرة فلم نقف على شيء من أخباره وأما والد محمد فقد ذكرت له ترجمة في كتاب الثقات لابن حبان فقال في الطبقة الرابعة إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري يروي عن حماد بن زيد ومالك وروى عنه العراقيون وذكره ولده في التاريخ الكبير فقال إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سمع من مالك وحماد بن زيد وصافح بن المبارك وسيأتي بعد قليل قول إسماعيل عند موته أنه لا يعلم في ماله حراما ولا شبهة ومات إسماعيل ومحمد صغير فنشأ في حجر أمه ثم حج مع أمه وأخيه أحمد وكان أسن منه فأقام

(1/477)


هو بمكة مجاورا يطلب العلم ورجع أخوه أحمد إلى بخارى فمات بها فروى غنجار في تاريخ بخاري واللالكائي في شرح السنة في باب كرامات الأولياء منه أن محمد بن إسماعيل ذهبت عيناه في صغره فرأت والدته الخليل إبراهيم في المنام فقال لها يا هذه قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك قال فأصبح وقد رد الله عليه بصره وقال الفربري سمعت محمد بن أبي حاتم وراق البخاري يقول سمعت البخاري يقول ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب قلت وكم أتى عليك إذ ذاك فقال عشر سنين أو أقل ثم خرجت من الكتاب فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم فقلت يا أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني فقلت له ارجع إلى الأصل إن كان عندك فدخل فنظر فيه ثم رجع فقال كيف هو يا غلام فقلت هو الزبير وهو بن عدي عن إبراهيم فأخذ القلم وأصلح كتابه وقال لي صدقت قال فقال له أنسيأن ابن كم حين رددت عليه فقال ابن إحدى عشرة سنة قال فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب بن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء يعني أصحاب الرأي قال ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج قلت فكان أول رحلته على هذا سنة عشر ومائتين ولو رحل أول ما طلب لأدرك ما أدركته أقرانه من طبقة عالية ما أدركها وإن كان أدرك ما قاربها كيزيد بن هارون1 وأبي داود الطيالسي2 وقد أدرك عبد الرزاق وأراد أن يرحل إليه وكان يمكنه ذلك فقيل له إنه مات فتأخر عن التوجه إلى اليمن ثم تبين أن عبد الرزاق كان حيا فصار يروي عنه بواسطة قال فلما طعنت في ثماني عشرة وصنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين ثم صنفت التاريخ في المدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتبه في الليالي المقمرة قال وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت أن يطول الكتاب وقال سهب بن السري قال البخاري دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين وإلى البصرة أربع مرات وأقمت بالحجاز ستة أعوام ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين وقال حاشد بن إسماعيل كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فلمناه بعد ستة عشر يوما فقال قد أكثرتم علي فاعرضوا علي ما كتبتم فأخرجناه فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه وقال أبو بكر بن أبي عياش الأعين كتبنا عن محمد بن إسماعيل وهو أمرد على باب محمد بن يوسف الفريابي قلت كان موت الفريابي سنة اثنتي عشرة ومائتين وكان سن البخاري إذ ذاك نحوا من ثمانية عشر عاما أو دونها وقال محمد بن الأزهر السجستاني كنت في مجلس سليمان ابن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب فقيل لبعضهم ماله لا يكتب فقال يرجع إلى بخاري ويكتب من حفظه وقال محمد بن أبي حاتم عن البخاري كنت في مجلس الفريابي فقال حدثنا سفيان عن أبي عروة عن أبي الخطاب عن أبي حمزة فلم يعرف أحد في المجلس من فوق سفيان فقلت لهم أبو عروة هو معمر بن راشد وأبو الخطاب هو قتادة بن دعامة وأبو حمزة هو أنس بن مالك قال وكان الثوري فعولا لذلك يكنى المشهورين
ـــــــ
1 في شذرات الذهب (1:16) أن وفاة يزيد بن هارون سنة 206 والبخاري حج سنة 210.
2 وفاته سنة 204.

(1/478)


ذكر
مراتب مشايخه الذين كتب عنهم وحدث عنهم
قد تقدم التنبيه على كثرتهم وعن محمد بن أبي حاتم عنه قال كتبت عن ألف وثمانين نفسا ليس فيهم إلا صاحب حديث وقال أيضا لم أكتب إلا عمن قال الإيمان قول وعمل قلت وينحصرون في خمس طبقات "الطبقة الأولى" من حدثه عن التابعين مثل محمد بن عبد الله الأنصاري حدثه عن حميد ومثل مكي بن إبراهيم حدثه عن يزيد بن أبي عبيد ومثل أبي عاصم النبيل حدثه عن يزيد بن أبي عبيد أيضا ومثل عبيد الله بن موسى حدثه عن إسماعيل بن أبي خالد ومثل أبي نعيم حدثه عن الأعمش ومثل خلاد بن يحيى حدثه عن عيسى بن طهمان ومثل على بن عياش وعصام بن خالد حدثاه عن حريز بن عثمان وشيوخ هؤلاء كلهم من التابعين "الطبقة الثانية" من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم بن أبي إياس وأبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر وسعيد بن أبي مريم وأيوب بن سليمان ابن بلال وأمثالهم "الطبقة الثالثة" هي الوسطى من مشايخه وهم من لم يلق التابعين بل أخذ عن كبار تبع الأتباع كسليمان ابن حرب وقتيبة بن سعيد ونعيم بن حماد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة وأمثال هؤلاء وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم "الطبقة الرابعة" رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلا كمحمد بن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة وعبد بن حميد وأحمد بن النضر وجماعة من نظرائهم وإنما يخرج عن هؤلاء ما فاته عن مشايخه أو ما لم يجده عند غيرهم "الطبقة الخامسة" قوم في عداد طلبته في السن والإسناد سمع منهم للفائدة كعبد الله بن حماد الآملي وعبد الله بن أبي العاص الخوارزمي وحسين بن محمد القباني وغيرهم وقد روى عنهم أشياء يسيرة وعمل في الرواية عنهم بما روى عثمان ابن أبي شيبة عن وكيع قال لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه وعن البخاري أنه قال لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه

(1/479)


ذكر
سيرته وشمائله وزهده وفضائله
قال وراقه سمعت محمد بن خراش يقول سمعت أحيد بن حفص يقول دخلت على إسماعيل والد أبي عبد الله عند موته فقال لا أعلم من مالي درهما من حرام ولا درهما من شبهة قلت وحكى وراقه أنه ورث من أبيه مالا جليلا وكان يعطيه مضاربة فقطع له غريم خمسة وعشرين ألفا فقيل له استعن بكتاب الوالي فقال إن أخذت منهم كتابا طمعوا ولن أبيع ديني بدنياي ثم صالح غريمه على أن يعطيه كل شهر عشرة دراهم وذهب ذلك المال كله وقال سمعته يقول ما توليت شراء شيء قط ولا بيعه كنت آمر إنسانا فيشتري لي قيل له ولم قال لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط وقال غنجار في تاريخه حدثنا أحمد بن محمد بن عمر المقري حدثنا أبو سعيد بكر بن منير قال كان حمل إلى محمد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه أبو حفص فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية وطلبوهما منه بربح

(1/479)


خمسة آلاف درهم فقال لهم انصرفوا الليلة فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف درهم فردهم وقال أني نويت البارحة أن أدفعها إلى الأولين فدفعها إليهم وقال لا أحب أن أنقض نيتي وقال وراق البخاري سمعته يقول خرجت إلى آدم بن أبي إياس فتأخرت نفقتي حتى جعلت أتناول حشيش الأرض فما كان في اليوم الثالث أتاني رجل لا أعرفه فأعطاني صرة فيها دنانير قال وسمعته يقول كنت أستغل في كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب وما عند الله خير وأبقى وقال عبد الله بن محمد الصيارفي كنت عند محمد بن إسماعيل في منزله فجاءته جاريته وأرادت دخول المنزل فعثرت على محبرة بين يديه فقال لها كيف تمشين قالت إذا لم يكن طريق كيف أمشي فبسط يديه وقال اذهبي فقد أعتقتك قيل له يا أبا عبد الله أغضبتك قال فقد أرضيت نفسي بما فعلت وقال وراق البخاري رأيته استلقى ونحن بفربر في تصنيف كتاب التفسير وكان أتعب نفسه في ذلك اليوم في التخريج فقلت له أني سمعتك تقول ما أتيت شيئا بغير علم فما الفائدة في الاستلقاء قال أتعبت نفسي اليوم وهذا ثغر خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو فأحببت أن أستريح وآخذ أهبة فإن غافصنا العدو كأن ابنا حراك قال وكان يركب إلى الرمي كثيرا فما أعلم أني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين بل كان يصيب في كل ذلك ولا يسبق قال وركبنا يوما إلى الرمي ونحن بفربر فخرجنا إلى الدرب الذي يؤدي إلى الفرصة فجعلنا نرمي فأصاب سهم أبي عبد الله وتد القنطرة التي على النهر فانشق الوتد فلما رأى ذلك نزل على دابته فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي وقال لنا ارجعوا فرجعنا فقال لي يا أبا جعفر لي إليك حاجة وهو يتنفس الصعداء فقلت نعم قال تذهب إلى صاحب القنطرة فتقول إنا أخللنا بالوتد فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حل مما كان منا وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر فقال لي أبلغ أبا عبد الله السلام وقل له أنت في حل مما كان منك فإن جميع ملكي لك الفداء فأبلغته الرسالة فتهلل وجهه وأظهر سرورا كثيرا وقرأ ذلك اليوم للغرباء خمسمائة حديث وتصدق بثلثمائة درهم قال وسمعته يقول لأبي معشر الضرير اجعلني في حل يا أبا معشر فقال من أي شيء فقال رويت حديثا يوما فنظرت إليك وقد أعجبت به وأنت تحرك رأسك ويديك فتبسمت من ذلك قال أنت في حل يرحمك الله يا أبا عبد الله قال وسمعته يقول دعوت ربي مرتين فاستجاب لي يعني في الحال فلن أحب أن أدعو بعد فلعله ينقص حسناتي قال وسمعته يقول لا يكون لي خصم في الآخرة فقلت إن بعض الناس ينقمون عليك التاريخ يقولون فيه اغتياب الناس فقال إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "بئس أخو العشيرة" قال وسمعته يقول ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة حرام قلت والبخاري في كلامه على الرجال توق زائد وتحر بليغ يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل فإن أكثر ما يقول سكتوا عنه فيه نظر تركوه ونحو هذا وقل أن يقول كذاب أو وضاع وإنما يقول كذبه فلان رماه فلان يعني بالكذب أخبرني أحمد بن عمر اللؤلؤي عن الحافظ أبي الحجاج المزي أن أبا الفتح الشيباني أخبره أخبرنا أبو اليمان الكندي أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا الخطيب أبو بكر بن ثابت أخبرني أبو الوليد الدربندي أخبرنا محمد بن أحمد بن سليمان حدثنا أحمد بن محمد بن عمر سمعت بكر بن منير يقول سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول أني لأرجو أن ألقي الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا وبه إلى أبي بكر بن منير قال كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة فلما قضى صلاته قال انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي فنظروا فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة

(1/480)


عشر موضعا ولم يقطع صلاته قلت وريناها عن محمد بن أبي حاتم وراقه وقال في آخرها كنت في آية فأحببت أن أتمها وقال وراقه أيضا كنا بفربر وكان أبو عبد الله يبني رباطا مما يلي بخارى فاجتمع بشر كثير يعينونه على ذلك وكان ينقل اللبن فكنت أقول له يا أبا عبد الله إنك تكفي ذلك فيقول هذا الذي ينفعني قال وكان ذبح لهم بقرة فلما أدركت القدور دعا الناس إلى الطعام فكان معه مائة نفس أو أكثر ولم يكن علم أنه يجتمع ما اجتمع وكنا أخرجنا معه من فربر خبزا بثلاثة دراهم وكان الخبز إذ ذاك خمسة أمنان بدرهم فألقيناه بين أيديهم فأكل جميع من حضر وفضلت أرغفة صالحة وقال وكان قليل الأكل جدا كثير الإحسان إلى الطلبة مفرط الكرم وحكى أبو الحسن يوسف بن أبي ذر البخاري أن محمد بن إسماعيل مرض فعرضوا ماءه على الأطباء فقالوا إن هذا الماء يشبه ماء بعض أساقفة النصارى فإنهم لا يأتدمون فصدقهم محمد بن إسماعيل وقال لم آتدم منذ أربعين سنة فسألوه عن علاجه فقالوا علاجه الآدم فامتنع حتى ألح عليه المشايخ وأهل العلم فأجابهم إلى أن يأكل مع الخبز سكرة وقال الحاكم أبو عبد الله الحافظ أخبرني محمد بن خالد حدثنا مقسم بن سعد قال كان محمد بن إسماعيل البخاري إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلى بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية وكذلك إلى أن يختم القرآن وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة ويقول عند كل ختمة دعوة مستجابة وقال محمد بن أبي حاتم الوراق كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ فكنت أراه يقوم في الليلة الواحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا بيده ويسرج ويخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه فقلت له إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني قال أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك قال وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة ويوتر منها بواحدة قال وكان معه شيء من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في ملبوسه قال وسمعته يقول وقد سئل عن خبر حديث يا أبا فلان تراني أدلس وقد تركت عشرة آلاف حديث لرجل فيه نظر وتركت مثلها أو أكثر منها لغيره لي فيه نظر وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي السليماني سمعت علي بن محمد بن منصور يقول سمعت أبي يقول كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري فرفع إنسان من لحيته قذاة وطرحها إلى الأرض قال فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته وأخرج الحاكم في تاريخه من شعره
قوله: "
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلته
قلت وكان من العجائب أنه هو وقع له ذلك أو قريبا منه كما سيأتي في ذكر وفاته ولما نعي إليه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ أنشد:
إن عشت تفجع بالأحبة كلهم ... وبقاء نفسك لا أبا لك أفجع

(1/481)


ذكر
ثناء الناس عليه وتعظيمهم له
فأولهم مشايخه قال سليمان ابن حرب ونظر إليه يوما فقال هذا يكون له صيت وكذا قال أحمد بن حفص نحوه وقال البخاري كنت إذا دخلت على سليمان ابن حرب يقول بين لنا غلط شعبة و قال محمد بن أبي حاتم سمعت البخاري يقول كان إسماعيل بن أبي أويس إذا انتخبت من كتابه نسخ تلك الأحاديث لنفسه وقال هذه الأحاديث انتخبها محمد بن إسماعيل من حديثي قال وسمعته يقول اجتمع أصحاب الحديث فسألوني أن أكلم لهم إسماعيل بن أبي أويس ليزيدهم في القراءة ففعلت فدعا الجارية فأمرها أن تخرج صرة دنانير وقال يا أبا عبد الله فرقها عليهم قلت إنما أرادوا الحديث قال أجبتك إلى ما طلبوا من الزيادة غير أني أحب أن يضم هذا إلى ذاك قال وقال لي بن أبي أويس أنظر في كتبي وجميع ما أملك لك وأنا شاكر لك أبدا ما دمت حيا وقال حاشد بن إسماعيل قال لي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري محمد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث من أحمد بن حنبل فقال له رجل من جلسائه جاوزت الحد فقال له أبو مصعب لو أدركت مالكا ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلت كلاهما واحد في الحديث والفقه قلت عبر بقوله ونظرت إلى وجهه عن التأمل في معارفه وقال عبدأن ابن عثمان المروزي ما رأيت بعيني شابا أبصر من هذا وأشار إلى محمد بن إسماعيل وقال محمد بن قتيبة البخاري كنت عند أبي عاصم النبيل فرأيت عنده غلاما فقلت له من أين قال من بخارى قلت بن من قال ابن إسماعيل فقلت أنت من قرابتي فقال لي رجل بحضرة أبي عاصم هذا الغلام يناطح الكباش يعني يقاوم الشيوخ وقال قتيبة بن سعيد جالست الفقهاء والزهاد والعباد فما رأيت منذ علقت مثل محمد بن إسماعيل وهو في زمانه كعمر في الصحابة وعن قتيبة أيضا قال لو كان محمد بن إسماعيل في الصحابة لكان آية وقال محمد بن يوسف الهمداني كنا عند قتيبة فجاء رجل شعراني يقال له أبو يعقوب فسأله عن محمد بن إسماعيل فقال يا هؤلاء نظرت في الحديث ونظرت في الرأي وجالست الفقهاء والزهاد والعباد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل قال وسأل قتيبة عن طلاق السكران فدخل محمد بن إسماعيل فقال قتيبة للسائل هذا أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني قد ساقهم الله إليك وأشار إلى البخاري وقال أبو عمرو الكرماني حكيت لمهيار بالبصرة عن قتيبة بن سعيد أنه قال لقد رحل إلي من شرق الأرض ومن غربها فما رحل إلي مثل محمد بن إسماعيل فقال مهيار صدق قتيبة أنا رأيته مع يحيى بن معين وهما جميعان يختلفان إلى محمد بن إسماعيل فرأيت يحيى منقادا له في المعرفة وقال إبراهيم بن محمد بن سلام كان الرتوت من أصحاب الحديث مثل سعيد بن أبي مريم وحجاج بن منهال وإسماعيل بن أبي أويس والحميدي ونعيم بن حماد والعدني يعني محمد بن يحيى بن أبي عمر والخلال يعني الحسين بن علي الحلواني ومحمد بن ميمون هو الخياط وإبراهيم بن المنذر وأبي كريب محمد بن العلاء وأبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج وإبراهيم بن موسى هو الفراء وأمثالهم يقضون لمحمد بن إسماعيل على أنفسهم في النظر والمعرفة قلت الرتوت بالراء المهملة والتاء المثناة من فوق وبعد الواو مثناة أخرى هم الرؤساء قال ابن الأعرابي وغيره وقال أحمد بن حنبل ما أخرجت خراسان مثل محمد

(1/482)


ابن إسماعيل رواها الخطيب بسند صحيح عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ولما سأله ابنه عبد الله عن الحفاظ فقال شبان من خراسان فعده فيهم فبدأ به وقال يعقوب بن إبراهيم الدورقي ونعيم بن حماد الخزاعي محمد بن إسماعيل البخاري ففيه هذه الأمة وقال ابندار محمد بن بشار هو أفقه خلق الله في زماننا وقال الفربري سمعت محمد بن أبي حاتم يقول سمعت حاشد بن إسماعيل يقول كنت بالبصرة فسمعت بقدوم محمد بن إسماعيل فلما قدم قال محمد بن بشار قدم اليوم سيد الفقهاء وقال محمد بن إبراهيم البوشنجي سمعت بندارا سنة ثمان وعشرين يقول ما قدم علينا مثل محمد بن إسماعيل وقال ابندار أنا أفتخر به منذ سنين وقال موسى بن قريش قال عبد الله بن يوسف التنيسي للبخاري يا أبا عبد الله أنظر في كتبي وأخبرني بما فيها من السقط فقال نعم وقال البخاري دخلت على الحميدي وأنا بن ثمان عشرة سنة يعني أول سنة حج فإذا بينه وبين آخر اختلاف في حديث فلما بصر بي قال جاء من يفصل بيننا فعرضا علي الخصومة فقضيت للحميدي وكان الحق معه وقال البخاري قال لي محمد بن سلام البيكندي أنظر في كتبي فما وجدت فيها من خطأ فاضرب عليه فقال له بعض أصحابه من هذا الفتى فقال هذا الذي ليس مثله وكان محمد بن سلام المذكور يقول كلما دخل على محمد بن إسماعيل تحيرت ولا أزال خائفا منه يعني يخشى أن يخطىء بحضرته وقال سليم بن مجاهد كنت عند محمد بن سلام فقال لي لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث وقال حاشد بن إسماعيل رأيت إسحاق بن راهويه جالسا على المنبر والبخاري جالس معه وإسحاق يحدث فمر بحديث فأنكره محمد فرجع إسحاق إلى قوله وقال يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه فإنه لو كان في زمن الحسن بن أبي الحسن البصري لاحتاج إليه لمعرفته بالحديث وفقهه وقال البخاري أخذ إسحاق بن راهويه كتاب التاريخ الذي صنفته فأدخله على عبد الله بن طاهر الأمير فقال أيها الأمير إلا أريك سحرا وقال أبو بكر المديني كنا يوما عند إسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل حاضر فمر إسحاق بحديث ودون صحابيه عطاء الكنجاراني فقال له إسحاق يا أبا عبد الله إيش هي كنجاران قال قرية باليمن كان معاوية بعث هذا الرجل الصحابي إلى اليمن فسمع منه عطاء هذا حديثين فقال له إسحاق يا أبا عبد الله كأنك شهدت القوم وقال البخاري كنت عند إسحاق بن راهويه فسئل عمن طلق ناسيا فسكت طويلا مفكرا فقلت أنا قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" وإنما يراد مباشرة هؤلاء الثلاث العمل والقلب أو الكلام والقلب وهذا لم يعتقد بقلبه فقال إسحاق قويني قواك الله وأفتي به وقال أبو الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري حدثني فتح بن نوح النيسابوري قال أتيت علي بن المديني فرأيت محمد بن إسماعيل جالسا عن يمينه وكان إذا حدث ألتفت إليه مهابة له وقال البخاري ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني وربما كنت أغرب عليه قال حامد بن أحمد فذكر هذا الكلام لعلي بن المديني فقال لي دع قوله هو ما رأى مثل نفسه وقال البخاري أيضا كان علي بن المديني يسألني عن شيوخ خراسان فكنت أذكر له محمد بن سلام فلا يعرفه إلى أن قال لي يوما يا أبا عبد الله كل من أثنيت عليه فهو عندنا الرضى وقال البخاري ذاكرني أصحاب عمرو بن علي الفلاس بحديث فقلت لا أعرفه فسروا بذلك وصاروا إلى عمرو بن علي فقالوا له ذاكرنا محمد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه فقال عمرو بن علي حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث وقال أبو عمرو الكرماني سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول صديقي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ليس بخراسان مثله وقال رجاء بن رجاء الحافظ فضل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء وقال

(1/483)


أيضا هو آية من آيات الله تمشي على ظهر الأرض وقال الحسين بن حريث لا أعلم أني رأيت مثل محمد بن إسماعيل كأنه لم يخلق إلا للحديث وقال أحمد بن الضوء سمعت أبا بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير يقولان ان ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل وكان أبو بكر بن أبي شيبة يسميه البازل يعني الكامل وقال أبو عيسى الترمذي كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير فقال له لما قام يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة قال أبو عيسى فاستجاب الله تعالى فيه وقال أبو عبد الله الفريري رأيت عبد الله بن منير يكتب عن البخاري وسمعته يقول أنا من تلامذته قلت عبد الله بن منير من شيوخ البخاري قد حدث عنه في الجامع الصحيح وقال لم أر مثله وكانت وفاته سنة مات أحمد بن حنبل وقال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت يحيى بن جعفر البيكندي يقول لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم وقال أيضا سمعته يقول له لولا أنت ما استطبت العيش ببخارا وقال عبد الله بن محمد المسندي محمد بن إسماعيل إمام فمن لم يجعله إماما فاتهمه وقال أيضا حفاظ زماننا ثلاثة فبدأ بالبخاري وقال علي بن حجر أخرجت خراسان ثلاثة البخاري فبدأ به قال وهو أبصرهم وأعلمهم بالحديث وأفقههم قال ولا أعلم أحدا مثله وقال أحمد بن إسحاق السرماري من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه فلينظر إلى محمد بن إسماعيل وقال حاشد رأيت عمرو بن زرارة ومحمد بن رافع عند محمد بن إسماعيل وهما يسألانه عن علل الحديث فلما قاما قالا لمن حضر المجلس لا تخدعوا عن أبي عبد الله فإنه أفقه منا وأعلم وأبصر قال وكنا يوما عند إسحاق بن راهويه وعمرو بن زرارة وهو يستملي على أبي عبد الله وأصحاب الحديث يكتبون عنه وإسحاق يقول هو أبصر مني وكان أبو عبد الله إذ ذاك شابا وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي أخبرني عبد الله بن محمد الفرهياني قال حضرت مجلس بن أشكاب فجاءه رجل ذكر اسمه من الحفاظ فقال ما لنا بمحمد بن إسماعيل من طاقة فقام بن أشكاب وترك المجلس غضبا من التكلم في حق محمد بن إسماعيل وقال عبد الله بن محمد بن سعيد بن جعفر لما مات أحمد بن حرب النيسابوري ركب إسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل يشيعان جنازته وكنت أسمع أهل المعرفة ينظرون ويقولون محمد أفقه من إسحاق

(1/484)


ذكر
طرف من ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه تنبيها بالبعض على الكل
قال أبو حاتم الرازي لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل ولا قدم منها إلى العراق أعلم منه وقال محمد بن حريث سألت أبا زرعة عن أبي لهيعة فقال لي تركه أبو عبد الله يعني البخاري وقال الحسين بن محمد بن عبيد المعروف بالعجلي ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل ومسلم حافظ ولكنه لم يبلغ مبلغ محمد بن إسماعيل قال العجلي ورأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إليه وكان أمة من الأمم دينا فاضلا يحسن كل شيء وكان أعلم من محمد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل وقال أيضا هو أعلمنا وأفقهنا وأكثرنا طلبا وسئل الدارمي عن حديث وقيل له إن البخاري صححه فقال محمد بن إسماعيل أبصر مني وهو أكيس خلق الله عقل عن الله

(1/484)


ما أمر به ونهى عنه من كتابه وعلى لسان نبيه إذا قرأ محمد القرآن شغل قلبه وبصره وسمعه وتفكر في أمثاله وعرف حلاله من حرامه وقال أبوالطيب حاتم بن منصور كان محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه في العلم وقال أبو سهل محمود بن النضر الفقيه دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم وقال أبو سهل أيضا سمعت أكثر من ثلاثين عالما من علماء مصر يقولون حاجتنا في الدنيا النظر إلى محمد بن إسماعيل وقال صالح بن محمد جزرة ما رأيت خراسانيا أفهم من محمد بن إسماعيل وقال أيضا كان أحفظهم للحديث قال وكنت أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفا وسئل الحافظ أبو العباس الفضل بن العباس المعروف بفضلك الرازي أيما أحفظ محمد بن إسماعيل أو أبو زرعة فقال لم أكن التقيت مع محمد بن إسماعيل فاستقبلني ما بين حلوان وبغداد قال فرجعت معه مرحلة وجهدت كل الجهد على أن آتي بحديث لا يعرفه فما أمكنني وها أنا ذا أغرب على أبي زرعة عدد شعر رأسه وقال حمد بن عبد الرحمن الدغولي كتب أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل البخاري كتابا فيه
المسلمون بخير ما بقيت لهم ...
وليس بعدك خير حين تفتقد
وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل وقال أبو عيسى الترمذي لم أر أعلم بالعلل والأسانيد من محمد بن إسماعيل البخاري وقال له مسلم أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك وقال أحمد بن سيار في تاريخ مر ومحمد بن إسماعيل البخاري طلب العلم وجالس الناس ورحل في الحديث ومهر فيه وأبصر وكان حسن المعرفة حسن الحفظ وكان يتفقه وقال أبو أحمد بن عدي كان يحيى بن محمد بن صاعد إذا ذكر البخاري قال ذاك الكبش النطاح وقال أبو عمرو الخفاف حدثنا التقي النقي العالم الذي لم أر مثله محمد بن إسماعيل قال وهو أعلم بالحديث من أحمد وإسحاق وغيرهما بعشرين درجة ومن قال فيه شيئا فعليه مني ألف لعنة وقال أيضا لو دخل من هذا الباب وأنا أحدث لملئت منه رعبا وقال عبد الله بن حماد الأبلي لوددت أني كنت شعرة في جسد محمد بن إسماعيل وقال سليم بن مجاهد ما رأيت منذ ستين سنة أحد أفقه ولا أورع من محمد بن إسماعيل وقال موسى بن هارون الحمال الحافظ البغدادي عندي لو أن أهل الإسلام اجتمعوا على أن يصيبوا آخر مثل محمد بن إسماعيل لما قدروا عليه وقال عبد الله بن محمد بن سعيد بن جعفر سمعت العلماء بمصر يقولون ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح ثم قال عبد الله وأنا أقول قولهم وقال الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة لو أن رجلا كتب ثلاثين ألف حديث لما استغنى عن تاريخ محمد بن إسماعيل وقال الحاكم أبو أحمد في الكنى كان أحد الأئمة في معرفة الحديث وجمعه ولو قلت أني لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة لفعلت ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفنى القرطاس ونفذت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له وإنما ذكرت كلام بن عقدة وأبي أحمد عنوانا لذلك وبعد ما تقدم من ثناء كبار مشايخه عليه لا يحتاج إلى حكاية من تأخر لأن أولئك إنما أثنوا بما شاهدوا ووصفوا ما علموا بخلاف من بعدهم فإن ثناءهم ووصفهم مبني على الاعتماد على ما نقل إليهم وبين المقامين فرق ظاهر وليس العيان كالخبر

(1/485)


ذكر جمل من الأخبار الشاهدة لسمة حفظه وسيلان ذهنه واطلاعه على العلل سوى ما تقدم
...
ذكر
جمل من الأخبار الشاهدة لسعة حفظه وسيلان ذهنه واطلاعه على العلل سوى ما تقدم
أخبرني أبو العباس البغدادي عن الحافظ أبي الحجاج المزي أن أبا الفتح الشيباني أخبره أخبرنا أبو اليمان الكندي أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا الخطيب أبو بكر بن ثابت الحافظ حدثني محمد بن الحسن الساحلي حدثنا أحمد بن الحسين الرازي سمعت أبا أحمد بن عدي الحافظ يقول سمعت عدة من مشايخ بغداد يقولون إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس لكل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا عليه الموعد للمجلس فحضروا وحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري لا أعرفه فما زال يلقى عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ البخاري يقول لا أعرفه وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون فهم الرجل ومن كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ ثم انتدب رجل من العشرة أيضا فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فلم يزل يلقي عليه واحدا واحدا حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه فلما علم أنهم قد فرغوا إلتفت إلى الأول فقال أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل قلت هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة وروينا عن أبي بكر الكلوذاني قال ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الأحاديث من مرة واحدة وقد سبق ما حكاه حاشد بن إسماعيل في أيام طلبهم بالبصرة معه وكونه كان يحفظ ما يسمع ولا يكتب وقال أبو الأزهر كان بسمرقند أربعمائة محدث فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد العراق في إسناد الشام وإسناد الحرم في إسناد اليمن فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة وقال غنجار في تاريخه سمعت أبا القاسم منصور بن إسحاق بن إبراهيم الأسدي يقول سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم يقول سمعت يوسف بن موسى المروزي يقول كنت بالبصرة في جامعها إذ سمعت مناديا ينادي يا أهل العلم لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فقاموا إليه وكنت معهم فرأينا رجلا شابا ليس في لحيته بياض فصلى خلف الأسطوانة فلما فرغ أحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلسا للإملاء فأجابهم إلى ذلك فقام المنادي ثانيا في جامع البصرة فقال يا أهل العلم لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فسألناه أن يعقد مجلس الإملاء فأجاب بأن

(1/486)


يجلس غدا في موضع كذا فلما كان الغد حضر المحدثون والحفاظ والفقهاء والنظارة حتى اجتمع قريب من كذا كذا ألف نفس فجلس أبو عبد الله للإملاء فقال قبل أن يأخذ في الإملاء يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها يعني ليست عندكم قال فتعجب الناس من قوله: "فأخذ في الإملاء فقال حدثنا عبد الله بن عثمان ابن جبلة بن أبي رواد العتكي ببلدكم قال حدثني أبي عن شعبة عن منصور وغيره عن سالم بن أبي الجعد عن أنس بن مالك أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم " فقال يا رسول الله الرجل يحب القوم" الحديث ثم قال هذا ليس عندكم عن منصور إنما هو عندكم عن غير منصور قال يوسف بن موسى فأملى عليهم مجلسا من هذا النسق يقول في كل حديث روى فلان هذا الحديث عندكم كذا فأما من رواية فلان يعني التي يسوقها فليست عندكم وقال حمدويه بن الخطاب لما قدم البخاري قدمته الأخيرة من العراق وتلقاه من تلقاه من الناس وازدحموا عليه وبالغوا في بره قيل له في ذلك فقال كيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة كأنه يشير إلى قصة دخوله التي ذكرها يوسف بن موسى أنبئت عن أبي نصر بن الشيرازي عن جده أن الحافظ أبا القاسم بن عساكر أخبرنا إسماعيل بن أبي صالح أنبأنا أبو بكر بن خلف أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ح وقرأته عاليا على أبي بكر الفرضي عن القاسم بن مظفر أخبرنا علي بن الحسين بن علي عن الحافظ أبي الفضل بن ناصر وأبي الفضل الميهني قالا أخبرنا أبو بكر بن خلف قال ابن ناصر إجازة أخبرنا الحاكم قال حدثني أبو سعيد أحمد بن محمد النسوي حدثني أبو حسان مهيب بن سليم سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي أفطرت يا أبا عبد الله فقلت نعم فقال يعني تعجلت في قبول الرخصة فقلت أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء من أي المرض أفطر قال من أي مرض كان كما قال الله عز وجل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} قال البخاري لم يكن هذا عند إسحاق وقال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت محمد بن إسماعيل يقول لو نشر بعض أستاري1 هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت البخاري ولا عرفوه ثم قال صنفته ثلاث مرات وقال أحيد بن أبي جعفر وإلي بخارى قال لي محمد بن إسماعيل يوما رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت له يا أبا عبد الله بتمامه فسكت وقال سليم بن مجاهد قال لي محمد بن إسماعيل لا أجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم ولست أروي حديثا من حديث الصحابة والتابعين يعني من الموقوفات إلا وله أصل أحفظ ذلك عن كتاب الله وسنة رسوله وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي قدم علينا محمد بن إسماعيل فقال له رجل من أصحابنا سمعت إسحاق بن راهويه يقول كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي فقال له محمد بن إسماعيل أو تعجب من هذا القول لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف ألف من كتابه وإنما عني نفسه وقال محمد بن حمدويه سمعت البخاري يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح قال وراقه سمعته يقول ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الحديث فإذا نحو مائتي ألف حديث وقال أيضا لو قيل لي تمن لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة وقال أيضا قلت له تحفظ جميع ما أدخلت في مصنفاتك فقال لا يخفي علي جميع ما فيها وصنفت جميع كتبي ثلاث مرات قال وبلغني أنه شرب البلاذر فقلت له مرة في خلوة هل من دواء للحفظ فقال لا أعلم ثم أقبل علي فقال لا أعلم شيئا أنفع للحفظ
ـــــــ
1 ولعله أستاذي

(1/487)


من نهمة الرجل ومداومة النظر وقال أقمت بالمدينة بعد أن حججت سنة حردا أكتب الحديث قال وأقمت بالبصرة خمس سنين معي كتبي أصنف وأحج وأرجع من مكة إلى البصرة قال وأنا أرجو أن يبارك الله تعالى للمسلمين في هذه المصنفات وقال البخاري تذكرت يوما أصحاب أنس فحضرني في ساعة ثلاثمائة نفس وما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به وقال وراقه عمل كتابا في الهبة فيه نحو خمسمائة حديث وقال ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان أو ثلاثة وفي كتاب بن المبارك خمسة أو نحوها وقال أيضا ما جلست للتحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم وحتى نظرت في كتب أهل الرأي وما تركت بالبصرة حديثا إلا كتبته قال وسمعته يقول لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة قال فقلت له يمكن معرفة ذلك قال نعم وقال أحمد بن حمدون الحافظ رأيت البخاري في جنازة ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والعلل والبخاري يمر فيه مثل السهم كأنه يقرأ قل هو الله أحد وقرأت على عبد الله بن محمد المقدسي عن أحمد بن نعمة شفاها عن جعفر بن علي مكاتبة أن السلفي أخبرهم أخبرنا أبو الفتح المالكي أخبرنا أبو يعلى الخليل بن عبد الله الحافظ أخبرني أبو محمد المخلدي في كتابه أخبرنا أبو حامد الأعمش الحافظ قال كنا يوما عند محمد بن إسماعيل البخاري بنيسابور فجاء مسلم بن الحجاج فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ومعنا أبو عبيدة الحديث بطوله فقال البخاري حدثنا بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان ابن بلال عن عبيد الله فذكر الحديث بتمامه قال فقرأ عليه إنسان حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كفارة المجلس إذا قام العبد "أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" فقال له مسلم في الدنيا أحسن من هذا الحديث بن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثا فقال محمد بن إسماعيل إلا أنه معلول فقال مسلم لا إله إلا الله وارتعد أخبرني به فقال أستر ما ستر الله هذا حديث جليل رواه الناس عن حجاج بن محمد عن ابن جريج فألح عليه وقبل رأسه وكاد أن يبكي فقال اكتب إن كان ولا بد حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفارة المجلس فقال له مسلم لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك وهكذا روى الحاكم هذه القصة في تاريخ نيسابور عن أبي محمد المخلدي ورواها البيهقي في المدخل عن الحاكم أبي عبد الله على سياق آخر قال سمعت أبا نصر أحمد بن محمد الوراق يقول سمعت أحمد بن حمدون القصار وهو أبو حامد الأعمش يقول سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل فقبل بين عينيه وقال دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله حدثك محمد بن سلام حدثنا مخلد بن يزيد أخبرنا بن جريج حدثني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كفارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك فقال محمد بن إسماعيل وحدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال حدثني موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كفارة المجلس "أن يقول إذا قام من مجلسه سبحانك ربنا وبحمدك" فقال محمد بن إسماعيل هذا حديث مليح ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا حديثا غير هذا إلا أنه معلول حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله: "قال محمد بن إسماعيل هذا أولى ولا يذكر لموسى بن عقبة مسندا عن سهيل ورواها الحاكم في علوم الحديث له بهذا الإسناد أخصر

(1/488)


من هذا السياق وقال في آخرها كلاما موهوما فإنه قال فيه أن البخاري قال لا أعلم في الباب غير هذا الحديث الواحد ولم يقل البخاري ذلك وإنما قال ما تقدم ولا يتصور وقوع هذا من البخاري مع معرفته بما في الباب من الأحاديث والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(1/489)


ذكر
فضائل الجامع الصحيح سوى ما تقدم في الفصول الأولى وغيرها
قال أبو الهيثم الكشميهني سمعت الفربري يقول سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين وعن البخاري قال صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله وقال أبو سعيد الإدريسي أخبرنا سليمان ابن داود الهروي سمعت عبد الله بن محمد بن هاشم يقول قال عمر بن محمد بن بجير البجيري سمعت محمد بن إسماعيل يقول صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته قلت الجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه كان يصنفه في البلاد أنه ابتدأ تصنيفه وترتيبه وأبوابه في المسجد الحرام ثم كان يخرج الأحاديث بعد ذلك في بلده وغيرها ويدل عليه قوله: "إنه أقام فيه ست عشرة سنة فإنه لم يجاور بمكة هذه المدة كلها وقد روى بن عدي عن جماعة من المشايخ أن البخاري حول تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين قلت ولا ينافي هذا أيضا ما تقدم لأنه يحمل على أنه في الأول كتبه في المسودة وهنا حوله من المسودة إلى المبيضة وقال الفربري سمعت محمد بن حاتم وراق البخاري يقول رأيت البخاري في المنام خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه وضع أبو عبد الله قدمه في ذلك الموضع وقال الخطيب أنبأنا أبو سعد الماليني أخبرنا أبو أحمد بن عدي سمعت الفربري يقول سمعت نجم بن فضيل وكان من أهل الفهم يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام خرج من قبره والبخاري يمشي خلفه فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطا خطوة يخطو محمد ويضع قدمه على خطوة النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطيب وكتب إلى علي بن محمد الجرجاني من أصبهان أنه سمع محمد بن مكي يقول سمعت الفربري يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي أين تريد فقلت أريد محمد بن إسماعيل فقال أقرئه مني السلام وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي فيما قرأنا على فاطمة وعائشة بنتي محمد بن الهادي أن أحمد بن أبي طالب أخبرهم عن عبد الله بن عمر بن علي أن أبا الوقت أخبرهم عنه سماعا أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الهروي سمعت خالد بن عبد الله المروزي يقول سمعت أبا سهل محمد بن أحمد المروزي يقول سمعت أبا زيد المروزي يقول كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي فقلت يا رسول الله وما كتابك قال جامع محمد بن إسماعيل وقال الخطيب حدثني محمد بن علي الصوري حدثنا عبد الغني بن سعيد حدثنا أبو الفضل جعفر بن الفضل أخبرنا محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون قال سئل أبو عبد الرحمن النسائي عن العلاء وسهيل فقال هما خير من فليح ومع هذا فما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل وقال أبو جعفر العقيلي لما صنف البخاري كتاب الصحيح عرضه على بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث قال العقيلي والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة وقال الحاكم أبو أحمد رحم الله محمد بن إسماعيل الإمام فإنه الذي ألف الأصول وبين للناس وكل من عمل بعده فإنما أخذه من

(1/489)


كتابه كمسلم فرق أكثر كتابه وتجلد فيه حق الجلادة حيث لم ينسبه إليه وقال أبو الحسن الدارقطني الحافظ لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء وقال أيضا إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل فيه مستخرجا وزاد فيه أحاديث

(1/490)


ذكر ما وقع بينه وبين الذهلى في مسئلة اللفظ
...
ذكر
ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللفظ وما حصل له من المحنة بسبب ذلك وبراءته مما نسب إليه من ذلك
قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخه قدم البخاري نيسابور سنة خمسين ومائتين فأقام بها مدة يحدث على الدوام قال فسمعت محمد بن حامد البزار يقول سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه قال فذهب الناس إليه فأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى قال فتكلم فيه بعد ذلك وقال حاتم بن أحمد بن محمود سمعت مسلم بن الحجاج يقول لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليا ولا عالما فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به استقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث وقال محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله فإني أستقبله فاستقبله محمد بن يحيى وعامة علماء نيسابور فدخل البلد فنزل دار البخاريين فقال لنا محمد بن يحيى لا تسألوه عن شيء من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه وشمت بن كل ناصبي ورافضي ومرجىء بخراسان قال فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل حتى امتلأت الدار والسطوح فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن فقال أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا قال فوقع بين الناس اختلاف فقال بعضهم قال لفظي بالقرآن مخلوق وقال بعضهم لم يقل فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض قال فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم وقال أبو أحمد بن عدي ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت فقال لأصحاب الحديث أن محمد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير مخلوق فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثا فألح عليه فقال البخاري القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وقال قد قال لفظي بالقرآن مخلوق وقال الحاكم حدثنا أبو بكر أبي الهيثم حدثنا الفربري قال سمعت محمد بن إسماعيل يقول إن أفعال العباد مخلوقة فقد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا مروأن ابن معاوية حدثنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يصنع كل صانع وصنعته" قال البخاري وسمعت عبيد الله بن سعيد يعني أبا قدامة السرخسي يقول ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة قال محمد بن إسماعيل حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة فأما القرآن المبين المثبت في المصاحف الموعى في القلوب فهو كلام الله غير مخلوق قال الله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال وقال إسحاق بن راهويه أما الأوعية فمن يشك أنها مخلوقة وقال أبو حامد بن الشرقي سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو

(1/490)


مبتدع ولا يجالس ولا يكلم ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه وقال الحاكم ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ انقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة قال الذهلي إلا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس فبعث إلى الذهلي جميع ما كان كتبه عنه على ظهر جمال قلت وقد أنصف مسلم فلم يحدث في كتابه عن هذا ولا عن هذا وقال الحاكم أبو عبد الله سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت أحمد بن سلمة النيسابوري يقول دخلت على البخاري فقلت يا أبا عبد الله إن هذا رجل مقبول بخراسان خصوصا في هذه المدينة وقد لج في هذا الأمر حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه فما ترى قال فقبض على لحيته ثم قال وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرا ولا طلبا للرياسة وإنما أبت علي نفسي الرجوع إلى الوطن لغلبة المخالفين وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني الله لا غير ثم قال لي يا أحمد أني خارج غدا لتخلصوا من حديثه لأجلي وقال الحاكم أيضا عن الحافظ أبي عبد الله بن الأخرم قال لما قام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة من مجلس محمد بن يحيى بسبب البخاري قال الذهلي لا يساكنني هذا الرجل في البلد فخشي البخاري وسافر وقال غنجار في تاريخ بخاري حدثنا خلف بن محمد قال سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر النيسابوري الخفاف بنيسابور يقول كنا يوما عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي فجرى ذكر محمد بن إسماعيل فقال محمد بن نصر سمعته يقول من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله فقلت له يا أبا عبد الله قد خاض الناس في هذا فأكثروا فقال ليس إلا ما أقول لك قال أبو عمرو فأتيت البخاري فذاكرته بشيء من الحديث حتى طابت نفسه فقلت يا أبا عبد الله ههنا من يحكي عنك إنك تقول لفظي بالقرآن مخلوق فقال يا أبا عمرو احفظ عنى من زعم من أهل نيسابور وسمى غيرها من البلدان بلادا كثيرة أننى قلت لفظى بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة وقال الحاكم سمعت أبا الوليد حسأن ابن محمد الفقيه يقول سمعت محمد بن نعيم يقول سألت محمد بن إسماعيل لما وقع في شأنه ما وقع عن الإيمان فقال قول وعمل ويزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي على هذا حييت وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله تعالى

(1/491)


ذكر
تصانيفه والرواة عنه
تقدم ذكر الجامع الصحيح وذكر الفربري أنه سمعه منه تسعون ألفا وأنه لم يبق من يرويه غيره وأطلق ذلك بناء على ما في علمه وقد تأخر بعده بتسع سنين أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قريبة البزدوي وكانت وفاته سنة تسع وعشرين وثلمائة ذكر ذلك من كونه روى الجامع الصحيح عن البخاري أبو نصر بن ماكولا وغيره ومن رواة الجامع أيضا ممن اتصلت لنا روايته بالإجازة إبراهيم بن معقل النسفي وفاته منه قطعة من آخره رواها بالإجازة وكذلك حماد بن شاكر النسوي والرواية التي اتصلت بالسماع في هذه الأعصار وما قبلها هي رواية

(1/491)


محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري ومن تصانيفه أيضا الأدب المفرد يرويه عنه أحمد بن محمد بن الجليل بالجيم البزار ورفع اليدين في الصلاة والقراءة خلف الإمام يرويهما عنه محمود بن إسحاق الخزاعي وهو آخر من حدث عنه ببخارا وبر الوالدين يرويه عنه محمد بن دلويه الوراق التاريخ الكبير يرويه عنه أبو أحمد محمد بن سليمان ابن فارس وأبو الحسن محمد بن سهل النسوي وغيره والتاريخ الأوسط يرويه عنه عبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف وزنجويه بن محمد اللباد والتاريخ الصغير يرويه عنه عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأشقر وخلق أفعال العباد يرويه عنه يوسف بن ريحأن ابن عبد الصمد والفربري أيضا وكتاب الضعفاء يرويه عنه أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي وأبو جعفر شيخ بن سعيد وأدم بن موسى الخواري وهذه التصانيف موجودة مروية لنا بالسماع أو بالإجازة ومن تصانيفه أيضا الجامع الكبير ذكره بن طاهر والمسند الكبير والتفسير الكبير ذكره الفربري وكتاب الأشربة ذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف في ترجمة كيسة وكتاب الهبة ذكره وراقه كما تقدم وأسامي الصحابة ذكره أبو القاسم بن منده وأنه يرويه من طريق بن فارس عنه وقد نقل منه أبو القاسم البغوي الكبير في معجم الصحابة له وكذا بن منده في المعرفة ونقل أيضا من كتاب الوحدان له وهو من ليس له إلا حديث وأحد من الصحابة وكتاب المبسوط ذكره الخليلي في الإرشاد وأن مهيب بن سليم رواه عنه وكتاب العلل ذكره أبو القاسم بن منده أيضا وأنه يرويه عن محمد بن عبد الله بن حمدون عن أبي محمد عبد الله بن الشرقي عنه وكتاب الكنى ذكره الحاكم أبو أحمد ونقل منه وكتاب الفوائد ذكره الترمذي في أثناء كتاب المناقب من جامعه وممن روى عنه من مشايخه عبد الله بن محمد المسندي وعبد الله بن منير وإسحاق بن أحمد السرماري ومحمد بن خلف بن قتيبة ونحوهم ومن أقرانه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وإبراهيم الحربي وأبو بكر بن أبي عاصم وموسى بن هارون الجمال ومحمد بن عبد الله بن مطين وإسحاق بن أحمد بن يرك الفارسي ومحمد بن قتيبة البخاري وأبو بكر الأعين ومن الكبار الآخذين عنه من الحفاظ صالح بن محمد الملقب جزرة ومسلم بن الحجاج وأبو الفضل أحمد بن سلمة وأبو بكر بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي وأبو عبد الرحمن النسائي وروى أيضا عن رجل عنه وأبو عيسى الترمذي وتلمذ له وأكثر من الاعتماد عليه وعمر بن محمد البحيرى وأبو بكر بن أبي الدنيا وأبو بكر البزار وحسين بن محمد القباني ويعقوب بن يوسف بن الأخرم وعبد الله بن محمد بن ناجية وسهل بن شاذويه البخاري وعبيد الله بن واصل والقاسم بن زكريا المطرز وأبو قريش محمد بن جمعه ومحمد بن محمد بن سليمان الباغندي وإبراهيم بن موسى الجويري وعلي بن العباس التابعي وأبو حامد الأعمشي وأبو بكر أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي وإسحاق بن داود الصواف وحاشد بن إسماعيل البخاري ومحمد بن عبد الله بن الجنيد ومحمد بن موسى النهرتيري وجعفر بن محمد النيسابوري وأبو بكر بن أبي داود وأبو القاسم البغوي وأبو محمد بن صاعد ومحمد بن هارون الخضرمي والحسين بن إسماعيل المحاملي البغدادي وهو آخر من حدث عنه ببغداد

(1/492)


ذكر
رجوعه إلى بخارى وما وقع بينه وبين أميرها وما اتصل بذلك من وفاته
قال أحمد بن منصور الشيرازي لما رجع أبو عبد الله البخاري إلى بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد واسقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق مذكور ونثر عليه الدراهم والدنانير فبقى مدة ثم وقع بينه وبين الأمير فإمره بالخروج من بخارى فخرج إلى بيكندي وقال غجار في تاريخه سمعت أحمد بن محمد بن عمر يقول: سمعت بكر بن منير يقول: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل احل إلي كتاب الجامع والتاريخ لأسمع منك فقاال محمد بن إسماعيل لرسوله: قل له إني لا أذلا العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن كانت له حاجه إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي وفي داري فغن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم قال: فكان سبب الوحشة بينهما وقال الحاكم سمعت محمد بن العباس الضبي يقول: سمعت أبا بكر بن أبي عمرو يقول: كان سبب مفارقة أبي عبد الله البخاري البلد أن خالد بن أحمد خليفة بن طاهر سأله ليحضر منزله فيقرأ التاريخ والجامع على أولاده فامتنع من ذلك وقال لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوما آخرين فاستعان خالد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من آلي نخارى حتى تكلموا في مذهبه فنفاه عن البلد قال: فدعا عليهم فقال: اللهم أرهم ما قصدوني به في أتفسهم وآولادهم وأهاليهم، قال: فأما خالد فلم يأتي عليه إلا أفل من شهر حتى ورد أمر الظاهرية بأن ينادى عليه فنودي عليه وهو على أتان وأشخص اكاف ثم صار عاقبه أمره إلى الذل والحبس وأما حريث بن أبي الورقاء فإنه ابتلي في أهله فرأى فيها ما يجل عن وصفه وأما فلان فإنه ابتلي في أولاده فأراه الله فيهم البلايا، وقال ابن عدي سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار يقول: خرج البخاري إلى خرتنك قرية من قرى سمرقند،وكان له بها أقرباء فنزل عندهم قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يقول في دعائه: اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك قال: فما تم الشهر حتى قبضه الله، وقال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت غالب بن جبريل وهو الذي نزل به البخاري بخرتنك يقول: إنه أقام أياما فمرض حتى وجه إليه رسول من اهل سمرقندا يلتمسون منه الخروج إليهم فأجاب وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها إلى الدابة ليركبها وأنا آخذ بعضده قال أرسلوني فقد فأرسلباه فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى ثم سال منه عرق كثير وكان قد قال لنا كفنوني في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة قال ففعلنا فلما أدرجناه في أكفانه وصلينا عليه ووضعناه في حفرته فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ودامت أياما وجعل لناس يختلفون إلى القبر أياما ياخذون من ترابه إلى أن جعلنا عليه خشبا مشبكا وقال الخطيب أخبرنا علي بن أبي حامد في كتابه أخبرنا محمد بن محمد بن مكي سمعت عبد الواحد بن آدم الطواويسيي يقول رآيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع فسلمت عليه فرد على السلام فقلت ما وقوفك هنا يارسول الله قال: أنتظر محمدج بن إسماعيل قال فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت فيها النبي صلى الله عله وسلم قال مهيب بن سليم: كان ذلك ليلة السبت لسلة عيد الفطر سنة ستة وخمسون ومائتين وكذلك قال الحسن بن الحسين البزار في تاريخ وفاته وفيها أرخه أبو الحسين بن القانع وابو الحسين بن المنادى وأبو سليمان بن الزبر وأخرون قال الحسن وكانت مدة عمره أثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشريوما تغمده الله برحمته آمين

(1/393)


المجلد الأول
كتاب بدء الوحي
باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المجلد الأول
1 - كتاب بدء الوحي
قال الشيخ الإمام الحافظ، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، البخاري، رحمه الله تعالى آمين.
1 - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقول الله جل ذكره: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}
قال البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: "بسم الله الرحمن الرحيم كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير " باب " وثبت في رواية غيرهما، فحكى عياض ومن تبعه فيه التنوين وتركه.وقال الكرماني: يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب. فلا يكون له إعراب.وقد اعترض على المصنف لكونه لم يفتتح الكتاب بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" ، وقوله: "كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء" . أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة.والجواب عن الأول: أن الخطبة لا يتحتم فيها سياق واحد يمتنع العدول عنه، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وقد صَدّرَ الكتاب بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده، المشتمل على أن العمل دائر مع النية. فكأنه يقول: قصدت جمع وحي السنة المتلقَّى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي، وإنما لكل امرئ ما نوى، فاكتفى بالتلويح عن التصريح.وقد سلك هذه الطريقة في معظم تراجم هذا الكتاب على ما سيظهر بالاستقراء.والجواب عن الثاني: أن الحديثين ليسا على شرطه، بل في كل منهما مقال.سلمنا صلاحيتهما للحجة لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معا، فلعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصارا على البسملة، لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها، لا سيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب الأول، بل هو المقصود بالذات من أحاديثه.ويؤيده أيضا وقوع كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلة وغيرها، كما سيأتي في حديث أبي سفيان في قصة هرقل في هذاالباب، وكما سيأتي في حديث البراء في قصة سهيل ابن عمرو في صلح الحديبية، وغير ذلك من الأحاديث.وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة، إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة، أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، لينتفعوا بما فيه تعلما وتعليما.وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخر فيها نظر، منها: أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة، أو بالتسمية لم يعد مبتدئا بالحمدلة فاكتفى بالتسمية.وتعقب بأنه لو جمع بينهما، لكان مبتدئا بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية، وهذه هي النكتة في حذف العاطف، فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمد وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك.ومنها أنه راعى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئا، واكتفى بها عن كلام نفسه، وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى، وأيضا فقد قدم الترجمة وهي من كلامه على الآية، وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث، والجواب عن ذلك: بأن الترجمة والسند وإن كانا متقدمين لفظا، لكنهما متأخران تقديرا فيه نظر.

(1/8)


وأبعد من ذلك كله، قول من ادعى: أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة، فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب.وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري، وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك في الموطأ، وعبد الرزاق في المصنف، وأحمد في المسند، وأبي داود في السنن، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة، أفيقال في كل من هؤلاء: إن الرواة عنه حذفوا ذلك؟ كلا، بل يحمل ذلك من صنيعهم، على أنهم حمدوا لفظا.ويؤيده ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد: أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب الحديث ولا يكتبها، والحامل له على ذلك إسراع أو غيره، أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب كما تقدم، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة، حمد وتشهد كما صنع مسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.وقد استقر عمل الأئمة المصنفين، افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرا، فجاء عن الشعبي منع ذلك، وعن الزهري قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وعن سعيد بن جبير جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور.وقال الخطيب: هو المختار.قوله: "بدء الوحي" قال عياض: روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء، وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور.قلت: ولم أره مضبوطا في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، إلا أنه وقع في بعضها " كيف كان ابتداء الوحي"، فهذا يرجح الأول، وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ.وقد استعمل المصنف هذه العبارة كثيرا، كبدء الحيض، وبدء الأذان، وبدء الخلق.والوحي لغة: الإعلام في خفاء، والوحي أيضا: الكتابة والمكتوب والبعث والإلهام والأمر والإيماء والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء.وقيل: أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي.وشرعا: الإعلام بالشرع.وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى، وهو: كلام الله المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم.وقد اعترض محمد بن إسماعيل التيمي على هذه الترجمة، فقال: لو قال: كيف كان الوحي لكان أحسن، لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط.وتعقب بأن المراد من بدء الوحي، حاله مع كل ما يتعلق بشأنه.أي تعلق كان.والله أعلم.قوله: "وقول الله" هو بالرفع على حذف الباب عطفا على الجملة، لأنها في محل رفع، وكذا على تنوين باب.وبالجر عطفا على كيف، وإثبات باب بغير تنوين، والتقدير باب معنى قول الله كذا، أو الاحتجاج بقول الله كذا، ولا يصح تقدير كيفية قول الله، لأن كلام الله لا يكيف قاله عياض، ويجوز رفع.وقول الله على القطع وغيره.قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ....} الآية قيل: قدم ذكر نوح فيها لأنه أول نبي أرسل، أو أول نبي عوقب قومه، فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقا، كما سيأتي بسط القول في ذلك في الكلام على حديث الشفاعة.ومناسبة الآية للترجمة واضح من جهة: أن صفة الوحي إلى نبيناصلى الله عليه وسلم توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين، ومن جهة: أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا، كما رواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة.
1 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".

(1/9)


قوله: "حدثنا الحميدي" هو: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى، منسوب إلى حميد بن أسامة، بطن من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع معها في أسد، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي.وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وطبقته، وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين.فكأن البخاري امتثل قوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشا " فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي، لكونه أفقه قرشي أخذ عنه.وله مناسبة أخرى: لأنه مكي كشيخه، فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي، لأن ابتداءه كان بمكة، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك، لأنه شيخ أهل المدينة، وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل، ومالك وابن عيينة قرينان، قال الشافعي: لولاهما لذهب العلم من الحجاز.قوله: "حدثنا سفيان" هو: ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي، أصله ومولده الكوفة، وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه، وعاش بعده عشرين سنة، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين.قوله: "عن يحيى بن سعيد" في رواية غير أبي ذر: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري.اسم جده: قيس بن عمرو وهو صحابي، ويحيى من صغار التابعين، وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين، وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم، ففي الإسناد ثلاثةمن التابعين في نسق.وفي المعرفة لابن منده، ما ظاهره أن علقمة صحابي، فلو ثبت لكان فيه تابعيان وصحابيان، وعلى رواية أبي ذر يكون قد اجتمع في هذا الإسناد، أكثر الصيغ التي يستعملها المحدثون، وهي: التحديث والإخبار والسماع والعنعنة والله أعلم.وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي، وأنه لا تعلق له به أصلا، بحيث أن الخطابي في شرحه، والإسماعيلي في مستخرجه، أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه: إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك.وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف، وقد تكلفت مناسبته للترجمة، فقال: كل بحسب ما ظهر له.انتهى.وقد قيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب، لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة، فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر، صلح أن يكون في خطبة الكتب.وحكى المهلب: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين قدم المدينة مهاجرا، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين، ويعقبه النصر والظفر والفتح انتهى.وهذا وجه حسن، إلا أنني لم أر ما ذكره - من كونه صلى الله عليه وسلم خطب به أول ما هاجر - منقولا.وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية " الحديث، ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصة مهاجر أم قيس، قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، انتهى.وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبوية.وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد من منصور قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس.وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك.وأيضا فلو أراد البخاري إقامته مقام الخطبة فقط إذ الابتداء به تيمنا وترغيبا في الإخلاص، لكان سياقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره.ونقل ابن بطال عن أبي عبد الله بن النجار قال: التبويب يتعلق بالآية والحديث معا، لأن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

(1/10)


وقال أبو العالية في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} قال: وصاهم بالإخلاص في عبادته.وعن أبي عبد الملك البوني قال: مناسبة الحديث للترجمة أن بدء الوحي كان بالنية، لأن الله تعالى فطر محمدا على التوحيد، وبغض إليه الأوثان، ووهب له أول أسباب النبوة وهي الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك، فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة.وقال المهلب ما محصله: قصد البخاري الإخبار عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في حال منشئه، وأن الله بغض إليه الأوثان وحبب إليه خلال الخير ولزوم الوحدة فرارا من قرناء السوء، فلما لزم ذلك أعطاه الله على قدر نيته، ووهب له النبوة، كما يقال: الفواتح عنوان الخواتم.ولخصه بنحو من هذا القاضي أبو بكر بن العربي.وقال ابن المنير في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء، فناسب الافتتاح بحديث الهجرة.ومن المناسبات البديعة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه: أن الكتاب لما كان موضوعا لجمع وحي السنة صدره ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدره بحديث الأعمال، ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمةأصلا.والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث: قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث.واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي، فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني، على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي.وقال ابن مهدي أيضا: يدخل في ثلاثين بابا من العلم.وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة.وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب.ووجه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: نية المؤمن خير من عمله، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين.وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم، أنه أراد أحد القواعد الثلاثة التي ترد إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا و " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " و " الحلال بين والحرام بين " الحديث.ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك.وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما.ثانيهما: السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: "يبعثون على نياتهم" ، وحديث ابن عباس: "ولكن جهاد ونية" ، وحديث أبي موسى: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: "رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " أخرجه أحمد، وحديث عبادة: "من غزا وهو لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى " أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره، وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل.نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد: فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى.قلت: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة، وقد

(1/11)


تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم، كما سيأتي مثال لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى. قوله: "على المنبر" بكسر الميم، واللام للعهد، أي منبر المسجد النبوي، ووقع في رواية حماد بن زيد عن يحيى في ترك الحيل: سمعت عمر يخطب.قوله: "إنما الأعمال بالنيات" كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنيته.وقال الخوبي: (1)كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده.ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها.بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له.ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ: "الأعمال بالنيات " بحذف " إنما " وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي،(2) ووصله في مسنده كذلك، وأنكره أبو موسى المديني، كما نقله النووي وأقره، وهو متعقب برواية ابن حبان، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ: "الأعمال بالنية" ، وكذا في العتق من رواية الثوري، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في النكاح بلفظ: "العمل بالنية " بإفراد كل منهما.والنية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور، وفي بعض اللغات بتخفيفها.قال الكرماني: قوله: "إنما الأعمال بالنيات " هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته، فقيل: لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر، لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية، وقيل لأن إنما للحصر.وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف، أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز؟ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية، واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن "إنما قام زيد " في جواب "هل قام عمرو؟"، أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب "ما قام إلا زيد "وهي للحصر اتفاقا.وقيل: لو كانت للحصر لاستوى "إنما قام زيد " مع "ما قام إلا زيد"، ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول، وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر، فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع، كسوف والسين.وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وكقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} .ومن شواهده قول الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى.واختلفوا: هل هي بسيطة أو مركبة، فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم إن " إن " للإثبات و " ما " للنفي فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد، بأن يقال مثلا: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما، بل أفادا شيئا آخر، أشار إلى ذلك الكرماني قال:وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر، من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد، وهو المستفاد من "إنما " ومن الجمع. فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس، لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر.وقال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة "إنما " للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث: "إنما الربا في النسيئة" ، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر.وتُعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا.وأما من قال
ـــــــ
(1) لعله: الحربي (2) هو القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون المتوفى سنة 454

(1/12)


يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله: "لا ربا إلا في النسيئة " لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه.وأوضح من هذا حديث: "إنما الماء من الماء " فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث: "إذا التقى الختانان" .وقال ابن عطية: إنما لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى: ِ{إنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى كالبشارة، إلى غير ذلك من الأمثلة.وهي - فيما يقال - السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقا."تكميل": الأعمال تقتضي عاملين، والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين، وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار؟ الظاهر الإخراج، لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها ولا يرد العتق والصدقة لأنهما بدليل آخر.قوله: "بالنيات" الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى: أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله.قال النووي: النية: القصد، وهي: عزيمة القلب.وتعقبه الكرماني: بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد.واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟ والمرجح أن إيجادها ذكرا في أول العمل ركن، واستصحابها حكما بمعنى: أن لا يأتي بمناف شرعا شرط.ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل: تعتبر، وقيل: تكمل، وقيل: تصح، وقيل: تحصل، وقيل: تستقر.قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي.وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه.والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذ التقدير: لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة.وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله في الحديث: "فمن كانت هجرته " إلى آخره.وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل.ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال.قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها.وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل.وقد تعقب على من يسمي القول عملا لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملا فقال قولا لا يحنث.وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف ولهذا يعطف عليه.والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا، وكذا الفعل، لقوله تعالى :{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} بعد قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل، والمعرفة: وفي تناولها نظر، قال بعضهم: هو محال لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة.وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله: إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم

(1/13)


تكن النية حينئذ محالا.وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال، ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى.وفي هذا الكلام إبهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الرسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا.نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات الفقه."تكميل": الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا، ظهرا مثلا أو عصرا، مقصورة أو غير مقصورة. وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث.والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم.قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة.وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى، لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك. والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه. وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له - يعنى إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له.ومراده بقوله ما لم ينوه أي: لا خصوصا ولا عموما، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء.ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى.وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد والله أعلم.وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة.وقال ابن السمعاني في أماليه: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة.وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل.وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها.وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة.ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر.قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب انتهى.ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "في بضع أحدكم صدقة " ثم قال في الجواب عن قولهم " أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ ": "أرأيت لو وضعها في حرام" .وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده.وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما تقدم، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي، لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت، ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية.ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية: بأن الترك فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من

(1/14)


قصد الترك، وتعقب بأن قوله: "الترك فعل " مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه.وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر.والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد.والله أعلم."تنبيه": قال الكرماني: إذا قلنا: إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى " نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور.قوله: "فمن كانت هجرته إلى دنيا" كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الخ " قال الخطابي: وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروما قد ذهب شطره، ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟ فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى، وقد رواه لنا الإثبات من طريق الحميدي تاما، ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصرا. وفهم من قوله مخروما: أنه قد يربد أن في السند انقطاعا، فقال من قبل نفسه لأن البخاري لم يلق الحميدي، وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري: "حدثنا الحميدي " وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب، وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث.وقال ابن العربي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام.قال: وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تاما فسقط من حفظ البخاري.قال: وهو أمر مستبعد جدا عند من اطلع على أحوال القوم.وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى.وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاما، وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم،(1) وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي، فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال: لم اختار الابتداء بهذا السياق الناقص؟ والجواب قد تقدمت الإشارة إليه، وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة، وإن كان الإسقاط منه، فالجواب ما قاله أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري: إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدرا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته.ونكب عن أحد وجهي التقسيم، مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام.انتهى ملخصا.وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فرارا من التزكية، وبقي الجملة المترددة المحتملة تفويضا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته.ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متنا وإسنادا.وقد وقع في رواية حماد بن زيد، في باب الهجرة تأخر قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " عن قوله: "فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها" ، فيحتمل أن
ـــــــ
(1) على الصحيحين

(1/15)


تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث.وعلى تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث. ولو من أثنائه.وهذا هو الراجح، والله أعلم.وقال الكرماني في غير هذا الموضع: إن كان الحديث عند البخاري تاما لم خرمه في صدر الكتاب، مع أن الخرم مختلف في جوازه؟ قلت: لا جزم بالخرم، لأن المقامات مختلفة، فلعله - في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب - سمع الحديث تاما، وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي.ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه، ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار.فإن قلت: فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله.قلت: لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس.انتهى.وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث، ولا سيما كلام ابن العربي.وقال في موضع آخر: إن إيراد الحديث تاما تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له، انتهى. وكأنه لم يطلع حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه، فساقه في موضع تاما وفي موضع مقتصرا على بعضه، وهو كثير جدا في الجامع الصحيح، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحا، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندا ومتنا في موضعين أو أكثر إلا بادرا، فقد عنى بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعا.قوله: "هجرته" الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه عن غيره.وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه.وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي _صلى الله عليه وسلم _بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين.وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا.فإن قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلا: من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقولهم: أنت أنت أي: الصديق الخالص، وقولهم: هم هم أي: الذين لا يقدر قدرهم، وقول الشاعر: "أنا أبو النجم وشعري شعري"، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهارالسبب.وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر:
خليلي خليلي دون ريب وربما ... ألان امرؤ قولا فظن خليلا
وقد يفعل مثل هذا بجواب الشرط كقولك: من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده.وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير.قوله: "إلى دنيا" بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرها، وهي فعلى من الدنو أي: القرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى.وقيل: سميت دنيا لدنوها إلى الزوال.واختلف في حقيقتها فقيل: ما على الأرض من الهواء والجو، وقيل: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأولى أولى.لكن يزاد فيه مما قبل قيام الساعة، ويطلق على كل جزء منها مجازا.ثم إن لفظها

(1/16)


مقصور غير منون، وحكى تنوينها، وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكشميهني وضعفها، وحكي عن ابن مغور: أن أبا الهروي في آخر أمره كان يحذف كثيرا من رواية أبي الهيثم حيث ينفرد، لأنه لم يكن من أهل العلم.قلت: وهذا ليس على إطلاقه، فإن في رواية أبي الهيثم مواضع كثيرة أصوب من رواية غيره، كما سيأتي مبينا في مواضعه.وقال التيمي في شرحه: قوله دنيا هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف، لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث.وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف، وأما الوصفية فقال ابن مالك: استعمال دنيا منكرا فيه إشكال لأنها أفعل التفضيل، فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى، قال: إلا أنها خلعت عنها الوصفية أو أجريت مجرى ما لم يكن وصفا قط، ومثله قول الشاعر:
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا
وقال الكرماني: قوله إلى يتعلق بالهجرة إن كان لفظ كانت تامة، أو هو خبر لكانت إن كانت ناقصة.ثم أورد ما محصله: إن لفظ كان إن كان للأمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك.وأجاب بأنه: يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمان، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أن حكم المكلفين سواء.قوله: "يصيبها" أي: يحصلها، لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود.قوله: "أو امرأة" قيل: التنصيص عليها من الخاص بعد العام للاهتمام به.وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة، وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها.وتعقب بكونها في سياق الشرط فتعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير، لأن الافتتان بها أشد.وقد تقدم النقل عمن حكى أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس ولم نقف على تسميته.ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحة ثم تحتانية ساكنة، وحكى ابن بطال عن ابن سراج: أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك انتهى.ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام، وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع.قوله: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدنيا والمرأة فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما.وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله: "إلى ما هاجر إليه " متعلقا بالهجرة، فيكون الخبر محذوفا والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلا، ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت، انتهى.وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقا، وليس كذلك، إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر، وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف.ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك.فأسلم فتزوجته..وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية،

(1/17)


أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم.واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر.وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره.والله أعلم.واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه العمل يكون منتفيا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد، وعلى أن من صام تطوعا بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث، لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها " أي: أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى، وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه، ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافا لمن أعل بذلك، لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة.واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه، ومن أمثلة ذلك: جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال:الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة.ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطا لأعلمهم به، واستدل به على أن العمل إذا كان مضافا إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث: أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة - وشك في سببها - أجزأه إخراجها بغير تعيين.وفيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدنيا القصة زيادة في التحذير والتنفير.وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصا، فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسيأتي ذكر كثير من فوائد هذا الحديث في كتاب الإيمان حيث قال المصنف في الترجمة، فدخل فيه العبادات والأحكام إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.

(1/18)


2- باب
-2 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا _أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ _ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ" . قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
[الحديث 2-أطرافه في: 3215]
"الحديث الثاني" من أحاديث بدء الوحي.قوله: "حدثنا عبد الله بن يوسف" هو التنيسي، كان نزل تنيس من عمل مصر، وأصله دمشقي، وهو من أتقن الناس في الموطأ، كذا وصفه يحيى بن معين.قوله: "أم المؤمنين" هو مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: في الاحترام وتحريم نكاحهن لا في غير ذلك مما اختلف فيه على الراجح، وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب، وإلا فلا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات على الراجح.قوله: "أن الحارث بن هشام" هو المخزومي، أخو أبي جهل شقيقه، أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة،

(1/18)


واستشهد في فتوح الشام.قوله: "سأل" هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة، فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة، وهو محكوم بوصله عند الجمهور.وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي مسند أحمد ومعجم البغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث ابن هشام قال: سألت.وعامر فيه ضعف، لكن وجدت له متابعا عند ابن منده، والمشهور الأول.قوله: "كيف يأتيك الوحي" يحتمل أن يكون المسؤول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله أو ما هو أعم من ذلك، وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز، لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله.واعترض الإسماعيلي فقال: هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة، وإنما المناسب لكيف بدء الوحي الحديث الذي بعده، وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي اهـ.قال الكرماني: لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي، أو عن كيفية ظهور الوحي، فيوافق ترجمة الباب.قلت: سياقه يشعر بخلاف ذلك لإتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي، لكن يمكن أن يقال إن المناسبة تظهر من الجواب، لأن فيه إشارة إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الأمرين فيشمل حالة الابتداء، وأيضا فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلا عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز فبدأ بمكة ثم ثنى بالمدينة.وأيضا فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضا، وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه، ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله، ناسب تقديم ما يتعلق بها، وهو صفة الوحي وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال، الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق، والله سبحانه وتعالى أعلم.قوله: "أحيانا" جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله " يأتيني " مؤخر عنه.وللمصنف من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما.وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني.ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني " وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} كما سيأتي، فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي، وغير ذلك وكلها في الصحيح.وأورد على ما اقتضاه الحديث - وهو أن الوحي منحصر في الحالتين - حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة.وإما من صفة حامل الوحي، كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق.والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين - كما في حديث عمر - يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.وأما النفث في الروع، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفس حينئذ في روعه.وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.

(1/19)


وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره ا ه.والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس، كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني: وفيه نظر.وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا - فذكرها - وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر، وحديث: "أن روح القدس نفث في روعي" ، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود.قوله: "مثل صلصلة الجرس" في رواية مسلم: "في مثل صلصلة الجرس " والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس.وقال الكرماني: الجرس ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة. ا ه.وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته.وقوله: قطعة نحاس، معترض لا يختص به، وكذا البعير، وكذا قوله منكوسا، لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له.فإن قيل: المحمود لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما. فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم.والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور وفيه نظر.قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي، قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك 0 والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره، ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من الآلات، وسيأتي كلام ابن بطال في هذا المقام في الكلام على حديث ابن عباس: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها " الحديث عند تفسير قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} في تفسير سورة سبأ إن شاء الله تعالى.قوله: "وهو أشده علي" يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.وقال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما سيأتي في حديث ابن عباس: "كان يعالج من التنزيل شدة " قال وقال بعضهم: وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع ا هـ.وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما سيأتي بيانه في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه: "رآه صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه وإنه ليغط"، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى، والدرجات.قوله: "فيفصم" بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة أي: يقلع ويتجلى ما يغشاني، ويروى بضم أوله من الرباعي.وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الصاد

(1/20)


على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى: {لا انْفِصَامَ لَهَا} وقيل الفصم بالفاء: القطع بلا إبانة، وبالقاف: القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة.قوله: "وقد وعيت عنه ما قال" أي: القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} لأنهم كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجيء الملك به.قوله: "يتمثل لي الملك رجلا" التمثل مشتق من المثل، أي: يتصور.واللام في الملك للعهد وهو: جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد المقدم ذكرها.وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، و " رجلا " منصوب بالمصدرية، أي: يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال والتقدير هيئة رجل.قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد.وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيا، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه.ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشا فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير.وهذا على سبيل التقريب، والحق أن تمثل الملك رجلا، ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه.والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.والله أعلم.قوله: "فيكلمني" كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك " فيعلمني " بالعين بدل الكاف، والظاهر أنه تصحيف، فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف، وكذا للدار قطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره.قوله: "فأعي ما يقول" زاد أبو عوانة في صحيحه "وهو أهونه على". وقد وقع التغاير في الحالتين حيث قال في الأول: "وقد وعيت " بلفظ الماضي، وهنا " فأعي " بلفظ الاستقبال، لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل حال المكالمة، أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية، كان حافظا لما قيل له فعبر عنه بالماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة.قوله: "قالت عائشة" هو بالإسناد الذي قبله، وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيرا، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف.وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولا عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام. ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول.قوله: "ليتفصد" بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد وهو: قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق.وفي قولها: "في اليوم الشديد البرد " دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.وقوله: "عرقا " بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل: "وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه"."تنبيه": حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ: {ليتقصد} بالقاف، ثم قال العسكري: إن ثبت فهو من قولهم: تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر، فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء، قال: فأصر على القاف، وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن

(1/21)


ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف، قال: فكابرني.قلت: ولعل ابن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري.والله أعلم.وفي حديث الباب من الفوائد - غير ما تقدم - إن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل.والله أعلم.

(1/22)


3 – باب
3-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِين أَنَّهَا قَالَتْ:أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ.قَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ .قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ.قُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ".فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ.فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ.فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" .فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" .فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى - ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ.فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ.فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى.فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
[الحديث3-أطرافه في:6982,4957,4956,4955,4953,3392]
قوله: "حدثنا يحيى بن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير، نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين.وعقيل بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، على إتقانه وإمامته.قوله: "من الوحي" يحتمل أن تكون " من " تبعيضية، أي

(1/22)


من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز(1 ).قوله: "الرؤيا الصالحة" وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير " الصادقة " وهي التي ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.قوله: "في النوم" لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا.قوله: "مثل فلق الصبح" بنصب مثل على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح.والمراد بفلق الصبح: ضياؤه.وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه.قوله: "حبب" لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام.والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه: أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له.وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح.وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكى أيضا، وحكى فيه غير ذلك جوازا لا رواية.هو جبل معروف بمكة.والغار: نقب في الجبل وجمعه غيران.قوله: "فيتحنث" هي بمعنى يتحنف، أي يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم.وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة " يتحنف " بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما.قوله: "وهو التعبد" هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله. نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج.قوله: "الليالي ذوات العدد" يتعلق بقوله يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل.وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إسحاق.والليالي منصوبة على الظرف، وذوات منصوبة أيضا، وعلامة النصب فيه كسر التاء.وينزع بكسر الزاي أي: يرجع وزنا ومعنى، ورواه المؤلف بلفظه في التفسير.قوله: "لمثلها" أي: الليالي.والتزود استصحاب الزاد.ويتزود معطوف على يتحنث.وخديجة هي أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، تأتي أخبارها في مناقبها.قوله: "حتى جاءه الحق" أي: الأمر الحق، وفي التفسير: حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أي بغته.وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام.وسمي حقا لأنه وحي من الله تعالى.وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: "يا محمد " فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: "يا محمد، جبريل جبريل " فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا، ثم خرج عنهم فناداه فهرب.ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف.وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: "لم أره - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين" ، وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج.وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: "لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد " وهذا يقوي رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى.ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في حراء وأقرأه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ثم انصرف، فبقي مترددا، فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمرا عظيما.قوله: "فجاءه" هذه الفاء
ـــــــ
(1) هو محمد بن جعفر القيرواني أبو عبد الله التميمي صاحب (الجامع في اللغة) توفي سنة 412(عن بغية الوعات)

(1/23)


تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.قوله: "ما أنا بقارئ" ثلاثا." ما " نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وإن حكي عن الأخفش، جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة.فلما قال ذلك ثلاثا قيل له: "اقرأ باسم ربك"أي: لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية، ذكره السهيلي.وقال غيره: إن هذا التركيب - وهو قوله ما أنا بقارئ - يفيد الاختصاص.ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير: لست بقارئ البتة.فإن قيل: لم كرر ذلك ثلاثا؟أجاب أبو شامة: بأن يحمل قوله أولا: "ما أنا بقارئ " على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفي المحض، وثالثا: على الاستفهام.ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق: ماذا أقرأ؟ وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي: كيف أقرأ؟ كل ذلك يؤيد أنها استفهامية.والله أعلم.قوله: "فغطني" بغين معجمة وطاء مهملة.وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط حبس النفس، ومنه غطه في الماء، أو أراد غمني ومنه الخنق.ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن: فأخذ بحلقي.قوله: "حتى بلغ مني الجهد" روي بالفتح والنصب، أي: بلغ الغط مني غاية وسعي.وروي بالضم والرفع أي: بلغ مني الجهد مبلغه.وقوله: "أرسلني " أي أطلقني، ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة، وهو ثابت عند المؤلف في التفسير.قوله : "فرجع بها" أي: بالآيات أو بالقصة.قوله: "فزملوه" أي: لفوه.والروع بالفتح: الفزع.قوله: "لقد خشيت على نفسي" دل هذا مع قوله : "يرجف فؤاده " على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم قال: "زملوني" .والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا: أولها: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى.ثانيها: الهاجس، وهو باطل أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة.ثالثها: الموت من شدة الرعب.رابعها: المرض، وقد جزم به ابن أبي جمرة.خامسها: دوام المرض.سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة.سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب.تاسعها: أن يقتلوه.عاشرها: مفارقة الوطن.حادي عشرها: تكذيبهم إياه.ثاني عشرها: تعييرهم إياه.وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض.والله الموفق.قوله: "فقالت خديجة: كلا" معناها: النفي والإبعاد، ويحزنك: بفتح أوله والحاء المهملة والزاي المضمومة والنون من الحزن.ولغير أبي ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاي المكسورة ثم الياء الساكنة من الخزي.ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل،وذلك كله مجموع فيما وصفته به.والكل بفتح الكاف: هو من لا يستقل بأمره كما قال الله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} وقولها: "وتكسب المعدوم " في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب.قلت: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة.فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه.وقال قاسم بن ثابت في الدلائل: قوله يكسب

(1/24)


معناه: ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه.قال أعرابي يمدح إنسانا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب " كسوب كذا(1) المعدوم من كسب واحد " أي: مما يكسبه وحده.انتهى.ولغير الكشميهني: "وتكسب " بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح.قلت: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى.وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك.وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش.وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظا في التجارة.وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات.وقولها: "وتعين على نوائب الحق " هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم.وفي رواية المصنف في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة " وتصدق الحديث: "وهي من أشرف الخصال.وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة " وتؤدى الأمانة".وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.قوله: "فانطلقت به" أي مضت معه، فالباء للمصاحبة.وورقة بفتح الراء.وقوله: "ابن عم خديجة " هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.قوله: "تنصر" أي: صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.وأما زيد بن عمرو فسيأتي خبره في المناقب إن شاء الله تعالى.قوله: "فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية".وفي رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية.ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربي.والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين.ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه.وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا، كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها " أناجيلها صدورها".قولها: "يا ابن عم " هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم: "يا عم " وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة.وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه.وقالت في حق النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع من ابن أخيك.لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته.أو قالته على سبيل التوقير لسنه.وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة:"اسمع من ابن أخيك " أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم(2).قوله: "ماذا ترى؟" فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى.قوله: "هذا الناموس الذي نزل الله على موسى".وللكشميهني: "أنزل الله"، وفي التفسير " أنزل " على البناء للمفعول وأشار بقوله: "هذا " إلى الملك الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره.
ـــــــ
(1) ن. خ: لذا (2) ن خ: في التعظيم

(1/25)


والناموس: صاحب السر، كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء.وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر.والأول: الصحيح الذي عليه الجمهور.وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب.والمراد بالناموس هنا: جبريل - عليه السلام -.وقوله: "على موسى " ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى - عليه السلام - مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى.وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى.كذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو: أبو جهل بن هشام ومن معه ببدرأو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته، وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل.على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى.والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف.نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: لئن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم.فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح.والله سبحانه وتعالى أعلم.قوله: "يا ليتني فيها جذع" كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين: "يا ليتني فيها جذعا " بالنصب على أنه خبر كان المقدرة، قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} ".وقال ابن بري: التقدير: يا ليتني جعلت فيها جذعا.وقيل: النصب على الحال، إذا جعلت فيها خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السهيلي.وضمير " فيها " يعود على أيام الدعوة.والجذع - بفتح الجيم والذال المعجمة - هو: الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى.قوله: "إذ يخرجك" قال ابن مالك: فيه استعمال " إذ " في المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد.وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام: بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير " حين يخرجك قومك " وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى، لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي، تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال، وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، هو مستحيل عادة.ويظهر لي أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.قوله: "أو مخرجي هم" بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها.وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج.قوله: "إلا عودي" وفي رواية يونس في التفسير " إلا أوذي " فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.قوله: "إن يدركني يومك" إن شرطية، والذي بعدها

(1/26)


مجزوم.زاد في رواية يونس في التفسير: "حيا " ولابن إسحاق: "إن أدركت ذلك اليوم " يعني: يوم الإخراج.قوله: "مؤزرا" بهمزة أي: قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر.وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته، قال الأخطل:" قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم " البيت.قوله: "ثم لم ينشب" بفتح الشين المعجمة أي: لم يلبث.وأصل النشوب التعلق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات.وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام.فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: وفتر الوحي، ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع.وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى المؤلف في التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك."فائدة": وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان.وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول {اقْرَأْ} و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط.ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه.فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة.وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصرا عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل.فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم.وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى.ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم.وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف.وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة، أضافهما.وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى.
4 - قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ - فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ.فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي.فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى :{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} - إلى قوله: -{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ" .تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلاَلُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ " بَوَادِرُهُ".
[الحديث 4- أطرافه في: 6214,4954,4926,4925,4924,4923,4922,3238]

(1/27)


قوله: "قال ابن شهاب: أخبرني أبو سلمة" إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا.وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن شهاب - أي بالسند المذكور - وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا، ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أول ما نزل، ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال، وسياق بسط القول في ذلك في تفسير سورة اقرأ.قوله: "فرعبت منه" بضم الراء وكسر العين، وللأصيلي بفتح الراء وضم العين، أي: فزعت، دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج.قوله: "فقلت: زملوني زملوني" وفي رواية الأصيلي وكريمة زملوني مرة واحدة.وفي رواية يونس في التفسير فقلت دثروني فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} أي: حذر من العذاب من لم يؤمن بك {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: من النجاسة، وقيل: الثياب النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص، والرجز هنا الأوثان كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التفسير، والرجز في اللغة: العذاب، وسمي الأوثان هنا رجزا لأنها سببه.قوله: "فحمى الوحي" أي جاء كثيرا، وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور، إذ لم ينته إلى انقطاع كلي فيوصف بالضد وهو البرد.قوله: "وتتابع" تأكيد معنوي، ويحتمل أن يراد بحمي: قوي، وتتابع: تكاثر، وقد وقع في رواية الكشميهني(1) وأبى الوقت " وتواتر"، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل."تنبيه" خرج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة، ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله: "تتابع ": قال عروة - يعني بالسند المذكور إليه - وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ": "رأيت لخديجة بيتا من قصب، لا صخب فيه ولا نصب " قال البخاري: يعني قصب اللؤلؤ.قلت: وسيأتي مزيد لهذا في مناقب خديجة إن شاء الله تعالى.قوله: "تابعه" الضمير يعود على يحيى بن بكير، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى.وفيه من اللطائف قوله عن الزهري: سمعت عروة.قوله: "وأبو صالح" هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه.ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم - كالدمياطي - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني، فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث.قوله: "وتابعه هلال بن رداد" بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه في الزهريات للذهلي.قوله: "وقال يونس" يعني ابن يزيد الأيلي، ومعمر هو ابن راشد."بوادره" يعني: أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلا عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، والبوادر: جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان في أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع، وقد بينا ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق، والله الموفق.وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
(1) قوله: "وقد وقع في روايةالكشميهني"أي ورواها أبو ذر عنه,كما يعلم ذلك من شرح القسطلاني اهـ مصححه

(1/28)


4-باب
5- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ.فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا.وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا - فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ.فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَأَهُ.
[الحديث 5- أطرافه في: 7524,5044,4929,4928,4927,]
قوله "حدثنا موسى بن إسماعيل" هو أبو سلمة التبوذكي، وكان من حفاظ المصريين.قوله "حدثنا أبو عوانة" هو الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري، كان كتابه في غاية الإتقان.وموسى بن أبي عائشة لا يعرف اسم أبيه، وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير.قوله: "كان مما يعالج" المعالجة محاولة الشيء بمشقة، أي: كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين، أي: مبدأ العلاج منه، أو " ما " موصولة وأطلقت على من يعقل مجازا، هكذا قرره الكرماني، وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك، والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك، وورودهما في هذا كثير ومنه حديث الرؤيا " كان مما يقول لأصحابه: "من رأى منكم رؤيا " ؟ ومنه قول الشاعر:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على وجهه يلقى اللسان من الفم
قلت: ويؤيده أن رواية المصنف في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة ولفظها " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه".فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني، فظهر ما قال ثابت، ووجه ما قال غيره: إن " من " إذا وقع بعدها " ما " كانت بمعنى ربما، وهي تطلق على القليل والكثير.وفي كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله: اعلم أنهم مما يحذفون كذا.والله أعلم.ومنه حديث البراء: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مما نحب أن نكون عن يمينه " الحديث، ومن حديث سمرة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: "من رأى منكم رؤيا" .قوله: "فقال ابن عباس فأنا أحركهما" جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول، وعبر في الأول بقوله: "كان يحركهما " وفي الثاني برأيت، لأن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، وإلى هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين(1)، لكن يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم، الأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحا في مسند أبي داود الطيالسي قال: حدثنا أبو عوانة بسنده.وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع.قوله: "فحرك شفتيه" وقوله: فأنزل الله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} لا تنافي بينهما، لأن تحريك الشفتين، بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق
ـــــــ
(1) ن. خ: أو أقل

(1/29)


بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان،أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وقد مضى أن في رواية جرير في التفسير " يحرك به لسانه وشفتيه " فجمع بينهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره.ووقع في رواية للترمذي " يحرك به لسانه يريد أن يحفظه"، وللنسائي: "يعجل بقراءته ليحفظه"، ولابن أبي حاتم " يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره"، وفي رواية الطبري عن الشعبي " عجل يتكلم به من حبه إياه " وكلا الأمرين مراد، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، فأمر بأن ينصت حتى يقضي إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالى {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي: بالقراءة.قوله: "جمعه لك صدرك" كذا في أكثر الروايات(1) وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله: أنبت الربيع البقل، أي: أنبت الله في الربيع البقل، واللام في " لك " للتبيين أو للتعليل.وفي رواية كريمة والحموي " جمعه لك في صدرك " وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس.وقال في تفسير "فاتبع" أي: فاستمع وأنصت، وفي تفسير "بيانه" أي: علينا أن تقرأه.ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته، فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح في الأصول، والكلام في تفسير الآيات المذكورة أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه.والله أعلم.

(1/30)


5- باب
6- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
[الحديث 6-أطرافه في: 4997,3554,3220,1902,]
قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان المروزي أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك أخبرنا يونس هو ابن يزيد الأيلي.قوله: "أخبرنا يونس ومعمر نحوه" أي: أن عبد الله بن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده، وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معا، أما باللفظ فعن يونس وأما بالمعنى فعن معمر.قوله: "عبيد الله" هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الآتي في الحديث الذي بعده.قوله: "أجود الناس" بنصب أجود لأنها خبر كان، وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها - وإن كانت لا تتعلق بالقرآن - على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها.ومعنى أجود الناس: أكثر الناس جودا، والجود الكرم، وهو من الصفات المحمودة.وقد أخرج الترمذي من حديث سعد رفعه: "إن الله جواد يحب الجود " الحديث.وله في حديث أنس رفعه: "أنا أجود ولد آدم، وأجودهم بعدي رجل علم علما فنشر علمه، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله " وفي سنده مقال، وسيأتي في الصحيح من وجه آخر عن أنس " كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس". الحديث.قوله: "وكان أجود ما يكون" هو برفع أجود هكذا في أكثر الروايات، وأجود اسم كان وخبره محذوف، وهو نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة.أو هو مرفوع على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر وهو " ما يكون " وما مصدرية وخبره في رمضان،والتقدير
ـــــــ
(1) غير رواية اليونينية

(1/30)


قيل: الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود.والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة.وأيضا فرمضان موسم الخيرات، لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده.فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود.والعلم عند الله تعالى.قوله: "فلرسول الله صلى الله عليه وسلم " الفاء للسببية، واللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيدا، أو هي جواب قسم مقدر.والمرسلة أي: المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه.ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث: "لا يسأل شيئا إلا أعطاه " وثبتت هذه الزيادة في الصحيح من حديث جابر " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا".وقال النووي: في الحديث فوائد: منها الحث على الجود في كل وقت، ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح.وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه.فإن قيل: المقصود تجويد الحفظ، قلنا الحفظ كان حاصلا، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس، وأنه يجوز أن يقال رمضان من غير إضافة غير ذلك مما يظهر بالتأمل.قلت: وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة - رضي الله عنها - وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب. والله أعلم بالصواب.

(1/31)


6 باب
7- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا.فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ.ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟قُلْتُ: لاَ.قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟قُلْتُ

(1/31)


لاَ.قالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟قُلْتُ: لاَ.قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟قُلْتُ: لاَ.قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا.قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟قُلْتُ: نَعَمْ.قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.وَسَأَلْتُكَ:أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ.وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ.وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ.سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى.أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ {وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}

(1/32)


قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا.فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ.فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ.
وَكَانَ ابْنُ النَّاطورِ - صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ - سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ.قَالَ ابْنُ النَّاطورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ، فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ.فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ؟فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ.ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ.وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ نَبِيٌّ. فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ.وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ.رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
[الحديث 7- أطرافه في: 7541,7196,6260,5980,4553,3174,2987,2941,2804,2681,51]
قوله: "قال حدثنا أبو اليمان" في رواية الأصيلي وكريمة: حدثنا الحكم بن نافع، وهو هو، أخبرنا شعيب: هو ابن أبي حمزة دينار الحمصي، وهو من أثبات أصحاب الزهري.قوله: "أن أبا سفيان" هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.قوله: "هرقل" هو ملك الروم، وهرقل: اسمه، وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف، ولقبه قيصر، كما يلقب ملك الفرس: كسرى ونحوه.قوله: "في ركب" جمع راكب كصحب وصاحب، وهم: أولو الإبل، العشرة فما فوقها.والمعنى: أرسل إلى أبي سفيان حال كونه في جملة الركب، وذاك لأنه كان كبيرهم فلهذا خصه، وكان عدد الركب ثلاثين رجلا، رواه الحاكم في الإكليل.ولابن السكن: نحو من عشرين، وسمي منهم المغيرة بن شعبة في مصنف ابن أبي شيبة بسند مرسل، وفيه نظر، لأنه كان إذ ذاك مسلما.ويحتمل أن يكون رجع حينئذ إلى قيصر ثم قدم المدينة مسلما.وقد وقع ذكره أيضا في أثر آخر في كتاب السير لأبي إسحاق الفزاري، وكتاب الأموال لأبي عبيد من طريق سعيد بن المسيب قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر.. الحديث وفيه: فلما قرأ قيصر الكتاب قال: هذا كتاب لم أسمع بمثله.ودعا أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة وكانا تاجرين هناك، فسأل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.قوله: "وكانوا تجارا" بضم التاء وتشديد الجيم، أو كسرها والتخفيف،

(1/33)


جمع تاجر.قوله: "في المدة" يعني مدة الصلح بالحديبية، وسيأتي شرحها في المغازي، وكانت في سنة ست، وكانت مدتها عشر سنين كما في السيرة، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، ولأبي نعيم في مسند عبد الله ابن دينار: كانت أربع سنين، وكذا أخرجه الحاكم في البيوع من المستدرك، والأول أشهر.لكنهم نقضوا، فغزاهم سنة ثمان وفتح مكة.وكفار قريش بالنصب مفعول معه.قوله: "فأتوه" تقديره: أرسل إليهم في طلب إتيان الركب، فجاء الرسول يطلب إتيانهم فأتوه، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} " أي: فضرب فانفجرت.ووقع عند المؤلف في الجهاد أن الرسول وجدهم ببعض الشام.وفي رواية لأبي نعيم في الدلائل تعيين الموضع وهو غزة.قال: وكانت وجه متجرهم.وكذا رواه ابن إسحاق في المغازي عن الزهري، وزاد في أوله عن أبي سفيان قال: كنا قوما تجارا، وكانت الحرب قد حصبتنا، فلما كانت الهدنة خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة.فذكره.وفيه: فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه.فوالله إني وأصحابي بغزة، إذ هجم علينا فساقنا جميعا.قوله: "بإيلياء" بهمزة مكسورة بعدها ياء أخيرة ساكنة، ثم لام مكسورة ثم ياء أخيرة ثم ألف مهموزة، وحكى البكري فيها القصر، ويقال لها أيضا إليا بحذف الياء الأولى وسكون اللام حكاه البكري، وحكى النووي مثله لكن بتقديم الياء على اللام واستغربه، قيل: معناه بيت الله.وفي الجهاد عند المؤلف: أن هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس، مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله.زاد ابن إسحاق عن الزهري: أنه كان تبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين فيمشي عليها، ونحوه لأحمد من حديث ابن أخي الزهري عن عمه.وكان سبب ذلك ما رواه الطبري وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة ملخصها: أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل، فخربوا كثيرا من بلاده، ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره، فاطلع أميره على ذلك فباطن هرقل، واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس، فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى على ذلك.واسم الأمير المذكور: شهر براز، واسم الغير الذي أراد كسرى تأميره فرحان(1).قوله: "فدعاهم في مجلسه" أي: في حال كونه في مجلسه، وللمصنف في الجهاد " فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج".قوله: "وحوله" بالنصب لأنه ظرف مكان.قوله: "عظماء" جمع عظيم.ولابن السكن: فأدخلنا عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان والروم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم - عليهما السلام - على الصحيح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وسليح وغيرهم من غسان كانوا سكانا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها فاختلطت أنسابهم.قوله: "ثم دعاهم ودعا ترجمانه" وللمستملي: "بالترجمان " مقتضاه: أنه أمر بإحضارهم، فلما حضروا استدناهم لأنه ذكر أنه دعاهم ثم دعاهم فينزل على هذا، ولم يقع تكرار ذلك إلا في هذه الرواية.والترجمان بفتح التاء المثناة وضم الجيم ورجحه النووي في شرح مسلم، ويجوز ضم التاء اتباعا، ويجوز فتح الجيم مع فتح أوله حكاه الجوهري، ولم يصرحوا بالرابعة وهي ضم أوله وفتح الجيم.وفي رواية الأصيلي وغيره: "بترجمانه " يعني: أرسل إليه رسولا أحضره صحبته، والترجمان المعبر عن لغة بلغة، وهو معرب وقيل: عربي.قوله: "فقال: أيكم أقرب نسبا" أي قال الترجمان على لسان هرقل.قوله: "بهذا الرجل" زاد ابن السكن: الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي.قوله: "قلت أنا أقربهم نسبا" في رواية ابن السكن: فقالوا هذا أقربنا به نسبا، هو ابن عمه أخي أبيه.وإنما كان أبو سفيان أقرب لأنه من بني عبد مناف، وقد أوضح ذلك المصنف في الجهاد بقوله: قال ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي.قال أبو سفيان: ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري ا هـ.وعبد مناف الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان، وأطلق
ـــــــ
(1) الذي في تاريخ الطبري(1: 1002طبع ليدن و2: 140 طبع الحسينية بالقاهرة) :فرهان, وتدعى مرتبته شهر براز

(1/34)


عليه ابن عم لأنه نزل كلا منهما منزلة جده،فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعلى هذا ففيما أطلق في رواية ابن السكن تجوز، وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك: كيف نسبه فيكم؟ وقوله: "بهذا الرجل " ضمن أقرب معنى أوصل فعداه بالباء، ووقع في رواية مسلم: "من هذا الرجل " وهو على الأصل.وقوله: "الذي يزعم " في رواية ابن إسحاق عن الزهري " يدعي".وزعم: قال الجوهري بمعنى قال، وحكاه أيضا ثعلب وجماعة كما سيأتي في قصة ضمام في كتاب العلم.قلت: وهو كثير ويأتي موضع الشك غالبا.قوله: "فاجعلوهم عند ظهره" أي: لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، وقد صرح بذلك الواقدي.وقوله: "إن كذبني " بتخفيف الذال أي: إن نقل إلي الكذب.قوله: "قال(1)" أي: أبو سفيان.وسقط لفظ قال من رواية كريمة وأبي الوقت فأشكل ظاهره، وبإثباتها يزول الإشكال.قوله: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا" أي: ينقلوا على الكذب لكذبت عليه.وللأصيلي عنه أي: عن الإخبار بحاله.وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق، أو بالعرف.وفي قوله: يأثروا دون قوله يكذبوا، دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا.وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك ولفظه: "فوالله لو قد كذبت ما ردوا علي"، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم عن الكذب، وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عني ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه.وزاد ابن إسحاق في روايته: قال أبو سفيان فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف، يعني: هرقل.قوله: "كان أول" هو بالنصب على الخبر، وبه جاءت الرواية، ويجوز رفعه على الاسمية.قوله: "كيف نسبه فيكم؟" أي: ما حال نسبه فيكم، أهو من أشرافكم أم لا؟ فقال: هو فينا ذو نسب.فالتنوين فيه للتعظيم، وأشكل هذا على بعض الشارحين، وهذا وجهه.قوله: "فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟" وللكشميهني والأصيلي بدل قبله " مثله " فقوله: منكم أي من قومكم يعني قريشا أو العرب.ويستفاد منه أن الشفاهي يعم، لأنه لم يرد المخاطبين فقط.وكذا قوله: فهل قاتلتموه؟ وقوله: بماذا يأمركم؟ واستعمل قط بغير أداة النفي وهو نادر، ومنه قول عمر: "صلينا أكثر ما كنا قط وآمنه ركعتين " ويحتمل أن يقال: إن النفي مضمن فيه كأنه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط.قوله: "فهل كان من آبائه ملك؟" ولكريمة والأصيلي وأبي الوقت بزيادة " من " الجارة، ولابن عساكر بفتح من، وملك فعل ماض، والجارة أرجح لسقوطها من رواية أبي ذر، والمعنى في الثلاثة واحد.قوله: "فأشراف الناس اتبعوه(1)" فيه إسقاط همزة الاستفهام وهو قليل، وقد ثبت للمصنف في التفسير ولفظه: أيتبعه أشراف الناس؟ والمراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم، لا كل شريف، حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال.ووقع في رواية ابن إسحاق: تبعه منا الضعفاء والمساكين، فأما ذوو الأنساب والشرف فاتبعه منهم أحد.وهو محمول على الأكثر الأغلب.قوله: "سخطة" بضم أوله وفتحه.وأخرج بهذا من ارتد مكرها، أو لا لسخط لدين الإسلام بل لرغبة في غيره كحظ نفساني، كما وقع لعبيد الله بن جحش.قوله: "هل كنتم تتهمونه بالكذب؟" أي: على الناس، وإنما عدل إلى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب، تقريرا لهم على صدقه، لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها، ولهذا عقبه بالسؤال عن الغدر.قوله: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا" أي: أنتقصه به، على أن التنقيص هنا أمر نسبي، وذلك أن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان معروفا عندهم
ـــــــ
(1) هذه الرواية غير رواية اليونينية اهـ مصححه

(1/35)


بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر.ولما كان الأمر مغيبا - لأنه مستقبل - أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده بالتردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه.وقد صرح ابن إسحاق في روايته عن الزهري بذلك بقوله: "قال فوالله ما التفت إليها مني".ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة مرسلا: "خرج أبو سفيان إلى الشام - فذكر الحديث، إلى أن قال - فقال أبو سفيان: هو ساحر كذاب.فقال هرقل: إني لا أريد شتمه، ولكن كيف نسبه - إلى أن قال - فهل يغدر إذا عاهد؟قال: لا، إلا أن يغدر في هدنته هذه.فقال: وما يخاف من هذه؟فقال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه.قال: إن كنتم بدأتم فأنتم أغدر".قوله: "سجال" بكسر أوله، أي: نوب، والسجل: الدلو، والحرب: اسم جنس، ولهذا جعل خبره اسم جمع.وينال أي: يصيب، فكأنه شبه المحاربين بالمستقيين: يستقي هذا دلوا وهذا دلوا.وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد، وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله: "يوم بيوم بدر، والحرب سجال " ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل نطق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث أوس بن حذيفة الثقفي لما كان يحدث وفد ثقيف، أخرجه ابن ماجة وغيره.ووقع في مرسل عروة " قال أبو سفيان: غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب، ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وجدع الآذان " وأشار بذلك إلى يوم أحد.قوله: "بماذا يأمركم" ؟ يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه.قوله: "يقول اعبدوا الله وحده" فيه أن للأمر صيغة معروفة، لأنه أتى بقوله: "اعبدوا الله " في جواب ما يأمركم، وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة، لأن أبا سفيان من أهل اللسان، وكذلك الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم وقد رواه عنه مقرا له.قوله: "ولا تشركوا به شيئا" سقط من رواية المستملي الواو فيكون تأكيدا لقوله وحده.قوله: "واتركوا ما يقول آباؤكم" هي كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيها على عذرهم في مخالفتهم له، لأن الآباء قدوة عند الفريقين، أي عبدة الأوثان والنصارى.قوله: "ويأمرنا بالصلاة والصدق" وللمصنف في رواية: "الصدقة " بدل الصدق، ورجحها شيخنا شيخ الإسلام، ويقويها رواية المؤلف في التفسير " الزكاة " واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع، ويرجحها أيضا ما تقدم من أنهم كانوا يستقبحون الكذب فذكر ما لم يألفوه أولى.قلت: وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعا كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة، وقد كانا من مألوف عقلائهم، وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني والسرخسي، قال: "بالصلاة والصدق والصدقة " وفي قوله: يأمرنا بعد قوله يقول اعبدوا الله إشارة إلى أن المغايرة بين الأمرين لما يترتب على مخالفهما، إذ مخالف الأول كافر، والثاني ممن قبل الأول عاص.قوله: "فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها" الظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة.قوله: "لقلت رجل تأسى بقول" كذا للكشميهني، ولغيره: "يتأسى " بتقديم الياء المثناة من تحت، وإنما لم يقل هرقل: "فقلت " إلا في هذا وفي قوله: "هل كان من آبائه من ملك " لأن هذين المقامين مقام فكر ونظر، بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل.قوله: "فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه" هو بمعنى قول أبي سفيان ضعفاؤهم، ومثل ذلك يتسامح به لاتحاد المعنى.وقول هرقل: "وهم أتباع الرسل " معناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار الذين أصروا على الشقاق بغيا وحسدا، كأبي جهل وأشياعه، إلى أن أهلكهم الله تعالى، وأنقذ بعد حين من أراد سعادته منهم.قوله: "وكذلك الإيمان" أي: أمر الإيمان، لأنه يظهر نورا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها، ولهذا نزلت في آخر سني النبي صلى الله عليه وسلم: "اليوم أكملت لكلم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" ومنه: "ويأبى الله إلا أن يتم نوره" وكذا جرى لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم: لم يزالوا في زيادة حتى كمل بهم ما أراد الله من إظهار دينه وتمام نعمته، فله الحمد والمنة.قوله: "حين يخالط بشاشة القلوب".كذا روي بالنصب على المفعولية والقلوب مضاف إليه، أي: يخالط الإيمان انشراح الصدور، وروي: "بشاشته القلوب " بالضم والقلوب

(1/36)


مفعول، أي يخالط بشاشة الإيمان وهو شرحه القلوب التي يدخل فيها.زاد المصنف في الإيمان: "لا يسخطه أحد " كما تقدم.وزاد ابن السكن في روايته في معجم الصحابة: "يزداد به عجبا وفرحا".وفي رواية ابن إسحاق: "وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه".قوله: "وكذلك الرسل لا تغدر" لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة.ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان كما تقدم.وسقط من هذه الرواية إيراد تقدير السؤال العاشر والذي بعده وجوابه، وقد ثبت الجميع في رواية المؤلف التي في الجهاد وسيأتي الكلام عليه ثم، إن شاء الله تعالى."فائدة": قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه لأنه قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم.وما أورده احتمالا جزم به ابن بطال؛ وهو ظاهر.قوله: "فذكرت أنه يأمركم" ذكر ذلك بالاقتضاء، لأنه ليس في كلام أبي سفيان ذكر الأمر بل صيغته.وقوله: "وينهاكم عن عبادة الأوثان " مستفاد من قوله: "ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم " لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان.قوله: "أخلص" بضم اللام أي: أصل، يقال خلص إلى كذا أي وصل.قوله: "لتجشمت" بالجيم والشين المعجمة، أي: تكلفت الوصول إليه.وهذا يدل على أنه كان يتحقق أنه لا يسلم من القتل إن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستفاد ذلك بالتجربة كما في قصة ضغاطر الذي أظهر لهم إسلامه فقتلوه(1).وللطبراني من طريق ضعيف عن عبد الله بن شداد عن دحية في هذه القصة مختصرا، فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.وفي مرسل ابن إسحاق بعض أهل العلم أن هرقل قال: ويحك، والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته.لكن لو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أرسل إليه " أسلم تسلم " وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسلم لو أسلم من كل ما يخافه.ولكن التوفيق بيد الله تعالى.قوله: "لغسلت عن قدميه " مبالغة في العبودية له والخدمة.زاد عبد الله بن شداد عن أبي سفيان: "لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه " وهي تدل على أنه كان بقي عنده بعض شك.وزاد فيها: "ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقا من كرب الصحيفة " يعني: لما قرئ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه - إذا وصل إليه سالما - لا ولاية ولا منصبا، وإنما يطلب ما تحصل له به البركة.وقوله: "وليبلغن ملكه ما تحت قدمي " أي: بيت المقدس، وكنى بذلك لأنه موضع استقراره.أو أراد الشام كله لأن دار مملكته كانت حمص.ومما يقوى أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال، أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين، ففي مغازي ابن إسحاق: وبلغ المسلمين لما نزلوا معان من أرض الشام، أن هرقل نزل في مائة ألف من المشركين، فحكى كيفية الوقعة.وكذا روى ابن حبان في صحيحه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه، وأنه قارب الإجابة، ولم يجب.فدل ظاهر ذلك على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفا من أن يقتله قومه.إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ": كذب، بل هو على نصرانيته" .وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسند صحيح من مرسل بكر عبد الله المزني نحوه، ولفظه فقال: كذب عدو الله، ليس بمسلم.فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن - أي أظهر التصديق - لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه، بل شح بملكه وآثر الفانية على الباقية.والله الموفق.قوله: "ثم دعا" أي: من وكل ذلك إليه، ولهذا عدى إلى الكتاب بالباء.والله أعلم.قوله: "دحية" بكسر الدال، وحكى فتحها لغتان، ويقال إنه
ـــــــ
(1) ستأتي قصته في ص 42

(1/37)


الرئيس بلغة أهل اليمن، وهو ابن خليفة الكلبي، صحابي جليل كان أحسن الناس وجها، وأسلم قديما، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل، وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع، قاله الواقدي.ووقع في تاريخ خليفة أن إرسال الكتاب إلى هرقل كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة الهدنة، والهدنة كانت في آخر سنة ست اتفاقا، ومات دحية في خلافة معاوية.وبصري بضم أوله والقصر مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل هي حوران، وعظيمها هو الحارث بن أبي شمر الغساني.وفي الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل مع عدي بن حاتم، وكان عدي إذ ذاك نصرانيا، فوصل به هو ودحية معا، وكانت وفاة الحارث المذكور عام الفتح.قوله: "من محمد" فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة.والحق إثبات الخلاف.وفيه أن " من " التي لابتداء الغاية تأتي من غير الزمان والمكان كذا قاله أبو حيان، والظاهر أنها هنا أيضا لم تخرج عن ذلك، لكن بارتكاب مجاز.زاد في حديث دحية: وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس.وفيه: لما قرأ الكتاب سخر فقال: لا تقرأه، إنه بدأ بنفسه.فقال قيصر: لتقرأنه.فقرأه.وقد ذكر البزار في مسنده عن دحية الكلبي أنه هو ناول الكتاب لقيصر، ولفظه: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى قيصر فأعطيته الكتاب".قوله: "عظيم الروم" فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة، لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف.وفي حديث دحية أن ابن أخي قيصر أنكر أيضا كونه لم يقل ملك الروم.قوله: "سلام على من اتبع الهدى" في رواية المصنف في الاستئذان " السلام " بالتعريف.وقد ذكرت في قصة موسى وهارون مع فرعون.وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أمرا به أن يقولاه.فإن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؟ فالجواب أن المفسرين قالوا: ليس المراد من هذا التحية، إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم.ولهذا جاء بعده أن العذاب على من كذب وتولى.وكذا جاء في بقية هذا الكتاب " فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" .فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا وإن كان اللفظ يشعر به، لكنه لم يدخل في المراد لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه.قوله: "أما بعد" في قوله: "أما " معنى الشرط، وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبا، وقد ترد مستأنفة لا لتفصيل كالتي هنا، وللتفصيل والتقرير.وقال الكرماني: هي هنا للتفصيل وتقديره: أما الابتداء فهو اسم الله، وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله الخ، كذا قال.ولفظة " بعد " مبنية على الضم، وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة، لكنها قطعت عن الإضافة فبنيت على الضم، وسيأتي مزيد في الكلام عليها في كتاب الجمعة.قوله: "بدعاية الإسلام" بكسر الدال، من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية.ولمسلم: "بداعية الإسلام " أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباء موضع إلى.وقوله: "أسلم تسلم " غاية في البلاغ، وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقي.قوله: "يؤتك" جواب ثان للأمر.وفي الجهاد للمؤلف " أسلم أسلم يؤتك " بتكرار أسلم، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام والثاني للدوام عليه كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية.وهو موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} الآية.وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه.وسيأتي التصريح بذلك في موضعه من حديث الشعبي من كتاب العلم إن شاء الله تعالى.واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل.وقد قال له ولقومه: "يا أهل الكتاب" فدل على أن لهم

(1/38)


حكم أهل الكتاب خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل.والله أعلم.قوله: "فإن توليت" أي: أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام.وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء، وهي استعارة تبعية.قوله: "الأريسيين" هو جمع أريسي، وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل، وقد تقلب همزته ياء كما جاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما هنا، قال ابن سيده: الأريس الأكار، أي: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس هو الأمير.وقال الجوهري: هي لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد جاء مصرحا به في رواية ابن إسحاق عن الزهري بلفظ: "فإن عليك إثم الأكارين " زاد البرقاني في روايته: يعني الحراثين، ويؤيده أيضا ما في رواية المدائني من طريق مرسلة " فإن عليك إثم الفلاحين"، وكذا عند أبي عبيد في كتاب الأموال من مرسل عبد الله بن شداد " وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام " قال أبو عبيدة: المراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أو بغيره.قال الخطابي: أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له، لأن الأصاغر أتباع الأكابر.قلت: وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو: فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين، لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى، وهذا يعد من مفهوم الموافقة، ولا يعارض بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأن وزر الآثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه.وقد ورد تفسير الأريسيين بمعنى آخر، فقال الليث بن سعد عن يونس فيما رواه الطبراني في الكبير من طريقه: الأريسيون العشارون يعني أهل المكس.والأول أظهر.وهذا إن صح أنه المراد، فالمعنى المبالغة في الإثم، ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزنا " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت". قوله: {ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الخ" هكذا وقع بإثبات الواو في أوله، وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلي وأبي ذر، وعلى ثبوتها فهي داخلة على مقدر معطوف على قوله: "أدعوك" ، فالتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ويحتمل أن تكون من كلام أبي سفيان لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب، فاستحضر منها أول الكتاب فذكره، وكذا الآية.وكأنه قال فيه: كان فيه كذا وكان فيه يا أهل الكتاب.فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب، وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت، والسبب في هذا أن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع، وقصة سفيان كانت قبل ذلك سنة ست، وسيأتي ذلك واضحا في المغازي، وقيل: بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق.وقيل: نزلت في اليهود.وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد."فائدة": قيل في هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو وكذا بالسفر به.وأغرب ابن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك.ويحتمل أن يقال: إن المراد بالقرآن في حديث النهي عن السفر به أي المصحف، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه.وأما الجنب فيحتمل أن يقال إذا لم يقصد التلاوة جاز، على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصة نظرا، فإنها واقعة عين لا عموم فيها، فيقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والإنذار كما في هذه القصة، وأما الجواز مطلقا حيث لا ضرورة فلا يتجه، وسيأتي مزيدا لذلك في كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى.وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله: "أسلم " والترغيب بقوله: "تسلم ويؤتك " والزجر بقوله: "فإن توليت"

(1/39)


والترهيب بقوله: "فإن عليك " والدلالة بقوله: "يا أهل الكتاب " وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.قوله: "فلما قال ما قال" يحتمل أن يشير بذلك إلى الأسئلة والأجوبة، ويحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التي ذكرها ابن الناطور بعد، والضمائر كلها تعود على هرقل.والصخب: اللغط، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة، زاد في الجهاد: فلا أدري ما قالوا.قوله: "فقلت لأصحابي" زاد في الجهاد: حين خلوت بهم.قوله: "أمر" هو بفتح الهمزة وكسر الميم أي: عظم، وسيأتي في تفسير سبحان.وابن أبي كبشة أراد به النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض، قال أبو الحسن النسابة الجرجاني: هو جد وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه.وهذا فيه نظر، لأن وهبا جد النبي صلى الله عليه وسلم اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، ولم يقل أحد من أهل النسب إن الأوقص يكنى أبا كبشة.وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه، وفيه نظر أيضا لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجي، ولم يقل أحد من أهل النسب إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة.ولكن ذكر ابن حبيب في المجتبي جماعة من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه ومن قبل أمه كل واحد منهم يكنى أبا كبشة، وقيل هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزي، قاله أبو الفتح الأزدي وابن ماكولا، وذكر يونس ابن بكير عن ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من قومه أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها.وقال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني: هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشعري فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة، وكذا قاله الزبير، قال: واسمه وجز بن عامر بن غالب.قوله: "إنه يخافه" هو بكسر الهمزة استئنافا تعليليا لا بفتحها ولثبوت اللام في " ليخافه " في رواية أخرى.قوله: "ملك بني الأصفر" هم الروم، ويقال إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر، حكاه ابن الأنباري.وقال ابن هشام في التيجان: إنما لقب الأصفر لأن جدته سارة زوج إبراهيم حلته بالذهب.قوله: "فما زلت موقنا" زاد في حديث عبد الله بن شداد عن أبي سفيان " فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت " أخرجه الطبراني.قوله: "حتى أدخل الله على الإسلام" أي: فأظهرت ذلك اليقين، وليس المراد أن ذلك اليقين ارتفع.قوله: "وكان ابن الناطور" هو بالطاء المهملة.وفي رواية الحموي بالظاء المعجمة، وهو بالعربية حارس البستان.ووقع في رواية الليث عن يونس " ابن ناطورا " بزيادة ألف في آخره.فعلى هذا هو اسم أعجمي."تنبيه": الواو في قوله: "وكان " عاطفة، والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله فذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة، فهي موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن، وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه لأنه(1) لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك، وقد بين أبو نعيم في دلائل النبوة أن الزهري قال: لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان.وأظنه لم يتحمل عنه ذلك إلا بعد أن أسلم، وإنما وصفه بكونه كان سقفا لينبه على أنه كان مطلعا على أسرارهم عالما بحقائق أخبارهم، وكأن الذي جزم بأنه من رواية الزهري عن عبيد الله اعتمد على ما وقع في سيرة ابن إسحاق فإنه قدم قصة ابن الناطور هذه على حديث أبي سفيان، فعنده عن عبيد الله عن ابن عباس أن هرقل أصبح خبيث النفس، فذكر نحوه.وجزم الحفاظ بما ذكرته أولا، وهذا مما ينبغي أن يعد فيما وقع من الإدراج أول الخبر.والله أعلم.قوله: "صاحب إيلياء" أي: أميرها، هو منصوب على الاختصاص أو الحال، أو مرفوع على الصفة، وهي رواية أبي ذر، والإضافة التي فيه تقوم مقام التعريف.وقول من زعم أنها في تقدير
ـــــــ
(1) ن. خ: كأنه

(1/40)


الانفصال في مقام المنع، وهرقل معطوف على إيلياء، وأطلق عليه الصحبة له إما بمعنى اتبع، وإما بمعنى الصداقة، وفيه استعمال صاحب في معنيين مجازي وحقيقي، لأنه بالنسبة إلى إيلياء أمير وذاك مجاز، وبالنسبة إلى هرقل تابع وذلك حقيقة.قال الكرماني: وإرادة المعنيين الحقيقي والمجازي من لفظ واحد جائز عند الشافعي، وعند غيره محمول على إرادة معنى شامل لهما وهذا يسمى عموم المجاز.وقوله: "سقفا " بضم السين والقاف كذا في رواية غير أبي ذر، وهو منصوب على أنه خبر كان، و " يحدث " خبر بعد خبر.وفي رواية الكشميهني سقف بكسر القاف على ما لم يسم فاعله.وفي رواية المستملي والسرخسي مثله لكن بزيادة ألف في أوله، والأسقف والسقف لفظ أعجمي ومعناه رئيس دين النصارى، وقيل: عربي وهو الطويل في انحناء، وقيل: ذلك للرئيس لأنه يتخاشع.وقال بعضهم: لا نظير له في وزنه إلا الأسرب وهو الرصاص، لكن حكى ابن سيده ثالثا وهو الأسكف للصانع، ولا يرد الأترج لأنه جمع والكلام إنما هو في المفرد، وعلى رواية أبي ذر يكون الخبر الجملة التي هي: "يحدث أن هرقل"، فالواو في قوله: "وكان "عاطفة والتقدير عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، فذكر حديث أبي سفيان بطوله ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث.وهذا صورة الإرسال.قوله: "حين قدم إيلياء" يعني في هذه الأيام، وهي عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم، وكان ذلك في السنة التي اعتمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا.وقد ذكر الترمذي وغيره القصة مستوفاة في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} ، وفي أول الحديث في الجهاد عند المؤلف الإمارة إلى ذلك.قوله: "خبيث النفس" أي: رديء النفس غير طيبها، أي مهموما.وقد تستعمل في كسل النفس، وفي الصحيح: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي " كأنه كره اللفظ، والمراد بالخطاب المسلمون، وأما في حق هرقل فغير ممتنع.وصرح في رواية ابن إسحاق بقولهم له: "لقد أصبحت مهموما".والبطارقة: جمع بطريق بكسر أوله وهم خواص دولة الروم.قوله: "حزاء" بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة أي كاهنا، يقال حزا بالتخفيف يحزو حزوا أي تكهن، وقوله: "ينظر في النجوم " إن جعلتها خبرا ثانيا صح لأنه كان ينظر في الأمرين، وإن جعلتها تفسيرا للأول فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعا ذائعا، إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأنكر الشرع الاعتماد عليهم، وكان ما اطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين، أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين(1) ببرج العقرب، وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلا أن تستوفى المثلثة بروجها في ستين سنة، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القرآن المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرت فتح مكة وظهور الإسلام، وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى.ومن جملة ما ذكروه أيضا أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون، فكان ذلك دليلا على انتقال الملك إلى العرب، وأما اليهود فليسوا مرادا هنا لأن هذا لمن ينقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه.فإن قيل: كيف ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدل عليه أحكامهم؟فالجواب: أنه لم يقصد ذلك، بل قصد أن يبين أن الإشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل أنسي أو جني، وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم أو يجنح إليه محتج.وقد قيل: إن الحزاء هو الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة.وهذا إن ثبت فلا يلزم منه حصره في ذلك بل
ـــــــ
(1) ن. خ: العلوتين

(1/41)


اللائق بالسياق في حق هرقل ما تقدم.قوله: "ملك الختان" بضم الميم وإسكان اللام، وللكشميهني بفتح الميم وكسر اللام.قوله: "قد ظهر" أي: غلب، يعني دله نظره في حكم النجوم على أن ملك الختان قد غلب، وهو كما قال، لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبي صلى الله عليه وسلم إذ صالح كفار مكة بالحديبية وأنزل الله تعالى عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي كان بينهم بالحديبية، ومقدمة الظهور ظهور.قوله: "من هذه الأمة" أي: من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز، وهذا بخلاف قوله: بعد هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، فإن مراده به العرب خاصة، والحصر في قولهم إلا اليهود هو بمقتضى علمهم، لأن اليهود كانوا بإيلياء وهي بيت المقدس كثيرين تحت الذلة مع الروم، بخلاف العرب فإنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان لكنهم كانوا ملوكا برأسهم.قوله: "فلا يهمنك" بضم أوله، من أهم: أثار الهم.وقوله: "شأنهم " أي: أمرهم.و " مدائن ": جمع مدينة قال أبو علي الفارسي: من جعله فعليه من قولك مدن بالمكان أي: أقام به، همزه كقبائل، ومن جعله مفعلة من قولك دين أي: ملك، لم يهمز كمعايش.انتهى.وما ذكره في معايش هو المشهور، وقد روى خارجة عن نافع القارئ الهمز في معايش.وقال القزاز: من همزها توهمها من فعيلة لشبهها بها في اللفظ.انتهى.قوله: "فبينما هم على أمرهم" أي: في هذه المشورة.قوله: "أتى هرقل برجل" لم يذكر من أحضره.وملك غسان هو صاحب بصرى الذي قدمنا ذكره، وأشرنا إلى أن ابن السكن روى أنه أرسل من عنده عدي بن حاتم، فيحتمل أن يكون هو المذكور. والله أعلم.قوله: "عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم " فسر ذلك ابن إسحاق في روايته فقال: خرج من بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس، وخالفه ناس، فكانت بينهم ملاحم في مواطن، فتركتهم وهم على ذلك.فبين ما أجمل في حديث الباب لأنه يوهم أن ذلك كان في أوائل ما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.وفي رواية أنه قال: جردوه، فإذا هو مختتن، فقال: هذا والله الذي رأيته، أعطه ثوبه.قوله: "هم يختتنون" في رواية الأصيلي: "هم مختتنون " بالميم والأول أفيد وأشمل.قوله: "هذا ملك هذه الأمة قد ظهر" كذا لأكثر الرواة بالضم ثم السكون، وللقابسي بالفتح ثم الكسر، ولأبي ذر عن الكشميهني وحده يملك فعل مضارع، قال القاضي: أظنها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت، ووجهه السهيلي في أماليه بأنه مبتدأ وخبر، أي هذا المذكور بملك هذه الأمة.وقيل يجوز أن يكون يملك نعتا، أي: هذا رجل بملك هذه الأمة.وقال شيخنا: يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول على رأي الكوفيين، أي هذا الذي يملك، وهو نظير قوله: "وهذا تحملين طليق".على أن الكوفيين يجوزون استعمال اسم الإشارة بمعنى الاسم الموصول، فيكون التقدير: الذي يملك، من غير حذف، قلت: لكن اتفاق الرواة على حذف الياء في أوله دال على ما قال القاضي فيكون شاذا.على أنني رأيت في أصل معتمد وعليه علامة السرخسي بباء موحدة في أوله، وتوجيهها أقرب من توجيه الأول، لأنه حينئذ تكون الإشارة بهذا إلى ما ذكره من نظره في حكم النجوم، والباء متعلقة بظهر، أي هذا الحكم ظهر بملك هذه الأمة التي تختتن.قوله: "برومية" بالتخفيف، وهي مدينة معروفة للروم.وحمص مجرور بالفتحة منع صرفه للعلمية والتأنيث.ويحتمل أن يجوز صرفه. قوله: "فلم يرم" بفتح أوله وكسر الراء أي: لم يبرح من مكانه، هذا هو المعروف.وقال الداودي: لم يصل إلى حمص وزيفوه.قوله: "حتى أتاه كتاب من صاحبه" وفي حديث دحية الذي أشرت إليه قال: فلما خرجوا أدخلني عليه وأرسل إلي الأسقف وهو صاحب أمرهم فقال: هذا الذي كنا ننتظر، وبشرنا به عيسى، أما أنا فمصدقه ومتبعه.فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي، فذكر القصة، وفي آخره: فقال لي الأسقف: خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه السلام وأخبره أني أشهد أن لا إله إ لا الله وأن محمدا رسول الله، وأني قد آمنت به وصدقته، وأنهم قد أنكروا علي ذلك

(1/42)


ثم خرج إليهم فقتلوه.وفي رواية ابن إسحاق أن هرقل أرسل دحية إلى ضغاطر الرومي وقال: إنه في الروم أجوز قولا مني، وإن ضغاطر المذكور أظهر إسلامه وألقى ثيابه التي كانت عليه ولبس ثيابا بيضا وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه.قال: فلما رجع دحية إلى هرقل قال له: قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم مني.قلت: فيحتمل أن يكون هو صاحب رومية الذي أبهم هنا، لكن يعكر عليه ما قيل: إن دحية لم يقدم على هرقل بهذا الكتاب المكتوب في سنة الحديبية، وإنما قدم عليه بالكتاب المكتوب في غزوة تبوك، فالراجح أن دحية قدم على هرقل أيضا في الأولى، فعلى هذا يحتمل أن تكون وقعت لكل من الأسقف ومن ضغاطر قصة قتل كل منهما بسببها، أو وقعت لضغاطر قصتان إحداهما التي ذكرها ابن الناطور وليس فيها أنه أسلم ولا أنه قتل، والثانية التي ذكرها ابن إسحاق فإن فيها قصته مع دحية وأنه أسلم وقتل.والله أعلم.قوله: "وسار هرقل إلى حمص" لأنها كانت دار ملكه كما قدمناه، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق.وكان فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة ست عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين.قوله: "وأنه نبي" يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن هرقل كما ذكرنا لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه.قوله: "فأذن" هي: بالقصر من الإذن.وفي رواية المستملي وغيره بالمد ومعناه أعلم.و " الدسكرة " بسكون السين المهملة: القصر الذي حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها ثم اطلع عليهم فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خشية أن يثبوا به كما وثبوا بضغاطر.قوله: "والرشد" فتحتين "وأن يثبت ملككم" لأنهم إن تمادوا على الكفر كان سببا لذهاب ملكهم، كما عرف هو ذلك من الأخبار السابقة.قوله: "فتبايعوا" بمثناة ثم موحدة، وللكشميهني بمثناتين وموحدة، وللأصيلي: "فنبايع " بنون وموحدة "لهذا النبي" كذا لأبي ذر وللباقين بحذف اللام.قوله: "فحاصوا" بمهملتين أي: نفروا، وشبههم بالوحوش لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الإنسية، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل وعدم الفطنة بل هم أضل.قوله: "وأيس" في رواية الكشميهني والأصيلي: "ويئس " بيائين تحتانيتين وهما بمعنى قنط والأول مقلوب من الثاني.قوله: "من الإيمان" أي من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لأنه شح بملكه كما قدمنا، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه ويسلم ويسلموا بإسلامهم، فما أيس من الإيمان إلا بالشرط الذي أراده، وإلا فقد كان قادرا على أن يفر عنهم ويترك ملكه رغبة فيما عند الله والله الموفق.قوله: "آنفا" أي: قريبا، وهو منصوب على الحال.قوله: "فقد رأيت" زاد في التفسير: فقد رأيت منكم الذي أحببت.قوله: "فكان ذلك آخر شأن هرقل" أي: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلى الإيمان خاصة لأنه انقضى أمره حينئذ ومات، أو أنه أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما في علمه، وهذا أوجه، لأن هرقل وقعت له قصص أخرى بعد ذلك، منها ما أشرنا إليه من تجهيزه الجيوش إلى مؤتة ومن تجهيزه الجيوش أيضا إلى تبوك، ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم له ثانيا، وإرساله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهب فقسمه بين أصحابه كما في رواية ابن حبان التي أشرنا إليها قبل وأبي عبيد، وفي المسند من طريق سعيد بن أبي راشد التنوخي رسول هرقل قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك فبعث دحية إلى هرقل، فلما جاءه الكتاب دعا قسيسي الروم وبطارقتها، فذكر الحديث، قال فتحيروا حتى إن بعضهم خرج من برنسه، فقال: اسكتوا، فإنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم.وروى ابن إسحاق عن خالد بن بشار(1) عن رجل من قدماء الشام: أن هرقل لما أراد الخروج من الشام إلى القسطنطينية عرض على الروم أمورا:إما الإسلام
ـــــــ
(1) ن. خ: خالد بن يسار

(1/43)


وإما الجزية، وإما أن يصالح النبي صلى الله عليه وسلم ويبقى لهم ما دون الدرب، فأبوا، وأنه انطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال: السلام عليك أرض سورية - يعني الشام - تسليم المودع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية.واختلف الإخباريون هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر أو ابنه؟ والأظهر أنه هو.والله أعلم."تنبيه" لما كان أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مستبهما، لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل، ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرا.وقال الراوي في آخر القصة: فكان ذلك آخر شأن هرقل، ختم به البخاري هذا الباب الذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات، كأنه قال إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر.فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن الناطور في بدء الوحي لمناسبتها حديث الأعمال المصدر الباب به.ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ في القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه.فإن قيل: ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟ فالجواب أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الابتداء، ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل للدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة وهي قوله تعالى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية.وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية."تكميل" ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر وسأل أن يمكنه من تقبيله، فامتنع.قلت: وأنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي قال: حدثني سيف الدين فليح المنصوري قال: أرسلني الملك المنصور قلاوون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلني ملك الغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة فقبلها، وعرض علي الإقامة عنده فامتنعت، فقال لي: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا.انتهى.ويؤيد هذا ما وقع في حديث سعيد بن أبي راشد الذي أشرت إليه آنفا أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على التنوخي رسول هرقل الإسلام فامتنع، فقال له: يا أخا تنوخ إني كتبت إلى ملككم بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير.وكذلك أخرج أبو عبيد في كتاب الأموال من مرسل عمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية، ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جواب كسرى قال: مزق الله ملكه.ولما جاءه جواب هرقل قال: ثبت الله ملكه.والله أعلم.قوله: "رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري" قال الكرماني يحتمل ذلك وجهين: أن يروي البخاري عن الثلاثة بالإسناد المذكور كأنه قال: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهري، وأن يروي عنهم بطريق آخر.كما أن الزهري يحتمل أيضا في رواية الثلاثة أن يروى لهم عن عبيد الله عن ابن عباس، وأن يروى لهم عن غيره.هذا ما يحتمل اللفظ، وإن كان الظاهر الاتحاد.قلت:
ـــــــ
(1) ن. خ: عبد الملك بن سعيد

(1/44)


هذا الظاهر كاف لمن شم أدنى رائحة من علم الإسناد.والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن، وأما الاحتمال الأول فأشد بعدا لأن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان ولا سمع من يونس، وهذا أمر يتعلق بالنقل المحض فلا يلتفت إلى ما عداه، ولو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردد، وقد أوضحت ذلك في كتابي تعليق التعليق وأشير هنا إليه إشارة مفهمة: فرواية صالح وهو ابن كيسان أخرجها المؤلف في كتاب الجهاد بتمامها، من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وفيها من الفوائد الزوائد ما أشرت إليه في أثناء الكلام على هذا الحديث من قبل، ولكنه انتهى حديثه عند قول أبي سفيان: "حتى أدخل الله على الإسلام " زاد هنا: "وأنا كاره " ولم يذكر قصة ابن الناطور.وكذا أخرجه مسلم بدونها من حديث إبراهيم المذكور، ورواية يونس أيضا عن الزهري بهذا الإسناد أخرجها المؤلف في الجهاد مختصرة من طريق الليث، وفي الاستئذان مختصرة أيضا من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهري بسنده بعينه، ولم يسقه بتمامه، وقد ساقه بتمامه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث، وذكر فيه قصة ابن الناطور، ورواية معمر عن الزهري كذلك ساقها المؤلف بتمامها في التفسير، وقد أشرنا إلى بعض فوائد زائدة فيما مضى أيضا، وذكر فيه من قصة ابن الناطور قطعة مختصرة عن الزهري مرسلة.فقد ظهر لك أن أبا اليمان ما روى هذا الحديث عن واحد من الثلاثة، وأن الزهري إنما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله، وأن أحاديث الثلاثة عند المصنف عن غير أبي اليمان، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخ آخر لكان ذلك اختلافا قد يفضي إلى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ذلك الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى الصواب لا إله إلا هو

(1/45)


كتاب الإيمان
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس"
...
2- كِتَاب الإِيمَانِ
1- بَاب قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ"
وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ. وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ.قَالَ اللَّهُ تعالى :{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَوْلُهُ: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذكره: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} .وَقَوْلُهُ تعالى :{وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} .وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنْ الإِيمَانِ.وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنْ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ.وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. وَقَالَ مُعَاذُ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ.وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {شَرَعَ

(1/45)


لَكُمْ مِنْ الدِّينِ} : أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} : سَبِيلًا وَسُنَّةً
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. كتاب الإيمان" هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب الإيمان.وكتاب: مصدر، يقال: كتب يكتب كتابة وكتابا، ومادة كتب دالة على الجمع والضم، ومنها الكتيبة والكتابة، استعملوا ذلك فيما يجمع أشياء من الأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والضم فيه بالنسبة إلى المكتوب من الحروف حقيقة وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز، والباب موضوعه المدخل فاستعماله في المعاني مجاز.والإيمان لغة: التصديق.وشرعا: تصديق الرسول فيما جاء به عن ربه، وهذا القدر متفق عليه.ثم وقع الاختلاف: هل يشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبر عما في القلب، إذ التصديق من أفعال القلوب؟ أو من جهة العمل بما صدق به من ذلك، كفعل المأمورات وترك المنتهيات كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.والإيمان فيما قيل مشتق من الأمن، وفيه نظر لتباين مدلولي الأمن والتصديق، إلا أن لوحظ فيه معنى مجازي فيقال: أمنه، إذا صدقه أي: أمنه التكذيب.ولم يستفتح المصنف بدء الوحي بكتاب، لأن المقدمة لا تستفتح بما يستفتح به غيرها، لأنها تنطوي على ما يتعلق بما بعدها، واختلفت الروايات في تقديم البسملة على كتاب أو تأخيرها ولكل وجه، الأول ظاهر، ووجه الثاني وعليه أكثر الروايات أنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة، والأحاديث المذكورة بعد البسملة كالآيات مستفتحة بالبسملة.قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس"، سقط لفظ: "باب " من رواية الأصيلي، وقد وصل الحديث بعد تاما، واقتصاره على طرفه فيه تسمية الشيء باسم بعضه، والمراد باب هذا الحديث.قوله: "وهو" أي: الإيمان "قول وفعل ويزيد وينقص"، وفي رواية الكشميهني: "قول وعمل " وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله وهو إلى آخره مرفوع لما رآه معطوفا، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف.والكلام هنا في مقامين: أحدهما: كونه قولا وعملا، والثاني: كونه يزيد وينقص.فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات.ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان.وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله.ومن هنا نشأ ثم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي.والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط.والكرامية قالوا: هو نطق فقط.والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد.والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطا في صحته.والسلف جعلوها شرطا في كماله.وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى.أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفي عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته.وأثبتت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.وأما المقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص.وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا متى قبل ذلك كان شكا.قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة.ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكلا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها.وقد نقل محمد بن نصر المروزي

(1/46)


في كتابه " تعظيم قدر الصلاة " عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم.وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في " كتاب السنة " عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك، بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة.وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.ثم تلا {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} الآية.ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة.قوله: "والحب في الله والبغض في الله من الإيمان" هو لفظ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذر ولفظه: "أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله".ولفظ أبي أمامة: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".وللترمذي من حديث معاذ بن أنس نحو حديث أبي أمامة وزاد أحمد فيه: "ونصح لله " وزاد في أخرى: "ويعمل لسانه في ذكر الله " وله عن عمرو بن الجموح بلفظ: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله " ولفظ البزار رفعه: "أوثق عرا الإيمان الحب في الله والبغض في الله". وسيأتي عند المصنف: "آية الإيمان حب الأنصار " واستدل بذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن الحب والبغض يتفاوتان.قوله: "وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي" أي: ابن عميرة الكندي، وهو تابعي من أولاد الصحابة، وكان عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة فلذلك كتب إليه، والتعليق المذكور وصله أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان لهما من طريق عيس بن عاصم قال: حدثني عدي بن عدي قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز " أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع " الخ.قوله: "إن للإيمان فرائض" كذا ثبت في معظم الروايات باللام، وفرائض بالنصب على أنها اسم إن.وفي رواية ابن عساكر: "فإن الإيمان فرائض " على أن الإيمان اسم إن وفرائض خبرها، وبالأول جاء الموصول الذي أشرنا إليه.قوله: "فرائض" أي: أعمالا مفروضة، "وشرائع" أي: عقائد دينية، "وحدودا" أي: منهيات ممنوعة، "وسننا" أي: مندوبات.قوله: "فإن أعش فسأبينها" أي: أبين تفاريعها لا أصولها، لأن أصولها كانت معلومة لهم جملة، على تجويز تأخير البيان عن وقت الخطاب إذ الحاجة هنا لم تتحقق.والغرض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول بأن الإيمان يزيد وينقص حيث قال: استدل ولم يستدل.قال الكرماني: وهذا على إحدى الروايتين، وأما على الرواية الأخرى فقد يمنع ذلك لأنه جعل الإيمان غير الفرائض.قلت: لكن آخر كلامه يشعر بذلك وهو قوله: "فمن استكملها " أي: الفرائض وما معها " فقد استكمل الإيمان".وبهذا تتفق الروايتان.فالمراد أنها من المكملات، لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيمانا.قوله: "وقال إبراهيم عليه السلام: ولكن ليطمئن قلبي" أشار إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: "ليطمئن قلبي" أي: يزداد يقيني.وعن مجاهد قال: لأزداد إيمانا إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم - عليه السلام - مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمر باتباع ملته - كان كأنه ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك.وإنما فصل المصنف بين هذه الآية وبين

(1/47)


الآيات التي قبلها، لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص ومن هذه بالإشارة.والله أعلم.قوله: "وقال معاذ" هو ابن جبل، وصرح بذلك الأصيلي، والتعليق المذكور وصله أحمد وأبو بكر أيضا بسند صحيح إلى الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: "اجلس بنا نؤمن ساعة " وفي رواية لهما: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه.وعرف من الرواية الأولى أن الأسود أبهم نفسه.ويحتمل أن يكون معاذ قال ذلك له ولغيره.ووجه الدلالة منه ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمنا وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيمانا بذكر الله تعالى.وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا تعلق فيه للزيادة، لأن معاذا إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضا، ثم يكون أبدا مجددا كلما نظر أو فكر، وما نفاه أولا أثبته آخرا، لأن تجديد الإيمان إيمان.قوله: "وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله" هذا التعليق طرف من أثر وصله الطبراني بسند صحيح، وبقيته: والصبر نصف الإيمان.وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا، ولا يثبت رفعه.وجرى المصنف على عادته في الاقتصار على ما يدل بالإشارة، وحذف ما يدل بالصراحة، إذ لفظ النصف صريح في التجزئة.وفي الإيمان لأحمد من طريق عبد الله بن عكيم عن ابن مسعود أنه كان يقول: "اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها " وإسناده صحيح، وهذا أصرح في المقصود، ولم يذكره المصنف لما أشرت إليه."تنبيه": تعلق بهذا الأثر من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق.وأجيب بأن مراد ابن مسعود أن اليقين هو أصل الإيمان، فإذا أيقن القلب انبعثت الجوارح كلها للقاء الله بالأعمال الصالحة، حتى قال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي، لطار اشتياقا إلى الجنة وهربا من النار.قوله: "وقال ابن عمر الخ" المراد بالتقوى: وقاية النفس الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة.وبهذا التقرير يصح استدلال المصنف.وقوله: "حاك " بالمهملة والكاف الخفيفة أي: تردد، ففيه إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وحقيقته، وبعضهم لم يبلغ.وقد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم من حديث النواس مرفوعا، وعند أحمد من حديث وابصة، وحسن الترمذي من حديث عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": "لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " وليس فيها بشيء على شرط المصنف، فلهذا اقتصر على أثر ابن عمر، ولم أره إلى الآن موصولا.وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء قال: "تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراما".قوله: "وقال مجاهد" وصل هذا التعليق عبد بن حميد في تفسيره، والمراد أن الذي تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم.
"تنبيه": قال شيخ الإسلام البلقيني: وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه، وذلك أن لفظه: وقال مجاهد: "شرع لكم" أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا.والصواب: أوصاك يا محمد وأنبياءه.كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم.وبه يستقيم الكلام، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة! انتهى.ولا مانع من الإفراد في التفسير، وإن كان لفظ الآية بالجمع على إرادة المخاطب والباقون تبع، وإفراد الضمير لا يمتنع، لأن نوحا أفرد في الآية فلم يتعين التصحيف، وغاية ما ذكر من مجيء التفاسير بخلاف لفظه أن يكون مذكورا عند المصنف بالمعنى.والله أعلم.وقد استدل الشافعي وأحمد وغيرهما على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} قال الشافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية.أخرجه الخلال في كتاب السنة.قوله: "وقال ابن عباس" وصل هذا التعليق عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح.والمنهاج: السبيل: أي: الطريق الواضح.والشرعة

(1/48)


والشريعة بمعنى، وقد شرع أي: سن، فعلى هذا فيه لف ونشر غير مرتب.فإن قيل: هذا يدل على الاختلاف والذي قبله على الاتحاد، أجيب:بأن ذلك في أصول الدين وليس بين الأنبياء فيه اختلاف، وهذا في الفروع وهو الذي يدخله النسخ.

(1/49)


-باب دعاؤكم إيمانكم
8 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".
[الحديث 8_ طرفه في: 4515]
قوله: "دعاؤكم إيمانكم" قال النووي: يقع في كثير من النسخ هنا باب، وهو غلط فاحش وصوابه بحذفه، ولا يصح إدخال باب هنا إذ لا تعلق له هنا.قلت: ثبت باب في كثير من الروايات المتصلة، منها رواية أبي ذر، ويمكن توجيهه، لكن قال الكرماني: إنه وقف على نسخة مسموعة على الفربري بحذفه، وعلى هذا فقوله: "دعاؤكم إيمانكم " من قول ابن عباس، وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف حيث ينقل التفسير، وقد وصله ابن جرير من قول ابن عباس قال في قوله تعالى :{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} قال يقول: لولا إيمانكم.أخبر الله الكفار أنه لا يعبأ بهم، ولولا إيمان المؤمنين لم يعبأ بهم أيضا.ووجه الدلالة للمصنف أن الدعاء عمل وقد أطلقه على الإيمان فيصح إطلاق أن الإيمان عمل، وهذا على تفسير ابن عباس.وقال غيره: الدعاء هذا مصدر مضاف إلى المفعول، والمراد دعاء الرسل الخلق إلى الإيمان، فالمعنى ليس لكم عند الله عذر إلا أن يدعوكم الرسول فيؤمن من آمن ويكفر من كفر، فقد كذبتم أنتم فسوف يكون العذاب لازما لكم.وقيل: معنى الدعاء هنا: الطاعة.ويؤيده حديث النعمان بن بشير: "أن الدعاء هو العبادة " أخرجه أصحاب السنن بسند جيد.قوله: "حنظلة بن أبي سفيان"، هو قرشي مكي من ذرية صفوان بن أمية الجمحي.وعكرمة بن خالد هو: ابن سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ثقة متفق عليه، وفي طبقته عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ضعيف، ولم يخرج له البخاري، نبهت عليه لشدة التباسه، ويفترقان بشيوخهما، ولم يرو الضعيف عن ابن عمر.زاد مسلم في روايته عن حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسا أن رجلا قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت.. فذكر الحديث."فائدة": اسم الرجل السائل: حكيم، ذكره البيهقي.قوله: "على خمس" أي: دعائم.وصرح به عبد الرزاق في روايته.وفي رواية لمسلم على خمسة أي: أركان.فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة، إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودها، فكيف يضم مبني إلى مبني عليه في مسمى واحد؟أجيب: بجواز ابتناء أمر على أمر ينبني على الأمرين أمر آخر.فإن قيل: المبني لا بد أن يكون غير المبني عليه.أجيب: بأن المجموع غير من حيث الانفراد، عين من حيث الجمع.ومثاله البيت من الشعر يجعل على خمسة أعمدة أحدها أوسط والبقية أركان، فما دام الأوسط قائما فمسمى البيت موجود ولو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء.وأيضا فبالنظر إلى أسه وأركانه، الأس أصل، والأركان تبع وتكملة."تنبيهات": "أحدها": لم يذكر الجهاد لأنه فرض كفاية ولا يتعين إلا في بعض الأحوال،

(1/49)


ولهذا جعله ابن عمر جواب السائل، وزاد في رواية عبد الرزاق في آخره: وإن الجهاد من العمل الحسن.وأغرب ابن بطال فزعم أن هذا الحديث كان أول الإسلام قبل فرض الجهاد، وفيه نظر، بل هو خطأ، لأن فرض الجهاد كان قبل وقعة بدر، وبدر كانت في رمضان في السنة الثانية، وفيها فرض الصيام والزكاة بعد ذلك والحج بعد ذلك على الصحيح."ثانيها": قوله: "شهادة أن لا إله إلا الله " وما بعدها مخفوض على البدل من خمس، ويجوز الرفع على حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله.أو على حذف المبتدأ، والتقدير: أحدها شهادة أن لا إله إلا الله.فإن قيل: لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل - عليه السلام - ؟أجيب: بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات.وقال الإسماعيلي ما محصله: هو من باب تسمية الشيء ببعضه كما تقول: قرأت الحمد وتريد جميع الفاتحة، وكذا تقول مثلا: شهدت برسالة محمد وتريد جميع ما ذكر.والله أعلم."ثالثها": المراد بإقام الصلاة: المداومة عليها أو مطلق الإتيان بها، والمراد بإيتاء الزكاة: إخراج جزء من المال على وجه مخصوص."رابعها": اشترط الباقلاني في صحة الإسلام تقدم الإقرار بالتوحيد على الرسالة، ولم يتابع، مع أنه إذا دقق فيه بان وجهه، ويزداد اتجاها إذا فرقهما، فليتأمل."خامسها": يستفاد منه تخصيص عموم مفهوم السنة بخصوص منطوق القرآن، لأن عموم الحديث يقتضي صحة إسلام من باشر ما ذكر، ومفهومه أن من لم يباشره لا يصح منه، وهذا العموم مخصوص بقوله تعالى :{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} على ما تقرر في موضعه."سادسها": وقع هنا تقديم الحج على الصوم، وعليه بنى البخاري ترتيبه، لكن وقع في مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصوم على الحج،قال: فقال رجل: والحج وصيام رمضان.فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.انتهى.ففي هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس، أو حضر ذلك ثم نسيه.ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين ونسي أحدهما عند رده على الرجل، ووجه بعده أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ولأبي عوانة - من وجه آخر عن حنظلة - أنه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دال على أنه روي بالمعنى.ويؤيده ما وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة، أفيقال إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد.والله أعلم."فائدة" اسم الرجل المذكور: يزيد بن بشر السكسكي، ذكره الخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى -.

(1/50)


3- بَاب أُمُورِ الإِيمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} وَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الآية
قوله: "باب أمور الإيمان"، وللكشميهني: "أمر الإيمان " بالإفراد على إرادة الجنس، والمراد بيان الأمور التي هي الإيمان والأمور التي للإيمان.قوله: "وقول الله تعالى" بالخفض.ووجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث

(1/50)


الباب، تظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره، من طريق مجاهد أن أبي ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا عليه: "ليس البر" إلى آخرها، ورجاله ثقات.وإنما لم يسقه المؤلف لأنه ليس على شرطه، ووجهه: أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد المتقون من الشرك والأعمال السيئة.فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون.والجامع بين الآية والحديث: أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر، كما هي داخلة في مسمى الإيمان.فإن قيل: ليس في المتن ذكر التصديق؟أجيب: بأنه ثابت في أصل هذا الحديث كما أخرجه مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله ولم يسقه تاما.قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ذكره بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير: وقول الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيرا لقوله المتقون، أي: المتقون هم الموصوفون بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} إلى آخرها.وكأن المؤلف أشار إلى إمكان عد الشعب من هاتين الآيتين وشبههما، ومن ثم ذكر ابن حبان أنه عد كل طاعة عدها الله تعالى في كتابه من الإيمان، وكل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، وحذف المكرر فبلغت سبعا وسبعين(1).
9 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ."
قوله: "عن أبي هريرة" هذا أول حديث وقع ذكره فيه.ومجموع ما أخرجه له البخاري من المتون المستقلة أربعمائة حديث وستة وأربعون حديثا على التحرير.وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم في الجاهلية والإسلام مثل ما اختلف في اسمه، اختلف فيه على عشرين قولا.قلت: وسرد ابن الجوزي في التلقيح منها ثمانية عشر.وقال النووي: تبلغ أكثر من ثلاثين قولا.قلت: وقد جمعتها في ترجمته في تهذيب التهذيب فلم تبلغ ذلك، ولكن كلام الشيخ محمول على الاختلاف في اسمه وفي اسم أبيه معا.قوله: "بضع" بكسر أوله، وحكى الفتح لغة، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز.وقال ابن سيده: إلى العشر.وقيل: من واحد إلى تسعة.وقيل: من اثنين إلى عشرة.وقيل: من أربعة إلى تسعة.وعن الخليل: البضع: السبع.ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى :{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشا قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعا، ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع.قال: وأجازه أبو زيد فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلا وبضع وعشرون امرأة.وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة ولا بضع وألف.ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل.قوله: "وستون" لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك، وتابعه يحيى الحماني - بكسر المهملة وتشديد الميم - عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة
ـــــــ
(1) في النسخ المطبوعة"تسعا وتسعين"؛ وما هنا عن نسخة الرياض المخطوطة

(1/51)


من طريقه فقالوا: بضع وسبعون من غير شك، ولأبي عوانة في صحيحه من طريق ست وسبعون أو سبع وسبعون، ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضا لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه.وأما رواية الترمذي بلفظ أربع وستون فمعلولة، وعلى صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة - كما ذكره الحليمي ثم عياض - لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المخرج.وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري.وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن.قوله: "شعبة" بالضم أي: قطعة، والمراد الخصلة أو الجزء.قوله: "والحياء" هو بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه.وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر: "الحياء خير كله".فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان؟أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقا، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثا على فعل الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية.ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، لأن ذاك ليس شرعيا، فإن قيل: لم أفرده بالذكر هنا؟أجيب: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر، والله الموفق.وسيأتي مزيد في الكلام عن الحياء في " باب الحياء من الإيمان " بعد أحد عشر بابا."فائدة" قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان. ا هـ.ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن.فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه.والإيمان بملائكته.وكتبه.ورسله.والقدر خيره وشره.والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار.ومحبة الله.والحب والبغض فيه.ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه واتباع سنته والإخلاص, ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق.والتوبة.والخوف.والرجاء.والشكر.والوفاء.والصبر.والرضا بالقضاء والتوكل.والرحمة.والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير.وترك الكبر والعجب.وترك الحسد.وترك الحقد.وترك الغصب.وأعمال اللسان، وتشتمل على سبع خصال:التلفظ بالتوحيد.وتلاوة القرآن.وتعلم العلم.وتعليمه.والدعاء.والذكر، ويدخل فيه الاستغفار.واجتناب اللغو.وأعمال البدن، وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة:التطهير حسا وحكما، ويدخل فيه اجتناب النجاسات.وستر العورة.والصلاة فرضا ونفلا.والزكاة كذلك.وفك الرقاب.والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف.والصيام فرضا ونفلا.والحج، والعمرة كذلك.والطواف.والاعتكاف.والتماس ليلة القدر.والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك.والوفاء بالنذر، والتحري في الإيمان، وأداء الكفارات.ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال:التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال.وبر

(1/52)


الوالدين، وفيه اجتناب العقوق.وتربية الأولاد.وصلة الرحم.وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد.ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة:القيام بالإمرة مع العدل.ومتابعة الجماعة.وطاعة أولي الأمر.والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة.والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وإقامة الحدود.والجهاد، ومنه المرابطة.وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس.والقرض مع وفائه.وإكرام الجار.وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله.وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف.ورد السلام.وتشميت العاطس.وكف الأذى عن الناس.واجتناب اللهو وإماطة الأذى عن الطريق.فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعا وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر.والله أعلم."فائدة": في رواية مسلم من الزيادة: "أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " وفي هذا إشارة إلى أن مراتبها متفاوتة."تنبيه": في الإسناد المذكور رواية الأقران، وهي:عبد الله بن دينار عن أبي صالح لأنهما تابعيان، فإن وجدت رواية أبي صالح عنه صار من المدبج.ورجاله من سليمان إلى منتهاه من أهل المدينة وقد دخلها الباقون.

(1/53)


4- بَاب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِه
10 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى: عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 10-طرفه في: 6484]
قوله : "باب" سقط من رواية الأصيلي، وكذا أكثر الأبواب.وهو منون، ويجوز فيه الإضافة إلى جملة الحديث، لكن لم تأت به الرواية.قوله: "المسلم" استعمل لفظ الحديث ترجمة من غير تصرف فيه.قوله: "أبي إياس" اسمه ناهية بالنون وبين الهاءين ياء أخيرة.وقيل اسمه: عبد الرحمن.قوله: "أبي السفر" اسمه سعيد بن يحمد كما تقدم، وإسماعيل مجرور بالفتحة عطفا عليه، والتقدير: كلاهما عن الشعبي.وعبد الله بن عمرو هو: ابن العاص صحابي ابن صحابي.قوله: "المسلم" قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية.وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملا.ويجاب: بأن المراد بذلك مراعاة باقي الأركان، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين.انتهى.وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق.ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى."تنبيه": ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب، لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه.والإتيان بجمع التذكير للتغليب،

(1/53)


فإن المسلمات يدخلن في ذلك.وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد، لأن اللسان يمكنه القول في الماضيين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإن أثرها في ذلك لعظيم.ويستثنى من ذلك شرعا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك.وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء.وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق."فائدة": فيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق، وهو كثير.قوله: "والمهاجر" هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر.ويحتمل أن يكون على بابه لأن من لازم كونه هاجرا وطنه مثلا أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة.فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان.والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن.وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام."تنبيه": هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، بخلاف جميع ما تقدم من الأحاديث المرفوعة.على أن مسلما أخرج معناه من وجه آخر، وزاد ابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحا: "المؤمن من أمنه الناس " وكأنه اختصره هنا لتضمنه لمعناه.والله أعلم.قوله: "وقال أبو معاوية حدثنا داود" هو ابن أبي هند، وكذا في رواية ابن عساكر عن عامر وهو الشعبي المذكور في الإسناد الموصول.وأراد بهذا التعليق بيان سماعه له من الصحابي، والنكتة فيه رواية وهيب بن خالد له عن داود عن الشعبي عن رجل عن عبد الله بن عمرو، حكاه ابن منده، فعلى هذا لعل الشعبي بلغه ذلك عن عبد الله، ثم لقيه فسمعه منه.ونبه بالتعليق الآخر على أن عبد الله الذي أهمل في روايته هو عبد الله بن عمرو الذي بين في رواية رفيقه، والتعليق عن أبي معاوية وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريقه ولفظه: "سمعت عبد الله بن عمرو يقول: ورب هذه البنية لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده " فعلم أنه ما أراد إلا أصل الحديث.والمراد بالناس هنا: المسلمون كما في الحديث الموصول، فهم الناس حقيقة عند الإطلاق، لأن الإطلاق يحمل على الكامل، ولا كمال في غير المسلمين.ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط وهو إلا بحق، مع أن إرادة هذا الشرط متعينة على كل حال، لما قدمته من استثناء إقامة الحدود على المسلم.والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/54)


5- بَاب أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟
11 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".

(1/54)


قوله: "باب" هو منون، وفيه ما في الذي قبله.قوله: "حدثنا أبو بردة" هو بريد بالموحدة والراء مصغرا، وشيخه جده وافقه في كنيته لا في اسمه، وأبو موسى هو الأشعري.قوله: "قالوا" رواه مسلم والحسن بن سفيان وأبو يعلى في مسنديهما عن سعيد بن يحيى بن سعيد شيخ البخاري بإسناده هذا بلفظ: "قلنا"، ورواه ابن منده من طريق حسين بن محمد الغساني(1) أحد الحفاظ عن سعيد بن يحيى هذا بلفظ: "قلت"، فتعين أن السائل أبو موسى، ولا تخالف بين الروايات لأنه في هذه صرح وفي رواية مسلم أراد نفسه ومن معه من الصحابة، إذ الراضي بالسؤال في حكم السائل.وفي رواية البخاري: أراد أنه وإياهم.وقد سأل هذا السؤال أيضا أبو ذر، رواه ابن حبان.وعمير بن قتادة، رواه الطبراني.قوله: "أي الإسلام" إن قيل الإسلام مفرد، وشرط أي أن تدخل على متعدد.أجيب: بأن فيه حذفا تقديره: أي ذوي الإسلام أفضل؟ويؤيده رواية مسلم: أي المسلمين أفضل؟والجامع بين اللفظين أن أفضلية المسلم حاصلة بهذه الخصلة.وهذا التقدير أولى من تقدير بعض الشراح هنا: أي خصال الإسلام.وإنما قلت إنه أولى لأنه يلزم عليه سؤال آخر بأن يقال: سئل عن الخصال فأجاب بصاحب الخصلة، فما الحكمة في ذلك؟وقد يجاب بأنه يتأتى نحو قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية، والتقدير: "بأي ذوي الإسلام " يقع الجواب مطابقا له بغير تأويل.وإذا ثبت أن بعض خصال المسلمين المتعلقة بالإسلام أفضل من بعض حصل مراد المصنف بقبول الزيادة والنقصان، فتظهر مناسبة هذا الحديث والذي قبله لما قبلهما من تعداد أمور الإيمان، إذ الإيمان والإسلام عنده مترادفان، والله أعلم.فإن قيل: لم جرد " أفعل " هنا عن العمل؟أجيب: بأن الحذف عند العلم به جائز، والتقدير أفضل من غيره."تنبيه" هذا الإسناد كله كوفيون.ويحيى بن سعيد المذكور اسم جده أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، ونسبه المصنف قريشا بالنسبة الأعمية.يكنى أبا أيوب.وفي طبقته يحيى بن سعيد القطان، وحديثه في هذا الكتاب أكثر من حديث الأموي، وليس له ابن يروى عنه يسمى سعيدا فافترقا.وفي الكتاب ممن يقال له يحيى بن سعيد اثنان أيضا، لكن من طبقة فوق طبقة هذين، وهما يحيى بن سعيد الأنصاري السابق في حديث الأعمال أول الكتاب، ويحيى بن سعيد التيمي أبو حيان، ويمتاز عن الأنصاري بالكنية.والله الموفق.

(1/55)


6 بَاب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ الإِسْلاَمِ
12 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ."
[الحديث 12- طرفاه في: 6236,28]
قوله: "باب" هو منون، وفيه ما في الذي قبله.قوله: "من الإسلام" للأصيلي: "من الإيمان"، أي: من خصال الإيمان.ولما استدل المصنف على زيادة الإيمان ونقصانه بحديث الشعب، تتبع ما ورد في القرآن والسنن الصحيحة من بيانها، فأورده في هذه الأبواب تصريحا وتلويحا، وترجم هنا بقوله: "إطعام الطعام " ولم يقل أي الإسلام خير كما
ـــــــ
(1) قوله الغساني في نسخة القباني. اهـ عن طبعة بولاق

(1/55)


في الذي قبله إشعارا باختلاف المقامين وتعدد السؤالين كما سنقرره.قوله: "حدثنا عمرو بن خالد" هو الحراني، وهو بفتح العين، وصحف من ضمها.قوله: "الليث" هو ابن سعد فقيه أهل مصر، عن يزيد هو ابن أبي حبيب الفقيه أيضا.قوله: "أن رجلا" لم أعرف اسمه، وقيل أنه أبو ذر، وفي ابن حبان أنه هانئ بن يزيد والد شريح.سأل عن معنى ذلك فأجيب بنحو ذلك.قوله: "أي الإسلام خير؟" فيه ما في الذي قبله من السؤال، والتقدير: أي خصال الإسلام؟ وإنما لم أختر تقدير خصال في الأول فرارا من كثرة الحذف، وأيضا فتنويع التقدير يتضمن جواب من سأل فقال: السؤالان بمعنى واحد والجواب مختلف.فيقال له: إذا لاحظت هذين التقديرين بان الفرق.ويمكن التوفيق بأنهما متلازمان، إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد والسلام لسلامة اللسان، قاله الكرماني.وكأنه أراد في الغالب ويحتمل أن يكون الجواب اختلف لاختلاف السؤال عن الأفضلية، إن لوحظ بين لفظ أفضل ولفظ خير فرق.وقال الكرماني: الفضل بمعنى كثرة الثواب في مقابلة القلة، والخير بمعنى النفع في مقابلة الشر، فالأول من الكمية والثاني من الكيفية فافترقا.واعترض بأن الفرق لا يتم إلا إذا اختص كل منهما بتلك المقولة، أما إذا كان كل منهما يعقل تأتيه في الأخرى فلا.وكأنه بنى على أن لفظ خير اسم لا أفعل تفضيل، وعلى تقدير اتحاد السؤالين جواب مشهور وهو الحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين، فيمكن أن يراد في الجواب الأول تحذير من خشي منه الإيذاء بيد أو لسان، فأرشد إلى الكف، وفي الثاني ترغيب من رجى فيه النفع العام بالفعل والقول فأرشد إلى ذلك، وخص هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت، لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف.ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حث عليهما أول ما دخل المدينة، كما رواه الترمذي وغيره مصححا من حديث عبد الله بن سلام.قوله: "تطعم " هو في تقدير المصدر، أي: أن تطعم، ومثله تسمع بالمعيدي.وذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة وغيرها.قوله: "وتقرأ" بلفظ مضارع القراءة بمعنى تقول، قال أبو حاتم السجستاني: تقول: اقرأ عليه السلام، ولا تقول أقرئه السلام، فإذا كان مكتوبا قلت أقرئه السلام أي اجعله يقرأه.قوله: "ومن لم تعرف" أي: لا تخص به أحدا تكبرا أو تصنعا، بل تعظيما لشعار الإسلام ومراعاة لأخوة المسلم. فإن قيل: اللفظ عام فيدخل الكافر والمنافق والفاسق. أجيب: بأنه خص بأدلة أخرى أو أن النهي متأخر وكان هذا عاما لمصلحة التأليف، وأما من شك فيه فالأصل البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص. "تنبيهان": الأول - أخرج مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب بهذا الإسناد نظير هذا السؤال، لكن جعل الجواب كالذي في حديث أبي موسى، فادعى ابن منده فيه الاضطراب. وأجيب: بأنهما حديثان اتحد إسنادهما، وافق أحدهما حديث أبي موسى. ولثانيهما شاهد من حديث عبد الله بن سلام كما تقدم.الثاني - هذا الإسناد كله بصريون، والذي قبله كما ذكرنا كوفيون، والذي بعده من طريقيه بصريون، فوقع له التسلسل في الأبواب الثلاثة على الولاء.وهو من اللطائف.

(1/56)


7- بَاب مِنْ الإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
13 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1/56)


وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"
قوله: "باب من الإيمان" قال الكرماني: قدم لفظ الإيمان بخلاف أخواته حيث قال: "إطعام الطعام من الإيمان " إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان.قلت: وهو توجيه حسن، إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معا، وهو قوله: "باب حب الرسول من الإيمان".فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه.والله أعلم.قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان.قوله: "وعن حسين المعلم" هو ابن ذكوان، وهو معطوف على شعبة.فالتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفا اختصارا، ولأن شعبة قال: عن قتادة،وقال حسين: حدثنا قتادة.وأغرب بعض المتأخرين فزعم أنه طريق حسين معلقة، وهو غلط، فقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ المصنف عن يحيى القطان عن حسين المعلم.وأبدى الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي أن يكون تعليقا أو معطوفا على قتادة، فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة، إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئا من علم الإسناد.والله المستعان.
"تنبيه" المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التي ذكرناها فهو: "لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره"، وللإسماعيلي من طريق روح عن حسين: "حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير " فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب.وزاد مسلم في أوله عن أبي خيثمة عن يحيى القطان: "والذي نفسي بيده"، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه.قوله: "لا يؤمن" أي: من يدعي الإيمان، وللمستملي: "أحدكم " وللأصيلي: "أحد " ولابن عساكر: "عبد " وكذا لمسلم عن أبي خيثمة، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء - على معنى نفي الكمال عنه - مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان ليس بإنسان.فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان.أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: "لأخيه المسلم " ملاحظة بقية صفات المسلم.وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان " ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرا، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع على ما سنقرره.قوله: "حتى يحب" بالنصب لأن حتى جارة وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة فلا يصح المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة.قوله: "ما يحب لنفسه" أي: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلي، وكذا هو عند النسائي، وكذا عند ابن منده من رواية همام عن قتادة أيضا.و " الخير ": كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها.والمحبة: إرادة ما يعتقده خيرا، قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر.انتهى ملخصا. والمراد بالميل هنا: الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضا أن يحب أن يحصل

(1/57)


لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال.وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل.لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين.قلت: أقر القاضي عياض هذا، وفيه نظر.إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة، لأن المقصود الحث على التواضع.فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة.ويستفاد ذلك من قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة.
"فائدة" قال الكرماني: ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء.والله أعلم.

(1/58)


8- باب حُبُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الإِيمَانِ
14 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ."
قوله: "باب حب الرسول" اللام فيه للعهد، والمراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله: "حتى أكون أحب " وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.قوله: "شعيب" هو ابن أبي حمزة الحمصي، واسم أبي حمزة دينار.وقد أثمر المصنف من تخريج حديثه عن الزهري وأبي الزناد.ووقع في غرائب مالك للدار قطني إدخال رجل - وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن - بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث.وهي زيادة شاذة.فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان.وروى ابن منده من طريق أبي حاتم الرازي عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحا فيه بالتحديث في جميع الإسناد، وكذا النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب.قوله: "والذي نفسي بيده" فيه جواز الحلف على الأمر المهم توكيدا وإن لم يكن هناك مستحلف.قوله: "لا يؤمن" أي: إيمانا كاملا.قوله: "أحب" هو أفعل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله: "إليه " لأن الممتنع الفصل بأجنبي.قوله: "من والده وولده" قدم الوالد للأكثرية لأن كل أحد له والد من غير عكس.وفي رواية النسائي في حديث أنس تقديم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة. ولم تختلف الروايات في ذلك في حديث أبي هريرة هذا، وهو من أفراد البخاري عن مسلم.
15 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.ح و حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ": "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ."
قوله: "أخبرنا يعقوب بن إبراهيم" هو الدورقي.والتفريق بين " حدثنا " و " أخبرنا " لا يقول به المصنف كما

(1/58)


يأتي في العلم.وقد وقع في غير رواية أبي ذر " حدثنا يعقوب". قوله: "وحدثنا آدم" عطف الإسناد الثاني على الأول قبل أن يسوق المتن فأوهم استواءهما، فإن لفظ قتادة مثل لفظ حديث أبي هريرة، لكن زاد فيه: "والناس أجمعين" ، ولفظ عبد العزيز مثله إلا أنه قال كما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن يعقوب شيخ البخاري بهذا الإسناد: "من أهله وماله " بدل من والده وولده، وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه: "لا يؤمن الرجل " وهو أشمل من جهة، و " أحدكم " أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلي: "لا يؤمن أحدكم" .فإن قيل: فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخاري يوهم اتحادهما في المعنى وليس كذلك.فالجواب: أن البخاري يصنع مثل هذا نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه، واقتصر على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبي هريرة، ورواية شعبة عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة، لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه، وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائي، وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضا في حديث أبي هريرة، وهل تدخل الأم في لفظ الوالد إن أريد به من له الولد فيعم، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد الأعزة، كأنه قال:أحب إليه من أعزته، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص وهو كثير، وقدم الوالد على الولد في رواية لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدم الولد في أخرى لمزيد الشفقة. وهل تدخل النفس في عموم قوله: "والناس أجمعين " ؟ الظاهر دخوله. وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام كما سيأتي. والمراد بالمحبة هنا: حب الاختيار لا حب الطبع، قاله الخطابي.وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس. وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان، لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال. وتعقبه صاحب المفهم بأن ذلك ليس مرادا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته.قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر الذي رواه المصنف في " الأيمان والنذور " من حديث عبد الله بن. هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم: "لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي.فقال: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك" . فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي.فقال: "الآن يا عمر " انتهى. فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا.ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا.وليس ذلك محصورا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها.ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها.أما نفسه: فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب.وأما غيرها: فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا.فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه

(1/59)


سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه. ولا شك أن حظ الصحابة - رضي الله عنهم - هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم، والله الموفق. وقال القرطبي: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون. فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه. وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره، ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر في قلوبهم من محبته. غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، والله المستعان. انتهى ملخصا.

(1/60)


9- باب حَلاَوَةِ الإِيمَانِ
16 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ."
[الحديث16- أطرافه في: 6941,6041,21]
قوله: "باب حلاوة الإيمان" مقصود المصنف أن الحلاوة من ثمرات الإيمان.ولما قدم أن محبة الرسول من الإيمان أردفه بما يوجد حلاوة ذلك. قوله: "حدثنا محمد بن المثنى" هو أبو موسى العنزي بفتح النون بعدها زاي، قال: حدثنا عبد الوهاب، هو ابن عبد المجيد، حدثنا أيوب، هو ابن أبي تميمة السختياني بفتح السين المهملة على الصحيح، وحكى ضمها وكسرها، عن أبي قلابة بكسر القاف وبباء موحدة. قوله: "ثلاث" هو مبتدأ والجملة الخبر، وجاز الابتداء بالنكرة لأن التنوين عوض المضاف إليه، فالتقدير: ثلاث خصال، ويحتمل في إعرابه غير ذلك. قوله: "كن" أي: حصلن، فهي تامة.وفي قوله: "حلاوة الإيمان " استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئا ما نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوي استدلال المصنف على الزيادة والنقص.قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي، وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه تظهر حلاوتها.قوله: "أحب إليه" منصوب لأنه خبر يكون، قال البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهي إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان

(1/60)


جانب ذلك، تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له، ويلتذ بذلك التذاذا عقليا، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك.وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة.قال: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان، لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه: فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله.وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينا.ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار.انتهى ملخصا.وشاهد الحديث من القرآن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا} ."فائدة": فيه إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فالأول من الأول والأخير من الثاني وقال غيره: محبة الله على قسمين فرض وندب. فالفرض: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره، والانتهاء عن معاصيه، والرضا بما يقدره، فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه. والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع.وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم.وإلى الثاني يشير حديث: "لا يزني الزاني وهو مؤمن" . والندب: أن يواظب على النوافل، ويتجنب الوقوع في الشبهات، والمتصف عموما بذلك نادر. قال: وكذلك محبة الرسول على قسمين كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضاه، ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك. وقال الشيخ محيي الدين: هذا حديث عظيم، أصل من أصول الدين. ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول. وإنما قال: "مما سواهما " ولم يقل: "ممن " ليعم من يعقل ومن لا يعقل. قال: وفيه دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية. وأما قوله للذي خطب فقال: ومن يعصهما " بئس الخطيب أنت" فليس من هذا، لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر قال: "ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه". واعترض بأن هذا الحديث إنما ورد أيضا في حديث خطبة النكاح. وأجيب: بأن المقصود في خطبة النكاح أيضا الإيجاز فلا نقض. وثم أجوبة أخرى، منها: دعوى الترجيح، فيكون حيز المنع أولى لأنه عام. والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل والآخر مبني على الأصل، ولأنه قول والآخر فعل. ورد بأن احتمال التخصيص في القول أيضا حاصل بكل قول، ليس فيه صيغة عموم أصلا، ومنها دعوى أنه من الخصائص، فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع منه، لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية، بخلافه هو فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك. وإلى هذا مال ابن عبد السلام. ومنها دعوى التفرقة بوجه آخر، وهو أن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر، وكلام الذي خطب جملتان لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر. وتعقب هذا بأنه لا يلزم من كونه لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر أن يكره إقامة المضمر فيها مقام الظاهر، فما وجه الرد على الخطيب مع أنه هو صلى الله عليه وسلم جمع كما تقدم؟ ويجاب: بأن قصة الخطيب - كما قلنا - ليس فيها صيغة عموم، بل هي واقعة عين،

(1/61)


فيحتمل أن يكون في ذلك المجلس من يخشى عليه توهم التسوية كما تقدم.ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين حديث الباب وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى.فمن يدعي حب الله مثلا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبة العباد ومحبة الله تعالى للعباد.وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فأعاد " أطيعوا " في الرسول ولم يعده في أولي الأمر لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول. انتهى ملخصا من كلام البيضاوي والطيبي. ومنها أجوبة أخرى فيها تكلم: منها أن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، ومنها أن له أن يجمع بخلاف غيره. قوله: "وأن يحب المرء" قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء. قوله: "وأن يكره أن يعود في الكفر" زاد أبو نعيم في المستخرج من طريق الحسن بن سفيان عن محمد ابن المثنى شيخ المصنف: "بعد إذ أنقذه الله منه"، وكذا هو في طريق أخرى للمصنف، والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة. وعلى الأول فيحمل قوله: "يعود " على معنى الصيرورة، بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره. فإن قيل: فلم عدى العود بفي ولم يعده بإلى؟ فالجواب: أنه ضمنه معنى الاستقرار، وكأنه قال: يستقر فيه. ومثله قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا}
"تنبيه": هذا الإسناد كله بصريون.وأخرجه المصنف بعد ثلاثة أبواب من طريق شعبة عن قتادة عن أنس، واستدل به على فضل من أكره على الكفر فترك البتة إلى أن قتل، وأخرجه من هذا الوجه في الأدب في فضل الحب في الله، ولفظه في هذه الرواية: "وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " وهي أبلغ من لفظ حديث الباب، لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه في نار الأخرى، وكذا رواه مسلم من هذا الوجه، وصرح النسائي في روايته والإسماعيلي بسماع قتادة له من أنس، والله الموفق.وأخرجه النسائي من طريق طلق بن حبيب عن أنس وزاد في الخصلة الثانية ذكر البغض في الله ولفظه: "وأن يحب في الله ويبغض في الله " وقد تقدم للمصنف في ترجمته: "والحب في الله والبغض في الله من الإيمان " وكأنه أشار بذلك إلى هذه الرواية.والله أعلم.

(1/62)


10- باب عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ
17 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ."
[الحديث17-طرفه في: 3784]
قوله: "باب" هو منون.ولما ذكر في الحديث السابق أنه: "لا يحبه إلا الله " عقبه بما يشير إليه من أن حب الأنصار كذلك، لأن محبة من يحبهم من حيث هذا الوصف - وهو النصرة - إنما هو لله تعالى، فهم وإن دخلوا في عموم قوله: "لا يحبه إلا الله " لكن التنصيص بالتخصيص دليل العناية.قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي

(1/62)


.قوله: "جبر" بفتح الجيم وسكون الموحدة، وهو ابن عتيك الأنصاري، وهذا الراوي ممن وافق اسمه اسم أبيه. قوله: "آية الإيمان" هو بهمزة ممدودة وياء تحتانية مفتوحة وهاء تأنيث، والإيمان مجرور بالإضافة، هذا هو المعتمد في ضبط هذه الكلمة في جميع الروايات، في الصحيحين والسنن والمستخرجات والمسانيد. والآية: العلامة كما ترجم به المصنف، ووقع في إعراب الحديث لأبي البقاء العكبري: "إنه الإيمان " بهمزة مكسورة ونون مشددة وهاء، والإيمان مرفوع، وأعربه فقال: إن للتأكيد، والهاء ضمير الشأن، والإيمان مبتدأ وما بعده خبر، ويكون التقدير: إن الشأن الإيمان حب الأنصار.وهذا تصحيف منه.ثم فيه نظر من جهة المعنى لأنه يقتضي حصر الإيمان في حب الأنصار، وليس كذلك.فإن قيل: واللفظ المشهور أيضا يقتضي الحصر، وكذا ما أورده المصنف في فضائل الأنصار من حديث البراء بن عازب: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن"فالجواب عن الأول: أن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس، فإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به.سلمنا الحصر لكنه ليس حقيقيا بل ادعائيا للمبالغة، أو هو حقيقي لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة.والجواب عن الثاني: أن غايته أن لا يقع حب الأنصار إلا لمؤمن.وليس فيه نفي الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبهم.فإن قيل: فعلى الشق الثاني هل يكون من أبغضهم منافقا وإن صدق وأقر؟ فالجواب: أن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكنه غير مراد، فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة - وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه فيصح أنه منافق.ويقرب هذا الحمل زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب: "من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم"، ويأتي مثل هذا الحب كما سبق.وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر"، ولأحمد من حديثه: "حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق".ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، بل قابله بالنفاق إشارة إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا، لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك.قوله: "الأنصار" هو جمع ناصر كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف، واللام فيه للعهد أي: أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يعرفون ببني قيلة بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار " فصار ذلك علما عليهم، وأطلق أيضا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم. وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجبا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويها بعظيم فضلهم، وتنبيها على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في معنى ذلك مشاركا لهم في الفضل المذكور كل بقسطه.وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" ، وهذا جار بإطراد في أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين.قال صاحب المفهم: وأما الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذاك حال المجتهدين في الأحكام: للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد.والله أعلم.

(1/63)


11- باب
18 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ " بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ:إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ " فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك.
[الحديث18-أطرافه في: 7468,7213,7199,7055,6873,6801,6784,4894,3999,3893,3892]
قوله: "باب" كذا هو في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلا،فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضا، لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء.ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند عقبة منى في الموسم، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى في السيرة النبوية من هذا الكتاب.وقد أخرج المصنف حديث هذا الباب في مواضع أخر:في باب من شهد بدرا لقوله فيه: "كان شهد بدرا".وفي باب وفود النصارى لقوله فيه: "وهو أحد النقباء".وأورده هنا لتعلقه بما قبله كما بيناه.ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين:أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر.وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافر أو مخلد في النار، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.قوله: "عائذ الله" هو اسم علم أي: ذو عياذة بالله، وأبوه عبد الله ابن عمرو الخولاني صحابي، وهو من حيث الرواية تابعي كبير، وقد ذكر في الصحابة لأن له رؤية، وكان مولده عام حنين.والإسناد كله شاميون.قوله: "وكان شهد بدرا" يعني حضر الوقعة المشهورة الكائنة بالمكان المعروف ببدر، وهي أول وقعة قاتل النبي صلى الله عليه وسلم فيها المشركين، وسيأتي ذكرها في المغازي.ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلا إذا حمل على أنه سمع ذلك من عبادة، أو الزهري فيكون منقطعا.وكذا قوله: "وهو أحد النقباء".قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سقط قبلها من أصل الرواية لفظ: "قال: "وهو خبر أن، لأن قوله: "وكان " وما بعدها معترض، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف قال خطأ لكن حيث يتكرر في مثل " قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها، وقد ثبتت في رواية المصنف لهذا الحديث بإسناده هذا في باب من شهد بدرا فلعلها سقطت هنا ممن بعده، ولأحمد عن أبي اليمان بها الإسناد أن عبادة حدثه.قوله: "وحوله" بفتح اللام على الظرفية، والعصابة بكسر العين: الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها، وقد جمعت على عصائب وعصب.قوله: "بايعوني" زاد في باب وفود الأنصار " تعالوا بايعوني"، والمبايعة عبارة عن المعاهدة، سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} .قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره: خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم.فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعا فيهم، وهو وأد البنات وقتل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر

(1/64)


أقل منه،قال الخطابي: هو مثل ليكون عيارا في المعرفة لا في الوزن، لأن ما يشكل في المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم. وقال إمام الحرمين: الوزن للصحف المشتملة على الأعمال، ويقع وزنها على قدر أجور الأعمال. وقال غيره: يجوز أن تجسد الأعراض فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه، والمراد بحبة الخردل هنا: ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأخرى: " أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة". ومحل بسط هذا يقع في الكلام على حديث الشفاعة حيث ذكره المصنف في كتاب الرقاق. قوله: "في نهر الحياء" كذا في هذه الرواية بالمد، ولكريمة وغيرها بالقصر، وبه جزم الخطابي وعليه المعنى، لأن المراد كل ما به تحصل الحياة، والحيا بالقصر هو المطر، وبه تحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي هو بمعنى الخجل. قوله: "الحبة" بكسر أوله، قال أبو حنيفة الدينوري: الحبة: جمع بزور النبات واحدتها حبة بالفتح، وأما الحب فهو: الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح أيضا، وإنما افترقا في الجمع. وقال أبو المعالي في المنتهى: الحبة بالكسر: بزور الصحراء مما ليس بقوت. قوله: "قال وهيب" أي: ابن خالد "حدثنا عمرو" أي: ابن يحيى المازني المذكور.قوله: "الحياة" بالخفض على الحكاية، ومراده: أن وهيبا وافق مالكا في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيى بسنده، وجزم بقوله: "في نهر الحياة" ولم يشك كما شك مالك.
"فائدة": أخرج مسلم هذا الحديث من رواية مالك فأبهم الشاك، وقد يفسر هنا.
قوله: "وقال خردل من خير" هو على الحكاية أيضا، أي: وقال وهيب في روايته: مثقال حبة من خردل من خير، فخالف مالكا أيضا في هذه الكلمة.وقد ساق المؤلف حديث وهيب هذا في كتاب الرقاق عن موسى ابن إسماعيل عن وهيب، وسياقه أتم من سياق مالك، لكنه قال: "من خردل من إيمان " كرواية مالك، فاعترض على المصنف بهذا، ولا اعتراض عليه، فإن أبا بكر بن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في مسنده عن عفان بن مسلم عن وهيب فقال: "من خردل من خير " كما علقه المصنف، فتبين أنه مراده لا لفظ موسى.وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر هذا، لكن لم يسق لفظه، ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر، وأراد بإيراده الرد على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود.
23 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ. وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ" . قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟قَالَ: "الدِّينَ."
[الحديث 23-أطرافه في: 7009,7008,3691]
قوله: "حدثنا محمد بن عبيد الله" هو أبو ثابت المدني وأبوه بالتصغير. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان تابعي جليل. قوله: "عن أبي أمامة بن سهل" هو ابن حنيف كما ثبت في رواية الأصيلي، وأبو أمامة مختلف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذكر في الصحابة لشرف الرؤية، ومن حيث الرواية يكون في الإسناد ثلاثة من التابعين أو

(1/65)


وإن كان ضعيفا.ولكن يعكر عليه أيضا أنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص.وقال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" ، لكن حديث عبادة أصح إسنادا.ويمكن - يعني على طريق الجمع بينهما - أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه الله، ثم أعلمه بعد ذلك.قلت: حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهو صحيح على شرط الشيخين.وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر، وذكر الدار قطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله.قلت: وقد وصله آدم ابن أبي إياس عن ابن أبي ذئب وأخرجه الحاكم أيضا فقويت رواية معمر، وإذا كان صحيحا فالجمع - الذي جمع به القاضي - حسن، لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة، لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدما؟وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قديما ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، وفي هذا تعسف.ويبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك.والحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح وهو ما تقدم على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه.وسيأتي في هذا الكتاب - في كتاب الفتن وغيره - من حديث عبادة أيضا قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره.. الحديث.وأصرح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام " فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة قي النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة.فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها.فذكر بقية الحديث.وعند الطبراني له طريق أخرى وألفاظ قريبة من هذه.وقد وضح أن هذا هو الذي وقع في البيعة الأولى.ثم صدرت مبايعات أخرى ستذكر في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، منها هذه البيعة التي في حديث الباب في الزجر عن الفواحش المذكورة.والذي يقوي أنها وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف، والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب الحدود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري في حديث عبادة هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايعهم قرأ الآية كلها، وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال: "قرأ آية النساء " ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال: "فتلا علينا آية النساء قال: أن لا تشركن بالله شيئا " وللنسائي من طريق الحارث بن فضيل عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا تبايعونني على ما بايع عليه النساء: أن لا تشركوا بالله شيئا " الحديث.وللطبراني من وجه آخر عن الزهري بهذا السند: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة".ولمسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث: "أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء".فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول

(1/66)


الآية،بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة.ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبيه عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": "أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا " فذكر نحو حديث عبادة، ورجاله ثقات.وقد قال إسحاق بن راهويه: إذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر. اهـ.وإذا كان عبد الله بن عمرو أحد من حضر هذه البيعة وليس هو من الأنصار ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما كان إسلامه قرب إسلام أبي هريرة، وضح تغاير البيعتين - بيعة الأنصار ليلة العقبة وهي قبل الهجرة إلى المدينة، وبيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة وشهدها عبد الله بن عمرو وكان إسلامه بعد الهجرة بمدة طويلة - ومثل ذلك ما رواه الطبراني من حديث جرير قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل ما بايع عليه النساء " فذكر الحديث، وكان إسلام جرير متأخرا عن إسلام أبي هريرة على الصواب، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويها بسابقيته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذلك، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك.ونظيره ما أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده - وكان أحد النقباء - قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب " وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى " على بيعة النساء وعلى السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا " الحديث.فإنه ظاهر في اتحاد البيعتين، ولكن الحديث في الصحيحين كما سيأتي في الأحكام ليس فيه هذه الزيادة، وهو من طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبادة بن الوليد.والصواب أن بيعة الحرب بعد بيعة العقبة لأن الحرب إنما شرع بعد الهجرة، ويمكن تأويل رواية ابن إسحاق وردها إلى ما تقدم، وقد اشتملت روايته على ثلاث بيعات:بيعة العقبة وقد صرح أنها كانت قبل أن يفرض الحرب في رواية الصنابحي عن عبادة عند أحمد.والثانية بيعة الحرب وسيأتي في الجهاد أنها كانت على عدم الفرار.والثالثة بيعة النساء أي: التي وقعت على نظير بيعة النساء.والراجح أن التصريح بذلك(1) وهمٌ من بعض الرواة، والله أعلم.ويعكر على ذلك التصريح في رواية ابن إسحاق من طريق الصنابحي عن عبادة أن بيعة ليلة العقبة كانت على مثل بيعة النساء، واتفق وقوع ذلك قبل أن تنزل الآية، وإنما أضيفت إلى النساء لضبطها بالقرآن.ونظيره ما وقع في الصحيحين أيضا من طريق الصنابحي عن عبادة قال: "إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "؛ وقال: "بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا " الحديث. فظاهر هذا اتحاد البيعتين، ولكن المراد ما قررته أن قوله: "إني من النقباء الذين بايعوا - أي ليلة العقبة - على الإيواء والنصر " وما يتعلق بذلك، ثم قال: بايعناه الخ أي: في وقت آخر، ويشير إلى هذا الإتيان بالواو العاطفة في قوله: "وقال بايعناه". وعليك برد ما أتى من الروايات موهما بأن هذه البيعة كانت ليلة العقبة إلى هذا التأويل الذي نهجت إليه فيرتفع بذلك الإشكال، ولا يبقى بين حديثي أبي هريرة وعبادة تعارض، ولا وجه بعد ذلك للتوقف في كون الحدود كفارة.واعلم أن عبادة بن الصامت لم ينفرد برواية هذا المعنى، بل روى ذلك علي بن أبي طالب وهو في الترمذي وصححه الحاكم وفيه: "من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثنى العقوبة على عبده في الآخرة " وهو عند الطبراني بإسناد حسن من حديث أبى تميمة الهجيمي، ولأحمد من حديث خزيمة بن ثابت بإسناد
ـــــــ
(1) مرادهأن التصريح بأن البيعة الأولى ليلة العقبة كانت على بيعة النساء وهم من بعض الرواة, وأن البيعة التي وقعت على مثل بيعة النساء كانت بعد ذلك فتنبه والله أعلم

(1/67)


حسن ولفظه:" من أصاب ذنبا أقيم عليه ذلك الذنب فهو كفارة له".وللطبراني عن ابن عمرو(1) مرفوعا: "ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب". وإنما أطلت في هذا الموضع لأنني لم أر من أزال اللبس فيه على الوجه المرضي، والله الهادي.قوله: "فعوقب به" قال ابن التين: يريد به القطع في السرقة والجلد أو الرجم في الزنا.قال: وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة، إلا أن يريد قتل النفس فكنى عنه، قلت: وفي رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" ولكن قوله في حديث الباب: "فعوقب به " أعم من أن تكون العقوبة حدا أو تعزيرا.قال ابن التين: وحكى عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم لأنه لم يصل إليه حق.قلت: بل وصل إليه حق وأي حق، فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل، كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان وغيره: "إن السيف محاء للخطايا"، وعن ابن مسعود قال: "إذا جاء القتل محا كل شيء " رواه الطبراني، وله عن الحسن ابن علي نحوه، وللبزار عن عائشة مرفوعا: "لا يمر القتل بذنب إلا محاه " فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا؟ ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل، وهل تدخل في العقوبة المذكورة المصائب الدنيوية من الآلام والأسقام وغيرها؟فيه نظر.ويدل للمنع قوله: "ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله " فإن هذه المصائب لا تنافي الستر، ولكن بينت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تكفر الذنوب، فيحتمل أن يراد أنها تكفر ما لا حد فيه.والله أعلم.ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور.وقيل: لا بد من التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة، ووافقهم ابن حزم ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} والجواب في ذلك: أنه في عقوبة الدنيا، ولذلك قيدت بالقدرة عليه.قوله: "ثم ستره الله" زاد في رواية كريمة: "عليه".قوله: "فهو إلى الله" قال المازني(2): فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل لا بد أن يعذبه.وقال الطيبي: فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه.قلت: أما الشق الأول فواضح.وأما الثاني فالإشارة إليه إنما تستفاد من الحمل على غير ظاهر الحديث وهو متعين.قوله: "إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه" يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب.وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أو لا.وقيل: يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، واختلف فيمن أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سرا ويكفيه ذلك.وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام ويعترف به، ويسأله أن يقيم عليه الحد كما وقع لماعز والغامدية.وفصل بعض العلماء بين أن يكون معلنا بالفجور فيستحب أن يعلن بتوبته وإلا فلا. "تنبيه": زاد في رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث: "ولا ينتهب " وهو مما يتمسك به في أن البيعة متأخرة، لأن الجهاد عند بيعة العقبة لم يكن فرض، والمراد بالانتهاب: ما يقع بعد القتال في الغنائم. وزاد في روايته أيضا: "ولا يعصى بالجنة، إن فعلنا ذلك، فإن غشينا من ذلك شيئا ما كان قضاء ذلك إلى الله " أخرجه المصنف في باب وفود الأنصار عن قتيبة عن الليث، ووقع عنده " ولا يقضى " بقاف وضاد معجمة وهو تصحيف، وقد تكلف بعض الناس في تخريجه وقال: إنه نهاكم
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض: ابن عمر (2) في هامش طبعة بولاق: وفي نسخة المازري

(1/68)


عن ولاية القضاء، ويبطله أن عبادة - رضي الله - عنه ولي قضاء فلسطين في زمن عمر - رضي الله عنهما -.وقيل: إن قوله: "بالجنة " متعلق بيقضي، أي: لا يقضى بالجنة لأحد معين.قلت: لكن يبقى قوله: "إن فعلنا ذلك " بلا جواب، ويكفي في ثبوت دعوى التصحيف فيه رواية مسلم عن قتيبة بالعين والصاد المهملتين، وكذا الإسماعيلي عن الحسن ابن سفيان، ولأبي نعيم من طريق موسى بن هارون كلاهما عن قتيبة، وكذا هو عند البخاري أيضا في هذا الحديث في الديات عن عبد الله بن يوسف عن الليث في معظم الروايات، لكن عند الكشميهني بالقاف والضاد أيضا وهو تصحيف كما بيناه.وقوله: "بالجنة " إنما هو متعلق بقوله في أوله " بايعنا".والله أعلم.

(1/69)


12- باب مِنْ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنْ الْفِتَنِ
19 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ."
[الحديث 19- أطرافه في: 7088,6495,3600,3300]
قوله: "باب من الدين الفرار من الفتن" عدل المصنف عن الترجمة بالإيمان - مع كونه ترجم لأبواب الإيمان - مراعاة للفظ الحديث، ولما كان الإيمان والإسلام مترادفين في عرف الشرع وقال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} " صح إطلاق الدين في موضع الإيمان.قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي أحد رواة الموطأ، نسب إلى جده قعنب، وهو بصري أقام بالمدينة مدة.قوله: "عن أبيه" هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة، فسقط الحارث من الرواية، واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري ثم المازني، هلك في الجاهلية، وشهد ابنه الحارث أحدا، واستشهد باليمامة.قوله: "عن أبي سعيد" اسمه سعد على الصحيح - وقيل سنان - ابن مالك بن سنان، استشهد أبوه بأحد، وكان هو من المكثرين.وهذا الإسناد كله مدنيون، وهو من أفراد البخاري عن مسلم.نعم أخرج مسلم في الجهاد - وهو عند المصنف أيضا من وجه آخر - عن أبي سعيد حديث الأعرابي الذي سأل: أي الناس خير؟قال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله.قال: ثم من؟قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره.وليس فيه ذكر الفتن.وهي زيادة من حافظ فيقيد بها المطلق.ولها شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم، ومن حديث أم مالك البهزية عند الترمذي، ويؤيده ما ورد من النهي عن سكنى البوادي والسياحة والعزلة، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الفتن.قوله: "يوشك" بكسر الشين المعجمة أي: يقرب.قوله: "خير" بالنصب على الخبر، وغنم الاسم، وللأصيلي برفع خير ونصب غنما على الخبرية، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر ويقدر في يكون ضمير الشأن قاله ابن مالك، لكن لم تجيء به الرواية.قوله: "يتبع" تشديد التاء ويجوز إسكانها." وشعف " بفتح المعجمة والعين المهملة جمع شعفة كأكم وأكمة، وهي رؤوس الجبال.قوله: "ومواقع القطر" بالنصب عطفا على شعف، أي بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى.قوله: "يفر بدينه" أي: بسبب دينه.و " من " ابتدائية، قال الشيخ النووي: في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينا، وإنما هو صيانة للدين.قال: فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين.وقال غيره: إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية

(1/69)


أي الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر.وهذا الحديث قد ساقه المصنف أيضا في كتاب الفتن، وهو أليق المواضع به، والكلام عليه يستوفى هناك إن شاء الله تعالى.

(1/70)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أعلمكم بالله" وأن المعرفة ....الخ"
...
13- باب قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ"
وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}
20 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنْ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ.قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: "إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا."
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " هو مضاف بلا تردد.قوله: "أنا أعلمكم" كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه.وفي رواية الأصيلي: "أعرفكم " وكأنه مذكور بالمعنى حملا على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل المصنف.قوله: "وأن المعرفة" بفتح أن والتقدير: باب بيان أن المعرفة.وورد بكسرها وتوجيهه ظاهر.وقال الكرماني: هو خلاف الرواية والدراية.قوله: "لقوله تعالى" مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل القلب.و قوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب. وكأن المصنف لمح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قال: هو كقول الرجل إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلا على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلا على زيادة الإيمان ونقصانه لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله " ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منه في أعلى الدرجات.والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقا.
"فائدة": قال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب فقيل: المعرفة، وقيل: النظر.وقال المقترح: لا اختلاف في أن أول واجب خطابا ومقصودا المعرفة، وأول واجب اشتغالا وأداء القصد إلى النظر.وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جدا.وأجاب الأولون عن ذلك: بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم. ومقتضى هذا: أن المعرفة المذكورة يكتفي فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه.ومع ذلك فقول الله تعالى: َ{فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
ـــــــ
(1) الصواب ماذكره المحققون من اهل العلم أن اول واجب هو شهادة أن لا إله إلا الله علما وعملا,وهي أول شيء دعا اليه الرسل,وسيدهم وإمامهم :نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أول شيء دعا إليه أن قال لقومه:قولوا لاإله إلا الله تعلموا. ولما بعث معاذا إلى اليمن قال له:فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لاإله إلا الله.ولأن التوحيد شرط لصحة جميع العبادات,كما يدل عليه قوله تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(1/70)


النَّاسَ عَلَيْهَا} وحديث: "كل مولود يولد على الفطرة " ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها، وسيأتي مزيد بيان لهذا في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني - وهو من كبار الأشاعرة - أنه سمعه يقول:إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب، والله المستعان. وقال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل " فمحمول على ما إذا لم تستقر. قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: "أو تعمل " لأن الاعتقاد هو عمل القلب، ولهذه المسألة تكملة تذكر في كتاب الرقاق. قوله: "حدثنا محمد بن سلام" هو بتخفيف اللام على الصحيح.وقال صاحب المطالع: هو بتشديدها عند الأكثر، وتعقبه النووي بأن أكثر العلماء على أنه بالتخفيف، وقد روى ذلك عنه نفسه وهو أخبر بأبيه، فلعله أراد بالأكثر مشايخ بلده.وقد صنف المنذري جزءا في ترجيح التشديد، ولكن المعتمد خلافه. قوله: "أخبرنا عبده" هو ابن سليمان الكوفي، وفي رواية الأصيلي: حدثنا. قوله: "عن هشام" و ابن عروة بن الزبير بن العوام. قوله: "إذا أمرهم أمرهم" كذا في معظم الروايات، ووقع في بعضها أمرهم مرة واحدة، وعليه شرح القاضي أبو بكر بن العربي، وهو الذي وقع قي طرق هذا الحديث التي وقفت عليها من طريق عبده، وكذا من طريق ابن نمير وغيره عن هشام عند أحمد، وكذا ذكره الإسماعيلي من رواية أبي أسامة عن هشام ولفظه: "كان إذا أمر الناس بالشيء"قالوا: والمعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون ما يشق خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه، وعمل هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف، طلبوا منه التكليف بما يشق، لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه، فيقولون: "لسنا كهيئتك"فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير قي العمل، بل يوجب الازدياد شكرا للمنعم الوهاب، كما قال في الحديث الآخر: " أفلا أكون عبدا شكورا" .وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه كما في الحديث الآخر: " أحب العمل إلى الله أدومه" ، وعلى مقتضى ما وقع في هذه الرواية من تكرير " أمرهم " يكون المعنى:كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه، فأمرهم الثانية جواب الشرط، وقالوا جواب ثان.قوله: "كهيئتك" أي ليس حالنا كحالك.وعبر بالهيئة تأكيدا.وفي هذا الحديث فوائد:الأولى: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيئات، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة، بل من الجهة الأخرى.الثانية: أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها، كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة، واستزادة لها بالشكر عليها.الثالثة: الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له.الرابعة: أن الأولى في العبادة القصد والملازمة، لا المبالغة المفضية إلى الترك، كما جاء في الحديث الآخر: "المنبت - أي المجد في السير - لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى".الخامسة: التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة وطلبهم الازدياد من الخير.السادسة: مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي، والإنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم، تحريضا له على التيقظ.السابعة: جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك عند الأمن من المباهاة والتعاظم.الثامنة: بيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم رتبة الكمال الإنساني لأنه منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وقد أشار إلى الأولى بقوله: "أعلمكم"، وإلى الثانية بقوله: "أتقاكم"، ووقع عند أبي نعيم " وأعلمكم بالله لأنا " بزيادة

(1/71)


لام التأكيد.وفي رواية أبي أسامة عند الإسماعيلي: "والله إن أبركم وأتقاكم أنا" ، ويستفاد منه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة إلا للضرورة وأولوا قول الشاعر:"وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي"بأن الاستثناء فيه مقدر، أي: وما يدافع عن أحسابهم إلا أنا.قال بعض الشراح: والذي وقع في هذا الحديث، يشهد للجواز بلا ضرورة، وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، لا أعرفه إلا من هذا الوجه، فهو مشهور عن هشام، فرد مطلق من حديثه عن أبيه عن عائشة والله أعلم. وقد أشرت إلى ما ورد في معناه من وجه آخر عن عائشة في باب من لم يواجه من كتاب الأدب، وذكرت فيه ما يؤخذ منه تعيين المأمور به. ولله الحمد.

(1/72)


14- باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنْ الإِيمَانِ
21 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ:مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ."
قوله: "باب من كره" يجوز فيه التنوين والإضافة، وعلى الأول " من " مبتدأ و " من الإيمان " خبره. وقد تقدم الكلام على حديث الباب، ومطابقة الترجمة له ظاهرة مما تقدم. وإسناده كله بصريون، وجرى المصنف على عادته في التبويب على ما يستفاد من المتن، مع أنه غاير الإسناد هنا إلى أنس. و " من " في المواضع الثلاثة موصولة بخلاف التي بعد ثلاث فإنها شرطية.

(1/72)


15- باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ
22 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدْ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا - أَوْ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ - فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً " ؟
قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو " الْحَيَاةِ " وَقَالَ: "خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ"
[الحديث 22- أطرافه في: 7439,7438,6574,6560,4919,4581,]
قوله: "باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال" في: ظرفية ويحتمل أن تكون سببية، أي: التفاضل الحاصل بسبب الأعمال. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت مالك، وقد وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسى عن مالك، وليس هو في الموطأ. قال الدارقطني: هو غريب صحيح.قوله: "يدخل" للدار قطني من طريق إسماعيل وغيره: "يدخل الله " وزاد من طريق معن " يدخل من يشاء برحمته " وكذا له وللإسماعيلي من طريق ابن وهب. قوله: "مثقال حبة" بفتح الحاء، هو إشارة إلى ما لا

(1/72)


16- باب الْحَيَاءُ مِنْ الإِيمَانِ
24 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ - وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ - فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": " دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الإِيمَانِ"
[الحديث 24- طرفه في: 6118]
قوله: "باب" هو منون، ووجه كون الحياء من الإيمان تقدم مع بقية مباحثه في باب أمور الإيمان، وفائدة إعادته هنا: أنه ذكر هناك بالتبعية وهنا بالقصد مع فائدة مغايرة الطريق.قوله: "حدثنا عبد الله بن يوسف" هو التنيسي نزيل دمشق، ورجال الإسناد سواه من أهل المدينة.قوله: "أخبرنا" وللأصيلي حدثنا مالك، ولكريمة ابن أنس، والحديث في الموطأ.قوله: "عن أبيه" هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.قوله: "مر على رجل" لمسلم من طريق معمر " مر برجل " ومر بمعنى: اجتاز يعدى بعلى وبالباء، ولم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه.وقوله: "يعظ " أي: ينصح أو يخوف أو يذكر، كذا شرحوه، والأولى أن يشرح بما جاء عند المصنف في الأدب من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن ابن شهاب ولفظه: "يعاتب أخاه في الحياء " يقول:إنك لتستحي، حتى كأنه يقول: قد أضر بك.انتهى.ويحتمل أن يكون جمع له العتاب والوعظ فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج متحد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر، و " في " سببية فكأن الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه " أي: اتركه على هذا الخلق السني، ثم زاده في ذلك ترغيبا لحكمه بأنه من الإيمان، وإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جر له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقا.وقال ابن قتيبة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه.وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز، والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية في نفسها مما يهتم به وإن لم يكن هناك منكر.قال الراغب: الحياء: انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة.وهو مركب من جبن وعفة فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا، وقد يكون لمطلق الانقباض كما في بعض الصبيان.انتهى ملخصا.وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون

(1/74)


شرعيا أو عقليا أو عرفيا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أبله. قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان" أي: أثر من آثار الإيمان. وقال الحليمي: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه. وقال غيره: إن كان في محرم فهو واجب، وإن كان في مكروه فهو مندوب، وإن كان في مباح فهو العرفي، وهو المراد بقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير" . ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع إثباتا ونفيا، وحكي عن بعض السلف: رأيت المعاصي مذلة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك. والله أعلم.

(1/75)


17- باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
25 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ."
قوله: "باب" هو منون في الرواية، والتقدير: هذا باب في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} ، وتجوز الإضافة أي: باب تفسير قوله.وإنما جعل الحديث تفسيرا للآية لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، ففسره قوله صلى الله عليه وسلم:" حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".وبين الآية والحديث مناسبة أخرى، لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحد، ومناسبة الحديث لأبواب الإيمان من جهة أخرى وهي الرد على المرجئة، حيث زعموا أن الإيمان لا يحتاج إلى الأعمال. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" زاد ابن عساكر: "المسندي " وهو بفتح النون كما مضى، قال: حدثنا أبو روح هو بفتح الراء. قوله: "الحرمي" هو بفتح المهملتين، وللأصيلي حرمي، وهو اسم بلفظ النسب تثبت فيه الألف واللام وتحذف، مثل مكي بن إبراهيم الآتي بعد. وقال الكرماني: أبو روح كنيته، واسمه ثابت والحرمي نسبته، كذا قال.وهو خطأ من وجهين:أحدهما في جعله اسمه نسبته، والثاني في جعله اسم جده اسمه، وذلك أنه حرمي بن عمارة بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة نابت(1)، وكأنه رأى في كلام بعضهم واسمه نابت فظن أن الضمير يعود على حرمي لأنه المتحدث عنه، وليس كذلك بل الضمير يعود على أبي حفصة لأنه الأقرب، وأكد ذلك عنده وروده في هذا السند " الحرمي " بالألف واللام وليس هو منسوبا إلى الحرم بحال، لأنه بصري الأصل والمولد والمنشأ والمسكن والوفاة.ولم يضبط نابتا كعادته وكأنه ظنه بالمثلثة كالجادة(2)، والصحيح أن أوله نون. قوله: "عن واقد بن محمد" زاد الأصيلي: يعني ابن زيد بن عبد الله بن عمر فهو من رواية الأبناء عن الأباء، وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه، وهذا الحديث غريب الإسناد تفرد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه حرمي هذا وعبد الملك بن الصباح، وهو عزيز عن حرمي تفرد به عنه المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلي وغيرهم. وهو غريب عن عبد الملك
ـــــــ
(1) هو بالنون, وهواسم جد حرمى, وقد بين الحافظ هنا أنه بالنون. وانظر تهذيب التهذيب 232:2 (2)كذ

(1/75)


تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو في مسند أحمد على سعته. وقد استبعد قوم صحته، بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله - عليه الصلاة والسلام -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ، وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، لأنها قرينتها في كتاب الله. والجواب: أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد، ولم يستدل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضا من قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي رواه: "إلا بحق الإسلام" ، قال أبو بكر: والزكاة حق الإسلام. ولم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور. بل رواه أبو هريرة أيضا بزيادة الصلاة والزكاة فيه، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في كتاب الزكاة. وفي القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة، ويطلع عليها آحادهم، ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفي ذا على فلان؟ والله الموفق. قوله: "أمرت" أي: أمرني الله، لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل.والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس. قوله: "أن أقاتل" أي: بأن أقاتل، وحذف الجار من " أن " كثير. قوله: "حتى يشهدوا" جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه: أن من شهد وأقام وآتى، عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: "إلا بحق الإسلام " يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ فالجواب: أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أما العبادات البدنية والمالية. قوله: "ويقيموا الصلاة" أي: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوق إذا نفقت، وقامت الحرب إذا اشتد القتال. أو المراد بالقيام: الأداء - تعبيرا عن الكل بالجزء - إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة: المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا وإن صدق اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيي الدين النووي: في هذا الحديث، أن من ترك الصلاة عمدا يقتل. ثم ذكر اختلاف المذاهب في ذلك. وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمهما واحد لاشتراكهما في الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا. والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا. وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل. والله أعلم.وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله. قوله: "فإذا فعلوا ذلك" فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان. قوله: "عصموا" أي: منعوا، وأصل العصمة

(1/76)


من العصام وهو الخيط الذي يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء. قوله: "وحسابهم على الله" أي: في أمر سرائرهم، ولفظة " على " مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أي: هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع.وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد تقدم ما فيه.ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن.فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟فالجواب من أوجه، أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. ثانيها: أن يكون من العام الذي خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم. ثالثها: أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله: "أقاتل الناس " أي: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: "أمرت أن أقاتل المشركين". فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية! أجيب: بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية. رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة. خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها. سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتي فيه ما في الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم.

(1/77)


باب من قال إن الإيمان هو العمل ...الخ
...
18- باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى :{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تعالى :{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: عَنْ قَوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.وَقَالَ: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ}
26 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ."
[الحديث26- طرفه في: 1519]
قوله: "باب من قال" هو مضاف حتما. قوله: "إن الإيمان هو العمل" مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع، لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى، فقول: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عام في الأعمال، وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا: {تَعْمَلُونَ} معناه تؤمنون، فيكون خاصا. وقوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف. و قوله: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} عام أيضا. وقوله في الحديث: "إيمان بالله " في جواب: "أي العمل أفضل "؟ دال على أن الاعتقاد والنطق من جملة الأعمال. فإن قيل: الحديث يدل على أن الجهاد والحج ليسا من الإيمان، لما تقتضيه " ثم " من المغايرة والترتيب. فالجواب: أن المراد بالإيمان هنا التصديق، هذه حقيقته، والإيمان كما تقدم يطلق على الأعمال البدنية لأنها من مكملاته. قوله: {أُورِثْتُمُوهَا}

(1/77)


أي: صيرت لكم إرثا. وأطلق الإرث مجازا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق. و " ما " في قوله: "بما " إما مصدرية أي: بعملكم، وإما موصولة أي: بالذي كنتم تعملون. والباء للملابسة أو للمقابلة(1). فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وحديث: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " ؟ فالجواب: أن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل برحمة الله، فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله. وقيل في الجواب غير ذلك كما سيأتي عند إيراد الحديث المذكور. "تنبيه": اختلف الجواب عن هذا السؤال، وأجيب: بأن لفظ: "من " مراد في كل منهما، وقيل: وقع باختلاف الأحوال والأشخاص فأجيب كل سائل بالحال اللائق به، وهذا اختيار الحليمي ونقله عن القفال. قوله: "وقال عدة" أي: جماعة من أهل العلم، منهم أنس بن مالك روينا حديثه مرفوعا في الترمذي وغيره وفي إسناده ضعف. ومنهم ابن عمر روينا حديثه في التفسير للطبري، والدعاء للطبراني. ومنهم مجاهد رويناه عنه في تفسير عبد الرزاق وغيره. قوله: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} الخ قال النووي: معناه عن أعمالهم كلها، أي: التي يتعلق بها التكليف، وتخصيص ذلك بالتوحيد دعوى بلا دليل. قلت: لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله: {أَجْمَعِينَ} بعد أن تقدم ذكر الكفار إلى قوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} فيدخل فيه المسلم والكافر، فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال إنهم مخاطبون يقول:إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال إنهم غير مخاطبين يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه. فهذا هو دليل التخصيص، فحمل الآية عليه أولى، بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف. والله أعلم. قوله: "وقال" أي: الله عز وجل: { لِمِثْلِ هَذَا} أي: الفوز العظيم {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} أي: في الدنيا. والظاهر أن المصنف تأولها بما تأول به الآيتين المتقدمتين، أي: فليؤمن المؤمنون، أو يحمل العمل على عمومه لأن من آمن لا بد أن يقبل(2)، ومن قبل فمن حقه أن يعمل، ومن عمل لا بد أن ينال، فإذا وصل قال: لمثل هذا فليعمل العاملون. "تنبيه": يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والذي بعده ابتداء من قول الله عز وجل أو بعض الملائكة، لا حكاية عن قول المؤمن. والاحتمالات الثلاثة مذكورة في التفسير. ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف القائل، والله أعلم. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي، نسب إلى جده. قوله: "سئل" أبهم السائل، وهو أبو ذر الغفاري، وحديثه في العتق(3). قوله: "قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد" وقع في مسند الحارث أبي أسامة عن إبراهيم ابن سعد " ثم جهاد " فواخى بين الثلاثة في التنكير، بخلاف ما عند المصنف.وقال الكرماني: الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال.إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل.وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال.وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي، فلا يسلم الفرق. قلت: وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة، والله الموفق. قوله: "حج مبرور" أي: مقبول ومنه بر حجك، وقيل: المبرور الذي لا يخالطه إثم، وقيل: الذي
ـــــــ
(1) الصواب أن الباء هنا للسببية, بخلاف الباء في حديث "لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله" فإنها للعوض والمقابلة
أي لابد أن يقبل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لايتم إيمانه الا بذلك (3) برقم 2518

(1/78)


لا رياء فيه. "فائدة" قال النووي: ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان. قال العلماء: اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة " من " مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث: "خيركم خيركم لأهله " ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن؟ فالجواب: إن نفع الحج قاصر غالبا، ونفع الجهاد متعد غالبا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين - ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر - فكان أهم منه فقدم، والله أعلم.

(1/79)


19- باب إِذَا لَمْ يَكُنْ الإِسْلاَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلاَمِ أَوْ الْخَوْفِ مِنْ الْقَتْلِ، لِقَوْلِهِ تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}
27 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِا عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا - وَسَعْدٌ جَالِسٌ - فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: "أَوْ مُسْلِمًا" ، فَسَكَتُّ قَلِيلًا. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي َلأرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ "أَوْ مُسْلِمًا" ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: "يَا سَعْدُ، إِنِّي لأعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ." وَرَوَاهُ يُونُسُ وَصَالِحٌ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
[الحديث 27- طرفه في: 1478]
قوله: "باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة" حذف جواب قوله: "إذا " للعلم به كأنه يقول: إذا كان الإسلام كذلك لم ينتفع به في الآخرة.ومحصل ما ذكره واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} وقوله تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، ويطلق ويراد به الحقيقة اللغوية وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي الشرعية، ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث أن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه، قلا يكون مؤمنا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللغوية فحاصلة. قوله: "عن سعد" هو ابن أبي وقاص كما صرح الإسماعيلي في روايته، وهو والد عامر الراوي عنه، كما وقع في الزكاة عند المصنف من رواية صالح بن كيسان قال فيها: "عن عامر بن سعد عن أبيه " واسم أبي وقاص مالك، وسيأتي تمام نسبه في مناقب سعد إن شاء الله تعالى. قوله: "أعطى رهطا" الرهط: عدد من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، قال القزاز: وربما جاوزوا ذلك قليلا، ولا واحد له من لفظه، ورهط الرجل: بنو أبيه الأدنى، وقيل: قبيلته. وللإسماعيلي من طريق ابن أبي ذئب أنه جاءه رهط، فسألوه فأعطاهم فترك رجلا منهم. قوله: "وسعد جالس" فيه تجريد، وقوله: "أعجبهم إلي " فيه التفات،

(1/79)


ولفظه في الزكاة: "أعطى رهطا وأنا جالس " فساقه بلا تجريد ولا التفات، وزاد فيه: " فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته". وغفل بعضهم فعزا هذه الزيادة إلى مسلم فقط، والرجل المتروك اسمه جعيل بن سراقة الضمري، سماه الواقدي في المغازي.قوله: "مالك عن فلان" يعني: أي سبب لعدولك عنه إلى غيره؟ ولفظ فلان كناية عن اسم أبهم بعد أن ذكر. قوله: "فوالله" فيه القسم في الإخبار على سبيل التأكيد. قوله: "لأراه" وقع في روايتنا من طريق أبي ذر وغيره بضم الهمزة هنا وفي الزكاة، وكذا هو في رواية الإسماعيلي وغيره. وقال الشيخ محيي الدين - رحمه الله -: بل هو بفتحها أي: أعلمه، ولا يجوز ضمها فيصير بمعنى أظنه، لأنه قال بعد ذلك: غلبني ما أعلم منه. ا هـ. ولا دلالة فيما ذكر على تعين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} ، سلمنا لكن لا يلزم من إطلاق العلم أن لا تكون مقدماته ظنية، فيكون نظريا لا يقينيا وهو الممكن هنا، وبهذا جزم صاحب المفهم في شرح مسلم فقال: الرواية بضم الهمزة، واستنبط منه جواز الحلف على غلبة الظن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نهاه عن الحلف، كذا قال، وفيه نظر لا يخفى، لأنه أقسم على وجدان الظن وهو كذلك، ولم يقسم على الأمر المظنون كما ظن. قوله: "فقال: أو مسلما" هو بإسكان الواو لا بفتحها، فقيل: هي للتنويع. وقال بعضهم: هي للتشريك، وأنه أمره أن يقولهما معا لأنه أحوط، ويرد هذا رواية ابن الأعرابي في معجمه في هذا الحديث فقال: " لا تقل مؤمن بل مسلم: "فوضح أنها للإضراب، وليس معناه الإنكار بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة أولى من إطلاق المؤمن، لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، قاله الشيخ محيي الدين ملخصا. وتعقبه الكرماني بأنه يلزم منه أن لا يكون الحديث دالا على ما عقد له الباب، ولا يكون لرد الرسول صلى الله عليه وسلم على سعد فائدة. وهو تعقب مردود، وقد بينا وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قبل، ومحصل القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام تألفا، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة، وترك جعيلا وهو من المهاجرين مع أن الجميع سألوه. خاطبه سعد في أمره لأنه كان يرى أن جعيلا أحق منهم لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مرة، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمرين: أحدهما: إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك، وحرمان جعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى، لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن ارتداده فيكون من أهل النار. ثانيهما: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضح بهذا فائدة رد الرسول صلى الله عليه وسلم على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأولى، والآخر على طريق الاعتذار. فإن قيل: كيف لم تقبل شهادة سعد لجعيل بالإيمان، ولو شهد له بالعدالة لقبل منه وهي تستلزم الإيمان؟ فالجواب: أن كلام سعد لم يخرج مخرج الشهادة، وإنما خرج مخرج المدح له، والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا نوقش في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة لما استلزمت المشورة عليه بالأمر الأولى رد شهادته، بل السياق يرشد إلى أنه قبل قوله فيه، بدليل أنه اعتذر إليه. وروينا في مسند محمد بن هارون الروياني وغيره، بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: كيف ترى جعيلا؟ قال قلت: كشكله من الناس، يعني: المهاجرين. قال: فكيف ترى فلانا؟ قال قلت: سيد من سادات الناس. قال: فجعيل خير من ملء الأرض من فلان. قال قلت: ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع، قال: إنه رأس قومه، فأنا أتألفهم به. فهذه منزلة جعيل المذكور عند النبي صلى الله عليه وسلم كما ترى، فظهرت بهذا الحكمة في حرمانه وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف كما قررناه. وفي حديث الباب من الفوائد التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وترك القطع بالإيمان الكامل لمن لم ينص عليه، وأما منع القطع بالجنة فلا يؤخذ من هذا صريحا وإن تعرض له بعض

(1/80)


الشارحين.نعم هو كذلك فيمن لم يثبت فيه النص، وفيه الرد على غلاة المرجئة في اكتفائهم في الإيمان بنطق اللسان.وفيه جواز تصرف الإمام في مال المصالح وتقديم الأهم فالأهم، وإن خفي وجه ذلك على بعض الرعية.وفيه جواز الشفاعة عند الإمام فيما يعتقد الشافع جوازه، وتنبيه الصغير للكبير على ما يظن أنه ذهل عنه، ومراجعة المشفوع إليه في الأمر إذا لم يؤد إلى مفسدة، وأن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان كما ستأتي الإشارة إليه في كتاب الزكاة " فقمت إليه فساررته"، وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة.وفيه أن من أشير عليه بما يعتقده المشير مصلحة لا ينكر عليه، بل يبين له وجه الصواب. وفيه الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته، وأن لا عيب على الشافع إذا ردت شفاعته لذلك. وفيه استحباب ترك الإلحاح في السؤال كما استنبطه المؤلف منه في الزكاة، وسيأتي تقريره هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "إني لأعطي الرجل" حذف المفعول الثاني للتعميم، أي: أي عطاء كان. قوله: "أعجب إلي" في رواية الكشميهني: "أحب " وكذا لأكثر الرواة. ووقع عند الإسماعيلي بعد قوله: أحب إلي منه " وما أعطيه إلا مخافة أن يكبه الله " الخ. ولأبي داود من طريق معمر: "إني أعطي رجالا، وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئا، مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم". قوله: "أن يكبه" هو بفتح أوله وضم الكاف يقال: أكب الرجل إذا أطرق، وكبه غيره إذا قلبه، وهذا على خلاف القياس لأن الفعل اللازم يتعدى بالهمزة وهذا زيدت عليه الهمزة فقصر. وقد ذكر المؤلف هذا في كتاب الزكاة فقال: يقال أكب الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحدا، فإذا وقع الفعل قلت: كبه وكببته. وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة منها: أنسل ريش الطائر ونسلته، وأنزفت البئر ونزفتها، وحكى ابن الأعرابي في المتعدي كبه وأكبه معا. "تنبيه": ليس فيه إعادة السؤال ثانيا ولا الجواب عنه، وقد روي عن ابن وهب ورشدين بن سعد جميعا عن يونس عن الزهري بسند آخر قال: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أخرجه ابن أبي حاتم. ونقل عن أبيه أنه خطأ من راويه وهو الوليد بن مسلم عنهما. قوله: "ورواه يونس" يعني ابن يزيد الأيلي، وحديثه موصول في كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الزهري الملقب رسته بضم الراء وإسكان السين المهملتين، وقبل الهاء مثناة من فوق مفتوحة، ولفظه قريب من سياق الكشميهني، ليس فيه إعادة السؤال ثانيا ولا الجواب عنه. قوله: "وصالح" يعني: ابن كيسان، وحديثه موصول عند المؤلف في كتاب الزكاة. وفيه من اللطائف رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم صالح والزهري وعامر. قوله: "ومعمر" يعني: ابن راشد، وحديثه عند أحمد بن حنبل والحميدي وغيرهما عن عبد الرزاق عنه. وقال فيه: إنه أعاد السؤال ثلاثا. ورواه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن الزهري.ووقع في إسناده وهم منه أو من شيخه، لأن معظم الروايات في الجوامع والمسانيد عن ابن عيينة عن معمر عن الزهري بزيادة معمر بينهما، وكذا حدث به ابن أبي عمر شيخ مسلم في مسنده عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريقه، وزعم أبو مسعود في الأطراف أن الوهم من ابن أبي عمر، وهو محتمل لأن يكون الوهم صدر منه لما حدث به مسلما، لكن لم يتعين الوهم في جهته، وحمله الشيخ محيي الدين على أن ابن عيينة حدث به مرة بإسقاط معمر ومرة بإثباته، وفيه بعد، لأن الروايات قد تضافرت عن ابن عيينة بإثبات معمر، ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم، والموجود في مسند شيخه بلا إسقاط كما قدمناه، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتابي " تغليق التعليق". وفي رواية عبد الرزاق عن معمر من الزيادة: قال الزهري: فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. وقد استشكل هذا بالنظر إلى حديث سؤال جبريل، فإن ظاهره يخالفه. ويمكن أن يكون مراد الزهري أن المرء يحكم بإسلامه

(1/81)


ويسمى مسلما إذا تلفظ بالكلمة - أي كلمة الشهادة - وأنه لا يسمى مؤمنا إلا بالعمل، والعمل يشمل عمل القلب والجوارح، وعمل الجوارح يدل على صدقه. وأما الإسلام المذكور في حديث جبريل فهو الشرعي الكامل المراد بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} قوله: "وابن أخي الزهري عن الزهري" يعني: أن الأربعة المذكورين رووا هذا الحديث عن الزهري بإسناده كما رواه شعيب عنه، وحديث ابن أخي الزهري موصول عند مسلم، وساق فيه السؤال والجواب ثلاث مرات. وقال في آخره: "خشية أن يكب " على البناء للمفعول. وفي رواية ابن أخي الزهري لطيفة، وهي رواية أربعة من بني زهرة على الولاء، هو وعمه وعامر وأبوه.

(1/82)


20- باب إِفْشَاءُ السَّلاَمِ مِنْ الإِسْلاَمِ.
وَقَالَ عَمَّارٌ: ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنْ الإِقْتَارِ.
28- حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"
قوله: "باب" هو منون.و قوله: "السلام من الإسلام" زاد في رواية كريمة: "إفشاء السلام " والمراد بإفشائه نشره سرا أو جهرا، وهو مطابق للمرفوع في قوله: "على من عرفت ومن لم تعرف".وبيان كونه من الإسلام تقدم في باب إطعام الطعام مع بقية فوائده.وغاير المصنف بين شيخيه اللذين حدثاه عن الليث مراعاة للإتيان بالفائدة الإسنادية، وهي تكثير الطرق حيث يحتاج إلى إعادة المتن، فإنه لا يعيد الحديث الواحد في موضعين على صورة واحدة. فإن قيل: كان يمكنه أن يجمع الحكمين في ترجمة واحدة ويخرج الحديث عن شيخيه معا، أجاب الكرماني: باحتمال أن يكون كل من شيخيه أورده في معرض غير المعرض الآخر، وهذا ليس بطائل، لأنه متوقف على ثبوت وجود تصنيف مبوب لكل من شيخيه، والأصل عدمه. ولأن من اعتنى بترجمة كل من قتيبة وعمرو بن خالد لم يذكر أن لواحد منهما تصنيفا على الأبواب، ولأنه لزم منه أن البخاري يقلد في التراجم، والمعروف الشائع عنه أنه هو الذي يستنبط الأحكام في الأحاديث، ويترجم لها، ويتفنن في ذلك بما لا يدركه فيه غيره. ولأنه يبقى السؤال بحاله إذ لا يمتنع معه أن يجمعهما المصنف، ولو كان سمعهما مفترقين.والظاهر من صنيع البخاري أنه يقصد تعديد شعب الإيمان كما قدمناه، فخص كل شعبة بباب تنويها بذكرها، وقصد التنويه يحتاج إلى التأكيد فلذلك غاير بين الترجمتين.قوله: "وقال عمار" هو ابن ياسر، أحد السابقين الأولين، وأثره هذا أخرجه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثوري، ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير ابن معاوية وغيرهما كلهم عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار، ولفظ شعبة: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان " وهو بالمعنى، وهكذا رويناه في جامع معمر عن أبي إسحاق. وكذا حدث به عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، وحدث به عبد الرزاق بأخرة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كذا أخرجه البزار في مسنده وابن أبي حاتم في العلل كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي، وكذا رواه البغوي في شرح السنة من طريق أحمد بن كعب الواسطي، وكذا أخرجه ابن الأعرابي في معجمه عن محمد بن الصباح الصنعاني ثلاثتهم عن عبد الرزاق مرفوعا.

(1/82)


واستغربه البزار.وقال أبو زرعة: هو خطأ.قلت: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد، لأن عبد الرزاق تغير بأخرة، وسماع هؤلاء منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع، وقد رويناه مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بينتها في " تعليق التعليق". قوله: "ثلاث" أي: ثلاث خصال، وإعرابه نظير ما مر في قوله: "ثلاث من كن فيه" ، والعالم بفتح اللام والمراد به هنا جميع الناس، والإقتار: القلة وقيل: الافتقار، وعلى الثاني فمن في قوله: "من الإقتار " بمعنى مع، أو بمعنى عند. قال أبو الزناد بن سراج وغيره: إنما كان من جمع الثلاث مستكملا للإيمان لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه، ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان. وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب، والإنفاق من الإقتار يتضمن غاية الكرم، لأنه إذا أنفق من الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقا، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبة ومندوبة، أو على الضيف والزائر، وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة. وهذا التقرير يقوي أن يكون الحديث مرفوعا، لأنه يشبه أن يكون كلام من أوتي جوامع الكلم. والله أعلم.

(1/83)


21- باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ. وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ.
فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
29- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بن عباس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن قيل أيكفرن بالله قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط"
[الحديث29- أطرافه في: 5197,3202,1052,748,431,]
قوله: "باب كفران العشير، وكفر دون كفر" قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة. قال: وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها - وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية - كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله، فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن الملة. ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان من جهة كون الكفر ضد الإيمان. وأما قول المصنف: "وكفر دون كفر " فأشار إلى أثر رواه أحمد في كتاب الإيمان من طريق عطاء بن أبي رباح وغيره. وقوله: "فيه أبو سعيد " أي: يدخل في الباب حديث رواه " أبو سعيد " وفي رواية كريمة: "فيه عن أبي سعيد " أي: مروي عن أبي سعيد. وفائدة هذا الإشارة إلى أن للحديث طريقا غير الطريق المساقة. وحديث أبي سعيد أخرجه المؤلف في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم للنساء: "تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقلن: ولم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير " الحديث. ويحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد أيضا: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" قالها القاضي أبو بكر المذكور، والأول أظهر وأجرى

(1/83)


على مألوف المصنف، ويعضده إيراده لحديث ابن عباس بلفظ: "وتكفرن العشير " والعشير الزوج، قيل له عشير بمعنى معاشر مثل أكيل بمعنى مؤاكل، وحديث ابن عباس المذكور طرف من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف بهذا الإسناد تاما، وسيأتي الكلام عليه ثم. وننبه هنا على فائدتين: إحداهما: أن البخاري يذهب إلى جواز تقطيع الحديث، إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقا يفضي إلى فساد المعنى، فصنيعه كذلك يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام كما وقع في هذا الحديث، فإن أوله هنا قوله صلى الله عليه وسلم: "أريت النار " إلى آخر ما ذكر منه، وأول التام عن ابن عباس قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قصة صلاة الخسوف ثم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها القدر المذكور هنا، فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أن عدته بغير تكرار أربعة آلاف أو نحوها كابن الصلاح والشيخ محيي الدين ومن بعدهما، وليس الأمر كذلك بل عدته على التحرير ألفا حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثا، كما بينت ذلك مفصلا في المقدمة.الفائدة الثانية: تقرر أن البخاري لا يعيد الحديث إلا لفائدة، لكن تارة تكون في المتن، وتارة في الإسناد، وتارة فيهما.وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده بصورته بل يتصرف فيه، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقا، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد.وقد صنع ذلك في هذا الحديث، فإنه أورده هنا عن عبد الله بن مسلمة - وهو القعنبي - مختصرا مقتصرا على مقصود الترجمة كما تقدمت الإشارة إليه من أن الكفر يطلق على بعض المعاصي، ثم أورده في الصلاة في باب من صلى وقدامه نار بهذا الإسناد بعينه، لكنه لما لم يغاير اقتصر على مقصود الترجمة منه فقط، ثم أورده في صلاة الكسوف بهذا الإسناد فساقه تاما، ثم أورده في بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر عن شيخ غير القعنبي مقتصرا على موضع الحاجة، ثم أورده في عشرة النساء عن شيخ غيرهما عن مالك أيضا.وعلى هذه الطريقة يحمل جميع تصرفه، فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدا إلا نادرا، والله الموفق.وسيأتي الكلام على ما تضمنه حديث الباب من الفوائد حيث ذكره تاما إن شاء الله تعالى.

(1/84)


- 22 باب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلاَّ بِالشِّرْكِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ" وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
30 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"
[الحديث 30- طرفاه في: 6050,2545,]

(1/84)


باب {وإن طائفتان من المؤمنيني اقتتلوا فأصلحوا بينهما}
...
باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فسماهم المؤمنين
31 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الأَحْنَفِ

(1/84)


23-باب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ
32 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ.ح.قَالَ: و حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "لَمَّا نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "
[الحديث 32-أطرافه في:6937,6918,4776,4629,3429,3428,3360
قوله: "باب ظلم دون ظلم" دون يحتمل أن تكون بمعنى غير، أي: أنواع الظلم متغايرة. أو بمعنى الأدنى، أي: بعضها أخف من بعض، وهو أظهر في مقصود المصنف. وهذه الجملة لفظ حديث رواه أحمد في كتاب الإيمان من حديث عطاء، ورواه أيضا من طريق طاوس عن ابن عباس بمعناه، وهو في معنى قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } الآية، فاستعمله المؤلف ترجمة، واستدل له بالحديث المرفوع. ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله: "بظلم " عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك على ما سنوضحه، فدل على أن للظلم مراتب متفاوتة. ومناسبة إيراد هذا عقب ما تقدم من أن المعاصي غير الشرك لا ينسب صاحبها إلى الكفر المخرج عن الملة على هذا التقرير ظاهرة.
قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "وحدثني بشر" هو في الروايات المصححة بواو العطف، وفي بعض النسخ قبلها صورة ح، فإن كان من أصل التصنيف فهي مهملة مأخوذة من التحويل على المختار. وإن كانت مزيدة من بعض الرواة فيحتمل أن تكون مهملة كذلك، أو معجمة مأخوذة من البخاري لأنها رمزه، أي: قال البخاري: وحدثني بشر، وهو ابن خالد العسكري وشيخه محمد هو ابن جعفر المعروف بغندر، وهو أثبت الناس في شعبة، ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عاليا عن أبي الوليد، واللفظ المساق هنا لفظ بشر،وكذلك

(1/87)


أخرج النسائي عنه وتابعه ابن أبي عدي عن شعبة، وهو عند المؤلف في تفسير الأنعام، وأما لفظ أبي الوليد فساقه المؤلف في قصة لقمان بلفظ: "أينا لم يلبس إيمانه بظلم " وزاد فيه أبو نعيم في مستخرجه من طريق سليمان ابن حرب عن شعبة بعد قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} : فطابت أنفسنا. واقتضت رواية شعبة هذه أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب. ففي رواية جرير عنه: "فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان". وفي رواية وكيع عنه: "فقال ليس كما تظنون". وفي رواية عيسى بن يونس: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان". وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم ولذلك نبههم عليها، ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان. قال الخطابي: كان الشرك عند الصحابة أكبر من أن يلقب بالظلم، فحملوا الظلم في الآية على ما عداه - يعني من المعاصي - فسألوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية. كذا قال، وفيه نظر، والذي يظهر لي أنهم حملوا الظلم على عمومه، الشرك فما دونه، وهو الذي يقتضيه صنيع المؤلف. وإنما حملوه على العموم لأن قوله: {بِظُلْمٍ} نكرة في سياق النفي، لكن عمومها هنا بحسب الظاهر. قال المحققون: "إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه نحو " من " في قوله: ما جاءني من رجل، أفاد تنصيص العموم" وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر كما فهمه الصحابة من هذه الآية، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ظاهرها غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك. فإن قيل: من أين يلزم أن من لبس الإيمان بظلم لا يكون آمنا ولا مهتديا، حتى شق عليهم، والسياق إنما يقتضي أن من لم يوجد منه الظلم فهو آمن ومهتد، فما الذي دل على نفي ذلك عمن وجد منه الظلم؟ فالجواب: أن ذلك مستفاد من المفهوم وهو مفهوم الصفة، أو مستفاد من الاختصاص المستفاد من تقديم " لهم " على الأمن، أي: لهم الأمن لا لغيرهم، كذا قال الزمخشري قي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وقال في قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} " تقديم " هو " على " قائلها " يفيد الاختصاص، أي: هو قائلها لا غيره. فإن قيل: لا يلزم من قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أن غير الشرك لا يكون ظلما. فالجواب: أن التنوين في قوله لظلم للتعظيم، وقد بين ذلك استدلال الشارع بالآية الثانية، فالتقدير: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم أي بشرك، إذ لا ظلم أعظم منه، وقد ورد ذلك صريحا عند المؤلف في قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه: "قلنا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك. أو لم تسمعوا إلى قول لقمان " فذكر الآية. واستنبط منه المازري جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونازعه القاضي عياض فقال: ليس في هذه القصة تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده فما هي الحاجة؟ ويمكن أن يقال: المعتقدات أيضا تحتاج إلى البيان، فلما أجمل الظلم حتى تناول إطلاقه جميع المعاصي شق عليهم حتى ورد البيان فما انتفت الحاجة. والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر. قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا} أي: لم يخلطوا، تقول: لبست الأمر بالتخفيف، ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، أي: خلطته. وتقول: لبست الثوب ألبسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل. وقال محمد ابن إسماعيل التيمي في شرحه: خلط الإيمان بالشرك لا يتصور فالمراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان كفر متأخر عن إيمان متقدم. أي: لم يرتدوا. ويحتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا، أي: لم ينافقوا. وهذا أوجه، ولهذا عقبه المصنف بباب علامات المنافق، وهذا من بديع ترتيبه. ثم في هذا الإسناد رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم الأعمش عن شيخه إبراهيم بن يزيد

(1/88)


النخعي عن خاله علقمة بن قيس النخعي، والثلاثة كوفيون فقهاء، وعبد الله الصحابي هو ابن مسعود. وهذه الترجمة أحد ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد. والأعمش موصوف بالتدليس ولكن في رواية حفص بن غياث التي تقدمت الإشارة إليها عند المؤلف عنه " حدثنا إبراهيم " ولم أر التصريح بذلك في جميع طرقه عند الشيخين وغيرهما إلا في هذا الطريق. وفي المتن من الفوائد: الحمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص، وأن النكرة في سياق النفي تعم، وأن الخاص يقضي على العام والمبين عن المجمل، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض، وأن درجات الظلم تتفاوت كما ترجم له، وأن المعاصي لا تسمى شركا، وأن من لم يشرك بالله شيئا فله الأمن وهو مهتد. فإن قيل: فالعاصي قد يعذب فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ فالجواب: أنه آمن من التخليد في النار، مهتد إلى طريق الجنة.
والله أعلم.

(1/89)


باب علامة النفاق
...
24- باب عَلاَمَةِ الْمُنَافِقِ
33 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"
[الحديث 33- أطرافه في:6095,2749,2682,]
34 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: ِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ." تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ
[الحديث34- طرفاه في: 3178,3459]
قوله: "باب علامات المنافق" لما قدم أن مراتب الكفر متفاوتة وكذلك الظلم أتبعه بأن النفاق كذلك.وقال الشيخ محيي الدين: "مراد البخاري بهذه الترجمة أن المعاصي تنقص الإيمان، كما أن الطاعة تزيده". وقال الكرماني: "مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن النفاق علامة عدم الإيمان، أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض". والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه. قوله: "حدثنا سليمان أبو الربيع" هو الزهراني، بصري نزل بغداد، ومن شيخه فصاعدا مدنيون، ونافع بن مالك هو عم مالك بن أنس الإمام. قوله: "آية المنافق ثلاث" الآية: العلامة، وإفراد الآية إما على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق بصنيع المؤلف، ولهذا ترجم بالجمع وعقب بالمتن الشاهد لذلك. وقد رواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: "علامات المنافق"، فإن قيل: ظاهره الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ: "أربع من كن فيه.. الحديث: "؟ أجاب القرطبي: باحتمال أنه استجد له صلى الله عليه وسلم من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأقول: ليس بين الحديثين تعارض، لأنه لا يلزم من عد الخصلة

(1/89)


المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق، لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق. على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه: "من علامة المنافق ثلاث " وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر. وقال القرطبي أيضا والنووي: "حصل من مجموع الروايتين خمس خصال، لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة". قلت: وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد، وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة. والفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده. وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث. ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عداها، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية. فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف. لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد، أما لو كان عازما ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي في الإحياء. وفي الطبراني في حديث طويل ما يشهد له، ففيه من حديث سلمان " إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف " وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود والترمذي من حديث زيد بن أرقم مختصر بلفظ: "إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه". قوله: "إذا وعد" قال صاحب المحكم: "يقال وعدته خيرا، ووعدته شرا. فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته". وحكى ابن الأعرابي في نوادره: أوعدته خيرا بالهمزة. فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه. وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة. وأما الكذب في الحديث فحكى ابن التين عن مالك أنه سئل عمن جرب عليه كذب فقال: أي نوع من الكذب؟ لعله حدث عن عيش له سلف فبالغ في وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصدا الكذب. انتهى. وقال النووي: "هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره". قال: وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح والذي قاله المحققون: إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم. قلت: ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز، أي: صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. وقد قيل في الجواب عنه: إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه. وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة: هل تعلم في شيئا من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل. ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله: "كان منافقا خالصا" . وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وإن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي. وذكر أيضا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا. قال: ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرر الفعل. كذا قال. والأولى ما قال الكرماني: إن حذف المفعول من " حدث " يدل على العموم، أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه. أو يصير قاصرا، أي إذا

(1/90)


وجد ماهية التحديث كذب. وقيل: هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا. وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال: إنه ورد في حق شخص معين أو في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه. وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي. والله أعلم. قوله: "تابعه شعبة" وصل المؤلف هذه المتابعة في كتاب المظالم، ورواية قبيصة عن سفيان - وهو الثوري - ضعفها يحيى بن معين. وقال الشيخ محيي الدين: "إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة". وتعقبه الكرماني بأنها مخالفة في اللفظ والمعنى من عدة جهات، فكيف تكون متابعة؟ وجوابه: أن المراد بالمتابعة هنا كون الحديث مخرجا في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى عن الثوري، وعند المؤلف من طرق أخرى عن الأعمش، منها رواية شعبة المشار إليها، وهذا هو السر في ذكرها هنا. وكأنه فهم أن المراد بالمتابعة حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وليس كذلك إذ لو أراده لسماه شاهدا. وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم، لما قررناه آنفا. وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهي مقبولة لأنها من ثقة متقن. والله أعلم. "فائدة": رجال الإسناد الثاني كلهم كوفيون، إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضا. والله أعلم.

(1/91)


25- باب قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ الإِيمَانِ
35 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"
[الحديث 35- أطرافه 2014,2009,2008,1901,38,37]
قوله: "باب قيام ليلة القدر من الإيمان" لما بين علامات النفاق وقبحها رجع إلى ذكر علامات الإيمان وحسنها، لأن الكلام على متعلقات الإيمان هو المقصود بالأصالة، وإنما يذكر متعلقات غيره استطرادا. ثم رجع فذكر أن قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيام رمضان من الإيمان، وأورد الثلاثة من حديث أبي هريرة متحدات الباعث والجزاء، وعبر في ليلة القدر بالمضارع قي الشرط وبالماضي في جوابه، بخلاف الآخرين فبالماضي فيهما، وأبدى الكرماني لذلك نكتة لطيفة قال: "لأن قيام رمضان محقق الوقوع وكذا صيامه، بخلاف قيام ليلة القدر فإنه غير متيقن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل" انتهى كلامه. وفيه شيء ستأتي الإشارة إليه. وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء إشارة إلى تحقق وقوعه، فهو نظير {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وفي استعمال الشرط مضارعا والجواب ماضيا نزاع بين النحاة، فمنعه الأكثر، وأجازه آخرون لكن بقلة. استدلوا بقوله تعالى: { إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ} لأن قوله: "فظلت " بلفظ الماضي، وهو تابع للجواب وتابع الجواب جواب. واستدلوا أيضا بهذا الحديث، وعندي في الاستدلال به نظر، لأنني أظنه من تصرف الرواة، لأن الروايات فيه مشهورة عن أبي هريرة بلفظ المضارع في الشرط والجزاء، وقد رواه النسائي عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فلم يغاير بين الشرط والجزاء، بل قال: "من يقم ليلة القدر يغفر له" ، ورواه أبو نعيم في المستخرج عن سليمان وهو الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان، ولفظه زائد على الروايتين فقال: "لا يقوم أحدكم ليلة القدر

(1/91)


فيوافقها إيمانا واحتسابا إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه" ، وقوله في هذه الرواية: "فيوافقها " زيادة بيان، وإلا فالجزاء مرتب على قيام ليلة القدر، ولا يصدق قيام ليلة القدر إلا على من وافقها، والحصر المستفاد من النفي، والإثبات مستفاد من الشرط والجزاء، فوضح أن ذلك من تصرف الرواة بالمعنى، لأن مخرج الحديث واحد، وسيأتي الكلام على ليلة القدر وعلى صيام رمضان وقيامه إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام.

(1/92)


26- باب الْجِهَادُ مِنْ الإِيمَانِ
36 - حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ - لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي - أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.وَلَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ."
[الحديث36- أطرافه في:7463,7457,7227,7226,3123,2972,2797,2787]

(1/92)


27- بَاب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ الإِيمَانِ
37 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ."

(1/92)


28- بَاب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنْ الإِيمَانِ
38 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ."
قوله: "باب الجهاد من الإيمان" أورد هذا الباب بين قيام ليلة القدر وبين قيام رمضان وصيامه، فأما مناسبة إيراده معها في الجملة فواضح لاشتراكها في كونها من خصال الإيمان، وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلق أحدهما بالآخر ظاهر فلنكتة لم أر من تعرض لها، بل قال الكرماني: صنيعه هذا دال على أن النظر مقطوع عن غير هذه المناسبة، يعني اشتراكها في كونها من خصال الإيمان.وأقول: بل قيام ليلة القدر وإن كان ظاهر المناسبة لقيام رمضان، لكن للحديث الذي أورده في باب الجهاد مناسبة بالتماس ليلة القدر حسنة جدا، لأن التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة ومجاهدة تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا. وكذلك المجاهد يلتمس الشهادة ويقصد إعلاء كلمة الله، وقد يحصل له ذلك أو لا، فتناسبا في أن في كل منهما مجاهدة، وفي أن كلا منهما قد يحصل المقصود الأصلي لصاحبه أو لا. فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا. والمجاهد لالتماس الشهادة مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا. ويشير إلى ذلك تمنيه صلى الله عليه وسلم الشهادة بقوله: "ولوددت أني أقتل في سبيل الله" . فذكر المؤلف فضل الجهاد لذلك استطرادا، ثم عاد إلى ذكر قيام رمضان، وهو بالنسبة لقيام ليلة القدر عام بعد خاص، ثم ذكر بعده باب الصيام لأن الصيام من التروك فأخره عن القيام لأنه من الأفعال، ولأن الليل قبل النهار، ولعله أشار إلى أن القيام مشروع

(1/92)


باب الدين يسر ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"
...
29- باب الدِّينُ يُسْرٌوَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ."
39 - حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ مُطَهَّرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ."
[الحديث39- أطرافه في: 7235,6463,5673]
قوله: "باب الدين يسر"، أي: دين الإسلام ذو يسر، أو سمى الدين يسرا، مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم.ومن أوضح الأمثلة له: أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم.قوله: "أحب الدين" أي: خصال الدين، لأن خصال الدين كلها محبوبة،

(1/93)


لكن ما كان منها سمحا - أي سهلا - فهو أحب إلى الله.ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير دينكم أيسره" .أو الدين جنس، أي: أحب الأديان إلى الله الحنيفية.والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ.والحنيفية ملة إبراهيم، والحنيف في اللغة: من كان على ملة إبراهيم، وسمى إبراهيم حنيفا لميله عن الباطل إلى الحق لأن أصل الحنف الميل.والسمحة: السهلة، أي: أنها مبنية على السهولة، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ} وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب، لأنه ليس على شرطه.نعم وصله في كتاب الأدب المفرد، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده حسن.استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصرا عن شرطه، وقواه بما دل على معناه لتناسب السهولة واليسر.قوله: "حدثنا عبد السلام بن مطهر" أي: ابن حسام البصري، وكنيته أبو ظفر بالمعجمة والفاء المفتوحتين. قوله: "حدثنا عمر بن علي" هو المقدمي بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة، وهو بصري ثقة، لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره.وهذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم، وصححه - وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة - لتصريحه فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: "سمعت معن بن محمد " فذكره، وهو من إفراد معن بن محمد، وهو مدني ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد أخرجه المصنف في كتاب الرقاق بمعناه ولفظه: "سددوا وقربوا " وزاد في آخره: "والقصد القصد تبلغوا " ولم يذكر شقه الأول، وقد أشرنا إلى بعض شواهده، ومنها حديث عروة الفقيمي بضم الفاء وفتح القاف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن دين الله يسر" ، ومنها حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": " عليكم هديا قاصدا، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه " رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن.قوله: "ولن يشاد الدين إلا غلبه" هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عن الأصيلي بلفظ: "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم.والدين منصوب على المفعولية وكذا في روايتنا أيضا، وأضمر الفاعل للعلم به، وحكى صاحب المطالع: أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يشاد مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب، ويجمع بين كلاميهما بأنه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد: "إنه من شاد هذا الدين يغلبه " ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب.والمشادة بالتشديد: المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة، إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدى إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة " وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن

(1/94)


يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. قوله: "فسددوا" أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: "السداد التوسط في العمل". قوله: "وقاربوا" أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه.قوله: "وأبشروا" أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل، والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما.قوله: "واستعينوا بالغدوة" أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة.والغدوة بالفتح سير أول النهار.وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس.والروحة بالفتح السير بعد الزوال.والدلجة بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر الليل، وقيل سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه، لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة.وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة.وقوله في رواية ابن أبي ذئب " القصد القصد " بالنصب فيهما على الإغراء، والقصد الأخذ بالأمر الأوسط.ومناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث أنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع.ثم عاد إلى سياق الأحاديث الدالة على أن الأعمال الصالحة معدودة من الإيمان فقال: باب الصلاة من الإيمان.

(1/95)


30- باب الصَّلاَةُ مِنْ الإِيمَانِ وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يَعْنِي: صَلاَتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ.
40 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ - أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ - مِنْ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلاَهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا - كَمَا هُمْ - قِبَلَ الْبَيْتِ.وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.
قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "
[الحديث 40- أطرافه في: 7252,4492,4486,399,]
قوله: "باب" هو مرفوع بتنوين وبغير تنوين، والصلاة مرفوع على التنوين فقوله: "وقول الله " مرفوع عطفا على الصلاة، وعلى عدمه مجرور مضاف.قوله: "يعني صلاتكم" وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه

(1/95)


الذي أخرج منه المصنف حديث الباب،فروى الطيالسي والنسائي من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث المذكور " فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} صلاتكم إلى بيت المقدس " وعلى هذا فقول المصنف: "عند البيت " مشكل، مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات، ولا اختصاص لذلك بكونه عند البيت.وقد قيل: إن فيه تصحيفا والصواب: يعني صلاتكم لغير البيت. وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب، ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: "كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس". وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس.وقال آخرون: "كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس" وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، وكأن البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام: يعني صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس. قوله: "حدثنا عمرو بن خالد" هو بفتح العين وسكون الميم، وهو أبو الحسن الحراني نزيل مصر أحد الثقات الإثبات. ووقع في رواية القابسي عن عبدوس كلاهما عن أبي زيد المروزي. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "عمر بن خالد " بضم العين وفتح الميم، وهو تصحيف نبه عليه من القدماء أبو علي الغساني، وليس قي شيوخ البخاري من اسمه عمر بن خالد ولا في جميع رجاله بل ولا في أحد من رجال الكتب الستة. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة وبها سمع منه عمرو بن خالد. قوله: "حدثنا أبو إسحاق" هو السبيعي وسماع زهير منه - فيما قال أحمد - بعد أن بدأ تغيره، لكن تابعه عليه عند المصنف إسرائيل ابن يونس حفيده وغيره. قوله: "عن البراء" هو ابن عازب الأنصاري، صحابي ابن صحابي. وللمصنف في التفسير من طريق الثوري عن أبي إسحاق " سمعت البراء " فأمن ما يخشى من تدليس أبي إسحاق. قوله: "أول" بالنصب أي: في أول زمن قدومه، وما مصدرية. قوله: "أو قال أخواله" الشك من أبي إسحاق، وفي إطلاق أجداده أو أخواله مجاز، لأن الأنصار أقاربه من جهة الأمومة، لأن أم جده عبد المطلب بن هاشم منهم، وهي سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار. وإنما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة على إخوتهم بني مالك بن النجار، ففيه على هذا مجاز ثان. قوله: "قبل بيت المقدس" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: إلى جهة بيت المقدس. قوله: "ستة عشر شهرا أو سبعة عشر" كذا وقع الشك في رواية زهير هذه هنا، وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوري عنده.وفي رواية إسرائيل عند المصنف وعند الترمذي أيضا. ورواه أبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال: "ستة عشر " من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق - بتقديم الراء مصغرا - كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف " سبعة عشر " وكذا للطبراني عن ابن عباس. والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا

(1/96)


خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس.وقال ابن حبان: "سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام " وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول.وشذت أقوال أخرى. ففي ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: "ثمانية عشر شهرا " وأبو بكر سيئ الحفظ وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر وفي رواية ستة عشر، وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره، مع كونه رجح في شرحه لمسلم رواية ستة عشر شهرا لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغى شهري القدوم والتحويل، وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة. ومن الشذوذ أيضا رواية ثلاثة عشر شهرا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات. قوله: "وأنه صلى أول" بالنصب لأنه مفعول صلى، والعصر كذلك على البدلية، وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مقدر لم يذكر لوضوحه، أي: أول صلاة صلاها متوجها إلى الكعبة صلاة العصر. وعند ابن سعد: حولت القبلة في صلاة الظهر أو العصر - على التردد - وساق ذلك من حديث عمارة بن أوس قال: "صلينا إحدى صلاتي العشاءين". والتحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في جمادى الآخرة أو رجب أو شعبان؟ أقوال. قوله: "فخرج رجل" هو عباد بن بشر بن قيظي كما رواه ابن منده من حديث طويلة بنت أسلم، وقيل هو عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء، وأهل المسجد الذين مر بهم قيل: هم من بني سلمة، وقيل: هو عباد بن بشر الذي أخبر أهل قباء في صلاة الصبح كما سيأتي بيان ذلك في حديث ابن عمر حيث ذكره المصنف في كتاب الصلاة، ونذكر هناك تقرير الجمع بين هذين الحديثين وغيرهما مع التنبيه على ما فيهما من الفوائد إن شاء الله تعالى. قوله: "أشهد بالله" أي: أحلف، قال الجوهري: يقال أشهد بكذا أي: أحلف به. قوله: "قبل مكة" أي: قبل البيت الذي في مكة، ولهذا قال: "فداروا كما هم قبل البيت"، و " ما " موصولة والكاف للمبادرة. وقال الكرماني للمقارنة، وهم مبتدأ وخبره محذوف. قوله: "قد أعجبهم" أي: النبي صلى الله عليه وسلم. "وأهل الكتاب" هو بالرفع عطفا على اليهود، من عطف العام على الخاص. وقيل: المراد النصارى لأنهم من أهل الكتاب وفيه نظر لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس فكيف يعجبهم؟ وقال الكرماني: "كان إعجابهم بطريق التبعية لليهود". قلت: وفيه بعد لأنهم أشد الناس عداوة لليهود. ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى مع أي: يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس، واختلف في صلاته إلى بيت المقدس وهو بمكة، فروى ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش المذكورة " صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين " وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا، وحكى الزهري خلافا في أنه هل كان يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟ قلت: وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين. وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ. وحمل ابن عبد البر هذا على القول الثاني. ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن

(1/97)


ذلك كان عند باب البيت. قوله: "أنكروا ذلك" يعني: اليهود، فنزلت: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} الآية. وقد صرح المصنف بذلك في روايته من طريق إسرائيل. قوله: "قال زهير" يعني: ابن معاوية بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم من قال إنه معلق، وقد ساقه المصنف في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نعيم عن زهير سياقا واحدا. قوله: "أنه مات على القبلة" أي: قبلة بيت المقدس قبل أن تحول "رجال وقتلوا" ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم صحيحا عن ابن عباس. والذين ماتوا بعد فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشرة أنفس، فبمكة من قريش: عبد الله بن شهاب والمطلب بن أزهر الزهريان والسكران بن عمرو العامري. وبأرض الحبشة منهم: حطاب - بالمهملة - ابن الحارث الجمحي وعمرو بن أمية الأسدي وعبد الله بن الحارث السهمي وعروة بن عبد العزى وعدي بن نضلة العدويان. ومن الأنصار بالمدينة: البراء بن معرور - بمهملات - وأسعد بن زرارة. فهؤلاء العشرة متفق عليهم. ومات في المدة أيضا إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه. ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك. ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه وهو سويد بن الصامت، فقد ذكر ابن إسحاق أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإسلام فقال: إن هذا القول حسن. وانصرف إلى المدينة فقتل بها في وقعة بعاث - بضم الموحدة وإهمال العين وآخره مثلثة - وكانت قبل الهجرة، قال فكان قومه يقولون: لقد قتل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد. وذكر لي بعض الفضلاء أنه يحوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار. قلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء. "تنبيه": في هذا الحديث من الفوائد: الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا. وفيه أن تمني تغيير بعض الأحكام جائز إذا ظهرت المصلحة في ذلك. وفيه بيان شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال. وفيه بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر كما صح من حديث البراء أيضا فنزل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ولملاحظة هذا المعنى عقب المصنف هذا الباب بقوله: "باب حسن إسلام المرء " فذكر الدليل على أن المسلم إذا فعل الحسنة أثيب عليها.

(1/98)


31- باب حُسْنُ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ
41 - قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلاَمُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ:الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا."
قوله: "قال مالك" هكذا ذكره معلقا، ولم يوصله في موضع آخر من هذا الكتاب، وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته للصحيح فقال عقبه: أخبرناه النضروي هو العباس بن الفضل قال: حدثنا الحسن بن إدريس قال: حدثنا هشام

(1/98)


ابن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك به، وكذا وصله النسائي من رواية الوليد بن مسلم حدثنا مالك، فذكره أتم مما هنا كما سيأتي، وكذا وصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع والبزار من طريق إسحاق الفروي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب والبيهقي في الشعب من طريق إسماعيل بن أبي أويس كلهم عن مالك، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى عن مالك، وذكر أن معن بن عيسى رواه عن مالك فقال: " عن أبي هريرة " بدل أبي سعيد، وروايته شاذة، ورواه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا. ورويناه في الخلعيات(1) وقد حفظ مالك الوصل فيه وهو أتقن لحديث أهل المدينة من غيره. وقال الخطيب: هو حديث ثابت. وذكر البزار أن مالكا تفرد بوصله. قوله: "إذا أسلم العبد" هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبا. قوله: "فحسن إسلامه" أي: صار إسلامه حسنا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل كما سيأتي. قوله: "يكفر الله" هو بضم الراء لأن " إذا " وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم، واستعمل الجواب مضارعا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل. وفي رواية البزار: "كفر الله " فواخى بينهما. قوله: "كان أزلفها" كذا لأبي ذر، ولغيره زلفها، وهي بتخفيف اللام كما ضبطه صاحب المشارق. وقال النووي بالتشديد، ورواه الدارقطني من طريق طلحة بن يحيى عن مالك بلفظ: "ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل خطيئة زلفها " بالتخفيف فيهما. وللنسائي نحوه لكن قال: أزلفها. وزلف بالتشديد وأزلف بمعنى واحد أي: أسلف وقدم، قاله الخطابي. وقال في المحكم: أزلف الشيء: قربه وزلفه مخففا ومثقلا قدمه. وفي الجامع: الزلفة تكون في الخير والشر. وقال في المشارق: زلف بالتخفيف أي: جمع وكسب، وهذا يشمل الأمرين، وأما القربة فلا تكون إلا في الخير، فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر، لكن منقول الخطابي يساعدها. وقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام، وقوله: "كتب الله " أي: أمر أن بكتب، وللدار قطني من طريق زيد بن شعيب عن مالك بلفظ: "يقول الله لملائكته اكتبوا" فقيل: إن المصنف أسقط ما رواه غيره عمدا لأنه مشكل على القواعد. وقال المازري: الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك. وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال، واستضعف ذلك النووي فقال: الصواب الذي عليه المحققون - بل نقل بعضهم فيه الإجماع - أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له، وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلم لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه. انتهى. والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلا من الله وإحسانا، أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولا، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا، وهذا قوي، وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من
ـــــــ
(1) هي عشرون جزءا في الحديث, تخريج القاضي أبي الحسين علي بن حسن الخلعى الموصلي المتوفى سنة 448

(1/99)


القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين، قال ابن المنير: "المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا، فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط". وقال ابن بطال: "لله أن يتفضل على عباده بما شاء ولا اعتراض لأحد عليه". واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح، وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح، بل يكون هباء منثورا. فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافا إلى عمله الثاني، وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جدعان: وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال: "إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر. قوله: "وكان بعد ذلك القصاص" أي: كتابة المجازاة في الدنيا، وهو مرفوع بأنه اسم كان، ويجوز أن تكون كان تامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع فكأنه وقع، كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. وقوله: الحسنة مبتدأ وبعشر الخبر والجملة استئنافية، وقوله: إلى سبعمائة متعلق بمقدر أي: منتهية، وحكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، ورد عليه بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} والآية محتملة للأمرين، فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبعمائة، ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس المخرج عند المصنف في الرقاق ولفظه: "كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة". قوله: "إلا أن يتجاوز الله عنها" زاد سمويه في فوائده: "إلا أن يغفر الله وهو الغفور " وفيه دليل على الخوارج وغيرهم من المكفرين بالذنوب والموجبين لخلود المذنبين في النار، فأول الحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان لأن الحسن تتفاوت درجاته، وآخره يرد على الخوارج والمعتزلة.
42 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا"
قوله: "عن همام" هو ابن منبه، وهذا الحديث من نسخته المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه.وقد اختلف العلماء في إفراد حديث من نسخة هل يساق بإسنادها ولو لم يكن مبتدأ به، أو لا؟فالجمهور على الجواز ومنهم البخاري، وقيل: يمتنع، وقيل: يبدأ أبدا بأول حديث ويذكر بعده ما أراد. وتوسط مسلم فأتى بلفظ يشعر بأن المفرد من جملة النسخة فيقول في مثل هذا إذا انتهى الإسناد: فذكر أحاديث منها كذا، ثم يذكر أي حديث أراد منها. قوله: "إذا أحسن أحدكم إسلامه" كذا له ولمسلم وغيرهما، ولإسحاق بن راهويه في مسنده عن عبد الرزاق: "إذا حسن إسلام أحدكم " وكأنه رواه بالمعنى، لأنه من لازمه. ورواه الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن معمر كالأول، والخطاب بأحدكم بحسب اللفظ للحاضرين، لكن الحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق، وإن حصل التنازع في كيفية التناول أهي بالحقيقة اللغوية أو الشرعية أو بالمجاز. قوله: "فكل حسنة" ينبئ أن اللام في قوله

(1/100)


في الحديث الذي قبله: "الحسنة بعشر أمثالها " للاستغراق. قوله: "بمثلها" زاد مسلم وإسحاق والإسماعيلي في روايتهم: "حتى يلقى الله عز وجل".

(1/101)


32- باب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ
43 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ. قَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟" قَالَتْ: فُلاَنَةُ - تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا - قَالَ: "مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا" وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
[الحديث 43- في:1151]
قوله: "باب أحب الدين إلى الله أدومه" مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال. لأن المراد بالدين هنا العمل، والدين الحقيقي هو الإسلام، والإسلام الحقيقي مرادف للإيمان، فيصح بهذا مقصوده. ومناسبته لما قبله من قوله: "عليكم بما تطيقون " لأنه لما قدم أن الإسلام يحسن بالأعمال الصالحة أراد أن ينبه على أن جهاد النفس في ذلك إلى حد المغالبة غير مطلوب، وقد تقدم بعض هذا المعنى في " باب الدين يسر " وفي هذا ما ليس في ذاك على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان، " عن هشام " هو ابن عروة بن الزبير. قوله: "فقال من هذه" للأصيلي: "قال من هذه " بغير فاء، ويوجه على أنه جواب سؤال مقدر، كأن قائلا قال: ماذا قال حين دخل؟ قالت: قال من هذه. قوله: "قلت فلانة" هذه اللفظة كناية عن كل علم مؤنث فلا ينصرف، زاد عبد الرزاق عن معمر عن هشام في هذا الحديث: "حسنة الهيئة". قوله: "تذكر" بفتح التاء الفوقانية، والفاعل عائشة. وروي بضم الياء التحتانية على البناء لما لم يسم فاعله، أي: يذكرون أن صلاتها كثيرة. ولأحمد عن يحيى القطان: "لا تنام، تصلي " وللمصنف في كتاب صلاة الليل معلقا عن القعنبي عن مالك عن هشام، وهو موصول في الموطأ للقعنبي وحده في آخره: "لا تنام بالليل " وهذه المرأة وقع في رواية مالك المذكورة أنها من بني أسد، ولمسلم من رواية الزهري عن عروة في هذا الحديث أنها الحولاء - بالمهملة والمد - وهو اسمها بنت تويت بمثناتين مصغرا ابن حبيب - بفتح المهملة - ابن أسد بن عبد العزى من رهط خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وفي روايته أيضا: "وزعموا أنها لا تنام الليل " وهذا يؤيد الرواية الثانية في أنها نقلت عن غيرها. فإن قيل: وقع في حديث الباب حديث هشام دخل عليها وهي عندها. وفي رواية الزهري أن الحولاء مرت بها فظاهره التغاير، فيحتمل أن تكون المارة امرأة غيرها من بني أسد أيضا أو أن قصتها تعددت. والجواب: أن القصة واحدة، ويبين ذلك رواية محمد بن إسحاق عن هشام في هذا الحديث ولفظه: "مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم الحولاء بنت تويت" أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل له، فيحمل على أنها كانت أولا عند عائشة فلما دخل صلى الله عليه وسلم على عائشة قامت المرأة كما في رواية حماد بن سلمة الآتية، فلما قامت لتخرج مرت به في خلال ذهابها فسأل عنها، وبهذا تجتمع الروايات. "تنبيه": قال ابن التين: "لعلها أمنت عليها الفتنة فلذلك مدحتها في وجهها". قلت: لكن رواية حماد بن سلمة عن هشام في هذا الحديث تدل على أنها ما ذكرت ذلك إلا بعد أن خرجت المرأة، أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده من طريقه ولفظه: "كانت عندي امرأة، فلما قامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": من هذه يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله هذه فلانة، وهي أعبد أهل المدينة،

(1/101)


فذكر الحديث. قوله: "مه" قال الجوهري: "هي كلمة مبنية على السكون، وهي اسم سمي به الفعل، والمعنى اكفف، يقال: مهمهته إذا زجرته، فإن وصلت نونت فقلت: مه". وقال الداودي: "أصل هذه الكلمة " ما هذا " كالإنكار فطرحوا بعض اللفظة فقالوا: مه فصيروا الكلمتين كلمة" وهذا الزجر يحتمل أن يكون لعائشة، والمراد نهيها عن مدح المرأة بما ذكرت، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن ذلك الفعل، وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة، فقالوا: يكره صلاة جميع الليل كما سيأتي في مكانه. قوله: "عليكم بما تطيقون" أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. وقال القاضي عياض: "يحتمل أن يكون هذا خاصا بصلاة الليل، ويحتمل أن يكون عاما في الأعمال الشرعية". قلت: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر. وقد عبر بقوله: "عليكم " مع أن المخاطب النساء طلبا لتعميم الحكم، فغلبت الذكور على الإناث. قوله: "فوالله" فيه جواز الحلف من غير استحلاف. وقد يستحب إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين أو حث عليه أو تنفير من محذور. قوله: "لا يمل الله حتى تملوا" هو بفتح الميم في الموضعين، والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق. قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين: "إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازا كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وأنظاره" قال القرطبي: "وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالا، عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه". وقال الهروي: "معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه". وقال غيره: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن " حتى " على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل: معناه لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعل كذا حتى يبيض القار أو حتى يشيب الغراب. ومنه قولهم في البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة، بخلاف الملل من العابد. وقال المازري: قيل إن حتى هنا بمعنى الواو، فيكون التقدير: لا يمل وتملون، فنفى عنه الملل وأثبته لهم. قال: وقيل حتى بمعنى حين. والأول أليق وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية. ويؤيده ما وقع في بعض طرق حديث عائشة بلفظ: "اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل " لكن في سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وقال ابن حبان في صحيحه: "هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد مما يخاطب به إلا بها" وهذا رأيه في جميع المتشابه. قوله: "أحب" قال القاضي أبو بكر بن العربي: معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب(1) أي: أكثر الأعمال ثوابا أدومها. قوله: "إليه" أي رواية المستملي وحده " إلى الله " وكذا في رواية عبدة عن هشام عند إسحاق بن راهويه في مسنده، وكذا للمصنف ومسلم من طريق أبي سلمة، ولمسلم عن القاسم كلاهما عن عائشة، وهذا موافق لترجمة الباب. وقال باقي الرواة عن هشام: "وكان أحب الدين إليه " أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرح به المصنف في الرقاق في
ـــــــ
(1) هذا من التأويل الباطل، والحق الذي عليه أهل السنة أن معنى المحبة غير معنى الإرادة،والله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله، ومحبته لاتشابه محبة خلقه؛ كما أن إرادة خلقه وهكذا سائر صفاته كما قال تعالى { َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير}

(1/102)


رواية مالك عن هشام، وليس بين الروايتين تخالف، لأن ما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله. قال النووي: "بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة". وقال ابن الجوزي: "إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. ثانيهما: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع". وزاد المصنف ومسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة: "وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل".

(1/103)


33- باب زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى :{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ.
44 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ."
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ إِيمَانٍ"
مَكَانَ " مِنْ خَيْرٍ"
[الحديث44 –أطرافه في:7516,7510,7509,7440,7410,6565,4476]
قوله: "باب زيادة الإيمان ونقصانه" تقدم له قبل بستة عشر بابا " باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال " وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري بمعنى حديث أنس الذي أورده هنا، فتعقب عليه بأنه تكرار، وأجيب عنه: بأن الحديث لما كانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق، ترجم لكل من الاحتمالين، وخص حديث أبي سعيد بالأعمال، لأن سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات، بخلاف حديث أنس ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرة والبرة والذرة. قال ابن بطال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قل علمه كان تصديقه مثلا بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار برة، أو شعيرة. إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل أحد منهم لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. انتهى. وقد تقدم كلام النووي في أول الكتاب بما يشير إلى هذا المعنى، ووقع الاستدلال في هذه الآية بنظير ما أشار إليه البخاري لسفيان ابن عيينة، أخرجه أبو نعيم في ترجمته من الحلية من طريق عمرو بن عثمان الرقي قال: قيل لابن عيينة: إن قوما يقولون الإيمان كلام. فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأمر الناس أن يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم، فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار. فذكر الأركان إلى أن قال: فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية. فمن ترك شيئا من ذلك كسلا أو مجونا أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدا كان كافرا. انتهى ملخصا. وتبعه أبو عبيد في كتاب الإيمان له فذكر نحوه وزاد: أن بعض المخالفين لما ألزم بذلك أجاب: بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما الدين ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والأعمال جزآن، لأنها فرائض ونوافل. وتعقبه أبو عبيد

(1/103)


بأنه خلاف ظاهر القرآن، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} "، والإسلام حيث أطلق مفردا دخل فيه الإيمان كما تقدم تقريره. فإن قيل: فلم أعاد في هذا الباب الآيتين المذكورتين فيه وقد تقدمتا في أول كتاب الإيمان؟ فالجواب: أنه أعادهما ليوطئ بهما معنى الكمال المذكور في الآية الثالثة. لأن الاستدلال بهما نص في الزيادة، وهو يستلزم النقص. وأما الكمال فليس نصا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قال المصنف: "فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص"ولهذه النكتة عدل في التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين حيث قال أولا: "وقول الله " وقال ثانيا: "وقال"، وهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأن آية "أكملت لكم" لا دليل فيها على مراده، لأن الإكمال إن كان بمعنى إظهار الحجة على المخالفين أو بمعنى إظهار أهل الدين على المشركين فلا حاجة للمصنف فيه، وإن كان بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنه كان قبل ذلك ناقصا، وأن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصا، وليس الأمر كذلك لأن الإيمان لم يزل تاما. ويوضح دفع هذا الاعتراض جواب القاضي أبي بكر بن العربي: بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم ومنه ما لا يترتب. فالأول: ما نقصه بالاختيار كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمدا. والثاني: ما نقصه بغير اختيار كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يذم بل يحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئنا، بأنه لو زيد لقبل ولو كلف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض. ومحصله أن النقص بالنسبة إليهم صوري نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى. وهذا نظير قول من يقول: إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى، لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في الكتب التي قبله، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملا، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي كما تقرر. والله أعلم. قوله: "هشام" هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، يكنى أبا بكر، وفي طبقته هشام بن حسان لكنه لم يرو هذا الحديث قوله: "يخرج" بفتح أوله وضم الراء، ويروى بالعكس، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: "أخرجوا". قوله: "من قال لا إله إلا الله وفي قلبه" فيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد، أو المراد بالقول هنا القول النفسي، فالمعنى: من أقر بالتوحيد وصدق، فالإقرار لا بد منه، فلهذا أعاده في كل مرة. والتفاوت يحصل في التصديق على الوجه المتقدم. فإن قيل: فكيف لم يذكر الرسالة؟ فالجواب: أن المراد المجموع، وصار الجزء الأول علما عليه كما تقول: قرأت: "قل هو الله أحد"، أي: السورة كلها. قوله: "برة" بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة وهي القمحة، ومقتضاه أن وزن البرة دون وزن الشعيرة لأنه قدم الشعيرة وتلاها بالبرة ثم الذرة، وكذلك هو في بعض البلاد. فإن قيل: إن السياق بالواو وهي لا ترتب. فالجواب: أن رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ثم " وهي للترتيب. قوله: "ذرة" بفتح المعجمة وتشديد الراء المفتوحة، وصحفها شعبة - فيما رواه مسلم من طريق يزيد بن زريع عنه - فقال ذرة بالضم وتخفيف الراء، وكأن الحامل له على ذلك كونها من الحبوب فناسبت الشعيرة والبرة. قال مسلم في روايته: قال يزيد: صحف فيها أبو بسطام، يعني: شعبة. ومعنى الذرة قيل: هي أقل الأشياء الموزونة، وقيل: هي الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رءوس الإبر، وقيل: هي النملة الصغيرة، ويروى عن ابن عباس أنه قال: إذا وضعت كفك في التراب ثم نفضتها فالساقط هو الذر. ويقال: إن أربع ذرات وزن خردلة. وللمصنف في أواخر التوحيد من طريق حميد عن أنس مرفوعا: "أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، ثم من كان في قلبه أدنى شيء " وهذا معنى الذرة. قوله: "قال أبان" هو ابن يزيد العطار، وهذا التعليق وصله الحاكم في كتاب الأربعين له من طريق أبي سلمة. قال: حدثنا أبان بن يزيد.. فذكر الحديث. وفائدة إيراد

(1/104)


المصنف له من جهتين: إحداهما: تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس. ثانيتهما: تعبيره في المتن بقوله: "من إيمان " بدل قوله: "من خير"، فبين أن المراد بالخير هنا الإيمان. فإن قيل على الأولى: لم لم يكتف بطريق أبان السالمة من التدليس ويسوقها موصولة؟ فالجواب: أن أبان وإن كان مقبولا لكن هشام أتقن منه وأضبط. فجمع المصنف بين المصلحتين. والله الموفق. وسيأتي الكلام على بقية هذا المتن في كتاب التوحيد، حيث ذكر المصنف حديث الشفاعة الطويل من هذا الوجه، ورجال هذا الحديث موصولا ومعلقا كلهم بصريون.
45 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".
[الحديث45- أطرافه في:7268,4606,4407,]
قوله: "حدثنا الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون" مراده " أنه سمع"، وجرت عادتهم بحذف " أنه " في مثل هذا خطا لا نطقا كقال. قوله: "أن رجلا من اليهود" هذا الرجل هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده والطبري في تفسيره والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي - بضم النون وفتح المهملة - عن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب عن كعب. وللمصنف في المغازي من طريق الثوري عن قيس بن مسلم، أن ناسا من اليهود. وله في التفسير من هذا الوجه بلفظ: قالت اليهود. فيحمل على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم. قوله: "لاتخذنا.الخ" أي: لعظمناه وجعلناه عيدا لنا في كل سنة، لعظم ما حصل فيه من إكمال الدين. والعيد فعل من العود، وإنما سمي به لأنه يعود في كل عام. قوله: "نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم " زاد مسلم عن عبد بن حميد عن جعفر بن عون في هذا الحديث ولفظه: "إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه"، وزاد عن جعفر بن عون " والساعة التي نزلت فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم -". فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال لأنه قال: لاتخذناه عيدا، وأجاب عمر - رضي الله عنه - بمعرفة الوقت والمكان، ولم يقل جعلناه عيدا؟ والجواب عن هذا: أنها نزلت في أخريات نهار عرفة، ويوم العيد إنما يتحقق بأوله، وقد قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بعد الزوال للقابلة، قاله هكذا بعض من تقدم، وعندي أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاق عن قبيصة التي قدمناها قد نصت على المراد ولفظه: "نزلت يوم جمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد" لفظ الطبري والطبراني: "وهما لنا عيدان " وكذا عند الترمذي من حديث ابن عباس: "أن يهوديا سأله عن ذلك فقال: نزلت في يوم عيدين، يوم جمعة ويوم عرفة " فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيدا وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدا لأنه ليلة العيد، وهكذا كما جاء في الحديث الآتي في الصيام: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة" فسمي رمضان عيد لأنه يعقبه العيد. فإن قيل: كيف دلت هذه القصة على ترجمة الباب؟ أجيب: من جهة أنها

(1/105)


بينت أن نزولها كان بعرفة، وكان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة، حين تمت الشريعة وأركانها. والله أعلم. وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية شيء من الحلال والحرام.

(1/106)


- 34 باب الزَّكَاةُ مِنْ الإِسْلاَمِ
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
46 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإِسْلاَمِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : " خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" .فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: " لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : "وَصِيَامُ رَمَضَانَ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" . قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" . قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ."
[الحديث 46- في:6956,2678,1891]
قوله: "باب الزكاة من الإسلام.وما أمروا" كذا لأبي ذر، ولغيره: "قول الله وما أمروا " ويأتي فيه ما مضى في " باب الصلاة من الإيمان"، والآية دالة على ما ترجم له، لأن المراد بقوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} دين الإسلام. والقيمة: المستقيمة، وقد جاء قام بمعنى استقام في قوله تعالى: { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي: مستقيمة. وإنما خص الزكاة بالترجمة لأن باقي ما ذكر في الآية والحديث قد أفرده بتراجم أخرى. رجال إسناد هذا الحديث كلهم مدنيون، ومالك والد أبي سهيل هو ابن أبي عامر الأصبحي حليف طلحة بن عبيد الله، وإسماعيل هو ابن أبي أويس ابن أخت الإمام مالك، فهو من رواية إسماعيل عن خاله عن عمه عن أبيه عن حليفه، فهو مسلسل بالأقارب كما هو مسلسل بالبلد. قوله: "جاء رجل" زاد أبو ذر: "من أهل نجد " وكذا هو في الموطأ ومسلم. قوله: "ثائر الرأس" هو مرفوع على الصفة، ويجوز نصبه على الحال، والمراد أن شعره متفرق من ترك الرفاهية، ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة، وأوقع اسم الرأس على الشعر إما مبالغة أو لأن الشعر منه ينبت. قوله: "يسمع" بضم الياء على البناء للمفعول، أو بالنون المفتوحة للجمع، وكذا في " يفقه". قوله: "دوي" بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء، كذا في روايتنا. وقال القاضي عياض: جاء عندنا في البخاري بضم الدال. قال: والصواب الفتح. وقال الخطابي: الدوي: صوت مرتفع متكرر ولا يفهم. وإنما كان كذلك لأنه نادى من بعد. وهذا الرجل جزم ابن بطال وآخرون بأنه ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر. والحامل لهم على ذلك إيراد مسلم لقصته عقب حديث طلحة، ولأن في كل منهما أنه بدوي، وأن كلا منهما قال في آخر حديثه: "لا أزيد على هذا ولا أنقص". لكن تعقبه القرطبي بأن سياقهما مختلف، وأسئلتهما متباينة، قال: ودعوى أنهما قصة واحدة دعوى فرط، وتكلف شطط، من غير ضرورة. والله أعلم. وقواه بعضهم بأن ابن سعد وابن عبد البر وجماعة لم يذكروا لضمام إلا الأول، وهذا غير لازم. قوله

(1/106)


"فإذا هو يسأل عن الإسلام" أي: عن شرائع الإسلام، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها ولم ينقلها الراوي لشهرتها، وإنما لم يذكر الحج إما لأنه لم يكن فرض بعد أو الراوي اختصره، ويؤيد هذا الثاني ما أخرجه المصنف في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل في هذا الحديث قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فدخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات. قوله: "خمس صلوات" في رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة أنه قال في سؤاله: أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس. فتبين بهذا مطابقة الجواب للسؤال. ويستفاد من سياق مالك: أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم وليلة غير الخمس، خلافا لمن أوجب الوتر أو ركعتي الفجر أو صلاة الضحى أو صلاة العيد أو الركعتين بعد المغرب. قوله: "هل على غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع" تطوع بتشديد الطاء والواو، وأصله تتطوع بتاءين فأدغمت إحداهما، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما. واستدل بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكا بأن الاستثناء فيه متصل، قال القرطبي: لأنه نفي وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع، فيتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه. وتعقبه الطيبي بأن ما تمسك به مغالطة، لأن الاستثناء هنا من غير الجنس، لأن التطوع لا يقال فيه: "عليك " فكأنه قال: لا يجب عليك شيء، إلا إن أردت أن تطوع فذلك لك. وقد علم أن التطوع ليس بواجب. فلا يجب شيء آخر أصلا.كذا قال. وحرف المسألة دائر على الاستثناء، فمن قال: إنه متصل تمسك بالأصل، ومن قال: إنه منقطع احتاج إلى دليل، والدليل عليه ما روى النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام - إذا كانت نافلة - بهذا النص في الصوم والقياس في الباقي. فإن قيل: يرد الحج، قلنا: لا، لأنه امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده فكيف في صحيحه. وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه. والله أعلم. على أن في استدلال الحنفية نظرا لأنهم لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه. واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتباينهما. وأيضا فإن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات بل مسكوت عنه. وقوله: "إلا أن تطوع " استثناء من قوله لا، أي: لا فرض عليك غيرها. قوله: "وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة" في رواية إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أجملت، منها بيان نصب الزكاة فإنها لم تفسر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكأن السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيان أن المتمسك بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل. قوله: "والله" في رواية إسماعيل بن جعفر فقال: "والذي أكرمك". وفيه جواز الحلف في الأمر المهم، وقد تقدم. قوله: "أفلح إن صدق" وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة: "أفلح وأبيه إن صدق " أو " دخل الجنة وأبيه إن صدق". ولأبي داود مثله لكن بحذف " أو". فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب: بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف، كما جرى على لسانهم عقري، حلقي(1) وما أشبه ذلك، أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال: ورب أبيه، وقيل: هو خاص ويحتاج إلى دليل، وحكى السهيلي عن
ـــــــ
(1) بوزن غضبى, يقال للمرأة إذا كانت مؤذية مشئومة,أي عقرها الله,وحلقها الله حلقا

(1/107)


بعض مشايخه أنه قال: هو تصحيف، وإنما كان والله، فقصرت اللامان. واستنكر القرطبي هذا وقال: إنه يجزم الثقة بالروايات الصحيحة. وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ: وأبيه، لم تصح، لأنها ليست في الموطأ، وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر، وهو صحيح لا مرية فيه. وأقوى الأجوبة الأولان. وقال ابن بطال: دل قوله: "أفلح إن صدق " على أنه إن لم يصدق فيما التزم لا يفلح، وهذا بخلاف قول المرجئة. فإن قيل: كيف أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر المنهيات؟ أجاب: ابن بطال باحتمال أن يكون ذلك وقع قبل ورود فرائض النهي. وهو عجيب منه لأنه جزم بأن السائل ضمام، وأقدم ما قيل فيه إنه وفد سنة خمس، وقيل بعد ذلك، وقد كان أكثر المنهيات واقعا قبل ذلك. والصواب: أن ذلك داخل في عموم قوله: "فأخبره بشرائع الإسلام " كما أشرنا إليه. فإن قيل أما فلاحه بأنه لا ينقص فواضح، وأما بأن لا يزيد فكيف يصح؟ أجاب النووي: بأنه أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه. وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا، لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى. فإن قيل فكيف أقره على حلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرا؟ أجيب: بأن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جار على الأصل بأنه لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحا منه. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر منه على طريق المبالغة في التصديق والقبول، أي قبلت كلامك قبولا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول. وقال ابن المنير: يحتمل أن تكون الزيادة والنقص تتعلق بالإبلاغ، لأنه كان وافد قومه ليتعلم ويعلمهم. قلت: والاحتمالان مردودان برواية إسماعيل بن جعفر، فإن نصها: "لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا". وقيل: مراده بقوله: لا أزيد ولا أنقص أي: لا أغير صفة الفرض كمن ينقص الظهر مثلا ركعة أو يزيد المغرب، قلت: ويعكر عليه أيضا لفظ التطوع في رواية إسماعيل بن جعفر. والله أعلم.

(1/108)


35 باب اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنْ الإِيمَانِ
47 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ. وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ"
تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. نَحْوَهُ
[الحديث 47- طرفاه في:1325,1323]
قوله: "باب اتباع الجنائز من الإيمان" ختم المصنف معظم التراجم التي وقعت له من شعب الإيمان بهذه الترجمة، لأن ذلك آخر أحوال الدنيا. وإنما أخر ترجمة أداء الخمس من الإيمان لمعنى سنذكره هناك. ووجه الدلالة من الحديث للترجمة قد نبهنا عليه في نظائره قبل. قوله: "المنجوفي" هو بفتح الميم وسكون النون وضم الجيم وبعد الواو الساكنة فاء نسبة إلى جد جده منجوف السدوسي، وهو بصري، وكذا باقي رجال الإسناد غير الصحابي. وروح بفتح

(1/108)


الراء هو ابن عبادة القيسي، وعوف هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم الأعرابي بفتح الهمزة، وإنما قيل له ذلك لفصاحته وكنيته أبو سهل، واسم أبيه بندويه - بموحدة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم دال مهملة - بوزن راهويه، والحسن هو ابن أبي الحسن البصري، ومحمد هو ابن سيرين، وهو مجرور بالعطف على الحسن، فالحسن وابن سيرين حدثنا به عوفا عن أبي هريرة إما مجتمعين وإما متفرقين، فأما ابن سيرين فسماعه عن أبي هريرة صحيح، وأما الحسن فمختلف في سماعه منه، والأكثر على نفيه وتوهيم من أثبته، وهو مع ذلك كثير الإرسال فلا تحمل عنعنته على السماع، وإنما أورده المصنف كما سمع، وقد وقع له نظير هذا في قصة موسى، فإنه أخرج فيها حديثا من طريق روح بن عبادة بهذا الإسناد. وأخرج أيضا في بدء الخلق من طريق عوف عنهما عن أبي هريرة حديثا آخر، واعتماده في كل ذلك على محمد بن سيرين. والله أعلم. قوله: "من اتبع" هو بالتشديد، وللأصيلي: "تبع " بحذف الألف وكسر الموحدة، وقد تمسك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل، ولا حجة فيه لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه أو إذا مر به فمشى معه، وكذلك اتبعه بالتشديد وهو افتعل منه، فإذا هو مقول بالاشتراك، وقد بين المراد الحديث الآخر المصحح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر في المشي أمامها، وأما أتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا. قوله: "وكان معه" أي: مع المسلم، وللكشميهني: "معها " أي: مع الجنازة. قوله: "حتى يصلي" بكسر اللام ويروى بفتحها، فعلى الأول لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال: يحصل له ذلك ولو لم يصل، أما إذا قصد الصلاة وحال دونه مانع فالظاهر حصول الثواب له مطلقا، والله أعلم. قوله: "ويفرغ" بضم أوله وفتح الراء، ويروى بالعكس، وقد أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمد خلافا لمن تمسك بظاهر بعض الروايات فزعم أنه يحصل بالمجموع ثلاثة قراريط، وسنذكر بقية مباحثه وفوائده في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. قوله: "تابعه" أي: روح بن عبادة، وعثمان هو ابن الهيثم وهو من شيوخ البخاري، فإن كان سمع هذا الحديث منه فهو له أعلى بدرجة، لكنه ذكر الموصول عن روح لكونه أشد إتقانا منه، ونبه برواية عثمان على أن الاعتماد في هذا السند على محمد بن سيرين فقط لأنه لم يذكر الحسن، فكأن عوفا كان ربما ذكره وربما حذفه، وقد حدث به المنجوفي شيخ البخاري مرة بإسقاط الحسن، أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريقه، ومتابعة عثمان هذه وصلها أبو نعيم في المستخرج قال: حدثنا أبو إسحاق بن حمزة حدثنا أبو طالب بن أبي عوانة حدثنا سليمان بن سيف حدثنا عثمان بن الهيثم.. فذكر الحديث، ولفظه موافق لرواية روح إلا في قوله: وكان معها فإنه قال بدلها: "فلزمها". وفي قوله ويفرغ من دفنها فإنه قال بدلها: "وتدفن". وقال في آخره: "فله قيراط " بدل قوله: فإنه يرجع بقيراط، والباقي سواء. ولهذا الاختلاف في اللفظ قال المصنف: "نحوه " وهو بفتح الواو، أي: بمعناه.

(1/109)


36- باب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: "مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا". وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ". وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ

(1/109)


تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
48 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"
[الحديث48- طرفاه في:7076,6044]
قوله: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر" هذا الباب معقود للرد على المرجئة خاصة وإن كان أكثر ما مضى من الأبواب قد تضمن الرد عليهم، لكن قد يشركهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها، بخلاف هذا.والمرجئة - بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة ويجوز تشديدها بلا همز - نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير، لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا، ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول. ومناسبة إيراد هذه الترجمة عقب التي قبلها من جهة أن اتباع الجنازة مظنة لأن يقصد بها مراعاة أهلها أو مجموع الأمرين، وسياق الحديث يقتضي أن الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابا أي: خالصا، فعقبه بما يشير إلى أنه قد يعرض للمرء ما يعكر على قصده الخالص فيحرم به الثواب الموعود وهو لا يشعر. فقوله: "أن يحبط عمله " أي يحرم ثواب عمله لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه. وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إن السيئات يبطلن الحسنات. وقال القاضي أو بكر بن العربي في الرد عليهم: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان: أحدهما: إبطال الشيء للشيء، وإذهابه جملة كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي. ثانيهما: إحباط الموازنة إذا جعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة: إما أن يغفر له وإما أن يعذب. فالتوقيف إبطال ما، لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي كل منهما إبطال نسبي أطلق عليه اسم الإحباط مجازا، وليس هو إحباط حقيقة لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله، وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سووا بين الإحباطيين وحكموا على العاصي بحكم الكافر، وهم معظم القدرية. والله الموفق. قوله: "وقال إبراهيم التيمي" هو من فقهاء التابعين وعبادهم، وقوله: "مكذبا " يروى بفتح الذال يعني: خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفا لقولي فيقول: لو كنت صادقا ما فعلت خلاف ما تقول، وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس. ويروى بكسر الذال وهي رواية الأكثر، ومعناه أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل. وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل فقال: {كبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} فخشي أن يكون مكذبا أي: مشابها للمكذب، وهذا التعليق وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم وأحمد بن حنبل في الزهد عن ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن إبراهيم المذكور. قوله: "وقال ابن أبي ملكية: الخ" هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه، لكن أبهم العدد. وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له، وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصرا كما هنا، والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن

(1/110)


مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص. ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى - رضي الله عنهم -. وقال ابن بطال: "إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت". قوله: "ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل" أي: لا يجزم أحد منهم بعدم عروض النفاق لهم كما يجزم بذلك في إيمان جبر يل، وفي هذا إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان، خلافا للمرجئة القائلين: بأن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة. وقد روي في معنى أثر ابن أبي مليكة حديث عن عائشة مرفوع رواه الطبراني في الأوسط لكن إسناده ضعيف. قوله: "ويذكر عن الحسن" هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة. وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ - رحمه الله -، وهي: إن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا، لما علم من الخلاف في ذلك، فهنا كذلك. وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه فقال النووي: "ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق". يعني: الله تعالى. قال الله تعالى :{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}. وقال: { فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين، وقرره الكرماني هكذا، فقال: ما خافه أي: ما خاف من الله، فحذف الجار وأوصل الفعل إليه. قلت: وهذا الكلام وإن كان صحيحا لكنه خلاف مراد المصنف ومن نقل عنه. والذي أوقعهم في هذا هو الاختصار. وإلا فسياق كلام الحسن البصري يبين أنه إنما أراد النفاق، فلنذكره. قال جعفر الفريابي: حدثنا قتيبة حدثنا جعفر بن سليمان عن المعلي بن زياد سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق. وقال أحمد ابن حنبل في كتاب الإيمان: حدثنا روح بن عبادة حدثنا هشام سمعت الحسن يقول: "والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وما أمنه إلا منافق". انتهى. وهذا موافق لأثر ابن أبي مليكة الذي قبله وهو قوله: "كلهم يخاف النفاق على نفسه". والخوف من الله وإن كان مطلوبا محمودا لكن سياق الباب في أمر آخر، والله أعلم. قوله: "وما يحذر" هو بضم أوله وتشديد الذال المعجمة ويروى بتخفيفها، وما مصدرية، والجملة في محل جر لأنها معطوفة على خوف، أي: باب ما يحذر. وفصل بين الترجمتين بالآثار التي ذكرها لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان فالأول منهما تعلق بالثانية، والثاني يتعلق بالأولى على ما سنوضحه، ففيه لف ونشر غير مرتب على حد قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } الآية، ومراده أيضا الرد على المرجئة حيث قالوا: لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان، ومفهوم الآية التي ذكرها ورد عليهم، لأنه تعالى مدح من استغفر لذنبه ولم يصر عليه، فمفهومه ذم من لم يفعل ذلك.ومما يدخل في معنى الترجمة قول الله تعالى :{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله تعالى :{لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} وهذه الآية أدل على المراد مما قبلها، فمن أصر على نفاق المعصية خشي عليه أن يفضي به إلى

(1/111)


نفاق الكفر، وكأن المصنف لمح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد مرفوعا قال: "ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره. وللترمذي عن أبي بكر الصديق مرفوعا: "ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " إسناد كل منهما حسن. قوله: "على التقاتل" كذا في أكثر الروايات وهو المناسب لحديث الباب، وفي بعضها "على النفاق" ومعناه صحيح وإن لم تثبت به الرواية. قوله: "زبيد" تقدم أنه بالزاي والموحدة مصغرا، وهو ابن الحارث اليامي بياء تحتانية وميم خفيفة، يكنى أبا عبد الرحمن، وقد روى هذا الحديث شعبة أيضا عن منصور بن المعتمر وهو عند المصنف في الأدب، وعن الأعمش وهو عند مسلم، ورواه ابن حبان من طريق سليمان بن حرب عن شعبة عن الثلاثة جميعا عن أبي وائل. وقال ابن منده: "لم يختلف في رفعه عن زبيد واختلف على الآخرين". ورواه عن زبيد غير شعبة أيضا عند مسلم وغيره. قوله: "سألت أبا وائل عن المرجئة" أي: عن مقالة المرجئة، ولأبي داود الطيالسي عن شعبة عن زبيد قال: "لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فذكرت ذلك له". فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة، وقد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، أخرجه الترمذي مصححا ولفظه: " قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق" ، ورواه جماعة عن عبد الله ابن مسعود موقوفا ومرفوعا، ورواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أيضا مرفوعا، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرد به. قوله: "سباب" هو بكسر السين وتخفيف الموحدة، وهو مصدر يقال: سب يسب سبا وسبابا. وقال إبراهيم الحربي: "السباب أشد من السب، وهو أن يقول الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بذلك عيبه". وقال غيره: السباب هنا مثل القتال فيقتضي المفاعلة، وقد تقدم بأوضح من هذا في باب المعاصي من أمر الجاهلية. قوله: "المسلم" كذا في معظم الروايات، ولأحمد عن غندر عن شعبة " المؤمن"، فكأنه رواه بالمعنى. قوله: "فسوق" الفسق في اللغة: الخروج. وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله ورسوله، وهو في عرف الشرع أشد من العصيان، قال الله تعالى :{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة. وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا. قوله: "وقتاله كفر" إن قيل: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي. فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه، لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب - لأنه مفض إلى إزهاق الروح - عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقد أشرنا إلى ذلك في باب المعاصي من أمر الجاهلية. أو أطلق عليه الكفر لشبهه به، لأن قتال المؤمن من شأن الكافر. وقيل: المراد هنا الكفر اللغوي وهو التغطية، لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق، والأولان أليق بمراد المصنف وأولى بالمقصود من التحذير من فعل ذلك والزجر عنه بخلاف الثالث. وقيل: أراد بقوله كفر

(1/112)


أي: قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المستحل لذلك لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كان مرادا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضا. ثم ذلك محمول على من فعله بغير تأويل. وقد بوب عليه المصنف في كتاب المحاربين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ففيه هذه الأجوبة، وسيأتي في كتاب الفتن، ونظيره قوله تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بعد قوله: {ثمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية.فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "لعن المسلم كقتله " فلا يخالف هذا الحديث، لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير: هذا في العرض، وهذا في النفس. والله أعلم. وقد ورد لهذا المتن سبب ذكرته في أول كتاب الفتن في أواخر الصحيح.
49 - أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عن أَنَسُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: " إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ".
[الحديث49- طرفاه في:6049,2023]
قوله: "عن حميد" هو الطويل "عن أنس"، وللأصيلي: "حدثناه أنس بن مالك " فأمنا تدليس حميد. وهو من رواية صحابي عن صحابي، أنس عن عبادة بن الصامت. قوله: "خرج يخبر بليلة القدر" أي: بتعيين ليلة القدر. قوله: "فتلاحى" بفتح الحاء المهملة مشتق من التلاحي بكسرها وهو التنازع والمخاصمة، والرجلان أفاد ابن دحية أنهما عبد الله بن أبي حدرد - بحاء مفتوحة ودال ساكنة مهملتين، ثم راء مفتوحة ودال مهملة أيضا - وكعب بن مالك. وقوله: "فرفعت " أي: فرفع تعيينها عن ذكرى، هذا هو المعتمد هنا. والسبب فيه ما أوضحه مسلم من حديث أبي سعيد في هذه القصة قال: "فجاء رجلان يحتقان " بتشديد القاف أي: يدعي كل منهما أنه المحق " معهما الشيطان، فنسيتها". قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان. وفيه أن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير. فإن قيل: كيف تكون المخاصمة في طلب الحق مذمومة؟ قلت: إنما كانت كذلك لوقوعها في المسجد، وهو محل الذكر لا اللغو، ثم في الوقت المخصوص أيضا بالذكر لا اللغو وهو شهر رمضان، فالذم لما عرض فيها لا لذاتها، ثم إنها مستلزمة لرفع الصوت، ورفعه بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهي عنه لقوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} - إلى قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} ومن هنا يتضح مناسبة هذا الحديث للترجمة ومطابقتها له، وقد خفيت على كثير من المتكلمين على هذا الكتاب. فإن قيل: قوله :{وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} يقتضي المؤاخذة بالعمل الذي لا قصد فيه. فالجواب: أن المراد وأنتم لا تشعرون بالإحباط لاعتقادكم صغر الذنب، فقد يعلم المرء الذنب ولكن لا يعلم أنه كبيرة، كما قيل في قوله: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير " أي: عندهما، ثم قال: "وإنه لكبير " أي: في نفس الأمر. وأجاب القاضي أبو بكر بن

(1/113)


العربي: بأن المؤاخذة تحصل بما لم يقصد في الثاني إذا قصد في الأول، لأن مراعاة القصد إنما هو في الأول ثم يسترسل حكم النية الأولى على مؤتنف العمل وإن عزب القصد خيرا كان أو شرا. والله أعلم. قوله: "وعسى أن يكون خيرا" أي: وإن كان عدم الرفع أزيد خيرا وأولى منه، لأنه متحقق فيه، لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب، لكونه سببا لزيادة الاجتهاد في التماسها، وإنما حصل ذلك ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: "في السبع والتسع" كذا في معظم الروايات بتقديم السبع التي أولها السين على التسع، ففيه إشارة إلى أن رجاءها في السبع أقوى للاهتمام بتقديمه. ووقع عند أبي نعيم في المستخرج بتقديم التسع على ترتيب التدلي. واختلف في المراد بالتسع وغيرها فقيل: لتسع يمضين من العشر وقيل: لتسع يبقين من الشهر، وسنذكر بسط هذا في محله حيث ذكره المصنف في كتاب الاعتكاف إن شاء الله تعالى.

(1/114)


باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان و...الخ
...
37- باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الإِيمَانِ وَالإِسْلاَمِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ.
وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ. ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَم - يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا. وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ الإِيمَانِ. وَقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}
50 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟قَالَ: "الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ" .قَالَ: مَا الإِسْلاَمُ؟ قالَ: "الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ." قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ. وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتْ الأَمَةُ رَبَّهَا؛ وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ". ثُمَّ تَلاَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. ثُمَّ أَدْبَرَ. فَقَالَ: رُدُّوهُ. فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الإِيمَانِ".
[الحديث 50- طرفه في:4777]
قوله: "باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام الخ" تقدم أن المصنف يرى أن الإيمان والإسلام عبارة عن معنى واحد، فلما كان ظاهر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة، والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، أراد أن يرد ذلك بالتأويل إلى طريقته. قوله: "وبيان" أي: مع بيان أن الاعتقاد والعمل دين، وقوله: "وما بين " أي: مع ما بين للوفد أن الإيمان هو الإسلام حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام هنا، وقوله: "وقول الله " أي: مع ما دلت عليه الآية أن الإسلام هو الدين، ودل عليه خبر أبي سفيان أن الإيمان هو الدين، فاقتضى ذلك أن الإسلام والإيمان أمر واحد. هذا محصل كلامه، وقد نقل أبو عوانة الأسفرايني

(1/114)


في صحيحه عن المزني صاحب الشافعي الجزم بأنهما عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك منه. وعن الإمام أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل من القولين أدلة متعارضة. وقال الخطابي: صنف في المسألة إمامان كبيران، وأكثرا من الأدلة للقولين، وتباينا في ذلك. والحق أن بينهما عموما وخصوصا، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. انتهى كلامه ملخصا. ومقتضاه أن الإسلام لا يطلق على الاعتقاد والعمل معا، بخلاف الإيمان فإنه يطلق عليهما معا. ويرد عليه قوله تعالى :{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينا} فإن الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معا، لأن العامل غير المعتقد ليس بذي دين مرضي. وبهذا استدل المزني وأبو محمد البغوي فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام هنا اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذاك لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأن التصديق ليس من الإسلام، بل ذاك تفصيل لجملة كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "أتاكم يعلمكم دينكم " وقال سبحانه وتعالى :{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق. انتهى كلامه. والذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقة شرعية، كما أن لكل منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزم للآخر بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلما كاملا إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنا كاملا إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام أو العكس، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معا فهو على سبيل المجاز. ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معا في مقام السؤال حملا على الحقيقة، وإن لم يردا معا أو لم يكن في مقام سؤال، أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز بحسب ما يظهر من القرائن. وقد حكى ذلك الإسماعيلي عن أهل السنة والجماعة قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه. وعلى ذلك يحمل ما حكاه محمد بن نصر وتبعه ابن عبد البر عن الأكثر، أنهم سووا بينهما على ما في حديث عبد القيس، وما حكاه اللالكائي وابن السمعاني عن أهل السنة: أنهم فرقوا بينهما على ما في حديث جبريل، والله الموفق. قوله: "وعلم الساعة" تفسير منه للمراد بقول جبريل في السؤال متى الساعة؟ أي: متى علم الساعة؟ ولا بد من تقدير محذوف آخر، أي: متى علم وقت الساعة؟. قوله: "وبيان النبي صلى الله عليه وسلم " هو مجرور لأنه معطوف على علم المعطوف على سؤال المجرور بالإضافة. فإن قيل: لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم وقت الساعة، فكيف قال: وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له؟ فالجواب: أن المراد بالبيان بيان أكثر المسؤول عنه فأطلقه، لأن حكم معظم الشيء حكم كله. أو جعل الحكم في علم الساعة بأنه لا يعلمه إلا الله بيانا له. قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو البصري المعروف بابن علية، قال: أخبرنا أبو حيان التميمي. وأورده المصنف في تفسير سورة لقمان من حديث جرير بن عبد الحميد عن أبي حيان المذكور. ورواه مسلم من وجه آخر عن جرير أيضا عن عمارة بن القعقاع. ورواه أبو داود والنسائي من حديث جرير أيضا عن أبي فروة ثلاثتهم عن أبي زرعة عن أبي هريرة. زاد أبو فروة: وعن أبي ذر أيضا، وساق حديثه عنهما جميعا. وفيه فوائد زوائد سنشير إليها إن شاء الله تعالى. ولم أر هذا الحديث من رواية أبي هريرة إلا عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير هذا عنه، ولم يخرجه البخاري إلا من طريق أبي حيان عنه، وقد أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وفي سياقه فوائد زوائد أيضا. وإنما لم يخرجه البخاري لاختلاف فيه على بعض رواته، فمشهوره رواية كهمس - بسين مهملة قبلها ميم مفتوحة - ابن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر - بفتح الميم أوله ياء تحتانية مفتوحة - عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب، رواه عن كهمس جماعة

(1/115)


من الحفاظ، وتابعه مطر الوراق عن عبد الله بن بريدة، وتابعه سليمان التيمي عن يحيى بن يعمر، وكذا رواه عثمان بن غياث عن عبد الله بن بريدة لكنه قال: عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن معا عن ابن عمر عن عمر، زاد فيه حميدا، وحميد له في الرواية المشهورة ذكر لا رواية. وأخرج مسلم هذه الطرق ولم يسق منها إلا متن الطريق الأولى وأحال الباقي عليها، وبينها اختلاف كثير سنشير إلى بعضه، فأما رواية مطر فأخرجها أبو عوانة في صحيحه وغيره، وأما رواية سليمان التيمي فأخرجها ابن خزيمة في صحيحه وغيره، وأما رواية عثمان بن غياث فأخرجها أحمد في مسنده. وقد خالفهم سليمان بن بريدة أخو عبد الله، فرواه عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعله من مسند بن عمر لا من روايته عن أبيه. أخرجه أحمد أيضا. وكذا رواه أبو نعيم في الحلية من طريق عطاء الخرساني عن يحيى بن يعمر، وكذا روى من طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر، أخرجه الطبراني. وفي الباب عن أنس أخرجه البزار والبخاري في خلق أفعال العباد، وإسناده حسن. وعن جرير البجلي، أخرجه أبو عوانة في صحيحه وفي إسناده خالد بن يزيد وهو العمري ولا يصلح للصحيح، وعن ابن عباس وأبي عامر الأشعري، أخرجهما أحمد وإسنادهما حسن. وفي كل من هذه الطرق فوائد سنذكرها إن شاء الله تعالى في أثناء الكلام على حديث الباب. وإنما جمعت طرقها هنا وعزوتها إلى مخرجيها لتسهيل الحوالة عليها، فرارا من التكرار المباين لطريق الاختصار. والله الموفق. قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس" أي: ظاهرا لهم غير محتجب عنهم، ولا ملتبس بغيره، والبروز الظهور.وقد وقع في رواية أبي فروة التي أشرنا إليها بيان ذلك، فإن أوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه.انتهى.واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به، ويكون مرتفعا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه. قوله: "فأتاه رجل" أي: ملك في صورة رجل، وفي التفسير للمصنف: إذ أتاه رجل يمشي، ولأبي فروة: فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل، أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا، كأن ثيابه لم يمسها دنس. ولمسلم من طريق كهمس في حديث عمر: بينما نحن ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر. وفي رواية ابن حبان: سواد اللحية، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه. وفي رواية لسليمان التيمي: ليس عليه سحناء السفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في حديث ابن عباس وأبي عامر الأشعري: ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم. فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله: على فخذيه، يعود على النبي، وبه جزم البغوي وإسماعيل التيمي لهذه الرواية، ورجحه الطيبي بحثا لأنه نسق الكلام خلافا لما جزم به النووي، ووافقه التوربشتي لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه، وهذا وإن كان ظاهرا من السياق، لكن وضعه يديه على فخذ النبي صلى الله عليه وسلم صنيع منبه للإصغاء إليه، وفيه إشارة لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل. والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره ليقوي الظن بأنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد، وجاء ماشيا ليس عليه أثر سفر. فإن قيل: كيف عرف عمر أنه لم يعرفه أحد منهم؟ أجيب: بأنه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه، أو إلى صريح قول الحاضرين. قلت: وهذا الثاني أولى، فقد جاء كذلك في رواية

(1/116)


عثمان بن غياث فإن فيها: فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا. وأفاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ": سلوني، فهابوا أن يسألوه، قال: فجاء رجل. ووقع في رواية ابن منده من طريق يزيد بن زريع عن كهمس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ جاءه رجل - فكأن أمره لهم بسؤاله وقع في خطبته - وظاهره أن مجيء الرجل كان في حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كان ذكر ذلك القدر جالسا وعبر عنه الراوي بالخطبة. قوله: "فقال" زاد المصنف في التفسير: يا رسول الله ما الإيمان؟ فإن قيل: فكيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟ أجيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي. قلت: وهذا الثالث هو المعتمد، فقد ثبت في رواية أبي فروة، ففيها بعد قوله: كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلم من طرف البساط فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام. قال: أدنو يا محمد؟ قال: ادن. فما زال يقول: أدنو مرارا ويقول له: ادن. ونحوه في رواية عطاء عن ابن عمر، لكن قال: السلام عليك يا رسول الله. وفي رواية مطر الوراق فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: ادنو. ولم يذكر السلام. فاختلفت الروايات، هل قال له: يا محمد أو يا رسول الله؟ هل سلم أو لا؟. فأما السلام فمن ذكره مقدم على من سكت عنه. وقال القرطبي بناء على أنه لم يسلم وقال يا محمد: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب. قلت: ويجمع بين الروايتين بأنه بدأ أولا بندائه باسمه لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله. ووقع عند القرطبي أنه قال: السلام عليكم يا محمد، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام ثم يخصص من يريد تخصيصه.انتهى. والذي وقفت عليه من الروايات إنما فيه الإفراد وهو قوله: السلام عليك يا محمد. قوله: "ما الإيمان" قيل: قدم السؤال عن الإيمان لأنه الأصل، وثنى بالإسلام لأنه يظهر مصداق الدعوى، وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما. وفي رواية عمارة بن القعقاع: بدأ بالإسلام لأنه بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان لأنه بالأمر الباطن. ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقي. ولا شك أن القصة واحدة اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق فإنه بدأ بالإسلام، وثنى بالإحسان، وثلث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة والله أعلم. قوله: "قال: الإيمان أن تؤمن بالله الخ" دل الجواب أنه علم أنه سأله عن متعلقاته لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب: الإيمان التصديق. وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله: أن تؤمن بالله مضمن معنى أن تعترف به، ولهذا عداه بالباء، أي: أن تصدق معترفا بكذا. قلت: والتصديق أيضا يعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين. وقال الكرماني: "ليس هو تعريفا للشيء بنفسه، بل المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي". قلت: والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان، للاعتناء بشأنه تفخيما لأمره، ومنه قوله تعالى :{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} في جواب: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} يعني أن قوله: أن تؤمن، ينحل منه الإيمان فكأنه قال: الإيمان الشرعي تصديق مخصوص، وإلا لكان الجواب: الإيمان التصديق، والإيمان بالله هو التصديق بوجوده وأنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص. قوله: "وملائكته" الإيمان بالملائكة هو التصديق بوجودهم وأنهم كما وصفهم الله تعالى :{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرا للترتيب الواقع، لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه متمسك لمن فضل الملك على الرسول.قوله: "وكتبه" هذه عند الأصيلي هنا، واتفق الرواة على ذكرها في التفسير، والإيمان بكتب الله التصديق بأنها كلام الله وأن ما تضمنته

(1/117)


حق.قوله: "وبلقائه" كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من الطريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة، لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحق أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك.ويدل على هذا رواية مطر الوراق فإن فيها: "وبالموت وبالبعث بعد الموت"، وكذا في حديث أنس وابن عباس، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابي. وتعقبه النووي بأن أحدا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟ وأجيب: بأن المراد الإيمان بأن ذلك حق في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، إذ جعلت من قواعد الإيمان. قوله: "ورسله" وللأصيلي: "وبرسله"، ووقع في حديث أنس وابن عباس: "والملائكة والكتاب والنبيين"، وكل من السياقين في القرآن في البقرة، والتعبير بالنبيين يشمل الرسل من غير عكس، والإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله، ودل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل، إلا من ثبت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين. وهذا الترتيب مطابق للآية: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} ومناسبة الترتيب المذكور وإن كانت الواو لا ترتب بل المراد من التقدم أن الخير والرحمة من الله، ومن أعظم رحمته أن أنزل كتبه إلى عباده، والمتلقي لذلك منهم الأنبياء، والواسطة بين الله وبينهم الملائكة. قوله: "وتؤمن بالبعث" زاد في التفسير: "الآخر " ولمسلم في حديث عمر: "واليوم الآخر" فأما البعث الآخر، فقيل: ذكر الآخر تأكيدا كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى: الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة، والعلقة إلى الحياة الدنيا. والثانية: البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار. وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به والتصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار. وقد وقع التصريح بذكر الأربعة بعد ذكر البعث في رواية سليمان التيمي وفي حديث ابن عباس أيضا. "فائدة": زاد الإسماعيلي في مستخرجه هنا: "وتؤمن بالقدر"، وهي في رواية أبي فروة أيضا، وكذا لمسلم من رواية عمارة بن القعقاع، وأكده بقوله: "كله". وفي رواية كهمس وسليمان التيمي: "وتؤمن بالقدر خيره وشره " وكذا في حديث ابن عباس، وهو في رواية عطاء عن ابن عمر بزيادة: "وحلوه ومره من الله"، وكأن الحكمة في إعادة لفظ: "وتؤمن " عند ذكر البعث الإشارة إلى أنه نوع آخر مما يؤمن به، لأن البعث سيوجد بعد، وما ذكر قبله موجود الآن، وللتنويه بذكره لكثرة من كان ينكره من الكفار، ولهذا كثر تكراره في القرآن، وهكذا الحكمة في إعادة لفظ: "وتؤمن " عند ذكر القدر كأنها إشارة إلى ما يقع فيه من الاختلاف، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة تؤمن، ثم قرره بالإبدال بقوله: "خيره وشره وحلوه ومره " ثم زاده تأكيدا بقوله في الرواية الأخيرة: "من الله". والقدر مصدر، تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها، أقدره بالكسر، والفتح قدرا وقدرا، إذا أحطت بمقداره. والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة، وقد روى مسلم القصة في ذلك من طريق كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. قال: فانطلقت

(1/118)


أنا وحميد الحميري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بريء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عملا. وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها. قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نعرف أحدا ينسب إليه من المتأخرين. قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول. وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري العلم خصم. يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك. "تنبيه": ظاهر السياق يقتضي أن الإيمان لا يطلق إلا على من صدق بجميع ما ذكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله ورسوله، ولا اختلاف، لأن الإيمان برسول الله، المراد به الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك. والله أعلم. قوله: "أن تعبد الله" قال النووي: يحتمل أن يكون المراد بالعبادة معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها لإدخالها في الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا، فيدخل فيه جميع الوظائف، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من عطف الخاص على العام. قلت: أما الاحتمال الأول فبعيد، لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبر في حديث عمر هنا بقوله: "أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله " فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني. ولما عبر الراوي بالعبادة احتاج أن يوضحها بقوله: "ولا تشرك به شيئا " ولم يحتج إليها في رواية عمر لاستلزامها ذلك. فإن قيل: السؤال عام لأنه سأل عن ماهية الإسلام، والجواب خاص لقوله: أن تعبد أو تشهد، وكذا قال في الإيمان: أن تؤمن، وفي الإحسان أن تعبد.والجواب: أن ذلك لنكتة الفرق بين المصدر وبين أن والفعل، لأن " أن تفعل " تدل على الاستقبال، والمصدر لا يدل على زمان. على أن بعض الرواة أورده هنا بصيغة المصدر، ففي رواية عثمان بن غياث قال: "شهادة أن لا إله إلا الله " وكذا في حديث أنس، وليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذلك بقوله في آخره: "يعلم الناس دينهم". فإن قيل: لم لم يذكر الحج؟ أجاب بعضهم: باحتمال أنه لم يكن فرض، وهو مردود بما رواه ابن مندة في كتاب الإيمان بإسناده الذي على شرط مسلم من طريق سليمان التيمي في حديث عمر أوله: "أن رجلا في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث بطوله، وآخر عمره يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع فإنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين - التي بلغها متفرقة - في مجلس واحد، لتنضبط. ويستنبط منه جواز سؤال العالم ما لا يجهله السائل ليعلمه السامع، وأما الحج فقد ذكر، لكن بعض الرواة إما ذهل عنه وإما نسيه. والدليل على ذلك اختلافهم في ذكر بعض الأعمال دون بعض، ففي رواية كهمس: "وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " وكذا في حديث أنس. وفي رواية عطاء الخراساني لم يذكر الصوم، وفي حديث أبي عامر ذكر الصلاة والزكاة حسب، ولم يذكر في حديث ابن عباس مزيدا على الشهادتين. وذكر سليمان التيمي في روايته الجميع، وزاد بعد قوله وتحج

(1/119)


"وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتمم الوضوء". وقال مطر الوراق في روايته: "وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة " قال: فذكر عرى الإسلام، فتبين ما قلناه إن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره. قوله: "وتقيم الصلاة" زاد مسلم: "المكتوبة " أي: المفروضة. وإنما عبر بالمكتوبة للتفنن في العبارة، فإنه عبر في الزكاة بالمفروضة، ولاتباع قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} قوله: "وتصوم رمضان" استدل به على قول رمضان من غير إضافة شهر إليه، وستأتي المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. قوله: "الإحسان" هو مصدر، تقول: أحسن يحسن إحسانا. ويتعدى بنفسه وبغيره تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان، إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة. وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود، وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله: "كأنك تراه " أي: وهو يراك، والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل، وهو قوله: "فإنه يراك". وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته، وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع بقوله: "أن تخشى الله كأنك تراه " وكذا في حديث أنس. وقال النووي: معناه أنك إنما تراعى الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك، لكونه يراك لا لكونك تراه فهو دائما يراك، فأحسن عبادته وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك. قال: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه في سره وعلانيته؟ انتهى. وقد سبق إلى أصل هذا، القاضي عياض وغيره، وسيأتي مزيد لهذا في تفسير لقمان إن شاء الله تعالى. "تنبيه": دل سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم فذاك لدليل آخر، وقد صرح مسلم في روايته من حديث أبي أمامة بقوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". وأقدم بعض غلاة الصوفية على تأويل الحديث بغير علم فقال: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لم تكن - أي فإن لم تصر - شيئا وفنيت عن نفسك حتى كأنك ليس بموجود فإنك حينئذ تراه. وغفل قائل هذا - للجهل بالعربية - عن أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله: "تراه " محذوف الألف، لأنه يصير مجزوما، لكونه على زعمه جواب الشرط، ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس فلا يصار إليه إذ لا ضرورة هنا. وأيضا فلو كان ما ادعاه صحيحا لكان قوله: "فإنه يراك " ضائعا لأنه لا ارتباط له بما قبله. ومما يفسد تأويله رواية كهمس فإن لفظها: "فإنك إن لا تراه فإنه يراك " وكذلك في رواية سليمان التيمي، فسلط النفي على الرؤية لا على الكون الذي حمل على ارتكاب التأويل المذكور. وفي رواية أبي فروة: "فإن لم تره فإنه يراك " ونحوه في حديث أنس وابن عباس، وكل هذا يبطل التأويل المتقدم. والله أعلم. "فائدة": زاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع قول السائل: "صدقت " عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة، وزاد أبو فروة في روايته: "فلما سمعنا قول الرجل صدقت أنكرناه " وفي رواية كهمس: "فعجبنا له يسأله ويصدقه". وفي رواية مطر: "انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه " وفي حديث أنس: "انظروا وهو يسأله وهو يصدقه كأنه أعلم

(1/120)


منه".وفي رواية سليمان بن بريدة: "قال القوم: ما رأينا رجلا مثل هذا، كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول له: صدقت صدقت".قال القرطبي: "إنما عجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلا من جهته"، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه لأنه يخبره بأنه صادق فيه، فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك. والله أعلم. قوله: "متى الساعة" أي: متى تقوم الساعة؟ وصرح به في رواية عمارة بن القعقاع، واللام للعهد، والمراد يوم القيمة. قوله: "ما المسؤول عنها" " ما " نافية. وزاد في رواية أبي فروة: "فنكس فلم يجبه، ثم أعاد فلم يجبه ثلاثا، ثم رفع رأسه فقال، ما المسؤول". قوله: "بأعلم" الباء زائدة لتأكيد النفي، وهذا وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها لقوله بعد: "خمس لا يعلمها إلا الله " وسيأتي نظير هذا التركيب في أواخر الكلام على هذا الحديث في قوله: "ما كنت بأعلم به من رجل منكم " فإن المراد أيضا التساوي في عدم العلم به، وفي حديث ابن عباس هنا فقال: "سبحان الله، خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا الآية. قال النووي: يستنبط منه أن العالم إذا سئل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته، بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه. وقال القرطبي: مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة، لأنهم قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث، فلما حصل الجواب بما ذكر هنا حصل اليأس من معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها، ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته مما لا يمكن. قوله: "من السائل" عدل عن قوله لست بأعلم بها منك إلى لفظ يشعر بالتعميم تعريضا للسامعين، أي: أن كل مسؤول وكل سائل فهو كذلك. "فائدة": هذا السؤال والجواب وقع بين عيسى بن مريم وجبريل(1)، لكن كان عيسى سائلا وجبريل مسؤولا. قال الحميدي في نوادره: حدثنا سفيان حدثنا مالك بن مغول عن إسماعيل بن رجاء عن الشعبي قال: سأل عيسى بن مريم جبريل عن الساعة، قال فانتفض بأجنحته وقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قوله: "وسأخبرك عن أشراطها" وفي التفسير: "ولكن سأحدثك". وفي رواية أبي فروة: "ولكن لها علامات تعرف بها". وفي رواية كهمس: "قال فأخبرني عن أمارتها فأخبره بها فترددنا " فحصل التردد، هل ابتدأه بذكر الأمارات أو السائل سأله عن الأمارات، ويجمع بينهما بأنه ابتدأ بقوله: وسأخبرك، فقال له السائل: فأخبرني. ويدل على ذلك رواية سليمان التيمي ولفظها: "ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها، قال: أجل " ونحوه في حديث ابن عباس وزاد: "فحدثني " وقد حصل تفصيل الأشراط من الرواية الأخرى وأنها العلامات، وهي بفتح الهمزة جمع شرط بفتحتين كقلم وأقلام، ويستفاد من اختلاف الروايات أن التحديث والإخبار والإنباء بمعنى واحد، وإنما غاير بينها أهل الحديث اصطلاحا. قال القرطبي: علامات الساعة على قسمين: ما يكون من نوع المعتاد، أو غيره. والمذكور هنا الأول. وأما الغير مثل طلوع الشمس من مغربها، فتلك مقاربة لها أو مضايقة، والمراد هنا العلامات السابقة على ذلك. والله أعلم. قوله: "إذا ولدت" التعبير بإذا للإشعار بتحقق الوقوع، ووقعت هذه الجملة بيانا للأشراط نظرا إلى المعنى، والتقدير ولادة الأمة وتطاول الرعاة. فإن قيل: الأشراط جمع وأقله ثلاثة على الأصح والمذكور هنا اثنان! أجاب الكرماني: بأنه قد تستقرض القلة للكثرة، وبالعكس.
ـــــــ
(1) لاينبغي الجزم بوقوع هذا من عيسى,لأن كلام الشعبي لاتقوم به حجة.وإن كان نقله عن بني إسرائيل فكذلك.وإنما يذكر مثل هذا بصيغة التمريض كما هو المقررفي علم مصطلح الحديث.والله أعلم

(1/121)


أو لأن الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف، أو لفقد جمع الكثرة للفظ الشرط. وفي جميع هذه الأجوبة نظر، ولو أجيب: بأن هذا دليل القول الصائر إلى أن أقل الجمع اثنان لما بعد عن الصواب. والجواب المرضي: أن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها، لأنه هنا ذكر الولادة والتطاول، وفي التفسير ذكر الولادة وترؤس الحفاة. وفي رواية محمد بن بشر التي أخرج مسلم إسنادها وساق ابن خزيمة لفظها عن أبي حيان ذكر الثلاثة، وكذا في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن علية، وكذا ذكرها عمارة بن القعقاع، ووقع مثل ذلك في حديث عمر، ففي رواية كهمس ذكر الولادة والتطاول فقط ووافقه عثمان بن غياث. وفي رواية سليمان التيمي ذكر الثلاثة ووافقه عطاء الخراساني، وكذا ذكرت في حديث ابن عباس وأبي عامر. قوله: "إذا ولدت الأمة ربها" وفي التفسير: "ربتها " بتاء التأنيث، وكذا في حديث عمر، ولمحمد بن بشر مثله وزاد: "يعني السراري". وفي رواية عمارة بن القعقاع: "إذا رأيت المرأة تلد ربها " ونحوه لأبي فروة وفي رواية عثمان بن غياث: "الإماء أربابهن " بلفظ الجمع. والمراد بالرب المالك أو السيد. وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في معنى ذلك: قال ابن التين: اختلف فيه على سبعة أوجه، فذكرها لكنها متداخلة، وقد لخصتها بلا تداخل فإذا هي أربعة أقوال: الأول: قال الخطابي: معناه اتساع الإسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربها لأنه ولد سيدها. قال النووي وغيره: إنه قول الأكثرين. قلت: لكن في كونه المراد نظر. لأن استيلاد الإماء كان موجودا حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري، وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة، وقد فسره وكيع في رواية ابن ماجه بأخص من الأول. قال: أن تلد العجم العرب، ووجهه بعضهم بأن الإماء يلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية والملك سيد رعيته، وهذا لإبراهيم الحربي، وقربه بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالبا من وطء الإماء ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر ولا سيما في أثناء دولة بني العباس، ولكن رواية ربتها بتاء التأنيث قد لا تساعد على ذلك. ووجهه بعضهم بأن إطلاق ربتها على ولدها مجاز، لأنه لما كان سببا في عتقها بموت أبيه أطلق عليه ذلك، وخصه بعضهم بأن السبي إذا كثر، فقد يسبى الولد أولا وهو صغير، ثم يعتق ويكبر ويصير رئيسا بل ملكا، ثم تسبى أمه فيما بعد فيشتريها عارفا بها، أو وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها أو يتخذها موطوءة أو يعتقها ويتزوجها. وقد جاء في بعض الروايات: "أن تلد الأمة بعلها " وهي عند مسلم فحمل على هذه الصورة، وقيل المراد: بالبعل المالك وهو أولى لتتفق الروايات. الثاني: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط، غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية. فإن قيل: هذه المسألة مختلف فيها فلا يصلح الحمل عليها، لأنه لا جهل ولا استهانة عند القائل بالجواز، قلنا: يصلح أن يحمل على صورة اتفاقية كبيعها في حال حملها، فإنه حرام بالإجماع. الثالث: وهو من نمط الذي قبله، قال النووي: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يتصور في غيرهن بأن تلد الأمة حرا من غير سيدها بوطء شبهة، أو رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها. ولا يعكر على هذا تفسير محمد بن بشر، بأن المراد السراري لأنه تخصيص بغير دليل. الرابع: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب

(1/122)


والضرب والاستخدام. فأطلق عليه ربها مجازا لذلك. أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة. ومحصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربيا والسافل عاليا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى: أن تصير الحفاة ملوك الأرض. "تنبيهان": أحدهما: قال النووي: ليس فيه دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد ولا على جوازه، وقد غلط من استدل به لكل من الأمرين، لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة. الثاني: يجمع بين ما في هذا الحديث من إطلاق الرب على السيد المالك في قوله: "ربها " وبين ما في الحديث الآخر وهو في الصحيح(1): "لا يقل أحدكم أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل سيدي ومولاي " بأن اللفظ هنا خرج على سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه السيد، أو أن النهي عنه متأخر، أو مختص بغير الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: "تطاول" أي: تفاخروا في تطويل البنيان، وتكاثروا به. قوله: "رعاة الإبل" هو بضم الراء جمع راع كقضاة وقاض. والبهم بضم الموحدة، ووقع في رواية الأصيلي بفتحها، ولا يتجه مع ذكر الإبل وإنما يتجه مع ذكر الشياه أو مع عدم الإضافة كما في رواية مسلم رعاء البهم، وميم البهم في رواية البخاري يجوز ضمها على أنها صفة الرعاة ويجوز الكسر على أنها صفة الإبل يعني: الإبل السود، وقيل: إنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل فقيل: "خير من حمر النعم " ووصف الرعاة بالبهم إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه أبهم الأمر فهو مبهم، إذا لم تعرف حقيقته. وقال القرطبي: الأولى أن يحمل على أنهم سود الألوان، لأن الأدمة غالب ألوانهم، وقيل معناه: أنهم لا شيء لهم كقوله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس حفاة عراة بهما " قال: وفيه نظر، لأنه قد نسب لهم الإبل، فكيف يقال: لا شيء لهم. قلت: يحمل على أنها إضافة اختصاص لا ملك، وهذا هو الغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقل أن يباشر الرعي بنفسه. قوله في التفسير: وإذا كان الحفاة العراة، زاد الإسماعيلي في روايته: الصم البكم. وقيل لهم ذلك مبالغة في وصفهم بالجهل، أي: لم يستعملوا أسماعهم ولا أبصارهم في الشيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة. قوله رءوس الناس أي: ملوك الأرض، وصرح به الإسماعيلي. وفي رواية أبي فروة مثله، والمراد بهم أهل البادية، كما صرح به في رواية سليمان التيمي وغيره. قال: ما الحفاة العراة؟ قال: العريب. وهو بالعين المهملة على التصغير. وفي الطبراني من طريق أبي حمزة عن ابن عباس مرفوعا: "من انقلاب الدين تفصح النبط واتخاذهم القصور في الأمصار". قال القرطبي: المقصود الإخبار عن تبدل الحال، بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان. ومنه الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع " ومنه: "إذا وسد الأمر - أي أسند - إلى غير أهله فانتظروا الساعة " وكلاهما في الصحيح. قوله: "في خمس" أي: علم وقت الساعة داخل في جملة خمس. وحذف متعلق الجار سائغ كما في قوله تعالى :{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات. وفي رواية عطاء الخراساني: "قال فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله" قال القرطبي: "لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة لهذا الحديث"، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}
ـــــــ
(1) في كتاب العتق 49 الباب 17 الحديث رقم 2552

(1/123)


بهذه الخمس وهو في الصحيح. قال: فمن ادعى علم شيء منها غير مسندة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم كان كاذبا في دعواه. قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره، إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل وإعطائها في ذلك، وجاء عن ابن مسعود قال: "أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء سوى هذه الخمس". وعن ابن عمر مرفوعا نحوه أخرجهما أحمد. وأخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكر عليه فقال: إنما الغيب خمس - وتلا هذه الآية - وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم. "تنبيه": تضمن الجواب زيادة على السؤال للاهتمام بذلك إرشادا للأمة لما يترتب على معرفة ذلك من المصلحة. فإن قيل: ليس في الآية أداة حصر كما في الحديث! أجاب الطيبي: بأن الفعل إذا كان عظيم الخطر وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن فهم منه الحصر على سبيل الكناية، ولا سيما إذا لوحظ ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدعون علم نزول الغيث. فيشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك واختصاصه بالله سبحانه وتعالى. "فائدة": النكتة في العدول عن الإثبات إلى النفي في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} وكذا التعبير بالدراية دون العلم للمبالغة والتعميم، إذ الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة، فإذا انتفى ذلك عن كل نفس مع كونه من مختصاتها ولم تقع منه على علم كان عدم اطلاعها على علم غير ذلك من باب أولى. ا هـ ملخصا من كلام الطيبي. قوله: "الآية" أي تلا الآية إلى آخر السورة، وصرح بذلك الإسماعيلي، وكذا في رواية عمارة. ولمسلم إلى قوله: "خبير" وكذا في رواية أبي فروة. وأما ما وقع عند المؤلف في التفسير من قوله: إلى {الْأَرْحَامِ} فهو تقصير من بعض الرواة، والسياق يرشد إلى أنه تلا الآية كلها. قوله: "ثم أدبر فقال: ردوه" زاد في التفسير: "فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا". فيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي صلى الله عليه وسلم فيراه ويتكلم بحضرته وهو يسمع، وقد ثبت عن عمران ابن حصين أنه كان يسمع كلام الملائكة. والله أعلم. قوله: "جاء يعلم الناس" في التفسير: "ليعلم " وللإسماعيلي: "أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا " ومثله لعمارة. وفي رواية أبي فروة: "والذي بعث محمدا بالحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل". وفي حديث أبي عامر: "ثم ولى فلما لم نر طريقه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ": سبحان الله، هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم، والذي نفس محمد بيده ما جاءني قط وإلا وأنا أعرفه، إلا أن تكون هذه المرة". وفي رواية التيمي " ثم نهض فولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : علي بالرجل، فطلبناه كل مطلب فلم نقدر عليه. فقال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولى". قال ابن حبان: تفرد سليمان التيمي بقوله: "خذوا عنه". قلت: وهو من الثقات الأثبات. وفي قوله: "جاء ليعلم الناس دينهم " إشارة إلى الزيادة، فما تفرد إلا بالتصريح، وإسناد التعليم إلى جبريل مجازي، لأنه كان السبب في الجواب، فلذلك أمر بالأخذ عنه. واتفقت هذه الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بشأنه بعد أن التمسوه فلم يجدوه. وأما ما وقع عند مسلم وغيره من حديث عمر في رواية كهمس: "ثم انطلق، قال عمر: فلبثت مليا ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل فقد جمع بين الروايتين بعض الشراح بأن قوله: "فلبثت مليا " أي: زمانا بعد انصرافه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم بذلك بعد مضي وقت، ولكنه في ذلك المجلس. لكن يعكر على هذا الجمع قوله في رواية النسائي والترمذي " فلبثت ثلاثا " لكن ادعى بعضهم فيها التصحيف، وأن: "مليا " صغرت ميمها فأشبهت " ثلاثا " لأنها تكتب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، فإن في رواية أبي عوانة

(1/124)


" فلبثنا ليالي، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث " ولابن حبان: "بعد ثالثة"، ولابن منده " بعد ثلاثة أيام". وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، بل كان ممن قام إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل أو لشغل آخر ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: "فلقيني " وقوله: "فقال لي يا عمر " فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن. "تنبيهات": الأول: دلت الروايات التي ذكرناها على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة لكنه غير معروف لديهم، وأما ما وقع في رواية النسائي من طريق أبي فروة في آخر الحديث: "وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي " فإن قوله: نزل في صورة دحية الكلبي وهم، لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر: "ما يعرفه منا أحد"، وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي فقال في آخره: "فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم " حسب. وهذه الرواية هي المحفوظة لموافقتها باقي الروايات. الثاني: قال ابن المنير: في قوله: "يعلمكم دينكم " دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه معلما، وقد اشتهر قولهم: حسن السؤال نصف العلم، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معا. الثالث: قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة. وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه " المصابيح " و " شرح السنة " اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة، لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا. وقال القاضي عياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان، ابتداء وحالا ومآلا ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه. قلت: ولهذا أشبعت القول في الكلام عليه، مع أن الذي ذكرته وإن كان كثيرا لكنه بالنسبة لما يتضمنه قليل، فلم أخالف طريق الاختصار. والله الموفق. قوله: "قال أبو عبد الله" يعني: المؤلف " جعل ذلك كله من الإيمان " أي: الإيمان الكامل المشتمل على هذه الأمور كلها.

(1/125)


38- باب
51 - حدّثنا إبراهيمُ بنُ حَمزَةَ قال: حدّثَنَا إبراهيمُ بنُ سَعدٍ عن صالحٍ عن ابنِ شِهابٍ عن عُبيدِ اللهِ بن عبدِ اللهِ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَباسٍ أخبَرَهُ قالَ: أخبَرَني أبو سُفيانَ أنَّ هِرَقلَ قالَ لهُ: "سَألتُكَ هَل يَزيدُونَ أم يَنقُصونَ فَزَعَمتَ أنَّهم يَزِيدُونَ وكذلك الإِيمانُ حتَّى يَتَّم. وَسَألتُكَ: هَل يَرتَدُّ أَحَدٌ سَخطَةً لِدِينِهِ بَعدَ أن يَدخُلَ فيه؟ فَزَعَمتَ أن لا، وكَذّلك الإِيمانُ حينَ تُخَالِطُ بشَاشَتُهُ القُلوبَ لا يَسخَطُهُ أَحَدُ".
[انظر الحديث 7]
قوله: "باب" كذا هو بلا ترجمة في رواية وأبي الوقت، وسقط من رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، ورجح النووي الأول، قال: لأن الترجمة - يعني سؤال جبريل عن الإيمان - لا يتعلق بها هذا الحديث، فلا يصح إدخاله فيه. قلت: نفي التعلق لا يتم هنا على الحالتين، لأنه إن ثبت لفظ: "باب" بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، فلابد له من تعلق به. وإن لم يثبت فتعلقه به متعين، لكنه يتعلق بقوله في الترجمة " جعل ذلك كله دينا". ووجه التعلق أنه سمى الدين إيماناً في حديث هرقل فيتم مراد المؤلف بكون الدين هو الإيمان. فإن قيل: لا حجة له

(1/125)


فيه، لأنه منقول عن هرقل،فالجواب: أنه ما قاله من قبل اجتهاده، وإنما أخبر به عن استقرائه من كتب الأنبياء كما قررناه فيما مضى. وأيضاً فهرقل قاله بلسانه الرومي، وأبو سفيان عبر عنه بلسانه العربي وألقاه إلى ابن عباس - وهو من علماء اللسان - فرواه عنه ولم ينكره، فدل على أنه صحيح لفظا ومعنى. وقد اقتصر المؤلف من حديث أبي سفيان الطويل الذي تكلمنا عليه في بدء الوحي على هذه القطعة لتعلقها بغرضه هنا، وساقه في كتاب الجهاد تاماً بهذا الإسناد الذي أورده هنا. والله أعلم.

(1/126)


باب فضل من استبراء لدينه
...
39- باب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ
52 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ. أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ".
[الحديث 52- طرفه في: 2051]
قوله: "باب فضل من استبرأ لدينه" كأنه أراد أن يبين أن الورع من مكملات الإيمان، فلهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان.قوله: "حدثنا زكرياء" هو ابن أبي زائدة، واسم أبي زائدة خالد بن ميمون الوادعي. قوله: "عن عامر" هو الشعبي الفقيه المشهور. ورجال الإسناد كوفيون. وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها. ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي حريز - وهو بفتح الحاء المهملة وآخره زاي - عن الشعبي أن النعمان بن بشير خطب به بالكوفة. وفي رواية لمسلم أنه خطب به بحمص. ويجمع بينهما بأنه سمع منه مرتين، فإنه ولي إمرة البلدين واحدة بعد أخرى، وزاد مسلم والإسماعيلي من طريق زكرياء فيه: "وأهوى النعمان بإصبعه إلى أذنيه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وفي هذا رد لقول الواقدي ومن تبعه إن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وللنعمان ثمان سنين، وزكرياء موصوف بالتدليس، ولم أره في الصحيحين وغيرهما من روايته عن الشعبي إلا معنعنا ثم وجدته في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكرياء حدثنا الشعبي، فحصل الأمن من تدليسه(1). "فائدة": ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح فمسلم، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر وعمار في الأوسط للطبراني، ومن حديث ابن عباس في الكبير له، ومن حديث واثلة في الترغيب للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال. وادعى أيضا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضا خيثمة بن عبد الرحمن عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب عند الطبراني، لكنه مشهور عن
ـــــــ
(1) وهو في مسند أحمد (270:4):عن زكرياء قال (حدثنا) عامر قال سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول

(1/126)


الشعبي رواه عنه جمع جم من الكوفيين، ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عون، وقد ساق البخاري إسناده في البيوع ولم يسق لفظه، وساقه أبو داود، وسنشير إلى ما فيه من فائدة إن شاء الله تعالى. قوله: "الحلال بين والحرام بين" أي: في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة. قوله: "وبينهما مشبهات" بوزن مفعلات بتشديد العين المفتوحة وهي رواية مسلم، أي: شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين. وفي رواية الأصيلي: "مشتبهات " بوزن مفتعلات بتاء مفتوحة وعين خفيفة مكسورة وهي رواية ابن ماجه، وهو لفظ ابن عون، والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين، ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "وبينهما متشابهات". قوله: "لا يعلمها كثير من الناس" أي لا يعلم حكمها، وجاء واضحا في رواية الترمذي بلفظ: "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام " ومفهوم قوله: "كثير " أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين. قوله: "فمن اتقى المشبهات" أي: حذر منها، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها لكن عند مسلم والإسماعيلي: "الشبهات " بالضم جمع شبهة. قوله: "استبرأ" بالهمز بوزن استفعل من البراءة، أي: برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه، وفيه دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة. قوله: "ومن وقع في الشبهات" فيها أيضا ما تقدم من اختلاف الرواة. واختلف في حكم الشبهات فقيل: التحريم، وهو مردود. وقيل: الكراهة، وقيل: الوقف. وهو كالخلاف فيما قبل الشرع. وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة كما تقدم. ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى. ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك. رابعها: أن المراد بها المباح. ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج. ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. وهو منزع حسن. ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها ولم يسق لفظها فيها من الزيادة: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه: "والمعنى: أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلا من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان. والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال. ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه. أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في

(1/127)


الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه. ووقع عند المصنف في البيوع من رواية أبي فروة عن الشعبي في هذا الحديث: "فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان " وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه. "تنبيه": استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الاستدلال بذلك نظر، إلا إن أراد به أنه مجمل في حق بعض دون بعض، أو أراد الرد على منكري القياس فيحتمل ما قال. والله أعلم. قوله: "كراع يرعى" هكذا في جميع نسخ البخاري محذوف جواب الشرط إن أعربت " من " شرطية وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى " ويمكن إعراب " من " في سياق البخاري موصولة فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والذي وقع في الشبهات مثل راع يرعى، والأول أولى لثبوت المحذوف في صحيح مسلم وغيره من طريق زكريا التي أخرجه منها المؤلف، وعلى هذا فقوله: "كراع يرعى " جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل للتنبيه بالشاهد على الغائب. والحمى: المحمي، أطلق المصدر على اسم المفعول. وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له ولو اشتد حذره. وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد الفاذة فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع: الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه. فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا، وحماه محارمه. "تنبيه": ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، حكى ذلك أبو عمرو الداني، ولم أقف على دليله إلا ما وقع عند ابن الجارود والإسماعيلي من رواية ابن عون عن الشعبي، قال ابن عون في آخر الحديث: لا أدري المثل من قول النبي - صلى الله عليه وسلم أو من قول الشعبي. قلت: وتردد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجا، لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه. وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة - كأبي فروة عن الشعبي - لا يقدح فيمن أثبته، لأنهم حفاظ. ولعل هذا هو السر في حذف البخاري قوله: "وقع في الحرام " ليصير ما قبل المثل مرتبطا به فيسلم من دعوى الإدراج. ومما يقوي عدم الإدراج رواية ابن حبان الماضية، وكذا ثبوت المثل مرفوعا في رواية ابن عباس وعمار بن ياسر أيضا. قوله: "ألا إن حمى الله في أرضه محارمه" سقط " في أرضه " من رواية المستملي، وثبتت الواو في قوله: "ألا وإن حمى الله " في رواية غير أبي ذر، والمراد بالمحارم فعل المنهي المحرم أو ترك المأمور الواجب، ولهذا وقع في رواية أبي فروة التعبير بالمعاصي بدل المحارم. وقوله: "ألا " للتنبيه على صحة ما بعدها، وفي إعادتها وتكريرها دليل على عظم شأن مدلولها. قوله: "مضغة" أي: قدر ما يمضغ، وعبر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية، وسمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في الجسد مقلوبا. وقوله: "إذا صلحت " و " إذا فسدت " هو بفتح عينهما وتضم في المضارع، وحكى الفراء الضم في ماضي صلح، وهو يضم وفاقا إذا صار له الصلاح هيئة لازمة لشرف ونحوه، والتعبير بإذا لتحقق الوقوع غالبا، وقد تأتي بمعنى إن كما هنا. وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد. وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب

(1/128)


أثرا فيه. والمراد المتعلق به: من الفهم الذي ركبه الله فيه. ويستدل به على أن العقل في القلب، ومنه قوله تعالى :{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقوله تعالى :{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}. قال المفسرون: أي عقل. وعبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره. "فائدة": لم تقع هذه الزيادة التي أولها " ألا وإن في الجسد مضغة " إلا في رواية الشعبي، ولا هي في أكثر الروايات عن الشعبي، إنما تفرد بها في الصحيحين زكريا المذكور عنه، وتابعه مجاهد عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطبراني. وعبر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم، ومناسبتها لما قبلها بالنظر إلى أن الأصل في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب، لأنه عماد البدن. وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبى داود، وفيه البيتان المشهوران وهما:
عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية
اترك الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك، واعملن بنيه
والمعروف عن أبي داود عد " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه.. الحديث: "بدل " ازهد فيما في أيدي الناس " وجعله بعضهم ثالث ثلاثة حذف الثاني، وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام، قال القرطبي: "لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب"، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.والله المستعان.

(1/129)


40- باب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الإِيمَانِ
53 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: "كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ الْقَوْمُ - أَوْ مَنْ الْوَفْدُ؟" - قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ - أَوْ بِالْوَفْدِ - غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنْ الأَشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ. وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ - وَقَالَ: احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ".
قوله: "باب أداء الخمس من الإيمان" هو بضم الخاء المعجمة، وهو المراد بقوله تعالى :{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية. وقيل: إنه روي هنا بفتح الخاء، والمراد قواعد الإسلام الخمس المذكورة في حديث: "بني الإسلام على خمس " وفيه بعد، لأن الحج لم يذكر هنا ولأن غيره من القواعد قد تقدم، ولم يرد هنا إلا ذكر خمس الغنيمة فتعين أن يكون المراد إفراده بالذكر. وسنذكر وجه كونه من الإيمان قريبا. قوله: "عن أبي جمرة"

(1/129)


هو بالجيم والراء كما تقدم، واسمه نصر بن عمران بن نوح بن مخلد الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة، من بني ضبيعة، بضم أوله مصغرا، وهم بطن من عبد القيس كما جزم به الرشاطي، وفي بكر بن وائل بطن يقال لهم: بنو ضبيعة أيضا، وقد وهم. من نسب أبا جمرة إليهم من شراح البخاري، فقد روى الطبراني وابن مندة في ترجمة نوح ابن مخلد جد أبي جمرة أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ممن أنت؟" قال: من ضبيعة ربيعة. فقال: "خير ربيعة عبد القيس ثم الحي الذين أنت منهم". قوله: "كنت أقعد مع ابن عباس" بين المصنف في العلم من رواية غندر، عن شعبة السبب في إكرام ابن عباس له ولفظه: "كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس " قال ابن الصلاح: "أصل الترجمة التعبير عن لغة بلغة، وهو عندي هنا أعم من ذلك، وأنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه ويبلغه كلامهم، إما لزحام أو لقصور فهم". قلت: الثاني أظهر، لأنه كان جالسا معه على سريره، فلا فرق في الزحام بينهما إلا أن يحمل على أن ابن عباس كان في صدر السرير، وكان أبو جمرة في طرفه الذي يلي من يترجم عنهم، وقيل: إن أبا جمرة كان يعرف الفارسية فكان يترجم لابن عباس بها، قال القرطبي: "فيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد". قلت: وقد بوب عليه البخاري في أواخر كتاب الأحكام كما سيأتي. واستنبط منه ابن التين جواز أخذ الأجرة على التعليم لقوله: "حتى أجعل لك سهما من مالي " وفيه نظر، لاحتمال أن يكون إعطاؤه ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها في العمرة قبل الحج كما سيأتي عند المصنف صريحا في الحج. وقال غيره: هو أصل في اتخاذ المحدث المستملي. قوله: "ثم قال: إن وفد عبد القيس" بين مسلم من طريق غندر عن شعبة السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله: "وبين الناس ": فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت: يا ابن عباس إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذا حلوا فأشرب منه فتقرقر بطني، قال: لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل. وللمصنف في أواخر المغازي من طريق قرة عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة أنتبذ فيها فأشربه حلوا، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: "قدم وفد عبد القيس " فلما كان أبو جمرة من عبد القيس وكان حديثهم يشتمل على النهي عن الانتباذ في الجرار ناسب أن يذكره له. وفي هذا دليل على أن ابن عباس لم يبلغه نسخ تحريم الانتباذ في الجرار، وهو ثابت من حديث بريدة بن الحصيب عند مسلم وغيره. قال القرطبي: فيه دليل على أن للمفتي أن يذكر الدليل مستغنيا به عن التنصيص على جواب الفتيا إذا كان السائل بصيرا بموضع الحجة. قوله: "لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من القوم، أو من الوفد" الشك من أحد الرواة، إما أبو جمرة أو من دونه، وأظنه شعبة فإنه في رواية قرة وغيره بغير شك. وأغرب الكرماني فقال: الشك من ابن عباس. قال النووي: الوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقي العظماء واحدهم وافد. قال: ووفد عبد القيس المذكورون كانوا أربعة عشر راكبا كبيرهم الأشج، ذكره صاحب التحرير في شرح مسلم وسمي منهم المنذر بن عائذ وهو الأشج المذكور ومنقذ بن حبان ومزيدة(1) بن مالك وعمرو بن مرحوم والحارث ابن شعيب وعبيدة بن همام والحارث بن جندب وصحار بن العباس وهو بصاد مضمومة وحاء مهملتين، قال: ولم نعثر بعد طول التتبع على أسماء الباقين. قلت: قد ذكر ابن سعد منهم عقبة بن جروة(2)، وفي سنن أبي داود قيس بن النعمان العبدي وذكره الخطيب أيضا في المبهمات، وفي مسند البزار وتاريخ ابن أبي خيثمة الجهم بن قثم، ووقع
ـــــــ
(1)في هامش طبعة بولاق : في نسخة"بريدة" (2) في هامش طبعة بولاق: في نسخة"عطية بن جروة"

(1/130)


ذكره في صحيح مسلم أيضا لكن لم يسمه، وفي مسندي أحمد وابن أبي شيبة الرستم العبدي، وفي المعرفة لأبي نعيم جويرية العبدي، وفي الأدب للبخاري الزارع بن عامر العبدي. فهؤلاء الستة الباقون من العدد. وما ذكر من أن الوفد كانوا أربعة عشر راكبا لم يذكر دليله، وفي المعرفة لابن منده من طريق هود العصري - وهو بعين وصاد مهملتين مفتوحتين - نسبة إلى عصر بطن من عبد القيس عن جده لأمه مزيدة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: "سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق " فقام عمر فلقي ثلاثة عشر راكبا فرحب وقرب وقال: من القوم؟ قالوا: وفد عبد القيس، فيمكن أن يكون أحد المذكورين كان غير راكب أو مرتدفا. وأما ما رواه الدولابي وغيره من طريق أبي خيرة - بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتانية وبعد الراء هاء - الصباحي - وهو بضم الصاد المهملة بعدها موحدة خفيفة وبعد الألف حاء مهملة - نسبة إلى صباح بطن من عبد القيس قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وفد عبد القيس وكنا أربعين رجلا فنهانا عن الدباء والنقير.. الحديث، فيمكن أن يجمع بينه وبين الرواية الأخرى بأن الثلاثة عشر كانوا رؤوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانا، وكان الباقون أتباعا. وقد وقع في جملة من الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس زيادة على من سميته هنا، منهم أخو الزارع واسمه مطر وابن أخته ولم يسم وروى ذلك البغوي في معجمه، ومنهم مشمرج السعدي روى حديثه ابن السكن وأنه قدم مع وفد عبد القيس، ومنهم جابر بن الحارث وخزيمة بن عبد بن عمرو وهمام بن ربيعة وجارية - أوله جيم - ابن جابر ذكرهم ابن شاهين في معجمه، ومنهم نوح بن مخلد جد أبي جمرة وكذا أبو خيرة الصباحي كما تقدم. وإنما أطلت في هذا الفصل لقول صاحب التحرير إنه لم يظفر - بعد طول التتبع - إلا بما ذكرهم. قال ابن أبي جمرة: في قوله: "من القوم " دليل على استحباب سؤال القاصد عن نفسه ليعرف فينزل منزلته. قوله: "قالوا: ربيعة" فيه التعبير عن البعض بالكل لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فإن عند المصنف في الصلاة من طريق عباد عن أبي جمرة: فقالوا إن هذا الحي من ربيعة. قال ابن الصلاح: الحي منصوب على الاختصاص، والمعنى إنا هذا الحي حي من ربيعة، قال: والحي هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به، لأن بعضهم يحيا ببعض. قوله: "مرحبا" هو منصوب بفعل مضمر، أي: صادفت رحبا - بضم الراء - أي: سعة، والرحب - بالفتح - الشيء الواسع، وقد يزيدون معها أهلا، أي: وجدت أهلا فاستأنس، وأفاد العسكري أن أول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل على استحباب تأنيس القادم، وقد تكرر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أم هانئ: "مرحبا بأم هانئ " وفي قصة عكرمة بن أبي جهل: "مرحبا بالراكب المهاجر " وفي قصة فاطمة: "مرحبا بابنتي " وكلها صحيحة. وأخرج النسائي من حديث عاصم بن بشير الحارثي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما دخل فسلم عليه: "مرحبا وعليك السلام". قوله: "غير خزايا" بنصب " غير " على الحال، وروي بالكسر على الصفة، والمعروف الأول قاله النووي، ويؤيده رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة: "مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى" وخزايا جمع خزيان وهو الذي أصابه خزي، والمعنى أنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم. قوله: "ولا ندامى" قال الخطابي: كان أصله نادمين جمع نادم لأن ندامى إنما هو جمع ندمان أي: المنادم في اللهو. وقال الشاعر: " فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني"، لكنه هنا خرج على الاتباع كما قالوا العشايا والغدايا، وغداة جمعها الغدوات لكنه أتبع. انتهى. وقد حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة أنه يقال نادم وندمان في الندامة، بمعنى

(1/131)


فعلي هذا، فهو على الأصل ولا إتباع فيه.والله أعلم. ووقع في رواية النسائي من طريق قرة فقال: "مرحبا بالوفد ليس الخزايا ولا النادمين " وهي للطبراني من طريق شعبة أيضا، قال ابن أبي جمرة: بشرهم بالخير عاجلا وآجلا، لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها. وفيه دليل على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الفتنة. قوله: "فقالوا: يا رسول الله" فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم " كفار مضر " وفي قولهم " الله ورسوله أعلم". قوله: "إلا في الشهر الحرام"، وللأصيلي وكريمة: "إلا في شهر الحرام " وهي رواية مسلم، وهي من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع ونساء المؤمنات. والمراد بالشهر الحرام الجنس فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية قرة عند المؤلف في المغازي بلفظ: "إلا في أشهر الحرم " ورواية حماد بن زيد عنده في المناقب بلفظ: "إلا في كل شهر حرام " وقيل اللام للعهد والمراد شهر رجب. وفي رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال: "رجب مضر " كما سيأتي. والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسؤوها بخلافه، وفيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا - كما في رواية شعبة عند المؤلف في العلم - وإنا نأتيك من شقة بعيدة. قال ابن قتيبة: الشقة السفر. وقال الزجاج: هي الغاية التي تقصد.ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه المصنف في الجمعة من طريق أبي جمرة أيضا عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت - بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين، وجواثي بضم الجيم وبعد الألف مثلثة مفتوحة، وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام.قوله: "بأمر فصل" بالتنوين فيهما لا بالإضافة، والأمر، واحد الأوامر، أي مرنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي أمرهم. وفي رواية حماد بن زيد وغيره عند المؤلف قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آمركم"، وله عن أبي التياح بصيغة افعلوا. و " الفصل " بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل أي المبين المكشوف حكاه الطيبي. وقال الخطابي: الفصل البين وقيل المحكم. قوله: "نخبر به" بالرفع على الصفة لأمر، وكذا قوله وندخل، ويروى بالجزم فيهما على أنه جواب الأمر. وسقطت الواو من وندخل في بعض الروايات فيرفع نخبر ويجزم ندخل، قال ابن أبي جمرة: فيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبا أو مندوبا، وعلى أنه يبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها يقع برحمة الله كما تقدم. قوله: "فأمرهم بأربع" أي خصال أو جمل، لقولهم " حدثنا بجمل من الأمر " وهي رواية قرة عند المؤلف في المغازي، قال القرطبي: قيل إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما كما قيل في قوله تعالى :{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وإلى هذا نحا الطيبي فقال: عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين - لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة - ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال: فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر.قيل ولا يرد على هذا الإتيان بحرف العطف فيحتاج إلى تقدير.وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل

(1/132)


التصدير، لكن يمكن أن يقرأ قوله: "وإقام الصلاة " بالخفض فيكون عطفا على قوله: "أمرهم بالإيمان " والتقدير أمرهم بالإيمان مصدرا به وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم بإقام الصلاة الخ، قال: ويؤيد هذا حذفهما في رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة ولفظه: "أربع وأربع، أقيموا الصلاة الخ". فإن قيل ظاهر ما ترجم به المصنف من أن أداء الخمس من الإيمان يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان والتقدير المذكور يخالفه، أجاب ابن رشيد بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة وأجيبوا بأشياء منها أداء الخمس، والأعمال التي تدخل الجنة هي أعمال الإيمان فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير. فإن قيل: فكيف قال في رواية حماد بن زيد عن أبي جمرة " آمركم بأربع: الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله. وعقد واحدة " كذا للمؤلف في المغازي، وله في فرض الخمس " وعقد بيده " فدل على أن الشهادة إحدى الأربع. وأما ما وقع عنده في الزكاة من هذا الوجه من زيادة الواو في قوله: "شهادة أن لا إله إلا الله " فهي زيادة شاذة لم يتابع عليها حجاج بن منهال أحد، والمراد بقوله شهادة أن لا إله إلا الله أي وأن محمدا رسول الله كما صرح به في رواية عباد بن عباد في أوائل المواقيت ولفظه: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله " ثم فسرها لهم " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " الحديث. والاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله على إرادة الشهادتين معا لكونها صارت علما على ذلك كما تقدم تقريره في باب زيادة الإيمان، وهذا أيضا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع لأنه أعاد الضمير في قوله ثم فسرها مؤنثا فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرا، وعلى هذا فيقال: كيف قال أربع والمذكورات خمس؟ وقد أجاب عنه القاضي عياض - تبعا لابن بطال - بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين. قال: وكذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض. وقال غيره: قوله: "وأن تعطوا " معطوف على قوله: "بأربع " أي آمركم بأربع وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب إليهم، قال ابن التين: لا يمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع. قلت: ويدل على ذلك لفظ رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة " آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم". وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ويحتمل أن يقال إنه عد الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد أداء الخمس لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال. وقال البيضاوي الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخر حذفها الراوي اختصارا أو نسيانا. كذا قال، وما ذكر أنه الظاهر لعله يحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع لقوله: "وعقد واحدة " وكان القاضي أراد أن يرفع الإشكال من كون الإيمان واحدا والموعود بذكره أربعا، وقد أجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه - وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار - واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته والحكمة في الإجمال

(1/133)


بالعدد قبل التفسير أن تتشوف النفس إلى التفصيل ثم تسكن إليه وأن يحصل حفظها للسامع فإذا نسى شيئا من تفاصيلها طالب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي في حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع. وما ذكره القاضي عياض من أن السبب في كونه لم يذكر الحج في الحديث لأنه لم يكن فرض هو المعتمد، وقد قدمنا الدليل على قدم إسلامهم، لكن جزم القاضي بأن قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكة تبع فيه الواقدي، وليس بجيد، لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح كما سنذكره في موضعه إن شاء الله، ولكن القاضي يختار أن فرض الحج كان سنة تسع حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور ا هـ. وقد احتج الشافعي لكونه على التراخي بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الحج في سنة ثمان وفي سنة تسع ولم يحج إلا في سنة عشر، وأما قول من قال إنه ترك ذكر الحج لكونه على التراخي فليس بجيد، لأن كونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وكذا قول من قال إنما تركه لشهرته عندهم ليس بقوي، لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول من قال: إن ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم، لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية، بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها. لكن يمكن أن يقال إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلا وتركا. ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها. وأما ما وقع في كتاب الصيام من السنن الكبرى للبيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي عن أبي زيد الهروي عن قرة في هذا الحديث من زيادة ذكر الحج ولفظه: "وتحجوا البيت الحرام " ولم يتعرض لعدد فهي رواية شاذة، وقد أخرجه الشيخان ومن استخرج عليهما والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق قرة لم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قلابة تغير حفظه في آخر أمره فلعل هذا مما حدث به في التغير، وهذا بالنسبة لرواية أبي جمرة. وقد ورد ذكر الحج أيضا في مسند الإمام أحمد من رواية أبان العطار عن قتادة عن سعيد بن المسيب - وعن عكرمة - عن ابن عباس في قصة وفد عبد قيس. وعلى تقدير أن يكون ذكر الحج فيه محفوظا فيجمع في الجواب عنه بين الجوابين المتقدمين فيقال: المراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخمس. والله أعلم. قوله: "ونهاهم عن أربع: عن الحنتم الخ" في جواب قوله: "وسألوه عن الأشربة " هو من إطلاق المحل وإرادة الحال، أي ما في الحنتم ونحوه، وصرح بالمراد في رواية النسائي من طريق قره فقال: "وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الحنتم " الحديث. والحنتم بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق هي الجرة، كذا فسرها ابن عمر في صحيح مسلم، وله عن أبي هريرة: الحنتم الجرار الخضر، وروى الحربي في الغريب عن عطاء أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم. والدباء بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد هو القرع، قال النووي: والمراد اليابس منه. وحكى القزاز فيه القصر. والنقير بفتح النون وكسر القاف: أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء. والمزفت بالزاي والفاء ما طلي بالزفت. والمقير بالقاف والياء الأخيرة ما طلي بالقار ويقال له القير، وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت، قاله صاحب المحكم. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال: أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم

(1/134)


يدفنونه حتى يهدر ثم يموت. وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر. وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت. انتهى. وإسناده حسن. وتفسير الصحابي أولى أن يعتمد عليه من غيره لأنه أعلم بالمراد. ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى. قوله: "وأخبروا بهن من وراءكم" بفتح من وهي موصولة، ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معا حقيقة ومجازا. واستنبط منه المصنف الاعتماد على أخبار الآحاد على ما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.

(1/135)


باب ماجاء إن الأعمال بالنية والحسبة
...
3 - باب مَا جَاءَ إِنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فَدَخَلَ فِيهِ الإِيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالأَحْكَامُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} عَلَى نِيَّتِهِ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةٌ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"
54- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
[انظر الحديث رقم 1]
قوله: "باب ما جاء" أي باب بيان ما ورد دالا على أن الأعمال الشرعية معتبرة بالنية والحسبة، والمراد بالحسبة طلب الثواب، ولم يأت بحديث لفظه الأعمال بالنية والحسبة، وإنما استدل بحديث عمر على أن الأعمال بالنية، وبحديث أبي مسعود على أن الأعمال بالحسبة، وقوله: "ولكل امرئ ما نوى " هو بعض حديث الأعمال بالنية. وإنما أدخل قوله والحسبة بين الجملتين للإشارة إلى أن الثانية تفيد ما لا تفيد الأولى. قوله: "فدخل فيه" هو من مقول المصنف، وليس بقية مما ورد. وقد أفصح ابن عساكر في روايته بذلك فقال: قال أبو عبد الله - يعني المصنف - والضمير في فيه يعود على الكلام المتقدم. وتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة المصنف أن الإيمان عمل كما تقدم شرحه. وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب - من خشية الله وعظمته ومحبته والتقرب إليه - لأنها متميزة لله تعالى فلا تحتاج لنية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية. قوله: "والوضوء" أشار به إلى خلاف من لم يشترط فيه النية كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة، ونوقضوا بالتيمم فإنه وسيلة وقد اشترط الحنفية فيه النية، واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه، فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود، وأما الصلاة فلم يختلف في اشتراط النية فيها، وأما الزكاة فإنما تسقط بأخذ السلطان ولو لم ينو =

4.

مجلد 4.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 =صاحب المال لأن السلطان قائم مقامه، وأما الحج فإنما ينصرف إلى فرض من حج عن غيره لدليل خاص وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة، وأما الصوم فأشار به إلى خلاف من زعم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه متميز بنفسه كما نقل عن زفر. وقدم المصنف الحج على الصوم تمسكا بما ورد عنده في حديث: "بني الإسلام " وقد تقدم. قوله: "والأحكام" أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وكل صورة لم يشترط فيها النية فذاك لدليل خاص، وقد ذكر ابن المنير ضابطا لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملائمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب. قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا. ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي، ولذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل. وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن: أحدها التقرب إلى الله فرارا من الرياء، والثاني التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود، والثالث قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. قوله: "وقال الله" قال الكرماني: الظاهر أنها جملة حالية لا عطف، أي والحال أن الله قال. ويحتمل أن تكون للمصاحبة، أي مع أن الله قال. قوله: "على نيته" تفسير منه لقوله: "على شاكلته" بحذف أداة التفسير، وتفسير الشاكلة بالنية صح عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني وقتادة أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم، وعن مجاهد قال: الشاكلة الطريقة أو الناحية، وهذا قول الأكثر، وقيل الدين. وكلها متقاربة. قوله: "ولكن جهاد ونية" هو طرف من حديث لابن عباس أوله " لا هجرة بعد الفتح " وقد وصله المؤلف في الجهاد وغيره من طريق طاوس عنه، وسيأتي.قوله (الأعمال بالنية)كذا أورده من رواية مالك بحذف "إنما" من أوله وقد رواه مسلم عن القعنبي وهو عيد الله بن مسلمة المذكور هنا بإثباتها وتقدم الكلام على نكت من هذا الحديث أول الكتاب
55- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ".
56- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَي امْرَأَتِكَ" .
قوله: "عبد الله بن يزيد" هو الخطمي بفتح المعجمة وسكون الطاء المهملة، وهو صحابي أنصاري روى عن صحابي أنصاري، وسيأتي ذكر أبي مسعود المذكور في باب من شهد بدرا من المغازي، ويأتي الكلام على حديثه في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى. والمقصود منه في هذا الباب قوله: "يحتسبها " قال القرطبي: أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة سواء كانت واجبة أو مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر، لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة لأنها معقولة المعنى، وأطلق الصدقة على النفقة مجازا والمراد بها الأجر، والقرينة

(1/136)


الصارفة عن الحقيقة الإجماع على جواز النفقة على الزوجة الهاشمية التي حرمت عليها الصدقة. قوله: "إنك" الخطاب لسعد، والمراد هو ومن يصح منه الإنفاق. قوله: "وجه الله" أي ما عند الله من الثواب. قوله: "إلا أجرت" يحتاج إلى تقدير لأن الفعل لا يقع استثناء. قوله: "حتى": هي عاطفة وما بعدها منصوب المحل، وما: موصولة والعائد محذوف. قوله: "في فم امرأتك" وللكشميهني: "في في امرأتك " وهي رواية الأكثر، قال القاضي عياض: هي أصوب لأن الأصل حذف الميم بدليل جمعه على أفواه وتصغيره على فويه. قال: وإنما يحسن إثبات الميم عند الإفراد وأما عند الإضافة فلا إلا في لغة قليلة ا هـ. وهذا طرف من حديث سعد بن أبي وقاص في مرضه بمكة وعيادة النبي صلى الله عليه وسلم له وقوله: "أوصى بشطر مالي " الحديث. وسيأتي الكلام عليه في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى، والمراد منه هنا قوله: "تبتغي - أي تطلب - بها وجه الله " واستنبط منه النووي أن الحظ إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه لأن وضع اللقمة في في الزوجة يقع غالبا في حالة المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر. ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله. قلت: وجاء ما هو أصرح في هذا المراد من وضع اللقمة، وهو ما أخرجه مسلم عن أبي ذر فذكر حديثا فيه: "وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام؟ " قال: وإذا كان هذا بهذا المحل - ما فيه من حظ النفس - فما الظن بغيره مما لا حظ للنفس فيه؟ قال: وتمثيله باللقمة مبالغة في تحقيق هذه القاعدة، لأنه إذا ثبت الأجر في لقمة واحدة لزوجة غير مضطرة فما الطن بمن أطعم لقما لمحتاج، أو عمل من الطاعات ما مشقته فوق مشقة ثمن اللقمة الذي هو من الحقارة بالمحل الأدنى اهـ. وتمام هذا أن يقال: وإذا كان هذا في حق الزوجة مع مشاركة الزوج لها في النفع بما يطعمها لأن ذلك يؤثر في حسن بدنها وهو ينتفع منها بذلك، وأيضا فالأغلب أن الإنفاق على الزوجة يقع بداعية النفس، بخلاف غيرها فإنه يحتاج إلى مجاهدتها. والله أعلم.
[الحديث53- أطرافه في: 7556,7266,6176,4369,4368,3510,3095,1398,523,87]
[الحديث 55- طرفاه في: 5351,4006]
[الحديث 56- أطرافه في: 6733,6372,5668,5659,5354,4409,3936,2744,2742,1295]

(1/137)


42- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}
57- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".
[الحديث57- أطرافه في: 7204,275,2714,2157,1401,524,]
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين: النصيحة " هذا الحديث أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة، وما أورده من الآية وحديث جرير يشتمل على ما تضمنه، وقد أخرجه مسلم: حدثنا محمد بن عباد حدثنا سفيان قال قلت لسهيل بن أبي صالح: إن عمرا حدثنا عن القعقاع عن أبيك بحديث، ورجوت أن تسقط عني رجلا - أي فتحدثني به عن أبيك - قال فقال

(1/137)


سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان صديقا له بالشام، وهو عطاء بن يزيد عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة". قلنا: لمن؟ قال: لله عز وجل " الحديث رواه مسلم أيضا من طريق روح بن القاسم قال حدثنا سهيل عن عطاء بن يزيد أنه سمعه وهو يحدث أبا صالح فذكره، ورواه ابن خزيمة من حديث جرير عن سهيل أن أباه حدث عن أبي هريرة بحديث: "إن الله يرضى لكم ثلاثا " الحديث. قال فقال عطاء بن يزيد: سمعت تميما الداري يقول. فذكر حديث النصيحة. وقد روى حديث النصيحة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وهو وهم من سهيل أو ممن روى عنه لما بيناه، قال البخاري في تاريخه: لا يصح إلا عن تميم. ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه في صحيحه، بل لم يحتج فيه بسهيل أصلا. وللحديث طرق دون هذه في القوة، منها ما أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس والبزار من حديث ابن عمر، وقد بينت جميع ذلك في " تعليق التعليق". قوله: "الدين: النصيحة" يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي معظم الدين النصيحة، كما قيل في حديث: "الحج عرفة"، ويحتمل أن يحمل على ظاهره لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين. وقال المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له. أو مشتقة من النصح وهي الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه. قال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام، بل ليس في الكلام كلمة مفردة تستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة. وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها إنها أحد أرباع الدين، وممن عده فيها الإمام محمد بن أسلم الطوسي. وقال النووي: بل هو وحده محصل لغرض الدين كله، لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها: فالنصيحة لله وصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهرا وباطنا، والرغبة في محابه بفعل طاعته، والرهبة من مساخطة بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه. وروى الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة صاحب على قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله من الناصح لله؟ قال: الذي يقدم حق الله على حق الناس. والنصيحة لكتاب الله تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه. والنصيحة لرسوله تعظيمه، ونصره حيا وميتا، وإحياء سنته بتعلمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله، ومحبته ومحبة أتباعه. والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن. ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم. والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. وفي الحديث فوائد أخرى: منها أن الدين يطلق على العمل لكونه سمي النصيحة دينا، وعلى هذا المعنى بنى المصنف أكثر كتاب الإيمان، ومنها جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب من قوله: "قلنا لمن "؟ ومنها رغبة السلف في طلب علو الإسناد، وهو مستفاد من قصة سفيان مع سهيل. قوله: "عن جرير بن عبد الله" هو البجلي بفتح الجيم، وقيس الراوي عنه وإسماعيل الراوي عن قيس بجليان أيضا، وكل منهم يكنى أبا عبد الله، وكلهم كوفيون. قوله: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال القاضي عياض: اقتصر على الصلاة والزكاة لشهرتهما، ولم يذكر

(1/138)


الصوم وغيره لدخول ذلك في السمع والطاعة. قلت: زيادة السمع والطاعة وقعت عند المصنف في البيوع من طريق سفيان عن إسماعيل المذكور، وله في الأحكام، ولمسلم من طريق الشعبي عن جرير قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني " فيما استطعت، والنصح لكل مسلم: " ورواه ابن حبان من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جده وزاد فيه: فكان جرير إذا اشترى شيئا أو باع يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه فاختر. وروى الطبراني في ترجمته أن غلامه اشترى به فرسا بثلاثمائة، فلما رآه جاء إلى صاحبه فقال: إن فرسك خير من ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة. قال القرطبي: كانت مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بحسب ما يحتاج إليه من تجديد عهد أو توكيد أمر، فلذلك اختلفت ألفاظهم. وقوله: فيما استطعت رويناه بفتح التاء وضمها، وتوجيههما واضح، والمقصود بهذا التنبيه على أن اللازم من الأمور المبايع عليها هو ما يطاق، كما هو المشترط في أصل التكليف، ويشعر الأمر بقول ذلك اللفظ حال المبايعة بالعفو عن الهفوة وما يقع عن خطأ وسهو. والله أعلم.
58-حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ "سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمْ الْآنَ ثُمَّ قَالَ اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ".
قوله: "سمعت جرير بن عبد الله" المسموع من جرير حمدا لله والثناء عليه، فالتقدير: سمعت جريرا حمدا لله، والباقي شرح للكيفية. قوله: "يوم مات المغيرة بن شعبة" كان المغيرة واليا على الكوفة في خلافة معاوية، وكانت وفاته سنة خمسين من الهجرة، واستناب عند موته ابنه عروة، وقيل استناب جرير المذكور، ولهذا خطب الخطبة المذكورة، حكى ذلك العلاني في أخبار زياد. والوقار: بالفتح الرزانة، والسكينة: السكون. ىوإنما أمرهم بذلك مقدما لتقوى الله، لأن الغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الاضطراب والفتنة، ولا سيما ما كان عليه أهل الكوفة إذ ذاك من مخالفة ولاة الأمور. قوله: "حتى يأتيكم أمير" أي بدل الأمير الذي مات. ومفهوم الغاية هنا، وهو أن المأمور به ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادا، بل يلزم ذلك بعد مجيء الأمير بطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة أن لا يعارضه مفهوم الموافقة. قوله: "الآن" أراد به تقريب المدة تسهيلا عليهم، وكان كذلك، لأن معاوية لما بلغه موت المغيرة كتب إلى نائبه على البصرة وهو زياد أن يسير إلى الكوفة أميرا عليها. قوله: "استعفوا لأميركم" أي اطلبوا له العفو من الله، كذا في معظم الروايات بالعين المهملة. وفي رواية ابن عساكر: "استغفروا " بغين معجمة وزيادة راء وهي رواية الإسماعيلي في المستخرج. قوله: "فإنه كان يحب العفو" فيه إشارة إلى أن الجزاء يقع من جنس العمل. قوله: "قلت أبايعك" ترك أداة العطف إما لأنه بدل من أتيت أو استئناف. قوله: "والنصح" بالخفض عطفا على الإسلام، ويجوز نصبه عطفا على مقدر، أي شرط على الإسلام والنصيحة، وفيه دليل على كمال شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: "على هذا" أي على ما ذكر. قوله: "ورب هذا المسجد" مشعر بأن خطبته كانت في المسجد،

(1/139)


ويجوز أن يكون أشار إلى جهة المسجد الحرام، ويدل عليه رواية الطبراني بلفظ: "ورب الكعبة " وذكر ذلك للتنبيه على شرف المقسم به ليكون أدعى للقبول. قوله: "لناصح" إشارة إلى أنه وفي بما بايع عليه الرسول، وأن كلامه خالص عن الغرض. قوله: "ونزل" مشعر بأنه خطب على المنبر، أو المراد قعد لأنه في مقابلة قوله: قام فحمد الله تعالى. "فائدة": التقييد بالمسلم للأغلب، وإلا فالنصح للكافر معتبر بأن يدعى إلى الإسلام ويشار عليه بالصواب إذا استشار. واختلف العلماء في البيع على بيعه ونحو ذلك فجزم أحمد أن ذلك يختص بالمسلمين واحتج بهذا الحديث. "فائدة أخرى": ختم البخاري كتاب الإيمان بباب النصيحة مشيرا إلى أنه عمل بمقتضاه في الإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح دون السقيم، ثم ختمه بخطبة جرير المتضمنة لشرح حاله في تصنيفه فأومأ بقوله: "فإنما يأتيكم الآن " إلى وجوب التمسك بالشرائع حتى يأتي من يقيمها، إذ لا تزال طائفة منصورة، وهم فقهاء أصحاب الحديث. وبقوله: "استعفوا لأميركم " إلى طلب الدعاء له لعمله الفاضل. ثم ختم بقول " استغفر ونزل " فأشعر بختم الباب. ثم عقبه بكتاب العلم لما دل عليه حديث النصيحة أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الإيمان ومقدمته من بدء الوحي من الأحاديث المرفوعة على أحد وثمانين حديثا بالمكرر منها في بدء الوحي خمسة عشر، وفي الإيمان ستة وستون، المكرر منها ثلاثة وثلاثون، منها في المتابعات بصيغة المتابعة أو التعليق اثنان وعشرون، في بدء الوحي ثمانية، وفي الإيمان أربعة عشر، ومن الموصول المكرر ثمانية، ومن التعليق الذي لم يوصل في مكان آخر ثلاثة، وبقية ذلك وهي ثمانية وأربعون حديثا موصولة بغير تكرير. وقد وافقه مسلم على تخريجها إلا سبعة وهي: الشعبي عن عبد الله بن عمرو في: المسلم والمهاجر، والأعرج عن أبي هريرة في: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، وابن أبي صعصعة عن أبي سعيد في: الفرار من الفتن، وأنس عن عبادة في ليلة القدر، وسعيد عن أبي هريرة في: الدين يسر، والأحنف عن أبي بكرة في القاتل والمقتول، وهشام عن أبيه عن عائشة في: أنا أعلمكم بالله. وجميع ما فيه من الموقوفات على الصحابة والتابعين ثلاثة عشر أثرا معلقة، غير أثر ابن الناطور فهو موصول. وكذا خطبة جرير التي ختم بها كتاب الإيمان. والله أعلم.

(1/140)


كتاب العلم
باب فضل العلم
...
1- باب فَضْلِ الْعِلْمِ
2- وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
قوله: "كتاب العلم. بسم الله الرحمن الرحيم. باب فضل العلم" هكذا في رواية الأصيلي وكريمة وغيرهما. وفي رواية أبي ذر تقديم البسملة، وقد قدمنا توجيه ذلك في كتاب الإيمان. وليس في رواية المستملي لفظ باب ولا في رواية رفيقه لفظ كتاب العلم. "فائدة": قال القاضي أبو بكر بن العربي: بدأ المصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته، وذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح فلا يحتاج إلى تعريف، أو لأن النظر في حقائق الأشياء

(1/140)


القديمة، فإنهم يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه إذا كانت حقيقته مكشوفة معلومة. وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدى لتعريف العلم وقال: هو أبين من أن يبين. قلت: وهذه طريقة الغزالي وشيخه الإمام أن العلم لا يحد لوضوحه أو لعسره. قوله: "وقول الله عز وجل" ضبطناه في الأصول بالرفع عطفا على كتاب أو على الاستئناف. قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم. ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة. وفي صحيح مسلم عن نافع بن عبد الحارث الخزاعي - وكان عامل عمر على مكة - أنه لقيه بعسفان فقال له: من استخلفت؟ فقال: استخلفت ابن أبزى مولى لنا. فقال عمر: استخلفت مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين". وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى :{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قال بالعلم. قوله: "وقوله عز وجل :{رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائض، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه، وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع. الثلاثة بنصيب، فرضي الله عن مصنفه، وأعاننا على ما تصدينا له من توضيحه بمنه وكرمه. فإن قيل: لم لم يورد المصنف في هذا الباب شيئا من الحديث؟ فالجواب أنه إما أن يكون اكتفى بالآيتين الكريمتين، وإما بيض له ليلحق فيه ما يناسبه فلم يتيسر، وإما أورد فيه حديث ابن عمر الآتي بعد باب رفع العلم ويكون وضعه هناك من تصرف بعض الرواة، وفيه نظر على ما سنبينه هناك إن شاء الله تعالى. ونقل الكرماني عن بعض أهل الشام أن البخاري بوب الأبواب وترجم التراجم وكتب الأحاديث وربما بيض لبعضها ليلحقه. وعن بعض أهل العراق أنه تعمد بعد الترجمة عدم إيراد الحديث إشارة إلى أنه لم يثبت فيه شيء عنده على شرطه. قلت: والذي يظهر لي أن هذا محله حيث لا يورد فيه آية أو أثرا. أما إذا أورد آية أو أثرا فهو إشارة منه إلى ما ورد في تفسير تلك الآية، وأنه لم يثبت فيه شيء على شرطه، وما دلت عليه الآية كاف في الباب، وإلى أن الأثر الوارد في ذلك يقوي به طريق المرفوع وإن لم يصل في القوة إلى شرطه. والأحاديث في فضل العلم كثيرة، صحح مسلم منها حديث أبي هريرة رفعه: "من التمس طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة". ولم يخرجه البخاري لأنه اختلف فيه على الأعمش، والراجح أنه بينه وبين أبي صالح فيه واسطة. والله أعلم.

(1/141)


2- باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ
59- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ ح و حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ

(1/141)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ "أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ" قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "فَإِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ" قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ".
قوله: "باب من سئل علما وهو مشتغل" محصله التنبيه على أدب العالم والمتعلم، أما العالم فلما تضمنه من ترك زجر السائل، بل أدبه بالإعراض عنه أولا حتى استوفى ما كان فيه، ثم رجع إلى جوابه فرفق به لأنه من الأعراب وهم جفاة. وفي العناية جواب سؤال السائل ولو لم يكن السؤال متعينا ولا الجواب، وأما المتعلم فلما تضمنه من أدب السائل أن لا يسأل العالم وهو مشتغل بغيره لأن حق الأول مقدم. ويؤخذ منه أخذ الدروس على السبق، وكذلك الفتاوى والحكومات ونحوها. وفيه مراجعة العالم إذا لم يفهم ما يجيب به حتى يتضح، لقوله: "كيف إضاعتها، وبوب عليه ابن حبان: "إباحة إعفاء المسئول عن الإجابة على الفور " ولكن سياق القصة يدل على أن ذلك ليس على الإطلاق، وفيه إشارة إلى أن العلم سؤال وجواب، ومن ثم قيل حسن السؤال نصف العلم، وقد أخذ بظاهر هذه القصة مالك وأحمد وغيرهما في الخطبة فقالوا: لا نقطع الخطبة لسؤال سائل، بل إذا فرغ نجيبه. وفصل الجمهور بين أن يقع ذلك في أثناء واجباتها فيؤخر الجواب، أو في غير الواجبات فيجيب. والأولى حينئذ التفصيل، فإن كان مما يهتم به في أمر الدين، ولا سيما إن اختص بالسائل فيستحب إجابته ثم يتم الخطبة، وكذا بين الخطبة والصلاة، وإن كان بخلاف ذلك فيؤخر، وكذا قد يقع في أثناء الواجب ما يقتضي تقديم الجواب، لكن إذا أجاب استأنف على الأصح، ويؤخذ ذلك كله من اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك، فإن كان السؤال من الأمور التي ليست معرفتها على الفور مهمة فيؤخر كما في هذا الحديث، ولا سيما إن كان ترك السؤال عن ذلك أولى. وقد وقع نظيره في الذي سأل عن الساعة وأقيمت الصلاة، فلما فرغ من الصلاة قال: أين السائل؟ فأجابه. أخرجاه. وإن كان السائل به ضرورة ناجزة فتقدم إجابته، كما في حديث أبي رفاعة عند مسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: رجل غريب لا يدري دينه جاء يسأل عن دينه، فترك خطبته وأتى بكرسي فقعد عليه فجعل يعلمه، ثم أتى خطبته فأتم آخرها. وكما في حديث سمرة عند أحمد أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب. وكما في الصحيحين في قصة سالم لما دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: أصليت ركعتين؟ الحديث، وسيأتي في الجمعة. وفي حديث أنس: كانت الصلاة تقام فيعرض الرجل فيحدث النبي صلى الله عليه وسلم حتى ربما نعس بعض القوم، ثم يدخل في الصلاة، وفي بعض طرقه وقوع ذلك بين الخطبة والصلاة. قوله: "فليح" بصيغة التصغير هو ابن سليمان أبو يحيى المدني، من طبقة مالك وهو صدوق، تكلم بعض الأئمة في حفظه، ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه. وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده وهذا منها. وإنما أورده عاليا عن فليح بواسطة محمد بن سنان فقط ثم أورده نازلا بواسطة محمد بن فليح وإبراهيم بن المنذر عن محمد لأنه أورده في كتاب الرقاق عن محمد بن سنان فقط، فأراد أن يعيد هنا طريقا أخرى، ولأجل نزولها قرنها بالرواية الأخرى. وهلال بن علي يقال له هلال بن أبي
ـــــــ
(1) كذا في النسخ, وصوابه"سليك" كما في صحيح مسلم

(1/142)


ميمونة وهلال بن أبي هلال، فقد يظن ثلاثة وهو واحد، وهو من صغار التابعين، وشيخه في هذا الحديث من أوساطهم. قوله: "يحدث" هو خبر المبتدأ وحذف مفعوله الثاني لدلالة السياق عليه. والقوم الرجال. وقد يدخل فيه النساء تبعا. قوله: "جاء أعرابي" لم أقف على تسميته. قوله: "فمضى" أي استمر يحدثه، كذا في رواية المستملي والحموي بزيادة هاء، وليست في رواية الباقين، وإن ثبتت فالمعنى يحدث القوم الحديث الذي كان فيه وليس الضمير عائدا على الأعرابي. قوله: "فقال بعض القوم سمع ما قال" إنما حصل لهم التردد في ذلك لما ظهر من عدم التفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها، وقد تبين عدم انحصار ترك الجواب في الأمرين المذكورين، بل احتمل كما تقدم أن يكون أخره ليكمل الحديث الذي هو فيه، أو أخر جوابه ليوحي إليه به. قوله: "قال أين أراه السائل" بالرفع على الحكاية، وأراه بالضم أي أظنه، والشك من محمد بن فليح. ورواه الحسن بن سفيان وغيره عن عثمان بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن فليح ولفظه: "أين السائل " ولم يشك. قوله: "إذا وسد" أي أسند، وأصله من الوسادة، وكان من شأن الأمير عندهم إذا جلس أن تثنى تحته وسادة، فقوله وسد أي جعل له غير أهله وسادا، فتكون إلى بمعنى اللام وأتى بها ليدل على تضمين معنى أسند. ولفظ محمد بن سنان في الرقاق " إذا أسند " وكذا رواه يونس بن محمد وغيره عن فليح. ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط ومقتضاه أن العلم ما دام قائما ففي الأمر فسحة. وكأن المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر، تلميحا لما روى عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر " وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في الرقاق إن شاء الله تعالى.

(1/143)


3- بَاب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ
60- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ "تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا
[الحديث 60- طرفاه في: 163,96]
قوله: "باب من رفع صوته بالعلم حدثنا أبو النعمان" زاد الكشميهني في رواية كريمة عنه: عارم بن الفضل، وعارم لقب، واسمه محمد كما تقدم في المقدمة. قوله: "ماهك" بفتح الهاء وحكى كسرها وهو غير منصرف عند الأكثرين للعلمية والعجمة، ورواه الأصيلي منصرفا فكأنه لحظ فيه الوصف. واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله: "فنادى بأعلى صوته " وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته. الحديث: "أخرجه مسلم. ولأحمد من حديث النعمان في معناه وزاد: "حتى لو أن رجلا بالسوق لسمعه " واستدل به أيضا على مشروعية إعادة الحديث ليفهم، وسيأتي الكلام على مباحث المتن في كتاب الوضوء إن شاء الله تعالى. قال ابن رشيد: في هذا التبويب رمز من المصنف إلى أنه يربد أن يبلغ الغاية في تدوين

(1/143)


هذا الكتاب بأن يستفرغ وسعه في حسن ترتيبه، وكذلك فعل رحمه الله تعالى.

(1/144)


باب قول المحدث "حدثنا " أو " أخبرنا " و " أنبأنا "
...
4 - باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا
وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ "حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ" وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً" وَقَالَ حُذَيْفَةُ "حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ" وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ" وَقَالَ أَنَسٌ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ"
قوله: "باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا" قال ابن رشيد: أشار بهذه الترجمة إلى أنه بنى كتابه على المسندات المرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ومراده: هل هذه الألفاظ بمعنى واحد أم لا؟ وإيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره. قوله: "وقال الحميدي" في رواية كريمة والأصيلي: "وقال لنا الحميدي " وكذا ذكره أبو نعيم في المستخرج، فهو متصل. وسقط من رواية كريمة قوله: "وأنبأنا " ومن رواية الأصيلي قوله: "أخبرنا " وثبت الجميع في رواية أبي ذر. قوله: "وقال ابن مسعود" هذا التعليق طرف من الحديث المشهور في خلق الجنين، وقد وصله المصنف في كتاب القدر، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال شقيق" هو أبو وائل "عن عبد الله" هو ابن مسعود، سيأتي موصولا أيضا حيث ذكره المصنف في كتاب الجنائز، ويأتي أيضا حديث حذيفة في كتاب الرقاق. ومراده من هذه التعاليق أن الصحابي قال تارة " حدثنا " وتارة " سمعت " فدل على أنهم لم يفرقوا بين الصيغ. وأما أحاديث ابن عباس وأنس وأبي هريرة في رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فقد وصلها في كتاب التوحيد، وأراد بذكرها هنا التنبيه على العنعنة، وأن حكمها الوصل عند ثبوت اللقي، وأشار على ما ذكره ابن رشيد إلى أن رواية النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي عن ربه سواء صرح الصحابي بذلك أم لا، ويدل له حديث ابن عباس المذكور فإنه لم يقل فيه في بعض المواضع " عن ربه " ولكنه اختصار فيحتاج إلى التقدير. قلت: ويستفاد من الحكم بصحة ما كان ذلك سبيله صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة، لأن الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ربه فيما لم يكلمه به مثل ليلة الإسراء جبريل وهو مقبول قطعا، والواسطة بين الصحابي وبين النبي صلى الله عليه وسلم مقبول اتفاقا وهو صحابي آخر، وهذا في أحاديث الأحكام دون غيرها، فإن بعض الصحابة ربما حملها عن بعض التابعين مثل كعب الأحبار. "تنبيه": أبو العالية المذكور هنا هو الرياحي بالياء الأخيرة، واسمه رفيع بضم الراء. من زعم أنه البراء بالراء الثقيلة فقد وهم، فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دونه. فإن قيل: فمن أين تظهر مناسبة حديث ابن عمر للترجمة، ومحصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصريحة، وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور؟ فالجواب أن ذلك يستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ رواية عبد الله بن دينار المذكور في الباب: "فحدثوني ما هي " وفي رواية نافع عند المؤلف في التفسير " أخبروني " وفي رواية عند الإسماعيلي: "أنبئوني " وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم " حدثوني ما هي " وقال فيها " فقالوا أخبرنا بها " فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل

(1/144)


العلم بالنسبة إلى اللغة، ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى :{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} وقوله تعالى :{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف: فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة. ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان وابن منده وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل: فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج والأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق. ثم أحدث أتباعهم تفصيلا آخر: فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: "حدثني " ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال: "أخبرني"، ومن سمع بقراءة غيره جمع. وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، كل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل. وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب: فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته. نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين.
61-حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ" فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "هِيَ النَّخْلَةُ".
[الحديث 61- أطرافه في:6144,6122,5448,5444,4698,2209,121,72,62]
قوله: "إن من الشجر شجرة" زاد في رواية مجاهد عند المصنف في " باب الفهم في العلم " قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى بجمار وقال: إن من الشجر". وله عنه في البيوع " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جمارا. قوله: "لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم" كذا في رواية أبي ذر بكسر ميم مثل وإسكان المثلثة. وفي رواية الأصيلي وكريمة بفتحها وهما بمعنى، قال الجوهري: مثله ومثله كلمة تسوية كما يقال شبهه وشبهه بمعنى، قال: والمثل بالتحريك أيضا ما يضرب من الأمثال. انتهى. ووجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق ما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه: "قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة، أتدرون ما هي؟" قالوا: لا. قال: "هي النخلة، لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن دعوة". ووقع عند المصنف في الأطعمة من طريق الأعمش قال: حدثني مجاهد عن ابن عمر قال: "بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى بجمار، فقال: "إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم: " وهذا أعم من الذي قبله، وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا

(1/145)


يخفى، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته. ووقع عند المصنف في التفسير من طريق نافع عن ابن عمر قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا " كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء، فقيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيؤها ولا يبطل نفعها. ووقع في رواية مسلم ذكر النفي مرة واحدة فظن إبراهيم بن سفيان الراوي عنه أنه متعلق بما بعده وهو قوله: "تؤتي أكلها " فاستشكله وقال: لعل " لا " زائدة ولعله " وتؤتي أكلها"، وليس كما ظن، بل معمول النفي محذوف على سبيل الاكتفاء كما بيناه. وقوله: "تؤتي " ابتداء كلام على سبيل التفسير لما تقدم. ووقع عند الإسماعيلي بتقديم " تؤتي أكلها كل حين " على قوله: "لا يتحات ورقها " فسلم من الإشكال. قوله: "فوقع الناس" أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة، يقال وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها. قوله: "قال عبد الله" هو ابن عمر الراوي. قوله: "ووقع في نفسي" بين أبو عوانة في صحيحه من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال: فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به، وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه. قوله: "فاستحييت" زاد في رواية مجاهد في " باب الفهم في العلم"؛ فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم. وله في الأطعمة: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم. وفي رواية نافع: ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار عند المؤلف في " باب الحياء في العلم " قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا وكذا. زاد ابن حبان في صحيحه: أحسبه قال: حمر النعم. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه. وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات - قال الأوزاعي أحد رواته: هي صعاب المسائل - فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول أو تعجيزه، وفيه التحريض على الفهم في العلم، وقد بوب عليه المؤلف " باب الفهم في العلم". وفيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت، وقد بوب عليه المؤلف في العلم وفي الأدب. وفيه دليل على بركة النخلة وما يثمره، وقد بوب عليه المصنف أيضا. وفيه دليل أن بيع الجمار جائز، لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه، ولهذا بوب عليه المؤلف في البيوع. وتعقبه ابن بطال لكونه من المجمع عليه، وأجيب بأن ذلك لا يمنع من التنبيه عليه لأنه أورده عقب حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فكأنه يقول: لعل متخيلا يتخيل أن هذا من ذاك، وليس كذلك. وفيه دليل على جواز تجمير النخل، وقد بوب عليه في الأطعمة لئلا يظن أن ذلك من باب إضاعة المال. وأورده في تفسير قوله تعالى :{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} إشارة منه إلى أن المراد بالشجرة النخلة. وقد ورد صريحا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذه الآية فقال: "أتدرون ما هي؟" قال ابن عمر: لم يخف على أنها النخلة، فمنعني أن أتكلم مكان سني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة" . ويجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالجمار فشرع في أكله تاليا للآية قائلا: إن من الشجر شجرة إلى آخره. ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يخبرني عن شجرة مثلها مثل

(1/146)


المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ فذكر الحديث. وهو يؤيد رواية البزار، قال القرطبي: فوقع التشبيه بينهما من جهة أن أصل دين المسلم ثابت، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب، وأنه لا يزال مستورا بدينه، وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيا وميتا، انتهى. وقال غيره: والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله، وروى البزار أيضا من طريق سفيان بن حسين عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن مثل النخلة، ما أتاك منها نفعك " هكذا أورده مختصرا وإسناده صحيح، وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة. وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت، أو لأنها لا تحمل حتى تلقح، أو لأنها تموت إذا غرقت، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة، لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختص بالمسلم، وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضلة طين آدم فإن الحديث في ذلك لم يثبت، والله أعلم. وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة. وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله. وفيه توقير الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول، وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب. وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه، لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء. واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله، وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور، ووجه تمني عمر رضي الله عنه ما طبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم. وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها. "فائدة": قال البزار في مسنده: ولم يرو هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا ابن عمر وحده، ولما ذكره الترمذي قال: وفي الباب عن أبي هريرة وأشار بذلك إلى حديث مختصر لأبي هريرة أورده عبد بن حمد في تفسيره لفظه: "مثل المؤمن مثل النخلة" ، وعند الترمذي أيضا والنسائي وابن حبان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: "ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة" قال: "هي النخلة " تفرد برفعه حماد بن سلمة، وقد تقدم أن في رواية مجاهد عن ابن عمر أنه كان عاشر عشرة، فاستفدنا من مجموع ما ذكرناه أن منهم أبا بكر وعمر وابن عمر، وأبا هريرة وأنس بن مالك إن كانا سمعا ما روياه من هذا الحديث في ذلك المجلس. والله أعلم.

(1/147)


باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ماعندهم من العلم
...
5- باب طَرْحِ الإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ
62- حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن من الشجر شجرة لايسقط ورقها وإنها مثل المسلم,حدثوني ماهي؟" قال فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة ثم قالوا حدثنا ماهي يارسول الله؟ قال: "هي النخلة"
قوله: "باب طرح الإمام المسألة" أورد فيه حديث ابن عمر المذكور بلفظ قريب من لفظ الذي قبله، وإنما

(1/147)


أورده بإسناد آخر إيثارا لابتداء فائدة تدفع اعتراض من يدعي عليه التكرار بلا فائدة. وأما دعوى الكرماني أنه لمراعاة صنيع مشايخه في تراجم مصنفاتهم، وأن رواية قتيبة هنا كانت في بيان معنى التحديث والإخبار، ورواية خالد كانت في بيان طرح الإمام المسألة، فذكر الحديث في كل موضع عن شيخه الذي روى له الحديث لذلك الأمر، فإنها غير مقبولة، ولم نجد عن أحد ممن عرف حال البخاري وسعة علمه وجودة تصرفه حكى أنه كان يقلد في التراجم، ولو كان كذلك لم يكن له مزية على غيره. وقد توارد النقل عن كثير من الأئمة أن من جملة ما امتاز به كتاب البخاري دقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه. والذي ادعاه الكرماني يقتضي أنه لا مزية له في ذلك لأنه مقلد فيه لمشايخه. ووراء ذلك أن كلا من قتيبة وخالد بن مخلد لم يذكر لأحد منهما ممن صنف في بيان حالهما أن له تصنيفا على الأبواب فضلا عن التدقيق في التراجم. وقد أعاد الكرماني هذا الكلام في شرحه مرارا، ولم أجد له سلفا في ذلك. والله المستعان. وراوية عن عبد الله بن دينار سليمان هو ابن بلال المدني الفقيه المشهور، ولما أجده من روايته إلا عند البخاري، ولم يقع لأحد ممن استخرج عليه، حتى أن أبا نعيم إنما أورده في المستخرج من طريق الفربري عن البخاري نفسه. وقد وجدته من رواية خالد بن مخلد الراوي عن سليمان المذكور أخرجه أبو عوانة في صحيحه، لكنه قال: "عن مالك " بدل سليمان بن بلال، فإن كان محفوظا فلخالد فيه شيخان. وقد وقع التصريح بسماع عبد الله بن دينار له من عبد الله بن عمر عند مسلم وغيره.

(1/148)


باب ماجاء في العلم ، وقوله تعالى { وقل رب زدني علما }
...
3 - باب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ قَالَ "نَعَمْ" قَالَ فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لاَ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ"
63- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَدْ أَجَبْتُكَ" فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ فَقَالَ "سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ" فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ

(1/148)


وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ أَاللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَقَالَ "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ قَالَ "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا".
قوله: "باب القراءة والعرض على المحدث" إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص، لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة. وتوسع فيه بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه فنظر فيه وعرف صحته وأذن له أن يرويه عنه من غير أن يحدثه به أو يقرأه الطالب عليه. والحق أن هذا يسمى عرض المناولة بالتقييد لا الإطلاق. وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يقرأ عليهم، ولهذا بوب البخاري على جوازه وأورد فيه قول الحسن - وهو البصري - لا بأس بالقراءة على العالم. ثم أسنده إليه بعد أن علقه وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك موصولا أنهما سويا بين السماع من العالم والقراءة عليه. لاوقوله: "جائزا " وقع في رواية أبي ذر " جائزة " أي القراءة، لأن السماع لا نزاع فيه. قوله: "واحتج بعضهم" المحتج بذلك هو الحميدي شيخ البخاري قاله في كتاب النوادر له، كذا قال بعض من أدركته وتبعته في المقدمة، ثم ظهر لي خلافه وأن قائل ذلك أبو سعيد الحداد، أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق ابن خزيمة قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قال أبو سعيد الحداد: عندي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم. فقيل له، فقال: قصة ضمام بن ثعلبة قال: آلله أمرك بهذا؟ قال نعم. انتهى. وليس في المتن الذي ساقه البخاري بعد من حديث أنس في قصة ضمام أن ضماما أخبر قومه بذلك، وإنما وقع ذلك من طريق أخرى ذكرها أحمد وغيره من طريق ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره أن ضماما قال لقومه عندما رجع إليهم: "إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه " قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. فمعنى قول البخاري " فأجازوه " أي قبلوه منه، ولم يقصد الإجازة المصطلحة بين أهل الحديث. قوله: "واحتج مالك بالصك" قال الجوهري: الصك - يعني بالفتح - الكتاب، فارسي معرب. والجمع صكاك وصكوك. والمراد هنا المكتوب الذي يكتب فيه إقرار المقر، لأنه إذا قرئ عليه فقال: "نعم " ساغت الشهادة عليه به وإن لم يتلفظ هو بما فيه، فكذلك إذا قرئ على العالم فأقر به صح أن يروى عنه. وأما قياس مالك قراءة الحديث على قراءة القرآن فرواه الخطيب في الكفاية من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكا، وسئل عن الكتب التي تعرض عليه أيقول الرجل حدثني؟ قال: نعم، كذلك القرآن. أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأني فلان؟ وروى الحاكم في علوم الحديث من طريق مطرف قال: صحبت مالكا سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ الموطأ على أحد، بل يقرءون عليه.

(1/149)


قال: وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول: لا يجزيه إلا السماع من لفظ الشيخ، ويقول: كيف لا يجزيك هذا في الحديث، ويجزيك في القرآن، والقرآن أعظم؟ قلت: وقد انقرض الخلاف في كون القراءة على الشيخ لا تجزي، وإنما كان يقوله بعض المتشددين من أهل العراق، فروى الخطيب عن إبراهيم بن سعد قال: لا تدعون تنطعكم يا أهل العراق، العرض مثل السماع. وبالغ بعض المدنيين وغيرهم في مخالفتهم فقالوا: إن القراءة على الشيخ أرفع من السماع من لفظه، ونقله الدارقطني في غرائب مالك عنه، ونقله الخطيب بأسانيد صحيحة عن شعبة وابن أبي ذئب ويحيى القطان. واعتلوا بأن الشيخ لو سها لم يتهيأ للطالب الرد عليه. وعن أبي عبيد قال: القراءة علي أثبت وأفهم لي من أن أتولى القراءة أنا. والمعروف عن مالك كما نقله المصنف عنه وعن سفيان - وهو الثوري - أنهما سواء، والمشهور الذي عليه الجمهور أن السماع من لفظ الشيخ أرفع رتبة من القراءة عليه. ما لم يعرض عارض يصير القراءة عليه أولى، ومن ثم كان السماع من لفظه في الإملاء أرفع الدرجات لما يلزم منه من تحرز الشيخ والطالب. والله أعلم. قوله: "عن الحسن قال: لا بأس بالقراءة على العالم" هذا الأثر رواه الخطيب أتم سياقا مما هنا، فأخرج من طريق أحمد بن حنبل عن محمد بن الحسن الواسطي عن عوف الأعرابي أن رجلا سأل الحسن فقال: يا أبا سعيد منزلي بعيد، والاختلاف يشق علي، فإن لم تكن ترى بالقراءة بأسا قرأت عليك. قال: ما أبالي قرأت عليك أو قرأت علي. قال: فأقول حدثني الحسن؟ قال: نعم، قل حدثني الحسن. ورواه أبو الفضل السليماني في كتاب الحث على طلب الحديث من طريق سهل بن المتوكل قال: حدثنا محمد بن سلام، بلفظ: "قلنا للحسن: هذه الكتب التي تقرأ عليك أيش نقول فيها؟ قال: قولوا: حدثنا الحسن". قوله: "الليث عن سعيد" في رواية الإسماعيلي من طريق يونس بن محمد عن الليث حدثني سعيد، وكذا لابن منده من طريق ابن وهب عن الليث، وفي هذا دليل على أن رواية النسائي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن الليث قال: حدثني محمد بن عجلان وغيره عن سعيد موهومة معدودة من المزيد في متصل الأسانيد، أو يحمل على أن الليث سمعه عن سعيد بواسطة ثم لقيه فحدثه به. وفيه اختلاف آخر أخرجه النسائي والبغوي من طريق الحارث بن عمير عن عبيد الله بن عمر، وذكره ابن منده عن طريق الضحاك بن عثمان كلاهما عن سعيد عن أبي هريرة، ولم يقدح هذا الاختلاف فيه عند البخاري لأن الليث أثبتهم في سعيد المقبري مع احتمال أن يكون لسعيد فيه شيخان، لكن تترجح رواية الليث بأن المقبري عن أبي هريرة جادة مألوفة فلا يعدل عنها إلى غيرها إلا من كان ضابطا متثبتا، ومن ثم قال ابن أبي حاتم عن أبيه: رواية الضحاك وهم. وقال الدارقطني في العلل: رواه عبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله والضحاك بن عثمان عن المقبري عن أبي هريرة ووهموا فيه والقول قول الليث. أما مسلم فلم يخرجه من هذا الوجه بل أخرجه من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس، وقد أشار إليها المصنف عقب هذه الطريق. وما فر منه مسلم وقع في نظيره، فإن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت وقد روى هذا الحديث عن ثابت فأرسله، ورجح الدارقطني رواية حماد. قوله: "ابن أبي نمر" هو بفتح النون وكسر الميم، لا يعرف اسمه، ذكره ابن سعد في الصحابة. وأخرج له ابن السكن حديثا، وأغفله ابن الأثير تبعا لأصوله. قوله. : "في المسجد" أي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ" فيه جواز اتكاء الإمام بين أتباعه، وفيه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من ترك التكبر لقوله بين ظهرانيهم، وهي بفتح النون أي بينهم، وزيد لفظ الظهر ليدل على أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه، فهو محفوف بهم من جانبيه،

(1/150)


والألف والنون فيه للتأكيد قاله صاحب الفائق. ووقع في رواية موسى بن إسماعيل الآتي ذكرها آخر هذا الحديث في أوله: "عن أنس قال: نهينا في القرآن أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل " وكان أنسا أشار إلى آية المائدة، وسيأتي بسط القول فيها في التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: "دخل" زاد الأصيلي قبلها " إذ". قوله: "ثم عقله" بتخفيف القاف أي شد على ساق الجمل - بعد أن ثنى ركبته - حبلا. قوله: "في المسجد" استنبط منه ابن بطال وغيره طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذ لا يؤمن ذلك منه مدة كونه في المسجد، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، ودلالته غير واضحة، وإنما فيه مجرد احتمال، ويدفعه رواية أبي نعيم: "أقبل على بعير له حتى أتى المسجد فأناخه ثم عقله فدخل المسجد " فهذا السياق يدل على أنه ما دخل به المسجد، وأصرح منه رواية ابن عباس عند أحمد والحاكم ولفظها: "فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل"، فعلى هذا في رواية أنس مجاز الحذف، والتقدير: فأناخه في ساحة المسجد، أو نحو ذلك. قوله: "الأبيض" أي المشرب بحمرة كما في رواية الحارث بن عمير " الأمغر " أي بالغين المعجمة قال حمزة بن الحارث: هو الأبيض المشرب بحمرة. ويؤيده ما يأتي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أبيض ولا آدم، أي لم يكن أبيض صرفا. قوله: "أجبتك" أي سمعتك، والمراد إنشاء الإجابة، أو نزل تقريره للصحابة في الإعلام عنه منزلة النطق، وهذا لائق بمراد المصنف. وقد قيل إنما لم يقل له نعم لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم، لا سيما مع قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} والعذر عنه - إن قلنا إنه قدم مسلما - أنه لم يبلغه النهي، وكانت فيه بقية من جفاء الأعراب، وقد ظهرت بعد ذلك في قوله: "فمشدد عليك في المسألة " وفي قوله في رواية ثابت: "وزعم رسولك أنك تزعم " ولهذا وقع في أول رواية ثابت عن أنس: "كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع " زاد أبو عوانة في صحيحه: "وكانوا أجرأ على ذلك منا " يعني أن الصحابة واقفون عند النهي، وأولئك ينذرون بالجهل، وتمنوه عاقلا ليكون عارفا بما يسأل عنه. وظهر عقل ضمام في تقديمه الاعتذار بين يدي مسألته لظنه أنه لا يصل إلى مقصوده إلا بتلك المخاطبة. وفي رواية ثابت من الزيادة أنه سأله: "من رفع السماء وبسط الأرض " وغير ذلك من المصنوعات، ثم أقسم عليه به أن يصدقه عما يسأل عنه، وكرر القسم في كل مسألة تأكيدا وتقريرا للأمر، ثم صرح بالتصديق، فكل ذلك دليل على حسن تصرفه وتمكن عقله، ولهذا قال عمر في رواية أبي هريرة: "ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام". قوله: "ابن عبد المطلب" بفتح النون على النداء. وفي رواية الكشميهني: "يا بن " بإثبات حرف النداء. قوله: "فلا تجد" أي لا تغضب. ومادة " وجد " متحدة الماضي والمضارع مختلفة المصادر، بحسب اختلاف المعاني يقال في الغضب موجدة وفي المطلوب وجودا وفي الضالة وجدانا وفي الحب وجدا بالفتح وفي المال وجدا بالضم وفي الغني جدة بكسر الجيم وتخفيف الدال المفتوحة على الأشهر في جميع ذلك. وقالوا أيضا في المكتوب وجادة وهي مولدة. قوله: "أنشدك" بفتح الهمزة وضم المعجمة وأصله من النشيد، وهو رفع الصوت، والمعنى سألتك رافعا نشيدتي قاله البغوي في شرح السنة. وقال الجوهري: نشدتك بالله أي سألتك بالله، كأنك ذكرته فنشد أي تذكر. قوله: "آلله" بالمد في المواضع كلها. قوله: "اللهم نعم" الجواب حصل بنعم، وإنما ذكر اللهم تبركا بها، وكأنه استشهد بالله في ذلك تأكيدا لصدقه. ووقع في رواية موسى: "فقال: صدقت. قال: فمن خلق السماء؟ قال الله. قال: فمن

(1/151)


خلق الأرض والجبال؟ قال: الله. قال: فمن جعل فيها المنافع؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال وجعل فيها المنافع، آلله أرسلك؟ قال: نعم " وكذا هو في رواية مسلم. قوله: "أن تصلي" بتاء المخاطب فيه وفيما بعده. ووقع عند الأصيلي بالنون فيها. قال القاضي عياض: هو أوجه. ويؤيده رواية ثابت بلفظ: "إن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا " وساق البقية كذلك. وتوجيه الأول أن كل ما وجب عليه وجب على أمته حتى يقوم دليل الاختصاص. ووقع في رواية الكشميهني والسرخسي " الصلاة الخمس " بالإفراد على إرادة الجنس. قوله: "أن تأخذ هذه الصدقة" قال ابن التين: "فيه دليل على أن المرء لا يفرق صدقته بنفسه". قلت: وفيه نظر. وقوله: "على فقرائنا " خرج مخرج الأغلب لأنهم معظم أهل الصدقة. قوله: "آمنت بما جئت به" يحتمل أن يكون إخبارا وهو اختيار البخاري، ورجحه القاضي عياض، وأنه حضر بعد إسلامه مستثبتا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبره به رسوله إليهم، لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره: "فإن رسولك زعم " وقال في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبراني " أتتنا كتبك وأتتنا رسلك " واستنبط منه الحاكم أصل طلب علو الإسناد لأنه سمع ذلك من الرسول وآمن وصدق، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة، ويحتمل أن يكون قوله: "آمنت " إنشاء، ورجحه القرطبي لقوله: "زعم " قال: والزعم القول الذي لا يوثق به، قاله ابن السكيت وغيره. قلت: وفيه نظر، لأن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا كما نقله أبو عمر الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: "زعم الخليل " في مقام الاحتجاج، وقد أشرنا إلى ذلك في حديث أبي سفيان في بدء الوحي. وأما تبويب أبي داود عليه: "باب المشرك يدخل المسجد " فليس مصيرا منه إلى أن ضماما قدم مشركا بل وجهه أنهم تركوا شخصا قادما يدخل المسجد من غير استفصال. ومما يؤيد أن قوله: "آمنت " إخبار أنه لم يسأل عن دليل التوحيد، بل عن عموم الرسالة وعن شرائع الإسلام، ولو كان إنشاء لكان طلب معجزة توجب له التصديق، قاله الكرماني. وعكسه القرطبي فاستدل به على صحة إيمان المقلد للرسول ولو لم تظهر له معجزة. وكذا أشار إليه ابن الصلاح. والله أعلم. "تنبيه": لم يذكر الحج في رواية شريك هذه، وقد ذكره مسلم وغيره فقال موسى في روايته: "وإن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: صدق " وأخرجه مسلم أيضا وهو في حديث أبي هريرة وابن عباس أيضا. وأغرب ابن التين فقال: إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض. وكأن الحامل له على ذلك ما جزم به الواقدي ومحمد بن حبيب أن قدوم ضمام كان سنة خمس فيكون قبل فرض الحج، لكنه غلط من أوجه: أحدها أن في رواية مسلم أن قدومه كان بعد نزول النهي في القرآن عن سؤال الرسول، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدا. ثانيها أن إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد فتح مكة. ثالثها أن في القصة أن قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة. رابعها في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد - وهو ابن بكر بن هوازن - في الإسلام إلا بعد وقعة حنين وكانت في شوال سنة ثمان كما سيأتي مشروحا في مكانه إن شاء الله تعالى. فالصواب أن قدوم ضمام كان في ستة تسع وبه جزم ابن إسحاق وأبو عبيدة وغيرهما. وغفل البدر الزركشي فقال: إنما لم يذكر الحج لأنه كان معلوما عندهم في شريعة إبراهيم انتهى. وكأنه لم يراجع صحيح مسلم فضلا عن غيره. قوله: "وأنا رسول من ورائي" من موصولة ورسول مضاف إليها، ويجوز تنوينه وكسر من لكن لم تأت به الرواية. ووقع

(1/152)


في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبراني. " جاء رجل من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان مسترضعا فيهم - فقال: أنا وافد قومي ورسولهم " وعند أحمد والحاكم: "بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم علينا " فذكر الحديث. فقول ابن عباس: "فقدم علينا " يدل على تأخير وفادته أيضا، لأن ابن عباس إنما قدم المدينة بعد الفتح. وزاد مسلم في آخر الحديث قال: "والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهم ولا أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق ليدخلن الجنة " وكذا هي في رواية موسى بن إسماعيل. ووقعت هذه الزيادة في حديث ابن عباس، وهي الحاملة لمن سمى المبهم في حديث طلحة ضمام بن ثعلبة كابن عبد البر وغيره، وقد قدمنا هناك أن القرطبي مال إلى أنه غيره. ووقع في رواية عبيد الله بن عمر عن المقبري عن أبي هريرة التي أشرت إليها قبل من الزيادة في هذه القصة أن ضماما قال بعد قوله وأنا ضمام بن ثعلبة: "فأما هذه الهناة فوالله إن كنا لنتنزه عنها في الجاهلية " يعني الفواحش. فلما أن ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم. " فقه الرجل". قال: وكان عمر بن الخطاب يقول: ما رأيت أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام. ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود: "فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام " وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم العمل بخبر الواحد، ولا يقدح فيه مجيء ضمام مستثبتا لأنه قصد اللقاء والمشافهة كما تقدم عن الحاكم، وقد رجع ضمام إلى قومه وحده فصدقوه وآمنوا كما وقع في حديث ابن عباس. وفيه نسبة الشخص إلى جده إذا كان أشهر من أبيه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "أنا ابن عبد المطلب". وفيه الاستحلاف على الأمر المحقق لزيادة التأكيد، وفيه رواية الأقران لأن سعيدا وشريكا تابعيان من درجة واحدة وهما مدنيان. قوله: "رواه موسى" هو ابن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي شيخ البخاري، وحديثه موصول عند أبي عوانة في صحيحه وعند ابن منده في الإيمان، وإنما علقه البخاري لأنه لم يحتج بشيخه سليمان بن المغيرة، وقد خولف في وصله فرواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلا، ورجحها الدارقطني، وزعم بعضهم أنها علة تمنع من تصحيح الحديث، وليس كذلك بل هي دالة على أن لحديث شريك أصلا. قوله: "وعلي بن عبد الحميد" هو المعني بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر النون بعدها ياء النسب، وحديثه موصول عند الترمذي أخرجه عن البخاري عنه، وكذا أخرجه الدارمي عن علي بن عبد الحميد، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق. قوله: "بهذا" أي هذا المعنى، وإلا فاللفظ كما بينا مختلف. وسقطت هذه اللفظة من رواية أبي الوقت وابن عساكر. والله سبحانه وتعالى أعلم. "تنبيه": وقع في النسخة البغدادية - التي صححها العلامة أبو محمد بن الصغاني اللغوي بعد أن سمعها من أصحاب أبي الوقت وقابلها على عدة نسخ وجعل لها علامات - عقب قوله رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت ما نصه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت عن أنس، وساق الحديث بتمامه. وقال الصغاني في الهامش: هذا الحديث ساقط من النسخ كلها إلا في النسخة التي قرئت على الفربري صاحب البخاري وعليها خطه. قلت: وكذا سقطت في جميع النسخ التي وقفت عليها. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1/153)


باب مايذكر في المناولة ، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان
...
7- باب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَسَخَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَصَاحِفَ "فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ

(1/153)


لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
64- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ"
[الحديث 64- أطرافه في: 7264,4424,2939]
قوله: "باب ما يذكر في المناولة". لما فرغ من تقرير السماع والعرض أردفه ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور، فمنها المناولة، وصورتها أن يعطي الشيخ الطالب الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي، فاروه عني. وقد قدمنا صورة عرض المناولة وهي إحضار الطالب الكتاب، وقد سوغ الجمهور الرواية بها، وردها من رد عرض القراءة من باب الأولى. قوله: "إلى البلدان" أي إلى أهل البلدان. وكتاب مصدر وهو متعلق إلى، وذكر البلدان على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها. والمكاتبة من أقسام التحمل، وهي أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يثق به بكتبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه. وقد سوى المصنف بينها وبين المناولة. ورجح قوم المناولة عليها لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة. وقد جوز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما، والأولى ما عليه المحققون من اشتراط بيان ذلك. قوله: "نسخ عثمان المصاحف" هو طرف من حديث طويل يأتي الكلام عليه في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. ودلالته على تسويغ الرواية بالمكاتبة واضح، فإن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما ما في تلك المصاحف ومخالفة ما عداها، والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان، لا أصل ثبوت القرآن فإنه متواتر عندهم. قوله: "ورأى عبد الله بن عمر" كذا في جميع نسخ الجامع " عمر " بضم العين، وكنت أظنه العمري المدني، وخرجت الأثر عنه بذلك في " تعليق التعليق " وكذا جزم به الكرماني، ثم ظهر لي من قرينة تقديمه في الذكر على يحيى بن سعيد أنه غير العمري لأن يحيى أكبر منه سنا وقدرا، فتتبعت فلم أجده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب صريحا، لكن وجدت في كتاب الوصية لأبي القاسم بن منده من طريق البخاري بسند له صحيح إلى أبي عبد الرحمن الحبلي - بضم المهملة والموحدة - أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث فقال: انظر في هذا الكتاب، فما عرفت منه اتركه وما لم تعرفه امحه. فذكر الخبر. وهو أصل في عرض المناولة. وعبد الله يحتمل أن يكون هو ابن عمر بن الخطاب، فإن الحبلي سمع منه. ويحتمل أن يكون ابن عمرو بن العاصي، فإن الحبلي مشهور بالرواية عنه. وأما الأثر بذلك عن يحيى بن سعيد ومالك فأخرجه الحاكم في علوم الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: قال لي يحيى بن سعيد الأنصاري لما أراد الخروج إلى العراق: التقط لي مائة حديث من حديث ابن شهاب حتى أرويها عنك، قال مالك: فكتبتها ثم بعثتها إليه. وروى الرامهرمزي من طريق ابن أبي أويس أيضا عن مالك في وجوه التحمل قال: قراءتك على العالم، ثم قراءته وأنت تسمع، ثم أن يدفع

(1/154)


إليك كتابه فيقول: ارو هذا عني. قوله: "واحتج بعض أهل الحجاز" هذا المحتج هو الحميدي، ذكر ذلك في كتاب النوادر له. قوله: "في المناولة" أي في صحة المناولة، والحديث الذي أشار إليه لم يورده موصولا في هذا الكتاب، وهو صحيح، وقد وجدته من طريقين: إحداهما مرسلة ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن يزيد بن رومان، وأبو اليمان في نسخته عن شعيب عن الزهري كلاهما عن عروة بن الزبير. والأخرى موصولة أخرجها الطبراني من حديث جندب البجلي بإسناد حسن. ثم وجدت له شاهدا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير. فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحا. وأمير السرية اسمه عبد الله بن جحش الأسدي أخو زينب أم المؤمنين، وكان تأميره في السنة الثانية قبل وقعة بدر، والسرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية القطعة من الجيش، وكانوا اثني عشر رجلا من المهاجرين. قوله: "حتى تبلغ مكان كذا وكذا" هكذا في حديث جندب على الإبهام. وفي رواية عروة أنه قال له: "إذا سرت يومين فافتح الكتاب". قالا " ففتحه هناك فإذا فيه أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش، ولا تستكرهن أحدا " قال في حديث جندب: فرجع رجلان ومضى الباقون فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عير - أي تجارة لقريش - فقتلوه. فكان أول مقتول من الكفار في الإسلام، وذلك في أول يوم من رجب، وغنموا ما كان معهم فكانت أول غنيمة في الإسلام، فعاب عليهم المشركون ذلك، فأنزل الله تعالى: {يسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية. ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب وأمره أن يقرأه على أصحابه ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى المكاتبة. وتعقبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه لعدالة الصحابة، بخلاف من بعدهم، حكاه البيهقي. وأقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما وحامله مؤتمنا والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير والله أعلم. قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس، وصالح هو ابن كيسان. قوله: "بعث بكتابه رجلا" هو عبد الله بن حذافة السهمي كما سماه المؤلف في هذا الحديث في المغازي. وكسرى هو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، ووهم من قال هو أنوشروان. وعظيم البحرين هو المنذر بن ساوى بالمهملة وفتح الواو الممالة، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في المغازي. قوله: "فحسبت" القائل هو ابن شهاب راوي الحديث، فقصة الكتاب عنده موصولة وقصة الدعاء مرسلة. ووجه دلالته على المكاتبة ظاهر، ويمكن أن يستدل به على المناولة من حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم ناول الكتاب لرسوله، وأمره أن يخبر عظيم البحرين بأن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن سمع ما فيه ولا قرأه.
65- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَنَسٌ
[الحديث65- أطرافه في: 7162,5877,5875,5874,5872,5870,2938]
قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "كتب أو أراد أن يكتب" شك من الراوي، ونسبة الكتابة إلى

(1/155)


النبي صلى الله عليه وسلم مجازية، أي كتب الكاتب بأمره. قوله: "لا يقرءون كتابا إلا مختوما" يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما ليحصل الأمن من توهم تغييره، لكن قد يستغنى عن ختمه إذا كان الحامل عدلا مؤتمنا. قوله: "فقلت" القائل هو شعبة، وسيأتي باقي الكلام على هذا الحديث في الجهاد وفي اللباس إن شاء الله تعالى. "فائدة": لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة، وكأنه لا يرى بشيء منها. وقد ادعى ابن منده أن كل ما يقول البخاري فيه: "قال لي " فهي إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيرا من المواضع التي يقول فيها الجامع قال لي فوجدته في غير الجامع يقول فيها حدثنا، والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ. والله أعلم.

(1/156)


باب من قعد حيث ينتهي المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها
...
8- باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
66- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ".
قوله: "باب من قعد حيث ينتهي به المجلس" مناسبة هذا لكتاب العلم من جهة أن المراد بالمجلس وبالحلقة حلقة العلم ومجلس العلم. فيدخل في أدب الطالب من عدة أوجه كما سنبينه. والتراجم الماضية كلها تتعلق بصفات العالم قوله: "مولى عقيل" بفتح العين، وقيل لأبي مرة ذلك للزومه إياه، وإنما هو مولى أخته أم هانئ بنت أبي طالب. قوله: "عن أبي واقد" صرح بالتحديث في رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير عن إسحاق فقال: عن أبي مرة أن أبا واقد حدثه. وقد قدمنا أن اسم أبي واقد الحارث بن مالك، وقيل ابن عوف، وقيل عوف بن الحارث، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، ورجال إسناده مدنيون، وهو في الموطأ، ولم يروه عن أبي واقد إلا أبو مرة. ولا عنه إلا إسحاق، وأبو مرة والراوي عنه تابعيان، وله شاهد من حديث أنس أخرجه البزار والحاكم. قوله: "ثلاثة نفر" النفر بالتحريك للرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمعنى ثلاثة هم نفر، والنفر اسم جمع ولهذا وقع مميزا للجمع كقوله تعالى :{تِسْعَةُ رَهْطٍْ} .قوله: "فأقبل اثنان" بعد قوله: "أقبل ثلاثة " هما إقبالان، كأنهم أقبلوا أولا من الطريق فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس، فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبا. قوله: "فوقفا" زاد أكثر رواة الموطأ: "فلما وقفا

(1/156)


سلما " وكذا عند الترمذي والنسائي. ولم يذكر المصنف هنا ولا في الصلاة السلام. وكذا لم يقع في رواية مسلم. ويستفاد منه أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد، وإنما لم يذكر رد السلام عليهما اكتفاء بشهرته، أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد. وسيأتي البحث فيه في كتاب الاستئذان. ولم يذكر أنهما صليا تحية المسجد إما لكون ذلك كان قبل أن تشرع أو كانا على غير وضوء أو وقع فلم ينقل للاهتمام بغير ذلك من القصة أو كان في غير وقت تنفل، قاله القاضي عياض بناء على مذهبه في أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة. قوله: "فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو " على " بمعنى عند. قوله: "فرجة" بالضم والفتح معا هي الخلل بين الشيئين. والحلقة بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط والجمع حلق بفتحتين، وحكي فتح اللام في الواحد وهو نادر. وفيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم، وفيه أن من سبق إلى موضع منها كان أحق به. قوله: "وأما الآخر" بفتح الخاء المعجمة، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لإطلاقه هنا على الثاني. قوله: "فأوى إلى الله فآواه الله" قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} بالقصر، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} بالمد، وحكي في اللغة القصر والمد معا فيهما. ومعنى أوى إلى الله لجأ إلى الله، أو على الحذف أي انضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى فآواه الله أي جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه. وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم وفضل سد خلل الحلقة، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني. وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير. قوله: "فاستحيا" أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم وممن حضر قاله القاضي عياض، وقد بين أنس في روايته سبب استحياء هذا الثاني فلفظه عند الحاكم: "ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس " فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث. قوله: "فاستحيا الله منه" أي رحمه ولم يعاقبه. قوله: "فأعرض الله عنه" أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضا لا لعذر، هذا إن كان مسلما، ويحتمل أن يكون منافقا، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "فأعرض الله عنه " إخبارا أو دعاء. ووقع في حديث أنس: "فاستغنى فاستغنى الله عنه " وهذا يرشح كونه خبرا، وإطلاق الإعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة والمشاكلة، فيحمل كل لفظ منها على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى. وفائدة إطلاق ذلك بيان الشيء بطريق واضح، وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها وأن ذلك لا يعد من الغيبة، وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر وجلوس العالم والمذكر في المسجد، وفيه الثناء على المستحي. والجلوس حيث ينتهي به المجلس. ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية واحد من الثلاثة المذكورين. والله تعالى أعلم.

(1/157)


9- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ
67- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ أَوْ بِزِمَامِهِ قَالَ: "أَيُّ يَوْمٍ هَذَا" فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ قَالَ "أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ" قُلْنَا بَلَى قَالَ "فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا"

(1/157)


فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ "أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ" قُلْنَا بَلَى قَالَ "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ"
[الحديث 67- أطرافه في: 7447,7078,5550,4662,4406,3197,1741,105]
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "رب مبلغ أوعى من سامع" هذا الحديث المعلق، أورد المصنف في الباب معناه، وأما لفظه فهو موصول عنده في باب الخطبة بمنى من كتاب الحج، أورد فيه هذا الحديث من طريق قرة بن خالد عن محمد بن سيرين قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن - حميد بن عبد الرحمن - كلاهما عن أبي بكرة قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال: "أتدرون أي يوم هذا " وفي آخره هذا اللفظ. وغفل القطب الحلبي ومن تبعه من الشراح في عزوهم له إلى تخريج الترمذي من حديث ابن مسعود فأبعدوا النجعة، وأوهموا عدم تخريج المصنف له. والله المستعان. و " رب " للتقليل، وقد ترد للتكثير، و " مبلغ " بفتح اللام و " أوعى " نعت له، والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير، والمراد: رب مبلغ عني أوعى - أي أفهم - لما أقول من سامع مني. وصرح بذلك أبو القاسم بن منده في روايته من طريق هوذة عن ابن عون ولفظه: "فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد". قوله: "بشر" هو ابن المفضل، ورجال الإسناد كلهم بصريون. قوله: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم" نصب النبي على المفعولية، وفي ذكر ضمير يعود على الراوي، يعني أن أبا بكرة كان يحدثهم فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قعد على بعيره. وفي رواية النسائي ما يشعر بذلك ولفظه عن أبي بكرة قال. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم. فالواو إما حالية وإما عاطفة والمعطوف عليه محذوف. وقد وقع في رواية ابن عساكر عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد ولا إشكال فيه. قوله: "وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه" الشك من الراوي، والزمام والخطام بمعنى، وهو الخيط الذي تشد فيه الحلقة التي تسمى بالبرة - بضم الموحدة وتخفيف الراء المفتوحة - في أنف البعير. وهذا الممسك سماه بعض الشراح بلالا، واستند إلى ما رواه النسائي من طريق أم الحصين قالت: حججت فرأيت بلالا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد وقع في السنن من حديث عمرو بن خارجة قال: "كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى. فذكر بعض الخطبة، فهو أولى أن يفسر به المبهم من بلال، لكن الصواب أنه هنا أبو بكرة، فقد ثبت ذلك في رواية الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن ابن عون ولفظه: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته يوم النحر، وأمسكت - إما قال بخطامها، وإما قال بزمامها" - واستفدنا من هذا أن الشك ممن دون أبي بكرة لا منه. وفائدة إمساك الخطام صون البعير عن الاضطراب حتى لا يشوش على راكبه. قوله: "أي يوم هذا" سقط من رواية المستملي والحموي السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله فصار هكذا: أي يوم هذا، فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: أليس بذي الحجة؟ وكذا في رواية الأصيلي وتوجيهه ظاهر، وهو من إطلاق الكل على البعض، ولكن الثابت في الروايات عند مسلم وغيره ما ثبت عند الكشميهني وكريمة، وكذلك وقع في رواية مسلم وغيره السؤال عن

(1/158)


البلد، وهذا كله في رواية ابن عون، وثبت السؤال عن الثلاثة عند المصنف في الأضاحي من رواية أيوب، وفي الحج من رواية قرة كلاهما عن ابن سيرين، قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهو مهم وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دمائكم الخ، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء. انتهى. ومناط التشبيه في قوله: "كحرمة يومكم " وما بعده ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم - مقررا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه، لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع. ووقع في الروايات التي أشرنا إليها عند المصنف وغيره أنهم أجابوه عن كل سؤال بقولهم: الله ورسوله أعلم. وذلك من حسن أدبهم، لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإخبار بما يعرفونه، ولهذا قال في رواية الباب: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. ففيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع، ويستفاد منه الحجة لمثبتي الحقائق الشرعية. قوله: "فإن دماءكم الخ" هو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم. والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو سلفه. قوله: "ليبلغ الشاهد" أي الحاضر في المجلس "الغائب" أي الغائب عنه، والمراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام. وقوله: "منه " صلة لأفعل التفضيل، وجاز الفصل بينهما لأن في الظرف سعة، وليس الفاصل أيضا أجنبيا. "فائدة": وقع في حديث الباب: "فسكتنا بعد السؤال". وعند المصنف في الحج من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. وظاهرهما التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بكرة لم يجيبوا بل قالوا: الله ورسوله أعلم كما أشرنا إليه. أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى، لأن في حديث أبي بكرة عند المصنف في الحج وفي الفتن أنه لما قال: "أليس يوم النحر؟" قالوا بلى " بمعنى قولهم يوم حرام بالاستلزام، وغايته أن أبا بكرة نقل السياق بتمامه، واختصره ابن عباس. وكأن ذلك كان بسبب قرب أبي بكرة منه لكونه كان آخذا بخطام الناقة. وقال بعضهم: يحتمل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر فيحتاج لدليل، فإن في حديث ابن عمر عند المصنف في الحج أن ذلك كان يوم النحر بين الجمرات في حجته. وفي هذا الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية. وأن الفهم ليس شرطا في الأداء، وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه لكن بقلة، واستنبط ابن المنير من تعليل كون المتأخر أرجح نظرا من المتقدم أن تفسير الراوي أرجح من تفسير غيره. وفيه جواز القعود على ظهر الدواب وهي واقفة إذا احتيج إلى ذلك، وحمل النهي الوارد في ذلك على ما إذا كان لغير ضرورة(1). وفيه الخطبة على موضع عال ليكون أبلغ في إسماعه للناس ورؤيتهم إياه.

(1/159)


10- باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ
ـــــــ
(1)لو قال لغير حاجة لكان أصح

(1/159)


الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَقَالَ {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ "لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لاَنْفَذْتُهَا" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ" وَيُقَالُ "الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ"
قوله: "باب العلم قبل القول والعمل" قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل " تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه. قوله: "فبدأ بالعلم" أي حيث قال: "فاعلم أنه لا إله إلا الله " ثم قال: "واستغفر لذنبك". والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو متناول لأمته. واستدل سفيان بن عيينة بهذه الآية على فضل العلم كما أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمته من طريق الربيع بن نافع عنه أنه تلاها فقال: ألم تسمع أنه بدأ به فقال: "اعلم " ثم أمره بالعمل؟ وينتزع منها دليل ما يقوله المتكلمون من وجوب المعرفة، لكن النزاع كما قدمناه إنما هو في إيجاب تعلم الأدلة على القوانين المذكورة في كتب الكلام، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الإيمان. قوله: "وأن العلماء" بفتح أن، ويجوز كسرها، ومن هنا إلى قوله: "وافر " طرف من حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححا من حديث أبي الدرداء وحسنه حمزة الكناني، وضعفه عندهم سنده، لكن له شواهد يتقوى بها، ولم يفصح المصنف بكونه حديثا فلهذا لا يعد في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة يشعر بأن له أصلا، وشاهده في القرآن قوله تعالى :{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، ومناسبته للترجمة من جهة أن الوارث قائم مقام الموروث، فله حكمه فيما قام مقامه فيه. قوله: "ورثوا" بتشديد الراء المفتوحة، أي الأنبياء. ويروى بتخفيفها مع الكسر أي العلماء. ويؤيد الأول ما عند الترمذي وغيره فيه: وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم". قوله: "بحظ" أي نصيب "وافر" أي كامل. قوله: "ومن سلك طريقا" هو من جملة الحديث المذكور، وقد أخرج هذه الجملة أيضا مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في حديث غير هذا، وأخرجه الترمذي وقال: حسن. قال: ولم يقل له صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه فقال حدثت عن أبي صالح. قلت: لكن في رواية مسلم عن أبي أسامة عن الأعمش: "حدثنا أبو صالح " فانتفت تهمة تدليسه. قوله: "طريقا" نكرها ونكر " علما " لتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير. قوله: "سهل الله له طريقا" أي في الآخرة، أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة. وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة. قوله: "وقال" أي الله عز وجل، وهو معطوف على قوله: لقول الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} أي يخاف من الله من

(1/160)


علم قدرته وسلطانه وهم العلماء قاله ابن عباس. قوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا} أي الأمثال المضروبة. قوله: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} أي سمع من يعي ويفهم {أَوْ نَعْقِلُ} عقل من يميز، وهذه أوصاف أهل العلم. فالمعنى لو كنا من أهل العلم لعلمنا ما يجب علينا فعملنا به فنجونا. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه" كذا في رواية الأكثر. وفي رواية المستملي: "يفهمه " بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، وقد وصله المؤلف باللفظ الأول بعد هذا ببابين كما سيأتي. وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعا، وإسناده حسن. والفقه هو الفهم قال الله تعالى :{لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي لا يفهمون، والمراد الفهم في الأحكام الشرعية. قوله: "وإنما العلم بالتعلم" هو حديث مرفوع أيضا، أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضا بلفظ: "يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " إسناده حسن، إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا، ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعا. وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره. فلا يغتر بقوله من جعله من كلام البخاري، والمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم. قوله: "وقال أبو ذر الخ" هذا التعليق رويناه موصولا في مسند الدارمي وغيره من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير - يعني مالك بن مرثد - عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم...فذكر مثله. ورويناه في الحلية من هذا الوجه، وبين أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان رضي الله عنه. وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فقال معاوية: "نزلت في أهل الكتاب خاصة". وقال أبو ذر: "نزلت فيهم وفينا". فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة فسكن الربذة - بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات رواه النسائي. وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علما يعلمه، وسيأتي لعلي مع عثمان نحوه. والصمصامة بمهملتين الأولى مفتوحة هو السيف الصارم الذي لا ينثني، وقيل الذي له حد واحد. قوله: "هذه" إشارة إلى القفا، وهو يذكر ويؤنث، وأنفذ بضم الهمزة وكسر الفاء والذال المعجمة أي أمضى، وتجيزوا بضم المثناة وكسر الجيم وبعد الياء زاي، أي تكملوا قتلي، ونكر " كلمة " ليشمل القليل والكثير. والمراد به يبلغ ما تحمله في كل حال ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل. و " لو " في كلامه لمجرد الشرط من غير أن يلاحظ الامتناع، أو المراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير وضع الصمصامة، وعلى تقدير عدم حصوله أولى، فهو مثل قوله: "لو لم يخف الله لم يعصه " وفيه الحث على تعليم العلم واحتمال المشقة فيه والصبر على الأذى طلبا للثواب. قوله: "وقال ابن عباس" كذا التعليق وصله ابن أبي عاصم أيضا بإسناد حسن، والخطيب بإسناد آخر حسن. وقد فسر ابن عباس: "الرباني " بأنه الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم الحربي في غريبه عنه بإسناد صحيح. وقال الأصمعي والإسماعيلي الرباني نسبه إلى الرب أي الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم والعمل. وقال ثعلب قيل للعلماء ربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومون به، وزيدت

(1/161)


الألف والنون للمبالغة. والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة هل هي نسبة إلى الرب أو إلى التربية، والتربية على هذا للعلم، وعلى ما حكاه البخاري لتعلمه. والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها. وقيل يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده. وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالما معلما عاملا. "فائدة": اقتصر المصنف في هذا الباب على ما أورده من غير أن يورد حديثا موصولا على شرطه، فإما أن يكون بيض له ليورد فيه ما يثبت على شرطه، أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر. والله أعلم.

(1/162)


باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا
...
11- باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لاَ يَنْفِرُوا
68- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا".
[الحديث 68- طرفاه في:6411,70]
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم" هو بالخاء المعجمة، أي يتعهدهم، والموعظة النصح والتذكير، وعطف العلم عليها من باب عطف العام على الخاص لأن العلم يشمل الموعظة وغيرها، وإنما عطفه لأنها منصوصة في الحديث، وذكر العلم استنباطا. قوله: "لئلا ينفروا" استعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما، وتضمن ذلك تفسير السآمة بالنفور وهما متقاربان، ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني، كمناسبة الذي قبله من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ. وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها والتأمل لا يخلو عن ذلك. قوله: "سفيان" هو الثوري، وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن عيينة، لكن محمد بن يوسف الفرياي وإن كان يروي عن السفيانين فإنه حين يطلق يريد به الثوري، كما أن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي وإن كان يروي عن محمد بن يوسف البيكندي أيضا. وقد وهم من زعم أنه هنا البيكندي. قوله: "عن أبي وائل" في رواية أحمد المذكورة: سمعت شقيقا وهو أبو وائل. وأفاد هذا التصريح رفع ما يتوهم في رواية مسلم التي أخرجها من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر الحديث قال علي بن مسهر قال الأعمش: وحدثني عمرو بن مرة عن شقيق عن عبد الله مثله، فقد يوهم هذا أن الأعمش دلسه أولا عن شقيق، ثم سمى الواسطة بينهما، وليس كذلك، بل سمعه من أبي وائل بلا واسطة وسمعه عنه بواسطة، وأراد بذكر الرواية الثانية وإن كانت نازلة تأكيده، أو لينبه على عنايته بالرواية من حيث إنه سمعه نازلا فلم يقنع بذلك حتى سمعه عاليا، وكذا صرح الأعمش بالتحديث عند المصنف في الدعوات من رواية حفص بن غياث عنه قال: حدثني شقيق. وزاد في أوله أنهم كانوا ينتظرون عبد الله بن مسعود ليخرج إليهم فيذكرهم، وأنه لما خرج قال: أما إني أخبر بمكانكم، ولكنه يمنعني من الخروج إليكم..فذكر الحديث. قوله: "كان يتخولنا" بالخاء المعجمة وتشديد الواو، قال الخطابي: الخائل بالمعجمة هو القائم المتعهد للمال، يقال خال المال يخوله تخولا إذا تعهده وأصلحه. والمعنى كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نمل. والتخون بالنون أيضا يقال تخون الشيء إذا تعهده وحفظه، أي اجتنب الخيانة فيه، كما قيل في تحنث وتأثم ونظائرهما. وقد قيل إن أبا عمرو

(1/162)


بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال: "يتخولنا " باللام فرده عليه بالنون فلم يرجع لأجل الرواية، وكلا اللفظين جائز. وحكى أبو عبيد الهروي في الغريبين عن أبي عمرو الشيباني أنه كان يقول: الصواب " يتحولنا " بالحاء المهملة أي يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة. قلت: والصواب من حيث الرواية الأولى فقد رواه منصور عن أبي وائل كرواية الأعمش، وهو في الباب الآتي. وإذا ثبتت الرواية وصح المعنى بطل الاعتراض. قوله: "علينا" أي السآمة الطارئة علينا، أو ضمن السآمة معنى المشقة فعداها بعلى، والصلة محذوفة والتقدير من الموعظة. ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف. وإما يوما بعد يوم فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوما في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط. واحتمل عمل ابن مسعود من استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول، والثاني أظهر. وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهية تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائما، وجاء عن مالك ما يشبه ذلك.
69- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا"
[الحديث 69- طرفه في:6125]
قوله: "أبو التياح" تقدم أنه بفتح المثناة الفوقانية وتشديد التحتانية وآخره مهملة. قوله: "ولا تعسروا" الفائدة فيه التصريح باللازم تأكيدا. وقال النووي: لو اقتصر على يسروا لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال: "ولا تعسروا " لنفي التعسير في جميع الأحوال، وكذا القول في عطفه عليه: "ولا تنفروا" . وأيضا فإن المقام مقام الإطناب لا الإيجاز. قوله: "وبشروا" بعد قوله: "يسروا " فيه الجناس الخطي. ووقع عند المصنف في الأدب عن آدم عن شعبة بدلها: "وسكنوا " وهي التي تقابل ولا تنفروا، لأن السكون ضد النفور، كما أن ضد البشارة النذارة، لكن لما كانت النذارة - وهي الإخبار بالشر - في ابتداء التعليم توجب النفرة قوبلت البشارة بالتنفير، والمراد تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء. وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعلم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد، بخلاف ضده. والله تعالى أعلم.

(1/163)


12- باب مَنْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً
70- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"
قوله: "باب من جعل لأهل العلم يوما معلوما" في رواية كريمة أياما معلومة، وللكشميهني معلومات، وكأنه

(1/163)


أخذ هذا من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس، أو من استنباط عبد الله ذلك من الحديث الذي أورده. قوله: "جرير" و ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "كان عبد الله" هو ابن مسعود، وكنيته أبو عبد الرحمن. قوله: "فقال له رجل" هذا المبهم يشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعي، وفي سياق المصنف في أواخر الدعوات ما يرشد إليه. قوله: "لوددت" للام جواب قسم محذوف، أي والله لوددت، وفاعل " يمنعني " أني أكره بفتح همزة أني، وأملكم بضم الهمزة أي أضجركم، وإني الثانية بكسر الهمزة. وقد تقدم شرح المتن قريبا. والإسناد كله كوفيون، وحديث أنس الذي قبله بصريون.

(1/164)


13- باب مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
71- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ" .
[الحديث 71- أطرافه في: 7460,7312,3641,3116,]
قوله: "باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" ليس في أكثر الروايات في الترجمة قوله: "في الدين " وثبتت للكشميهني.قوله: "حدثنا سعيد بن عفير" هو سعيد بن كثير بن عفير، نسب إلى جده، وهو بالمهملة مصغرا. قوله: "عن ابن شهاب" قال حميد في الاعتصام: للمؤلف من هذا الوجه: أخبرني حميد. ولمسلم: حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، زاد تسمية جده قوله: "سمعت معاوية" هو ابن أبي سفيان. قوله: "خطيبا" هو حال من المفعول. وفي رواية مسلم والاعتصام. " سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو يخطب". وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام: أحدها فضل النفقة في الدين. وثانيها أن المعطي في الحقيقة هو الله. وثالثها أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدا. فالأول لائق بأبواب العلم. والثاني لائق بقسم الصدقات، ولهذا أورده مسلم في الزكاة، والمؤلف في الخمس. والثالث لائق بذكر أشراط الساعة، وقد أورده المؤلف في الاعتصام لالتفاته إلى مسألة عدم خلو الزمان عن مجتهد، وسيأتي بسط القول فيه هناك، وأن المراد بأمر الله هنا الريح التي تقبض روح كل من في قلبه شيء من الإيمان ويبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة. وقد تتعلق لأحاديث الثلاثة بأبواب العلم - بل بترجمة هذا الباب خاصة - من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح الله عليه به، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودا حتى يأتي أمر الله، وقد جزم البخاري بأن المراد بهم أهل العلم بالآثار. وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وقال القاضي عياض: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وقال النووي: محتمل أن تكون هذه الطائفة فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد وفقيه ومحدث وزاهد وآمر بالمعروف وغير ذلك من أنواع الخير، ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا متفرقين. قلت: وسيأتي بسط ذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. قوله: "يفقهه" أي يفهمه كما تقدم، وهي ساكنة الهاء لأنها جواب الشرط، يقال فقه بالضم إذا صار الفقه له سجية،

(1/164)


وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه بالكسر إذا فهم. ونكر " خيرا " ليشمل القليل والكثير، والتنكير للتعظيم لأن المقام يقتضيه. ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين - أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع - فقد حرم الخير. وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف وزاد في آخره: "ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به " والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيها ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم. وسيأتي بقية الكلام على الحديثين الآخرين في موضعهما من الخمس والاعتصام إن شاء الله تعالى. وقوله: "لن تزال هذه الأمة " يعني بعض الأمة كما يجيء مصرحا به في الموضع الذي أشرت إليه إن شاء الله تعالى.

(1/165)


14 - باب الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ
72- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ" فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ"
قوله: "باب الفهم" أي فضل الفهم "في العلم" أي في العلوم. قوله: "حدثنا علي" في رواية أبي ذر: "ابن عبد الله " وهو المعروف بابن المديني. قوله: "حدثنا سفيان قال: قال لي ابن أبي نجيح" في مسنده الحميدي عن سفيان: حدثني ابن أبي نجيح. قوله: "صحبت ابن عمر إلى المدينة" فيه ما كان بعض الصحابة عليه من توقي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الحاجة خشية الزيادة والنقصان، وهذه كانت طريقة ابن عمر ووالده عمر وجماعة، وإنما كثرت أحاديث ابن عمر مع ذلك لكثرة من كان يسأله ويستفتيه، وقد تقدم الكلام على متن حديث الباب في أوائل كتاب العلم. ومناسبته للترجمة أن ابن عمر لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسألة عند إحضار الجمار إليه فهم أن المسؤول عنه النخلة، فالفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل، وقد أخرج أحمد في حديث أبي سعيد الآتي في الوفاة النبوية حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عبدا خيره الله " فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا، فتعجب الناس. وكان أبو بكر فهم من المقام أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير، فمن ثم قال أبو سعيد: فكان أبو بكر أعلمنا به. والله الهادي إلى الصواب.

(1/165)


15- باب الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.
وَقَالَ عُمَرُ تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ
73- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا"
[الحديث73- أطرافه في: 7316,7141,1409,]

(1/165)


باب ماذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه وسلم في البحر إلى الخضر وقوله تعالى { هل أتبعك على أن تعلمني مماعلمت رشدا }
...
16- باب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}

(1/167)


74- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ "إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلاَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ قَالَ مُوسَى لاَ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ"
[الحديث74-أطرافه في, 7478,6672,4727,4726,4725,3401,3400,3278,2728,2267,122,78]
قوله: "باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر" هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم، لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه، ولأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب العلم وركوب البر والبحر لأجله، فظهر بهذا مناسبة هذا الباب لما قبله. وظاهر التبويب أن موسى ركب البحر لما توجه في طلب الخضر. وفيه نظر لأن الذي ثبت عند المصنف وغيره أنه خرج في البر وسيأتي بلفظ: "فخرجا يمشيان " وفي لفظ لأحمد " حتى أتيا الصخرة " وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيحمل قوله: "إلى الخضر " على أن فيه حذفا، أي إلى مقصد الخضر، لأن موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه، وإنما ركبه تبعا للخضر، ويحتمل أن يكون التقدير ذهاب موسى في ساحل البحر، فيكون فيه حذف، ويمكن أن يقال: مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب معه البحر، فأطلق على جميعها ذهابا مجازا، إما من إطلاق الكل على البعض أو من تسمية السبب باسم ما تسبب عنه. وحمله ابن المنير على أن " إلى " بمعنى مع. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ثبت عند البخاري أن موسى يوجه في البحر لما طلب الخضر قلت: لعله قوي عنده أحد الاحتمالين في قوله: "فكان يتبع أثر الحوت في البحر " فالظرف يحتمل أن يكون لموسى، ويحتمل أن يكون للحوت، ويؤيد الأول ما جاء عن أبي العالية وغيره، فروى عبد بن حميد عن أبي العالية أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر. انتهى. والتوصل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر غالبا. وعنده أيضا من طريق الربيع بن أنس قال: إنجاب الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر. فهذا يوضح أنه ركب البحر إليه. وهذان الأثران الموقوفان رجالهما ثقات. قوله: "الآية" هو بالنصب بتقدير فذكر. وقد ذكر الأصيلي في روايته باقي الآية وهي قوله: "مما علمت رشدا". قوله: "حدثنا" وللأصيلي: "حدثني " بالإفراد. قوله: "غرير" تقدم في المقدمة أنه بالغين المعجمة مصغرا، ومحمد وشيخه وأبوه إبراهيم بن سعد زهريون، وكذا

(1/168)


ابن شهاب شيخ صالح وهو ابن كيسان. قوله: "حدثه" للكشميهني: "حدث " بغير هاء، وهو محمول على السماع لأن صالحا غير مدلس. قوله: "تمارى" أي تجادل. قوله: "والحر" هو بضم الحاء وتشديد الراء المهملتين، وهو صحابي مشهور ذكره ابن السكن وغيره، وله ذكر عند المصنف أيضا في قصة له مع عمر قال فيها: وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر، يعني لفضلهم. قوله: "قال ابن عباس هو خضر" لم يذكر ما قال الحر بن قيس، ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث. وخضر بفتح أوله وكسر ثانيه أو بكسر أوله وإسكان ثانيه، ثبتت بهما الرواية، وبإثبات الألف واللام فيه، وبحذفهما. وهذا التماري الذي وقع بين ابن عباس والحر غير التماري الذي وقع بين سعيد بن جبير ونوف البكالي، فإن هذا في صاحب موسى هل هو الخضر أو غيره. وذاك في موسى هل هو موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة أو موسى بن ميشا بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها معجمة. وسياق سعيد بن جبير للحديث عن ابن عباس أتم من سياق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لهذا بشيء كثير، وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. ويقال إن اسم الخضر بليا بموحدة ولام ساكنة ثم تحتانية، وسيأتي في أحاديث الأنبياء النقل عن سبب تلقيبه بالخضر، وسيأتي نقل الخلاف في نسبه وهل هو رسول أو نبي فقط أو ملك بفتح اللام أو ولي فقط، وهل هو باق أو مات. قوله: "فدعاه" أي ناداه. وذكر ابن التين أن فيه حذفا والتقدير: فقام إليه فسأله، لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه، وأخباره في ذلك شهيرة. قوله: "إذ جاء رجل" لم أقف على تسميته. قوله: "بلى عبدنا" أي هو أعلم، وللكشميهني: "بل " بإسكان اللام، والتقدير فأوحى الله إليه لا تطلق النفي بل قل خضر. وإنما قال عبدنا - وإن كان السياق يقتضي أن يقول عبد الله - لكونه أورده على طريق الحكاية عن الله سبحانه وتعالى، والإضافة فيه للتعظيم. قوله: "يتبع أثر الحوت في البحر" في هذا السياق اختصار يأتي بيانه عند شرحه إن شاء الله تعالى. قوله: "ما كنا نبغي" أي نطلب، لأن فقد الحوت جعل آية أي علامة على الموضع الذي فيه الخضر. وفي الحديث جواز التجادل في العلم إذا كان بغير تعنت، والرجوع إلى أهل العلم عند التنازع، والعمل بخبر الواحد الصدوق، وركوب البحر في طلب العلم بل في طلب الاستكثار منه، ومشروعية حمل الزاد في السفر، ولزوم التواضع في كل حال، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه، وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع.

(1/169)


17- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ"
75- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ"
[الحديث75- أطرافه في: 7270,3756,143]
قوله: "باب قوله النبي صلى الله عليه وسلم اللهم علمه الكتاب" استعمل لفظ الحديث ترجمة تمسكا بأن ذلك لا يختص جوازه بابن عباس، والضمير على هذا لغير مذكور، ويحتمل أن يكون لابن عباس نفسه لتقدم ذكره في الحديث الذي قبله، إشارة إلى أن الذي وقع لابن عباس من غلبته للحر بن قيس إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المعروف بالمقعد البصري. قوله: "حدثنا خالد" هو ابن مهران

(1/169)


الحذاء. قوله: "ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد المصنف في فضل ابن عباس عن مسدد عن عبد الوارث " إلى صدره " وكان ابن عباس إذ ذاك غلاما مميزا، فيستفاد منه جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة. قوله: "علمه الكتاب" بين المصنف في كتاب الطهارة من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس سبب هذا الدعاء ولفظه: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءا " زاد مسلم. " فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر " ولمسلم قالوا ابن عباس، ولأحمد وابن حبان من طريق سعيد بن جبير عنه أن ميمونة هي التي أخبرته بذلك، وأن ذلك كان في بيتها ليلا، ولعل ذلك كان في الليلة التي بات ابن عباس فيها عندها ليرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد أخرج أحمد من طريق عمرو بن دينار عن كريب عن ابن عباس في قيامه خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وفيه: "فقال لي ما بالك؟ أجعلك حذائي فتخلفني. فقلت: أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله؟ فدعا لي أن يزيدني الله فهما وعلما " والمراد بالكتاب القرآن لأن العرف الشرعي عليه، والمراد بالتعليم ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه. ووقع في رواية مسدد " الحكمة " بدل الكتاب وذكر الإسماعيلي أن ذلك هو الثابت في الطرق كلها عن خالد الحذاء، كذا قال وفيه نظر، لأن المصنف أخرجه أيضا من حديث وهيب عن خالد بلفظ: "الكتاب " أيضا، فيحمل على أن المراد بالحكمة أيضا القرآن، فيكون بعضهم رواه بالمعنى. وللنسائي والترمذي من طريق عطاء عن ابن عباس قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتي الحكمة مرتين، فيحتمل تعدد الواقعة، فيكون المراد بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة. ويؤيده أن في رواية عبيد الله بن أبي يزيد التي قدمناها عند الشيخين: "اللهم فقهه في الدين " لكن لم يقع عند مسلم: "في الدين". وذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود ذكره في أطراف الصحيحين بلفظ: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " قال الحميدي: وهذه الزيادة ليست في الصحيحين. قلت: وهو كما قال. نعم هي في رواية سعيد بن جبير التي قدمناها عند أحمد وابن حبان والطبراني ورواها ابن سعد من وجه آخر عن عكرمة مرسلا. وأخرج البغوي في معجم الصحابة من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر: كان عمر يدعو ابن عباس ويقربه ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوما فمسح رأسك وقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" . ووقع في بعض نسخ ابن ماجه من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء في حديث الباب بلفظ: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب " وهذه الزيادة مستغربة من هذا الوجه، فقد رواه الترمذي والإسماعيلي وغيرهما من طريق عبد الوهاب بدونها، وقد وجدتها عند ابن سعد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي وقال: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" . وقد رواه أحمد عن هشيم عن خالد في حديث الباب بلفظ: "مسح على رأسي " وهذه الدعوة مما تحقق إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، لما علم من حال ابن عباس في معرفة التفسير والفقه في الدين رضي الله عنه. واختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا فقيل: القرآن كما تقدم، وقيل العمل به، وقيل السنة، وقيل الإصابة في القول، وقيل الخشية، وقيل الفهم عن الله، وقيل العقل، وقيل ما يشهد العقل بصحته، وقيل نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل سرعة الجواب مع الإصابة. وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى :{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة}. والأقرب أن المراد بها في حديث ابن عباس الفهم في القرآن، وسيأتي مزيد لذلك في المناقب إن شاء الله تعالى.

(1/170)


18- باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟
76- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلاَمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ"
[الحديث 76- أطرافه في:4412,1857,861,493]
قوله: "باب متى يصح سماع الصغير" زاد الكشميهني: "الصبي الصغير". ومقصود الباب الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطا في التحمل. وقال الكرماني: إن معنى الصحة هنا جواز قبول مسموعه. قلت: وهذا تفسير لثمرة الصحة لا لنفس الصحة. وأشار المصنف بهذا إلى اختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رواه الخطيب في الكفاية عن عبد الله بن أحمد وغيره أن يحيى قال: أقل سن التحمل خمس عشرة سنة لكون ابن عمر رد يوم أحد إذ لم يبلغها. فبلغ ذلك أحمد فقال: بل إذا عقل ما يسمع، وإنما قصة ابن عمر في القتال. ثم أورد الخطيب أشياء مما حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم، وهذا هو المعتمد، وما قاله ابن معين إن أراد به تحديد ابتداء الطلب بنفسه فموجه، وإن أراد به رد حديث من سمع اتفاقا أو اعتنى به فسمع وهو صغير فلا، وقد نقل ابن عبد البر الاتفاق على قبول هذا، وفيه دليل على أن مراد ابن معين الأول، وأما احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد البراء وغيره يوم بدر ممن كان لم يبلغ خمس عشرة فمردود بأن القتال يقصد فيه مزيد القوة والتبصر في الحرب، فكانت مظنته سن البلوغ، والسماع يقصد فيه الفهم فكانت مظنته التمييز. وقد احتج الأوزاعي لذلك بحديث: "مروهم بالصلاة لسبع". قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وقد ثبت ذلك في رواية كريمة. قوله: "على حمار" هو اسم جنس يشمل الذكر والأنثى كقولك بعير. وقد شذ حمارة في الأنثى حكاه في الصحاح. وأتان بفتح الهمزة وشذ كسرها كما حكاه الصغاني هي الأنثى من الحمير، وربما قالوا للأنثى أتانة حكاه يونس وأنكره غيره، فجاء في الرواية على اللغة الفصحى. وحمار أتان بالتنوين فيهما على النعت أو البدل، وروي بالإضافة. وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على كونها أنثى للاستدلال بطريق الأولى على أن الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة لأنهن أشرف، وهو قياس صحيح من حيث النظر، إلا أن الخبر الصحيح لا يدفع بمثله كما سيأتي البحث فيه في الصلاة إن شاء الله تعالى. قوله: "ناهزت" أي قاربت، والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي. قوله: "إلى غير جدار" أي إلى غير سترة قاله الشافعي. وسياق الكلام يدل على ذلك، لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته. ويؤيده رواية البزار بلفظ: "والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ليس لشيء يستره". قوله: "بين يدي بعض الصف" و مجاز عن الإمام بفتح الهمزة، لأن الصف ليس له يد. وبعض الصف يحتمل أن يراد به صف من الصفوف أو بعض من أحد الصفوف قاله الكرماني. قوله: "ترتع" بمثناتين مفتوحتين وضم العين أي تأكل ما تشاء، وقيل تسرع في المشي، وجاء أيضا بكسر العين بوزن يفتعل من الرعي، وأصله ترتعي لكن حذفت الياء تخفيفا، والأول أصوب، ويدل عليه رواية المصنف في الحج نزلت عنها فرتعت.قوله: "ودخلت"

(1/171)


وللكشميهني: "فدخلت " بالفاء. قوله: "فلم ينكر ذلك علي أحد" قيل فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة، واستدل ابن عباس على الجواز بعدم الإنكار لانتفاء الموانع إذ ذاك، ولا يقال منع من الإنكار اشتغالهم بالصلاة لأنه نفى الإنكار مطلقا فتناول ما بعد الصلاة. وأيضا فكان الإنكار يمكن بالإشارة. وفيه ما ترجم له أن التحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية وإنما يشترط عند الأداء. ويلحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق والكافر. وقامت حكاية ابن عباس لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره مقام حكاية قوله، إذ لا فرق بين الأمور الثلاثة في شرائط الأداء. فإن قيل: التقييد بالصبي والصغير في الترجمة لا يطابق حديث ابن عباس، أجاب الكرماني بأن المراد بالصغير غير البالغ، وذكر الصبي معه من باب التوضيح. ويحتمل أن يكون لفظ الصغير يتعلق بقصة محمود، ولفظ الصبي يتعلق بهما معا والله أعلم. وسيأتي باقي مباحث هذا الحديث في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
77- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ "عَقَلْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ".
[الحديث 77- أطرافه في:6422,6354,1185,839,189,]
قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو البيكندي كما جزم به البيهقي وغيره، وأما الفريابي فليست له رواية عن أبي مسهر، وكان أبو مسهر شيخ الشاميين في زمانه وقد لقيه البخاري وسمع منه شيئا يسيرا، وحدث عنه هنا بواسطة، وذكر ابن المرابط فيما نقله ابن رشيد عنه أن أبا مسهر تفرد برواية هذا الحديث عن محمد بن حرب. وليس كما قال ابن المرابط فإن النسائي رواه في السنن الكبرى عن محمد بن المصفى عن محمد بن حرب. وأخرجه البيهقي في المدخل من رواية محمد بن جوصاء - وهو بفتح الجيم والصاد المهملة - عن سلمة بن الخليل وأبي التقي وهو بفتح المثناة وكسر القاف كلاهما عن محمد بن حرب. فهؤلاء ثلاثة غير أبي مسهر رووه عن محمد بن حرب فكأنه المتفرد به عن الزبيدي، وهذا الإسناد إلى الزهري شاميون. وقد دخلها هو وشيخه محمود بن الربيع بن سراقة بن عمرو الأنصاري الخزرجي وحديثه هذا طرف من حديثه عن عتبان بن مالك الآتي في الصلاة من رواية صالح بن كيسان وغيره عن الزهري. وفي الرقاق من طريق معمر عن الزهري أخبرني محمود. قوله: "عقلت" و بفتح القاف أي حفظت. قوله: "مجة" بفتح الميم وتشديد الجيم، والمج هو إرسال الماء من الفم، وقيل لا يسمى مجا إلا إن كان على بعد. وفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع محمود إما مداعبة منه، أو ليبارك عليه بها كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة. قوله: "وأنا ابن خمس سنين" لم أر التقصد بالسن عند تحمله في شيء من طرقه لا في الصحيحين ولا في غيرهما من الجوامع والمسانيد إلا في طريق الزبيدي هذه، والزبيدي من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهري حتى قال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي يفضله على جميع من سمع من الزهري. وقال أبو داود: ليس في حديثه خطأ. وقد تابعه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري لكن لفظه عند الطبراني والخطيب في الكفاية من طريق عبد الرحمن بن نمر - وهو بفتح النون وكسر الميم - عن الزهري وغيره قال: حدثني محمود بن الربيع، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين، فأفادت هذه الرواية أن الواقعة التي ضبطها كانت في آخر سنة من حياه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن حبان وغيره أنه مات سنة تسع

(1/172)


وتسعين وهو ابن أربع وتسعين سنة وهو مطابق لهذه الرواية. وذكر القاضي عياض في الإلماع وغيره أن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع، ولم أقف على هذا صريحا في شيء من الروايات بعد التتبع التام، إلا إن كان ذلك مأخوذا من قول صاحب الاستيعاب إنه عقل المجة وهو ابن أربع سنين أو خمس، وكان الحامل له على هذا التردد قول الواقدي إنه كان ابن ثلاث وتسعين لما مات، والأول أولى بالاعتماد لصحة إسناده، على أن قول الواقدي يمكن حمله إن صح على أنه ألغى الكسر وجبره غيره. والله أعلم. وإذا تحرر هذا فقد اعترض المهلب على البخاري لكونه لم يذكر هنا حديث ابن الزبير في رؤيته والده يوم بني قريظة ومراجعته له في ذلك، ففيه السماع منه وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين أو أربعا، فهو أصغر من محمود. وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء فكان ذكر حديث ابن الزبير أولى لهذين المعنيين. وأجاب ابن المنير بأن البخاري إنما أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال الوجودية، ومحمود نقل سنة مقصودة في كون النبي صلى الله عليه وسلم مج مجة في وجهه، بل في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية تثبت كونه صحابيا. وأما قصة ابن الزبير فليس فيها نقل سنة من السنن النبوية حتى تدخل في هذا الباب. ثم أنشد وصاحب البيت أدرى بالذي فيه انتهى. وهو جواب مسدد. وتكملته ما قدمناه قبل أن المقصود بلفظ السماع في الترجمة هو أو ما ينزل منزلته من نقل الفعل أو التقرير، وغفل البدر الزركشي فقال: يحتاج المهلب إلى ثبوت أن قصة ابن الزبير صحيحة على شرط البخاري. انتهى. والبخاري قد أخرج قصة ابن الزبير المذكورة في مناقب الزبير في الصحيح، فالإيراد موجه وقد حصل جوابه. والعجب من متكلم على كتاب يغفل عما وقع فيه في المواضع الواضحة ويعترضها بما يؤدي إلى نفي ورودها فيه. قوله: "من دلو" زاد النسائي: "معلق " ولابن حبان: "معلقة " والدلو يذكر ويؤنث. وللمصنف في الرقاق من رواية معمر " من دلو كانت في دارهم " وله في الطهارة والصلاة وغيرهما: "من بئر " بدل دلو، ويجمع بينهما بأن الماء أخذ بالدلو من البئر وتناوله النبي صلى الله عليه وسلم من الدلو. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز إحضار الصبيان مجالس الحديث وزيارة الإمام أصحابه في دورهم ومداعبته صبيانهم، واستدل به بعضهم على تسميع من يكون ابن خمس، ومن كان دونها يكتب له حضور. وليس في الحديث ولا في تبويب البخاري ما يدل عليه بل الذي ينبغي في ذلك اعتبار الفهم، فمن فهم الخطاب سمع وإن كان دون ابن خمس وإلا فلا. وقال ابن رشيد: الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك، لا أن بلوغها شرط لا بد من تحققه، والله أعلم. وقريب منه ضبط الفقهاء سن التمييز بست أو سبع، والمرجح أنها مظنة لا تحديد. ومن أقوى ما يتمسك به في أن المرد في ذلك إلى الفهم فيختلف باختلاف الأشخاص ما أورده الخطيب من طريق أبي عاصم قال: ذهبت بابني - وهو ابن ثلاث سنين - إلى ابن جريج فحدثه، قال أبو عاصم: ولا بأس بتعليم الصبي الحديث والقرآن وهو في هذا السن، يعني إذا كان فهما. وقصة أبي بكر بن المقري الحافظ في تسميعه لابن أربع بعد أن امتحنه بحفظ سور من القرآن مشهورة.

(1/173)


19- باب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ
78- حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قَاضِي حِمْصَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي

(1/173)


صَاحِبِ مُوسَى فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ فَقَالَ أُبَيٌّ نَعَمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ "بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلاَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَتَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ قَالَ مُوسَى لاَ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ فَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ"
قوله: "باب الخروج" أي السفر "في طلب العلم" لم يذكر فيه شيئا مرفوعا صريحا، وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة رفعه: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة " ولم يخرجه المصنف لاختلاف فيه. قوله: "ورحل جابر بن عبد الله" هو الأنصاري الصحابي المشهور، وعبد الله بن أنيس بضم الهمزة مصغرا هو الجهني حليف الأنصار. قوله: "في حديث واحد" هو حديث أخرجه المصنف في الأدب المفرد وأحمد وأبو يعلى في مسنديهما من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا ثم شددت رحلي فسرت إليه شهرا حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن أموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة عراة " فذكر الحديث. وله طريق أخرى أخرجها الطبراني في مسند الشاميين، وتمام في فوائده من طريق الحجاج بن دينار عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كان يبلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في القصاص، وكان صاحب الحديث بمصر فاشتريت بعيرا فسرت حتى وردت مصر فقصدت إلى باب الرجل..فذكر نحوه.وإسناده صالح. وله طريق ثالثة أخرجها الخطيب في الرحلة من طريق أبي الجارود العنسي - وهو بالنون الساكنة - عن جابر قال: بلغني حديث في القصاص.. فذكر الحديث نحوه. وفي إسناده ضعف " وادعى بعض المتأخرين أن هذا ينقض القاعدة المشهورة أن البخاري حيث يعلق بصيغة الجزم يكون صحيحا وحيث يعلق بصيغة التمريض يكون فيه علة، لأنه علقه بالجزم هنا، ثم أخرج طرفا من متنه في كتاب التوحيد بصيغة التمريض فقال: ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت " الحديث. وهذه الدعوى مردودة، والقاعدة بحمد الله غير منتقضة، ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأن الإسناد حسن وقد اعتضد. وحيث ذكر طرفا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل(1) فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو
ـــــــ
(1) ليس الأمر كذلك,بل إطلاق الصوت على كلام الله سبحانه قد ثبت في غير هذا الحديث عند المؤلف وغيره ,فالواجب إثبات ذلك على الوجه الائق بالله كسائر الصفات كما هو مذهب أهل السنة. والله أعلم

(1/174)


اعتضدت. ومن هنا يظهر شفوف علمه ودقة نظره وحسن تصرفه رحمه الله تعالى. ووهم ابن بطال فزعم أن الحديث الذي رحل فيه جابر إلى عبد الله بن أنيس هو حديث الستر على المسلم، وهو انتقال من حديث إلى حديث، فإن الراحل في حديث الستر هو أبو أيوب الأنصاري رحل فيه إلى عقبة بن عامر الجهني، أخرجه أحمد بسند منقطع، وأخرجه الطبراني من حديث مسلمة بن مخلد قال: أتاني جابر فقال لي. حديث بلغني أنك ترويه في الستر. . فذكره. وقد وقع ذلك لغير من ذكره، فروى أبو داود من طريق عبد الله بن بريدة أن رجلا من الصحابة رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر في حديث. وروى الخطيب عن عبيد الله بن عدي قال: بلغني حديث عند علي فخفت إن مات أن لا أجده عند غيره فرحلت حتى قدمت عليه العراق. وتتبع ذلك يكثر، وسيأتي قول الشعبي في مسألة. إن كان الرجل ليرحل فيما دونها إلى المدينة. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. وسيأتي نحو ذلك عن غيره. وفي حديث جابر دليل على طلب علو الإسناد، لأنه بلغه الحديث عن عبد الله بن أنيس فلم يقنعه حتى رحل فأخذه عنه بلا واسطة. وسيأتي عن ابن مسعود في كتاب فضائل القرآن قوله: لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه. وأخرج الخطيب عن أبي العالية قال: كنا نسمع عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم. وقيل لأحمد: رجل يطلب العلم يلزم رجلا عنده علم كثير، أو يرحل؟ قال: يرحل، يكتب عن علماء الأمصار، فيشافه الناس ويتعلم منهم. وفيه ما كان عليه الصحابة من الحرص على تحصيل السنن النبوية. وفيه جواز اعتناق القادم حيث لا تحصل الريبة. قوله: "خالد بن خلي" هو بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء تحتانية مشددة كما تقدم في المقدمة، وإنما أعدته لأنه وقع عند الزركشي مضبوطا بلام مشددة، وهو سبق قلم أو خطأ من الناسخ. قوله: "قال الأوزاعي" في رواية الأصيلي: حدثنا الأوزاعي. قوله: "أنه تمارى هو والحر" سقطت " هو " من رواية ابن عساكر فعطف على المرفوع المتصل بغير تأكيد ولا فصل، وهو جائز عند البعض. وقد تقدمت مباحث هذا الحديث قبل ببابين، وليس بين الروايتين اختلاف إلا فيما لا يغير المعنى وهو قليل. وفيه فضل الازدياد من العلم، ولو مع المشقة والنصب بالسفر، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه. ووجه الدلالة منه قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وموسى عليه السلام منهم، فتدخل أمة النبي صلى الله عليه وسلم تحت هذا الأمر إلا فيما ثبت نسخه.

(1/175)


20- باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلاَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلاَ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الأَرْضِ".

(1/175)


قوله: "باب فضل من علم وعلم" الأولى بكسر اللام الخفيفة أي صار عالما، والثانية بفتحها وتشديدها. قوله: "حدثنا محمد بن العلاء" هو أبو كريب مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وكذا شيخه أبو أسامة، وبريد بضم الموحدة وأبو بردة حده وهو ابن أبي موسى الأشعري. وقال في السياق عن أبي موسى ولم يقل عن أبيه تفننا، والإسناد كله كوفيون. قوله: "مثل" بفتح المثلثة والمراد به الصفة العجيبة لا القول السائر. قوله: "الهدى" أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية. قوله: "نقية" كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر ثغبة بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، قال الخطابي: هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. قال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية، وإحالة للمعنى. لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء. قال: وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق إلا " نقية " بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم: "طائفة طيبة". قلت: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي. وروي: "بقعة " قلت: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين. ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال: والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس، ومنه: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ}. قوله: "قبلت" بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول، كذا في معظم الروايات. ووقع عند الأصيلي: "قيلت " بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف كما سنذكره بعد. قوله: "الكلأ" بالهمزة بلا مد. قوله: "والعشب" هو من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معا، والعشب للرطب فقط. قوله: "إخاذات" كذا في رواية أبي ذر بكسر الهمزة والخاء والذال المعجمتين وآخره مثناة من فوق قبلها ألف جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء. وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره: "أجادب " بالجيم والدال المهملة بعدها موحدة جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. وضبطه المازري بالذال المعجمة. ووهمه القاضي. ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب: "أحارب " بحاء وراء مهملتين، قال الإسماعيلي: لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي: ليست هذه الرواية بشيء. قال: وقال بعضهم: "أجارد " بجيم وراء ثم دال مهملة جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت، قال الخطابي: هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات، وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي. قوله: "فنفع الله بها" أي بالإخاذات. وللأصيلي به أي بالماء. قوله: "وزرعوا" كذا له بزيادة زاي من الزرع، ووافقه أبو يعلى ويعقوب بن الأخرم وغيرهما عن أبي كريب، ولمسلم والنسائي وغيرهما عن أبي كريب: "ورعوا " بغير زاي من الرعي، قال النووي. كلاهما صحيح. ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح، لأن رواية زرعوا تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية رعوا مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات. وقيل إنه روي " ووعوا " بواوين، ولا أصل لذلك.وقال القاضي قوله: "ورعوا " راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات انتهى. ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت. قوله: "فأصاب" أي الماء. وللأصيلي وكريمة أصابت أي طائفة أخرى. ووقع كذلك صريحا عند النسائي. والمراد

(1/176)


بالطائفة القطعة. قوله: "قيعان" بكسر القاف جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. قوله: "فقه" بضم القاف أي صار فقيها. وقال ابن التين: رويناه بكسرها والضم أشبه. قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها" .ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يرفع بذلك رأسا " أي أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع. والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلا، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض السماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولم يقبل هدى الله الذي جئت به". وقال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره، والثاني من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره. قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما. وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم: "من لم يرفع بذلك رأسا " والله أعلم. قوله: "قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت" أي بتشديد الياء التحتانية. أي إن إسحاق وهو ابن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف. قال الأصيلي: هو تصحيف من إسحاق. وقال غيره: بل هو صواب ومعناه شربت، والقيل شرب نصف النهار، يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة. وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة. وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزا. وقال ابن دريد: قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه، وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل، لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية، والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت. قال: والأظهر أنه تصحيف. قوله: "قاع يعلوه الماء. والصفصف المستوي من الأرض" هذا ثابت عند المستملي، وأراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها، وإنما ذكر الصفصف معه جريا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وقد يستطرد. ووقع في بعض النسخ المصطف بدل الصفصف وهو تصحيف. "تنبيه": وقع في رواية كريمة: وقال ابن إسحاق: وكان شيخنا العراقي يرجحها ولم أسمع ذلك منه، وقد وقع في نسخة الصغاني: وقال إسحاق عن أبي أسامة. وهذا يرجح الأول.

(1/177)


21- باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَقَالَ رَبِيعَةُ لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ
80- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا"
[الحديث 80- اطرافه في: 6808,5577,5232,81]
قوله: "باب رفع العلم" مقصود الباب الحث على تعلم العلم، فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء كما سيأتي صريحا. وما دام من يتعلم العلم موجودا لا يحصل الرفع. وقد تبين في حديث الباب أن رفعه من علامات الساعة. قوله: "وقال ربيعة" هو ابن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، المعروف بربيعة الرأي - بإسكان الهمزة - قيل له ذلك لكثرة اشتغاله بالاجتهاد. ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم. أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم. أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه. وقيل مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضا للدنيا. وهذا معنى حسن، لكن اللائق بتبويب المصنف ما تقدم. وقد وصل أثر ربيعة المذكور الخطيب في الجامع والبيهقي في المدخل من طريق عبد العزيز الأويسي عن مالك عن ربيعة. قوله: "حدثنا عمران بن ميسرة" في بعضها عمران غير مذكور الأب، وقد عرف من الرواية الأخرى أنه ابن ميسرة. وقد خرجه النسائي عن عمران بن موسى القزاز، وليس هو شيخ البخاري فيه. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد "عن أبي التياح" بمثناة مفتوحة فوقانية بعدها تحتانية ثقيلة وآخره حاء مهملة كما تقدم. قوله: "عن أنس" زاد الأصيلي وأبو ذر: "ابن مالك " وللنسائي: "حدثنا أنس". ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون، وكذا الذي بعده. قوله: "أشراط الساعة" أي علاماتها كما تقدم في الإيمان، وتقدم أن منها ما يكون من قبيل المعتاد، ومنها ما يكون خارقا للعادة. قوله: "أن يرفع العلم" هو في محل نصب لأنه اسم أن، وسقطت " أن " من رواية النسائي حيث أخرجه عن عمران شيخ البخاري فيه، فعلى روايته يكون مرفوع المحل. والمراد برفعه موت حملته كما تقدم. قوله: "ويثبت" هو بفتح أوله وسكون المثلثة وضم الموحدة وفتح المثناة. وفي رواية مسلم: "ويبث " بضم أوله وفتح الموحدة بعدها مثلثة أي ينتشر. وغفل الكرماني فعزاها للبخاري، وإنما حكاها النووي في الشرح لمسلم. قال الكرماني: وفي رواية: "وينبت " بالنون بدل المثلثة من النبات، وحكى ابن رجب عن بعضهم: "وينث " بنون ومثلثة من النث وهو الإشاعة. قلت: وليست هذه في شيء من الصحيحين. قوله: "ويشرب الخمر" هو بضم المثناة أوله وفتح الموحدة على العطف، والمراد كثرة ذلك واشتهاره. وعند المصنف في النكاح من طريق هشام عن قتادة: "ويكثر شرب الخمر " فالعلامة مجموع ما ذكر. قوله: "ويظهر الزنا" أي يفشو كما في رواية مسلم.
81- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لاَحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لاَ يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ"

(1/178)


قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن أنس" زاد الأصيلي: "ابن مالك". قوله: "لأحدثنكم" فتح اللام وهو جواب قسم محذوف أي والله لأحدثنكم، وصرح به أبو عوانة من طريق هشام عن قتادة، ولمسلم من رواية غندر عن شعبة ألا أحدثكم فيحتمل أن يكون قال لهم أولا: ألا أحدثكم؟ فقال نعم، فقال: لأحدثنكم. قوله: "لا يحدثكم أحد بعدي" كذا له ولمسلم بحذف المفعول، ولابن ماجه من رواية غندر عن شعبة لا يحدثكم به أحد بعدي، وللمصنف من طريق هشام لا يحدثكم به غيري، ولأبي عوانة من هذا الوجه: "لا يحدثكم أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدي " وعرف أنس أنه لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة، فلعل الخطاب بذلك كان لأهل البصرة، أو كان عاما وكان تحديثه بذلك في آخر عمره، لأنه لم يبق بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النادر ممن لم يكن هذا المتن في مرويه. وقال ابن بطال: يحتمل أنه قال ذلك لما رأى من التغيير ونقص العلم، يعني فاقتضى ذلك عنده أنه لفساد الحال لا يحدثهم أحد بالحق. قلت: والأول أولى. قوله: "سمعت" هو بيان، أو بدل لقوله لأحدثنكم. قوله: "أن يقل العلم" هو بكسر القاف من القلة. وفي رواية مسلم عن غندر وغيره عن شعبة: "أن يرفع العلم " وكذا في رواية سعيد عند ابن أبي شيبة وهمام عند المصنف في الحدود وهشام عنده في النكاح كلهم عن قتادة، وهو موافق لرواية أبي التياح، وللمصنف أيضا في الأشربة من طريق هشام: "أن يقل " فيحتمل أن يكون المراد بقلته أول العلامة وبرفعه آخرها، أو أطلقت القلة وأريد بها العدم كما يطلق العدم ويراد به القلة، وهذا أليق لاتحاد المخرج. قوله: "وتكثر النساء" قيل سببه أن الفتن تكثر فيكثر القتل في الرجال لأنهم أهل الحرب دون النساء. وقال أبو عبد الملك: "هو إشارة إلى كثرة الفتوح فتكثر السبايا فيتخذ الرجل الواحد عدة موطوءات". قلت: وفيه نظر، لأنه صرح بالقلة في حديث أبي موسى الآتي في الزكاة عند المصنف فقال: "من قلة الرجال وكثرة النساء " والظاهر أنها علامة محضة لا لسبب آخر، بل يقدر الله في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور ويكثر من يولد من الإناث، وكون كثرة النساء من العلامات مناسبة لظهور الجهل ورفع العلم. وقوله: "لخمسين " يحتمل أن يراد به حقيقة هذا العدد، أو يكون مجازا عن الكثرة. ويؤيده أن في حديث أبي موسى: "وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة" . قوله: "القيم" أي من يقوم بأمرهن، واللام للعهد إشعارا بما هو معهود من كون الرجال قوامين على النساء. وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي الدين لأن رفع العلم يخل به، والنقل لأن شرب الخمر يخل به، والنسب لأن الزنا يخل به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخل بهما. قال الكرماني: وإنما كان اختلال هذه الأمور مؤذنا بخراب العالم لأن الخلق لا يتركون هملا، ولا نبي بعد نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، فيتعين ذلك. وقال القرطبي في " المفهم ": في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت، خصوصا في هذه الأزمان. وقال القرطبي في التذكرة: يحتمل أن يراد بالقيم من يقوم عليهن سواء كن موطوءات أم لا. ويحتمل أن يكون ذلك يقع في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقول الله الله فيتزوج الواحد بغير عدد جهلا بالحكم الشرعي. قلت: وقد وجد ذلك من بعض أمراء التركمان وغيرهم من أهل هذا الزمان مع دعواه الإسلام. والله المستعان.

(1/179)


22- باب فَضْلِ الْعِلْمِ
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لاَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ" قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ "الْعِلْمَ"
[الحديث 82- أطرافه في:7032,7027,7007,7006,3681]
قوله: "باب فضل العلم" الفضل هنا بمعنى الزيادة أي ما فضل عنه، والفضل الذي تقدم في أول كتاب العلم بمعنى الفضيلة، فلا يظن أنه كرره. قوله: "حدثنا سعيد بن عفير" هو سعيد بن كثير بن عفير المصري، نسب إلى جده كما تقدم. وعفير بضم المهملة بعدها فاء كما تقدم أيضا. قوله: "حدثنا الليث" هو ابن سعد عن عقيل، وللأصيلي وكريمة: "حدثني الليث حدثني عقيل". قوله: "عن حمزة" وللمصنف في التعبير: "أخبرني حمزة". قوله: "بينا" صله بين فأشبعت الفتحة. قوله: "أتيت" بضم الهمزة. قوله: "فشربت" أي من ذلك اللبن. قوله: "لأرى" بفتح الهمزة من الرواية أو من العلم، واللام للتأكيد أو جواب قسم محذوف، والري بكسر الراء في الرواية وحكى الجوهري الفتح. وقال غيره: بالكسر الفعل، وبالفتح المصدر. قوله: "يخرج" أي الري، وأطلق رؤيته إياه على سبيل الاستعارة. قوله: "في أظفاري" في رواية ابن عساكر: "من أظفاري " وهو أبلغ، وفي التعبير: "من أطرافي " وهو بمعناه. قوله: "قال العلم" هو بالنصب وبالرفع معا في الرواية، وتوجيههما ظاهر. وتفسير اللبن بالعلم لاشتراكهما في كثرة النفع بهما. وسيأتي بقية الكلام عليه في مناقب عمر وفي كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: وجه الفضيلة للعلم في الحديث من جهة أنه عبر عن العلم بأنه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم ونصيب مما آتاه الله، وناهيك بذلك، انتهى. وهذا قاله بناء على أن المراد بالفضل الفضيلة، وغفل عن النكتة المتقدمة.

(1/180)


23- باب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا
83- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَقَالَ "اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ" فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ "ارْمِ وَلاَ حَرَجَ " فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
[الحديث83- طرفه في,6665,1738,1737,1736,124,]
قوله: "باب الفتيا" و بضم الفاء، وإن قلت الفتوى فتحتها، والمصادر الآتية بوزن فتيا قليلة مثل تقيا ورجعى. قوله: "وهو" أي المفتي، ومراده أن العالم يجيب سؤال الطالب ولو كان راكبا. قوله: "على الدابة" لمراد بها في اللغة كل ما مشى على الأرض، وفي العرف ما يركب. وهو المراد بالترجمة، وبعض أهل العرف خصها بالحمار، فإن قيل ليس في سياق الحديث ذكر الركوب فالجواب أنه أحال به على الطريق الأخرى التي أوردها في الحج

(1/180)


فقال: "كان على ناقته " ترجم له: "باب الفتيا على الدابة عند الجمرة " فأورد الحديث من طريق مالك عن ابن شهاب فذكره كالذي هنا، ثم من طريق ابن جريج نحوه. ثم من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب بلفظ: "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته " قال فذكر الحديث ولم يسق لفظه وقال بعده: تابعه معمر عن الزهري. انتهى. ورواية معمر وصلها أحمد ومسلم والنسائي وفيها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على ناقته. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "حجة الوداع" هو بفتح الحاء ويجوز كسرها. قوله: "للناس يسألونه" هو إما حال من فاعل وقف أو من الناس، أو استئناف بيانا لسبب الوقوف. قوله: "فجاء رجل" لم أعرف اسم هذا السائل ولا الذي بعده في قوله: "فجاء آخر " والظاهر أن الصحابي لم يسم أحدا لكثرة من سأل إذ ذاك، وسيأتي بسط ذلك في الحج. قوله: "ولا حرج" أي لا شيء عليه مطلقا من الإثم، لا في الترتيب ولا في ترك الفدية. هذا ظاهره. وقال بعض الفقهاء: المراد نفي الإثم فقط، وفيه نظر لأن في بعض الروايات الصحيحة: "ولم يأمر بكفارة " وسيأتي مباحث ذلك في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. ورجال هذا الإسناد كلهم مدنيون.

(1/181)


24- باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ
84- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ "وَلاَ حَرَجَ" قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ "وَلاَ حَرَجَ".
[الحديث84- أطرافه في:6666,1735,1734,1723,1722,1721]
قوله: "باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد أو الرأس" الإشارة باليد مستفادة من الحديثين المذكورين في الباب أولا، وهما مرفوعان. وبالرأس مستفادة من حديث أسماء فقط، وهو من فعل عائشة فيكون موقوفا لكن له حكم المرفوع، لأنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان في الصلاة يرى من خلفه فيدخل في التقرير. قوله: "وهيب" بالتصغير وهو ابن خالد، من حفاظ البصرة، مات سنة خمس وستين وقيل تسع وستين، وأرخه الدمياطي في حواشي نسخته سنة ست وخمسين وهو وهم. وأيوب هو السختياني، وعكرمة هو مولى ابن عباس، والإسناد كله بصريون. قوله: "سئل" هو بضم أوله "فقال" أي السائل: "ذبحت قبل أن أرمي" أي فهل علي شيء؟ قوله: "فأومأ بيده فقال: "لا حرج" أي عليك. وقوله: "فقال: "يحتمل أن يكون بيانا لقوله أومأ ويكون من إطلاق القول على الفعل كما في الحديث الذي بعده: "فقال هكذا بيده"، ويحتمل أن يكون حالا والتقدير فأومأ بيده قائلا لا حرج، فجمع بين الإشارة والنطق، والأول أليق بترجمة المصنف. قوله: "وقال حلقت" يحتمل أن السائل هو الأول، ويحتمل أن يكون غيره ويكون التقدير فقال سائل كذا. وقال آخر كذا، وهو الأظهر ليوافق الرواية التي قبله حيث قال: فجاء آخر. قوله: "فأومأ بيده "ولا حرج" كذا ثبتت الواو في قوله ولا حرج، وليست عند أبي ذر في الجواب الأول. قال الكرماني: لأن الأول كان في ابتداء الحكم والثاني عطف على المذكور أولا انتهى. وقد ثبتت الواو في الأول أيضا في رواية الأصيلي وغيره.

(1/181)


85- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْل".
[الحديث85-أطرافه في:7121,7115,7061,6935,6506,6037,4636,4635,3609,3608,1412,1036]
قوله: "حدثنا المكي" هو اسم وليس بنسب، وهو من كبار شيوخ البخاري كما سنذكره في باب إثم من كذب. قوله: "أخبرنا حنظلة" هو ابن أبي سفيان بن عبد الرحمن الجمحي المدني. قوله: "عن سالم" هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفي رواية الإسماعيلي من طريق إسحاق بن سليمان الراوي عن حنظلة قال: "سمعت سالما " وزاد فيه: "لا أدري كم رأيت أبا هريرة قائما في السوق يقول يقبض العلم " فذكره موقوفا، لكن ظهر في آخره أنه مرفوع. قوله: "يقبض العلم" يفسر المراد بقوله قبل هذا: "يرفع العلم " والقبض يفسره حديث عبد الله بن عمرو الآتي بعد أنه يقع بموت العلماء. قوله: "ويظهر الجهل" هو من لازم ذلك. قوله: "والفتن" في رواية الأصيلي وغيره: "وتظهر الفتن". قوله: "الهرج" هو بفتح الهاء وسكون الراء بعدها جيم. قوله: "فقال هكذا بيده" و من إطلاق القول على الفعل. قوله: "فحرفها" الفاء فيه تفسيرية كأن الراوي بين أن الإيماء كان محرفا. قوله: "كأنه يريد القتل" كأن ذلك فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب، لكن هذه الزيادة لم أرها في معظم الروايات وكأنها من تفسير الراوي عن حنظلة، فإن أبا عوانة رواه عن عباس الدوري عن أبي عاصم عن حنظلة وقال في آخره: "وأرانا أبو عاصم كأنه يضرب عنق الإنسان " وقال الكرماني: الهرج هو الفتنة، فإرادة القتل من لفظه على طريق التجوز إذ هو لازم معنى الهجر، قال إلا أن يثبت ورود الهرج بمعنى القتل لغة. قلت: وهي غفلة عما في البخاري في كتاب الفتن. والهجر القتل بلسان الحبشة. وسيأتي بقية مباحث هذا الحديث هناك إن شاء الله تعالى.
86- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ "أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَنِي الْغَشْيُ فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ "مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ" قَالَتْ أَسْمَاءُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاَثًا فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ".
[الحديث 86- أطرافه في: 7287,2520,2519,1373,1235,1061,1054,1053,922,184]

(1/182)


قوله: "هشام" هو ابن عروة بن الزبير. عن "فاطمة" هي بنت المنذر بن الزبير وهي زوجة هشام وبنت عمه. قوله: "عن أسماء" أي بنت أبي بكر الصديق زوج الزبير بن العوام وهي جدة هشام وفاطمة جميعا. قوله: "فقلت ما شأن الناس" أي لما رأت من اضطرابهم. قوله: "فأشارت" أي عائشة إلى السماء أي انكسفت الشمس. قوله: "فإذا الناس قيام" كأنها التفتت من حجرة عائشة إلى من في المسجد فوجدتهم قياما في صلاة الكسوف، ففيه إطلاق الناس على البعض. قوله: "فقالت سبحان الله" أي أشارت قائلة سبحان الله. قوله: "قلت آية" هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هذه آية أي علامة، ويجوز حذف همزة الاستفهام وإثباتها. قوله: "فقمت" أي في الصلاة. قوله: "حتى علاني" كذا للأكثر بالعين المهملة وتخفيف اللام. وفي رواية كريمة تجلاني بمثناة وجيم ولام مشددة، وجلال الشيء ما غطي به. والغشي بفتح الغين وإسكان الشين المعجمتين وتخفيف الياء وبكسر الشين وتشديد الياء أيضا هو طرف من الإغماء، والمراد به هنا الحالة القريبة منه فأطلقته مجازا، ولهذا قالت: فجعلت أصب على رأسي الماء أي في تلك الحال ليذهب. ووهم من قال بأن صبها كان بعد الإفاقة، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب الطهارة، ويأتي الكلام على هذا الحديث أيضا في صلاة الكسوف إن شاء الله تعالى. قوله: "أريته" هو بضم الهمزة. قوله: "حتى الجنة والنار" رويناه بالحركات الثلاث فيهما. قوله: "مثل أو قريبا" كذا هو بترك التنوين في الأول وإثباته في الثاني، قال ابن مالك، توجيهه أن أصله مثل فتنة الدجال أو قريبا من فتنة الدجال، فحذف ما أضيف إلى مثل وترك على هيئته قبل الحذف، وجاز الحذف لدلالة ما بعده عليه، وهذا كقول الشاعر: بين ذراعي وجبهة الأسد تقديره: بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد وقال الآخر:
أمام وخلف المرء من لطف ربه ... كواليء تزوي عنه ماهو يحذر
وفي رواية بترك التنوين في الثاني أيضا، وتوجيهه أنه مضاف إلى فتنة أيضا، وإظهار حرف الجر بين المضاف والمضاف إليه جائز عند قوم.وقوله: "لا أدري أي ذلك قالت أسماء " جملة معترضة بين بها الراوي أن الشك منه هل قالت له أسماء مثل أو قالت قريبا، وستأتي مباحث هذا المتن في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى."تنبيه": وقع في نسخة الصغاني هنا: قال ابن عباس مرقدنا مخرجنا.وفي ثبوت ذلك نظر لأنه لم يقع في الحديث لذلك ذكر وإن كان قد يظهر له مناسبة.وقد ذكر ذلك في موضعه من سورة يس.

(1/183)


25- باب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإِيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ".
87- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ "كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "مَنْ الْوَفْدُ أَوْ مَنْ الْقَوْمُ" قَالُوا رَبِيعَةُ فَقَالَ "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى" قَالُوا إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ قَالَ هَلْ "تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ

(1/183)


بِاللَّهِ وَحْدَهُ" قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ "شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ" وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ قَالَ شُعْبَةُ رُبَّمَا قَالَ النَّقِيرِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ قَالَ "احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ".
قوله: "باب تحريض" هو بالضاد المعجمة ومن قالها بالمهملة هنا فقد صحف. قوله: "وقال مالك بن الحويرث" هو بصيغة تصغير الحارث. وهذا التعليق طرف من حديث له مشهور يأتي في الصلاة. قوله: "أبي جمرة" هو بالجيم والراء كما تقدم. قوله: "من شقة" بضم الشين المعجمة وتشديد القاف. قوله: "وتعطوا" كذا وقع، وهو منصوب بتقدير أن، وساغ التقدير لأن المعطوف عليه اسم قاله الكرماني. قلت: قد رواه أحمد عن غندر فقال: "وأن تعطوا " فكأن حذفها من شيخ البخاري. قوله: "قال شعبة: وربما قال النقير" أي بالنون المفتوحة وتخفيف القاف المكسورة "وربما قال المقير" أي بالميم المضمومة وفتح القاف وتشديد الياء المفتوحة، وليس المراد أنه كان يتردد في هاتين اللفظتين ليثبت إحداهما دون الأخرى لأنه يلزم من ذكر المقير التكرار لسبق ذكر المزفت لأنه بمعناه، بل المراد أنه كان جازما بذكر الثلاثة الأول شاكا في الرابع وهو النقير، فكان تارة يذكره وتارة لا يذكره. وكان أيضا شاكا في التلفظ بالثالث فكان تارة يقول المزفت وتارة يقول المقير. هذا توجيهه فلا يلتفت إلى ما عداه. وقد تقدمت مباحث هذا الحديث في أواخر كتاب الإيمان. وأخرجه المصنف هناك عاليا عن علي بن الجعد عن شعبة، ولم يتردد إلا في المزفت والمقير فقط، وجزم بالنقير، وهو يؤيد ما قلته. والله أعلم. قوله: "وأخبروه" هو بفتح الهمزة وكسر الباء وللكشميهني: "وأخبروا " بحذف الضمير.

(1/184)


26- باب الرِّحْلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ
88- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: "إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلاَ أَخْبَرْتِنِي فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ".
[الحديث88- أطرافه في:5104,2660,2659,2640,2052,]
قوله: "باب الرحلة" هو بكسر الراء بمعنى الارتحال، وفي روايتنا أيضا بفتح الراء أي الواحدة، وأما بضمها فالمراد به الجهة، وقد تطلق على من يرتحل إليه. وفي رواية كريمة: "وتعليم أهله " بعد قوله في المسألة النازلة، والصواب حذفها لأنها تأتي في باب آخر. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "حدثني عبد الله بن أبي مليكة" هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة نسب إلى جده. قوله: "عن عقبة بن الحارث" سيأتي تصريحه بالسماع من عقبة في كتاب النكاح خلافا لمن أنكره، وسيأتي الخلاف في كنية عقبة في قصة خبيب بن عدي. قوله: "أنه تزوج ابنة" اسمها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها ياء تحتانية مشددة، وكنيتها أم يحيى كما يأتي في الشهادات. وهجم الكرماني فقال: لا يعرف اسمها، وأبو إهاب بكسر الهمزة لا أعرف اسمه، وهو مذكور في الصحابة، وعزيز بفتح العين

(1/184)


المهملة وكسر الزاي وآخره زاي أيضا كما تقدم في المقدمة، ومن قاله بضم أوله فقد حرف. قوله: "فأتته امرأة" لم أقف على اسمها. قوله: "ولا أخبرتني" بكسر المثناة أي قبل ذلك كأنه اتهمها. قوله: "فركب" أي من مكة لأنها كانت دار إقامته. والفرق بين هذه الترجمة وترجمة: "باب الخروج في طلب العلم " أن هذا أخص وذاك أعم، وستأتي مباحث هذا الحديث في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. قوله: "ونكحت زوجا غيره" اسم هذا الزوج ظريب بضم المعجمة المشالة وفتح الراء وآخره موحدة مصغرا.

(1/185)


3 - باب التَّنَاوُبِ فِي الْعِلْمِ
89- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لاَ أَدْرِي ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ "لاَ" فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ".
[الحديث 89- أطرافه في: 7263,7256,5843,5218,5191,4915,4914,4913,2468]
قوله: "باب التناوب" هو بالنون وضم الواو من النوبة بفتح النون. قوله: "وقال ابن وهب" هذا التعليق وصله ابن حبان في صحيحه عن ابن قتيبة عن حرملة عنه بسنده، وليس في روايته قول عمر: "كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول " وهو مقصود هذا الباب، وإنما وقع ذلك في رواية شعيب وحده عن الزهري، نص على ذلك الذهلي والدارقطني والحاكم وغيرهم، وقد ساق المصنف الحديث في كتاب النكاح عن ابن اليمان وحده أتم مما هنا بكثير، وإنما ذكر هنا رواية يونس بن يزيد ليوضح أن الحديث كله ليس من أفراد شعيب. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور" و مكي نوفلي، وقد اشترك معه في اسمه واسم أبيه، وفي الرواية عن ابن عباس وفي رواية الزهري عنهما عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المدني الهذلي، لكن روايته عن ابن عباس كثيرة في الصحيحين، وليس لابن أبي ثور عن ابن عباس غير هذا الحديث الواحد. قوله: "وجار لي" هذا الجار هو عتبان بن مالك أفاده ابن القسطلاني، لكن لم يذكر دليله. قوله: "في بني أمية" أي ناحية بني أمية، سميت البقعة باسم من نزلها. قوله: "أثم" هو بفتح المثلثة. قوله: "دخلت على حفصة" ظاهر سياقه يوهم أنه من كلام الأنصاري، وإنما الداخل على حفصة عمر، وللكشميهني: "فدخلت على حفصة " أي قال عمر: فدخلت على حفصة، وإنما جاء هذا من الاختصار، وإلا ففي أصل الحديث بعد قوله أمر عظيم: "طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. قلت: قد كنت أظن أن هذا كائن، حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت، فدخلت على حفصة " يعني أم المؤمنين بنته.وفي

(1/185)


هذا الحديث الاعتماد على خبر الواحد، والعمل بمراسيل الصحابة. وفي أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على طلب العلم وغيره، مع أخذه بالحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته، لما علم من حال عمر أنه كان يتعاطى التجارة إذ ذاك كما سيأتي في البيوع. وفيه أن شرط التواتر أن يكون مستند نقلته الأمر المحسوس، لا الإشاعة التي لا يدرى من بدأ بها. وسيأتي بقية الكلام عليه في النكاح إن شاء الله تعالى.

(1/186)


باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى مايكره
...
28- بَاب الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ
90- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلاَنٌ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ".
[الحديث 90- أطرافه في:7159,6110,704,702]
قوله: "حدثنا محمد بن كثير" هو العبدي ولم يخرج للصنعاني شيئا. قوله: "أخبرني سفيان" هو الثوري "عن ابن أبي خالد" هو إسماعيل. قوله: "قال رجل" قيل هو حزم بن أبي كعب. قوله: "لا أكاد أدرك الصلاة مما يطيل" قال القاضي عياض: ظاهره مشكل، لأن التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه، قال فكأن الألف زيدت بعد لا وكأن أدرك كانت أترك. قلت: هو توجيه حسن لو ساعدته الرواية. وقال أبو الزناد بن سراج: معناه أنه كان به ضعف، فكان إذا طول به الإمام في القيام لا يبلغ الركوع إلا وقد ازداد ضعفه فلا يكاد يتم معه الصلاة. قلت: وهو معنى حسن، لكن رواه المصنف عن الفريابي عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ: "إني لأتأخر عن الصلاة " فعلى هذا فمراده بقوله: "إني لا أكاد أدرك الصلاة " أي لا أقرب من الصلاة في الجماعة بل أتأخر عنها أحيانا من أجل التطويل، وسيأتي تحرير هذا في موضعه في الصلاة، ويأتي الخلاف في اسم الشاكي والمشكو.قوله: "أشد غضبا" قيل إنما غضب لتقدم نهيه عن ذلك. قوله: "وذا الحاجة" كذا للأكثر. وفي رواية القابسي: "وذو الحاجة " وتوجيهه أنه عطف على موضع اسم أن قبل دخولها، أو هو استئناف.
91- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو الْعَقَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ الْمَدِينِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ "اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ" قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ "وَمَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا" قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ "لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ"
[الحديث 91- أطرافه في: 6112,5292,2438,2436,2429,2428,2427,2372]

(1/186)


قوله: "سأله رجل" هو عمير والد مالك، وقيل غيره كما سيأتي في اللقطة. قوله: "وكاءها" هو بكسر الواو ما يربط به، والعفاص بكسر العين المهملة هو الوعاء بكسر الواو. قوله: "فغضب" إما لأنه كان نهى قبل ذلك عن التقاطها، وإما لأن السائل قصر في فهمه فقاس ما يتعين التقاطه على ما لا يتعين. قوله: "سقاؤها" هو بكسر أوله والمراد بذلك أجوافها لأنها تشرب فتكتفي به أياما. قوله: "وحذاؤها" بكسر المهملة ثم ذال معجمة والمراد هنا خفها. وستأتي مباحث هذا الحديث في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى.
92- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ "سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ" قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي قَالَ "أَبُوكَ حُذَافَةُ" فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ" فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
[الحديث92- طرفه في:7291]
قوله: "حدثنا محمد بن العلاء" تقدم هذا الإسناد في: "باب فضل من علم وعلم". قوله: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء" كان منها السؤال عن الساعة وما أشبه ذلك من المسائل كما سيأتي في حديث ابن عباس في تفسير المائدة. قوله: "قال رجل" هو عبد الله بن حذافة بضم أوله وبالذال المعجمة والفاء القرشي السهمي كما سماه في حديث أنس الآتي. قوله: "فقام آخر" هو سعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة، سماه ابن عبد البر في التمهيد في ترجمة سهيل بن أبي صالح منه، وأغفله في الاستيعاب، ولم يظفر به أحد من الشارحين ولا من صنف في المبهمات ولا في أسماء الصحابة، وهو صحابي بلا مرية لقوله: "فقال من أبي يا رسول الله " ووقع في تفسير مقاتل في نحو هذه القصة أن رجلا من بني عبد الدار قال: من أبي؟ قال: سعد، نسبه إلى غير أبيه بخلاف ابن حذافة، وسيأتي مزيد لهذا في تفسير سورة المائدة. قوله: "فلما رأى عمر" هو ابن الخطاب "ما في وجهه" أي من الغضب "قال: يا رسول الله إنا نتوب إلى الله" أي مما يوجب غضبك. وفي حديث أنس الآتي بعد أن عمر برك على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا. والجمع بينهما ظاهر بأنه قال جميع ذلك، فنقل كل من الصحابيين ما حفظ، ودل على اتحاد المجلس اشتراكهما في نقل قصة عبد الله بن حذافة. "تنبيه": قصر المصنف الغضب على الموعظة والتعليم دون الحكم لأن الحاكم مأمور أن لا يقضي وهو غضبان، والفرق أن الواعظ من شأنه أن يكون في صورة الغضبان لأن مقامه يقتضي تكلف الانزعاج لأنه في صورة المنذر، وكذا المعلم إذا أنكر على من يتعلم منه سوء فهم ونحوه لأنه قد يكون ادعى للقبول منه، وليس ذلك لازما في حق كل أحد بل يختلف باختلاف أحوال المتعلمين، وأما الحاكم فهو بخلاف ذلك كما يأتي في بابه. فإن قيل: فقد قضى عليه الصلاة والسلام في حال غضبه حيث قال: أبوك فلان. فالجواب أن يقال: أولا ليس هذا من باب الحكم، وعلى تقديره فيقال: هذا من خصوصياته لمحل العصمة، فاستوى غضبه ورضاه. ومجرد غضبه من الشيء دال على تحريمه أو كراهته، بخلاف غيره صلى الله عليه وسلم.

(1/187)


29- باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِمَامِ أَوْ الْمُحَدِّثِ
93- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فَقَامَ

(1/187)


عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: "مَنْ أَبِي فَقَالَ "أَبُوكَ حُذَافَةُ" ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ "سَلُونِي" فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا فَسَكَتَ"
[الحديث 93- أطرافه في:7295,7294,7091,7090,7089,6468,6362,4621,749,540]
قوله: "باب من برك" هو بفتح الموحدة والراء المخففة، يقال برك البعير إذا استناخ، واستعمل في الآدمي مجازا. قوله: "خرج فقام عبد الله بن حذافة" فيه حذف يظهر من الرواية الأخرى، والتقدير خرج فسئل فأكثروا عليه فغضب فقال: سلوني، فقام عبد الله. قوله: "فقال رضينا بالله ربا" قال ابن بطال: فهم عمر منه أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنت أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك فقال: رضينا بالله ربا الخ، فرضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فسكت.

(1/188)


باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه فقال " ألا وقول الزور " فما زال يكررها.
...
30 - باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلاَثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ فَقَالَ: "أَلاَ وَقَوْلُ الزُّور"ِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ بَلَّغْتُ" ؟ ثَلاَثًا.
قوله: "باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم" هو بضم الياء وفتح الهاء، وفي روايتنا بكسر الهاء، لكن في رواية الأصيلي وكريمة: "ليفهم عنه " وهو بفتح الهاء لا غير. قوله: "فقال "ألا وقول الزور" كذا في رواية أبي ذر وفي رواية غيره: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهو طرف معلق من حديث أبي بكرة المذكور في الشهادات وفي الديات الذي أوله: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ثلاثا فذكر الحديث، ففيه معنى الترجمة لكونه قال لهم ذلك ثلاثا. قوله: "فما زال يكررها" أي في مجلسه ذلك. والضمير يعود على الكلمة الأخيرة وهي قول الزور، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في مكانه. قوله: "وقال ابن عمر" هو طرف أيضا من حديث مذكور عند المصنف في كتاب الحدود أوله " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في حجة الوداع: "أي شهر هذا " فذكر الحديث وفيه هذا القدر المعلق، وقوله: "ثلاثا " متعلق بقال لا بقوله بلغت.
94- حَدَّثَنَا عَبْدَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا".
[الحديث 94- طرفاه في:6244,95]
95- حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَارُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا".
قوله: "حدثنا عبدة" هو ابن عبد الله الصفار، ولم يخرج البخاري عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي وهو من طبقة عبدة الصفار. وفي رواية الأصيلي حدثنا عبدة الصفار. قوله: "حدثنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث بن سعيد، يكنى أبا سهل، والمثنى والد عبد الله هو بضم الميم وفتح المثلثة وتشديد النون المفتوحة وهو ابن عبد الله بن

(1/188)


أنس بن مالك، وثمامة عمه. ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان" أي من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أن أنسا مخبر عما عرفه من شأن النبي صلى الله عليه وسلم وشاهده، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك. ويؤيد ذلك أن المصنف أخرجه في كتاب الاستئذان عن إسحاق - وهو ابن منصور - عن عبد الصمد بهذا الإسناد إلى أنس فقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان". قوله: "إذا تكلم" قال الكرماني: "مثل هذا التركيب يشعر بالاستمرار عند الأصوليين". قوله: "بكلمة" أي بجملة مفيدة. قوله: "أعادها ثلاثا" قد بين المراد بذلك في نفس الحديث بقوله: "حتى تفهم عنه " وللترمذي والحاكم في المستدرك " حتى تعقل عنه". ووهم الحاكم في استدراكه وفي دعواه أن البخاري لم يخرجه. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث عبد الله بن المثنى. انتهى. وعبد الله بن المثنى ممن تفرد البخاري بإخراج حديثه دون مسلم وقد وثقه العجلي والترمذي. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. قلت: لعله أراد في بعض حديثه، وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض من فيه مقال لا يخرج شيئا مما أنكر عليه. وقول ابن معين ليس بشيء أراد به في حديث بعينه سئل عنه، وقد قواه في رواية إسحاق بن منصور عنه. وفي الجملة فالرجل إذا ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا إذا كان مفسرا بأمر قادح، وذلك غير موجود في عبد الله بن المثنى هذا. وقد قال ابن حبان لما ذكره في الثقات: ربما أخطأ. والذي أنكر عليه إنما هو من روايته عن غير عمه ثمامة، والبخاري إنما أخرج له عن عمه هذا الحديث وغيره، ولا شك أن الرجل أضبط لحديث آل بيته من غيره. وقال ابن المنير: نبه البخاري بهذه الترجمة على الرد على من كره إعادة الحديث، وأنكر على الطالب الاستعادة وعده من البلادة، قال: والحق أن هذا يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذا لم يعد بل الإعادة عليه آكد من الابتداء، لأن الشروع ملزم. وقال ابن التين، فيه أن الثلاث غاية ما يقع به الاعتذار والبيان قوله: "وإذا أتى على قوم" أي وكان إذا أتى. قوله: "فسلم عليهم" هو من تتمة الشرط، وقوله سلم عليهم هو الجواب، قال الإسماعيلي: يشبه أن يكون ذلك كان إذا سلم سلام الاستئذان على ما رواه أبو موسى وغيره، وأما أن يمر المار مسلما فالمعروف عدم التكرار. قلت: وقد فهم المصنف هذا بعينه فأورد هذا الحديث مقرونا بحديث أبي موسى في قصته مع عمر كما سيأتي في الاستئذان، لكن يحتمل أن يكون ذلك كان يقع أيضا منه إذا خشي أنه لا يسمع سلامه. وما ادعاه الكرماني من أن الصيغة المذكورة تفيد الاستمرار مما ينازع فيه. والله أعلم.
96- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلاَةَ صَلاَةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا
قوله في حديث عبد الله بن عمرو "فأدركنا" هو بفتح الكاف. وقوله: "أرهقنا " بسكون القاف، وللأصيلي: "أرهقتنا " وقوله: "صلاة العصر " هو بدل من الصلاة إن رفعا فرفع وإن نصبا فنصب. قوله: "مرتين أو ثلاثا" و شك من الراوي، وهو يدل على أن الثلاث ليست شرطا، بل المراد التفهيم، فإذا حصل بدونها أجزأ. وسيأتي الكلام على المتن في الطهارة إن شاء الله تعالى.

(1/189)


31- باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ
97- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ"
ثُمَّ قَالَ عَامِر:ٌ أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ
[الحديث 97- أطرافه في:5083,3446,3011,2551,2547,2544]
قوله: "باب تعليم الرجل أمته وأهله" مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء. قوله: "حدثنا محمد بن سلام" كذا في روايتنا من طريق أبي ذر. وفي رواية كريمة حدثنا محمد هو ابن سلام، وللأصيلي حدثنا محمد حسب، واعتمده المزي في الأطراف فقال: رواه البخاري عن محمد قيل هو ابن سلام. قوله: "أخبرنا" في رواية كريمة حدثنا المحاربي وهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث وحديث آخر في العيدين، وذكر أبو علي الجياني أن بعض أهل بلدهم صحف " المحاربي " فقال البخاري، فأخطأ خطأ فاحشا. قوله: "حدثنا صالح بن حيان" هو صالح بن صالح بن مسلم بن حيان نسب إلى جد أبيه، وهو بفتح المهملة وتشديد الياء التحتانية، ولقبه حي وهو أشهر به من اسمه، وكذا من ينسب إليه يقال للواحد منهم غالبا فلان ابن حي كصالح بن حي هذا. وهو ثقة مشهور، وفي طبقته راو آخر كوفي أيضا يقال له صالح بن حيان القرشي لكنه ضعيف، وقد وهم من زعم أن البخاري أخرج له فإنه إنما أخرج لصالح بن حي، وهذا الحديث معروف بروايته عن الشعبي دون القرشي، وقد أخرجه البخاري من حديثه من طرق: منها في الجهاد من طريق ابن عيينة قال: حدثنا صالح بن حي أبو حيان قال: سمعت الشعبي، وأصرح من ذلك أنه أخرج الحديث المذكور في كتاب الأدب المفرد بالإسناد الذي أخرجه هنا فقال صالح بن حي. قوله: "قال عامر" أي قال صالح قال عامر، وعادتهم حذف قال إذا تكررت خطأ لا نطقا. قوله: "عن أبيه" هو أبو موسى الأشعري كما صرح به في العتق وغيره. قوله: "ثلاثة لهم أجران" ثلاثة مبتدأ، والتقدير ثلاثة رجال أو رجال ثلاثة، ولهم أجران خبره. قوله: "رجل" هو بدل تفصيل، أو بدل كل بالنظر إلى المجموع. قوله: "من أهل الكتاب" لفظ الكتاب عام ومعناه خاص، أي المنزل من عند الله، والمراد به التوراة والإنجيل كما تظاهرت به نصوص الكتاب والسنة حيث يطلق أهل الكتاب، وقيل المراد به هنا الإنجيل خاصة إن قلنا إن النصرانية ناسخة لليهودية، كذا قرره جماعة، ولا يحتاج إلى اشتراط النسخ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان قد أرسل إلى بني إسرائيل بلا خلاف، فمن أجابه منهم نسب إليه، ومن كذبه منهم واستمر على يهوديته لم يكن مؤمنا فلا يتناوله الخبر، لأن شرطه أن يكون مؤمنا بنبيه. نعم من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل، أو لم يكن بحضرة عيسى عليه السلام فلم تبلغه دعوته. يصدق عليه أنه يهودي مؤمن، إذ هو مؤمن بنبيه موسى عليه السلام ولم يكذب نبيا

(1/190)


آخر بعده، فمن أدرك بعثه محمد صلى الله عليه وسلم ممن كان بهذه المناسبة وآمن به لا يشكل أنه يدخل في الخبر المذكور، ومن هذا القبيل العرب الذين كانوا باليمن وغيرها ممن دخل منهم في اليهودية ولم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام لكونه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة. نعم الإشكال في اليهود الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} نزلت في طائفة آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وغيره، ففي الطبراني من حديث رفاعة القرظي قالت: نزلت هذه الآيات في وفيمن آمن معي. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن علي بن رفاعة القرظي قال: خرج عشرة من أهل الكتاب - منهم أبي رفاعة - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به فأوذوا، فنزلت: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الآيات، فهؤلاء من بني إسرائيل ولم يؤمنوا بعيسى بل استمروا على اليهودية إلى أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنهم يؤتون أجرهم مرتين، قال الطيبي: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم سببا لقبول تلك الأديان وإن كانت منسوخة. انتهى. وسأذكر ما يؤيده بعد. ويمكن أن يقال في حق هؤلاء الذين كانوا بالمدينة: إنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام لأنها لم تنتشر في أكثر البلاد، فاستمروا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى عليه السلام، إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبهذا يرتفع الإشكال إن شاء الله تعالى. "فوائد": الأولى: وقع في شرح ابن التين وغيره أن الآية المذكورة نزلت في كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، وهو صواب في عبد الله خطأ في كعب، لأن كعبا ليست له صحبة، ولم يسلم إلا في عهد عمر بن الخطاب، والذي في تفسير الطبري وغيره عن قتادة أنها نزلت في عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وهذا مستقيم، لأن عبد الله كان يهوديا فأسلم كما سيأتي في الهجرة، وسلمان كان نصرانيا فأسلم كما سيأتي في البيوع. وهما صحابيان مشهوران. الثانية: قال القرطبي الكتابي الذي يضاعف أجره مرتين هو الذي كان على الحق في شرعه عقدا وفعلا إلى أن آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم، فيؤجر على اتباع الحق الأول والثاني. انتهى. ويشكل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: "أسلم يؤتك الله أجرك مرتين" ، وهرقل كان ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قدمت بحث شيخ الإسلام في هذا في حديث أبي سفيان في بدء الوحي. الثالثة: قال أبو عبد الملك البوني وغيره: إن الحديث لا يتناول اليهود البتة، وليس بمستقيم كما قررناه. وقال الداودي ومن تبعه: إنه يحتمل أن يتناول جميع الأمم فيما فعلوه من خير كما في حديث حكيم بن حزام الآتي: "أسلمت على ما أسلفت من خير " وهو متعقب، لأن الحديث مقيد بأهل الكتاب فلا يتناول غيرهم إلا بقياس الخير على الإيمان. وأيضا فالنكتة في قوله: "آمن بنبيه " الإشعار بعلية الأجر، أي أن سبب الأجرين الإيمان بالنبيين، والكفار ليسوا كذلك. ويمكن أن يقال الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن أهل الكتاب يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى :{يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} فمن آمن به واتبعه منهم كان له فضل على غيره، وكذا من كذبه منهم كان وزره أشد من وزر غيره، وقد ورد مثل ذلك في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكون الوحي كان ينزل في بيوتهن. فإن قيل: فلم لم يذكرن في هذا الحديث فيكون العدد أربعة؟ أجاب شيخنا شيخ الإسلام بأن قضيتهن خاصة بهن مقصورة عليهن، والثلاثة المذكورة في الحديث مستمرة إلى يوم القيامة. وهذا مصير شيخنا إلى أن قضية مؤمن أهل الكتاب مستمرة، وقد ادعى الكرماني اختصاص ذلك بمن آمن في عهد البعثة، وعلل ذلك بأن نبيهم بعد البعثة إنما هو محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار عموم بعثته. انتهى. وقضيته أن ذلك أيضا لا يتم لمن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن خصه بمن لم تبلغه الدعوة

(1/191)


فلا فرق في ذلك بين عهده وبعده، فما قاله شيخنا أظهر. والمراد بنسبتهم إلى غير نبينا صلى الله عليه وسلم إنما هو باعتبار ما كانوا عليه قبل ذلك، وأما ما قوى به الكرماني دعواه بكون السياق مختلفا حيث قيل في مؤمن أهل الكتاب: "رجل " بالتنكير وفي " العبد " بالتعريف، وحيث زيدت فيه: "إذا " الدالة على معنى الاستقبال فأشعر ذلك بأن الأجرين لمؤمن أهل الكتاب لا يقع في الاستقبال، بخلاف العبد. انتهى. وهو غير مستقيم، لأنه مشى فيه مع ظاهر اللفظ، وليس متفقا عليه بين الرواة، بل هو عند المصنف وغيره مختلف، فقد عبر في ترجمة عيسى بإذا في الثلاثة، وعبر في النكاح بقوله: "أيما رجل " في المواضع الثلاثة وهي صريحة في التعميم، وأما الاختلاف بالتعريف والتنكير فلا أثر له هنا لأن المعرف بلام الجنس مؤداه مؤدى النكرة والله أعلم. الرابعة: حكم المرأة الكتابية حكم الرجل كما هو مطرد في جل الأحكام حيث يدخلن مع الرجال بالتبعية إلا ما خصه الدليل، وستأتي مباحث العبد في العتق ومباحث الأمة في النكاح. قوله: "فله أجران" هو تكرير لطول الكلام للاهتمام به. قوله: "ثم قال عامر" - أي الشعبي - أعطيناكها، ظاهره أنه خاطب بذلك صالحا الراوي عنه، ولهذا جزم الكرماني بقوله: "الخطاب لصالح " وليس كذلك، بل إنما خاطب بذلك رجلا من أهل خراسان سأله عمن يعتق أمته ثم يتزوجها، كما سنذكر ذلك في ترجمة عيسى عليه السلام من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. قوله: "بغير شيء" أي من الأمور الدنيوية، وإلا فالأجر الأخروي حاصل له. قوله: "يركب فيما دونها" أي يرحل لأجل ما هو أهون منها كما عنده في الجهاد، والضمير عائد على المسألة. قوله: "إلى المدينة" أي النبوية، وكان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ثم تفرق الصحابة في البلاد بعد فتوح الأمصار وسكنوها، فاكتفى أهل كل بلد بعلمائه إلا من طلب التوسع في العلم فرحل، وقد تقدم حديث جابر في ذلك، ولهذا عبر الشعبي - مع كونه من كبار التابعين - بقوله: "كان"، واستدلال ابن بطال وغيره من المالكية على تخصيص العلم بالمدينة فيه نظر لما قررناه. إنما قال الشعبي ذلك تحريضا للسامع ليكون ذلك أدعى لحفظه وأجلب لحرصه والله المستعان. وقد روى الدارمي بسند صحيح عن بسر بن عبيد الله - وهو بضم الموحدة وسكون المهملة - قاله: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد. وعن أبي العالية قال: كنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم.

(1/192)


32- باب عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ
98- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: "سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ وَبِلاَلٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ".
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[الحديث98- أطرافه في: 7325,5883,5881,5880,5249,4895,1449,1431,989,979,977,975,964,962,863,]
قوله: "باب عظة الإمام النساء" نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصا بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه. واستفيد الوعظ بالتصريح من قوله في الحديث: "فوعظهن "

(1/192)


وكانت الموعظة بقوله: "إني رأيتكن أكثر أهل النار " لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير". واستفيد التعليم من قوله: "وأمرهن بالصدقة " كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيرا لخطاياهن. قوله: "عن أيوب" هو السختياني، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "أو قاله عطاء أشهد" معناه أن الراوي تردد هل لفظ أشهد من قول ابن عباس أو من قول عطاء؛ وقد رواه أيضا حماد بن زيد عن أيوب أخرجه أبو نعيم في المستخرج، وأخرجه أحمد بن حنبل عن غندر عن شعبة جازما بلفظ: "أشهد " عن كل منهما، وإنما عبر بلفظ الشهادة تأكيدا لتحققه ووثوقا بوقوعه. قوله: "ومعه بلال" كذا للكشميهني وسقطت الواو للباقين. قوله: "القرط" هو بضم القاف وإسكان الراء بعدها طاء مهملة، أي الحلقة التي تكون في شحمة الأذن، وسيأتي مزيد في هذا المتن في العيدين إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وأراد بهذا التعليق أنه جزم عن أيوب بأن لفظ: "أشهد " من كلام ابن عباس فقط، وكذا جزم به أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة، وكذا قال وهيب عن أيوب ذكره الإسماعيلي، وأغرب الكرماني فقال: يحتمل أن يكون قوله وقال إسماعيل عطفا على حدثنا شعبة، فيكون المراد به حدثنا سليمان بن حرب عن إسماعيل فلا يكون تعليقا انتهى. وهو مردود بأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلا لا لهذا الحديث ولا لغيره، وقد أخرجه المصنف في كتاب الزكاة موصولا عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل كما سيأتي، وقد قلنا غير مرة: إن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في الأمور النقلية. ولو استرسل فيها مسترسل لقال: يحتمل أن يكون إسماعيل هنا آخر غير ابن علية، وأن أيوب آخر غير السختياني، وهكذا في أكثر الرواة، فيخرج بذلك إلى ما ليس بمرضي. وفي هذا الحديث جواز المعاطاة في الصدقة، وصدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، وأن الصدقة تمحو كثيرا من الذنوب التي تدخل النار.

(1/193)


33 - باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ
99- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ"
[الحديث 99-طرفه في:6570]
قوله: "باب الحرص على الحديث" المراد بالحديث في عرف الشرع ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه أريد به مقابلة القرآن لأنه قديم. قوله: "حدثنا عبد العزيز" هو أبو القاسم الأويسي، وسليمان هو ابن بلال، وعمرو بن أبي عمرو هو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، واسم أبي عمرو ميسرة. والإسناد كله مدنيون. قوله: "أنه قال: قيل يا رسول الله" كذا لأبي ذر وكريمة. وسقطت " قيل " للباقين وهو الصواب، ولعلها كانت قلت فتصحفت، فقد أخرجه المصنف في الرقاق كذلك، وللإسماعيلي أنه سأل، ولأبي نعيم أن أبا هريرة قال يا رسول الله. قوله: "أول منك" وقع في روايتنا برفع اللام ونصبها، فالرفع على الصفة لأحد أو البدل منه والنصب على أنه مفعول ثان لظننت قاله القاضي عياض. وقال أبو البقاء: "على الحال، ولا يضر كونه نكرة لأنها في سياق النفي كقولهم ما كان أحد

(1/193)


مثلك". و " ما " في قوله لما موصولة و " من " بيانية أو تبعيضية، وفيه فضل أبي هريرة وفضل الحرص على تحصيل العلم. قوله: "من قال لا إله إلا الله" احتراز من المشرك، والمراد مع قوله محمد رسول الله، لكن قد يكتفى بالجزء الأول من كلمتي الشهادة لأنه صار شعارا لمجموعهما كما تقدم في الإيمان. قوله: "خالصا" احتراز من المنافق، ومعنى أفعل في قوله: "أسعد " الفعل لا أنها أفعل التفضيل أي سعيد الناس، كقوله تعالى :{وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد يحصل له سعد بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه صلى الله عليه وسلم يشفع في الخلق لإراحتهم من هول الموقف، ويشفع في بعض الكفار، بتخفيف العذاب كما صح في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، وفي بعضهم بعدم دخولها بعد أن استوجبوا دخولها، وفي بعضهم بدخول الجنة بغير حساب، وفي بعضهم برفع الدرجات فيها. فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص. والله أعلم. قوله: "من قلبه، أو نفسه" شك من الراوي، وللمصنف في الرقاق " خالصا من قبل نفسه " وذكر ذلك على سبيل التأكيد كما في قوله تعالى :{فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وفي الحديث دليل على اشتراط النطق بكلمتي الشهادة لتعبيره بالقول في قوله: "من قال".

(1/194)


34 - باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلاَ تَقْبَلْ إِلاَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا حَدَّثَنَا الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ "ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ"
100- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"
قَالَ الْفِرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ
[الحديث 100-طرفه في:7307]
قوله: "باب كيف يقبض العلم" أي كيفية قبض العلم. قوله: "إلى أبي بكر بن حزم" هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري نسب إلى جد أبيه ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها ولهذا كتب إليه. ولا يعرف له اسم سوى أبي بكر وقيل كنيته أبو عبد الملك واسمه أبو بكر وقيل اسمه كنيته. قوله: "انظر ما كان" أي اجمع الذي تجد. ووقع هنا للكشميهني عندك أي في بلدك. قوله: "فاكتبه" يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي. وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى أن في تدوينه ضبطا له وإبقاء. وقد روى

(1/194)


أبو نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه". قوله: "ولا يقبل" هو بضم الياء التحتانية وسكون اللام وبسكونها وكسرها معا في وليفشوا وليجلسوا. قوله: "حتى يعلم" هو بضم أوله وتشديد اللام، وللكشميهني يعلم بفتح أوله وتخفيف اللام. قوله: "يهلك" بفتح أوله وكسر اللام. قوله: "حدثنا العلاء" لم يقع وصل هذا التعليق عند الكشميهني ولا كريمة ولا ابن عساكر إلى قوله ذهاب العلماء، وهو محتمل لأن يكون ما بعده ليس من كلام عمر أو من كلامه ولم يدخل في هذه الرواية، والأول أظهر، وبه صرح أبو نعيم في المستخرج ولم أجده في مواضع كثيرة إلا كذلك، وعلى هذا فبقيته من كلام المصنف أورده تلو كلام عمر، ثم بين أن ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. قوله: "حدثني مالك" قال الدارقطني: لم يروه في الموطأ إلا معن بن عيسى، ورواه أصحاب مالك كابن وهب وغيره عن مالك خارج الموطأ، وأفاد ابن عبد البر أن سليمان بن يزيد رواه أيضا في الموطأ والله أعلم. وقد اشتهر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة فوقع لنا من رواية أكثر من سبعين نفسا عنه من أهل الحرمين والعراقين والشام وخراسان ومصر وغيرها، ووافقه على روايته عن أبيه عروة أبو الأسود المدني وحديثه في الصحيحين، والزهري وحديثه في النسائي، ويحيي بن أبي كثير وحديثه في صحيح أبي عوانة، ووافق أباه على روايته عن عبد الله بن عمرو بن الحكم بن ثوبان وحديثه في مسلم. قوله: "لا يقبض العلم انتزاعا" أي محوا من الصدور، وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامه قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع " فقال أعرابي: كيف يرفع؟ فقال: "ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته" . ثلاث مرات. قال ابن المنير: محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه. قوله: "حتى إذا لم يبق عالم" هو بفتح الياء والقاف، وللأصيلي بضم أوله وكسر القاف، وعالما منصوب أي لم يبق الله عالما. وفي رواية مسلم: "حتى إذا لم يترك عالما" ، قوله: "رءوسا" قال النووي: ضبطناه بضم الهمزة والتنوين جمع رأس. قلت: وفي رواية أبي ذر أيضا بفتح الهمزة، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة جمع رئيس. قوله: "بغير علم" وفي رواية أبي الأسود في الاعتصام عند المصنف: "فيفتون برأيهم " ورواها مسلم كالأولى. قوله: "قال الفربري" هذا من زيادات الراوي عن البخاري في بعض الأسانيد، وهي قليلة. قوله: "نحوه" أي بمعنى حديث مالك. ولفظ رواية قتيبة هذه أخرجها مسلم عنه، وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم. واستدل به الجمهور على القول بخلو الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء. وسيكون لنا في المسألة عود في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى.

(1/195)


باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه
...
36 - باب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَرَاجَعَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ
103- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ

(1/196)


زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ" قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قَالَتْ: فَقَالَ "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ"
[الحديث103-أطرافه في:6537,6536,4939]
قوله: "باب من سمع شيئا" زاد أبو ذر فلم يفهمه. قوله: "فراجعه" أي راجع الذي سمعه منه. وللأصيلي فراجع فيه. قوله: "أن عائشة" ظاهر أوله الإرسال، لأن ابن أبي مليكة تابعي لم يدرك مراجعة عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن تبين وصله بعد في قوله: "قالت عائشة فقلت". قوله: "كانت لا تسمع" أتى بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لقوة تحققها. قوله: "إنما ذلك" بكسر الكاف "العرض" أي عرض الناس على الميزان. قوله: "نوقش" بالقاف والمعجمة من المناقشة وأصلها الاستخراج، ومنه نقش الشوكة إذا استخرجها، والمراد هنا المبالغة في الاستيفاء، والمعنى أن تحرير الحساب يفضي إلى استحقاق العذاب، لأن حسنات العبد موقوقة على القبول، وإن لم تقع الرحمة المقتضية للقبول لا يحصل النجاء. قوله في آخره "يهلك" بكسر اللام وإسكان الكاف. وفي الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تقهم معاني الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم. وفيه جواز المناظرة، ومقابلة السنة بالكتاب، وتفاوت الناس في الحساب. وفيه أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نهي الصحابة عنه في قوله تعالى :{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وفي حديث أنس: "كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء " وقد وقع نحو ذلك لغير عائشة، ففي حديث حفصة أنها لما سمعت: "لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرا والحديبية " قالت. أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فأجيبت بقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية، وسأل الصحابة لما نزلت:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}: أينا لم يظلم نفسه؟ فأجيبوا بأن المراد بالظلم الشرك. والجامع بين هذه المسائل الثلاث ظهور العموم في الحساب والورود والظلم. فأوضح لهم أن المراد في كل منها أمر خاص. ولم يقع مثل هذا من الصحابة إلا قليلا مع توجه السؤال وظهوره، وذلك لكمال فهمهم ومعرفتهم باللسان العربي، فيحمل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات على من سأل تعنتا كما قال تعالى :{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وفي حديث عائشة: "فإذا رأيتم الذين يسألون عن ذلك فهم الذين سمى الله فاحذروهم " ومن ثم أنكر عمر على صبيغ لما رآه أكثر من السؤال عن مثل ذلك وعاقبه، وسيأتي إيضاح هذا كله في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وسيأتي باقيه في كتاب الرقاق، وكذا الكلام على انتقاد الدارقطني لإسناده إن شاء الله تعالى.

(1/197)


35 - باب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ
101- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ "مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا

(1/195)


مِنْ النَّارِ" فَقَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَيْنِ فَقَالَ : "وَاثْنَيْنِ."
[الحديث 101- طرفاه في:7310,1249]
قوله: "باب هل يجعل" أي الإمام، وللأصيلي وكريمة: "يجعل " بضم أوله، وعندهما يوم بالرفع لأجل ذلك.قوله: "على حدة" بكسر المهملة وفتح الدال المهملة المخففة أي ناحية وحدهن، والهاء عوض عن الواو المحذوفة كما قالوا في عدة من الوعد.قوله: "حدثنا آدم" هو ابن أبي إياس. قوله: "قال النساء" كذا لأبي ذر، وللباقين " قالت النساء " وكلاهما جائز. و " غلبنا " بفتح الموحدة و " الرجال " بالضم لأنه فاعله. قوله: "فاجعل لنا" أي عين لنا. وعبر عنه بالجعل لأنه لازمه. ومن ابتدائية متعلقة باجعل، والمراد رد ذلك إلى اختياره. قوله: "فوعظهن" التقدير فوفى بوعده فلقيهن فوعظهن. ووقع في رواية سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بنحو هذه القصة فقال: "موعدكن بيت فلانة " فأتاهن فحدثهن. قوله: "وأمرهن" أي بالصدقة، أو حذف المأمور به لإرادة التعميم. قوله: "ما منكن امرأة"، وللأصيلي ما من امرأة و " من " زائدة لفظا. وقوله تقدم صفة لامرأة. قوله: "إلا كان لها" أي التقديم "حجابا". وللأصيلي: "حجاب " بالرفع وتعرب كان تامة أي حصل لها حجاب. وللمصنف في الجنائز إلا كن لها أي الأنفس التي تقدم. وله في الاعتصام إلا كانوا أي الأولاد. قوله: "فقالت امرأة" هي أم سليم، وقيل غيرها كما سنوضحه في الجنائز. قوله: "واثنين" ولكريمة: "واثنتين " بزيادة تاء التأنيث، وهو منصوب بالعطف على ثلاثة ويسمى العطف التلقيني، وكأنها فهمت الحصر وطمعت في الفضل فسألت عن حكم الاثنين هل يلتحق بالثلاثة أو لا، وسيأتي في الجنائز الكلام في تقديم الواحد.
102- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "ثَلاَثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ"
[الحديث 102- طرفه في:1250]
قوله: "حدثني محمد بن بشار" أفاد بهذا الإسناد فائدتين: إحداهما تسمية ابن الأصبهاني المبهم في الرواية الأولى، والثانية زيادة طريق أبي هريرة التي زاد فيها التقييد بعدم بلوغ الحنث، أي الإثم. والمعنى أنهم ماتوا قبل أن يبلغوا، لأن الإثم إنما يكتب بعد البلوغ، وكأن السر فيه أنه لا ينسب إليهم إذ ذاك عقوق فيكون الحزن عليهم أشد. وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعليم أمور الدين، وفيه جواز الوعد، وأن أطفال المسلمين في الجنة، وأن من مات له ولدان حجباه من النار، ولا اختصاص لذلك بالنساء كما سيأتي التنصيص عليه في الجنائز. "تنبيه" حديث أبي هريرة مرفوع. والواو في قوله: "وقال: "للعطف على محذوف تقديره مثله أي مثل حديث أبي سعيد، والواو في قوله: "وعن عبد الرحمن " للعطف على قوله أولا: "عن عبد الرحمن". والحاصل أن شعبة يرويه عن عبد الرحمن بإسنادين، فهو موصول، ووهم من زعم أنه معلق.

(1/196)


37 - باب لِيُبَلِّغْ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
104- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ "أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلاَ يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلاَ يَعْضِدَ

(1/197)


بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ" فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو قَالَ: "أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ لاَ يُعِيذُ عَاصِيًا وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ".
[الحديث 104 طرفاه في: 4295,1832]
قوله: "باب ليبلغ العلم" النصب والشاهد بالرفع والغائب منصوب أيضا. والمراد بالشاهد هنا الحاضر، أي ليبلغ من حضر من غاب، لأنه المفعول الأول والعلم المفعول الثاني وإن قدم في الذكر. قوله: "قاله ابن عباس" أي رواه، وليس هو في شيء من طرق حديث ابن عباس بهذه الصورة، وإنما هو في روايته ورواية غيره بحذف العلم، وكأنه أراد بالمعنى لأن المأمور بتبليغه هو العلم. قوله: "عن أبي شريح" هو الخزاعي الصحابي المشهور، وعمرو بن سعيد هو ابن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي يعرف بالأشدق، وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان. قوله: "وهو يبعث البعوث" أي يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة، والقصة مشهورة، وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية، فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير، فأما ابن أبي بكر فمات قبل موت معاوية، وأما ابن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فاعتصم ويسمى عائذ البيت وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة. قوله: "ائذن لي" فيه حسن التلطف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدعى لقبولهم. قوله: "أحدثك" بالجزم لأنه جواب الأمر. قوله: "قام" صفة للقول، والمقول هو حمد الله الخ. قوله: "الغد" النصب أي أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة. قوله: "سمعته أذناني الخ" أراد أنه بالغ في حفظه والتثبت فيه وأنه لم يأخذه بواسطة. وأتى بالتثنية تأكيدا، والضمير في قوله: "تكلم به " عائد على قوله قولا. قوله: "ولم يحرمها الناس" بالضم أي أن تحريمها كان بوحي من الله لا من اصطلاح الناس، قوله: "يسفك" كسر الفاء وحكي ضمها، وهو صب الدم، والمراد به القتل. قوله: "ولا يعضد" بكسر الضاد المعجمة وفتح الدال أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس. قوله: "وإنما أذن لي" أي الله، روي بضم الهمزة. وفي قوله: "لي " التفات لأن نسق الكلام وإنما أذن له أي لرسوله. قوله: "ساعة" أي مقدارا من الزمان، والمراد به يوم الفتح. وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر، والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر. قوله: "ما قال عمرو" أي في جوابك. قوله: "لا تعيذ" بضم المثناة أوله وآخره ذال معجمة أي مكة لا تعصم العاصي عن إقامة الحد عليه قوله: "ولا فارا" بالفاء والراء المشددة أي هاربا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه. قوله: "بخربة" فتح المعجمة وإسكان الراء ثم موحدة يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي، قال ابن بطال: الخربة بالضم الفساد، وبالفتح السرقة. وقد تشدق(1) عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق
ـــــــ
(1)في الطبعات السابقة "تصرف" والتصحيح من مخطوطة الرياض,وعمرو كان يسمى "الاشدق" لتشدقه في البيان

(1/198)


لكن أراد به الباطل، فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص، وهو صحيح إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرا يجب عليه فيه شيء من ذلك، وسنذكر مباحث هذا الحديث في كتاب الحج، وما للعلماء فيه من الاختلاف في القتال في الحرم إن شاء الله تعالى. وفي الحديث شرف مكة، وتقديم الحمد والثناء على القول المقصود، وإثبات خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به، ووقوع النسخ، وفضل أبي شريح لاتباعه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه وغير ذلك.
105- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ" قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ "وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلاَ لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ" وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ أَلاَ هَلْ "بَلَّغْتُ" مَرَّتَيْنِ.
قوله: "حدثنا حماد" هو ابن زيد. قوله: "عن محمد" هو ابن سيرين "عن ابن أبي بكرة" كذا للمستملي والكشميهني، وسقط عن ابن أبي بكرة للباقين فصار منقطعا لأن محمدا لم يسمع من أبي بكرة. وفي رواية: "عن محمد بن أبي بكرة " وهي خطأ وكأن " عن " سقطت منها، وقد تقدم هذا الحديث في أوائل كتاب العلم من طريق أخرى: "عن محمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه " وهو الصواب، وسيأتي بهذا السند في تفسير سورة براءة بإسقاطه عن بعضهم وسأنبه عليه هناك إن شاء الله تعالى وفيه: "عن ابن أبي بكرة " عند الجميع، ويأتي في بدء الخلق. قوله: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم" فيه اختصار وقد قدمنا توجيهه هناك، وكأنه حدث بحديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من كلامه ومن جملته قوله: "فإن دماءكم " الخ. قوله: "قال محمد" هو ابن سيرين. قوله: "أحسبه" أنه شك في قوله: "وأعراضكم " أقالها ابن أبي بكر أم لا، وقد تقدم في أوائل العلم الجزم بها وهي منصوبة بالعطف. قوله: "ألا هل بلغت" هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تكملة الحديث، واعترض قوله: "وكان محمد " إلى قوله: "ذلك " في أثناء الحديث، هذا هو المعتمد فلا يلتفت إلى ما عداه. والعلم عند الله تعالى.

(1/199)


38 - باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
106- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ"
قوله: "باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم" ليس في الأحاديث التي في الباب تصريح بالإثم، وإنما هو مستفاد من الوعيد بالنار على ذلك لأنه لازمه. قوله: "منصور" هو ابن المعتمر الكوفي، وهو تابعي صغير، وربعي بكسر أوله وإسكان الموحدة، وأبوه حراش بكسر المهملة أوله وهو من كبار التابعين. قوله: "سمعت عليا" هو ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: "لا تكذبوا علي" و عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلي. ولا مفهوم لقوله: "علي " لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا

(1/199)


أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: "من كذب علي ليضل به الناس " الحديث، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى :{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ} والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى :{لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} – {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربا والإضلال في هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم. قوله: "فليلج النار" جعل الأمر بالولوج مسببا عن الكذب، لأن لازم الأمر الإلزام والإلزام بولوج النار سببه الكذب عليه أو هو بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ: "من يكذب علي يلج النار " ولابن ماجه من طريق شريك عن منصور قال: "الكذب علي يولج - أي يدخل - النار".
107- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"
قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي و "جامع بن شداد" كوفي تابعي صغير. وفي الإسناد لطيفتان إحداهما أنه من رواية تابعي عن تابعي يرويه صحابي عن صحابي. ثانيهما أنه من رواية الأبناء عن الآباء بخصوص رواية الأب عن الجد وقد أفردت بالتصنيف. قوله: "قلت للزبير" أي ابن العوام. قوله: "تحدث" حذف مفعولها ليشمل قوله: "كما يحدث فلان وفلان" سمي منهما في رواية ابن ماجه عبد الله بن مسعود. قوله: "أما" بالميم المخففة وهي من حروف التنبيه و "إني" بكسر الهمزة "لم أفارقه" أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الإسماعيلي: "منذ أسلمت " والمراد في الأغلب وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حال هجرته إلى المدينة. وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال، لأن لازم الملازمة السماع، ولازمه عادة التحديث، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذي ذكره، ولهذا أتى بقوله: "لكن " وقد أخرجه الزبير بن بكار في كتاب النسب من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: "عناني ذلك " يعني قلة رواية الزبير: "فسألته " أي عن ذلك " فقال: يا بني، كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمت، وعمته أمي، وزوجته خديجة عمتي، وأمه آمنة بنت وهب وجدتي هالة بنت وهيب ابني عبد مناف بن زهرة، وعندي أمك، وأختها عائشة عنده، ولكني سمعته يقول". قوله: "من كذب علي" كذا رواه البخاري ليس فيه: "متعمدا " وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة، وكذا في رواية الزبير بن بكار المذكورة، وأخرجه ابن ماجه من طريقه وزاد فيه: "متعمدا " وكذا

(1/200)


للإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة، والاختلاف فيه على شعبة. وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: "من حدث عني كذبا " ولم يذكر العمد.وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضي الله عنهم. قوله: "فليتبوأ" أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ: "بني له بيت في النار " قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء.
108- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"
قوله: "حدثنا أبو معمر" و البصري المقعد، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وعبد العزيز هو ابن صهيب. والإسناد كله بصريون. قوله: "حديثا" المراد به جنس الحديث، ولهذا وصفه بالكثرة. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم" هو وما بعده في محل الرفع لأنه فاعل يمنعني، وإنما خشي أنس مما خشي منه الزبير، ولهذا صرح بلفظ الإكثار لأنه مظنة، ومن حام حول الحمى لا يأمن وقوعه فيه، فكان التقليل منهم للاحتراز، ومع ذلك فأنس من المكثرين لأنه تأخرت وفاته فاحتيج إليه كما قدمناه ولم يمكنه الكتمان. ويجمع بأنه لو حدث بجميع ما عنده لكان أضعاف ما حدث به. ووقع في رواية عتاب - بمهملة ومثناة فوقانية - مولى هرمز، سمعت أنسا يقول: "لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث أخرجه أحمد بإسناد، فأشار إلى أنه لا يحدث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه. وحمله بعضهم على أنه كان يحافظ على الرواية باللفظ فأشار إلى ذلك بقوله: "لولا أن أخطئ". وفيه نظر، والمعروف عن أنس جواز الرواية بالمعنى كما أخرجه الخطيب عنه صريحا، وقد وجد في رواياته ذلك كالحديث في البسملة، وفي قصة تكثير الماء عند الوضوء، وفي قصة تكثير الطعام. قوله: "كذبا" هو نكرة في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الكذب.
109- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"
قوله: "حدثنا المكي" هو اسم وليس بنسب كما تقدم: وهو من كبار شيوخ البخاري، سمع من سبعة عشر

(1/201)


نفسا من التابعين منهم يزيد بن أبي عبيد المذكور هنا، وهو مولى سلمة بن الأكوع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري، وليس فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثا. قوله: "من يقل" أصله يقول وإنما جزم بالشرط. قوله: "ما لم أقل" أي شيئا لم أقله فحذف العائد وهو جائز وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما في علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم حديث الزبير وأنس السابقين لتعبيرهما بلفظ الكذب عليه ومثلهما حديث أبي هريرة الذي ذكره بعد حديث سلمة فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله أو فعله، وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم.
110- حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"
[الحديث110- أطرافه في: 6993,6197,6188,3539]
قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: "عن أبي حصين" هو بمهملتين مفتوح الأول، وأبو صالح هو ذكوان السمان. وقد ذكر المؤلف هذا الحديث بتمامه في كتاب الأدب من هذا الوجه، ويأتي الكلام عليه فيه إن شاء الله تعالى. وقد اقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يستوي فيه اليقظة والمنام. والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن قيل: الكذب معصية إلا ما استثني في الإصلاح وغيره، والمعاصي قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجويني، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده، ومال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك. الجواب الثاني أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيرة فافترقا، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحدا أو طول إقامتهما سواء، فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ " على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره كما سيأتي في الجنائز في حديث المغيرة حيث يقول: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد " وسنذكر مباحثه هناك إن شاء الله تعالى، ونذكر فيه الاختلاف في توبة من تعمد الكذب عليه هل تقبل أو لا. "تنبيه": رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبا حسنا لأنه بدأ بحديث علي وفيه مقصود الباب، وثنى بحديث الزبير الدال على توقي الصحابة وتحرزهم من الكذب عليه، وثلث بحديث أنس الدال على أن امتناعهم إنما كان من الإكثار المفضي إلى الخطأ لا عن أصل التحديث، لأنهم مأمورون بالتبليغ، وختم بحديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم

(1/202)


الكذب عليه سواء كانت دعوى السماع منه في اليقظة أو في المنام. وقد أخرج البخاري حديث: "من كذب علي " أيضا من حديث المغيرة وهو في الجنائز، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو في أخبار بني إسرائيل، ومن حديث واثلة بن الأسقع وهو في مناقب قريش، لكن ليس هو بلفظ الوعيد بالنار صريحا. واتفق مسلم معه على تخريج حديث علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي سعيد أيضا، وصح أيضا في غير الصحيحين من حديث عثمان بن عفان وابن مسعود وابن عمر وأبي قتادة وجابر وزيد بن أرقم، وورد بأسانيد حسان من حديث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر وعمران بن حصين وابن عباس وسلمان الفارسي ومعاوية بن أبي سفيان ورافع بن خديج وطارق الأشجعي والسائب بن يزيد وخالد بن عرفطة وأبي أمامة وأبي قرضافة وأبي موسى الغافقي وعائشة، فهؤلاء "ثلاثة و" ثلاثون نفسا من الصحابة، وورد أيضا عن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين آخرين بأسانيد ساقطة. وقد اعتنى جماعة من الحفاظ بجمع طرقه، فأول من وقفت على كلامه في ذلك علي بن المديني، وتبعه يعقوب بن شيبة فقال: روي هذا الحديث من عشرين وجها عن الصحابة من الحجازيين وغيرهم، ثم إبراهيم الحربي وأبو بكر البزار فقال كل منهما: إنه ورد من حديث أربعين من الصحابة، وجمع طرقه في ذلك العصر أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد فزاد قليلا. وقال أبو بكر الصحابي شارح رسالة الشافعي: رواه ستون نفسا من الصحابة، وجمع طرقه الطبراني فزاد قليلا. وقال أبو القاسم بن منده رواه أكثر من ثمانين نفسا، وقد خرجها بعض النيسابوريين فزادت قليلا، وقد جمع طرقه ابن الجوزي في مقدمة كتاب " الموضوعات " فجاوز التسعين، وبذلك جزم ابن دحية. وقال أبو موسى المديني: يرويه نحو مائة من الصحابة، وقد جمعها بعده الحافظان يوسف بن خليل وأبو علي البكري وهما متعاصران فوقع لكل منهما ما ليس عند الأخر، وتحصل من مجموع ذلك كله رواية مائة من الصحابة على ما فصلته من صحيح وحسن وضعيف وساقط، مع أن فيها ما هو في مطلق ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخاص. ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه جماعة أنه متواتر، ونازع بعض مشايخنا في ذلك قال: لأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة، وليست موجودة في كل طريق منها بمفردها. وأجيب بأن المراد بإطلاق كونه متواترا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم. وأيضا فطريق أنس وحدها قد رواها عنه العدد الكثير وتواترت عنهم. نعم وحديث علي رواه عنه ستة من مشاهير التابعين وثقاتهم، وكذا حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو، فلو قيل في كل منها إنه متواتر عن صحابيه لكان صحيحا، فإن العدد المعين لا يشترط في المتواتر، بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت علوم الحديث وفي شرح نخبة الفكر، وبينت هناك الرد على من ادعى أن مثال المتواتر لا يوجد إلا في هذا الحديث، وبينت أن أمثلته كثيرة: منها حديث من بنى لله مسجدا، والمسح على الخفين، ورفع اليدين، والشفاعة والحوض ورؤية الله في الآخرة، والأئمة من قريش وغير ذلك. والله المستعان. وأما ما نقله البيهقي عن الحاكم ووافقه أنه جاء من رواية العشرة المشهورة، قال: وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره، فقد تعقبه غير واحد، لكن الطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجوزي ومن بعده، والثابت منها ما قدمت ذكره. فمن الصحاح علي

(1/203)


والزبير، ومن الحسان طلحة وسعد وسعيد وأبو عبيدة، ومن الضعيف المتماسك طريق عثمان، وبقيتها ضعيف وساقط.

(1/204)


39 - باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ
111- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ "قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ قَالَ لاَ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ قُلْتُ فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الأَسِيرِ وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ".
[الحديث111-أطرافه في:7300,6915,6903,6755,3179,3172,3047,1870]
قوله: "باب كتابة العلم" طريقة البخاري في الأحكام التي يقع فيها الاختلاف أن لا يجزم فيها بشيء يل يوردها على الاحتمال. وهذه الترجمة من ذلك، لأن السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم. قوله: "حدثنا ابن سلام" كذا للأصيلي، واسمه محمد، وقد صرح به أبو داود وغيره. قوله: "عن سفيان" و الثوري، لأن وكيعا مشهور بالرواية عنه. وقال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف. يقال إنه ابن عيينة. قلت: لو كان ابن عيينة لنسبه لأن القاعدة في كل من روى عن متفقي الاسم أن يحمل من أهمل نسبته على من يكون له به خصوصية من إكثار ونحوه كما قدمناه قبل هذا، وهكذا نقول هنا لأن وكيعا قليل الرواية عن ابن عيينة بخلاف الثوري. قوله: "عن مطرف" هو بفتح الطاء المهملة وكسر الراء ابن طريف بطاء مهملة أيضا. قوله: "عن الشعبي" وللمصنف في الديات سمعت الشعبي. قوله: "عن أبي جحيفة" هو وهب السوائي، وقد صرح بذلك الإسماعيلي في روايته، وللمصنف في الديات: سمعت أبا جحيفة. والإسناد كله كوفيون إلا شيخ البخاري وقد دخل الكوفة، وهو من رواية صحابي عن صحابي. قوله: "قلت لعلي" هو ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: "هل عندكم" الخطاب لعلي، والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم. قوله: "كتاب" أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف في الجهاد: "هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله " وله في الديات " هل عندكم شيء مما ليس في القرآن " وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جرير عن مطرف: "هل علمت شيئا من الوحي " وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت - لا سيما عليا - أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها. وقد سأل عليا عن هذه المسألة أيضا قيس بن عباد - وهو بضم المهملة وتخفيف الموحدة - والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي. قوله: "قال لا" زاد المصنف في الجهاد " لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة". قوله: "إلا كتاب الله" هو بالرفع. وقال ابن المنير: فيه دليل على أنه كان عنده أشياء مكتوبة من الفقه المستنبط من كتاب الله، وهي المراد بقوله: أو فهم أعطيه رجل " لأنه ذكر بالرفع، فلو كان الاستثناء من غير الجنس لكان منصوبا. كذا قال، والظاهر أن الاستثناء فيه منقطع، والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة على ما في الكتاب. وقد رواه المصنف في الديات بلفظ: "ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى رجل من الكتاب " فالاستثناء الأول مفرغ والثاني منقطع، معناه لكن إن أعطى الله رجلا فهما في كتابه فهو يقدر على الاستنباط فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار. وقد روى أحمد بإسناد حسن من طريق طارق بن شهاب

(1/204)


قال: شهدت عليا على المنبر وهو يقول: "والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله وهذه الصحيفة " وهو يؤيد ما قلناه أنه لم يرد بالفهم شيئا مكتوبا. قوله: "الصحيفة" أي الورقة المكتوبة. وللنسائي من طريق الأشتر " فأخرج كتابا من قراب سيفه". قوله: "العقل" أي الدية، وإنما سميت به لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال وهو الحبل. ووقع في رواية ابن ماجه بدل العقل " الديات " والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها. قوله: "وفكاك" بكسر الفاء وفتحها. وقال الفراء الفتح أفصح، والمعنى أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب في ذلك. قوله: "ولا يقتل" بضم اللام، وللكشميهني: "وأن لا يقتل " بفتح اللام، وعطفت الجملة على المفرد لأن التقدير فيها أي الصحيفة حكم العقل وحكم تحريم قتل المسلم بالكافر، وسيأتي الكلام على مسألة قتل المسلم بالكافر في كتاب القصاص والديات إن شاء الله تعالى. ووقع للمصنف ومسلم من طريق يزيد التيمي عن علي قال: "ما عندنا شيء نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. فإذا فيها: المدينة حرم. ولمسلم عن أبي الطفيل عن علي: "ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا. وأخرج صحيفة مكتوبة فيها: "لعن الله من ذبح لغير الله". وللنسائي من طريق الأشتر وغيره عن علي: "فإذا فيها: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم.. " الحديث. ولأحمد من طريق طارق بن شهاب: "فيها فرائض الصدقة " والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبا فيها، فنقل كل واحد من الرواية عنه ما حفظه والله أعلم. وقد بين ذلك قتادة في روايته لهذا الحديث عن أبي حسان عن علي، وبين أيضا السبب في سؤالهم لعلي رضي الله عنه عن ذلك أخرجه أحمد والبيهقي في الدلائل من طريق أبي حسان أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون الناس؟ فذكره بطوله.
112- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ أَوْ الْفِيلَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ وَاجْعَلُوهُ عَلَى الشَّكِّ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَغَيْرُهُ يَقُولُ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي أَلاَ وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِأَبِي فُلاَنٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلاَّ الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِلاَّ الإِذْخِرَ إِلاَّ الإِذْخِرَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ يُقَادُ بِالْقَافِ فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ قَالَ كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ.
[الحديث112- طرفاه في:6880,2434]
قوله: "حدثنا شيبان" هو ابن عبد الرحمن يكنى أبا معاوية، وهو بفتح الشين المعجمة بعدها تحتانية ثم موحدة،

(1/205)


وليس في البخاري بهذه الصورة غيره. قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية المصنف في الديات: "حدثنا أبو سلمة حدثنا أبو هريرة". قوله: "أن خزاعة" أي القبيلة المشهورة، والمراد واحد منهم فأطلق عليه اسم القبيلة مجازا، واسم هذا القاتل خراش بن أمية الخزاعي، والمقتول في الجاهلية منهم اسمه أحمر، والمقتول في الإسلام من بني ليث لم يسم. قوله: "حبس" أي منع عن مكة. "القتل" أي بالقاف والمثناة من فوق "أو الفيل" أي بالفاء المكسورة بعدها ياء تحتانية. قوله: "كذا قال أبو نعيم" أراد البخاري أن الشك فيه من شيخه. قوله: "وغيره يقول: الفيل" أي بالفاء ولا يشك، والمراد بالغير من رواه عن شيبان رفيقا لأبي نعيم وهو عبيد الله بن موسى، ومن رواه عن يحيى رفيقا لشيبان وهو حرب بن شداد كما سيأتي بيانه عند المصنف في الديات، والمراد بحبس الفيل أهل الفيل وأشار بذلك إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة ومعهم الفيل فمنعها الله منهم وسلط عليهم الطير الأبابيل مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفارا، فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد، لكن غزو النبي صلى الله عليه وسلم إياها مخصوص به على ظاهر هذا الحديث وغيره، وسيأتي الكلام على المسألة في كتاب الحج مفصلا إن شاء تعالى. قوله: "وسلط عليهم" هو بضم أوله، ورسول مرفوع والمؤمنون معطوف عليه. قوله: "ولا تحل" للكشميهني: "ولم تحل " وللمصنف في اللقطة من طريق الأوزاعي عن يحيى: "ولن " وهي أليق بالمستقبل. قوله: "لا يختلى" بالخاء المعجمة أي لا يحصد يقال اختليته إذا قطعته وذكر الشوك دال على منع قطع غيره من باب أولى، وسيأتي ذكر الخلاف فيه في الحج إن شاء الله تعالى. قوله: "إلا لمنشد" أي معرف، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى. قوله: "فمن قتل فهو بخير النظرين" كذا وقع هنا، وفيه حذف وقع بيانه في رواية المصنف في الديات عن أبي نعيم بهذا الإسناد: "فمن قتل له قتيل". قوله: "وإما أن يقاد" هو بالقاف أي يقتص، ووقع في رواية لمسلم: "إما أن يفادى " بالفاء وزيادة ياء بعد الدال، والصواب أن الرواية على وجهين: من قالها بالقاف قال فيما قبلها: "إما أن يعقل " من العقل وهو الدية، ومن قالها بالفاء قال فيما قبلها: "إما أن يقتل " بالقاف والمثناة. والحاصل تفسير " النظرين " بالقصاص أو الدية. وفي المسألة بحث يأتي في الديات إن شاء الله تعالى. قوله: "فجاء رجل من أهل اليمن" هو أبو شاه بهاء منونة، وسيأتي في اللقطة مسمى، والإشارة إلى من حرفه، وهناك من الزيادة عن الوليد بن مسلم: "قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلت: وبهذا تظهر مطابقة هذا الحديث للترجمة. قوله: "فقال رجل من قريش" هو العباس بن عبد المطلب كما يأتي في اللقطة، ووقع في رواية لابن أبي شيبة: "فقال رجل من قريش يقال له شاه " وهو غلط. قوله: "إلا الإذخر" كذا هو في روايتنا بالنصب، ويجوز رفعه على البدل مما قبله. قوله: "إلا الإذخر إلا الإذخر" كذا هو في روايتنا، والثانية على سبيل التأكيد.
113- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ" تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار المكي. قوله: "عن أخيه" هو همام بن منبه بتشديد الموحدة المكسورة وكان

(1/206)


أكبر منه سنا لكن تأخرت وفاته عن وهب، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين من طبقة متقاربة أولهم عمرو. قوله: "فإنه كان يكتب ولا أكتب" هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو أي ابن العاص على ما عنده، ويستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان جازما بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة، فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال، إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله وهو الكتابة لم يكن مني، سواء لزم منه كونه أكثر حديثا لما تقتضيه العادة أم لا. وإن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات: أحدها أن عبد الله كان مشتغلا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلت الرواية عنه. ثانيها أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصديا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمانمائة نفس من التابعين، ولم يقع هذا لغيره. ثالثها ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بأن لا ينسى ما يحدثه به كما سنذكره قريبا. رابعها أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين. والله أعلم. "تنبيه": قوله: "ولا أكتب" قد يعارضه ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدث عند أبي هريرة بحديث، فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتبا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا هو مكتوب عندي. قال ابن عبد البر: حديث همام أصح، ويمكن الجمع بأنه لم يكن يكتب في العهد النبوي ثم كتب بعده. قلت: وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبا عنه أن يكون بخطه، وقد ثبت أنه لم يكن يكتب، فتعين أن المكتوب عنده بغير خطه. قوله: "تابعه معمر" أي ابن راشد يعني تابع وهب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همام، والمتابعة المذكورة أخرجها عبد الرزاق عن معمر، وأخرجها أبو بكر بن علي المروزي في كتاب العلم له عن حجاج بن الشاعر عنه، وروى أحمد والبيهقي في المدخل من طريق عمرو بن شعيب عن مجاهد والمغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: "ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب عنه فأذن له " إسناده حسن. وله طريق أخرى أخرجها العقيلي في ترجمة عبد الرحمن بن سلمان عن عقيل عن المغيرة بن حكيم سمع أبا هريرة قال: "ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له " الحديث. وعند أحمد وأبي داود من طريق يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو: "كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهتني قريش " الحديث. وفيه: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق " ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا. ولا يلزم منه أن يكونا في الوعي سواء لما قدمناه من اختصاص أبي هريرة بالدعاء بعدم النسيان، ويحتمل أن يقال تحمل أكثرية عبد الله بن عمرو على ما فاز به عبد الله من الكتابة قبل الدعاء لأبي هريرة لأنه قال في حديثه: "فما نسيت شيئا بعد " فجاز أن يدخل عليه النسيان فيما سمعه قبل الدعاء، بخلاف عبد الله فإن الذي سمعه مضبوط بالكتابة، والذي انتشر عن أبي هريرة مع ذلك أضعاف ما انتشر عن عبد الله بن عمرو لتصدي أبي هريرة لذلك ومقامه بالمدينة النبوية، بخلاف عبد الله بن عمرو في الأمرين.

(1/207)


ويستفاد منه ومن حديث علي المتقدم ومن قصة أبي شاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن " رواه مسلم. والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك. أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها. وقيل النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك، ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره. قال العلماء. كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا كما أخذوا حفظا، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه. وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير. فلله الحمد.
114- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ "ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ" قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ قَالَ "قُومُوا عَنِّي وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ" فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ"
[الحديث 114-أطرافه في: 7366,5669,4432,4431,3168,3053]
قوله: "أخبرني يونس" هو ابن يزيد. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله" أي ابن عتبة بن مسعود. قوله: "لما اشتد" أي قوي. قوله: "وجعه" أي في مرض موته كما سيأتي. وللمصنف في المغازي وللإسماعيلي: "لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة " وللمصنف من حديث سعيد بن جبير أن ذلك كان يوم الخميس وهو قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام. قوله: "بكتاب" أي بأدوات الكتاب، ففيه مجاز الحذف. وقد صرح بذلك في رواية لمسلم قال: "ائتوني بالكتف والدواة " والمراد بالكتف عظم الكتف لأنهما كانوا يكتبون فيها. قوله: "أكتب" هو بإسكان الباء جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف، وفيه مجاز أيضا أي آمر بالكتابة. ويحتمل أن يكون على ظاهره كما سيأتي البحث في المسألة في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى. وفي مسند أحمد من حديث علي أنه المأمور بذلك ولفظه: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق - أي كتف - يكتب ما لا تضل أمته من بعده". قوله: "كتابا" بعد قوله: "بكتاب " فيه الجناس التام بين الكلمتين، وإن كانت إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز. قوله: "لا تضلوا" هو نفي وحذفت النون في الروايات التي اتصلت لنا لأنه بدل من جواب الأمر، وتعدد جواب الأمر من غير حرف العطف جائز. قوله: "غلبه الوجع" أي فيشق عليه إملاء الكتاب أو مباشرة الكتابة، وكأن عمر رضي الله عنه فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل، قال القرطبي وغيره: ائتوني أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق

(1/208)


عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى :{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى :{تبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} ، ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله. وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمنه من زيادة الإيضاح، ودل أمره لهما بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجز بالأمر، فإذا عزم امتثلوا. وسيأتي بسط ذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وقد عد هذا من موافقة عمر رضي الله عنه. واختلف في المراد بالكتاب، فقيل: كأن أراد أن يكتب كتابا ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف، وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف، قاله سفيان بن عيينة. ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة: "ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " أخرجه مسلم. وللمصنف معناه، ومع ذلك فلم يكتب، والأول أظهر لقول عمر: كتاب الله حسبنا. أي كافينا. مع أنه يشمل الوجه الثاني لأنه بعض أفراده. والله أعلم. "فائدة": قال الخطابي: إنما ذهب عمر إلى أنه لو نص بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعدم الاجتهاد. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لو نص على شيء أو أشياء لم يبطل الاجتهاد لأن الحوادث لا يمكن حصرها. قال: وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلى الطعن في ذلك المكتوب، وسيأتي ما يؤيده في أواخر المغازي. قوله: "ولا ينبغي عندي التنازع" فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال الأمر، وإن كان ما اختاره عمر صوابا إذ لم يتدارك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد كما قدمناه. قال القرطبي: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ والمقصد الصالح. والله أعلم. قوله: "فخرج ابن عباس يقول" ظاهره أن ابن عباس كان معهم، وأنه في تلك الحالة خرج قائلا هذه المقالة. وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه هذا الظاهر، بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث، ففي رواية معمر عند المصنف في الاعتصام وغيره: قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول. وكذا لأحمد من طريق جرير بن حازم عن يونس بن يزيد. وجزم ابن تيمية في الرد على الرافضي بما قلته، وكل من الأحاديث يأتي بسط القول فيه في مكانه اللائق به، إلا حديث عبد الله بن عمر فهو عمدة الباب. ووجه رواية حديث الباب أن ابن عباس لما حدث عبيد الله بهذا الحديث خرج من المكان الذي كان به وهو يقول ذلك. ويدل عليه رواية أبي نعيم في المستخرج قال عبيد الله: فسمعت ابن عباس يقول الخ. وإنما تعين حمله على غير ظاهره لأن عبيد الله تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها لأنه ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى. والله أعلم. قوله: "الرزيئة" هي بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ثم همزة، وقد تسهل الهمزة وتشدد الياء، ومعناها المصيبة، وزاد في رواية معمر " لاختلافهم ولغطهم " أي أن الاختلاف كان سببا لترك كتابة الكتاب. وفي الحديث دليل على جواز كتابة العلم، وعلى أن الاختلاف قد يكون سببا في حرمان الخير كما وقع في قصة الرجلين اللذين تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك. وفيه وقوع الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه، وسنذكر بقية ما يتعلق به في أواخر السيرة النبوية من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(1/209)


"تنبيه": قدم حديث علي أنه كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطرقه احتمال أن يكون إنما كتب ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه النهي، وثنى بحديث أبي هريرة وفيه الأمر بالكتابة وهو بعد النهي فيكون ناسخا، وثلث بحديث عبد الله بن عمرو وقد بينت أن في بعض طرقه إذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك، فهو أقوى في الاستدلال للجواز من الأمر أن يكتبوا لأبي شاه لاحتمال اختصاص ذلك بمن يكون أميا أو أعمى، وختم بحديث ابن عباس الدال على أنه صلى الله عليه وسلم هم أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف وهو لا يهم إلا بحق.

(1/210)


40- باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ "سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ".
[الحديث 115- أطرافه في:7069,6218,5844,3599,1126]
قوله: "باب العلم" أي تعليم العلم بالليل، والعظة تقدم أنها الوعظ، وأراد المصنف التنبيه على أن النهي عن الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير. قوله: "صدقة" هو ابن الفضل المروزي. قوله: "عن هند" هي بنت الحارث الفراسية بكسر الفاء والسين المهملة. وفي رواية الكشميهني بدلها عن امرأة. قوله: "وعمرو" كذا في روايتنا بالرفع، ويجوز الكسر، والمعنى أن ابن عيينة حدثهم عن معمر ثم قال: وعمرو هو ابن دينار، فعلى رواية الكسر يكون معطوفا على معمر، وعلى رواية الرفع يكون استئنافا كأن ابن عيينة حدث بحذف صيغة الأداء وقد جرت عادته بذلك. وقد روى الحميدي هذا الحديث في مسنده عن ابن عيينة قال: حدثنا معمر عن الزهري، قال: وحدثنا عمرو ويحيى بن سعيد عن الزهري، فصرح بالتحديث عن الثلاثة. قوله: "ويحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وأخطأ من قال إنه هو القطان لأنه لم يسمع من الزهري ولا لقيه. ووقع في غير رواية عن أبي ذر " عن امرأة " بدل قوله عن هند في الإسناد الثاني. والحاصل أن الزهري كان ربما أبهمها وربما سماها. وقد رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري ولم يذكر هندا ولا أم سلمة. قوله: "سبحان الله ماذا" ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم، وعبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى :{خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} وعن العذاب بالفتن لأنها أسبابه. قال الكرماني: ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة. قوله: "أنزل" بضم الهمزة، وللكشميهني: "أنزل الله " بإظهار الفاعل، والمراد بالإنزال إعلام الملائكة بالأمر المقدور، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن فعبر عنه بالإنزال. قوله: "وماذا فتح من الخزائن" قال الداودي: الثاني هو الأول، والشيء قد يعطف على نفسه تأكيدا، لأن ما يفتح من الخزائن يكون سببا للفتنة، وكأنه فهم أن المراد بالخزائن خزائن فارس والروم وغيرهما مما فتح على الصحابة، لكن المغايرة بين الخزائن والفتن أوضح لأنهما غير متلازمين، وكم من نائل من تلك الخزائن سالم من الفتن. قوله: "صواحب الحجر" بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة وهي منازل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما خصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات حينئذ، أو من باب " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". قوله: "فرب كاسية" استدل به ابن مالك على أن رب في الغالب للتكثير، لأن هذا الوصف للنساء وهن أكثر أهل

(1/210)


النار انتهى. وهذا يدل لورودها في التكثير لا لأكثريتها فيه. قوله: "عارية" بتخفيف الياء وهي مجرورة في أكثر الروايات على النعت، قال السهيلي: إنه الأحسن عند سيبويه، لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، قال: ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ والجملة في موضع النعت، أي هي عارية والفعل الذي تتعلق به رب محذوف. انتهى. وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى موجب إيقاظ أزواجه، أي ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث جواز قول: "سبحان الله " عند التعجب، وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند آية تحدث. وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. وفي هذا الإسناد رواية الأقران في موضعين: أحدهما ابن عيينة عن معمر، والثاني عمرو ويحيى عن الزهري وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض في نسق. وهند قد قيل إنها صحابية فإن صح فهو من رواية تابعي عن مثله عن صحابية عن مثلها، وأم سلمة هي أم المؤمنين، وكانت تلك الليلة ليلتها. وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وأمر من رأى في منامه ما يكره أن يصلي، وسيأتي ذلك في مواضعه. وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء المهولة، وفيه تحذير العالم من يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدفع ذلك المحذور. والله أعلم.

(1/211)


3 - باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ
116- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ "أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ".
[الحديث 116-طرفاه في: 601,564]
قوله: "باب السمر" و بفتح المهملة والميم، وقيل الصواب إسكان الميم لأنه اسم للفعل، ومعناه الحديث بالليل قبل النوم. وبهذا يظهر الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها. قوله: "في العلم" كذا في رواية أبي ذر بإضافة الباب إلى السمر. وفي رواية غيره باب السمر في العلم بتنوين باب. قوله: "حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن" أي أنه حدثه عبد الرحمن. وفي رواية غير أبي ذر حدثني عبد الرحمن، والليث وعبد الرحمن قرينان. قوله: "عن سالم" أي ابن عبد الله بن عمر. قوله: "أبي حثمة" بفتح المهملة وسكون المثلثة، واسم أبي حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي، وأما أبو بكر الرازي فتابعي مشهور لم يسم، وقد قيل إن اسمه كنيته. قوله: "صلى لنا" أي إماما. وفي رواية: "بنا " بموحدة. قوله: "العشاء" أي صلاة العشاء. قوله: "في آخر حياته" جاء مقيدا في رواية جابر أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر. قوله: "أرأيتكم" هو بفتح المثناة لأنها ضمير المخاطب والكاف ضمير ثان لا محل لها من الإعراب والهمزة الأولى للاستفهام، والرؤية بمعنى العلم أو البصر، والمعنى أعلمتم أو أبصرتم ليلتكم، وهي منصوبة على المفعولية، والجواب محذوف تقديره قالوا نعم، قال فاضبطوها. وترد أرأيتكم للاستخبار كما في قوله تعالى :{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الآية، قال الزمخشري: المعنى أخبروني. ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره من تدعون. ثم بكتهم فقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}. انتهى. وإنما أوردت هذا لأن بعض الناس نقل كلام الزمخشري

(1/211)


في الآية إلى هذا الحديث، وفيه نظر لأنه جعل التقدير أخبروني ليلتكم هذه فاحفظوها، وليس ذلك مطابقا لسياق الآية. قوله: "فإن رأس" وللأصيلي: "فإن على رأس " أي عند انتهاء مائه سنة. قوله: "منها" فيه دليل على أن " من " تكون لابتداء الغاية في الزمان كقول الكوفيين، وقد رد ذلك نحاة البصرة. وأولوا ما ورد من شواهده كقوله تعالى :{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} وقول أنس ما زلت أحب الدباء من يومئذ، وقوله: مطرنا من يوم الجمعة إلى الجمعة. قوله: "لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض" أي الآن موجودا أحد إذ داك، وقد ثبت هذا التقدير عند المصنف من رواية شعيب عن الزهري كما سيأتي في الصلاة مع بقية الكلام عليه، قال ابن بطال: "إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه المدة تخترم الجيل الذي هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا في العبادة". وقال النووي: "المراد أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعد هذه الليلة أكثر من مائة سنة سواء قل عمره قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي حياة أحد يولد بعد تلك الليلة مائة سنة". والله أعلم.
117- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ ثُمَّ قَالَ "نَامَ الْغُلَيِّمُ" أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ"
[الحديث117-أطرافه في
7452,6316,6215,5919,4572,4571,4570,4569,1198,9924,895,728,736,699,698,697,183,138]
قوله: "حدثنا الحكم" بفتحتين هو ابن عتيبة بالمثناة تصغير عتبة، وهو تابعي صغير، وكان أحد الفقهاء. قوله: "ثم جاء" أي من المسجد. قوله: "نام الغليم" بضم المعجمية وهو من تصغير الشفقة، والمراد به ابن عباس، ويحتمل أن يكون ذلك إخبارا منه صلى الله عليه وسلم بنومه أو استفهاما بحذف الهمزة وهو الواقع. ووقع في بعض النسخ: "يا أم الغليم " بالنداء وهو تصحيف لم تثبت به رواية. قوله: "أو كلمة" بالشك من الراوي، والمراد بالكلمة الجملة أو المفردة، ففي رواية أخرى " نام الغلام". قوله: "غطيطه" بفتح الغين المعجمة وهو صوت نفس النائم، والنخير أقوى منه. قوله: "أو خطيطه" بالخاء المعجمة، والشك فيه من الراوي، وهو بمعنى الأول قاله الداودي. وقال ابن بطال: لم أجده بالخاء المعجمة عند أهل اللغة. وتبعه القاضي عياض فقال: هو هنا وهم. انتهى. وقد نقل ابن الأثير عن أهل الغريب أنه دون الغطيط. قوله: "ثم صلى ركعتين" أي ركعتي الفجر. وأغرب الكرماني فقال: "إنما فصل بينهما وبين الخمس ولم يقل سبع ركعات لأن الخمس اقتدى ابن عباس به فيها بخلاف الركعتين، أو لأن الخمس بسلام والركعتين بسلام آخر" انتهى. وكأنه ظن أن الركعتين من جملة صلاة الليل وهو محتمل لكن حملهما على سنة الفجر أولى ليحصل الختم بالوتر، وسيأتي تفصيل هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب الوتر إن شاء الله تعالى. ومناسبة حديث ابن عمر للترجمة ظاهرة لقوله فيه: "قام فقال: "بعد قوله: "صلى العشاء " وأما حديث ابن عباس فقال

(1/212)


ابن المنير ومن تبعه: "يحتمل أن يريد أن أصل السمر يثبت بهذه الكلمة" وهي قوله: "نام الغليم"، ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين التعليم من القول والتعليم من الفعل، فقد سمر ابن عباس ليلته في طلب العلم، زاد الكرماني أو ما يفهم من جعله إياه على يمينه كأنه قال له قف عن يميني فقال وقفت ا ه. وكل ما ذكره معترض، لأن من يتكلم بكلمة واحدة لا يسمى سامرا، وصنيع ابن عباس يسمى سهرا لا سمرا إذ السمر لا يكون إلا عن تحدث قاله الإسماعيلي، وأبعدها الأخير لأن ما يقع بعد الانتباه من النوم لا يسمى سمرا. وقال الكرماني تبعا لغيره أيضا: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن الأقارب إذا اجتمعوا لا بد أن يجري بينهم حديث للمؤانسة وحديثه صلى الله عليه وسلم كله علم وفوائد. قلت: والأولى من هذا كله أن مناسبة الترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه من طريق أخرى، وهذا يصنعه المصنف كثيرا يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث، والنظر في مواقع ألفاظ الرواة، لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن. وإنما أراد البخاري هنا ما وقع في بعض طرق هذا الحديث مما يدل صريحا على حقيقة السمر بعد العشاء، وهو ما أخرجه في التفسير وغيره من طريق كريب عن ابن عباس قال: بت في بيت ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد.. فصحت الترجمة بحمد الله تعالى من غير حاجة إلى تعسف ولا رجم بالظن. فإن قيل: هذا إنما يدل على السمر مع الأهل لا في العلم، فالجواب أنه يلحق به، والجامع تحصيل الفائدة، أو هو بدليل الفحوى، لأنه إذا شرع في المباح ففي المستحب من طريق الأولى. وسنذكر باقي مباحث هذا الحديث حيث ذكره المصنف مطولا في كتاب الوتر من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. ويدخل في هذا الباب حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم بعد العشاء، وقد ذكره المصنف في كتاب الصلاة. ولأنس حديث آخر في قصة أسيد بن حضير وقد ذكره المصنف في المناقب، وحديث عمر " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين " أخرجه الترمذي والنسائي ورجاله ثقات، وهو صريح في المقصود، إلا أن في إسناده اختلافا على علقمة، فلذلك لم يصح على شرطه. وحديث عبد الله بن عمرو: "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح لا يقوم إلا إلى عظيم صلاة " رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة، وهو من رواية أبي حسان عن عبد الله بن عمرو وليس على شرط البخاري، وأما حديث: "لا سمر إلا لمصل أو مسافر " فهو عند أحمد بسند فيه راو مجهول، وعلى تقدير ثبوته فالسمر في العلم يلحق بالسمر في الصلاة نافلة، وقد سمر عمر مع أبي موسى في مذاكرة الفقه فقال أبو موسى: "الصلاة " فقال عمر: إنا في صلاة. والله أعلم.

(1/213)


42- باب حِفْظِ الْعِلْمِ
118- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إِلَى قَوْلِهِ {الرَّحِيمُ} إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(1/213)


بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ".
[الحديث أطرافه في:7354,3648,2350,2047,119]
قوله: "باب حفظ العلم" لم يذكر في الباب شيئا عن غير أبي هريرة، وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث، قال الشافعي رضي الله عنه: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره. وقد كان ابن عمر يترحم عليه في جنازته ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد. وقد دل الحديث الثالث من الباب على أنه لم يحدث بجميع محفوظه، ومع ذلك فالموجود من حديثه أكثر من الموجود من حديث غيره من المكثرين، ولا يعارض هذا ما تقدم من تقديمه عبد الله بن عمرو على نفسه في كثرة الحديث لأنا قدمنا الجواب عن ذلك، ولأن الحديث الثاني من الباب دل على أنه لم ينس شيئا سمعه، ولم يثبت مثل ذلك لغيره. قوله: "حدثنا عبد العزيز" هو الأويسي المدني، والإسناد كله مدنيون. قوله: "أكثر أبو هريرة" أي من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح به المصنف في البيوع من طريق شعيب عن الزهري، وله فيه وفي المزارعة من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري هنا زيادة وهي: "ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه " وبها تبين الحكمة في ذكره المهاجرين والأنصار ووضعه المظهر موضع المضمر على طريق الحكاية حيث قال: "أكثر أبو هريرة " ولم يقل أكثرت. قوله: "ولولا آيتان" مقول قال لا مقول يقولون، وقوله: ثم يتلو مقول الأعرج، وذكره بلفظ المضارع استحضارا لصورة التلاوة، ومعناه: لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم ما حدث أصلا، لكن لما كان الكتمان حراما وجب الإظهار، فلهذا حصلت الكثرة لكثرة ما عنده. ثم ذكر سبب الكثرة بقوله: "إن إخواننا " وأراد بصيغة الجمع نفسه وأمثاله، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام. قوله: "يشغلهم" فتح أوله من الثلاثي، وحكى ضمه وهو شاذ. قوله: "الصفق" إسكان الفاء، هو ضرب اليد على اليد، وجرت به عادتهم عند عقد البيع. قوله: "في أموالهم" أي القيام على مصالح زرعهم، ولمسلم: "كان يشغلهم عمل أرضيهم " ولابن سعد " كان يشغلهم القيام على أرضيهم". قوله: "وإن أبا هريرة" فيه التفات إذ كان نسق الكلام أن يقول: وإني. قوله: "لشبع" بلام التعليل للأكثر وهو الثابت في غير البخاري أيضا، وللأصيلي: "بشبع " بموحدة أوله، وزاد المصنف في البيوع " وكنت امرءا مسكينا من مساكين الصفة". قوله: "ويحضر" أي من الأحوال "ويحفظ" أي من الأقوال، وهما معطوفان على قوله: "يلزم". وقد روى البخاري في التاريخ والحاكم في المستدرك من حديث طلحة بن عبيد الله شاهدا لحديث أبي هريرة هذا ولفظه: "لا أشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نسمع، وذلك إنه كان مسكينا لا شيء له ضيفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج البخاري في التاريخ والبيهقي في المدخل من حديث محمد بن عمارة بن حزم أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلا فجعل أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس. وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفنا بحديثه. قال الترمذي حسن. واختلف في إسناد هذا الحديث على الزهري فرواه مالك عنه هكذا، ووافقه إبراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة، ورواه شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما

(1/214)


عن أبي هريرة، وتابعه يونس بن يزيد. والإسنادان جميعا محفوظان صححهما الشيخان، وزادوا في روايتهم عن الزهري شيئا سنذكره في هذا الحديث الثاني:
119- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ "ابْسُطْ رِدَاءَكَ" فَبَسَطْتُهُ قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ"
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا أَوْ قَالَ غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ
قوله."حدثنا أحمد بن أبي بكر" هو الزهري المدني صاحب مالك، وسقط قوله أبو مصعب من رواية الأصيلي وأبي ذر، وهو بكنيته أشهر. والإسناد كله مدنيون أيضا وكذا الذي بعده. قوله: "كثيرا" هو صفة لقوله حديثا لأنه اسم جنس. قوله: "فغرف" لم يذكر المغروف منه وكأنها كانت إشارة محضة. قوله: "ضم" وللكشميهني والباقين " ضمه " وهو بفتح الميم ويجوز ضمها، وقيل يتعين لأجل ضمة الهاء، ويجوز كسرها لكن مع إسكان الهاء وكسرها. قوله: "فما نسيت شيئا بعد" هو مقطوع الإضافة مبني على الضم، وتنكير شيئا بعد النفي ظاهر العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره. ووقع في رواية ابن عيينة وغيره عن الزهري في الحديث الماضي " فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه". وفي رواية يونس عند مسلم: "فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به " وهذا يقتضي تخصيص عدم النسيان بالحديث. ووقع في رواية شعيب: "فما نسيت من مقالته تلك من شيء " وهذا يقتضي عدم النسيان بتلك المقالة فقط، لكن سياق الكلام يقتضي ترجيح رواية يونس ومن وافقه لأن أبا هريرة نبه به على كثرة محفوظه من الحديث فلا يصح حمله على تلك المقالة وحدها، ويحتمل أن تكون وقعت له قضيتان: فالتي رواها الزهري مختصة بتلك المقالة، والقضية التي رواها سعيد المقبري عامة. وأما ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدثت عند أبي هريرة بحديث فأنكره، فقلت إني سمعت منك، فقال: إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي. فقد يتمسك به في تخصيص عدم النسيان بتلك المقالة لكن سند هذا ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فهو نادر. ويلتحق به حديث أبي سلمة عنه " لا عدوى " فإنه قال فيه: إن أبا هريرة أنكره. قال: فما رأيته نسي شيئا غيره. "فائدة": المقالة المشار إليها في حديث الزهري أبهمت في جميع طرقه، وقد وجدتها مصرحا بها في جامع الترمذي وفي الحلية لأبي نعيم من طريق أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يسمع كلمة أو كلمتين أو ثلاثا أو أربعا أو خمسا مما فرض الله فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة " فذكر الحديث. وفي هذين الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة ومعجزة واضحة من علامات النبوة، لأن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه ثم تخلف عنه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي المستدرك للحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: "كنت أنا وأبو هريرة وآخر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادعوا." فدعوت أنا وصاحبي وأمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علما لا ينسى. فأمن النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال: "سبقكما الغلام الدوسي " وفيه الحث على حفظ العلم، وفيه أن التقلل

(1/215)


من الدنيا أمكن لحفظه. وفيه فضيلة التكسب لمن له عيال، وفيه جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلة إذ اضطر إلى ذلك وأمن من الإعجاب. قوله: "ابن أبي فديك بهذا" أشكل قوله بهذا على بعض الشارحين لأن ابن أبي فديك لم يتقدم له ذكر، وقد ظن بعضهم أنه محمد بن إبراهيم بن دينار المذكور قبل، فيكون مراده أن السياقين متحدان إلا في اللفظة المبينة فيه، وليس كما ظن، لأن ابن أبي فديك اسمه محمد بن إسماعيل بن مسلم وهو ليثي(1) يكنى أبا إسماعيل، وابن دينار جهني يكنى أبا عبد الله، لكن اشتركا في الرواية عن ابن أبي ذئب لهذا الحديث ولغيره، وفي كونهما مدنيين، وجوز بعضهم أن يكون الحديث عند المصنف بإسناد آخر عن ابن أبي ذئب، وكل ذلك غفلة عما عند المصنف في علامات النبوة فقد ساقه بالإسناد المذكور، والمتن من غير تغيير إلا في قوله: "بيديه " فإنه ذكرها بالإفراد. وقال فيها أيضا: "فغرف " وهي رواية الأكثرين في حديث الباب، ووقع في رواية المستملي وحده " فحذف " بدل فغرف، وهو تصحيف لما وضح في سياقه في علامات النبوة. وقد رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن أبي فديك فقال: فغرف.
120- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ".
قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس "حدثني أخي" هو أبو بكر عبد الحميد. قوله: "حفظت عن" وفي رواية الكشميهني: "من " بدل عن، وهي أصرح في تلقيه من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. قوله: "وعاءين" أي ظرفين، أطلق المحل وأراد به الحال، أي نوعين من العلم، وبهذا التقرير يندفع إيراد من زعم أن هذا يعارض قوله في الحديث الماضي " كنت لا أكتب " وإنما مراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعاءين، ويحتمل أن يكون أبو هريرة أملى حديثه على من يثق به فكتبه له وتركه عنده، والأول أولى. ووقع في المسند عنه " حفظت ثلاثة أجربة، بثثت منها جرابين " وليس هذا مخالفا لحديث الباب لأنه يحمل على أن أحد الوعاءين كان أكبر من الآخر بحيث يجيء ما في الكبير في جرابين وما في الصغير في واحد. ووقع في المحدث الفاضل للرامهرمزي من طريق منقطعة عن أبي هريرة " خمسة أجربة " وهو إن ثبت محمول على نحو ما تقدم. وعرف من هذا أن ما نشره من الحديث أكثر مما لم ينشره. قوله: "بثثته" بفتح الموحدة والمثلثة وبعدها مثلثة ساكنة تدغم في المثناة التي بعدها أي أذعته ونشرته، زاد الإسماعيلي: في الناس. قوله: "قطع هذا البلعوم" زاد في رواية المستملي: قال أبو عبد الله - يعني المصنف - البلعوم مجرى الطعام، وهو بضم الموحدة، وكنى بذلك عن القتل. وفي رواية الإسماعيلي: "لقطع هذا " يعني رأسه. وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة. واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك أيضا في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وذلك الباطن إنما حاصله الانحلال من الدين. قال:
ـــــــ
(1) في تهذيب التهذيب وتقريب التهذيب"ديلي"

(1/216)


وإنما أراد أبو هريرة بقوله: "قطع " أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم، ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتوبة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به.

(1/217)


43- باب الإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
121- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ "اسْتَنْصِتْ النَّاسَ فَقَالَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
[الحديث121- أطرافه في:7080,6869,4405]
قوله: "باب الإنصات للعلماء" أي السكوت والاستماع لما يقولونه. قوله: "حدثنا حجاج" هو ابن منهال. قوله: "عن جرير" هو ابن عبد الله البجلي، وهو جد أبي زرعة الراوي عنه هنا. قوله: "قال له في حجة الوداع" ادعى بعضهم أن لفظ: "له " زيادة، لأن جريرا إنما أسلم بعد حجة الوداع بنحو من شهرين، فقد جزم ابن عبد البر بأنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما، وما جزم به يعارضه قول البغوي وابن حبان إنه أسلم في رمضان سنة عشر. ووقع في رواية المصنف لهذا الحديث في باب حجة الوداع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجرير، وهذا لا يحتمل التأويل فيقوي ما قال البغوي. والله أعلم. قوله: "يضرب" هو بضم الباء في الروايات، والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم في حالة قتل بعضهم بعضا. وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: فيه أن الإنصات للعلماء لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء. كأنه أراد بهذا مناسبة الترجمة للحديث، وذلك أن الخطبة(1) المذكورة كانت في حجة الوداع والجمع كثير جدا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار وغير ذلك من أمور الحج، وقد قال لهم: "خذوا عني مناسككم " كما ثبت في صحيح مسلم، فلما خطبهم ليعلمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات. وقد وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى :{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ومعناهما مختلف، فالإنصات هو السكوت وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع كأن يكون مفكرا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه، وقد قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر. وعن الأصمعي تقديم الإنصات على الاستماع. وقد ذكر علي بن المديني أنه قال لابن عيينة: أخبرني معتمر بن سليمان عن كهمس عن مطرف قال: الإنصات من العينين. فقال له ابن عيينة: وما ندري كيف ذلك؟ قال: إذا حدثت رجلا فلم ينظر إليك لم يكن منصتا انتهى. وهذا محمول على الغالب. والله أعلم.
ـــــــ
(1)في النسخ "العقبة", والصواب"الخطبة"

(1/217)


44- باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ
122- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ
ـــــــ
(1)في النسخ "العقبة", والصواب"الخطبة"

(1/217)


45- باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا
123- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"
[الحديث 123- أطرافه في:7458,3126,2810]
قوله: "باب من سأل وهو قائم" جملة حالية عن الفاعل. وقوله: عالما مفعول وجالسا صفة له، والمراد أن العالم الجالس إذا سأله شخص قائم لا يعد من باب من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. بل هذا جائز، بشرط الأمن من الإعجاب. قاله ابن المنير. قوله: "حدثنا عثمان" و ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأبو وائل هو شقيق، وأبو موسى هو الأشعري، وكلهم كوفيون. قوله: "قال وما رفع إليه رأسه" ظاهره أن القائل هو أبو موسى، ويحتمل أن يكون من دونه فيكون مدرجا في أثناء الخبر. قوله: "من قاتل الخ" هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم لأنه أجاب بلفظ جامع لمعنى السؤال مع الزيادة عليه، وفي الحديث شاهد لحديث: "الأعمال بالنيات"، وأنه لا بأس بقيام طالب الحاجة عند أمن الكبر، وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لإعلاء دين الله. وفيه استحباب إقبال المسئول على السائل. وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.

(1/222)


46- باب السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ
124- حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري عن عيسى بن طلحة عن

(1/222)


47- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا}[85الإسراء]
125- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ
ـــــــ
(1) في طبعة بولاق: كذا بالنسخ التي بأيدينا, ولعل لفظة"يقول"زائدة من قلم الناسخ

(1/223)


فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا
[الحديث 125- اطرافه في: 7462,7456,7297,4721]
قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد البصري، وإسناد الأعمش إلى منتهاه مما قيل إنه أصح الأسانيد. قوله: "خرب" بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء جمع خربة، ويقال بالعكس. والخرب ضد العامر. ووقع في موضع آخر بفتح المهملة وإسكان الراء بعدها مثلثة. قوله: "عسيب" أي عصا من جريد النخل. قوله: "بنفر من اليهود" لم أقف على أسمائهم. قوله: "لا تسألوه لا يجيء" في روايتنا بالجزم على جواب النهي، ويجوز النصب. والمعنى لا تسألوه خشية أن يجيء فيه بشيء، ويجوز الرفع على الاستئناف. قوله: "لنسألنه" جواب القسم المحذوف. قوله: "فقمت" أي حتى لا أكون مشوشا عليه، أو فقمت قائما حائلا بينه وبينهم. قوله: "فلما انجلى" أي الكرب الذي كان يغشاه حال الوحي. قوله: "الروح" الأكثر على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان، وقيل عن جبريل، وقيل عن عيسى، وقيل عن القرآن، وقيل عن خلق عظيم روحاني، وقبل غير ذلك. وسيأتي بسط ذلك في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى، ونشير هنا إلى ما قيل في الروح الحيواني وأن الأصح أن حقيقته مما استأثر الله بعلمه. قوله: "هي كذا" وللكشميهني: "هكذا في قراءتنا " أي قراءة الأعمش، وليست هذه القراءة في السبعة بل ولا في المشهور من غيرها، وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءات له من قراءة الأعمش. والله أعلم.

(1/224)


48- باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الِاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ
126- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الْكَعْبَةِ قُلْتُ قَالَتْ لِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ" فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ
[الحديث126- أطرافه في:7243,4484,3368,1585,1584,1583,]
قوله: "باب من ترك بعض الاختيار" أي فعل الشيء المختار والإعلام به. قوله: "عن إسرائيل" هو ابن يونس "عن أبي إسحاق" هو السبيعي بفتح المهملة وهو جد إسرائيل الراوي عنه، و "الأسود" هو ابن يزيد النخعي والإسناد إليه كلهم كوفيون. قوله: "قال لي ابن الزبير" يعني عبد الله الصحابي المشهور. قوله: "كانت عائشة" أي أم المؤمنين. قوله: "في الكعبة" عني في شأن الكعبة. قوله: "قلت قالت لي" زاد فيه ابن أبي شيبة في مسنده عن عبيد الله بن موسى بهذا الإسناد: قلت لقد حدثتني حديثا كثيرا نسيت بعضه وأنا أذكر بعضه، قال - أي ابن الزبير - ما نسيت أذكرتك، قلت قالت. قوله: "حديث عهدهم" بتنوين حديث، ورفع " عهدهم " على إعمال الصفة المشبهة. قوله: "قال" للأصيلي: "فقال ابن الزبير: بكفر " أي أذكره ابن الزبير بقولها بكفر كان الأسود نسيها،

(1/224)


وأما ما بعدها وهو قوله: "لنقضت الخ " فيحتمل أن يكون مما نسي أيضا أو مما ذكر. وقد رواه الترمذي من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود بتمامه، إلا قوله: "بكفر " فقال بدلها بجاهلية، وكذا للمصنف في الحج في طريق أخرى عن الأسود، ورواه الإسماعيلي من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق ولفظه: "قلت حدثتني حديثا حفظت أوله ونسيت آخره: "ورجحها الإسماعيلي على رواية إسرائيل، وفيما قال نظر لما قدمناه. وعلى قوله يكون في رواية شعبة إدراج. والله أعلم. قوله: "بابا" بالنصب على البدل، كذا لأبي ذر في الموضعين ولغيره بالرفع على الاستئناف. قوله: "ففعله" يعني بنى الكعبة على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي ذلك مبسوطا في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وفي الحديث معنى ما ترجم له لأن قريشا كانت تعظم أمر الكعبة جدا، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولا ما لم يكن محرما.

(1/225)


49- باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا.
وَقَالَ عَلِيٌّ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟"
127- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ
قوله: "باب من خص بالعلم قوما دون قوم" أي سوى قوم لا بمعنى الأدون. و " كراهية " بالإضافة بغير تنوين. وهذه الترجمة قريبة من الترجمة التي قبلها، ولكن هذه في الأقوال وتلك في الأفعال أو فيهما. قوله: "حدثنا عبيد الله" هو ابن موسى كما ثبت للباقين. قوله: "عن معروف" هو ابن خربوذ كما في رواية كريمة. وهو تابعي صغير مكي وليس له في البخاري غير هذا الموضع، وأبوه بفتح المعجمة وتشديد الراء المفتوحة وضم الموحدة وآخره معجمة. وهذا الإسناد من عوالي البخاري لأنه يلتحق بالثلاثيات، من حيث أن الراوي الثالث منه صحابي وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي آخر الصحابة موتا، وليس له في البخاري غير هذا الموضع. قوله: "حدثوا الناس بما يعرفون" كذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط كله من روايته عن الكشميهني، ولغيره بتقديم المتن ابتدأ به معلقا فقال: وقال علي الخ ثم عقبه بالإسناد. والمراد بقوله: "بما يعرفون " أي يفهمون. وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره: "ودعوا ما ينكرون " أي يشتبه عليهم فهمه. وكذا رواه أبو نعيم في المستخرج. وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود: "ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " رواه مسلم. وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله أعلم.

(1/225)


128- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ "يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ" قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ "يَا مُعَاذُ" قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاَثًا قَالَ "مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ "إِذًا يَتَّكِلُوا" وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا
[الحديث128- طرفه في: 129]
قوله: "حدثني أبي" هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي. قوله: "رديفه" أي راكب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجملة حالية والرحل بإسكان الحاء المهملة وأكثر ما يستعمل للبعير، لكن معاذ كان في تلك الحالة رديفه صلى الله عليه وسلم على حمار كما يأتي في الجهاد. قوله: "قال: يا معاذ بن جبل" هو خبر " أن " المتقدمة، وابن جبل بفتح النون، وأما معاذ فبالضم لأنه منادى مفرد علم، وهذا اختيار ابن مالك لعدم احتياجه إلى تقدير، واختار ابن الحاجب النصب على أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب كأنه أضيف، والمنادى المضاف منصوب. وقال ابن التين: يجوز النصب على أن قوله معاذ زائد، فالتقدير يا ابن جبل، وهو يرجع إلى كلام ابن الحاجب بتأويل. قوله. "قال: لبيك يا رسول الله وسعديك" اللب بفتح اللام معناه هنا الإجابة، والسعد المساعدة، كأنه قال لبا لك وإسعادا لك، ولكنهما ثنيا على معنى التأكيد والتكثير، أي إجابة بعد إجابة وإسعادا بعد إسعاد. وقيل في أصل لبيك واشتقاقها غير ذلك، وسنوضحه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. قوله: "ثلاثا" أي النداء والإجابة قيلا ثلاثا، وصرح بذلك في رواية مسلم، ويؤيده الحديث المتقدم في باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه. قوله: "صدقا" فيه احتراز عن شهادة المنافق. وقوله: "من قلبه " يمكن أن يتعلق بصدقا أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، ويمكن أن يتعلق بيشهد أي يشهد بقلبه، والأول أولى. وقال الطيبي: قوله: "صدقا " أقيم هنا مقام الاستقامة لأن الصدق يعبر به قولا عن مطابقة القول المخبر عنه، ويعبر به فعلا عن تحري الأخلاق المرضية كقوله تعالى :{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أي حقق ما أورده قولا بما تحراه فعلا. انتهى. وأراد بهذا التقرير رفع الإشكال عن ظاهر الخبر، لأنه يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد، لكن دلت الأدلة القطعية عند أهل السنة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون ثم يخرجون من النار بالشفاعة، فعلم أن ظاهره غير مراد، فكأنه قال: إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة. قال: ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ في التبشير به. وقد أجاب العلماء عن الإشكال أيضا بأجوبة أخرى: منها أن مطلقه مقيد بمن قالها تائبا ثم مات على ذلك. ومنها أن ذلك كان قبل نزول الفرائض، وفيه نظر لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، وكذا ورد نحوه من حديث أبي موسى رواه أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبو هريرة.ومنها أنه خرج مخرج الغالب، إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعة ويجتنب المعصية. ومنها أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها لا أصل دخولها. ومنها أن المراد النار التي أعدت للكافرين لا الطبقة التي أفردت لعصاة الموحدين. ومنها أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته لأن النار لا

(1/226)


تأكل مواضع السجود من المسلم كما ثبت في حديث الشفاعة أن ذلك محرم عليها، وكذا لسانه الناطق بالتوحيد. والعلم عند الله تعالى. قوله: "فيستبشرون" كذا لأبي ذر أي فهم يستبشرون، وللباقين بحذف النون، وهو أوجه لوقوع الفاء بعد النفي أو الاستفهام أو العرض وهي تنصب في كل ذلك. قوله: "إذا يتكلوا" تشديد المثناة المفتوحة وكسر الكاف، وهو جواب وجزاء؛ أي إن أخبرتهم يتكلوا. وللأصيلي والكشميهني ينكلوا بإسكان النون وضم الكاف أن يمتنعوا من العمل اعتمادا على ما يتبادر من ظاهره، وروى البزار بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمعاذ في التبشير، فلقيه عمر فقال: لا تعجل. ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيا، إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها، قال فرده. وهذا معدود من موافقات عمر، وفيه جواز الاجتهاد بحضرته صلى الله عليه وسلم. واستدل بعض متكلمي الأشاعرة من قوله: "يتكلوا " على أن للعبد اختيارا كما سبق في علم الله(1). قوله: "عند موته" أي موت معاذ. وأغرب الكرماني فقال: يحتمل أن يرجع الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: ويرده ما رواه أحمد بسند صحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أخبرني من شهد معاذا حين حضرته الوفاة يقول: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم يمنعني أن أحدثكموه إلا مخافة أن تتكلوا.. فذكره. قوله: "تأثما" هو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة، أي خشية الوقوع في الإثم، وقد تقدم توجيهه في حديث بدء الوحي في قوله: "يتحنث". والمراد بالإثم الحاصل من كتمان العلم، ودل صنيع معاذ على أنه عرف أن النهي عن التبشير كان على التنزيه لا على التحريم، وإلا لما كان يخبر به أصلا. أو عرف أن النهي مقيد بالاتكال فأخبره به من لا يخشى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المقيد، والأول أوجه لكونه أخر ذلك إلى وقت موته. وقال القاضي عياض: لعل معاذا لم يفهم النهي، لكن كسر عزمه عما عرض له من تبشيرهم. قلت: والرواية الآتية صريحة في النهي، فالأولى ما تقدم. وفي الحديث جواز الإرداف، وبيان تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلة معاذ بن جبل من العلم لأنه خصه بما ذكر. وفيه جواز استفسار الطالب عما يتردد فيه، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده.
129- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ لاَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا"
قوله: "حدثنا مسدد حدثنا معتمر" كذا للجميع، وذكر الجياني أن عبدوسا والقابسي روياه عن أبي زيد المروزي بإسقاط مسدد من السند، قال: وهو وهم ولا يتصل السند إلا بذكره. انتهى. ومعتمر هو ابن سليمان التيمي. والإسناد كله بصريون إلا معاذا، وكذا الذي قبله إلا إسحاق فهو مروزي، وهو الإمام المعروف بابن راهويه. قوله: "ذكر لي" هو بالضم على البناء لما لم يسم فاعله، ولم يسم أنس من ذكر له ذلك في جميع ما وقفت عليه من الطرق، وكذلك جابر بن عبد الله كما قدمناه من عند أحمد، لأن معاذا إنما حدث به عند موته بالشام، وجابر وأنس إذ ذاك بالمدينة فلم يشهداه وقد حضر ذلك من معاذ عمرو بن ميمون الأودي أحد المخضرمين كما سيأتي عند المصنف في الجهاد، ويأتي الكلام على ما في سياقه من الزيادة ثم. ورواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن سمرة الصحابي المشهور
(1) هذا الذى عده الشارح لبعض متكلمي الأشاعرة هو قول أهل السنة, وهو أن للعبد اختيارا وفعلا ومشيئة, لكن ذلك إنما يقع بعد مشيئة الله كما قال تعالى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فتنبه

(1/227)


أنه سمع ذلك من معاذ أيضا، فيحتمل أن يفسر المبهم بأحدهما. والله أعلم. "تنبيه": أورد المزي في الأطراف هذا الحديث في مسند أنس، وهو من مراسيل أنس، وكان حقه أن يذكره في المبهمات. والله الموفق. قوله: "من لقي الله" أي من لقي الأجل الذي قدره الله يعني الموت. كذا قاله جماعة، ويحتمل أن يكون المراد البعث أو رؤية الله تعالى في الآخرة. قوله: "لا يشرك به" اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك، أو هو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشرائط. فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به. وليس في قوله: "دخل الجنة " من الإشكال ما تقدم في السياق الماضي، لأنه أعم من أن يكون قبل التعذيب أو بعده. فأخبر بها معاذ عند موته تأثما معنى التأثم التحرج من الوقوع في الإثم وهو كالتحنث، وإنما خشي معاذ من الإثم المرتب على كتمان العلم، وكأنه فهم من منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر بها إخبارا عاما لقوله: "أفلا أبشر الناس " فأخذ هو أولا بعموم المنع فلم يخبر بها أحدا، ثم ظهر له أن المنع إنما هو من الإخبار عموما، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصا من الناس فجمع بين الحكمين. ويقوي ذلك أن المنع لو كان على عمومه في الأشخاص لما أخبر هو بذلك، وأخذ منه أن من كان في مثل مقامه في الفهم أنه لم يمنع من إخباره. وقد تعقب هذا الجواب بما أخرجه أحمد من وجه آخر فيه انقطاع عن معاذ أنه لما حضرته الوفاة قال: أدخلوا على الناس. فأدخلوا عليه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات لا يشرك بالله شيئا جعله الله في الجنة " وما كنت أحدثكموه إلا عند الموت، وشاهدي على ذلك أبو الدرداء. فقال: صدق أخي، وما كان يحدثكم به إلا عند موته. وقد وقع لأبي أيوب مثل ذلك، ففي المسند من طريق أبي ظبيان أن أبا أيوب غزا الروم فمرض، فلما حضر قال: سأحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذه ما حدثتكموه، سمعته يقول: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". وإذا عورض هذا الجواب فأجيب عن أصل الإشكال بأن معاذا اطلع على أنه لم يكن المقصود من المنع التحريم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا هريرة أن يبشر بذلك الناس، فلقيه عمر فدفعه وقال: ارجع يا أبا هريرة، ودخل على أثره فقال: يا رسول الله لا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس، فخلهم يعملون. فقال: فخلهم. أخرجه مسلم. فكأن قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أخاف أن يتكلوا " كان بعد قصة أبي هريرة، فكان النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ. والله أعلم. قوله: "لا" هي للنهي ليست داخلة على " أخاف" ، بل المعنى لا تبشر. ثم استأنف فقال: "أخاف". وفي رواية كريمة: "إني أخاف " بإثبات التعليل، وللحسن بن سفيان في مسنده عن عبيد الله بن معاذ عن معتمر " قال: لا، دعهم فليتنافسوا في الأعمال، فإني أخاف أن يتكلوا".

(1/228)


50- باب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِر"ٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ"
130- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ

(1/228)


غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ" فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ قَالَ "نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟"
[الحديث 130- أطرافه في: 6121,6091,3328,282]
قوله: "باب الحياء" أي حكم الحياء، وقد تقدم أن الحياء من الإيمان، وهو الشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر، وهو محمود. وأما ما يقع سببا لترك أمر شرعي فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة، وهو المراد بقول مجاهد: لا يتعلم العلم مستحي. وهو بإسكان الحاء. و " لا " في كلامه نافية لا ناهية، ولهذا كانت ميم يتعلم مضمومة، وكأنه أراد تحريض المتعلمين على ترك العجز والتكبر لما يؤثر كل منهما من النقص في التعليم. وقول مجاهد هذا وصله أبو نعيم في الحلية من طريق علي بن المديني عن ابن عيينة عن منصور عنه، وهو إسناد صحيح على شرط المصنف. قوله: "وقالت عائشة" هذا التعليق وصله مسلم من طريق إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة في حديث أوله أن أسماء بنت يزيد الأنصاري سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض. قوله: "هشام" هو ابن عروة بن الزبير. وفي الإسناد من اللطائف رواية تابعي عن مثله عن صحابية عن مثلها، وفيه رواية الابن عن أبيه والبنت عن أمها. وزينب هي بنت أبي سلمة بن عبد الأسد ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم نسبت إلى أمها تشريفا لكونها زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "جاءت أم سليم" هي بنت ملحان والدة أنس بن مالك. قوله: "إن الله لا يستحيي من الحق" أي لا يأمر بالحياء في الحق. وقدمت أم سليم هذا الكلام بسطا لعذرها في ذكر ما تستحيي النساء من ذكره بحضرة الرجال، ولهذا قالت لها عائشة كما ثبت في صحيح مسلم: فضحت النساء. قوله: "إذا هي احتلمت" أي رأت في منامها أنها تجامع. قوله: "إذا رأت الماء" يدل على تحقق وقوع ذلك، وجعل رؤية الماء شرطا للغسل يدل على أنها إذا لم تر الماء لا غسل عليها. قوله: "فغطت أم سلمة" في مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة أيضا، ويمكن الجمع بأنهما كانتا حاضرتين. قوله: "تعني وجهها" هو بالمثناة من فوق، والقائل عروة، وفاعل تعني زينب، والضمير يعود على أم سلمة. قوله: "وتحتلم" بحذف همزة الاستفهام، وللكشميهني: "أو تحتلم " بإثباتها، قيل: فيه دليل على أن الاحتلام يكون في بعض النساء دون بعض ولذلك أنكرت أم سلمة ذلك، لكن الجواب يدل على أنها إنما أنكرت وجود المني من أصله ولهذا أنكر عليها. قوله: "تربت يمينك" أي افتقرت وصارت على التراب، وهي من الألفاظ التي تطلق عند الزجر ولا يراد بها ظاهرها. قوله: "فبم" بموحدة مكسورة. وسيأتي الكلام على مباحثه في كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى.
131- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ" فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَاسْتَحْيَيْتُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ لاَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا

(1/229)


قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمر هذا في أوائل كتاب العلم، وأورده هنا لقول ابن عمر: "فاستحييت " ولتأسف عمر على كونه لم يقل ذلك لتظهر فضيلته، فاستلزم حياء ابن عمر تفويت ذلك، وكان يمكنه إذا استحيي إجلالا لمن هو أكبر منه أن يذكر ذلك لغيره سرا ليخبر به عنه، فجمع بين المصلحتين، ولهذا عقبه المصنف بباب من استحيي فأمر غيره بالسؤال.

(1/230)


باب من استحيا من فأمر غيره بالسؤال
...
51- بَاب مَنْ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ
132- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ الْثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ "فِيهِ الْوُضُوء"
[ الحديث أطرافه في: 269,178]
واورد فيه حديث حديث علي بن أبي طالب قال: "كنت رجلا مذاء " وهو بتثقيل الذال المعجمة والمد أي كثير المذي، وهو بإسكان المعجمة: الماء الذي يخرج من الرجل عند الملاعبة، وسيأتي الكلام عليه في الطهارة أيضا. واستدل به بعضهم على جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع، وهو خطأ، ففي النسائي أن السؤال وقع وعلي حاضر.

(1/230)


52- باب ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِي الْمَسْجِدِ
133- حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ" وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 133- أطرافه في: 7334,1528,1527,1525,1522]
قوله: "باب ذكر العلم" أي إلقاء العلم والفتيا في المسجد، وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من توقف فيه لما يقع في المباحثة من رفع الأصوات فنبه على الجواز. قوله: "أن رجلا قام في المسجد" لم أقف على اسم هذا الرجل، والمراد بالمسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة، و " قرن " بإسكان الراء وغلط من فتحها. وقول ابن عمر: "ويزعمون الخ " يفسر بمن روى الحديث تاما كابن عباس وغيره. وفيه دليل على إطلاق الزعم على القول المحقق لأن ابن عمر سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يفهمه لقوله: "لم أفقه هذه " أي الجملة الأخيرة فصار يرويها عن غيره، وهو دال على شدة تحريه وورعه، وسيأتي الكلام على فوائده في الحج إن شاء الله تعالى.

(1/230)


53- باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ
134- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ "لاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلاَ الْعِمَامَةَ وَلاَ السَّرَاوِيلَ وَلاَ الْبُرْنُسَ وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ"
[الحديث134- أطرافه في:5852,5847,5806,5805,5803,5794,1842,1838,1542,366]
قوله: "باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله" قال ابن المنير: موقع هذه الترجمة التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال غير لازم، بل إذا كان السبب خاصا والجواب عاما جاز، وحمل الحكم على عموم اللفظ لا على خصوص السبب لأنه جواب وزيادة فائدة. ويؤخذ منه أيضا أن المفتي إذا سئل عن واقعة واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال تعين عليه أن يفصل الجواب، ولهذا قال: "فإن لم يجد نعلين " فكأنه سأل عن حالة الاختيار فأجابه عنها وزاده حالة الاضطرار، وليست أجنبية عن السؤال لأن حالة السفر تقتضي ذلك. وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن الجواب يكون مفيدا للحكم المسئول عنه قاله ابن دقيق العيد. وفي الحديث أيضا العدول عما لا ينحصر إلى ما ينحصر طلبا للإيجاز، لأن السائل سئل عما يلبس فأجيب بما لا يلبس، إذ الأصل الإباحة، ولو عدد له ما يلبس لطال به، بل كان لا يؤمن أن يتمسك بعض السامعين بمفهومه فيظن اختصاصه بالمحرم، وأيضا فالمقصود ما يحرم لبسه لا ما يحل له لبسه لأنه لا يجب له لباس مخصوص بل عليه أن يجتنب شيئا مخصوصا. قوله: "وابن أبي ذئب" هو بالضم عطفا على قول آدم: "حدثنا ابن أبي ذئب " والمراد أن آدم سمعه من ابن أبي ذئب بإسنادين. وفي رواية غير أبي ذر " وعن الزهري " بالعطف على نافع ولم يعد ذكر ابن أبي ذئب. قوله: "أن رجلا" لم أقف على اسمه، وسيأتي بقية الكلام على فوائده في كتاب الحج أيضا إن شاء الله تعالى. "خاتمة": اشتمل كتاب العلم من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وحديثين، منها في المتابعات بصيغة التعليق وغيرها ثمانية عشر، والتعاليق التي لم يوصلها في مكان آخر أربعة وهي: كتب لأمير السرية، ورجل جابر إلى عبد الله بن أنيس، وقصة ضمام في رجوعه إلى قومه، وحديث إنما العلم بالتعلم. وباقي ذلك وهو ثمانون حديثا كلها موصولة، فالمكرر منها ستة عشر حديثا، وبغير تكرير أربعة وستون حديثا، وقد وافقه مسلم على تخريجها إلا ستة عشر حديثا وهي الأربعة المعلقة المذكورة، وحديث أبي هريرة " إذا وسد الأمر إلى غير أهله"، وحديث ابن عباس " اللهم علمه الكتاب" ، وحديثه في الذبح قبل الرمي، وحديث عقبة بن الحارث في شهادة المرضعة، وحديث أنس في إعادة الكلمة ثلاثا، وحديث أبي هريرة " أسعد الناس بالشفاعة"، وحديث الزبير " من كذب علي"، وحديث سلمة " من تقول علي"، وحديث علي في الصحيفة، وحديث أبي هريرة في كونه أكثر الصحابة حديثا، وحديث أم سلمة " ماذا أنزل الليلة من الفتن"، وحديث أبي هريرة حفظت وعاءين. والمراد بموافقة مسلم

(1/231)


موافقته على تخريج أصل الحديث عن صحابيه وإن وقعت بعض المخالفة في بعض السياقات. وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم اثنان وعشرون أثرا: أربعة منها موصولة، والبقية معلقة. قال ابن رشيد: ختم البخاري كتاب العلم بباب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه إشارة منه إلى أنه بلغ الغاية في الجواب عملا بالنصيحة، واعتمادا على النية الصحيحة. وأشار قبل ذلك بقليل بترجمة من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه إلى أنه ربما صنع ذلك، فأتبع الطيب بالطيب بأبرع سياق وأبدع اتساق. رحمه الله تعالى.

(1/232)


كتاب الوضوء
باب ماجاء في الوضوء
...
1 - باب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[66المائدة] {إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: "وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثٍ وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإِسْرَافَ فِيهِ وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الوضوء. باب ما جاء في قول الله عز وجل :{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية" وفي رواية الأصيلي: "ما جاء في قول الله " دون ما قبله، ولكريمة: "باب في الوضوء وقول الله عز وجل الخ". والمراد بالوضوء ذكر أحكامه وشرائطه وصفته ومقدماته. والوضوء بالضم هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما، وحكي في كل منهما الأمران. وهو مشتق من الوضاءة، وسمي بذلك لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا: وأشار بقوله: "ما جاء " إلى اختلاف السلف في معنى الآية فقال الأكثرون: التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين. وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب. وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثم نسخ فصار مندوبا. ويدل لهذا ما رواه أحمد وأبو داود من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن أسماء بنت زيد بن الخطاب حدثت أباه عبد الله بن عمر عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث. ولمسلم من حديث بريدة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. فقال: عمدا فعلته " أي لبيان الجواز. وسيأتي حديث أنس في ذلك في باب الوضوء من غير حدث. واختلف العلماء أيضا في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا، وقيل به وبالقيام إلى الصلاة معا ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة " واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى :{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إيجاب النية في الوضوء، لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت الأمير فقم، أي لأجله. وتمسك بهذه الآية من قال: إن

(1/232)


الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء. قال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق حديث ابن عباس: "دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي قالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك. فقال: "اتوني بوضوء" فتوضأ.. الحديث". قلت: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الجهم(1) المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه. وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند. وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. قوله: "وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فرض الوضوء مرة مرة" كذا في روايتنا بالرفع على الخبرية، ويجوز النصب على أنه مفعول مطلق، أي فرض الوضوء غسل الأعضاء غسلا مرة مرة، أو على الحال السادة مسد الخبر، أي يفعل مرة، أو على لغة من ينصب الجزأين بأن. وأعاد لفظ مرة لإرادة التفصيل أي الوجه مرة واليد مرة الخ. والبيان المذكور يحتمل أن يشير به إلى ما رواه بعد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وهو بيان بالفعل لمجمل الآية، إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة للإيجاب وما زاد عليها للاستحباب، وستأتي الأحاديث على ذلك فيما بعد. وأما حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال. " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " ففيه بيان الفعل والقول معا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة. قوله: "وتوضأ أيضا مرتين مرتين" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "مرتين " بغير تكرار، وسيأتي هذا التعليق موصولا في باب مفرد مع الكلام عليه. قوله: "وثلاثا" أي وتوضأ أيضا ثلاثا، زاد الأصيلي ثلاثا على نسق ما قبله، وسيأتي موصولا أيضا في باب مفرد. قوله: "ولم يزد على ثلاث" أي لم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على ثلاث، بل ورد عنه صلى الله عليه وسلم ذم من زاد عليها، وذلك فيما رواه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال. " من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم " إسناده جيد، لكن عده مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب لأن ظاهره ذم النقص من الثلاث، وأجيب بأنه أمر سيئ والإساءة تتعلق بالنقص، والظلم بالزيادة. وقيل: فيه حذف تقديره من نقص من واحدة. ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث فقد أخطأ" ، وهو مرسل رجاله ثقات. وأجيب عن الحديث أيضا بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم مقتصر على قوله: "فمن زاد: "فقط، كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره. ومن الغرائب ما
ـــــــ
(1) بهامش طبعة بولاق: في نسخة "ابن الحكم"

(1/233)


حكاه الشيخ أبو حامد الإسفرايني عن بعض العلماء أنه لا يجوز النقص من الثلاث، وكأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور، وهو محجوج بالإجماع. وأما قول مالك في المدونة: لا أحب الواحدة إلا من العالم، فليس فيه إيجاب زيادة عليها. والله أعلم. قوله: "وكره أهل العلم الإسراف فيه" يشير بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق هلال بن يساف أحد التابعين قال: كان يقال: "من الوضوء إسراف ولو كنت على شاطئ نهر". وأخرج نحوه عن أبي الدرداء وابن مسعود، وروي في معناه حديث مرفوع أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد لين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قوله: "وأن يجاوزوا الخ" يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضا عن ابن مسعود قال: ليس بعد الثلاث شيء. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث. وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم. وقال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه. أي لم أحرمه، لأن قوله لا أحب يقتضي الكراهة. وهذا الأصح عند الشافعية أنه مكروه كراهة تنزيه. وحكى الدارمي منهم عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة، وهو قياس فاسد، ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق. واختلف عند الشافعية في القيد الذي يمتنع منه حكم الزيادة على الثلاث، فالأصح إن صلى به فرضا أو نفلا، وقيل الفرض فقط، وقيل مثله حتى سجدة التلاوة والشكر ومس المصحف، وقيل ما يقصد له الوضوء وهو أعم، وقيل إذا وقع الفصل بزمن يحتمل في مثله نقض الوضوء عادة، وعند بعض الحنفية أنه راجع إلى الاعتقاد فإن اعتقد أن الزيادة على الثلاث سنة أخطأ ودخل في الوعيد، وإلا فلا يشترط للتحديد شيء بل لو زاد الرابعة وغيرها لا لوم، ولا سيما إذا قصد به القربة للحديث الوارد " الوضوء على الوضوء نور". قلت: وهو حديث ضعيف، ولعل المصنف أشار إلى هذه الرواية، وسيأتي بسط ذلك في أول تفسير المائدة إن شاء الله تعالى. ويستثنى من ذلك ما لو علم أنه بقي من العضو شيء لم يصبه الماء في المرات أو بعضها فإنه يغسل موضعه فقط، وأما مع الشك الطارئ بعد الفراغ فلا، لئلا يؤول به الحال إلى الوسواس المذموم.

(1/234)


2 - باب لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ
135- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ" قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ
[الحديث 135- طرفه في:6954]
قوله: "باب لا تقبل صلاة بغير طهور" هو بضم الطاء المهملة، والمراد به ما هو أعم من الوضوء والغسل. وهذه الترجمة لفظ حديث رواه مسلم وغيره من حديث ابن عمر، وأبو داود وغيره من طريق أبي المليح بن أسامة عن أبيه، وله طرق كثيرة لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري، فلهذا اقتصر على ذكره في الترجمة وأورد في الباب ما يقوم مقامه. قوله: "لا تقبل" كذا في روايتنا بالضم على البناء لما لم يسم فاعله، وأخرجه المصنف في ترك الحيل عن إسحاق بن نصر، وأبو داود عن أحمد بن حنبل كلاهما عن عبد الرزاق بلفظ: "لا يقبل الله " والمراد بالقبول

(1/234)


هنا ما يرادف الصحة وهو الإجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة. ولما كان الإتيان بشروطها مظنة الإجزاء الذي القبول ثمرته عبر عنه بالقبول مجازا، وأما القبول المنفي في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافا لم تقبل له صلاة " فهو الحقيقي، لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من جميع الدنيا، قاله ابن عمر. قال: لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين}. قوله: "أحدث" أي وجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بأخص من ذلك تنبيها بالأخف على الأغلظ، ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، وأما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء - كمس الذكر ولمس المرأة والقيء ملء الفم والحجامة - فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء منها. وعليه مشى المصنف كما سيأتي في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين. وقيل إن أبا هريرة اقتصر في الجواب على ما ذكر لعلمه أن السائل كان يعلم ما عدا ذلك، وفيه بعد. واستدل بالحديث على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريا أم اضطراريا، وعلى أن الوضوء لا يجب لكل صلاة لأن القبول انتفى إلى غاية الوضوء، وما بعدها مخالف لما قبلها فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا. قوله: "يتوضأ" أي بالماء أو ما يقوم مقامه، وقد روى النسائي بإسناد قوي عن أبي ذر مرفوعا: "الصعيد الطيب وضوء المسلم: "فأطلق الشارع على التيمم أنه وضوء لكونه قام مقامه، ولا يخفى أن المراد بقبول صلاة من كان محدثا فتوضأ أي مع باقي شروط الصلاة. والله أعلم.

(1/235)


3 - باب فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ
136- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ"
قوله: "باب فضل الوضوء، والغر المحجلون" كذا في أكثر الروايات بالرفع، وهو على سبيل الحكاية لما ورد في بعض طرق الحديث: "أنتم الغر المحجلون " وهو عند مسلم، أو الواو استئنافية والغر المحجلون مبتدأ وخبره محذوف تقديره لهم فضل، أو الخبر قوله: "من آثار الوضوء " وفي رواية المستملي: "والغر المحجلين " بالعطف على الوضوء أي وفضل الغر المحجلين كما صرح به الأصيلي في روايته. قوله: "عن خالد" هو ابن يزيد الإسكندراني أحد الفقهاء الثقات، وروايته عن سعيد بن أبي هلال من باب رواية الأقران. قوله: "عن نعيم المجمر" بضم الميم وإسكان الجيم هو ابن عبد الله المدني، وصف هو وأبوه بذلك لكونهما كانا يبخران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم بعض العلماء أن وصف عبد الله بذلك حقيقة ووصف ابنه نعيم بذلك مجاز، وفيه نظر فقد جزم إبراهيم الحربي بأن نعيما كان يباشر ذلك. ورجال هذا الإسناد الستة نصفهم مصريون، وهم الليث وشيخه والراوي عنه، والنصف الآخر مدنيون. قوله. "رقيت" بفتح الراء وكسر القاف أي صعدت. قوله: "فتوضأ" كذا لجمهور الرواة، وللكشميهني يوما بدل قوله فتوضأ وهو تصحيف، وقد رواه الإسماعيلي وغيره من الوجه الذي أخرجه منه البخاري بلفظ: "توضأ " وزاد الإسماعيلي فيه: "فغسل وجهه ويديه فرفع في عضديه، وغسل رجليه فرفع في ساقيه " وكذا

(1/235)


لمسلم من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال نحوه، ومن طريق عمارة بن غزية عن نعيم وزاد في هذه: أن أبا " هريرة قال: "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ " فأفاد رفعه، وفيه رد على من زعم أن ذلك من رأي أبي هريرة بل من روايته ورأيه معا. قوله: "أمتي" أي أمة الإجابة وهم المسلمون، وقد تطلق أمة محمد ويراد بها أمة الدعوة وليست مرادة هنا. قوله: "يدعون" بضم أوله أي ينادون أو يسمون. قوله: "غرا" بضم المعجمة وتشديد الراء جمع أغر أي ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغرا منصوب على المفعولية ليدعون أو على الحال، أي أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف وكانوا على هذه الصفة. قوله: "محجلين" بالمهملة والجيم من التحجيل وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحجل بكسر المهملة وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضا النور. واستدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، وفي قصة جريج الراهب أيضا أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام، فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضا مرفوعا قال: "سيما ليست لأحد غيركم " وله من حديث حذيفة نحوه. و " سيما " بكسر المهملة وإسكان الياء الأخيرة أي علامة. وقد اعترض بعضهم على الحليمي بحديث: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي " وهو حديث ضعيف كما تقدم لا يصح الاحتجاج به لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة. قوله: "من آثار الوضوء" بضم الواو، ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد. قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" أي فليطل الغرة والتحجيل. واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى نحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنثة دون التحجيل وهو مذكر لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء، وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان. على أن في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية ذكر الأمرين، ولفظه: "فليطل غرته وتحجيله " وقال ابن بطال: كني أبو هريرة بالغرة عن التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، وفيما قال نظر لأنه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوع لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلا. ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل. ثم إن ظاهره أنه بقية الحديث، لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم وفي آخره: قال نعيم لا أدري قوله من استطاع الخ من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة، ولم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه والله أعلم. واختلف العلماء في القدر المستحب من التطويل في التحجيل فقيل: إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأيا. وعن ابن عمر من فعله أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن، وقيل المستحب الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى فوق ذلك. وقال ابن بطال وطائفة من المالكية: لا تستحب الزيادة على الكعب والمرفق لقوله صلى الله عليه وسلم: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم " وكلامهم معترض من وجوه، ورواية مسلم صريحة في الاستحباب فلا تعارض بالاحتمال. وأما دعواهم اتفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك فهي مردودة بما نقلناه عن ابن عمر، وقد صرح باستحبابه جماعة من السلف وأكثر الشافعية والحنفية. وأما

(1/236)


تأويلهم الإطالة المطلوبة بالمداومة على الوضوء فمعترض بأن الراوي أدرى بمعنى ما روى، كيف وقد صرح برفعه إلى الشارع صلى الله عليه وسلم(1) وفي الحديث معنى ما ترجم له من فضل الوضوء، لأن الفضل الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على الواجب، فكيف الظن بالواجب؟ وقد وردت فيه أحاديث صحيحة صريحة أخرجها مسلم وغيره، وفيه جواز الوضوء على ظهر المسجد لكن إذا لم يحصل منه أذى للمسجد أو لمن فيه. والله أعلم.

(1/237)


باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن
...
4 - باب مَنْ لاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ
137- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ "لاَ يَنْفَتِلْ أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا"
[الحديث 137- طرفاه في:2056,177]
قوله: "باب" بالتنوين "لا يتوضأ" بفتح أوله على البناء للفاعل. قوله: "من الشك" أي بسبب الشك. قوله: "حدثنا علي" هو ابن عبد الله المديني وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "وعن عباد" هو معطوف على قوله عن سعيد بن المسيب، وسقطت الواو من رواية كريمة غلطا لأن سعيدا لا رواية له عن عباد أصلا، ثم إن شيخ سعيد فيه يحتمل أن يكون عم عباد كأنه قال كلاهما عن عمه أي عم الثاني وهو عباد، ويحتمل أن يكون محذوفا من مراسيل ابن المسيب، وعلى الأول جرى صاحب الأطراف. ويؤيد الثاني رواية معمر لهذا الحديث عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري أخرجه ابن ماجه ورواته ثقات لكن سئل أحمد عنه فقال إنه منكر. قوله: "عن عمه" هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري، سماه مسلم وغيره في روايتهم لهذا الحديث من طريق ابن عيينة، واختلف هل هو عم عباد لأبيه أو لأمه. قوله: "أنه شكا" كذا في روايتنا شكا بألف ومقتضاه أن الراوي هو الشاكي، وصرح بذلك ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء عن سفيان ولفظه عن عمه عبد الله بن زيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل. ووقع في بعض الروايات " شكي " بضم أوله على البناء للمفعول، وعلى هذا فالهاء في أنه ضمير الشأن. ووقع في مسلم: "شكي " بالضم أيضا كما ضبطه النووي. وقال: لم يسم الشاكي، قال: وجاء في رواية البخاري أنه الراوي. قال: ولا ينبغي أن يتوهم من هذا أن " شكى " بالفتح أي في رواية مسلم، وإنما نبهت على هذا لأن بعض الناس قال إنه لم يظهر له كلام النووي. قوله: "الرجل" بالضم على الحكاية. وهو وما بعده في موضع النصب. قوله: "يخيل" بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد الياء الأخيرة المفتوحة، وأصله من الخيال، والمعنى يظن، والظن هنا أعم من تساوي الاحتمالين أو ترجيح أحدهما على ما هو أصل اللغة من أن الظن خلاف اليقين. قوله: "يجد الشيء" أي الحدث خارجا منه، وصرح به الإسماعيلي ولفظه: "يخيل إليه في صلاته أنه يخرج منه شيء " وفيه العدول عن ذكر الشيء المستقذر بخاص اسمه إلا للضرورة. قوله: "في الصلاة" تمسك بعض المالكية بظاهره فخصوا الحكم
ـــــــ
(1) الأصح في هذه المسألة شرعية الإطالة في التعجيل خاصة, وذلك بالشروع في العضد والساق تكميلا للمفروض من غسل اليدين والقدمين, كما صرح أبو هريرة برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم. والله أعلم

(1/237)


بمن كان داخل الصلاة، وأوجبوا الوضوء على من كان خارجها، وفرقوا بالنهي عن إبطال العبادة، والنهي عن إبطال العبادة متوقف على صحتها، فلا معنى للتفريق بذلك، لأن هذا التخيل إن كان ناقضا خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك فيها كبقية النواقض. قوله: "لا ينفتل" بالجزم على النهي، ويجوز الرفع على أن " لا " نافية. قوله: "أو لا ينصرف" هو شك من الراوي، وكأنه من علي، لأن الرواة غيره رووه عن سفيان بلفظ لا ينصرف من غير شك. قوله: "صوتا" أي من مخرجه. قوله: "أو يجد" أو للتنويع وعبر بالوجدان دون الشم ليشمل ما لو لمس المحل ثم شم يده، ولا حجة فيه لمن استدل على أن لمس الدبر لا ينقض لأن الصورة تحمل على لمس ما قاربه لا عينه. ودل حديث الباب على صحة الصلاة ما لم يتيقن الحدث، وليس المراد تخصيص هذين الأمرين باليقين، لأن المعنى إذا كان أوسع من اللفظ كان الحكم للمعنى قاله الخطابي. وقال النووي: "هذا الحديث أصل في حكم بقاء الأشياء على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها". وأخذ بهذا الحديث جمهور العلماء. وروي عن مالك النقض مطلقا، وروي عنه النقض خارج الصلاة دون داخلها، وروي هذا التفصيل عن الحسن البصري، والأول مشهور مذهب مالك قاله القرطبي، وهو رواية ابن القاسم عنه. وروى ابن نافع عنه لا وضوء عليه مطلقا كقول الجمهور، وروى ابن وهب عنه. أحب إلي أن يتوضأ. ورواية التفصيل لم تثبت عنه وإنما هي لأصحابه، وحمل بعضهم الحديث على من كان به وسواس، وتمسك بأن الشكوى لا تكون إلا عن علة، وأجيب بما دل على التعميم، وهو حديث أبي هريرة عند مسلم ولفظه: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " وقوله: فلا يخرجن من المسجد أي من الصلاة، وصرح بذلك أبو داود في روايته. وقال العراقي: "ما ذهب إليه مالك راجح، لأنه احتاط للصلاة وهي مقصد، وألغى الشك في السبب المبرئ، وغيره احتاط للطهارة وهي وسيلة وألغى الشك في الحدث الناقض لها، والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل". وجوابه أن ذلك من حيث النظر قوي، لكنه مغاير لمدلول الحديث لأنه أمر بعدم الانصراف إلى أن يتحقق. وقال الخطابي: يستدل به لمن أوجب الحد على من وجد منه ريح الخمر لأنه اعتبر وجدان الريح ورتب عليه الحكم، ويمكن الفرق بأن الحدود تدرأ بالشبهة والشبهة هنا قائمة، بخلاف الأول فإنه متحقق.

(1/238)


5 - باب التَّخْفِيفِ فِي الْوُضُوءِ
138- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ صَلَّى وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ وَقَامَ يُصَلِّي فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ". قُلْنَا لِعَمْرٍو: "إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ" قَالَ عَمْرٌو: "سَمِعْتُ عُبَيْدَ

(1/238)


ابْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ثُمَّ قَرَأَ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} " [102 الصافات]
قوله: "باب التخفيف في الوضوء" أي جواز التخفيف. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار المكي لا البصري، وكريب بالتصغير من الأسماء المفردة في الصحيحين.والإسناد مكيون. سوى علي وقد أقام بها مدة. وفيه رواية تابعي عن تابعي: عمرو عن كريب. قوله. "وربما قال اضطجع" أي كان سفيان يقول تارة نام وتارة اضطجع، وليسا مترادفين بل بينهما عموم وخصوص من وجه، لكنه لم يرد إقامة أحدهما مقام الآخر، بل كان إذا روى الحديث مطولا قال اضطجع فنام كما سيأتي، وإذا اختصره قال نام أي مضطجعا أو اضطجع أي نائما. قوله: "ثم حدثنا" يعني أن سفيان كان يحدثهم به مختصرا ثم صار يحدثهم به مطولا. قوله: "ليلة فقام" كذا للأكثر، ولابن السكن " فنام " بالنون بدل القاف وصوبها القاضي عياض لأجل قوله بعد ذلك " فلما كان في بعض الليل قام " انتهى. ولا ينبغي الجزم بخطئها لأن توجيهها طاهر وهو أن الفاء في قوله: "فلما " تفصيلية، فالجملة الثانية وإن كان مضمونها مضمون الأولى لكن المغايرة بينهما بالإجمال والتفصيل. قوله: "فلما كان" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "في بعض الليل" وللكشميهني: "من " بدل في، فيحتمل أن تكون بمعناها ويحتمل أن تكون زائدة وكان تامة، أي فلما حصل بعض الليل. قوله: "شن" بفتح المعجمة وتشديد النون أي القربة العتيقة. قوله: "معلق" ذكر على إرادة الجلد أو الوعاء، وقد أخرجه بعد أبواب بلفظ معلقة. قوله: "يخففه عمرو ويقلله" أي يصفه بالتخفيف والتقليل. وقال ابن المنير: "يخففه أي لا يكثر الدلك، ويقلله أي لا يزيد على مرة مرة. قال: وفيه دليل على إيجاب الدلك، لأنه لو كان يمكن اختصاره لاختصره، لكنه لم يختصره". انتهى. وهي دعوى مردودة، فإنه ليس في الخبر ما يقتضي الدلك، بل الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخف من قليل الدلك. قوله: "نحوا مما توضأ" قال الكرماني: "لم يقل مثلا لأن حقيقة مماثلته صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره" انتهى. وقد ثبت في هذا الحديث كما سيأتي بعد أبواب " فقمت فصنعت مثل ما صنع " ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة. قوله: "فآذنه" بالمد أي أعلمه، وللمستملي فناداه. قوله: "فصلى ولم يتوضأ" فيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث لأنه صلى الله عليه وسلم كان تنام عينه ولا ينام قلبه فلو أحدث لعلم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم وربما لم يتوضأ، قال الخطابي: وإنما منع قلبه النوم ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه. قوله: "قلنا" القائل سفيان، والحديث المذكور صحيح كما سيأتي من وجه آخر، وعبيد بن عمير من كبار التابعين، ولأبيه عمير بن قتادة صحبة. وقوله: "رؤيا الأنبياء وحي " رواه مسلم مرفوعا، وسيأتي في التوحيد من رواية شريك عن أنس. ووجه الاستدلال بما تلاه من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيا لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده. وأغرب الداودي الشارح فقال: قول عبيد بن عمير لا تعلق له بهذا الباب. وهذا إلزام منه للبخاري بأن لا يذكر من الحديث إلا ما يتعلق بالترجمة فقط، ولم يشترط ذلك أحد. وإن أراد أنه لا يتعلق بحديث الباب أصلا فممنوع والله أعلم. وسيأتي بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الوتر من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.

(1/239)


6 - باب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ الإِنْقَاءُ
139- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ

(1/239)


بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ "دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ فَقُلْتُ الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ "الصَّلاَةُ أَمَامَكَ" فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا".
[الحديث 139- أطرافه في:1672,1669,1667,181]
قوله: "باب إسباغ الوضوء" الإسباغ في اللغة الإتمام، ومنه درع سابغ. قوله: "وقال ابن عمر" هذا التعليق وصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح، وهو من تفسير الشيء بلازمه، إذ الإتمام يستلزم الإنقاء عادة، وقد روى ابن المنذر بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات، وكأنه بالغ فيهما دون غيرهما لأنهما محل الأوساخ غالبا لاعتيادهم المشي حفاة والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، والحديث في الموطأ، والإسناد كله مدنيون، وفيه رواية تابعي عن تابعي: موسى عن كريب، وأسامة بن زيد أي ابن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، له لأبيه وجده صحبة. وستأتي مناقبه في مكانها إن شاء الله تعالى. قوله: "دفع من عرفة" أي أفاض. قوله: "بالشعب" بكسر الشين المعجمة هو الطريق في الجبل، واللام فيه للعهد. قوله: "ولم يسبغ الوضوء" أي خففه، ويأتي فيه ما تقدم في توجيه الحديث الماضي. قوله: "فقلت الصلاة" و بالنصب على الإغراء، أو على الحذف، والتقدير أتريد الصلاة؟ ويؤيده قوله في رواية تأتي " فقلت أتصلي يا رسول الله " ويجوز الرفع، والتقدير حانت الصلاة. قوله: "قال الصلاة" هو بالرفع على الابتداء، وأمامك بفتح الهمزة خبره. وفيه دليل على مشروعية الوضوء للدوام على الطهارة لأنه صلى الله عليه وسلم لما يصل بذلك الوضوء شيئا، وأما من زعم أن المراد بالوضوء هنا الاستنجاء فباطل، لقوله في الرواية الأخرى " فجعلت أصب عليه وهو يتوضأ " ولقوله هنا " ولم يسبغ الوضوء". قوله: "نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء" فيه دليل على مشروعية إعادة الوضوء من غير أن يفصل بينهما بصلاة، قاله الخطابي، وفيه نظر لاحتمال أن يكون أحدث. "فائدة": الماء الذي توضأ به صلى الله عليه وسلم ليلتئذ كان من ماء زمزم، أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زيادات مسند أبيه بإسناد حسن من حديث علي بن أبي طالب، فيستفاد منه الرد على من منع استعمال ماء زمزم لغير الشرب. وسيأتي بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.

(1/240)


7 - باب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ
140- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ بِلاَلٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُخْرَى فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ

(1/240)


أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ يَعْنِي الْيُسْرَى ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ".
قوله: "باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة" راده بهذا التنبيه على عدم اشتراط الاغتراف باليدين جميعا، والإشارة إلى تضعيف الحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل وجهه بيمينه. وجمع الحليمي بينهما بأن هذا حيث كان يتوضأ من إناء يصب منه بيساره على يمينه، والآخر حيث كان يغترف، لكن سياق الحديث يأباه، لأن فيه أنه بعد أن تناول الماء بإحدى يديه أضافه إلى الأخرى وغسل بهما. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم" هو أبو يحيى المعروف بصاعقة. وكان أحد الحفاظ، وهو من صغار شيوخ البخاري من حيث الإسناد، وشيخه منصور كان أحد الحفاظ أيضا، وقد أدركه البخاري لكنه لم يلقه. وفي الإسناد رواية تابعي عن تابعي: زيد عن عطاء. قوله: "أنه توضأ" زاد أبو داود في أوله من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم " أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء". وللنسائي من طريق محمد بن عجلان عن زيد في أول الحديث: "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرف غرفة". قوله: "فغسل وجهه" الفاء تفصيلية لأنها داخلة بين المجمل والمفصل. قوله: "أخذ غرفة" وهو بيان الغسل وظاهره أن المضمضة والاستنشاق من جملة غسل الوجه، لكن المراد بالوجه أولا ما هو أعم من المفروض والمسنون، بدليل أنه أعاد ذكره ثانيا بعد ذكر المضمضة والاستنشاق بغرفة مستقلة، وفيه دليل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، وغسل الوجه باليدين جميعا إذا كان بغرفة واحدة لأن اليد الواحدة قد لا تستوعبه. قوله: "أضافها" بيان لقوله فجعل بها هكذا. قوله: "فغسل بها" أي بالغرفة. وللأصيلي وكريمة: "فغسل بهما " أي باليدين. قوله: "ثم مسح برأسه" لم يذكر لها غرفة مستقلة، فقد يتمسك به من يقول بطهورية الماء المستعمل، لكن في رواية أبي داود " ثم قبض قبضة من الماء، ثم نفض يده، ثم مسح رأسه " زاد النسائي من طريق عبد العزيز الدراوردي عن زيد " وأذنيه مرة واحدة " ومن طريق ابن عجلان " باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه " وزاد ابن خزيمة من هذا الوجه " وأدخل إصبعيه فيهما". قوله: "فرش" أي سكب الماء قليلا قليلا إلى أن صدق عليه مسمى الغسل. قوله: "حتى غسلها" صريح في أنه لم يكتف بالرش، وأما ما وقع عند أبي داود والحاكم " فرش على رجله اليمنى وفيها النعل، ثم مسحها بيديه يد فوق القدم ويد تحت النعل " فالمراد بالمسح تسييل الماء حتى يستوعب العضو، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ في النعل كما سيأتي عند المصنف من حديث ابن عمر، وأما قوله: "تحت النعل ": فإن لم يحمل على التجوز عن القدم وإلا فهي رواية شاذة وراويها هشام بن سعد لا يحتج بما تفرد به فكيف إذا خالف. قوله: "فغسل بها رجله يعني اليسرى" قائل: "يعني " هو زيد بن أسلم أو من دونه، واستدل ابن بطال بهذا الحديث على أن الماء المستعمل طهور، لأن العضو إذا غسل مرة واحدة فإن الماء الذي يبقى في اليد منها يلاقي ماء العضو الذي يليه. وأيضا فالغرفة تلاقي أول جزء من أجزاء كل عضو فيصير مستعملا بالنسبة إليه. وأجيب بأن الماء ما دام متصلا باليد مثلا لا يسمى مستعملا حتى ينفصل، وفي الجواب بحث. "تنبيه": ذكر ابن التين أنه رواه بلفظ: "فعل بها رجله " بالعين المهملة واللام المشددة قال: فلعله جعل الرجلين بمنزلة العضو الواحد فعد الغسلة الثانية تكريرا لأن العل هو الشرب الثاني انتهى، وهو تكلف ظاهر، والحق أنها تصحيف.

(1/241)


8 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ
141حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ"
[الحديث141- في:7396,6388,5165,3283,3271]
قوله: "باب التسمية على كل حال وعند الوقاع" أي الجماع، وعطفه عليه من عطف الخاص على العام للاهتمام به، وليس العموم ظاهرا من الحديث الذي أورده، لكن يستفاد من باب الأولى لأنه إذا شرع في حالة الجماع وهي مما أمر فيه بالصمت فغيره أولى. وفيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهة ذكر الله في حالين الخلاء والوقاع، لكن على تقدير صحته لا ينافي حديث الباب لأنه يحمل على حال إرادة الجماع كما سيأتي في الطريق الأخرى.ويقيد ما أطلقه المصنف ما رواه ابن أبي شيبة من طريق علقمة عن ابن مسعود " وكان إذا غشي أهله فأنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا". قوله: "جرير" و ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر من صغار التابعين، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين. قوله: "فقضي بينهم" كذا للمستملي والحموي، وللباقين " بينهما " وهو أصوب، ويحمل الأول على أن أقل الجمع اثنان، وسيأتي مباحث هذا الحديث في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وأفاد الكرماني أنه رأى في نسخة قرئت على الفربري قيل لأبي عبد الله يعني المصنف: من لا يحسن العربية يقولها بالفارسية؟ قال: نعم.

(1/242)


باب مايقول عند الخلاء
...
9 - باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاَءِ
142- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ"
تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ "إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ" وَقَالَ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ إِذَا دَخَلَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ "إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ"
[الحديث 142- طرفه في:6322]
قوله: "باب ما يقول عند الخلاء" أي عند إرادة الدخول في الخلاء إن كان معدا لذلك وإلا فلا تقدير. "تنبيه": أشكل إدخال هذا الباب والأبواب التي بعده إلى باب الوضوء مرة مرة، لأنه شرع في أبواب الوضوء فذكر منها فرضه وشرطه وفضيلته وجواز تخفيفه واستحباب إسباغه ثم غسل الوجه ثم التسمية ولا أثر لتأخيرها عن غسل الوجه لأن محلها مقارنة أول جزء منه ح فتقديمها في الذكر عنه وتأخيرها سواء، لكن ذكر بعدها القول عند الخلاء، واستمر في ذكر ما يتعلق بالاستنجاء، ثم رجع فذكر الوضوء مرة مرة. وقد خفي وجه المناسبة على الكرماني فاستروح قائلا: ما وجه الترتيب بين هذه الأبواب مع أن التسمية إنما هي قبل غسل الوجه لا بعده، ثم توسيط أبواب الخلاء بين أبواب الوضوء؟ وأجاب بقوله: قلت البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو

(1/242)


في نقل الحديث وما يتعلق بصحيحه لا غير انتهى. وقد أبطل هذا الجواب في كتاب التفسير فقال لما ناقش البخاري في أشياء ذكرها من تفسير بعض الألفاظ بما معناه: لو ترك البخاري هذا لكان أولى، لأنه ليس من موضوع كتابه، وكذلك قال في مواضع أخر إذا لم يظهر له توجيه ما يقوله البخاري، مع أن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيدة وأمثالهما، وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب ونحوهما. والعجب من دعوى الكرماني أنه لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب، مع أنه لا يعرف لأحد من المصنفين على الأبواب من اعتنى بذلك غيره، حتى قال جمع من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه. وقد أبديت في هذا الشرح من محاسنه وتدقيقه في ذلك ما لا خفاء به، وقد أمعنت النظر في هذا الموضع فوجدته في بادئ الرأي يظن الناظر فيه أنه لم يعتن بترتيبه كما قال الكرماني، لكنه اعتنى بترتيب كتاب الصلاة اعتناء تاما كما سأذكره هناك، وقد يتلمح أنه ذكر أولا فرض الوضوء كما ذكرت، وأنه شرط لصحة الصلاة، ثم فضله وأنه لا يجب إلا مع التيقن، وأن الزيادة فيه على إيصال الماء إلى العضو ليس بشرط. وأن ما زاد على ذلك من الإسباغ فضل. ومن ذلك الاكتفاء في غسل بعض الأعضاء بغرفة واحدة، وأن التسمية مع أوله مشروعة كما يشرع الذكر عند دخول الخلاء، فاستطرد من هنا لآداب الاستنجاء وشرائطه، ثم رجع لبيان أن واجب الوضوء المرة الواحدة وأن الثنتين والثلاث سنة، ثم ذكر سنة الاستنثار إشارة إلى الابتداء بتنظيف البواطن قبل الظواهر، وورد الأمر بالاستجمار وترا في حديث الاستنثار فترجم به لأنه من جملة التنظف، ثم رجع إلى حكم التخفيف فترجم بغسل القدمين لا بمسح الخفين إشارة إلى أن التخفيف لا يكفي فيه المسح دون مسمى الغسل. ثم رجع إلى المضمضة لأنها أخت الاستنشاق، ثم استدرك بغسل العقبين لئلا يظن أنهما لا يدخلان في مسمى القدم، وذكر غسل الرجلين في النعلين ردا على من قصر في سياق الحديث المذكور فاقتصر على النعلين على ما سأبينه. ثم ذكر فضل الابتداء باليمين، ومتى يجب طلب الماء للوضوء. ثم ذكر حكم الماء الذي يستعمل وما يوجب الوضوء. ثم ذكر الاستعانة في الوضوء. ثم ما يمتنع على من كان على غير وضوء، واستمر على ذلك إذا ذكر شيئا من أعضاء الوضوء استطرد منه إلى ما له به تعلق لمن يمعن التأمل، إلى أن أكمل كتاب الوضوء على ذلك. وسلك في ترتيب الصلاة أسهل من هذا المسلك فأورد أبوابها ظاهرة التناسب في الترتيب، فكأنه تفنن في ذلك والله أعلم. قوله: "الخبث" بضم المعجمة الموحدة كذا في الرواية. وقال الخطابي: إنه لا يجوز غيره، وتعقب بأنه يجوز إسكان الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه ككتب وكتب، قال النووي: وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة منهم أبو عبيدة، إلا أن يقال إن ترك التخفيف أولى لئلا يشتبه بالمصدر. والخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم قاله الخطابي وابن حبان وغيرهما، ووقع في نسخة ابن عساكر: قال أبو عبد الله - يعني البخاري - ويقال الخبث أي بإسكان الموحدة، فإن كانت مخففة عن الحركة فقد تقدم توجيهه، وإن كان بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن الأعرابي: المكروه، قال: فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب، ولهذا وقع في رواية الترمذي وغيره: "أعوذ بالله من الخبث والخبيث " أو " الخبث والخبائث " هكذا على الشك، الأول بالإسكان مع

(1/243)


الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي من الشيء المكروه ومن الشيء المذموم، أو من ذكران الشياطين وإناثهم. وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ إظهارا للعبودية، ويجهر بها للتعليم. وقد روى العمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: "إذا دخلتم الخلاء فقولوا: "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث " وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية. قوله: "تابعه ابن عرعرة" اسمه محمد، وحديثه عند المصنف في الدعوات. قوله. "وقال غندر" هذا التعليق وصله البزار في مسنده عن محمد بن بشار بندار عن غندر بلفظه، ورواه أحمد بن حنبل عن غندر بلفظ إذا دخل. قوله: "وقال موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: "عن حماد" هو ابن سلمة يعني عبد العزيز بن صهيب، وطريق موسى هذه وصلها البيهقي باللفظ المذكور. قوله: "وقال سعيد بن زيد" هو أخو حماد بن زيد، وروايته هذه وصلها المؤلف في الأدب المفرد قال: حدثنا أبو النعمان حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: حدثني أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال.." فذكر مثل حديث الباب، وأفادت هذه الرواية تبيين المراد من قوله: "إذا دخل الخلاء " أي كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول لا بعده. والله أعلم. وهذا في الأمكنة المعدة لذلك بقرينة الدخول، ولهذا قال ابن بطال. رواية: "إذا أتى " أعم لشمولها انتهى. والكلام هنا في مقامين: أحدهما هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضرها الشياطين كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت؟ الأصح الثاني ما لم يشرع في قضاء الحاجة. الثاني متى يقول ذلك؟ فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يفصل: أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلا وهذا مذهب الجمهور. وقالوا فيمن نسي: يستعيذ بقلبه لا بلسانه. ومن يجيز مطلقا كما نقل عن مالك لا يحتاج إلى تفصيل. "تنبيه": سعيد بن زيد الذي أتى بالرواية المبينة صدوق تكلم بعضهم في حفظه، وليس له في البخاري غير هذا الموضع المعلق، لكن لم ينفرد بهذا اللفظ، فقد رواه مسدد عن عبد الوارث عن عبد العزيز مثله، وأخرجه البيهقي من طريقه وهو على شرط البخاري.

(1/244)


10 - باب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاَءِ
143- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْخَلاَءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ فَقَالَ "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"
قوله: "باب وضع الماء عند الخلاء" هو بالمد، وحقيقته المكان الخالي، واستعمل في المكان المعد لقضاء الحاجة مجازا. قوله: "ورقاء" و ابن عمر. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير "ابن أبي يزيد" مكي ثقة لا يعرف اسم أبيه، ووقع في رواية الكشميهني ابن أبي زائدة وهو غلط. قوله: "فوضعت له وضوءا" بفتح الواو أي ماء ليتوضأ به، وقيل يحتمل أن يكون ناوله إياه ليستنجي به، وفيه نظر. قوله: "فأخبر" تقدم في كتاب العلم أن ميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس هي المخبرة بذلك، قال التيمي: فيه استحباب المكافأة بالدعاء. وقال ابن المنير: مناسبة الدعاء لابن عباس بالتفقه على وضعه الماء من جهة أنه تردد بين ثلاثة أمور: إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على

(1/244)


الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئا، فرأي الثاني أوفق، لأن في الأول تعرضا للاطلاع، والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، ففعله يدل على ذكائه، فناسب أن يدعي له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع، وكذا كان. وقد تقدمت باقي مباحثه في كتاب العلم.

(1/245)


11 - باب لاَ تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلاَّ عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ
144- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا"
[الحديث 144-طرفه في:394]
قوله: "باب لا تستقبل القبلة" في روايتنا بضم المثناة على البناء للمفعول وبرفع القبلة، وفي غيرها بفتح الباء التحتانية على البناء للفاعل ونصب القبلة، ولام تستقبل مضمومة على أن لا نافية، ويحوز كسرها على أنها ناهية. قوله: "إلا عند البناء جدار أو نحوه" وللكشميهني: "أو غيره: "أي كالأحجار الكبار والسواري والخشب وغيرها من السواتر. قال الإسماعيلي: "ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور". وأجيب بثلاثة أجوبة: أحدها أنه تمسك بحقيقة الغائط لأنه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية، وإن كان قد صار يطلق على كل مكان أعد لذلك مجازا فيختص النهي به، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، وهذا الجواب للإسماعيلي وهو أقواها. ثانيها أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفا قاله ابن المنير، ويتقوى بأن الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يصلى فيها فلا يكون فيها قبلة بحال، وتعقب بأنه يلزم منه أن لا تصح صلاة من بينه وبين الكعبة مكان لا يصلح للصلاة، وهو باطل. ثالثها الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم كله كأنه شيء واحد قاله ابن بطال وارتضاه ابن التين وغيره، لكن مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التراجم معنى، فإن قيل لم حملتم الغائط على حقيقته ولم تحملوه على ما هو أعم من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان، لا سيما والصحابي راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما لأنه قال - كما سيأتي عند المصنف في باب قبلة أهل المدينة في أوائل الصلاة - فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر، فالجواب أن أبا أيوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه وهو المعتمد، وكأنه لم يبلغه حديث التخصيص، ولولا أن حديث ابن عمر دل على تخصيص ذلك بالأبنية لقلنا بالتعميم، لكن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد جاء عن جابر فيما رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم تأييد ذلك، ولفظه عند أحمد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا هرقنا الماء. قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة"، والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه، لأن ذلك هو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلم لمبالغته في التستر، ورؤية ابن عمر له كانت عن غير قصد كما سيأتي فكذا رواية جابر، ودعوى خصوصية ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لا دليل عليها إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال، ودل حديث ابن عمر الآتي على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر على جواز استقبالها، ولولا ذلك لكان

(1/245)


حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر إلا جواز الاستدبار فقط، ولا يقال يلحق به الاستقبال قياسا، لأنه لا يصح إلحاقه به لكونه فوقه، وقد تمسك به قوم فقالوا بجواز الاستدبار دون الاستقبال حكي عن أبي حنيفة وأحمد وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقا، قال الجمهور: وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق، وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة، ويؤيده من جهة النظر ما تقدم عن ابن المنير أن الاستقبال في البنيان مضاف إلى الجدار عرفا. وبأن الأمكنة المعدة لذلك مأوى الشياطين فليست صالحة لكونها قبلة، بخلاف الصحراء فيهما. وقال قوم بالتحريم مطلقا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد. وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم، وحجتهم أن النهي مقدم على الإباحة، ولم يصححه حديث جابر الذي أشرنا إليه. وقال قوم بالجواز مطلقا، وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، واعتلوا بأن الأحاديث تعارضت فليرجع إلى أصل الإباحة. فهذه المذاهب الأربعة مشهورة عن العلماء، ولم يحك النووي في شرح المهذب غيرها. وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى: منها جواز الاستدبار في البنيان فقط تمسكا بظاهر حديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف. ومنها التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس، وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملا بحديث معقل الأسدي " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط " رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف لأن فيه راويا مجهول الحال. وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها، لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس، وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين، وقد قال به بعض الشافعية أيضا حكاه ابن أبي الدم. ومنها أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا لعموم قوله: "شرقوا أو غربوا " قاله أبو عوانة صاحب المزني، وعكسه البخاري فاستدل به على أنه ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة كما سيأتي في باب قبلة أهل المدينة من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. قوله: "فلا يستقبل" بكسر اللام لأن " لا " ناهية واللام في القبلة للعهد أي للكعبة. قوله: "ولا يولها ظهره" ولمسلم: "ولا يستدبرها " وزاد: "ببول أو بغائط " والغائط الثاني غير الأول، أطلق على الخارج من الدبر مجازا من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام، والظاهر من قوله: "ببول " اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر " إذا هرقنا الماء". وقيل مثار النهي كشف العورة، وعلى هذا فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلا، وقد نقله ابن شاش المالكي قولا في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ " لا تستقبلوا القبلة بفروجكم " ولكنها محمولة على المعنى الأول أي حال قضاء الحاجة جمعا بين الروايتين والله أعلم. وسيأتي الكلام على قول أبي أيوب " فننحرف ونستغفر " حيث أورده المصنف في أوائل الصلاة إن شاء الله تعالى.

(1/246)


12 - باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ
145- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ

(1/246)


عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلاَ تَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلاَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ لَعَلَّكَ مِنْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ فَقُلْتُ لاَ أَدْرِي وَاللَّهِ قَالَ مَالِكٌ يَعْنِي الَّذِي يُصَلِّي وَلاَ يَرْتَفِعُ عَنْ الأَرْضِ يَسْجُدُ وَهُوَ لاَصِقٌ بِالأَرْضِ"
[الحديث 145- أطرافه في3102,149,148]
قوله: "باب من تبرز" بوزن تفعل من البراز بفتح الموحدة وهو الفضاء الواسع، كنوا به عن الخارج من الدبر كما تقدم في الغائط. قوله: "على لبنتين" فتح اللام وكسر الموحدة وفتح النون تثنية لبنة وهي ما يصنع من الطين أو غيره للبناء قبل أن يحرق. قوله: "يحيى بن سعيد" هو الأنصاري المدني التابعي، وكذا شيخه وشيخ شيخه في الأوصاف الثلاثة، ولكن قيل إن لواسع رؤية فذكر لذلك في الصحابة، وأبوه حبان هو ابن منقذ بن عمر له ولأبيه صحبة، وقد تقدم في المقدمة أنه بفتح المهملة وبالموحدة. قوله: "أنه كان يقول" أي ابن عمر كما صرح به مسلم في روايته، وسيأتي لفظه قريبا، فأما من زعم أن الضمير يعود على واسع فهو وهم منه وليس قوله: "فقال ابن عمر " جوابا لواسع، بل الفاء في قوله: "فقال: "سببية، لأن ابن عمر أورد القول الأول منكرا له، ثم بين سبب إنكاره بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمكنه أن يقول: فلقد رأيت الخ ولكن الراوي عنه - وهو واسع - أراد التأكيد بإعادة قوله: "قال عبد الله بن عمر". قوله: "أن ناسا" يشير بذلك إلى من كان يقول بعموم النهي كما سبق، وهو مروي عن أبي أيوب وأبي هريرة ومعقل الأسدي وغيرهم. قوله: "إذا قعدت" ذكر القعود لكونه الغالب وإلا فحال القيام كذلك. قوله: "على حاجتك" كنى بهذا عن التبرز ونحوه. قوله: "لقد" اللام جواب قسم محذوف. قوله: "على ظهر بيت لنا" وفي رواية يزيد الآتية " على ظهر بيتنا " وفي رواية عبيد الله بن عمر الآتية " على ظهر بيت حفصة " أي أخته كما صرح به في رواية مسلم، ولابن خزيمة: "دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت". وطريق الجمع أن يقال: إضافته البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبي صلى الله عليه وسلم فيه واستمر في يدها إلى أن ماتت فورث عنها، وسيأتي انتزاع المصنف ذلك من هذا الحديث في كتاب الخمس إن شاء الله تعالى، وحيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال لأنه ورث حفصة دون إخوته لكونها كانت شقيقته ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب. قوله: "على لبنتين" ولابن خزيمة: "فأشرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خلائه " وفي رواية له: "فرأيته يقضي حاجته محجوبا عليه بلبن " وللحكيم الترمذي بسند صحيح " فرأيته في كنيف " وهو بفتح الكاف وكسر النون بعدها ياء تحتانية ثم فاء. وانتفى بهذا إيراد من قال ممن يرى الجواز مطلقا: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء. وكونه رآه على لبنتين لا يدل على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض، ويرد هذا الاحتمال أيضا أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر كما رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به، ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة وإنما صعد السطح لضرورة له كما في الرواية الآتية فحانت منه التفاتة كما في رواية للبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر. نعم لما اتفقت له رؤيته في تلك الحالة عن غير قصد أحب أن لا يخلي ذلك من فائدة فحفظ هذا الحكم الشرعي. وكأنه إنما

(1/247)


رآه من جهة ظهره حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محذور، ودل ذلك على شدة حرص الصحابي على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعها، وكذا كان رضي الله عنه. قوله: "قال" أي ابن عمر "لعلك"، الخطاب لواسع، وغلط من زعم أنه مرفوع. وقد فسر مالك المراد بقوله: "يصلون على أوراكهم " أي من يلصق بطنه بوركيه إذا سجد، وهو خلاف هيئة السجود المشروعة وهي التجافي والتجنح كما سيأتي بيانه في موضعه، وفي النهاية: وفسر بأنه يفرج ركبتيه فيصير معتمدا على وركيه. وقد استشكلت مناسبة ذكر ابن عمر لهذا مع المسألة السابقة فقيل: يحتمل أن يكون أراد بذلك أن الذي خاطبه لا يعرف السنة، إذ لو كان عارفا بها لعرف الفرق بين الفضاء وغيره، أو الفرق بين استقبال الكعبة وبيت المقدس، وإنما كنى عمن لا يعرف السنة بالذي يصلي على وركيه لأن من يفعل ذلك لا يكون إلا جاهلا بالسنة، وهذا الجواب للكرماني، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وليس في السياق أن واسعا سأل ابن عمر عن المسألة الأولى حتى ينسبه إلى عدم معرفتها. ثم الحصر الأخير مردود، لأنه قد يسجد على وركيه من يكون عارفا بسنن الخلاء، والذي يظهر في المناسبة ما دل عليه سياق مسلم، ففي أوله عنده عن واسع قال: "كنت أصلي في المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: يقول الناس " فذكر الحديث، فكأن ابن عمر رأى منه في حال سجوده شيئا لم يتحققه فسأله عنه بالعبارة المذكورة، وكأنه بدأ بالقصة الأولى لأنها من روايته المرفوعة المحققة عنده فقدمها على ذلك الأمر المظنون، ولا يبعد أن يكون قريب العهد بقول من نقل عنهم ما نقل فأحب أن يعرف الحكم لهذا التابعي لينقله عنه، على أنه لا يمتنع إبداء مناسبة بين هاتين المسألتين بخصوصهما وأن لإحداهما بالأخرى تعلقا بأن يقال: لعل الذي كان يسجد وهو لاصق بطنه بوركيه كان يظن امتناع استقبال القبلة بفرجه في كل حالة كما قدمنا في الكلام على مثار النهي. وأحوال الصلاة أربعة: قيام وركوع وسجود وقعود، وانضمام الفرج فيها بين الوركين ممكن إلا إذا جافى في السجود فرأى أن في الإلصاق ضما للفرج ففعله ابتداعا وتنطعا، والسنة بخلاف ذلك، والتستر بالثياب كاف في ذلك، كما أن الجدار كاف في كونه حائلا بين العورة والقبلة إن قلنا إن مثار النهي الاستقبال بالعورة، فلما حدث ابن عمر التابعي بالحكم الأول أشار له إلى الحكم الثاني منبها له على ما ظنه منه في تلك الصلاة التي رآه صلاها. وأما قول واسع " لا أدري " فدال على أنه لا شعور عنده بشيء مما ظنه به، ولهذا لم يغلظ ابن عمر له في الزجر. والله أعلم.

(1/248)


146 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ
146- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْجُبْ نِسَاءَكَ فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي عِشَاءً وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ".
[الحديث 146- أطرافه في6240,5237,4795,147]

(1/248)


قوله: "باب خروج النساء إلى البراز" أي الفضاء كما تقدم، وهو بفتح الموحدة ثم راء وبعد الألف زاي. قال الخطابي: "أكثر الرواة يقولونه بكسر أوله، وهو غلط لأن البراز بالكسر هو المبارزة في الحرب". قلت: بل هو موجه لأنه يطلق بالكسر على نفس الخارج، قال الجوهري: البراز المبارزة في الحرب، والبراز أيضا كناية عن تفل الغذاء وهو الغائط، والبراز بالفتح الفضاء الواسع انتهى. فعلى هذا من فتح أراد الفضاء، فإن أطلقه على الخارج فهو من إطلاق اسم المحل على الحال كما تقدم مثله في الغائط، ومن كسر أراد نفس الخارج. قوله: "حدثنا يحيى بن بكير" تقدم هذا الإسناد برمته في بدء الوحي، وفيه تابعيان عروة وابن شهاب، وقرينان الليث وعقيل. قوله: "المناصع" بالنون وكسر الصاد المهملة بعدها عين مهملة جمع منصع بوزن مقعد وهي أماكن معروفة من ناحية البقيع، قال الداودي: سميت بذلك لأن الإنسان ينصع فيها أي يخلص. والظاهر أن التفسير مقول عائشة. والأفيح بالحاء المهملة المتسع. قوله: "احجب" أي امنعهن من الخروج من بيوتهن، بدليل أن عمر بعد نزول آية الحجاب قال لسودة ما قال كما سيأتي قريبا. ويحتمل أن يكون أراد أولا الأمر بستر وجوههن، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر فلم يجب لأجل الضرورة، وهذا أظهر الاحتمالين. وقد كان عمر يعد نزول آية الحجاب من موافقاته كما سيأتي في تفسير سورة الأحزاب، وعلى هذا فقد كان لهن في التستر عند قضاء الحاجة حالات: أولها بالظلمة لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار كما قالت عائشة في هذا الحديث: "كن يخرجن بالليل " وسيأتي في حديث عائشة في قصة الإفك " فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل " انتهى. ثم نزل الحجاب فتسترن بالثياب، لكن كانت أشخاصهن ربما تتميز، ولهذا قال عمر لسودة في المرة الثانية بعد نزول الحجاب: أما والله ما تخفين علينا. ثم اتخذت الكنف في البيوت فتسترن بها كما في حديث عائشة في قصة الإفك أيضا فإن فيها " وذلك قبل أن تتخذ الكنف"، وكان قصة الإفك قبل نزول آية الحجاب(1) كما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "فأنزل الله الحجاب" وللمستملي: "آية الحجاب " زاد أبو عوانة في صحيحه من طريق الزبيدي عن ابن شهاب " فأنزل الله الحجاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية"، وسيأتي في تفسير الأحزاب أن سبب نزولها قصة زينب بنت جحش لما أولم عليها وتأخر النفر الثلاثة في البيت واستحيا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج فنزلت آية الحجاب، وسيأتي أيضا حديث عمر " قلت: يا رسول الله إن نساءك يدخلن عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب"، وروى ابن جرير في تفسيره من طريق مجاهد قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم - ومعه بعض أصحابه وعائشة تأكل معهم إذ أصابت يد رجل منهم يدها، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت آية الحجاب. وطريق الجمع بينها أن أسباب نزول الحجاب تعددت، وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية، والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى :{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}.
147- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِي حَاجَتِكُنَّ" قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي الْبَرَازَ
ـــــــ
(1)سيأتي للحافظ بن حجر"في الحديث4750"قوله"وكنت قد أمليت في أوائل كتاب الوضوء"يعني هذا الموضع"أن قصة الإفك وقعت قبل نزول الحجاب. فليصلح هناك"

(1/249)


وقوله: "حدثنا زكريا" هو ابن يحيى. وسيأتي حديثه هذا في التفسير مطولا، ومحصله أن سودة خرجت بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها - وكانت عظيمة الجسم - فرآها عمر بن الخطاب فقال. يا سودة، أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فرجعت فشكت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعشى، فأوحي إليه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن. قال ابن بطال: فقه هذا الحديث أنه يجوز للنساء التصرف فيما لهن الحاجة إليه من مصالحهن، وفيه مراجعة الأدنى للأعلى فيما يتبين له أنه الصواب وحيث لا يقصد التعنت، وفيه منقبة لعمر، وفيه جواز كلام الرجال مع النساء في الطرق للضرورة، وجواز الإغلاظ في القول لمن يقصد الخير، وفيه جواز وعظ الرجل أمه في الدين لأن سودة من أمهات المؤمنين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في الأمور الشرعية، لأنه لم يأمرهن بالحجاب مع وضوح الحاجة إليه حتى نزلت الآية، وكذا في إذنه لهن بالخروج. والله أعلم.

(1/250)


14- باب التَّبَرُّزِ فِي الْبُيُوتِ
148- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ "ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ"
قوله: "باب التبرز في البيوت" عقب المصنف بهذه الترجمة ليشير إلى أن خروج النساء للبراز لم يستمر، بل اتخذت بعد ذلك الأخلية في البيوت فاستغنين عن الخروج إلا للضرورة. قوله: "عبيد الله" أي ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو تابعي صغير من فقهاء أهل المدينة وإثباتهم، والإسناد كله مدنيون.
149- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ أَنَّ عَمَّهُ وَاسِعَ بْنَ حَبَّانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: "لَقَدْ ظَهَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ"
قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" و الدورقي، ويزيد هو ابن هارون كما لأبي ذر والأصيلي، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري الذي روى مالك عنه هذا الحديث كما تقدم. ولم يقع في رواية يحيى " مستدبر القبلة " أي الكعبة كما في رواية عبيد الله بن عمر لأن ذلك من لازم من استقبل الشام بالمدينة، وإنما ذكرت في رواية عبيد الله للتأكيد والتصريح به، والتعبير تارة بالشام وتارة ببيت المقدس بالمعنى لأنهما في جهة واحدة.

(1/250)


15 - باب الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ
150- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ وَاسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِيءُ أَنَا وَغُلاَمٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ
[الحديث150- أطرافه في:500,217,152,151]

(1/250)


16 - باب مَنْ حُمِلَ مَعَهُ الْمَاءُ لِطُهُورِهِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالطَّهُورِ وَالْوِسَادِ
151- حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن أبي معاذ- هو عطاء بن أبي ميمونة- قال سمعت أنسا يقول:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته تبعته انا وغلام منا معنا إداوة من ماء"
قوله: "باب من حمل معه الماء لطهوره" هو بالضم أي ليتطهر به. قوله: "وقال أبو الدرداء أليس فيكم" هذا الخطاب لعلقمة بن قيس، والمراد بصاحب النعلين وما ذكر معهما عبد الله بن مسعود لأنه كان يتولى خدمة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وصاحب النعلين في الحقيقة هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لابن مسعود صاحب النعلين مجازا لكونه كان

(1/251)


يحملهما، وسيأتي الحديث المذكور موصولا عند المصنف في المناقب إن شاء الله تعالى. وإيراد المصنف لحديث أنس مع هذا الطرف من حديث أبي الدرداء يشعر إشعارا قويا بأن الغلام المذكور من حديث أنس هو ابن مسعود، وقد قدمنا أن لفظ الغلام يطلق على غير الصغير مجازا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لابن مسعود بمكة وهو يرعى الغنم " إنك لغلام معلم " وعلى هذا فقول أنس " وغلام منا " أي من الصحابة أو من خدم النبي صلى الله عليه وسلم. وأما رواية الإسماعيلي التي فيها " من الأنصار " فلعلها من تصرف الراوي حيث رأى في الرواية: "منا " فحملها على القبلية فرواها بالمعنى فقال من الأنصار، أو إطلاق الأنصار على جميع الصحابة سائغ وإن كان العرف خصه بالأوس والخزرج، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى " فيحتمل أن يفسر به الغلام المذكور في حديث أنس، ويؤيده ما رواه المصنف في ذكر الجن من حديث أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم الإداوة لوضوئه وحاجته، وأيضا فإن في رواية أخرى لمسلم أن أنسا وصفه بالصغر في ذلك الحديث، فيبعد لذلك أن يكون هو ابن مسعود والله أعلم، ويكون المراد بقوله أصغرنا أي في الحال لقرب عهده بالإسلام. وعند مسلم في حديث جابر الطويل الذي في آخر الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق لحاجته فاتبعه جابر بإداوة، فيحتمل أن يفسر به المبهم، لا سيما وهو أنصاري. ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة " فأتبعه وأنا غلام " بتقديم الواو فتكون حالية، لكن تعقبه الإسماعيلي بأن الصحيح " أنا وغلام " أي بواو العطف.

(1/252)


17 - باب حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ
125- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْخَلاَءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ تَابَعَهُ النَّضْرُ وَشَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ الْعَنَزَةُ عَصًا عَلَيْهِ زُجٌّ".
قوله: "باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء" العنزة بفتح النون عصا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل هي الحربة القصيرة. ووقع في رواية كريمة في آخر حديث هذا الباب: العنزة عصا عليها زج بزاي مضمومة ثم جيم مشددة أي سنان، وفي الطبقات لابن سعد أن النجاشي كان أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤيد كونها كانت على صفة الحربة لأنها من آلات الحبشة كما سيأتي في العيدين إن شاء الله تعالى". قوله: "سمع أنس بن مالك" أي " أنه سمع " ولفظة " أنه " تحذف في الخط عرفا. قوله: "يدخل الخلاء" المراد به هنا الفضاء لقوله في الرواية الأخرى " كان إذا خرج لحاجته " ولقرينة حمل العنزة مع الماء فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث لا سترة غيرها. وأيضا فإن الأخلية التي في البيوت كان خدمته فيها متعلقة بأهله. وفهم بعضهم من تبويب البخاري أنها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وفيه نظر لأن ضابط السترة في هذا ما يستر الأسافل والعنزة ليست كذلك. نعم يحتمل أن يركزها أمامه ويضع عليها الثوب الساتر، أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه، أو تحمل لنبش الأرض الصلبة. أو لمنع ما يعرض من هوام الأرض، لكونه صلى الله عليه وسلم كان يبعد عند قضاء الحاجة، أو تحمل لأنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، وهذا أظهر الأوجه، وسيأتي التبويب على العنزة في سترة المصلي في الصلاة. واستدل

(1/252)


البخاري بهذا الحديث على غسل البول كما سيأتي. وفيه جواز استخدام الأحرار - خصوصا إذا أرصدوا لذلك - ليحصل لهم التمرن على التواضع. وفيه أن في خدمة العالم شرفا للمتعلم، لكون أبي الدرداء مدح ابن مسعود بذلك. وفيه حجة على ابن حبيب حيث منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم لأن ماء المدينة كان عذبا. واستدل به بعضهم على استحباب التوضؤ من الأواني دون الأنهار والبرك، ولا يستقيم إلا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم وجد الأنهار والبرك فعدل عنها إلى الأواني. قوله: "تابعه النضر" أي ابن شميل، تابع محمد بن جعفر، وحديثه موصول عند النسائي. قوله: "وشاذان" أي الأسود بن عامر وحديثه عند المصنف في الصلاة ولفظه: "ومعنا عكازة أو عصا أو عنزة " والظاهر أن " أو " شك من الراوي لتوافق الروايات على ذكر العنزة والله أعلم. وجميع الرواة المذكورين في هذه الأبواب الثلاثة بصريون.

(1/253)


18 - باب النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ
153- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ وَإِذَا أَتَى الْخَلاَءَ فَلاَ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ"
[الحديث 152 طرفاه في:5630,154]
قوله: "باب النهي عن الاستنجاء باليمين" أي باليد اليمنى، وعبر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم أو للتنزيه أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له، وهي أن ذلك أدب من الآداب. وبكونه للتنزيه قاله الجمهور، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم، وفي كلام جماعة من الشافعية ما يشعر به، لكن قال النووي. مراد من قال منهم لا يجوز الاستنجاء باليمين أي لا يكون مباحا يستوي طرفاه، بل هو مكروه راجح الترك، ومع القول بالتحريم فمن فعله أساء وأجزأه. وقال أهل الظاهر وبعض الحنابلة: لا يجزئ، ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة غيرها كالماء وغيره، أما بغير آية فحرام غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى والله أعلم. قوله: "حدثنا معاذ بن فضالة" بفتح الفاء والضاد المعجمة، وهو بصري من قدماء شيوخ البخاري. قوله: "هو الدستوائي" أي ابن أبي عبد الله لا ابن حسان، وهما بصريان ثقتان مشهوران من طبقة واحدة. قوله: "عن أبيه" أي أبي قتادة الحارث وقيل عمرو وقيل النعمان الأنصاري، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول مشاهده أحد ومات سنة أربع وخمسين على الصحيح فيهما. قوله: "فلا يتنفس" بالجزم و " لا " ناهية في الثلاثة، وروي بالضم فيها على أن لا نافية. قوله: "في الإناء" أي داخله، وأما إذا أبانه وتنفس فهي السنة كما سيأتي في حديث أنس في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى. وهذا النهي للتأدب لإرادة المبالغة في النظافة، إذ قد يخرج مع النفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء فيكسبه رائحة كريهة فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه. قوله: "وإذا أتى الخلاء" أي فبال كما فسرته الرواية التي بعدها. قوله: "ولا يتمسح بيمينه" أي لا يستنج. وقد أثار الخطابي هنا بحثا وبالغ في التبجح به وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه ناظر رجلا من الفقهاء الخراسانيين فسأله عن هذه المسألة فأعياه جوابها، ثم أجاب الخطابي عنه بجواب فيه نظر، ومحصل الإيراد أن المستجمر متى استجمر بيساره

(1/253)


استلزم مس ذكره بيمينه، ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه وكلاهما قد شمله النهي، ومحصل الجواب أنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره، فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه ويستجمر بيساره فلا يكون متصرفا في شيء من ذلك بيمينه انتهى. وهذه هيئة منكرة بل يتعذر فعلها في غالب الأوقات، وقد تعقبه الطيبي بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر، والنهي عن المس مختص بالذكر فبطل الإيراد من أصله، كذا قال. وما ادعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان مختصا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسا، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص. والصواب في الصورة التي أوردها الخطابي ما قاله إمام الحرمين ومن بعده كالغزالي في الوسيط والبغوي في التهذيب أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه وهي قارة غير متحركة فلا يعد مستجمرا باليمين ولا ماسا بها، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرا بيمينه فقد غلط، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء.

(1/254)


باب لايمسك ذكره بيمينه إذا بال
...
19 - باب لاَ يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَالَ
154- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلاَ يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ"
قوله: "باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال" أشار بهذه الترجمة إلى أن النهي المطلق عن مس الذكر باليمين كما في الباب قبله محمول على المقيد بحالة البول فيكون ما عداه مباحا. وقال بعض العلماء: يكون ممنوعا أيضا من باب الأولى لأنه نهي عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة. وتعقبه أبو محمد بن أبي جمرة بأن مظنة الحاجة لا تختص بحالة الاستنجاء، وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطي حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسما للمادة. ثم استدل على الإباحة بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن علي حين سأله عن مس ذكره: "إنما هو بضعة منك " فدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح وبقي ما عداها على الإباحة. انتهى. والحديث الذي أشار إليه صحيح أو حسن، وقد يقال حمل المطلق على المقيد غير متفق عليه بين العلماء، ومن قال به يشترط فيه شروطا، لكن نبه ابن دقيق العيد على أن محل الاختلاف إنما هو حيث تتغاير مخارج الحديث بحيث يعد حديثين مختلفين، فأما إذا اتحد المخرج وكان الاختلاف فيه من بعض الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد بلا خلاف، لأن التقييد حينئذ يكون زيادة من عدل فتقبل. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وقد صرح ابن خزيمة في روايته بسماع يحيى له من عبد الله بن أبي قتادة، وصرح ابن المنذر في الأوسط بالتحديث في جميع الإسناد، أورده من طريق بشر بن بكر عن الأوزاعي فحصل الأمن من محذور التدليس. قوله: "فلا يأخذن" كذا لأبي ذر بنون التأكيد ولغيره بدونها، وهو مطابق لقوله في الترجمة " لا يمسك " وكذا في مسلم التعبير بالمسك

(1/254)


من رواية همام عن يحيى، ووقع في رواية الإسماعيلي: "لا يمس " فاعترض على ترجمة البخاري بأن المس أعم من المسك، يعني فكيف يستبدل بالأعم على الأخص؟ ولا إيراد على البخاري من هذه الحيثية لما بيناه. واستنبط منه بعضهم منع الاستنجاء باليد التي فيها الخاتم المنقوش فيه اسم الله تعالى لكون النهي عن ذلك لتشريف اليمين فيكون ذلك من باب الأولى، وما وقع في العتبية عن مالك من عدم الكراهة قد أنكره حذاق أصحابه، وقيل: الحكمة في النهي لكون اليمين معدة للأكل بها فلو تعاطى ذلك بها لأمكن أن يتذكره عند الأكل فيتأذى بذلك. والله أعلم. قوله: "ولا يتنفس في الإناء" جملة خبرية مستقلة إن كانت لا نافية، وإن كانت ناهية فمعطوفة، لكن لا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدا بقيد أن يكون المعطوف مقيدا به، لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول وإنما هو حكم مستقل. ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكرها هنا أن الغالب من أخلاق المؤمنين التأسي بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان إذا بال توضأ. وثبت أنه شرب فضل وضوئه، فالمؤمن بصدد أن يفعل ذلك، فعلمه أدب الشرب مطلقا لاستحضاره، والتنفس في الإناء مختص بحالة الشرب كما دل عليه سياق الرواية التي قبله. وللحاكم من حديث أبي هريرة " لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه " والله أعلم.

(1/255)


20 - باب الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ
155- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ "ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ" فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ"
[الحديث155- طرفه في: 3860]
قوله: "باب الاستنجاء: بالحجارة" أراد بهذه الترجمة الرد على من زعم أن الاستنجاء مختص بالماء. والدلالة على ذلك من قوله: "أستنفض " فإن معناه استنجي كما سيأتي. قوله: "حدثنا أحمد بن محمد المكي" هو أبو الوليد الأزرقي جد أبي الوليد محمد بن عبد الله صاحب تاريخ مكة، وفي طبقته أحمد بن محمد المكي أيضا لكن كنيته أبو محمد واسم جده عون ويعرف بالقواس. وقد وهم من زعم أن البخاري روى عنه، وإنما روى عن أبي الوليد، ووهم أيضا من جعلهما واحدا. قوله: "عن جده" عني سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق الذي ولي إمرة المدينة وكان يجهز البعوث إلى مكة كما تقدم في حديث أبي شريح الخزاعي، وكان عمرو هذا قد تغلب على دمشق في زمن عبد الملك بن مروان، فقتله عبد الملك وسير أولاده إلى المدينة، وسكن ولده مكة لما ظهرت دولة بني العباس فاستمروا بها، ففي الإسناد مكيان ومدنيان. قوله: "اتبعت" تشديد التاء المثناة، أي سرت وراءه، والواو في قوله: "وخرج " حالية وفي قوله: "وكان " استئنافية. وفي رواية أبي ذر فكان بالفاء. قوله: "فدنوت منه" زاد الإسماعيلي: "أستأنس وأتنحنح، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو هريرة". قوله: "ابغني" بالوصل من الثلاثي أي أطلب لي، يقال بغيتك الشيء أي طلبته لك. وفي رواية بالقطع أي أعني

(1/255)


على الطلب، يقال أبغيتك الشيء أي أعنتك على طلبه، والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي ائتني. قوله: "أستنفض" بفاء مكسورة وضاد معجمة مجزوم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف، قال القزاز: قوله أستنفض أستفعل من النفض وهو أن تهز الشيء ليطير غباره، قال: وهذا موضع استنظف، أي بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي. انتهى. والذي وقع في الرواية صواب ففي القاموس استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجى، وهو مأخوذ من كلام المطرزي قال: الاستنفاض الاستخراج، ويكنى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف. انتهى.
ووقع في رواية الإسماعيلي: "استنجى " بدل أستنفض وكأنها المراد بقوله في روايتنا أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته. قوله: "ولا تأتني" كأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم أبو هريرة من قوله استنجي أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ، ولو كان ذلك مختصا بالأحجار - كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية - لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها، وزاد المصنف في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال له صلى الله عليه وسلم لما فرغ " ما بال العظم والروث؟ قال: "هما من طعام الجن " والظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما. نعم يلتحق بهما جميع المطعومات التي للآدميين قياسا من باب الأولى، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم. ومن قال علة النهي عن الروث كونه نجسا ألحق به كل نجس متنجس، وعن العظم كونه لزجا فلا يزيل إزالة تامة ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس. ويؤيده ما رواه الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بروث أو بعظم وقال: "إنهما لا يطهران " وفي هذا رد على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ وإن كان منهيا عنه، وسيأتي في كتاب المبعث بيان قصة وفد الجن وأي وقت كانت إن شاء الله تعالى. قوله: "وأعرضت" كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني: "واعترضت " بزيادة مثناة بعد العين والمعنى متقارب. قوله: "فلما قضى" أي حاجته "أتبعه" بهمزة قطع أي ألحقه، وكني بذلك عن الاستنجاء. وفي الحديث جواز اتباع السادات وإن لم يأمروا بذلك، واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجى به وإعداده عنده لئلا يحتاج إلى طلبها بعد الفراغ فلا يأمن التلوث. والله تعالى أعلم.

(1/256)


21 - باب لاَ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ
156 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ "أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ "هَذَا رِكْسٌ" . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ
قوله: "باب" بالتنوين "لا يستنجى" بضم أوله.قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي الكوفي. والإسناد كله كوفيون، وأبو إسحاق هو السبيعي وهو تابعي وكذا شيخه عبد الرحمن وأبوه الأسود. قوله: "ليس أبو عبيدة"

(1/256)


أي ابن عبد الله بن مسعود. وقوله: "ذكره" أي لي. "ولكن عبد الرحمن بن الأسود" أي هو الذي ذكره لي بدليل قوله في الرواية الآتية المعلقة حدثني عبد الرحمن، وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن - مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له - لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة، ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق، فمراد أبي إسحاق هنا بقوله: "ليس أبو عبيدة ذكره " أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة وإنما أرويه عن عبد الرحمن. قوله: "عن أبيه" هو الأسود بن يزيد النخعي صاحب ابن مسعود. وقال ابن التين: هو الأسود ابن عبد يغوث الزهري، وهو غلط فاحش فإن الأسود الزهري لم يسلم فضلا عن أن يعيش حتى يروى عن عبد الله بن مسعود. قوله: "أتى الغائط" أي الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة. قوله: "فلم أجد" وللكشميهني فلم أجده أي الحجر الثالث. قوله: "بثلاثة أحجار" فيه العمل بما دل عليه النهي في حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار " رواه مسلم، وأخذ بهذا الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاث مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فيزاد حتى ينقى، ويستحب حينئذ الإيتار لقوله: "ومن استجمر فليوتر" ، وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد قال: "ومن لا فلا حرج"، وبهذا يحصل الجمع بين الروايات في هذا الباب. قال الخطابي: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظا وعلم الإنقاء فيه معنى دل على إيجاب الأمرين. ونطيره العدة بالأقراء فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد. قوله: "فأخذت روثة" زاد ابن خزيمة في رواية له في هذا الحديث أنها كانت روثه حمار، ونقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير. قوله: "وألقى الروثة" استدل به الطحاوي على عدم اشتراط الثلاثة قال: لأنه لو كان مشترطا لطلب ثالثا، كذا قال، وغفل رحمه الله عما أخرجه أحمد في مسنده من طريق معمر عن أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود في هذا الحديث فإن فيه: "فألقى الروثة وقال: إنها ركس، ائتني بحجر " ورجاله ثقات أثبات. وقد تابع عليه معمر أبو شعبة الواسطي وهو ضعيف أخرجه الدارقطني، وتابعهما عمار بن رزيق أحد الثقات عن أبي إسحاق، وقد قيل إن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة لكن أثبت سماعه لهذا الحديث منه الكرابيسي، وعلى تقدير أن يكون أرسله عنه فالمرسل حجة عند المخالفين وعندنا أيضا إذا اعتضد، واستدلال الطحاوي فيه نظر بعد ذلك لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات وذلك حاصل ولو بواحد، والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد ورماه ثم جاء شخص آخر فمسح بطرفه الآخر لأجزأهما بلا خلاف وقال أبو الحسن بن القصار المالكي: روى أنه أتاه بثالث، لكن لا يصح، ولو صح فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم لأنه اقتصر في الموضعين على ثلاثة فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة. انتهى. وفيه نظر أيضا لأن الزيادة ثابتة كما قدمناه، وكأنه إنما وقف على الطريق التي عند الدارقطني فقط. ثم يحتمل أن يكون لم يخرج منه شيء إلا من سبيل واحد. وعلى تقدير أن يكون خرج منهما فيحتمل أن يكون اكتفى للقبل بالمسح في الأرض وللدبر بالثلاثة، أو مسح من كل منهما بطرفين. وأما استدلالهم على عدم الاشتراط للعدد بالقياس على مسح الرأس ففاسد الاعتبار، لأنه في مقابلة النص الصريح كما قدمناه من حديث أبي هريرة وسلمان

(1/257)


والله أعلم. قوله: "هذا ركس" كذا وقع هنا بكسر الراء وإسكان الكاف فقيل: هي لغة في رجس بالجيم، ويدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة في هذا الحديث فإنها عندهما بالجيم، وقيل الركس الرجيع رد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة. قاله الخطابي وغيره. والأولى أن يقال رد من حالة الطعام إلى حالة الروث. وقال ابن بطال لم أر هذا الحرف في اللغة، يعني الركس بالكاف. وتعقبه أبو عبد الملك بأن معناه الرد كما قال تعالى :{أُرْكِسُوا فِيهَا} أي ردوا، فكأنه قال: هذا رد عليك. انتهى. ولو ثبت ما قال لكان بفتح الراء يقال ركسه ركسا إذا رده. وفي رواية الترمذي: هذا ركس يعني نجسا، وهذا يؤيد الأول. وأغرب النسائي فقال عقب هذا الحديث: الركس طعام الجن، وهذا إن ثبت في اللغة فهو مريح من الإشكال. قوله: "وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه" يعني يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي عن أبي إسحاق وهو جده قال: حدثني عبد الرحمن يعني ابن الأسود بن يزيد بالإسناد المذكور أولا، وأراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر كما حكى ذلك عن سليمان الشاذكوني حيث قال: لم يسمع في التدليس بأخفى من هذا. قال: "ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن " ولم يقل ذكره لي. انتهى. وقد استدل الإسماعيلي أيضا على صحة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن بكون يحيى القطان رواه عن زهير فقال بعد أن أخرجه من طريقه: والقطان لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق، وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان أو بالتصريح من قوله فانزاحت عن هذه الطريق علة التدليس. وقد أعله قوم بالاضطراب وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي إسحاق في كتاب العلل واستوفيته في مقدمة الشرح الكبير، لكن رواية زهير هذه ترجحت عند البخاري بمتابعة يوسف حفيد أبي إسحاق وتابعهما شريك القاضي وزكريا بن أبي زائدة وغيرهما، وتابع أبا إسحاق على روايته عن عبد الرحمن المذكور ليث بن أبي سليم وحديثه يستشهد به أخرجه ابن أبي شيبة. ومما يرجحها أيضا استحضار أبي إسحاق لطريق أبي عبيدة وعدوله عنها بخلاف رواية إسرائيل عنه عن أبي عبيدة فإنه لم يتعرض فيها لرواية عبد الرحمن كما أخرجه الترمذي وغيره، فلما اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبو عبيدة دل على أنه عارف بالطريقين وأن رواية عبد الرحمن عنده أرجح والله أعلم.

(1/258)


22 - باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً
157- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً مَرَّةً"
قوله: "باب الوضوء مرة مرة" أي لكل عضو، والحديث المذكور في الباب مجمل، وقد تقدم بيانه في باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة.سفيان هو الثوري، والراوي عنه الفريابي لا البيكندي، وصرح أبو داود والإسماعيلي في روايتهما بسماع سفيان له من زيد بن أسلم.

(1/258)


23 - باب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
158- حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ".

(1/258)


24 - باب الْوُضُوءِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا
159- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه"
[الحديث 159- أطرافه في:6433,1934,164,160]
قوله"باب الوضوء ثلاثا ثلاثا" أي لكل عضو. قوله: "عطاء بن يزيد" و الليثي المدني. والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين: حمران وهو بضم المهملة ابن أبان، وعطاء، وابن شهاب. وفي الإسناد الذي يليه أربعة من التابعين: حمران وعروة ومما قرينان، وابن شهاب وصالح بن كيسان وهما قرينان أيضا. قوله: "دعا بإناء" وفي رواية شعيب الآتية قريبا " دعا بوضوء"، وكذا لمسلم من طريق يونس، وهو بفتح الواو اسم للماء المعد للوضوء وبالضم الذي هو الفعل، وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به. قوله: "فأفرغ" أي صب. قوله: "على كفيه ثلاث مرارا" كذا لأبي ذر وأبي الوقت، وللأصيلي وكريمة مرات بمثناة آخره، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطا. قوله: "ثم أدخل يمينه" يه الاغتراف باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا. قوله: "فمضمض واستنثر" وللكشميهني: "واستنشق " بدل واستنثر، والأول أعم، وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد. نعم ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهري وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان واتفقت الروايات على تقديم المضمضة. قوله: "ثم غسل وجهه" فيه تأخيره عن المضمضة

(1/259)


والاستنشاق، وقد ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان قبل الوجه وهو مفروض، احتياطا للعبادة. وسيأتي ذكر حكمة الاستنثار في الباب الذي يليه. قوله: "ويديه إلى المرفقين" أي كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزهري في الصوم، وكذا لمسلم من طريق يونس وفيها تقديم اليمنى على اليسرى والتعبير في كل منهما بثم وكذا القول في الرجلين أيضا قوله: "ثم مسح برأسه" هو بحذف الباء في الروايتين المذكورتين، وليس في شيء من طرقه في الصحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء. وقال الشافعي: يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، واستدل له بظاهر رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، وأجيب بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب أو يختص بالمغسول، قال أبو داود في السنن: "أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة؛" وكذا قال ابن المنذر "إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح مرة واحدة"، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء. والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء. وبالغ أبو عبيدة فقال: "لا نعلم أحدا من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي"، وفيما قال نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة. قوله: "نحو وضوئي هذا" قال النووي: إنما لم يقل " مثل " لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. قلت: لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه: "من توضأ مثل هذا الوضوء " وله في الصيام من رواية معمر " من توضأ وضوئي هذا"، ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران " توضأ مثل وضوئي هذا " وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازا، لأن " مثل " وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرا لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. والله تعالى علم. قوله: "ثم صلى ركعتين" فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء، ويأتي فيهما ما يأتي في تحية المسجد. قوله: "لا يحدث فيهما نفسه" المراد به ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه يقتضي تكسبا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه. ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ لم يسر فيهما. ورده النووي فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة. نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب. ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد دفعه مطلقا، ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث: "لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا". وهي في الزهد لابن المبارك أيضا والمصنف لابن أبي شيبة، ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبيا أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصلاة فلا، وسيأتي بقية مباحث ذلك في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. قوله: "من ذنبه" ظاهره يعم الكبائر والصغائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو
ـــــــ
(1) لكنها رواية شاذة فلا يعتمد عليها كما تقدم في كلام أبي داود رحمه الله

(1/260)


في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك. وفي الحديث التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم، والترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثم، والترغيب في الإخلاص، وتحذير من لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما أن كان في العزم على عمل معصية فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها. ووقع في رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا " أي فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأني للعبد بالاطلاع على ذلك.
ِ160- وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ: "أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا لَوْلاَ آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّي الصَّلاَةَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا"
قَالَ عُرْوَةُ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ} [159البقرة]
قوله: "وعن إبراهيم" أي ابن سعد، وهو معطوف على قوله: "حدثني إبراهيم بن سعد " وزعم مغلطاي وغيره أنه معلق، وليس كذلك، فقد أخرجه مسلم والإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بالإسنادين معا، وإذا كانا جميعا عند يعقوب فلا مانع أن يكونا عند الأويسي. ثم وجدت الحديث الثاني عند أبي عوانة في صحيحه - من حديث الأويسي المذكور - فصح ما قلته بحمد الله تعالى، وقد أوضحت ذلك في تعليق التعليق. قوله: "ولكن عروة يحدث" يعني أن شيخي ابن شهاب اختلفا في روايتهما له عن حمران عن عثمان، فحدثه به عطاء على صفة وعروة على صفة، وليس ذلك اختلافا وإنما هما حديثان متغايران، وقد رواهما معاذ بن عبد الرحمن فأخرج البخاري من طريقه نحو سياق عطاء، ومسلم من طريقه نحو سياق عروة، وأخرجه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه. قوله: "لولا آية" زاد مسلم: "في كتاب الله " ولأجل هذه الزيادة صحف بعض رواته آية فجعلها " أنه " بالنون المشددة وبهاء الشان. قوله: "ويصلي الصلاة" أي المكتوبة. وفي رواية لمسلم: "فيصلي هذه الصلوات الخمس". قوله: "وبين الصلاة" أي التي تليها كما صرح به مسلم في رواية هشام بن عروة. قوله: "حتى يصليها" أي يشرع في الصلاة الثانية. قوله: "قال عروة: الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} يعني الآية التي في البقرة إلى قوله :{اللَّاعِنُونَ} كما صرح به مسلم، ومراد عثمان رضي الله عنه أن هذه الآية تحرض على التبليغ، وهي وإن نزلت في أهل الكتاب لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد تقدم نحو ذلك لأبي هريرة في كتاب العلم، وإنما كان عثمان يرى ترك تبليغهم ذلك لولا الآية المذكورة خشية عليهم من الاغترار والله أعلم. وقد روى مالك هذا الحديث في الموطأ عن هشام بن عروة، ولم يقع في روايته تعيين الآية فقال من قبل نفسه: أراه يريد {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. انتهى. وما ذكره عروة راوي الحديث بالجزم أولى. والله أعلم.

(1/261)


25 - باب الِاسْتِنْثَارِ فِي الْوُضُوءِ
ذَكَرَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
161- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ"
[الحديث161- طرفه في:162]
قوله: "باب الاستنثار" هو استفعال من النثر بالنون والمثلثة وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ - أي يجذبه بريح أنفه - لتنظيف ما في داخله فيخرج بريح أنفه سواء كان بإعانة يده أم لا. وحكى عن مالك كراهية فعله بغير اليد لكونه يشبه فعل الدابة، والمشهور عدم الكراهة. وإذا استنثر بيده فالمستحب أن يكون اليسرى، بوب عليه النسائي وأخرجه مقيدا بها من حديث علي. قوله: "ذكره" أي روى الاستنثار "عثمان" وقد تقدم حديثه، "وعبد الله بن زيد" وسيأتي حديثه. قوله: "وابن عباس" تقدم حديثه في صفة الوضوء في باب غسل الوجه من غرفة وليس فيه ذكر الاستنثار، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديثه مرفوعا: "استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا"، ولأبي داود الطيالسي " إذا توضأ أحدكم واستنثر فليفعل ذلك مرتين أو ثلاثا " وإسناده حسن. قوله: "أبو إدريس" هو الخولاني. قوله: "أنه سمع أبا هريرة" زاد مسلم من طريق ابن المبارك وغيره عن يونس أبا سعيد مع أبي هريرة. قوله: "فليستنثر" ظاهر الأمر أنه للوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به كأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر أن يقول به في الاستنثار، وظاهر كلام صاحب المغني يقتضي أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار، وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار، وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه. واستدل الجمهور على أن الأمر فيه للندب بما حسنه الترمذي وصححه الحاكم من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي " توضأ كما أمرك الله " فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الاستنشاق. وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله سبحانه باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله أمره، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة، وهو يرد على من لم يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بها أيضا في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل قوي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كله ابن المنذر، ولم يذكر في هذه الرواية عددا. وقد ورد في رواية سفيان عن أبي الزناد ولفظه: "وإذا استنثر فليستنثر وترا " أخرجه الحميدي في مسنده عنه، وأصله لمسلم. وفي رواية عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عند المصنف في بدء الخلق " إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه"، وعلى هذا فالمراد بالاستنثار في الوضوء التنظيف لما فيه من المعونة على القراءة، لأن بتنقية مجرى النفس تصح مخارج الحروف، ويزاد للمستيقظ بأن ذلك لطرد الشيطان. وسنذكر باقي مباحثه في مكانه إن شاء الله تعالى. قوله: "ومن استجمر" أي استعمل الجمار - وهي الحجارة الصغار - في الاستنجاء. وحمله بعضهم

(1/262)


على استعمال البخور فإنه يقال فيه تجمر واستجمر، حكاه ابن حبيب عن ابن عمر ولا يصح عنه، وابن عبد البر عن مالك، وروى ابن خزيمة في صحيحه عنه خلافه. وقال عبد الرزاق عن معمر أيضا بموافقة الجمهور، وقد تقدم القول على معنى قوله: "فليوتر " في الكلام على حديث ابن مسعود. واستدل بعض من نفى وجوب الاستنجاء بهذا الحديث للإتيان فيه بحرف الشرط، ولا دلالة فيه، وإنما مقتضاه التخيير بين الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، والله أعلم.

(1/263)


26 - باب الِاسْتِجْمَارِ وِتْرًا
162- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"
قوله: "باب الاستجمار وترا" استشكل إدخال هذه الترجمة في أثناء أبواب الوضوء، والجواب أنه لا اختصاص لها بالاستشكال، فإن أبواب الاستطابة لم تتميز في هذا الكتاب عن أبواب صفة الوضوء لتلازمهما ويحتمل أن يكون ذلك ممن دون المصنف على ما أشرنا إليه في المقدمة والله أعلم. وقد ذكرت توجيه ذلك في أول كتاب الوضوء. قوله: "إذا توضأ" أي إذا شرع في الوضوء. قوله: "فليجعل في أنفه ماء" كذا لأبي ذر، وسقط قوله: "ماء " لغيره. وكذا اختلف رواة الموطأ في إسقاطه وذكره، وثبت ذكره لمسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد. قوله: "ثم لينتثر" كذا لأبي ذر والأصيلي بوزن ليفتعل، ولغيرهما ثم لينثر بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة، والروايتان لأصحاب الموطأ أيضا، قال الفراء: يقال نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف في الطهارة. قوله: "وإذا استيقظ" هكذا عطفه المصنف، واقتضى سياقه أنه حديث واحد، وليس هو كذلك في الموطأ. وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من موطأ يحيى رواية عبد الله بن يوسف شيخ البخاري مفرقا، وكذا هو في موطأ يحيى بن بكير وغيره، وكذا فرقه الإسماعيلي من حديث مالك، وكذا أخرج مسلم الحديث الأول من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، والثاني من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد. وعلى هذا فكأن البخاري كان يرى جواز جمع الحديثين إذا اتحد سندهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين. قوله: "من نومه" أخذ بعمومه الشافعي والجمهور فاستحبوه عقب كل نوم، وخصه أحمد بنوم الليل لقوله في آخر الحديث: "باتت يده " لأن حقيقة المبيت أن يكون في الليل. وفي رواية لأبي داود ساق مسلم إسنادها " إذا قام أحدكم من الليل " وكذا للترمذي من وجه آخر صحيح، ولأبي عوانة في رواية ساق مسلم إسنادها أيضا: "إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح " لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة. قال الرافعي في شرح المسند: يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلا أشد منها لمن نام نهارا، لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة. ثم الأمر عند الجمهور على الندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار، وعنه في رواية استحبابه في نوم النهار، واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضر الماء. وقال إسحاق وداود والطبري ينجس، واستدل لهم بما ورد من الأمر بإراقته، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن عدي، والقرينة

(1/263)


الصارفة للأمر عن الوجوب عند الجمهور التعليل بأمر يقتضي الشك، لأن الشك لا يقتضي وجوبا في هذا الحكم استصحابا لأصل الطهارة. واستدل أبو عوانة على عدم الوجوب بوضوئه صلى الله عليه وسلم من الشن المعلق بعد قيامه من النوم كما سيأتي في حديث ابن عباس، وتعقب بأن قوله: "أحدكم " يقتضي اختصاصه بغيره صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأنه صح عنه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز. وأيضا فقد قال في هذا الحديث في روايات لمسلم وأبي داود وغيرهما: "فليغسلهما ثلاثا " وفي رواية: "ثلاث مرات"، والتقييد بالعدد في غير النجاسة العينية يدل على الندبية، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد " فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسلها " والنهي فيه للتنزيه كما ذكرنا أن فعل استحب وإن ترك كره ولا تزول الكراهة بدون الثلاث نص عليه الشافعي، والمراد باليد هنا الكف دون ما زاد عليها اتفاقا، وهذا كله في حق من قام من النوم لما دل عليه مفهوم الشرط وهو حجة عند الأكثر، أما المستيقظ فيستحب له الفعل لحديث عثمان وعبد الله بن زيد، ولا يكره الترك لعدم ورود النهي فيه، وقد روى سعيد بن منصور بسند صحيح عن أبي هريرة أنه كان يفعله ولا يرى بتركه بأسا، وسيأتي عن ابن عمر والبراء نحو ذلك. قوله: "قبل أن يدخلها" ، ولمسلم وابن خزيمة وغيرهما من طرق " فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها " وهي أبين في المراد من رواية الإدخال، لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن يلامس يده الماء. قوله: "في وضوئه" بفتح الواو أي الإناء الذي أعد للوضوء. وفي رواية الكشميهني: "في الإناء " وهي رواية مسلم من طرق أخرى، ولابن خزيمة: "في إنائه أو وضوئه " على الشك، والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلحق به إناء الغسل لأنه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياسا، لكن في الاستحباب من غير كراهة لعدم ورود النهي فيها عن ذلك والله أعلم. وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي والله أعلم. قوله: "فإن أحدكم" قال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة، لأن الشارع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات فإنه يبعث ملبيا بعد نهيهم عن تطييبه، فنبه على علة النهي وهي كونه محرما. قوله: "لا يدري" فيه أن علة النهي احتمال هل لاقت يده ما يؤثر في الماء أو لا، ومقتضاه إلحاق من شك في ذلك ولو كان مستيقظا، ومفهومه أن من درى أين باتت يده كمن لف عليها خرقة مثلا فاستيقظ وهي على حالها أن لا كراهة، وإن كان غسلها مستحبا على المختار كما في المستيقظ، ومن قال بأن الأمر في ذلك للتعبد - كمالك - لا يفرق بين شاك ومتيقن. واستدل بهذا الحديث على التفرقة بين ورود الماء على النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء، وهو ظاهر. وعلى أن النجاسة تؤثر في الماء، وهو صحيح، لكن كونها تؤثر التنجيس وإن لم يتغير فيه نظر، لأن مطلق التأثير لا يدل على خصوص التأثير بالتنجيس، فيحتمل أن تكون الكراهة بالمتيقن أشد من الكراهة بالمظنون قاله ابن دقيق العيد، ومراده أنه ليست فيه دلالة قطعية على من يقول إن الماء لا ينجس إلا بالتغير. قوله: "أين باتت يده" أي من جسده، قال الشافعي رحمه الله: كانوا يستجمرون وبلادهم حارة فربما عرق أحدهم إذا نام فيحتمل أن تطوف يده على المحل أو على بثرة أو دم حيوان أو قذر غير ذلك. وتعقبه أبو الوليد الباجي بأن ذلك يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم لجواز ذلك عليه، وأجيب بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل، أو أن المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء حتى يؤمر

(1/264)


بغسله، بخلاف اليد فإنه محتاج إلى غمسها، وهذا أقوى الجوابين. والدليل على أنه لا اختصاص لذلك بمحل الاستجمار ما رواه ابن خزيمة وغيره من طريق محمد بن الوليد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن خالد الحذاء عن عبد الله ابن شقيق عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره: "أين باتت يده منه " وأصله في مسلم دون قوله: "منه " قال الدارقطني: تفرد بها شعبة. وقال البيهقي: تفرد بها محمد بن الوليد. قلت: إن أراد عن محمد بن جعفر فمسلم، وإن أراد مطلقا فلا، فقد قال الدارقطني: تابعه عبد الصمد عن شعبة، وأخرجه ابن مندة من طريقه. وفي الحديث الأخذ بالوثيقة، والعمل بالاحتياط في العبادة، والكناية عما يستحيا منه إذا حصل الإفهام بها، واستحباب غسل النجاسة ثلاثا لأنه أمرنا بالتثليث عند توهمها فعند تيقنها أولى. واستنبط منه قوم فوائد أخرى فيها بعد، منها أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه قاله الخطابي، ومنها إيجاب الوضوء من النوم، قاله ابن عبد البر، ومنها تقوية من يقول بالوضوء من مس الذكر حكاه أبو عوانة في صحيحه عن ابن عيينة، ومنها أن القليل من الماء لا يصير مستعملا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء، قاله الخطابي صاحب الخصال من الشافعية.

(1/265)


27 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ
163- حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.
قوله: "باب غسل الرجلين" كذا للأكثر، وزاد أبو ذر " ولا يمسح على القدمين". قوله: "حدثني موسى" ابن إسماعيل هو التبوذكي. قوله: "عنا في سفرة" زاد في رواية كريمة: "سافرناها " وظاهره أن عبد الله بن عمر كان في تلك السفرة ووقع في رواية لمسلم أنها كانت من مكة إلى المدينة، ولم يقع ذلك لعبد الله محققا إلا في حجة الوداع، أما غزوة الفتح فقد كان فيها لكن ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى المدينة من مكة بل من الجعرانة، ويحتمل أن تكون عمرة القضية فإن هجرة عبد الله بن عمر كانت في ذلك الوقت أو قريبا منه. قوله: "أرهقنا" بفتح الهاء والقاف و " العصر " مرفوع بالفاعلية كذا لأبي ذر. وفي رواية كريمة بإسكان القاف والعصر منصوب بالمفعولية، ويقوى الأول رواية الأصيلي: "أرهقتنا " بفتح القاف بعدها مثناة ساكنة، ومعنى الإرهاق الإدراك والغشيان، قال ابن بطال: كأن الصحابة أخروا الصلاة في أول الوقت طمعا أن يلحقهم النبي صلى الله عليه وسلم فيصلوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء ولعجلتهم لم يسبغوه، فأدركهم على ذلك فأنكر عليهم. قلت: ما ذكره من تأخيرهم قاله احتمالا، ويحتمل أيضا أن يكونوا أخروا لكونهم على طهر أو لرجاء الوصول إلى الماء، ويدل عليه رواية مسلم: "حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر " أي قرب دخول وقتها فتوضؤوا وهم عجال. قوله: "ونمسح على أرجلنا" انتزع منه البخاري أن الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل، فلهذا قال في الترجمة ولا يمسح على القدمين، وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها، وفي إفراد مسلم: "فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح
ـــــــ
(1) في مخطوط الرياض"الخفاف"

(1/265)


لم يمسها الماء " فتمسك بهذا من يقول بإجزاء المسح، وبحمل الإنكار على ترك التعميم، لكن الرواية المتفق عليها أرجح فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل، فيحتمل أن يكون معنى قوله: "لم يمسها الماء " أي ماء الغسل جمعا بين الروايتين. وأصرح من ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال ذلك: وأيضا فمن قال بالمسح لم يوجب مسح العقب، والحديث حجة عليه. وقال الطحاوي: لما أمرهم بتعميم غسل الرجلين حتى لا يبقى منهما لمعة دل على أن فرضها الغسل. وتعقبه ابن المنير بأن التعميم لا يستلزم الغسل، فالرأس تعم بالمسح وليس فرضها الغسل. قوله: "أرجلنا" قابل الجمع بالجمع فالأرجل موزعة على الرجال فلا يلزم أن يكون لكل رجل أرجل. قوله: "ويل" جاز الابتداء بالنكرة لأنه دعاء واختلف في معناه على أقوال: أظهرها ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعا: "ويل واد في جهنم " قال ابن خزيمة: لو كان الماسح مؤديا للفرض لما توعد بالنار، وأشار بذلك إلى ما في كتب الخلاف عن الشيعة أن الواجب المسح أخذا بظاهر قراءة "وأرجلكم" بالخفض، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غسل رجليه وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبسة الذي رواه ابن خزيمة وغيره مطولا في فضل الوضوء " ثم يغسل قدميه كما أمره الله " ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور. وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ. والله أعلم. قوله: "للإعقاب" أي المرئية إذ ذاك فاللام للعهد ويلتحق بها ما يشاركها في ذلك؛ والعقب مؤخر القدم. قال البغوي: معناه ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها. وقيل أراد أن العقب مختص بالعقاب إذا قصر في غسله. وفي الحديث تعليم الجاهل ورفع الصوت بالإنكار وتكرار المسألة لتفهم كما تقدم في كتاب العلم

(1/266)


28 - باب الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
164- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
قوله: "باب المضمضة في الوضوء" أصل المضمضة في اللغة التحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه إذا تحركتا بالنعاس، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه، وأما معناه في الوضوء الشرعي فأكمله أن يضع الماء في الفم ثم يديره ثم يمجه، والمشهور عن الشافعية أنه لا يشترط تحريكه ولا مجه وهو عجيب، ولعل المراد أنه لا يتعين المج بل لو ابتلعه أو تركه حتى يسيل أجزأ. قوله: "قاله ابن عباس" قد تقدم حديثه في أوائل الطهارة. قوله: "وعبد الله بن زيد" سيأتي حديثه قريبا. قوله: "ثم غسل كل رجل" كذا للأصيلي والكشميهني، ولابن عساكر

(1/266)


كلتا رجليه وهي التي اعتمدها صاحب العمدة، وللمستملي والحموي كل رجله وهي تفيد تعميم كل رجل بالغسل، وفي نسخة رجليه بالتثنية وهي بمعنى الأولى. قوله: "لا يحدث" تقدمت مباحثه قريبا. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بذلك الإخلاص، أو ترك العجب بأن لا يرى لنفسه مزية خشية أن يتغير فيتكبر فيهلك. قوله: "غفر الله له" كذا للمستملي، ولغيره: "غفر له " على البناء للمفعول، وقد تقدمت مباحثه، إلا أن في هذا السياق من الزيادة رفع صفة الوضوء إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد مسلم في رواية ليونس " قال الزهري: كان علماؤنا يقولون هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة"، وقد تمسك بهذا من لا يرى تثليث مسح الرأس كما سيأتي في باب مسح الرأس مرة إن شاء الله تعالى.

(1/267)


29 - باب غَسْلِ الأَعْقَابِ
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ
165- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْمِطْهَرَةِ قَالَ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ"
قوله: "باب غسل الأعقاب. وكان ابن سيرين" هذا التعليق وصله المصنف في التاريخ عن موسى ابن إسماعيل عن مهدي بن ميمون عنه، وروى ابن أبي شيبة عن هشيم عن خالد عنه أنه كان إذا توضأ حرك خاتمه، والإسنادان صحيحان، فيحمل على أنه كان واسعا بحيث يصل الماء إلى ما تحته بالتحريك، وفي ابن ماجه عن أبي رافع مرفوعا نحوه بإسناد ضعيف. قوله: "محمد بن زياد" هو الجمحي المدني لا الإلهاني الحمصي. قوله: "وكان" الواو حالية من مفعول سمعت، والناس يتوضؤون حال من فاعل يمر. قوله: "المطهرة" بكسر الميم هي الإناء المعد للتطهر منه. قوله: "أسبغوا" فتح الهمزة أي أكملوا، وكأنه رأى منهم تقصيرا وخشي عليهم. قوله: "فإن أبا القاسم" فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنيته وهو حسن، وذكره بوصف الرسالة أحسن، وفيه أن العالم يستدل على ما يفتى به ليكون أوقع في نفس سامعه، وقد تقدم شرح الأعقاب، وإنما خصت بالذكر لصورة السبب كما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو، فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها. وفي الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن الحارث " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " ولهذا ذكر في الترجمة أثر ابن سيرين في غسله موضع الخاتم لأنه قد لا يصل إليه الماء إذا كان ضيقا. والله أعلم.

(1/267)


30 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ
166- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنْ الأَرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ

(1/267)


31 - باب التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ
167- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَهُنَّ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا"
[الحديث167- أطرافه في:1263,1262,1261,1260,1259,1258,1257,1256,1255,1254,125]
168- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ"
[الحديث168- أطرافه في:5926,5854,5380,426]
قوله: "باب التيمن" أي الابتداء باليمين. قوله: "إسماعيل" هو ابن علية، وخالد هو الحذاء. والإسناد كله بصريون. قوله: "في غسل" أي في صفة غسل ابنته زينب عليها السلام كما سيأتي تحقيقه في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. أورد المصنف من الحديث طرفا ليبين به المراد بقول عائشة " يعجبه التيمن " إذ هو لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرك وقصد اليمين، فبان بحديث أم عطية أن المراد بالطهور الأول. قوله: "سمعت أبي" هو سليم بن أسود المحاربي الكوفي أبو الشعثاء مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وهو من كبار التابعين كشيخه مسروق فهما قرينان كما أن أشعث وشعبة قرينان وهما من كبار أتباع التابعين. قوله: "كان يعجبه التيمن" قيل لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. وزاد المصنف في الصلاة عن سليمان بن حرب عن شعبة " ما استطاع " فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع. قوله: "في تنعله" أي لبس نعله "وترجله" أي ترجيل شعره وهو تسريحه ودهنه، قال في المشارق: رجل شعره إذا مشطه بماء أو دهن ليلين ويرسل الثائر ويمد المنقبض، زاد أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة وسواكه. قوله: "في شأنه كله" كذا للأكثر من الرواة بغير واو. وفي

(1/269)


رواية أبي الوقت بإثبات الواو وهي التي اعتمدها صاحب العمدة، قال الشيخ تقي الدين: "هو عام مخصوص، لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار"، انتهى. وتأكيد " الشأن " بقوله: "كله " يدل على التعميم، لأن التأكيد يرفع المجاز فيمكن أن يقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة، وهذا كله على تقدير إثبات الواو، وأما على إسقاطها فقوله: "في شأنه كله " متعلق بيعجبه لا بالتيمن أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله الخ، أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا في فراغه ولا شغله ونحو ذلك. وقال الطيبي قوله: "في شأنه " بدل من قوله: "في تنعله " بإعادة العامل. قال: وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل، والترجل لتعلقه بالرأس، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل. قلت: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله: "في شأنه كله " على قوله: "في تنعله الخ " وعليها شرح الطيبي، وجميع ما قدمناه مبني على ظاهر السياق الوارد هنا، لكن بين المصنف في الأطعمة من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة أن أشعث شيخه كان يحدث به تارة مقتصرا على قوله: "في شأنه كله " وتارة على قوله: "في تنعله الخ " وزاد الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة أن عائشة أيضا كانت تجمله تارة وتبينه أخرى، فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التنعل وغيره، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص وابن ماجه من طريق عمرو بن عبيد كلاهما عن أشعث بدون قوله: "في شأنه كله"، وكأن الرواية المقتصرة على " في شأنه كله " من الرواية بالمعنى، ووقع في رواية لمسلم: "في طهوره ونعله " بفتح النون وإسكان العين أي هيئة تنعله. وفي رواية ابن ماهان في مسلم: "ونعله " بفتح العين. وفي الحديث استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق، ولا يقال هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة والتزيين، وقد ثبت الابتداء بالشق الأيمن في الحلق كما سيأتي قريبا، وفيه البداءة بالرجل اليمنى في التنعل وفي إزالتها باليسرى وفيه البداءة باليد اليمنى في الوضوء وكذا الرجل، وبالشق الأيمن في الغسل. واستدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإمام وفي ميمنة المسجد وفي الأكل والشرب باليمين، وقد أورده المصنف في هذه المواضع كلها، قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر. قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه، انتهى. ومراده بالعلماء أهل السنة، وإلا فذهب الشيعة الوجوب، وغلط المرتضى منهم فنسبه للشافعي، وكأنه ظن أن ذلك لازم من قوله بوجوب الترتيب، لكنه لم يقل بذلك في اليدين ولا في الرجلين لأنهما بمنزلة العضو الواحد، ولأنهما جمعا في لفظ القرآن. لكن يشكل على أصحابه حكمهم على الماء بالاستعمال إذا انتقل من يد إلى يد أخرى، مع قولهم بأن الماء ما دام مترددا على العضو لا يسمى مستعملا، وفي استدلالهم على وجوب الترتيب بأنه لم ينقل أحد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ منكسا، وكذلك لم ينقل أحد أنه قدم اليسرى على اليمنى. ووقع في البيان للعمراني والتجريد للبندنيجي نسبة القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة، وهو تصحيف من الشيعة. وفي كلام الرافعي ما يوهم أن أحمد قال بوجوبه، ولا يعرف ذلك عنه، بل قال الشيخ الموفق في المغني: لا نعلم في عدم الوجوب خلافا.

(1/270)


32 - باب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتْ الصَّلاَةُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ حَضَرَتْ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ
169- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ قَالَ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ".
[الحديث169- أطرافه في:3575,3574,3573,3572,200,195]
قوله: "باب التماس الوضوء" بفتح الواو أي طلب الماء للوضوء "إذا حانت" بالمهملة أي قربت "الصلاة" والمراد وقتها الذي توقع فيه. قوله: "وقالت عائشة" هذا طرف من حديثا في قصة نزول آية التيمم وسيأتي في كتاب التيمم إن شاء الله تعالى، وساقه هنا بلفظ عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها، وهو موصول عنده في تفسير المائدة، قال ابن المنير: أراد الاستدلال على أنه لا يجب طلب الماء للتطهير قبل دخول الوقت لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم التأخير فدل على الجواز. قوله: "فالتمس" بالضم على البناء للمفعول، وللكشميهني: "فالتمسوا". قوله: "وحان" وللكشميهني: "وحانت " والواو للحال بتقدير قد. قوله: "الوضوء" بفتح الواو، أي الماء الذي يتوضأ به. قوله: "فلم يجدوا" وللكشميهني: "فلم يجدوه " بزيادة الضمير. قوله: "فأتى" بالضم على البناء للمفعول، وبين المصنف في رواية قتادة أن ذلك كان بالزوراء وهو سوق بالمدينة. قوله: "بوضوء" بالفتح أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به، ووقع في رواية ابن المبارك " فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير، فصغر أن يبسط صلى الله عليه وسلم فيه كفه فضم أصابعه"، ونحوه في رواية حميد الآتية في باب الوضوء من المخضب. قوله: "ينبع" بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها، وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث في كتاب علامات النبوة مستوعبا إن شاء الله تعالى. قوله: "حتى توضؤوا من عند آخرهم" قال الكرماني حتى للتدريج ومن للبيان، أي توضأ الناس حتى توضأ الذين عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم، قال: وعند بمعنى في لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية، فكأنه قال: الذين هم في آخرهم. وقال التيمي: المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر. وقال النووي: من هنا بمعنى إلى وهي لغة. وتعقبه الكرماني بأنها شاذة، قال: ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند، ويلزم عليه وعلى ما قال التيمي أن لا يدخل الأخير، لكن ما قاله الكرماني من أن " إلى " لا تدخل على " عند"، لا يلزم مثله في " من " إذا وقعت بمعنى إلى، وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال: عند زائدة. وفي الحديث دليل على أن المواساة مشروعة عند الضرورة لمن كان في مائة فضل عن وضوئه. وفيه أن اغتراف المتوضئ من الماء القليل لا يصير الماء مستعملا، واستدل به الشافعي على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها الإناء أمر ندب لا حتم. "تنبيه": قال ابن بطال: "هذا الحديث - يعني حديث نبع الماء - شهده جمع من الصحابة، إلا

(1/271)


أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره ولطلب الناس علو السند". كذا قال. وقد قال القاضي عياض: "هذه القصة رواها العدد الكثير من الثقات عن الجم الغفير عن الكافة متصلا عن جملة من الصحابة، بل لم يؤثر عن أحد منهم إنكار ذلك فهو ملتحق بالقطعي من معجزاته". انتهى. فانظر كم بين الكلامين من التفاوت وسنحرر هذا الموضع في كتاب علامات النبوة إن شاء الله تعالى.

(1/272)


33 - باب الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإِنْسَانِ
وَكَانَ عَطَاءٌ لاَ يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ وَسُؤْرِ الْكِلاَبِ وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ "إِذَا وَلَغَ فِي إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ" وَقَالَ سُفْيَانُ هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا مَاءٌ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ
قوله: "باب الماء" أي حكم الماء " الذي يغسل به شعر الإنسان". أشار المصنف إلى أن حكمه الطهارة لأن المغتسل قد يقع في ماء غسله من شعره، فلو كان نجسا لتنجس الماء بملاقاته، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تجنب ذلك في اغتساله، بل كان يخلل أصول شعره كما سيأتي، وذلك يفضي غالبا إلى تناثر بعضه فدل على طهارته، وهو قول جمهور العلماء، وكذا قاله الشافعي في القديم، ونص عليه في الجديد أيضا وصححه جماعة من أصحابه وهي طريقة الخراسانيين، وصحح جماعة القول بتنجيسه وهي طريقة العراقيين، واستدل المصنف على طهارته بما ذكره من الحديث المرفوع، وتعقب بأن شعر النبي صلى الله عليه وسلم مكرم لا يقاس عليه غيره، ونقضه ابن المنذر والخطابي وغيرهما بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل والأصل عدمه، قالوا: ويلزم القائل بذلك أن لا يحتج على طهارة المني بأن عائشة كانت تفركه من ثوبه صلى الله عليه وسلم لإمكان أن يقال له منيه طاهر فلا يقاس على غيره، والحق أن حكمه حكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفية إلا فيما خص بدليل، وقد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته وعد الأئمة ذلك في خصائصه، فلا يلتفت إلى ما وقع في كتب كثير من الشافعية مما يخالف ذلك فقد استقر الأمر بين أئمتهم على القول بالطهارة وهذا كله في شعر الآدمي، أما شعر الحيوان غير المأكول المذكى ففيه اختلاف مبني على أن الشعر هل تحله الحياة فينجس بالموت أو لا، فالأصح عند الشافعية أنه ينجس بالموت، وذهب جمهور العلماء إلى خلافه، واستدل ابن المنذر على أنه لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت ولا بالانفصال بأنهم أجمعوا على طهارة ما يجز من الشاة وهي حية، وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها وهي حية، فدل ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها، وعلى التسوية بين حالتي الموت والانفصال والله أعلم. وقال البغوي في شرح السنة في قوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة " إنما حرم أكلها". يستدل به لمن ذهب إلى أن ما عدا ما يؤكل من أجزاء الميتة لا يحرم الانتفاع به اهـ. وسيأتي الكلام على ريش الميتة وعظمها في باب مفرد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. قوله: "وكان عطاء" هذا التعليق وصله محمد بن إسحاق الفاكهي في أخبار مكة بسند صحيح إلى عطاء وهو ابن أبي رباح أنه كان لا يرى بأسا بالانتفاع بشعور الناس التي تحلق بمني. قوله: "وسؤر الكلاب" و بالجر عطفا على قوله: "الماء " والتقدير وباب سؤر الكلاب أي ما حكمه؟ والسؤر البقية. والظاهر من تصرف المصنف أنه يقول بطهارته. وفي بعض النسخ بعد قوله في المسجد " وأكلها " وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل. قوله: "وقال الزهري إذا ولغ الكلب" جمع المصنف في هذا الباب

(1/272)


بين مسألتين وهما حكم شعر الآدمي وسؤر الكلب. فذكر الترجمة الأولى وأثرها معها، ثم ثنى بالثانية وأثرها معها، ثم رجع إلى دليل الأولى من الحديث المرفوع، ثم ثنى بأدلة الثانية. وقول الزهري هذا رواه الوليد بن مسلم في مصنفه عن الأوزاعي وغيره عنه ولفظه: "سمعت الزهري في إناء ولغ فيه كلب فلم يجدوا ماء غيره، قال: يتوضأ به"، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريقه بسند صحيح. قوله: "وقال سفيان" المتبادر إلى الذهن أنه ابن عيينة لكونه معروفا بالرواية عن الزهري دون الثوري، لكن المراد به هنا الثوري، فإن الوليد بن مسلم عقب أثر الزهري هذا بقوله: فذكرت ذلك لسفيان الثوري فقال والله هذا الفقه بعينه. فذكره، وزاد بعد قوله شيء " فأرى أن يتوضأ به ويتيمم"، فسمى الثوري الأخذ بدلالة العموم فقها، وهي التي تضمنها قوله تعالى :{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} لكونها نكرة في سياق النفي فتعم ولا تخص إلا بدليل، وتنجيس الماء بولوغ الكلب فيه غير متفق عليه بين أهل العلم. وزاد من رأيه التيمم احتياطا. وتعقبه الإسماعيلي بأن اشتراطه جواز التوضؤ به إذا لم يجد غيره يدل على تنجيسه عنده، لأن الظاهر يجوز التوضؤ به مع وجود غيره. وأجيب بأن المراد أن استعمال غيره مما لم يختلف فيه أولى، فأما إذا لم يجد غيره فلا يعدل عنه - وهو يعتقد طهارته - إلى التيمم، وأما فتيا سفيان بالتيمم بعد الوضوء به فلأنه رأى أنه ماء مشكوك فيه من أجل الاختلاف فاحتاط للعبادة، وقد تعقب بأنه يلزم من استعماله أن يكون جسده طاهرا بلا شك فيصير باستعماله مشكوكا في طهارته، ولهذا قال بعض الأئمة: الأولى أن يريق ذلك الماء ثم يتيمم، والله أعلم. "تنبيه": وقع في رواية أبي الحسن القابسي عن أبي زيد المروزي في حكاية قول سفيان: يقول الله تعالى فإن لم تجدوا ماء، وكذا حكاه أبو نعيم في المستخرج على البخاري، وفي باقي الروايات {فَلَمْ تَجِدُوا} وهو الموافق للتلاوة. وقال القابسي: وقد ثبت ذلك في الأحكام لإسماعيل القاضي - يعني بإسناده إلى سفيان - قال: وما أعرف من قرأ بذلك. قلت: لعل الثوري حكاه بالمعنى وكان يرى جواز ذلك، وكأن هذا هو الذي جر المصنف أن يأتي بمثل هذه العبارة في كتاب التيمم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
170- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ قُلْتُ لِعَبِيدَةَ عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ فَقَالَ "لاَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
[الحديث170- طرفه في: 171]
171- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ
قوله: "عن عاصم" هو ابن سليمان، وابن سيرين هو محمد، وعبيدة هو ابن عمرو السلماني أحد كبار التابعين المخضرمين أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره. قوله: "من شعر النبي صلى الله عليه وسلم" أي شيء. قوله: "أصبناه" أي حصل لنا من جهة أنس بن مالك. وأراد المصنف بإيراد هذا الأثر تقرير أن الشعر الذي حصل لأبي طلحة كما في الحديث الذي يليه بقي عند آل بيته إلى أن صار لمواليهم منه لأن سيرين والد محمد كان مولى أنس بن مالك وكان أنس

(1/273)


ربيب أبي طلحة. ووجه الدلالة منه على الترجمة أن الشعر طاهر وإلا لما حفظوه ولا تمنى عبيدة أن يكون عنده شعرة واحدة منه، وإذا كان طاهرا فالماء الذي يغسل به طاهر. قوله: "حدثنا عباد" هو ابن عباد المهلبي، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد لأنه قد سمع من شيخ شيخه سعيد بن سليمان، بل سمع من أبي عاصم وغيره من أصحاب ابن عون فيقع بينه وبين ابن عون واحد، وهنا بينه وبينه ثلاثة أنفس. قوله: "لما حلق" أي أمر الحلاق فحلقه، فأضعاف الفعل إليه مجازا، وكان ذلك في حجة الوداع كما سنبينه. قوله: "كان أبو طلحة" يعني الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس، وقد أخرج أبو عوانة في صحيحه هذا الحديث من طريق سعيد بن سليمان المذكور أبين مما ساقه محمد بن عبد الرحيم ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحلاق فحلق رأسه، ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن، ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس". ورواه مسلم من طريق ابن عيينة عن هشام بن حسان عن ابن سيرين بلفظ: "لما رمى الجمرة ونحر نسكه ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس"، وله من رواية حفص بن غياث عن هشام أنه قسم الأيمن فيمن يليه، وفي لفظ: "فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين، وأعطى الأيسر أم سليم"، وفي لفظ: "أبا طلحة " ولا تناقض في هذه الروايات، بل طريق الجمع بينها أنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره صلى الله عليه وسلم أيضا، زاد أحمد في رواية له لتجعله في طيبها، وعلى هذا فالضمير في قوله: "يقسمه " في رواية أبي عوانة يعود على الشق الأيمن، وكذا قوله في رواية ابن عيينة " فقال اقسمه بين الناس " قال النووي: فيه استحباب البداءة بالشق الأيمن من رأس المحلوق، وهو قول الجمهور خلافا لأبي حنيفة، وفيه طهارة شعر الآدمي وبه قال الجمهور وهو الصحيح عندنا، وفيه التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وجواز اقتنائه، وفيه المواساة بين الأصحاب في العطية والهدية. أقول: وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة. وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره، قال: واختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله كما ذكر البخاري، وقيل هو خراش بن أمية وهو بمعجمتين ا هـ. والصحيح أن خراشا كان الحالق بالحديبية. والله أعلم.
وقع هنا - في رواية ابن عساكر - قبل إيراد حديث مالك " باب إذا شرب الكلب في الإناء "
172- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا"
قوله "إذا شرب" كذا هو في الموطأ، والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه عنه " إذا ولغ"، وهو المعروف في اللغة، يقال ولغ يلغ - بالفتح فيهما - إذا شرب بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه. وقال ثعلب: هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه، زاد ابن درستويه: شرب أو لم يشرب. وقال ابن مكي: فإن كان غير مائع يقال لعقه. وقال المطرزي: فإن كان فارغا يقال لحسه. وادعى ابن عبد البر أن لفظ: "شرب " لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ: "ولغ"، وليس كما ادعى فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "إذا شرب"، لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ إذا ولغ، كذا أخرجه مسلم وغيره من طرق عنه، وقد رواه عن أبي الزناد شيخ مالك بلفظ:

(1/274)


"إذا شرب " ورقاء بن عمر أخرجه الجوزقي، وكذا المغيرة ابن عبد الرحمن أخرجه أبو يعلي، نعم وروى عن مالك بلفظ: "إذا ولغ " أخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور له عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيلي، وكذا أخرجه الدارقطني في الموطآت له من طريق أبي علي الحنفي عن مالك، وهو في نسخة صحيحة من سنن ابن ماجه من رواية روح بن عبادة عن مالك أيضا، وكأن أبا الزناد حدث به باللفظين لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب كما بينا أخص من الولوغ فلا يقوم مقامه. ومفهوم الشرط في قوله إذا ولغ يقتضي قصر الحكم على ذلك، لكن إذا قلنا إن الأمر بالغسل للتنجيس يتعدى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلا، ويكون ذكر الولوغ للغالب، وأما إلحاق باقي أعضائه كيده ورجله فالمذهب المنصوص أنه كذلك لأن فمه أشرفها فيكون الباقي من باب الأولى، وخصه في القديم الأول. وقال النووي في الروضة: إنه وجه شاذ. وفي شرح المهذب: إنه القوي من حيث الدليل، والأولوية المذكورة قد تمنع لكون فمه محل استعمال النجاسات. قوله: "في إناء أحدكم" ظاهره العموم في الآنية، ومفهومه يخرج الماء المستنقع مثلا، وبه قال الأوزاعي مطلقا، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس يجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير، والإضافة التي في إناء أحدكم يلغى اعتبارها هنا لأن الطهارة لا تتوقف على ملكه، وكذا قوله فليغسله لا يتوقف على أن يكون هو الغاسل. وزاد مسلم والنسائي من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين عن أبي هريرة في هذا الحديث: "فليرقه " وهو يقوي القول بأن الغسل للتنجيس، إذ المراق أعم من أن يكون ماء أو طعاما، فلو كان طاهرا لم يؤمر بإراقته للنهي عن إضاعة المال، لكن قال النسائي: لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على زيادة فليرقه. وقال حمزة الكناني: إنها غير محفوظة. وقال ابن عبد البر: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش كأبي معاوية وشعبة. وقال ابن مندة: لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر بهذا الإسناد. قلت: قد ورد الأمر بالإراقة أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه ابن عدي، لكن في رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف. وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفا وإسناده صحيح أخرجه الدارقطني وغيره. قوله: "فليغسله" يقتضي الفور، لكن حمله الجمهور على الاستحباب إلا لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء. قوله: "سبعا" أي سبع مرار، ولم يقع في رواية مالك التتريب ولم يثبت في شيء من الروايات عن أبي هريرة إلا عن ابن سيرين، على أن بعض أصحابه لم يذكره. وروى أيضا عن الحسن وأبي رافع عند الدارقطني وعبد الرحمن والد السدي عند البزار. واختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب، فلمسلم وغيره من طريق هشام بن حسان عنه " أولاهن " وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين وكذا في رواية أبي رافع المذكورة، واختلف عن قتادة عن ابن سيرين فقال سعيد بن بشير عنه " أولاهن " أيضا أخرجه الدارقطني. وقال أبان عن قتادة " السابعة " أخرجه أبو داود، وللشافعي عن سفيان عن أيوب عن ابن سيرين " أولاهن أو إحداهن(1)".وفي رواية السدي عن البزار " إحداهن " وكذا في رواية هشام بن عروة عن أبي الزناد عنه، فطريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال إحداهن مبهمة وأولاهن والسابعة معينة و " أو " إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير فمقتضى حمل المطلق على المقيد أن يحمل على أحدهما لأن فيه زيادة على
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض"أوأخراهن"

(1/275)


الرواية المعينة، وهو الذي نص عليه الشافعي في الأم والبويطي وصرح به المرعشي وغيره من الأصحاب وذكره ابن دقيق العيد والسبكي بحثا، وهو منصوص كما ذكرنا. وإن كانت " أو " شكا من الراوي فرواية من عين ولم يشك أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقي النظر في الترجيح بين رواية أولاهن ورواية السابعة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية ومن حيث المعنى أيضا، لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي في حرملة على أن الأولى أولى والله أعلم. وفي الحديث دليل على أن حكم النجاسة يتعدى عن محلها إلى ما يجاورها بشرط كونه مائعا، وعلى تنجيس المائعات إذا وقع في جزء منها نجاسة، وعلى تنجيس الإناء الذي يتصل بالمائع، وعلى أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، لأن ولوغ الكلب لا يغير الماء الذي في الإناء غالبا، وعلى أن ورود الماء على النجاسة يخالف ورودها عليه لأنه أمر بإراقة الماء لما وردت عليه النجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه وأمر بغسله، وحقيقته تتأدى بما يسمى غسلا ولو كان ما يغسل به أقل مما أريق. "فائدة": خالف ظاهر هذا الحديث المالكية والحنفية، فأما المالكية فلم يقولوا بالتتريب أصلا مع إيجابهم التسبيع على المشهور عندهم، لأن التتريب لم يقع في رواية مالك، قال القرافي منهم: قد صحت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها. وعن مالك رواية أن الأمر بالتسبيع للندب، والمعروف عند أصحابه أنه للوجوب لكنه للتعبد لكون الكلب طاهرا عندهم. وأبدى بعض متأخريهم له حكمة غير التنجيس كما سيأتي. وعن مالك رواية بأنه نجس، لكن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير. فلا يجب التسبيع للنجاسة بل للتعبد، لكن يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث فيما رواه مسلم وغيره من طريق محمد ابن سيرين وهمام بن منبه عن أبي هريرة " طهور إناء أحدكم " لأن الطهارة تستعمل إما عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء فتعين الخبث. وأجيب بمنع الحصر لأن التيمم لا يرفع الحدث وقد قيل له طهور المسلم، ولأن الطهارة تطلق على غير ذلك كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم " والجواب عن الأول بأن التيمم ناشئ عن حدث فلما قام يطهر ما يطهر الحدث سمي طهورا. ومن يقول بأنه يرفع الحدث يمنع هذا الإيراد من أصله(1). والجواب عن الثاني أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية حملت على الشرعية إلا إذا قام دليل، ودعوى بعض المالكية أن المأمور بالغسل من ولوغه الكلب المنهي عن اتخاذه دون المأذون فيه يحتاج إلى ثبوت تقدم النهي عن الاتخاذ عن الأمر بالغسل، وإلى قرينة تدل على أن المراد ما لم يؤذن في اتخاذه، لأن الظاهر من اللام في قوله الكلب أنها للجنس أو لتعريف الماهية فيحتاج المدعي أنها للعهد إلى دليل، ومثله تفرقة بعضهم بين البدوي والحضري، ودعوى بعضهم أن ذلك مخصوص بالكلب الكلب، وأن الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطب لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منه كقوله: "صبوا علي من سبع قرب"، قوله: "من تصبح بسبع تمرات عجوة". وتعقب بأن الكلب الكلب لا يقرب الماء فكيف يؤمر بالغسل من ولوغه؟ وأجاب حفيد ابن رشد بأنه لا يقرب الماء بعد استحكام الكلب منه، أما في ابتدائه فلا يمتنع. وهذا التعليل وإن كان فيه مناسبة لكنه يستلزم التخصيص بلا دليل والتعليل بالتنجيس أقوى لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه
ـــــــ
(1) وهو الصواب لظاهر الكتاب والسنة,وليس مع من منع ذلك حجة يحسن الاعتماد عليها

(1/276)


والمشهور عن المالكية أيضا التفرقة بين إناء الماء فيراق ويغسل وبين إناء الطعام فيؤكل ثم يغسل الإناء تعبدا لأن الأمر بالإراقة عام فيخص الطعام منه بالنهي عن إضاعة المال، وعورض بأن النهي عن الإضاعة مخصوص بالأمر بالإراقة ويترجح هذا الثاني بالإجماع على إراقة ما تقع فيه النجاسة من قليل المائعات ولو عظم ثمنه، فثبت أن عموم النهي عن الإضاعة مخصوص بخلاف الأمر بالإراقة، وإذا ثبتت نجاسة سؤره كان أعم من أن يكون لنجاسة عينه أو لنجاسة طارئة كأكل الميتة مثلا، لكن الأول أرجح إذ هو الأصل، ولأنه يلزم على الثاني مشاركة غيره له في الحكم كالهرة مثلا، وإذا ثبتت نجاسة سؤره لعينه لم يدل على نجاسة باقيه إلا بطريق القياس كأن يقال لعابه نجس ففمه نجس لأنه متحلب منه واللعاب عرق فمه وفمه أطيب بدنه فيكون عرقه نجسا وإذا كان عرقه نجسا كان بدنه نجسا لأن العرق متحلب من البدن ولكن هل يلتحق باقي أعضائه بلسانه في وجوب السبع والتتريب أم لا؟ تقدمت الإشارة إلى ذلك من كلام النووي، وأما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع ولا التتريب، واعتذر الطحاوي وغيره عنهم بأمور، منها كون أبي هريرة راوية أفتى بثلاث غسلات فثبت بذلك نسخ السبع، وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ، وأيضا فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعا ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه وهو دون الأول في القوة بكثير، ومنها أن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يقيد بالسبع فيكون الولوغ كذلك من باب الأولى. وأجيب بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار. ومنها دعوى أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ الأمر بالغسل. وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة والأمر بالغسل متأخر جدا لأنه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل، وقد ذكر ابن مغفل أنه سمع صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل وكان إسلامه سنة سبع كأبي هريرة، بل سياق مسلم ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب، ومنها إلزام الشافعية بإيجاب ثمان غسلات عملا بظاهر حديث عبد الله بن مغفل الذي أخرجه مسلم ولفظه: "فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب " وفي رواية أحمد " بالتراب " وأجيب بأنه لا يلزم من كون الشافعية لا يقولون بظاهر حديث عبد الله بن مغفل أن يتركوا هم العمل بالحديث أصلا ورأسا، لأن اعتذار الشافعية عن ذلك إن كان متجها فذاك، وإلا فكل من الفريقين ملوم في ترك العمل به، قاله ابن دقيق العيد. وقد اعتذر بعضهم عن العمل به بالإجماع على خلافه، وفيه نظر لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وبه قال أحمد بن حنبل في رواية حرب الكرماني عنه، ونقل عن الشافعي أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته، ولكن هذا لا يثبت العذر لمن وقف على صحته، وجنح بعضهم إلى الترجيح لحديث أبي هريرة على حديث ابن مغفل، والترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزيادة من الثقة مقبولة. ولو سلكنا الترجيح في هذا الباب لم نقل بالتتريب أصلا لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته، ومع ذلك فقلنا به أخذا بزيادة الثقة. وجمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز فقال: لما كان التراب جنسا غير الماء جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودا باثنتين. وتعقبه ابن دقيق العيد

(1/277)


بأن قوله: "وعفروه الثامنة بالتراب " ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازا. وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى. والكلام على هذا الحديث وما يتفرع منه منتشر جدا، ويمكن أن يفرد بالتصنيف. ولكن هذا القدر كاف في هذا المختصر. والله المستعان.
173- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ"
[الحديث173- أطرافه في: 6009,2466,2363]
قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور الكوسج كما جزم به أبو نعيم في المستخرج، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث، وشيخه عبد الرحمن تكلم فيه بعضهم لكنه صدوق ولم ينفرد بهذا الحديث، والإسناد منه فصاعدا مدنيون، وأبوه وشيخه أبو صالح السمان تابعيان. قوله: "أن رجلا" لم يسم هذا الرجل وهو من بني إسرائيل كما سيأتي. قوله: "يأكل الثرى" بالمثلثة أي يلعق التراب الندي. وفي المحكم الثرى التراب، وقيل التراب الذي إذا بل لم يصر طينا لازبا. قوله: "من العطش" أي بسبب العطش. قوله: "يغرف له به" استدل به المصنف على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنه سقى الكلب فيه. وتعقب بأن الاستدلال به مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا وفيه اختلاف، ولو قلنا به لكان محله فيما لم ينسخ، ومع إرخاء العنان لا يتم الاستدلال به أيضا لاحتمال أن يكون صبه في شيء فسقاه أو غسل خفه بعد ذلك أو لم يلبسه بعد ذلك. قوله: "فشكر الله له" أي أثنى عليه فجزاه على ذلك بأن قبل عمله وأدخله الجنة. وسيأتي بقية الكلام على فوائد هذا الحديث في باب فضل سقي الماء من كتاب الشرب إن شاء الله تعالى.
174- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَتْ الْكِلاَبُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ".
قوله: "وقال أحمد بن شبيب" بفتح المعجمة وكسر الموحدة. قوله: "حمزة بن عبد الله" أي ابن عمر بن الخطاب. "كانت الكلاب" زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولا بصريح التحديث قبل قوله تقبل " تبول " وبعدها واو العطف، وكذا ذكر الأصيلي أنها في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري، وكذا أخرجها أبو داود والإسماعيلي من رواية عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد شيخ شبيب بن سعيد المذكور، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن استدل به على طهارة الكلاب للاتفاق على نجاسة بولها قاله ابن المنير. وتعقب بأن من يقول إن الكلب يؤكل وأن بول ما يؤكل لحمه طاهر يقدح في نقل الاتفاق. لا سيما وقد قال جمع بأن أبوال الحيوانات كلها طاهرة إلا الآدمي، وممن قال به ابن وهب حكاه الإسماعيلي وغيره عنه وسيأتي في باب غسل البول. وقال المنذري: المراد أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد، إذ لم يكن

(1/278)


عليه في ذلك الوقت غلق. قال: ويبعد أن تترك الكلاب تنتاب المسجد حتى تمتهنه بالبول فيه. وتعقب بأنه إذا قيل بطهارتها لم يمتنع ذلك كما في الهرة، والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها، ويشير إلى ذلك ما زاده الإسماعيلي في روايته من طريق ابن وهب في هذا الحديث عن ابن عمر قال: كان عمر يقول بأعلى صوته " اجتنبوا اللغو في المسجد " قال ابن عمر: وقد كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الكلاب. الخ، فأشار إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام، وبهذا يندفع الاستدلال به على طهارة الكلب. وأما قوله: "في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهو وإن كان عاما في جميع الأزمنة لأنه اسم مضاف لكنه مخصوص بما قبل الزمن الذي أمر فيه بصيانة المسجد. وفي قوله: "فلم يكونوا يرشون " مبالغة لدلالته على نفي الغسل من باب الأولى، واستدل بذلك ابن بطال على طهارة سؤره لأن من شأن الكلاب أن تتبع مواضع المأكول، وكان بعض الصحابة لا بيوت لهم إلا المسجد فلا يخلو أن يصل لعابها إلى بعض أجزاء المسجد، وتعقب بأن طهارة المسجد متيقنة وما ذكر مشكوك فيه، واليقين لا يرفع بالشك. ثم إن دلالته لا تعارض دلالة منطوق الحديث الوارد في الأمر بالغسل من ولوغه، واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، يعني أن قوله: "لم يكونوا يرشون " يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك، ولا يخفى ما فيه. "تنبيه": حكى ابن التين عن الداودي الشارح أنه أبدل قوله يرشون بلفظ: "يرتقبون " بإسكان الراء ثم مثناة مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم موحدة، وفسره بأن معناه لا يخشون فصحف اللفظ، وأبعد في التفسير لأن معنى الارتقاب الانتظار، وأما نفي الخوف من نفي الارتقاب فهو تفسير ببعض لوازمه. والله أعلم.
175- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ وَإِذَا أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ" قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ قَالَ " فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ"
[الحديث175- أطرافه في:7397,5487,5486,5484,5483,5477,2054]
قوله: "ابن أبي السفر" تقدم في المقدمة أن اسمه عبد الله، وأن السفر بفتح الفاء، ووهم من سكنها. قوله: "عدي بن حاتم" أي الطائي. قوله: "سألت" أي عن حكم صيد الكلاب، وحذف لفظ السؤال اكتفاء بدلالة الجواب عليه، وقد صرح به المصنف من طريق أخرى في الصيد كما سيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. وإنما ساق المصنف هذا الحديث هنا ليستدل به لمذهبه في طهارة سؤر الكلب، ومطابقته للترجمة من قوله فيها " وسؤر الكلاب"، ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في أكل ما صاده الكلب ولم يقيد ذلك بغسل موضع فمه، ومن ثم قال مالك: كيف يؤكل صيده ويكون لعابه نجسا؟ وأجاب الإسماعيلي بأن الحديث سيق لتعريف أن قتله ذكاته، وليس فيه إثبات نجاسة ولا نفيها. ويدل لذلك أنه لم يقل له اغسل الدم إذا خرج من جرح نابه، لكنه وكله إلى ما تقرر عنده من وجوب غسل الدم، فلعله وكله أيضا إلى ما تقرر عنده من غسل ما يماسه

(1/279)


فمه. وقال ابن المنير: عند الشافعية أن السكين إذا سقيت بماء نجس وذبح بها نجست الذبيحة، وناب الكلب عندهم نجس العين، وقد وافقونا على أن ذكاته شرعية لا تنجس المذكي. وتعقب بأنه لا يلزم من الاتفاق على أن الذبيحة لا تصير نجسة بعض الكلب ثبوت الإجماع على أنها لا تصير متنجسة، فما ألزمهم به من التناقض ليس بلازم، على أن في المسألة عندهم خلافا، والمشهور وجوب غسل المعض، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة.

(1/280)


3 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ "يُعِيدُ الْوُضُوءَ" وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ "إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ" وَقَالَ الْحَسَنُ "إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ" وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ" وَقَالَ الْحَسَنُ "مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ" وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ "لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ غَسْلُ مَحَاجِمِهِ"
قوله: "باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" الاستثناء مفرغ، والمعنى من لم ير الوضوء واجبا من الخروج من شيء من مخارج البدن إلا من القبل والدبر، وأشار بذلك إلى خلاف من رأى الوضوء مما يخرج من غيرهما من البدن كالقيء والحجامة وغيرهما، ويمكن أن يقال: إن نواقض الوضوء المعتبرة ترجع إلى المخرجين: فالنوم مظنة خروج الريح، ولمس المرأة ومس الذكر مظنة خروج المذي. قوله: "لقوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فعلق وجوب الوضوء - أو التيمم عند فقد الماء - على المجيء من الغائط، وهو المكان المطمئن من الأرض الذي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة، فهذا دليل الوضوء مما يخرج من المخرجين. وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} دليل الوضوء من ملامسة النساء، وفي معناه مس الذكر مع صحة الحديث فيه، إلا أنه ليس على شرط الشيخين، وقد صححه مالك وجميع من أخرج الصحيح غير الشيخين. قوله: "وقال عطاء" هو ابن أبي رباح. وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وغيره بنحوه وإسناده صحيح، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان، قالوا لا ينقض النادر، وهو قول مالك قال: إلا إن حصل معه تلويث. قوله: "وقال جابر" هذا التعليق وصله سعيد بن منصور والدارقطني وغيرهما، وهو صحيح من قول جابر، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى مرفوعا لكن ضعفها. والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه قالوا: ينقض الضحك إذا وقع داخل الصلاة لا خارجها. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا ينقض خارج الصلاة، واختلفوا إذا وقع فيها، فخالف من قال به القياس الجلي، وتمسكوا بحديث لا يصح، وحاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. على أنهم لم يأخذوا بعموم الخبر المروي في الضحك بل

(1/280)


خصوه بالقهقهة. قوله: "وقال الحسن" أي ابن أبي الحسن البصري، والتعليق عنه للمسألة الأولى وصله سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح. والمخالف في ذلك مجاهد والحكم بن عتيبة وحماد قالوا: من قص أظفاره أو جز شاربه فعليه الوضوء. ونقل ابن المنذر أن الإجماع استقر على خلاف ذلك. وأما التعليق عنه للمسألة الثانية فوصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ووافقه على ذلك إبراهيم النخعي وطاوس وقتادة وعطاء وبه كان يفتي سليمان بن حرب وداود، وخالفهم الجمهور على قولين مرتبين على إيجاب الموالاة وعدمها، فمن أوجبها قال: يجب استئناف الوضوء إذا طال الفصل، ومن لم يوجبها قال: يكتفي بغسل رجليه وهو الأظهر من مذهب الشافعي. وقال في الموطأ(1): أحب إلي أن يبتدئ الوضوء من أوله. وقال بعض العلماء من الشافعية وغيرهم يجب الاستئناف وإن لم تجب الموالاة، وعن الليث عكس ذلك. قوله: "وقال أبو هريرة" وصله إسماعيل القاضي في الأحكام بإسناد صحيح من طريق مجاهد عنه موقوفا، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعا وزاد: "أو ريح". قوله: "ويذكر عن جابر" وصله ابن إسحاق في المغازي قال: حدثني صدقة بن يسار عن عقيل ابن جابر عن أبيه مطولا. وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كلهم من طريق ابن إسحاق، وشيخه صدقة ثقة، وعقيل بفتح العين لا أعرف راويا عنه غير صدقة، ولهذا لم يجزم به المصنف، أو لكونه اختصره، أو للخلاف في ابن إسحاق. قوله: "في غزوة ذات الرقاع" سيأتي الكلام عليها في المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "فرمى" بضم الراء. قوله: "رجل" تبين من سياق المذكورين سبب هذه القصة، ومحصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بشعب فقال: من يحرسنا الليلة؟ فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليل للحراسة، فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي، فجاء رجل من العدو فرأى الأنصاري فرماه بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته، ثم رماه بثان فصنع كذلك، ثم رماه بثالث فانتزعه وركع وسجد وقضى صلاته، ثم أيقظ رفيقه. فلما رأى ما به من الدماء قال له: لم لا أنبهتني أولى ما رمى؟ قال: كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها. وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر وسمى الأنصاري المذكور عباد بن بشر، والمهاجري عمار بن ياسر، والسورة الكهف. قوله: "فنزفه" قال ابن طريف(2) في الأفعال: يقال نزفه الدم وأنزفه إذا سال منه كثيرا حتى يضعفه فهو نزيف ومنزوف. وأراد المصنف بهذا الحديث الرد على الحنفية في أن الدم السائل ينقض الوضوء، فإن قيل: كيف مضى في صلاته مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه واجتناب النجاسة فيها واجب؟ أجاب الخطابي بأنه يحتمل أن يكون الدم جرى من الجراح على سبيل الدفق بحيث لم يصب شيئا من ظاهر بدنه وثيابه، وفيه بعد. ويحتمل أن يكون الدم أصاب الثوب فقط فنزعه عنه ولم يسل على جسمه إلا قدر يسير معفو عنه. ثم الحجة قائمة به على كون خروج الدم لا ينقض، ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه. والظاهر أن البخاري كان يرى أن خروج الدم في الصلاة لا يبطلها بدليل أنه ذكر عقب هذا الحديث أثر الحسن وهو البصري قال: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم، وقد صح أن عمر صلى وجرحه ينبع دما. قوله: "وقال طاوس" هو ابن كيسان التابعي المشهور، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ولفظه: "أنه كان لا يرى في الدم وضوءا، يغسل عنه
ـــــــ
(1) بهامش طبعة بولاق: في بعض النسخ:وقال البوطي"
(2) هو عبد الملك بن طريف الأندلسي, مات في حدود الأربعمائة قاله السيوطي في بغية الوعاة

(1/281)


الدم ثم حسبه". قوله: "ومحمد بن علي" أي ابن الحسين بن علي أبو جعفر الباقر، وأثره هذا رويناه موصولا في فوائد الحافظ أبي بشر المعروف بسموية من طريق الأعمش قال: سألت أبا جعفر الباقر عن الرعاف، فقال: لو سال نهر من دم ما أعدت منه الوضوء. وعطاء هو ابن أبي رباح وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه. قوله: "وأهل الحجاز" هو من عطف العام على الخاص، لأن الثلاثة المذكورين قبل حجازيون. وقد رواه عبد الرزاق من طريق أبي هريرة وسعيد بن جبير، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر وسعيد بن المسيب، وأخرجه إسماعيل القاضي من طريق أبي الزناد عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهو قول مالك والشافعي. قوله: "وعصر ابن عمر" وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وزاد قبل قوله ولم يتوضأ " ثم صلى". قوله: "بثرة" بفتح الموحدة وسكون المثلثة ويجوز فتحها، هي خراج صغير يقال بثر وجهه مثلث الثاء المثلثة. قوله: "وبزق ابن أبي أوفى" هو عبد الله الصحابي ابن الصحابي، وأثره هذا وصله سفيان الثوري في جامعه عن عطاء بن السائب أنه رآه فعل ذلك. وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه فالإسناد صحيح. قوله: "وقال ابن عمر" صله الشافعي وابن أبي شيبة بلفظ: "كان إذا احتجم غسل محاجمه". قوله: "والحسن" أي البصري، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة أيضا ولفظه: "أنه سئل عن الرجل يحتجم ماذا عليه؟ قال يغسل أثر محاجمه". "تنبيه": وقع في رواية الأصيلي وغيره: "ليس عليه غسل محاجمه " بإسقاط أداة الاستثناء، وهو الذي ذكره الإسماعيلي. وقال ابن بطال: ثبتت " إلا " في رواية المستملي دون رفيقيه، انتهى. وهي في نسختي ثابتة من رواية أبي ذر عن الثلاثة، وتخريج التعليق المذكور يؤيد ثبوتها، وقد حكى عن الليث أنه قال: يجزئ المحتجم أن يمسح موضع الحجامة ويصلي ولا يغسله.
176- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ" فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ الصَّوْتُ يَعْنِي "الضَّرْطَةَ"
[الحديث 176- أطرافه في: 4717,3229,2119,659,648,647,477,445]
قوله: "ابن أبي ذئب" تقدم أن اسمه محمد بن عبد الرحمن، والإسناد كله مدنيون إلا آدم وقد دخلها. قوله: "ما كان في المسجد"، أي ما دام، وهي رواية الكشميهني، والمراد أنه في ثواب الصلاة ما دام ينتظرها وإلا لامتنع عليه الكلام ونحوه. وقال الكرماني نكر قوله: "في صلاة " ليشعر بأن المراد نوع صلاته التي ينتظرها، وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الصلاة في أبواب صلاة الجماعة إن شاء الله تعالى. قوله: "أعجمي" أي غير فصيح بالعربية سواء كان عربي الأصل أم لا، ويحتمل أن يكون هذا الأعجمي هو الحضرمي الذي تقدم ذكره في أوائل كتاب الوضوء. قوله: "قال الصوت" كذا فسره هنا، ويؤيده الزيادة المذكورة قبل في رواية أبي داود وغيره حيث قال: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح " فكأنه قال: لا وضوء إلا من ضراط أو فساء، وإنما خصهما بالذكر دون ما هو أشد منهما لكونهما لا يخرج من المرء غالبا في المسجد غيرهما، فالظاهر أن السؤال وقع عن الحديث الخاص وهو المعهود وقوعه غالبا في الصلاة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الوضوء.

(1/282)


177- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا"
قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي، وإن كان هشام بن عمار يكنى أيضا أبا الوليد، ويروي أيضا عن ابن عيينة ويروي عنه البخاري. قوله: "عن عمه" هو عبد الله بن زيد المازني، وتقدم الكلام على حديثه هذا في " باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن " وأورده هنا لظهور دلالته على حصر النقض بما يخرج من السبيلين، وقد قدمنا توجيه إلحاق بقية النواقض بهما أوائل الباب.
178- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِي يَعْلَى الْثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: "قَالَ عَلِيٌّ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ "فِيهِ الْوُضُوءُ". وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ
قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد، وسيأتي الكلام على المتن في باب غسل المذي من كتاب الغسل إن شاء الله تعالى. وتقدمت له طريق أخرى في أواخر كتاب العلم. وأورده هنا لدلالته على إيجاب الوضوء من المذي وهو خارج من أحد المخرجين. قوله: "ورواه شعبة عن الأعمش"، أي بالإسناد المذكور، وقد وصله أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة كذلك.
179- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ "يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ" قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ
[الحديث179-طرفه في: 292]
قوله: "حدثنا سعد بن حفص" كذا للجميع، إلا القابسي فقال: "سعيد " وكذا صنع في حديثه الآخر الآتي في باب فضل النفقة في سبيل الله من كتاب الجهاد، نبه عليهما الجياني. قوله: "حدثنا شيبان" هو ابن عبد الرحمن، عن يحيى هو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة أي ابن عبد الرحمن بن عوف. وفي الإسناد تابعيان كبيران مدنيان يروي أحدهما عن الآخر وصحابيان كذلك، ويحيى بن أبي كثير أيضا تابعي صغير، ففيه ثلاثة من التابعين في نسق. قوله: "أرأيت" أي أخبرني. قوله: "إذا جامع" أي الرجل فلم يمن بضم التحتانية وسكون الميم. قوله: "كما يتوضأ للصلاة" بيان لأن المراد الوضوء الشرعي لا اللغوي، وسيأتي حكم هذه المسألة في آخر كتاب الغسل، ونبين هناك أنه منسوخ، ولا يقال إذا كان منسوخا كيف يصح الاستدلال به لأنا نقول المنسوخ منه عدم وجوب الغسل وناسخه الأمر بالغسل، وأما الأمر بالوضوء فهو باق لأنه مندرج تحت الغسل، والحكمة في الأمر بالوضوء قبل أن يجب الغسل إما لكون الجماع مظنة خروج المذي أو لملامسة المرأة، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة.

(1/283)


180- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ" فَقَالَ نَعَمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ "
تَابَعَهُ وَهْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ وَيَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ "الْوُضُوءُ"
قوله: "حدثنا إسحاق" كذا في رواية كريمة وغيرها، زاد الأصيلي: "هو ابن منصور " وفي رواية أبي ذر " حدثنا إسحاق بن منصور بن بهرام " بفتح الموحدة وهو المعروف بالكوسج كما صرح به أبو نعيم. قوله: "حدثنا النضر" هو ابن شميل بالمعجمة مصغرا، والحكم هو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغرا. قوله: "أرسل إلى رجل من الأنصار" ولمسلم وغيره: "مر على رجل " فيحمل على أنه مر به فأرسل إليه، وهذا الأنصاري سماه مسلم في روايته من طريق أخرى عن أبي سعيد " عتبان " وهو بكسر المهملة وسكون المثناة ثم موحدة خفيفة ولفظه من رواية شريك بن أبي نمر عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فخرج يجر إزاره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجلنا الرجل " فذكر الحديث بمعناه. وعتبان المذكور هو ابن مالك الأنصاري كما نسبه بقي بن مخلد في روايته لهذا الحديث من هذا الوجه، ووقع في رواية في صحيح أبي عوانة أنه ابن عتبان والأول أصح، ورواه ابن إسحاق في المغازي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن جده لكنه قال: "فهتف برجل من أصحابه يقال له صالح " فإن حمل على تعدد الواقعة وإلا فطريق مسلم أصح. وقد وقعت القصة أيضا لرافع بن خديج وغيره أخرجه أحمد وغيره، ولكن الأقرب في تفسير المبهم الذي في البخاري أنه عتبان. والله أعلم. قوله: "يقطر" أي ينزل منه الماء قطرة قطرة من أثر الغسل. قوله: "لعلنا أعجلناك" أي عن فراغ حاجتك من الجماع، وفيه جواز الأخذ بالقرائن، لأن الصحابي لما أبطأ عن الإجابة مدة الاغتسال خالف المعهود منه وهو سرعة الإجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عليه أثر الغسل دل على أن شغله كان به، واحتمل أن يكون نزع قبل الإنزال ليسرع الإجابة، أو كان أنزل فوقع السؤال عن ذلك. وفيه استحباب الدوام على الطهارة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه تأخير إجابته، وكأن ذلك كان قبل إيجابها، إذ الواجب لا يؤخر للمستحب. وقد كان عتبان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى فأجابه، كما سيأتي في موضعه، فيحتمل أن تكون هي هذه الواقعة، وقدم الاغتسال ليكون متأهبا للصلاة معه، والله أعلم. قوله: "إذا أعجلت" بضم الهمزة وكسر الجيم، وفي أصل أبي ذر " إذا عجلت " بلا همز و " قحطت " وفي رواية غيره: "أقحطت " بوزن أعجلت، وكذا لمسلم. قال صاحب الأفعال: يقال أقحط الرجل إذا جامع ولم ينزل. وحكى ابن الجوزي عن ابن الخشاب أن المحدثين يقولون قحط بفتح القاف قال والصواب الضم. قلت: وروايته في أمالي أبي علي القالي بالوجهين في القاف، وبزيادة الهمزة المضمومة، يقال قحط الناس وأقحطوا إذا حبس عنهم المطر، ومنه استعير ذلك لتأخر الإنزال. قال الكرماني ليس قوله: "أو " للشك بل هو لبيان عدم الإنزال سواء كان بحسب أمر من ذات الشخص أم لا، وهذا بناء على أن إحداهما بالتعدية وإلا فهي للشك. قوله: "تابعه وهب" أي ابن جرير بن حازم، والضمير يعود على النضر، ومتابعة وهب وصلها أبو العباس السراج في مسنده عن زياد بن أيوب عنه.

(1/284)


باب الرجل يوضيء صاحبه
...
35 - باب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ
181- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي فَقَالَ: "الْمُصَلَّى أَمَامَكَ"
قوله: "باب الرجل يوضئ صاحبه" أي ما حكمه.قوله: "ابن سلام" هو محمد كما في رواية كريمة، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري. وفي هذا الإسناد رواية الأقران لأن يحيى وموسى بن عقبة تابعيان صغيران من أهل المدينة، وكريب مولى ابن عباس من أواسط التابعين ففيه ثلاثة من التابعين في نسق. وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من مباحث هذا الحديث في " باب إسباغ الوضوء " ويأتي باقيها في كتاب الحج. ووقع في تراجم البخاري لابن المنير في هذا الموضع وهم، فإنه قال فيه ابن عباس عن أسامة، وليس هو من رواية ابن عباس وإنما هو من رواية كريب مولى ابن عباس. قوله: "أصب" بتشديد الموحدة ومفعوله محذوف أي الماء. وقوله: "ويتوضأ " أي وهو يتوضأ. واستدل به المصنف على الاستعانة في الوضوء، لكن من يدعي أن الكراهية مختصة بغير المشقة أو الاحتياج في الجملة لا يستدل عليه بحديث أسامة لأنه كان في السفر. وكذا حديث المغيرة المذكور، قال ابن المنير قاس البخاري توضئة الرجل غيره على صبه عليه لاجتماعهما في معنى الإعانة. قلت: والفرق بينهما ظاهر، ولم يفصح البخاري في المسألة بجواز ولا غيره، وهذه عادته في الأمور المحتملة. قال النووي: الاستعانة ثلاثة أقسام: إحضار الماء، ولا كراهة فيه أصلا. قلت: لكن الأفضل خلافه. قال: الثاني مباشرة الأجنبي الغسل، وهذا مكروه إلا لحاجة. الثالث: الصب وفيه وجهان. أحدهما يكره، والثاني خلاف الأولى. وتعقب بأنه إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لا يكون خلاف الأولى. وأجيب بأنه قد يفعله لبيان الجواز في يكون في حقه خلاف الأولى بخلاف غيره. وقال الكرماني: إذا كان الأولى تركه كيف ينازع في كراهته؟ وأجيب بأن كل مكروه فعله خلاف الأولى من غير عكس، إذ المكروه يطلق على الحرام بخلاف الآخر.
182- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ "أَنَّهُ كَانَ

(1/285)


36 - باب قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "لاَ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ" وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ وَإِلاَ فَلاَ تُسَلِّمْ".
قوله: "باب قراءة القرآن بعد الحدث" أي الأصغر "وغيره" أي من مظان الحدث. وقال الكرماني الضمير يعود على القرآن، والتقدير باب قراءة القرآن وغيره أي الذكر والسلام ونحوهما بعد الحدث، ويلزم منه الفصل بين المتعاطفين، ولأنه إن جازت القراءة بعد الحدث فجواز غيرها من الأذكار بطريق الأولى، فهو مستغنى عن
ـــــــ
(1) صوابه: لكان قد قدمه على النية. فتأمل

(1/286)


ذكره بخلاف غير الحدث من نواقض الوضوء، وقد تقدم بيان المراد بالحدث وهو يؤيد ما قررته. قوله: "وقال منصور" أي ابن المعتمر "عن إبراهيم" أي النخعي، وأثره هذا وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن منصور مثله، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور قال: سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال: لم يبن للقراءة فيه. قلت: وهذا لا يخالف رواية أبي عوانة، فإنها تتعلق بمطلق الجواز وقد روى سعيد بن منصور أيضا عن محمد بن أبان عن حماد بن أبي سليمان قال: سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال يكره ذلك، انتهى. والإسناد الأول أصح. وروى ابن المنذر عن علي قال: بئس البيت الحمام ينزع فيه الحياء، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله. وهذا لا يدل على كراهة القراءة، وإنما هو إخبار بما هو الواقع بأن شأن من يكون في الحمام أن يلتهي عن القراءة. وحكيت الكراهة عن أبي حنيفة، وخالفه صاحبه محمد بن الحسن ومالك فقالا لا تكره، لأنه ليس فيه دليل خاص، وبه صرح صاحبا العدة والبيان من الشافعية. وقال النووي في التبيان عن الأصحاب: لا تكره، فأطلق. لكن في شرح الكفاية للصيمري: لا ينبغي أن يقرأ. وسوى الحليمي بينه وبين القراءة حال قضاء الحاجة. ورجح السبكي الكبير عدم الكراهة واحتج بأن القراءة مطلوبة والاستكثار منها مطلوب والحدث يكثر، فلو كرهت لفات خير كثير ثم قال: حكم القراءة في الحمام إن كان القارئ في مكان نظيف وليس فيه كشف عورة لم يكره، وإلا كره. قوله: "ويكتب الرسالة" كذا في رواية الأكثر بلفظ مضارع كتب. وفي رواية كريمة: "بكتب " بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة عطفا على قوله بالقراءة. وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري أيضا عن منصور قال: سألت إبراهيم: أأكتب الرسالة على غير وضوء؟ قال: نعم. وتبين بهذا أن قوله على غير وضوء يتعلق بالكتابة لا بالقراءة في الحمام. ولما كان من شأن الرسائل أن تصدر بالبسملة توهم السائل أن ذلك يكره لمن كان على غير وضوء، لكن يمكن أن يقال إن كاتب الرسالة لا يقصد القراءة فلا يستوي مع القراءة. قوله: "وقال حماد" هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة "عن إبراهيم" أي النخعي "إن كان عليهم" أي على من في الحمام "إزار" المراد به الجنس أي على كل منهم إزار. وأثره هذا وصله الثوري في جامعه عنه، والنهي عن السلام عليهم إما إهانة لهم لكونهم على بدعة، وإما لكونه يستدعي منهم الرد، والتلفظ بالسلام فيه ذكر الله لأن السلام من أسمائه، وأن لفظ سلام عليكم من القرآن، والمتعري عن الإزار مشابه لمن هو في الخلاء. وبهذا التقرير يتوجه ذكر هذا الأثر في هذه الترجمة.
183- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ".

(1/287)


قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "مخرمة" بفتح الميم وإسكان المعجمة، والإسناد كله مدنيون. قوله: "فاضطجعت" قائل ذلك هو ابن عباس، وفيه التفات لأن أسلوب الكلام كان يقتضي أن يقول فاضطجع لأنه قال قبل ذلك إنه بات. قوله: "في عرض" بفتح أوله على المشهور، وبالضم أيضا، وأنكره الباجي من جهة النقل ومن جهة المعنى قال: لأن العرض بالضم هو الجانب وهو لفظ مشترك. قلت: لكن لما قال: "في طولها " تعين المراد، وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار. قوله: "يمسح النوم" أي يمسح بيده عينيه، من باب إطلاق اسم الحال على المحل، أو أثر النوم من باب إطلاق السبب على المسبب. قوله: "ثم قرأ العشر الآيات أولها" {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى آخر السورة. قال ابن بطال ومن تبعه: فيه دليل على رد من كره قراءة القرآن على غير طهارة، لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ. وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك، لأنه قال: "تنام عيناي ولا ينام قلبي " وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ. قلت: وهو تعقيب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال: بعد قيامه من النوم، لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم، نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره. وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه. وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكره ابن المنير، والأظهر أن مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة. ويمكن أن يؤخذ ذلك من قول ابن عباس " فصنعت مثل ما صنع " ولم يرد المصنف أن مجرد نومه صلى الله عليه وسلم ينقض لأن في آخر هذا الحديث عنده في باب التخفيف في الوضوء " ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم صلى". ثم رأيت في الحلبيات للسبكي الكبير بعد أن ذكر اعتراض الإسماعيلي: لعل البخاري احتج بفعل ابن عباس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو اعتبر اضطجاع النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله واللمس ينقض الوضوء. قلت: ويؤخذ من هذا الحديث توجيه ما قيدت الحديث به في ترجمة الباب، وأن المراد به الأصغر، إذ لو كان الأكبر لما اقتصر على الوضوء ثم صلى بل كان يغتسل. قوله: "إلى شن معلقة" قال الخطابي: الشن القربة التي تبدت للبلاء، ولذلك قال في هذه الرواية: "معلقة " فأنث لإرادة القربة. قوله: "فقمت فصنعت مثل ما صنع" تقدمت الإشارة في باب تخفيف الوضوء إلى هذا الموضع فليراجع من ثم، وستأتي بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى. "تنبيه": روى مسلم من حديث ابن عمر كراهة ذكر الله بعد الحديث، لكنه على غير شرط المصنف.

(1/288)


37 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلاَّ مِنْ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ
184- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَنِي الْغَشْيُ وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي مَاءً فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ

(1/288)


قَالَ "مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ " لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ " يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ "أَوْ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ " فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا فَيُقَالُ: لَهُ نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا وَأَمَّا الْمُنَافِقُ "أَوْ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ " فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ"
قوله: "باب من لم يتوضأ" أي من الغشي "إلا من الغشي المثقل" فالاستثناء مفرغ. والمثقل بضم الميم وإسكان المثلثة وكسر القاف ويجوز فتحها، وأشار المصنف بذلك إلى الرد على من أوجب الوضوء من الغشي مطلقا، والتقدير: باب من لم يتوضأ من الغشي إلا إذا كان مثقلا. قوله: "حدثنا إسماعيل" و ابن أبي أويس أيضا، والإسناد كله مدنيون أيضا، وفيه رواية الأقران هشام وامرأته فاطمة بنت عمه المنذر. قوله: "فأشارت أن نعم" كذا لأكثرهم بالنون، ولكريمة: "أي نعم " وهي رواية وهيب المتقدمة في العلم، وبين فيها أن هذه الإشارة كانت برأسها. قوله: "تجلاني" أي غطاني، قال ابن بطال: الغشي مرض يعرض من طول التعب والوقوف(1)، وهو ضرب من الإغماء إلا أنه دونه. وإنما صبت أسماء الماء على رأسها مدافعة له، ولو كان شديدا لكان كالإغماء، وهو ينقض الوضوء بالإجماع، انتهى. وكونها كانت تتولى صب الماء عليها يدل على أن حواسها كانت مدركة، وذلك لا ينقض الوضوء. ومحل الاستدلال بفعلها من جهة أنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرى الذي خلفه وهو في الصلاة - ولم ينقل أنه أنكر عليها. وقد تقدم شيء من مباحث هذا الحديث في كتاب العلم، وتأتي بقية مباحثه في كتاب صلاة الكسوف إن شاء الله تعالى.

(1/289)


باب من مسح الرأس كله
...
38 - باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [6 المائدة]
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا
وَسُئِلَ مَالِكٌ أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ
185- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ نَعَمْ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ".
[الحديث185- أطرافه في: 199,197,192,191,186]
ـــــــ
(1) وقد يعرض للإنسان عند رؤيته او سماعه ما يدهشه,كما في هذا الحديث

(1/289)


قوله: "باب مسح الرأس كله" كذا لأكثرهم وسقط لفظ: "كله " للمستملي. قوله: "وقال ابن المسيب" أي سعيد، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بلفظ: "الرجل والمرأة في المسح سواء " ونقل عن أحمد أنه قال: يكفي المرأة مسح مقدم رأسها. قوله: "وسئل مالك" السائل له عن ذلك هو إسحاق بن عيسى بن الطباع، بينه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه ولفظه: سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عبد الله بن زيد فقال: "مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله". وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المصنف قبل، وموضع الدلالة من الحديث والآية أن لفظ الآية مجمل، لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته، فإن ذلك دل على أن التعميم ليس بفرض(1)، فعلى هذا فالإجمال في المسند إليه لا في الأصل.قوله: "عن أبيه" أي أبي عثمان يحيى بن عمارة أي ابن أبي حسن واسمه تميم بن عبد عمرو، ولجده أبي حسن صحبة، وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر. وقال أبو نعيم: فيه نظر. والإسناد كله مدنيون إلا عبد الله بن يوسف وقد دخلها. قوله: "أن رجلا" هو عمرو بن أبي حسن كما سماه المصنف في الحديث الذي بعد هذا من طريق وهيب عن عمرو بن يحيى، وعلى هذا فقوله هنا: "وهو جد عمرو بن يحيى " فيه تجوز، لأنه عم أبيه، وسماه جدا لكونه في منزلته، ووهم من زعم أن المراد بقوله: "وهو " عبد الله بن زيد، لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا. وأما قول صاحب الكمال ومن تبعه في ترجمة عمرو بن يحيى أنه ابن بنت عبد الله بن زيد فغلط توهمه من هذه الرواية، وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير. وقال غيره هي أم النعمان بنت أبي حية فالله أعلم. وقد اختلف رواة الموطأ في تعيين هذا السائل، وأما أكثرهم فأبهمه، قال معن بن عيسى في روايته عن عمرو عن أبيه يحيى: إنه سمع أبا حسن - وهو جد عمرو بن يحيى - قال لعبد الله بن زيد وكان من الصحابة. فذكر الحديث. وقال محمد بن الحسن الشيباني عن مالك: حدثنا عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد. وكذا ساقه سحنون في المدونة. وقال الشافعي في الأم: عن مالك عن عمرو عن أبيه أنه قال لعبد الله بن زيد. ومثله رواية الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي عن مالك عن عمرو عن أبيه قال: قلت.. والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى عمارة بن أبي حسن فسألوه عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وتولى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن، فحيث نسب إليه السؤال كان على الحقيقة.
ويؤيده رواية سليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التور قال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمي يعني عمرو بن أبي حسن يكثر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد أخبرني.. فذكره. وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضرا. وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضا لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال. ووقع في رواية مسلم عن محمد بن الصباح
ـــــــ
(1) ليس في الحديث المذكور حجة على أن تعميم الرأس ليس بفرض إذا لم يكن عليه عمامة, وإنما يدل الحديث على الاجتزاء بمسح ما ظهر منه تبعا لمسح العمامة عند وجودها. وأما عند عدمها فالواجب تعميمه عملا بحديث عبد الله بن زيد. وبذلك يتبين أنه ليس بين الحديثين اختلاف. والباء في الآية للا لصاق, فليست زائدة ولا للتبعيض فتنبه.

(1/290)


عن خالد الواسطي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: "قيل له توضأ لنا " فذكره مبهما. وفي رواية الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد المذكور بلفظ: "قلنا له"، وهذا يؤيد الجمع المتقدم من كونهم اتفقوا على سؤاله، لكن متولي السؤال منهم عمرو بن أبي حسن. ويزيد ذلك وضوحا رواية الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي حسن. قال: "كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد " فذكر الحديث. أخرجه أبو نعيم في المستخرج، والله أعلم. قوله: "أتستطيع" فيه ملاطفة الطالب للشيخ، وكأنه أراد أن يريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون الشيخ نسي ذلك لبعد العهد. قوله: "فدعا بماء" وفي رواية وهب في الباب الذي بعده " فدعا بتور من ماء". والتور بمثناة مفتوحة قال الداودي: قدح. وقال الجوهري: إناء يشرب منه. وقيل هو الطست، وقيل يشبه الطست، وقيل هو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة. وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عند المصنف في باب الغسل في المخضب في أول هذا الحديث: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر " والصفر بضم المهملة وإسكان الفاء وقد تكسر صنف من حديد النحاس، قيل إنه سمي بذلك لكونه يشبه الذهب، ويسمى أيضا الشبه بفتح المعجمة والموحدة. والتور المذكور يحتمل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها. قوله: "فأفرغ" وفي رواية موسى عن وهيب " فأكفأ " بهمزتين. وفي رواية سليمان بن حرب في باب مسح الرأس مرة عن وهيب " فكفأ " بفتح الكاف، وهما لغتان بمعنى يقال كفأ الإناء وأكفأ إذا أماله. وقال الكسائي كفأت الإناء كببته وأكفأته أملته. والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد كما صرح به في رواية مالك. قوله: "فغسل يده مرتين" كذا في رواية مالك بإفراد يده. وفي رواية وهيب وسليمان بن بلال عند المصنف وكذا للدراوردي عند أبي نعيم " فغسل يديه " بالتثنية، فيحمل الإفراد في رواية مالك على الجنس، وعند مالك " مرتين"، وعند هؤلاء " ثلاثا"، وكذا لخالد بن عبد الله عند مسلم، وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد، وقد ذكر مسلم من طريق بهز عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو بن يحيى إملاء، فتأكد ترجيح روايته، ولا يقال يحمل على واقعتين لأنا نقول: المخرج متحد والأصل عدم التعدد. وفيه من الأحكام غسل اليد قبل إدخالها الإناء ولو كان من غير نوم كما تقدم مثله في حديث عثمان، والمراد باليدين هنا الكفان لا غير. قوله: "ثم تمضمض واستنثر"، وللكشميهني: "مضمض واستنشق " والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس، وقد ذكر في رواية وهيب الثلاثة وزاد بعد قوله ثلاثا " بثلاث غرفات"؛ واستدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة. وفي رواية خالد بن عبد الله الآتية بعد قليل " مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا " وهو صريح في الجمع كل مرة، بخلاف رواية وهيب فإنه تطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية كما نبه عليه ابن دقيق العيد. ووقع في رواية سليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التور " فمضمض واستنثر ثلات مرات من غرفة واحدة " واستدل بها على الجمع بغرفة واحدة، وفيه نظر لما أشرنا إليه من اتحاد المخرج فتقدم الزيادة، ولمسلم من رواية خالد المذكورة " ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض". فاستدل بها على تقديم المضمضة على الاستنشاق لكونه عطف بالفاء التعقيبية وفيه بحث. قوله: "ثم غسل وجهه ثلاثا" لم تختلف الروايات في ذلك، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح أن يستدل به على

(1/291)


وجوب الترتيب للإتيان بقوله: "ثم " في الجميع، لأن كلا من الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل. قوله: "ثم غسل يديه مرتين مرتين" كذا بتكرار مرتين، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين، لكن في رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وفيه: "ويده اليمنى ثلاثا ثم الأخرى ثلاثا " فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متحد. قوله: "إلى المرفقين" كذا للأكثر وللمستملي والحموي إلى المرفقين بالإفراد على إرادة الجنس، وقد اختلف العلماء: هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا؟ فقال المعظم: نعم، وخالف زفر. وحكاه بعضهم عن مالك، واحتج بعضهم للجمهور بأن إلى في الآية بمعنى مع كقوله تعالى :{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، وتعقب بأنه خلاف الظاهر، وأجيب بأن القرينة دلت عليه وهي كون ما بعد " إلى " من جنس ما قبلها. وقال ابن القصار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمار " أنه تيمم إلى الإبط " وهو من أهل اللغة، فلما جاء قوله تعالى :{إِلَى الْمَرَافِقِ} بقي المرفق مغسولا مع الذراعين بحق الاسم، انتهى. فعلى هذا فإلى هنا حد للمتروك من غسل اليدين لا للمغسول، وفي كون ذلك ظاهرا من السياق نظر، والله أعلم. وقال الزمخشري: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى :{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} دليل عدم الدخول النهي عن الوصال، وقول القائل حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لا دليل فيه على أحد الأمرين، قال: فأخذ العلماء بالاحتياط ووقف زفر مع المتيقن، انتهى. ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء " فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين " وفيه عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " لكن إسناده ضعيف، وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء " وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق " وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا: "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه " فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهويه: "إلى " في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع، فبينت السنة أنها بمعنى مع، انتهى. وقد قال الشافعي في الأم: لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء هو العظم الناتئ في آخر الذراع سمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه. قوله: "ثم مسح رأسه" زاد ابن الطباع " كله " كما تقدم عن رواية ابن خزيمة. وفي رواية خالد ابن عبد الله برأسه بزيادة الباء. قال القرطبي: الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه. وقيل دخلت الباء لتفيد معنى آخر وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال وامسحوا برءوسكم الماء فهو على القلب، والتقدير امسحوا رءوسكم بالماء. وقال الشافعي: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ. والفرق بينه وبين قوله تعالى :{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم أن
ـــــــ
(1) وأصح من هذه الأحاديث ما رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه "ثم غسل يديه حتى أشرع في العضد-الى أن قال- ثم غسل رجليه حتى أشرع في الساق" فهذا الحديث صحيح صريح في إدخال الكعبين والمرفقين في المغسول

(1/292)


المسح فيه بدل عن الغسل ومسح الرأس أصل فافترقا، ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع. فإن قيل فلعله اقتصر على مسح الناصية لعذر - لأنه كان في سفر وهو مظنة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة بن شعبة - قلنا: قد روى عنه مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة ولا تعرض لسفر، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس. وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند، وظهر بهذا جواب من أورد أن الحجة حينئذ بالمسند فيقع المرسل لغوا، وقد قررت جواب ذلك فيما كتبته على علوم الحديث لابن الصلاح. وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال: "ومسح مقدم رأسه " أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه. وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم. وهذا كله مما يقوي به المرسل المتقدم ذكره والله أعلم. قوله: "بدأ بمقدمة رأسه" الظاهر أنه من الحديث وليس مدرجا من كلام مالك، ففيه حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه لظاهر قوله: "أقبل وأدبر". ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وسيأتي عند المصنف قريبا من رواية سليمان بن بلال " فأدبر بيديه وأقبل " فلم يكن في ظاهره حجة لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين متحد، فهما بمعنى واحد. وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم فيحمل قوله: "أقبل " على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي بدأ بقبل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك. والحكمة في هذا الإقبال والإدبار استيعاب جهتي الرأس بالمسح، فعلى هذا يختص ذلك بمن له شعر، والمشهور عمن أوجب التعميم الأولى واجبة والثانية سنة، ومن هنا يتبين ضعف الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التعميم، والله أعلم قوله: "ثم غسل رجليه" زاد في رواية وهيب الآتية " إلى الكعبين " والبحث فيه كالبحث في قوله إلى المرفقين، والمشهور أن الكعب هو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، وحكى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك، وروى عن ابن القاسم عن مالك مثله، والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة، وقد أكثر المتقدمون من الرد على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة " فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه " وقيل إن محمدا إنما رأى ذلك في حديث قطع المحرم الخفين إلى الكعبين إذا لم يجد النعلين. وفي هذا الحديث من الفوائد الإفراغ على اليدين معا في ابتداء الوضوء، وأن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة وبعضه بمرتين وبعضه بثلاث، وفيه مجيء الإمام إلى بيت بعض رعيته وابتداؤهم إياه بما يظنون أن له به حاجة، وجواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، والتعليم بالفعل، وأن الاغتراف من الماء القليل للتطهر لا يصير الماء مستعملا لقوله في رواية وهيب وغيره: "ثم أدخل يده فغسل وجهه. الخ"، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها، واستدل به أبو عوانة في صحيحه على جواز التطهر بالماء المستعمل، وتوجيهه أن النية لم تذكر فيه، وقد أدخل يده للاغتراف بعد غسل الوجه وهو وقت غسلها. وقال

(1/293)


الغزالي: "مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا لأن الاستعمال إنما يقع من المغترف منه، وبهذا قطع البغوي". واستدل به المصنف على استيعاب مسح الرأس، وقد قدمنا أنه يدل لذلك ندبا لا فرضا، وعلى أنه لا يندب تكريره كما سيأتي في باب مفرد، وعلى الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة كما سيأتي أيضا، وعلى جواز التطهر من آنية النحاس وغيره.

(1/294)


39 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
186- حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنْ التَّوْرِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ غَرَفَاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ"
قوله: "باب غسل الرجلين إلى الكعبين" تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله.وعمرو المذكور هو ابن يحيى بن عمارة شيخ مالك المتقدم، وعمرو بن أبي حسن عم أبيه كما قدمناه، وسماه هناك جده مجازا، وأغرب الكرماني - تبعا لصاحب الكمال - فقال: عمرو بن أبي حسن جد عمرو بن يحيى من قبل أمه، وقد قدمنا أن أم عمرو بن يحيى ليست بنتا لعمرو بن أبي حسن فلم يستقم ما قاله بالاحتمال. قوله: "فتوضأ لهم" أي لأجلهم "وضوء النبي صلى الله عليه وسلم" أي مثل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وأطلق عليه وضوءه مبالغة. قوله: "ثم أدخل يده فغسل وجهه" بين في هذه الرواية تجديد الاغتراف لكل عضو، وأنه اغترف بإحدى يديه، وكذا هو في باقي الروايات، وفي مسلم وغيره. لكن وقع في رواية ابن عساكر وأبى الوقت من طريق سليمان بن بلال الآتية " ثم أدخل يديه " بالتثنية، وليس ذلك في رواية أبي ذر ولا الأصيلي ولا في شيء من الروايات خارج الصحيح قاله النووي، وأظن أن الإناء كان صغيرا فاغترف بإحدى يديه ثم أضافها إلى الأخرى كما تقدم نظيره في حديث ابن عباس، وإلا فالاغتراف باليدين جميعا أسهل وأقرب تناولا كما قال الشافعي. قوله: "ثم غسل يديه مرتين" المراد غسل كل يد مرتين كما تقدم في طريق مالك " ثم غسل يديه مرتين مرتين " وليس المراد توزيع المرتين على اليدين فكأن يكون لكل يد مرة واحدة.

(1/294)


باب استعمل فضل وضوء الناس
...
40 - باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ
187- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ".
[الحديث187- أطرافه في:5859,5786,3566,3553,634,633,501,499,495,376]

(1/294)


41 - باب مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ
191- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ "أَنَّهُ أَفْرَغَ مِنْ الإِنَاءِ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ غَسَلَ أَوْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثًا فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة" تقدم الكلام على ذلك قريبا في باب مسح الرأس، وتقدمت المسألة أيضا في حديث ابن عباس في أوائل الوضوء. قوله: "ثم غسل" أي فمه "أو مضمض" كذا عنده بالشك، وأخرجه مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد بسنده هذا من غير شك ولفظه: "ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق " وأخرجه أيضا الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد كذا، فالظاهر أن الشك فيه من مسدد شيخ البخاري. وأغرب الكرماني فقال: الظاهر أن الشك فيه من التابعي. قوله: "من كفة واحدة" كذا في رواية أبي ذر، وفي نسخة " من غرفة واحدة " وللأكثر " من كف " بغير هاء. قال ابن بطال: المراد بالكفة الغرفة، فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، قال: ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في الكف، ومحصله أن المراد بقوله كفة: فعلة، لا أنها تأنيث الكف. وقال صاحب المشارق: قوله من كفة هي بالضم والفتح كغرفة وغرفة أي ما ملأ كفه من الماء. قوله: "ثم غسل يديه" لم يذكر غسل الوجه اختصارا، وهو ثابت في رواية مسلم وغيره. وبقية مباحث هذا الحديث تقدمت قريبا.

(1/297)


42 - باب مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً
192- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ بِهِمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ"
و حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً
قوله: "باب مسح الرأس مرة" للأصيلي مسحة. قوله: "فدعا بتور من ماء" كذا للأكثر، وللكشميهني:

(1/297)


43 - باب وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ
وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ
193- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا".
قوله: "باب وضوء الرجل" بضم الواو لأن القصد به الفعل.قوله: "وفضل وضوء المرأة" بفتح الواو، لأن المراد به الماء الفاضل في الإناء بعد الفراغ من الوضوء، وهو بالخفض عطفا على قوله: "وضوء الرجل". قوله:
ـــــــ
(1)سبق فيص 260 أنها زيادة شاذة فلا يعتمد عليها. والله أعلم
(2) كتاب له في الرد على أبوزيد الدبوسي

(1/298)


"وتوضأ عمر بالحميم" أي بالماء المسخن، وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ: "إن عمر كان يتوضأ بالحميم ويغتسل منه " ورواه ابن أبي شيبة والدارقطني بلفظ: "كان يسخن له ماء في قمقم ثم يغتسل منه " قال الدارقطني إسناده صحيح، ومناسبته للترجمة من جهة أن الغالب أن أهل الرجل تبع له فيما يفعل، فأشار البخاري إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل، لأن الطاهر أن امرأة عمر كانت تتوضأ بفضله أو معه، فيناسب قوله: "وضوء الرجل مع امرأته " أي من إناء واحد. وأما مسألة التطهر بالماء المسخن فاتفقوا على جوازه إلا ما نقل عن مجاهد. قوله: "ومن بيت نصرانية" هو معطوف على قوله: "بالحميم " أي وتوضأ عمر من بيت نصرانية، وهذا الأثر وصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما عن ابن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه به، ولفظ الشافعي " توضأ من ماء في جرة نصرانية " ولم يسمعه ابن عيينة من زيد بن أسلم، فقد رواه البيهقي من طريق سعدان ابن نصر عنه قال: "حدثونا عن زيد بن أسلم " فذكره مطولا. ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عنه بإثبات الواسطة فقال: "عن ابن زيد بن أسلم عن أبيه به " وأولاد زيد هم عبد الله وأسامة وعبد الرحمن، وأوثقهم وأكبرهم عبد الله، وأظنه هو الذي سمع ابن عيينة منه ذلك، ولهذا جزم مه البخاري. ووقع في رواية كريمة بحذف الواو من قوله: "ومن بيت " وهذا الذي جرأ الكرماني أن يقول: المقصود ذكر استعمال سؤر المرأة، وأما الحميم فذكره لبيان الواقع. وقد عرفت أنهما أثران متغايران، وهذا الثاني مناسب لقوله: "وفضل وضوء المرأة " لأن عمر توضأ بمائها ولم يستفصل، مع جواز أن تكون تحت مسلم واغتسلت من حيض ليحل له وطؤها ففضل منه ذلك الماء، وهذا وإن لم يقع التصريح به لكنه محتمل، وجرت عادة البخاري بالتمسك بمثل ذلك عند عدم الاستفصال، وإن كان غيره لا يستدل بذلك ففيه دليل على جواز التطهر بفضل وضوء المرأة المسلمة لأنها لا تكون أسوأ حالا من النصرانية. وفيه دليل على جواز استعمال مياه أهل الكتاب من غير استفصال. وقال الشافعي في الأم: لا بأس بالوضوء من ماء المشرك وبفضل وضوئه ما لم تعلم فيه نجاسة. وقال ابن المنذر: انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إذا كانت جنبا. قوله: "حدثنا عبد الله بن يوسف" هو التنيسي أحد رواة الموطأ. قوله: "كان الرجال والنساء" ظاهرة التعميم فاللام للجنس لا للاستغراق. قوله: "في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم" يستفاد منه أن البخاري يرى أن الصحابي إذا أضاف الفعل إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون حكمه الرفع وهو الصحيح، وحكى عن قوم خلافه لاحتمال أنه لم يطلع، وهو ضعيف لتوفر دواعي الصحابة على سؤالهم إياه عن الأمور التي تقع لهم ومنهم، ولو لم يسألوه لم يقروا على فعل غير الجائز في زمن التشريع، فقد استدل أبو سعيد وجابر على إباحة العزل بكونهم كانوا يفعلونه والقرآن ينزل ولو كان منهيا لنهى عنه القرآن، وزاد ابن ماجه عن هشام بن عمار عن مالك في هذا الحديث: "من إناء واحد"، وزاد أبو داود من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر " ندلي فيه أيدينا " وفيه دليل على أن الاغتراف من الماء القليل لا يصيره مستعملا لأن أوانيهم كانت صغارا كما صرح به الشافعي في الأم في عدة مواضع، وفيه دليل على طهارة الذمية واستعمال فضل طهورها وسؤرها لجواز تزوجهن وعدم التفرقة في الحديث بين المسلمة وغيرها. قوله: "جميعا" ظاهره أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة، وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعا في موضع واحد، هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة، والزيادة المتقدمة في قوله: "من إناء واحد " ترد عليه، وكأن هذا القائل استبعد اجتماع

(1/299)


الرجال والنساء الأجانب، وقد أجاب ابن التين عنه بما حكاه عن سحنون أن معناه كان الرجال يتوضؤون ويذهبون ثم تأتي النساء فيتوضأن، وهو خلاف الظاهر من قوله: "جميعا"، قال أهل اللغة: الجميع ضد المفترق، وقد وقع مصرحا بوحدة الإناء في صحيح ابن خزيمة في هذا الحديث من طريق معتمر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهر منه، والأولى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم. ونقل الطحاوي ثم القرطبي والنووي الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد. وفيه نظر، لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم، وهذا الحديث حجة عليهم. ونقل النووي أيضا الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس، وفيه نظر أيضا فقد أثبت الخلاف فيه الطحاوي، وثبت عن ابن عمر والشعبي والأوزاعي المنع لكن مقيدا بما إذا كانت حائضا، وأما عكسه فصح عن عبد الله بن سرجس الصحابي وسعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما منعوا التطهر بفضل المرأة، وبه قال أحمد وإسحاق، لكن قيداه بما إذا خلت به لأن أحاديث الباب ظاهرة في الجواز إذا اجتمعا، ونقل الميموني عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة، قال: لكن صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به، وعورض بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة منهم ابن عباس والله أعلم. وأشهر الأحاديث في ذلك من الجهتين حديث الحكم بن عمرو الغفاري في المنع، وحديث ميمونة في الجواز. أما حديث الحكم بن عمرو فأخرجه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وأغرب النووي فقال: اتفق الحفاظ على تضعيفه. وأما حديث ميمونة فأخرجه مسلم، لكن أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني. فذكر الحديث، وقد ورد طريق أخرى بلا تردد لكن راويها غير ضابط وقد خولف، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد"، وفي المنع أيضا ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: لقيت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعا " رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل مردودة لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد ابن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره، ومن أحاديث الجواز ما أخرجه أصحاب السنن والدارقطني وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما من حديث ابن عباس عن ميمونة قالت: أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه، فقلت له فقال: "الماء ليس عليه جنابة " واغتسل منه. لفظ الدارقطني. وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم. وقول أحمد إن الأحاديث من الطريقين مضطربة إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي، أو يحمل النهي على التنزيه جمعا بين الأدلة. والله أعلم.

(1/300)


باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوء على مغمى عليه
...
44 - باب صَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ
194- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ "جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لاَ أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ الْمِيرَاثُ إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلاَلَةٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ".
[الحديث194- أطرافه في:7309,6743,6723,5676,5664,5651,4577]
قوله: "باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه" بفتح الواو لأن المراد به الماء الذي توضأ به، والمغمى بضم الميم وإسكان المعجمة من أصابه الإغماء. قوله: "يعودني" زاد المصنف في الطب " ماشيا " قوله: "لا أعقل" أي لا أفهم، وحذف مفعوله إشارة إلى عظم الحال، أي لا أعقل شيئا، وصرح به في التفسير، وله في الطب " فوجدني قد أغمي علي " وهو المطابق للترجمة. قوله: "من وضوئه" يحتمل أن يكون المراد صب علي بعض الماء الذي توضأ به أو مما بقي منه، والأول المراد، فللمصنف في الاعتصام " ثم صب وضوءه علي " ولأبي داود " فتوضأ وصبه علي " قوله: "لمن الميراث" اللام بدل من المضاف إليه كأنه قال ميراثي، ويؤيده أن في الاعتصام أنه قال: "كيف أصنع في مالي " والمراد بآية الفرائض هنا قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} كما سيأتي مبينا في التفسير، ويذكر هناك بقية مباحثه إن شاء الله تعالى.

(1/301)


باب الغسل والوضوء في المحضب والقدح والخشب والحجارة
...
45 - باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ
195- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ وَبَقِيَ قَوْمٌ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ قُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ قَالَ ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً".
قوله: "باب الغسل والوضوء في المخضب" هو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح للضاد المعجمة بعدها موحدة، المشهور أنه الإناء الذي يغسل فيه الثياب من أي جنس كان، وقد يطلق على الإناء صغيرا أو كبيرا والقدح أكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فمه، وعطفه الخشب والحجارة على المخضب والقدح ليس من عطف العام على الخاص فقط بل بين هذين وهذين عموم وخصوص من وجه. قوله: "حدثنا عبد الله بن منير" هو بضم الميم وكسر النون بعدها ياء خفيفة كما قدمناه في المقدمة لكن وقع هنا في رواية الأصيلي: "ابن المنير " بزيادة الألف واللام، فقد يلتبس بابن المنير الذي ننقل عنه في هذا الشرح لكنه بتثقيل الياء ونون مفتوحة، وهو متأخر عن هذا الراوي بأكثر من أربعمائة سنة. قوله: "حضرت الصلاة" هي العصر. قوله: "إلى أهله" أي لإرادة الوضوء "وبقي قوم" أي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، " ومن " في قوله: "من حجارة " لبيان الجنس. قوله: "فصغر" بفتح الصاد المهملة وضم الغين المعجمة أي لم يسع بسط كفه صلى الله عليه وسلم فيه، وللإسماعيلي: "فلم يستطع أن يبسط كفه من صغر المخضب " وهو دال على ما قلناه إن المخضب قد يطلق على الإناء الصغير، ومباحث هذا الحديث تقدمت في باب التماس

(1/301)


الوضوء، وباقي الكلام عليه يأتي في علامات النبوة إن شاء الله تعالى. وقد أخرجه المصنف هناك عن عبد الله بن منير أيضا لكنه قال: "عن يزيد بن هارون " بدل عبد الله بن بكر، فكأنه سمعه من شيخين، حدثه كل منهما به عن حميد.
196- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ"
قوله: "عن بريد" بالموحدة والراء مصغرا هو ابن عبد الله بن أبي بردة، والقدر المذكور من المتن تقدم بعضه معلقا في باب استعمال فضل وضوء الناس، وسيأتي مطولا في المغازي إن شاء الله تعالى. والغرض منه ذكر القدح وقد ذكرنا ما فيه.
197- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: "أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ"
قوله: "أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب إلى جده، وعبد العزيز شيخه هو ابن عبد الله بن أبي سلمة نسب إلى جده أيضا، فاتفقا في أن كلا منهما ينسب إلى جده وفي أن كلا منهما اسم أبيه عبد الله وأن كلا منهما يكنى أبا عبد الله وأن كلا منهما ثقة حافظ فقيه. قوله: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وللكشميهني وأبي الوقت " أتانا". قوله: "فغسل وجهه" تفسير لقوله فتوضأ، وفيه حذف تقديره فمضمض واستنشق كما دلت عليه باقي الروايات، والمخرج متحد، وقد تقدمت مباحثه، وأن عبد العزيز هذا زاد في روايته أن التور كان من صفر أي نحاس جيد.
198- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَتَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الْآخَرُ قُلْتُ لاَ قَالَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ "هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ" وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ".
[الحديث198-أطرافه في:
7303,5714,4445,4442,3384,3099,2588,716,713,712,687,683,679,665,664]

(1/302)


قوله: "لما ثقل" أي في المرض، وهو بضم القاف بوزن صغر قاله في الصحاح، وفي القاموس لشيخنا: ثقل كفرح فهو ثاقل وثقيل اشتد مرضه، فلعل في النسخة سقطا(1) والله أعلم. قوله: "في أن يمرض" بفتح الراء الثقيلة، أي يخدم في مرضه. قوله: "فأذن" بكسر المعجمة وتشديد النون المفتوحة أي الأزواج، واستدل به على أن القسم كان واجبا عليه، ويحتمل أن يكون فعل ذلك تطييبا لهن. قوله: "قال عبيد الله" هو الراوي له عن عائشة، وهو بالإسناد المذكور بغير أداة عطف. قوله: "وكانت" هو معطوف أيضا بالإسناد المذكور. قوله: "هريقوا" كذا للأكثر، وللأصيلي: "أهريقوا " بزيادة الهمزة، قال ابن التين هو بإسكان الهاء، ونقل عن سيبويه أنه قال أهراق يهريق أهرياقا مثل اسطاع يسطيع اسطياعا بقطع الألف وفتحها في الماضي وضم الياء في المستقبل وهي لغة في أطاع يطيع فجعلت السين والهاء عوضا من ذهاب حركة عين الفعل، وروى بفتح الهاء واستشكله، ويوجه بأن الهاء مبدلة من الهمزة لأن أصل هراق أراق ثم اجتلبت الهمزة فتحريك الهاء على إبقاء البدل والمبدل منه وله نظائر، وذكر له الجوهري توجيها آخر وأن أصله أأريقوا فأبدلت الهمزة الثانية هاء للخفة، وجزم ثعلب في الفصيح بأن أهريقه بفتح الهاء والله أعلم. قوله: "من سبع قرب" قال الخطابي: يشبه أن يكون خص السبع تبركا بهذا العدد، لأن له دخولا في كثير من أمور الشريعة وأصل الخلقة. وفي رواية للطبراني في هذا الحديث: "من آبار شتى " والظاهر أن ذلك للتداوي لقوله في رواية أخرى في الصحيح " لعلي أستريح فأعهد " أي أوصى. قوله: "وأجلس في مخضب حفصة" زاد ابن خزيمة من طريق عروة عن عائشة أنه كان من نحاس، وفيه إشارة إلى الرد على من كره الاغتسال فيه كما ثبت ذلك عن ابن عمر. وقال عطاء: إنما كره من النحاس ريحه. قوله: "نصب عليه من تلك" أي القرب السبع. قوله: "حتى طفق" يقال طفق يفعل كذا إذا شرع في فعل واستمر فيه. قوله: "ثم خرج إلى الناس" زاد المصنف من طريق عقيل عن الزهري " فصلى بهم وخطبهم ثم خرج " وهو في باب الوفاة في آخر كتاب المغازي، وسيأتي الكلام على بقية مباحثه هناك، وعلى ما فيه من أحكام الإمامة في باب حد المريض أن يشهد الجماعة إن شاء الله تعالى.

(1/303)


46 - باب الْوُضُوءِ مِنْ التَّوْرِ
199- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ عَمِّي يُكْثِرُ مِنْ الْوُضُوءِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: "أَخْبِرْنا كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاغْتَرَفَ بِهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَدْبَرَ بِهِ وَأَقْبَلَ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ".
قوله: "باب الوضوء من التور" تقدمت مباحث حديث الباب قريبا، وأن التور بفتح المثناة شبه الطست وقيل هو الطست. ووقع في حديث شريك عن أنس في المعراج. " فأتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب " وظاهره المغايرة بينهما، ويحتمل الترادف، وكأن الطست أكبر من التور. قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال، والإسناد
(1) ليس في القاموس سقط,فقد أورد الذى بوزن كرم, ثم أورد الذى بوزن فرح ,وهذا غير ذلك

(1/303)


كله مدنيون. قوله: "كان عمي" هو عمرو بن أبي حسن كما تقدم وهو عمه على الحقيقة. قوله: "ثم أدخل يده في التور فمضمض" فيه حذف تقديره ثم أخرجها فمضمض. وقد صرح به مسلم. قوله: "من غرفة واحدة" بتعلق بقوله: "فمضمض واستنثر " والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات كل مرة من غرفة، ويحتمل أن يتعلق بقوله: "ثلاث مرات " والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات من غرفة واحدة، والأول موافق لباقي الروايات فهو أولى. قوله: "فقال" أي عبد الله بن زيد "هكذا" هذه الزيادة صريحة في رفع الحديث وإن كان أول سياق الحديث يدل عليه.
200- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ"
قوله: "حدثنا حماد" هو ابن زيد ولم يسمع مسدد من حماد بن سلمة. قوله: "رحراح" بمهملات الأولى مفتوحة بعدها سكون أي متسع الفم. وقال الخطابي: الرحراح الإناء الواسع الصحن القريب القعر ومثله لا يسع الماء الكثير فهو أدل على عظم المعجزة. قلت: وهذه الصفة شبيهة بالطست، وبهذا يظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة. وروى ابن خزيمة هذا الحديث عن أحمد بن عبدة عن حماد بن زيد فقال بدل رحراح " زجاج " بزاي مضمومة وجيمين، وبوب عليه الوضوء من آنية الزجاج ضد قول من زعم من المتصوفة أن ذلك إسراف لإسراع الكسر إليه. قلت: وهذه اللفظة تفرد بها أحمد بن عبدة، وخالفه أصحاب حماد بن زيد فقالوا رحراح. وقال بعضهم " واسع الفم " وهي رواية الإسماعيلي عن عبد الله بن ناجية عن محمد بن موسى وإسحاق بن أبي إسرائيل وأحمد بن عبدة كلهم عن حماد. وكأنه ساقه على لفظ محمد بن موسى، وصرح جمع من الحذاق بأن أحمد بن عبدة صحفها، ويقوي ذلك أنه أتى في روايته بقوله: "أحسبه " فدل على أنه لم يتقنه، فإن كان ضبطه فلا منافاة بين روايته ورواية الجماعة لاحتمال أن يكونوا وصفوا هيئته وذكر هو جنسه. وفي مسند أحمد عن ابن عباس أن المقوقس أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم قدحا من زجاج، لكن في إسناده مقال. قوله: "فحزرت " بتقديم الزاي أي قدرت، وتقدم من رواية حميد أنهم كانوا ثمانين وزيادة، وهنا قال ما بين السبعين إلى الثمانين، والجمع بينهما أن أنسا لم يكن يضبط العدة بل كان يتحقق أنها تنيف على السبعين ويشك هل بلغت العقد الثامن أو تجاوزته، فربما جزم بالمجاوزة حيث يغلب ذلك على ظنه. واستدل الشافعي بهذا الحديث على رد قول من قال من أصحاب الرأي: إن الوضوء مقدر بقدر من الماء معين، ووجه الدلالة أن الصحابة اغترفوا من ذلك القدح من غير تقدير، لأن الماء النابع لم يكن قدره معلوما لهم فدل على عدم التقدير، وبهذا يظهر مناسبة تعقيب المصنف هذا الحديث بباب الوضوء بالمد، والمد إناء يسع رطلا وثلثا بالبغدادي، قاله جمهور أهل العلم، وخالف بعض الحنفية فقالوا المد رطلان.

(1/304)


47- باب الوضوء بالمد
201- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ جَبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ".

(1/304)


قوله: "ابن جبر" بفتح الجيم وسكون الموحدة، ومن قاله بالتصغير فقد صحف، لأن ابن جبير وهو سعيد لا رواية له عن أنس في هذا الكتاب، والراوي هنا هو عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك الأنصاري، وقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي نعيم شيخ البخاري قال: حدثنا مسعر حدثني شيخ من الأنصار يقال له ابن جبر. وفي الإسناد كوفيان أبو نعيم وشيخه، وبصريان أنس والراوي عنه. قوله: "يغسل" أي جسده، والشك فيه من البخاري أو من أبي نعيم لما حدثه به، فقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي نعيم فقال: "يغتسل " ولم يشك. قوله: "بالصاع" هو إناء يسع خمسة أرطال وثلثا بالبغدادي. وقال بعض الحنفية ثمانية. قوله: "إلى خمسة أمداد" أي كان ربما اقتصر على الصاع وهو أربعة أمداد، وربما زاد عليها إلى خمسة، فكأن أنسا لم يطلع على أنه استعمل في الغسل أكثر من ذلك لأنه جعلها النهاية، وقد روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد هو الفرق، قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع، وروى مسلم أيضا من حديثها أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد، فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة، وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع، وحمله الجمهور على الاستحباب لأن أكثر من قدر وضوءه وغسله صلى الله عليه وسلم من الصحابة قدرهما بذلك، ففي مسلم عن سفينة مثله، ولأحمد وأبي داود بإسناد صحيح عن جابر مثله، وفي الباب عن عائشة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وهذا إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة، وهو أيضا في حق من يكون خلقه معتدلا، وإلى هذا أشار المصنف في أول كتاب الوضوء بقوله: "وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم".

(1/305)


48 - باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
202- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ"
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدًا......... فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ
قوله: "باب المسح على الخفين" نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روى عنه منهم إنكاره فقد روى عنه إثباته.وقال ابن عبد البر: "لا أعلم روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا، ثانيهما للمسافر دون المقيم. وهذا الثاني ما في المدونة وبه جزم ابن الحاجب، وصحح الباجي الأول ونقله عن ابن وهب، وعن ابن نافع في المبسوطة نحوه وأن مالكا إنما كان يتوقف فيه في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز، وهذا مثل ما صح عن أبي أيوب الصحابي". وقال ابن المنذر اختلف العلماء أيهما أفضل: المسح على الخفين، أو نزعهما وغسل القدمين؟

(1/305)


قال: والذي أختاره أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض. قال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه ا ه. وقال الشيخ محيي الدين: وقد صرح جمع من الأصحاب بأن الغسل أفضل بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة كما قالوه في تفضيل القصر على الإتمام، وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين ومنهم العشرة، وفي ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين. قوله: "حدثنا أصبغ" بفتح الهمزة وكأن البخاري اختار الرواية عنه لهذا الحديث لقوله: "المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أكابر أصحابه في الحضر أثبت عندنا وأقوى من أن نتبع مالكا على خلافه". وعمرو هو ابن الحارث، وهو ومن دونه ثلاثة مصريون، والذين فوقه ثلاثة مدنيون، والإسناد رواية تابعي عن تابعي: أبو النضر عن أبي سلمة، وصحابي عن صحابي. قوله: "وأن عبد الله" هو معطوف على قوله عن عبد الله بن عمر فهو موصول إذا حملناه على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله وإلا فأبو سلمة لم يدرك القصة، وقد أخرجه أحمد من طريق أخرى عن أبي النضر عن أبي سلمة عن ابن عمر قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر قال لي سعد: سل أباك " فذكر القصة. ورواه ابن خزيمة من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر نحوه وفيه أن عمر قال: "كنا ونحن مع نبينا نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسا". قوله: "فلا تسأل عنه غيره" أي لقوة الوثوق بنقله، ففيه دليل على أن الصفات الموجبة للترجيح إذا اجتمعت في الراوي كانت من جملة القرائن التي إذا حفت خبر الواحد قامت مقام الأشخاص المتعددة، وقد يفيد العلم عند البعض دون البعض، وعلى أن عمر كان يقبل خبر الواحد، وما نقل عنه من التوقف إنما كان عند وقوع ريبة له في بعض المواضع، واحتج به من قال بتفاوت رتب العدالة ودخول الترجيح في ذلك عند التعارض، ويمكن إبداء الفارق في ذلك بين الرواية والشهادة، وفيه تعظيم عظيم من عمر لسعد، وفيه أن الصحابي القديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجلية في الشرع ما يطلع عليه غيره، لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قديم صحبته وكثرة روايته، وقد روى قصته مالك في الموطأ عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه " أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد وهو أميرها فرآه يمسح على الخفين فأنكر ذلك عليه فقال له سعد سل أباك " فذكر القصة. ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما أنكر المسح في الحضر لا في السفر لظاهر هذه القصة، ومع ذلك فالفائدة بحالها. والله أعلم قوله: "وقال موسى بن عقبة" هذا التعليق وصله الإسماعيلي وغيره بهذا الإسناد، وفيه ثلاثة من التابعين على الولاء أولهم موسى، وموسى وأبو النضر قرينان مدنيان. قوله: "أن سعدا حدثه" أي حدث أبا سلمة، والمحدث به محذوف تبين من الرواية الموصولة أن لفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين". قوله: "فقال" هو معطوف عل المقدر. قوله: "نحوه" بالنصب لأنه مقول القول، وظهر أن قول عمر في هذه الرواية المعلقة بمعنى الرواية التي وصلها المؤلف لا بلفظها. وقد وصله الإسماعيلي أيضا من طريق أخرى عن موسى بن عقبة ولفظه: "وأن عمر قال لعبد الله - أي ابنه كأنه يلومه - إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تبتغ وراء حديثه شيئا.
203- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ نَافِعِ

(1/306)


ابْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ"
قوله: "حدثنا الليث" بن سعد "عن يحيى بن سعيد" هو الأنصاري وقد تقدم هذا الحديث من طريق أخرى عنه في باب الرجل يوضئ صاحبه، وأن فيه أربعة من التابعين على الولاء. وأخرجه المصنف في المغازي من طريق أخرى عن الليث فقال: عن عبد العزيز بن أبي سلمة بدل يحيى بن سعيد، وسياقه أتم، فكأن لليث فيه شيخين. قوله: "أنه خرج لحاجته" في الباب الذي بعد هذا أنه كان في سفر، وفي المغازي أنه كان في غزوة تبوك على تردد في ذلك من رواته. ولمالك وأحمد وأبي دواد من طريق عباد بن زياد عن عروة بن المغيرة أنه كان في غزوة تبوك بلا تردد، وأن ذلك كان عند صلاة الفجر. قوله: "فاتبعه" بتشديد المثناة المفتوحة، وللمصنف من طريق مسروق عن المغيرة في الجهاد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره أن يتبعه بالإداوة، وزاد: "فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته، ثم أقبل فتوضأ " وعند أحمد من طريق أخرى عن المغيرة أن الماء الذي توضأ به أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة كانت جلد ميتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "سلها فإن كانت دبغتها فهو طهور " وأنها قالت: أي والله لقد دبغتها. قوله: "فتوضأ" زاد في الجهاد " وعليه جبة شامية " ولأبي داود " من صوف من جباب الروم"، وزاد المصنف في الطريق الذي في " باب الرجل يوضئ صاحبه ": "فغسل وجهه ويديه " والفاء في فغسل تفصيلية، وتبين من ذلك أن المراد بقوله توضأ أي بالكيفية المذكورة، لا أنه غسل رجليه. واستدل به القرطبي على الاقتصار على فروض الوضوء دون سننه، لا سيما في حال مظنة قلة الماء كالسفر، قال: ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها فلم يذكرها المغيرة، قال: والظاهر خلافه. قلت بل فعلها وذكرها المغيرة، ففي رواية أحمد من طريق عباد بن زياد المذكورة " أنه غسل كفيه"، وله من وجه آخر قوي " فغسلهما فأحسن غسلهما " قال: وأشك أقال دلكهما بتراب أم لا. وللمصنف في الجهاد " أنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه " زاد أحمد " ثلاث مرات، فذهب يخرج يديه من كمية فكانا ضيقين، فأخرجهما من تحت الجبة " ولمسلم من وجه آخر " وألقى الجبة على منكبيه " ولأحمد " فغسل يده اليمين ثلاث مرات ويده اليسرى ثلاث مرات " وللمصنف " ومسح برأسه " وفي رواية لمسلم: "ومسح بناصيته وعلى عمامته وعلى الخفين " وسيأتي قوله: "إني أدخلتهما طاهرتين " في الباب الذي بعد هذا. وحديث المغيرة هذا ذكر البزار أنه رواه عنه ستون رجلا، وقد لخصت مقاصد طرقه الصحيحة في هذه القطعة، وفيه من الفوائد الإبعاد عند قضاء الحاجة، والتواري عن الأعين، واستحباب الدوام على الطهارة لأمره صلى الله عليه وسلم المغيرة أن يتبعه بالماء مع أنه لم يستنج به وإنما توضأ به حين رجع، وفيه جواز الاستعانة كما شرح في بابه، وغسل ما يصيب اليد من الأذى عند الاستجمار، وأنه لا يكفي إزالته بغير الماء، والاستعانة على إزالة الرائحة بالتراب ونحوه. وقد يستنبط منه أن ما انتشر عن المعتاد لا يزال إلا بالماء، وفيه الانتفاع بجلود الميتة إذا دبغت، والانتفاع بثياب الكفار حتى تتحقق نجاستها لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية ولم يستفصل، واستدل به القرطبي على أن الصوف لا ينجس بالموت لأن الجبة كانت شامية وكانت الشام إذ ذاك دار كفر ومأكول أهلها الميتات، كذا قال. وفيه الرد على من زعم أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في المائدة لأنها نزلت في

(1/307)


غزوة المريسيع وكانت هذه القصة في غزوة تبوك، وهي بعدها باتفاق، وسيأتي حديث جرير البجلي في معنى ذلك في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. وفيه التشمير في السفر، ولبس الثياب الضيقة فيه لكونها أعون على ذلك، وفيه المواظبة على سنن الوضوء حتى في السفر، وفيه قبول خبر الواحد في الأحكام ولو كانت امرأة، سواء كان ذلك فيما تعم به البلوى أم لا، لأنه صلى الله عليه وسلم قبل خبر الأعرابية كما تقدم. وفيه أن الاقتصار على غسل معظم المفروض غسله لا يجزئ لإخراجه صلى الله عليه وسلم يديه من تحت الجبة ولم يكتف فيما بقي منهما بالمسح عليه، وقد يستدل به على من ذهب إلى وجوب تعميم مسح الرأس لكونه كمل بالمسح على العمامة ولم يكتف بالمسح على ما بقي من ذراعيه.
204- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ". وَتَابَعَهُ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبَانُ عَنْ يَحْيَى
[الحديث204-طرفه في205]
قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" وللإسماعيلي من طريق الحسن بن موسى عن شيبان عن يحيى حدثني أبو سلمة حدثني جعفر بن عمرو بن أمية. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين على الولاء أولهم يحيى وهو تابعي صغير، وأبو سلمة وجعفر قرينان. قوله: "وتابعه" أي تابع شيبان "حرب" وهو ابن شداد، وحديثه موصول عند النسائي والطبراني. قوله: "وأبان" هو ابن يزيد العطار وهو معطوف على حرب، وحديثه موصول عند أحمد والطبراني.
205- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ"وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَمْرٍو قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عن يحيى" لأحمد عن أبي المغيرة عن الأوزاعي حدثني يحيى. قوله: "على عمامته وخفيه" هكذا رواه الأوزاعي وهو مشهور عنه. وأسقط بعض الرواة عنه جعفرا من الإسناد، وهو خطأ قاله أبو حاتم الرازي. قوله: "وتابعه" أي تابع الأوزاعي "معمر" ابن راشد في المتن لا في الإسناد، وهذا هو السبب في سياق المصنف الإسناد ثانيا ليبين أنه ليس في رواية معمر ذكر جعفر، وذكر أبو ذر في روايته لفظ المتن وهو قوله: "يمسح على عمامته " زاد الكشميهني: "وخفيه: "وسقط ذكر المتن من سائر الروايات في الصحيح، وراوية معمر قد أخرجها عبد الرزاق في مصنفه عن معمر بدون ذكر العمامة، لكن أخرجها ابن منده في كتاب الطهارة له من طريق معمر بإثباتها، وأغرب الأصيلي فيما حكاه ابن بطال فقال: ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي، لأن شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحدة، قال: وأما متابعة معمر فليس فيها ذكر العمامة، وهي أيضا مرسلة لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو. قلت: سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة ستين وأبو سلمة مدني ولم يوصف بتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو، وقد روى بكير بن الأشج عن أبي سلمة أنه أرسل جعفر ابن عمرو بن أمية إلى أبيه

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...