Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 10 يونيو 2022

مجلد 3. و4. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

  مجلد 3. و4. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

 مجلد 3. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

أي على أمرٍ بين ، لا مُتبع هوًى.
(وَكَذبتُمْ بِهِ) هذه الهاءُ كناية عن البيان ، أي وكذبتم بالبيان ، لأن
البينة والبيان في معنى وَاحدٍ ، ويكون " وكذبتم به " أي بما أتَيْتُكُمْ به.
لأنه هو البيان.
وقوله . (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ).
والذي استعجلوا به الآيات التي اقْتَرَحُوهَا عَلَيه . فأعلم - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك عند الله ، فقال :
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ).
هذه كتبت ههنا بغير ياء على اللفظ ، لأن الياء أسقطت لالتقاء السَّاكنين
كما كتبوا . . (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة) بغير واو.
وقرئت : (يَقْضِ الْحَقَّ) ، وقرأ ابن عباس (يقضي بالحق) ، إلا أنَّ القُراءَ لا يقرأون (يقضي بالحق) لمخالفة المصحف.
و (يقضي الحق) فيه وجهان : جائز أن يكون الحق صفة للمصدر ، المعنى
يَقْضِي القَضَاءَ الحق ، ويجوز أن يكون يقضي الحق يَصنَع الحق ، أي كل ما
صنَعَه عزَّ وجلَّ فهو حق وحِكمة ، إلا أن (وَهُوَخَير الفَاصِلين) يدل على معنى
القضاءِ الذي هو الحكم ، فأما قضى في معِنى صنع فمثله قول الهُذَلي.
وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع

(2/256)


أي صنعهما داود ، ومن قرأ (يَقُصُّ الْحَقَّ) فمعناه أن جميع ما أنبأ به وأمر
به فهو من أقاصيص الحق.
* * *
وقوله : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
معنى مفاتح الغيب ، أي عنده الوصلةُ إلى علمِ الغَيْبِ ، وكل مَا لاَ يُعْلمَ
إذا اسْتُعلِمَ يقال فيه افتَحْ عَلى.
قوله : (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا).
المعنى : أنه يَعْلَمُها سَاقِطَة وثَابتَةً ، وأنْتَ تَقُول : مَا يجيئك أحد إلا وأنَا
أعْرِفه ، فليس معناه إلا وأنا أعرفه في حال مَجيئه فقط.
ويجوز (وَلَا حَبَّةٍ) ويجوز (وَلَا حَبَّةٌ). فمن رفع فعلى ضربين ، جائز أنْ
يكونَ على معنى ما تسقط ورقَةٌ وَلاَ حبة في ظلماتِ الأرضِ ولا رَطب وَلَا
يَابس (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
و (فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) هنا على معنيين يَتَصَرف ، ويجوز أن يكون معنى
(فِي كِتَاب مُبين) أن يكون اللَّه أثبت ذلك فى كتاب من قبل أن يُخْلَقَ كما
قال : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) ، فأعلم أنه قد أثبت ما خلق من قبل خلقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
أي يُنيمُكَمْ فيتوَفى نفوسَكم التي بها تميزون كما قال - عزَّ وجلَّ - :
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).
ومعنى : (يَبْعَثكُمْ فِيه).

(2/257)


أي ينبهكم من نومكم فيه في النهار.
(لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى).
أي يَبْعَثكُمْ من نومكم إلى أنْ تَبلُغُوا أجَالكمْ.
* * *
وقوله : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
الحفظة الملائكة ، واحِدهم حَافِظَ والجمع حَفَظَةَ . مثل كاتِبِ وَكَتَبَة.
وفَاعِل وفَعَلَة.
وقوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَاا).
أي هؤلاءِ الحَفَظَةُ لِأنه قال : (وُيرْسِل عليكمْ حَفَظَةً).
(وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ).
أي لا يَغْفُلون ولا يَتَوانَوْنَ ، ومعنى التفْريطِ في اللغَةِ ، تقدمة العجز.
فالمعنى أنهم لا يعجزون.
* * *
وقوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
يجوز في القراءَة يُنْجِيكم بالتخفيف.
لقوله : (لَئِنْ أنْجيتنَا). و (لئن أنْجَانا)
والأجود (يُنَجِّيكُمْ) بالتشْدِيد للكَثْرةِ.
ومعنى (ظُلُماتِ البَر والبَحَرِ) شَدَائِد البَر والبَحْرِ ، والعَرَبُ تَقول لِليومِ
الذيْ تلقى فيه شِدةً يَوْم مُظْلِم ، حتى إنهم يقولون يوم ذُو كواكب أي قد
اشْتَدتْ ظُلْمَتُه حتى صَارَ كالليل.
قِال الشاعر .

(2/258)


بني أسدٍ هل تعلمون بلاءَنا . . . إذا كان يوم ذو كواكب أشْهب
وأنشدوا :
فِدًى لبني ذُهْلِ بنِ شيبان ناقتي . . . إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعَا
فمعنء : (ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) شدائدهما.
وقوله : (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
بالضم والكسر في (خُفُية) ، والمعنى تدعونه مُظْهِرين الضراعةَ ، وهي شدة
الفَقْر إلى الشيءِ والحَاجة ، وتدعُونَه خُفية أي تدعونه في أنفسكم تُضْمِرُون في
فقركم وحاجاتكم إليه كما تضمرون.
وقوله : (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
أي في أي شدة وقَعتَم قُلْتُم : لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
فأمَر اللَّه عزَّ وجلَّ - أنْ يسألهم على جهة التوبيخ لهم والتقرير بأنه
ينجيهم ثُمَّ هُمْ يُشركُون مَعه الأصنَامَ التي عَلِمُوا أنهَا مِن صَنْعَتِهِم ، أنَّها لا تنفع ولا تضر ، وأنه قادر على تعذيبهم فقال : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
نحو الحجارة التي أمْطَرَهَا على قومِ لُوط ، ونحو الطوفان الذي غرقَ به
قَومَ فِرعَوْن.
(أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُم).

(2/259)


نحو الخسف الذي نال قارُون ومَن خسِف بِهِ.
(أو يَلبِسَكُم شِيعَاً).
معنى (يَلبِسَكم) يخلط أمرَكم خَلْطَ اضطراب ، لا خلط اتفاق يقال لبَسْتُ
الأمر ألْبِسُه لم أبينه ، وخلطت بعضه بِبَعض ويقال : لبِستُ الثوبَ ألْبَسُه.
ومعنى (شِيعاً) أي يجْعَلكم فِرَقاً ، لا تكونون شيعة وَاحدةً فإِذا كنتم
مختلفين قاتل بعضكم بعضاً ، وهو معنى قوله (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل اللَّه جلَّ وعزَّ ألَّا يَبْتَلِيَ هذه الأمة بعذاب يَستأصِلُها به ، وَألَّا يُذيق بعضها بأسَ بَعض ، فأجابَه في صرف العذاب ، ولم يُجِبْهُ في ألا يذيق بعضها بأسَ بعض وأن لا تختلف.
* * *
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
أي إِنما أدعوكم إلى . اللَّه وإِلى شريعته ، ولم أومَر بحربكم ولا أخذكم
بالِإيمان كما يؤخذ الموكل بالشيءِ يُلزمُ بُلُوغ آخره.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
أي لأخذكم بالإيمان على جهةِ الحَرْب ، واضْطِرَارِكم إِليهِ ومُقَاتلتكم
عَليه ، مُسْتقر ، أي وَقْت.
(وَسَوْفَ تَعْلَمُون).
جائز أن يكون وعدهم بعذاب الآخرة ، وجائز أن يكون وعدهم
بالحربِ ، وأخذهم بالإِيمان شاءُوا أو أبَوْا ، إِلا أنْ يُعْطِيَ أهْل الكِتاب
الجزية .

(2/260)


وقوله : (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
أي وما عليك أيها النبي وعلى المؤمنين من حسابهم أي من كفرهم.
ومُخالفتِهم أمرَ اللَّهِ.
(وَلَكِنْ ذِكْرَى).
أي ولكن عليكم أن تُذكرُوهم.
و (ذِكْرَى) يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب ، فمن نصب فالمعنى
ولكن ذكرُوهم ذِكْرَى ، ومن رفع فعلى وجهين ، أحدُهما ولكن عليكم أن
تُذَكرُوهم ، كما قال : (إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البلاغ). وجائز أن يكون : ولكن
الذين تأمرون به ذكرى.
(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
أيْ لِتُرجَى مِنْهم التقْوى.
* * *
وقوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
معنى تبْسل - بِعَمَلِهَا تكون غير قادرة على التخلص ، والمسْتَبْسِلُ
المُسْتَسْلِمُ الذي يعلم أَنه لاَ يقدرُ عَلى التخلص.
قال الشاعر :
وَإبْسَالي بَنِيّ بغير جُرْم . . . بَعَونَاهُ وَلا بِدَم مُراقِ
أي إسلامي إياهُم ، وقيل (أَنْ تُبْسَل) تَرْهَنَ ، والمعنى واحد ويقال أسدُ

(2/261)


باسِل ، وشُجَاعٌ بَاسِل ، وتأويلُه أن معه من الإقْدامِ ما يستبسل له قِرنُه.
ويُقَالُ هذا بَسْل عَلَيْكَ أي حَرام عَليك فجائز أن يكون أسَدٌ بَاسِل من هذا ، أي لا يُقْدَرُ عَلَيه ، ويقال أعط الرافِيَ بسلَتَه ، أي أجرَتَهُ ، وإنما تأويله أنه عمل الشيءَ الذي قد استبسل صَاحِبُه مَعه.
* * *
وقوله : (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
(وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ)
أي نرجع إلى الكفر ، ويقال لكل من أدبَرَ قَدْ رَجَعَ إلى خلف ورَجَعَ
القَهْقَرى.
وقوله : (كالذِي استهْوَتْه الشيَاطِينُ فِي الأرضِ).
أي كالذي زَينَتْ له الشياطِين هواه.
وقوله (حَيرَانَ).
منصوب على الحال ، أي كالذي استهوته فِي حَالِ حَيرتِه.
وقوله : (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى).
قيل في التفْسِيرِ يُعنى بهذا عبد الرحمن بن أبي بكر ، (ائْتِنَا) أي تابِعنا في
إيماننا.
(وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
أي يدعونه ويقولون له (أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
العرب تقول أمَرْتُك بأنْ تفعل ، وأمَرتُك لِتفْعَل ، وَأمَرْتُك بأنْ تَفْعَلَ ، فمن قال أمَرتُك بأن تفعَل فالباءُ للإلصاق ، المعنى وقع الأمر بهذا الفِعلِ.
ومن قال أمَرتُك أنْ تفعل فعلى حذف الباءِ.
ومن قال أمرتك لتفعَل فقد أخبر بالعِلَّةِ التي لها وقع الأمر.
المعنى أمِرْنا للإسلام .

(2/262)


وقوله جلَّ وعزَّ : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
فيه وجهان أحدهما أن تكون أمرنا لأن نسلم ولأنْ نُقيم الصلاة ويجوز
أن يكون محمولًا على المعنى ، لأن المعنى أُمِرنا بالإسْلَامِ . وبإقامة الصلاة.
ومَوضِع أن نصب ، لأن الباء لما سقطت أَفْضى الفعل فنصب.
وفيه وجه آخر ، يجوز أن يكون محمولًاعلى قوله :
(يَدْعُونه إلى الهُدى ائتِنا) (وأن أقيموالصلاة).
أي ويدعونه أن أقيموا الصلاة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ).
نصب " يومَ " على وَجهين ، أحدهما على معنى واتقُوهُ وَيوْمَ يَقُولُ فيكون
نسقاً على الهاءِ ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَاتقُوا يوْماً لا تجزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس
شَيْئاً) والأجوَد أن يكون على معنى واذكر يقول كن فيكون ، لأن بعده . .
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ).
وفيه وجه ثالث وهو العطف على السَّمَاوَات والأرض.
المعنى وهو الذي خلق السَّمَاوَات والأرض بالحق وخلق يوم يقول
كن فيكون.
فإن قال قائل : إن يوْم القِيَامَةِ لم يَأتِ بَعْدُ . فإن مَا أنبأنا اللَّه بكونه
فحقيقته واقع لا محالة.
وقوله : (كُنْ فَيكون).
قال بعضهم : المخاطبة ههنا للصورِ المعنى ويوم يقول للصور كن
فيكون ، وما ذكر من الصور يدل عليه.
وقيل إن قولُه (كُنْ) فيه أسماءُ جميع ما يخلق في ذلك الوقت المعنى :

(2/263)


" ويوْمَ يَقُولُ للشَيءِ كُن فيكونُ "
وهذا ذكِرَ ليَدل على سرعة أمر البَعْثِ والساعة.
كأنه قال : ويوم يقول للخلق مُوتوا فيموتُون وانْتُشِرُوا فينْتشِرُون.
كأنه يَأمُر الحيَاة فتكون فيهم ، والموت فيحلْ أولاً يفنى جميع الخلْقِ.
وقيل (ويوم يقولُ كُنْ فَيَكُون) (قَوْلُهُ) أي يأمر فيقع أمْرُه ، و (الْحَقُّ) من
نعتِ (قَوْلُهُ) كما تقول : قد قلت فكانَ قولك ، فالمعنى ليس أنك قلت فكان
الكلام ، إنما المعنى أنه كان ما دلَّ عليه القول.
وعلى القول الأول قد رُفِعَ (قَوْلُهُ) بالابتداءِ و (الْحَقُّ) خبر الابتداءِ.
وقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ).
يجوز أن يكون نصب (يومَ) على (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) مُبَيناً
عن قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) ، ويجوز أن يكون منصوباً بقوله (الحق).
المعنى . و " قَوْله الحق يَوْمَ يُنفخُ في الصورِ ".
فإِن قال قائل : للَّهِ الملك في كل وقت.
فلم خُصَّ يَوْمُ القِيامة ، وَيوم ينفخُ في الصورِ ؟
فالجواب في هذا أنه في اليوم الذي لا يظهر فيه من أحدٍ نفع لأحدٍ ولا ضَر . كما قال : (والأمر يَوْمَئِذٍ للَّهِ) والأمر في كل وقت للَّهِ جلَّ وعزَّ.
وقالوا في الصورِ قَولَيْن : قيل في التفسير : إن الصورَ اسم لقَرْنٍ يُنفخُ فِيهِ
وقيل : الصور جمع صورة ، وكلاهما جائز ، وأثبتُها في الحديث والرواية أن
الصور قرنٌ ، والصور جمع صورة : أهل اللغة على هذا .

(2/264)


وقوله : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)
بالنصب والضم ، فمن قرأ بالضم فعلى النداءِ ، المعنى يا آزَر أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا . وليس بين النسَّابِيَنِ خِلاف أن اسم أبي إِبراهيم " تارِح " والذي
في القرآن يَدُل على أن : اسمه آزرُ ، وقيل آزرُ عندهم ذَمٌّ في لُغتِهم ، كأنه :
وَإذ قال إبراهيم لأبيهِ يا مخطئ أتتَخِذُ أصناماً.
وَإذا كان كذلك فالاختيار الرفعُ . وجائز أن يكون وصفاً له ، كأنه قال : وإذ قال إِبراهيمُ لأبِيهِ المخطئ.
وقيل آزرُ اسمُ صنم ، فإذا كان اسم صَنمٍ فموضعُه نصبٌ على إِضمار الفِعْلِ
كأنه قال وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخِذُ آزرَ إلهاً ؟ أتتخذ أصناماً آلهة ؟.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
أي وَمِثلُ مَا وصَفْنا من قِصةِ إِبراهيم من قوله لأبيه ما قال نُرِيه ملكوت
السَّمَاوَاتِ والأرضِ ، أي القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد اللَّه
جلَّ وعزَّ.
وتقول في الكلام لِمن فعل بك خيراً أو شرا كذلك أجزيك.
ومعنى قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ).
أي نريه ملكوت السَّمَاوَات والأرض لما فعل ، وليَثبُت على اليقين.
والملكُوت بمنزلة الملك ، إِلا أن الملكوت أبلغ في اللغة من الملك ، لأن
الواو والتاءَ تزادان للمبالغة ، ومثل الملكوت الرغبُوت ، والرهَبُوت.
وَوَزْنه من الفعل فَعَلُوت وفي المثل رَهَبُوتي خَيْرْ مِنْ رَغبُوتي ، وهذا كقولهم ، أو فرقاً خيراً من حُبَّ ، وَمن روَى رَهَبُوتي خيرٌ من رحموتي فمعنى صحيح . يحقق من اللسان أن تكون له هيبة ترهب بها خير من أن يُرْحَم .

(2/265)


وقوله جلَّ وعزَّ : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
يقال جَنَّ عليه الليلُ وأجَنَّهِ الليلُ إِذا أظلمَ حَتى يَستتِر بظلمته ويقال لكل
ما سَتَر قَدْ جَنَّ ، وقد أجَن ، ويقال جَنَّه الليلُ ، ولكن الاختيار جَنَّ عليه الليل وأجَنَّه الليلُ.
وقيل إِنَّ قومَ إبراهيم كانوا يعبدون الأصنامَ والشمسَ والقمرَ
والكواكِبَ ، فلما بلغ إبراهيم المبلغ الذي يجب معه النظر ، وتجب به على
العبد الحجة ، نظر في الأشياءِ التي كان يَعبُدُها قومُه فلما رأى الكوكب
الذي كانوا يعبدونه ، قال لهم هَذَا رَبِّي أي فى زعمكم ، كما قال الله
جلَّ وعزَّ : (أيْنَ شركائي الذين كنتم تزعمون) فأضافهم إلى نفسه حكاية
لقولهم.
(فَلَمَّا أَفَلَ).
أي فلما غاب ، يقال أفَلَ النجمُ يأفِل وبَأفُلُ أُفُولًا ، إذا غَابَ :
(قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).
أي لا أحب من كانت حالته أن يطلع وَيسِير على هيئةٍ يُتبين معها أنه
محدَث منتقل من مكان إلى مكان ، كما يَفْعَلُ سائرُ الأشياءِ التي أجمعتم معي
على أنها ليست بآلهة ، أي لا أتخِذُ ما هذه حالُه إلهاً ، كما أنكم لا تتخذون
كل ما جرى مجرى هذا من سائر الأشياءِ آلِهة ، ليس أنه جعل الحجة عليهم
أنَّ ما غاب ليس بإِله ، لأن السماءَ والأرض ظاهرتان غيرُ غائِبَتَيْنِ وليس يُدعَى فيهما هذه الدعْوَى.
وإِنما أرادَ التبيِين لهم القريب ، لأن غَيْبُوَبتهُ أقْربُ ما

(2/266)


الَناظرون به فيما يظهر لهم ، كما قال : (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.
وقد قيل إنه قال هذا وهو ينظر لِنفْسِه ، فكأنه على هذا القول بمنزلة
قوله : - (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).
وإبراهيم قد أنبأ اللَّهُ - عز وجل - عنه بقوله.
(إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ، فلا شك أنه سلِيمٌ من أن يكون
الشك دَخَلُه في أمر اللَّه . واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون على إضمار القول ، كأنه قال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) ، كأنه قال : تَقُولُون هذا ربي ، أى أنتم تقولون هذا رَبي ، كما قال جلَّ وعزَّ : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا).
المعنى يقولان تقبل منا . واللَّه أعلم بحقيقة هذا.
والذي عندي في هذا القول أنه قال لهم : تقُولونَ هذا رَبي ، أي هذا
يُدَبرني ، لأنه فيما يُرْوَى أنهم كانوا أصحاب نجوم ، فاحتج عليهم بأن الذي
تزعمون أنه مُدَبِّرٌ إنما يرى فيه أثر مُدَبَّر لا غير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً) . . (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا).
يقال قد بَزَغَ القمرُ إذا ابتدأ في الطلوع ، وكذلك الشمس.
والحجة في الشمس والقمر كالحجة في الكوكب .

(2/267)


واحتج الذين قالوا إنَّه قال (هَذَا رَبِّي) على وجه الظن والتفكُر بقوله :
(لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
وهذا لا يوجب ذلك . لأن الأنبياءَ تسأل اللَّه أن يثَبتَهَا على الهدى وتعلم
أنه لولا هداية اللَّه ما اهتَدَتْ.
وإبراهيم يقول : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).
* * *
وقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)
أي مَائِلاً إلى الإسلام ميلاً لا رجوع مَعَهُ ، والحنف أن يكون في القدم ميل ، وهو أن تميل إِبهام القدم إِلى إِبهام القدم ، فتقبل هذه القدم على هذِه القَدم ، ويكون ذلك خِلْقَةً . والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت فيه.
ومعنى (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي جعلت قصدي بعبادتي توحيدي اللَّه
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله جل وعلا : (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
المعنى حَاجوه في اللَّه ، فقال : (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ).
ومحاجَتهم إِياه كانت - واللَّه أعلم - فيما عبَدوا مع اللَّه عزَّ وجلَّ من
الكواكب والشمس والقمر والأصنام ، فقال : (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ).
أي في توحيد اللَّه.
(وَقدْ هَدَانِي).
وقد بين لي ما به اهتديت.
(وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ).
أي هذه الأشياء التي تعبدُونها لا تَضر ولا تنفع ، ولا أخافها.
(إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا).

(2/268)


إلا أن يشاءَ أن يعذبني بذَنْبٍ إن كان مني . وموضعُ (أنْ) نَصْبٌ ، أي لا
أخاف إلا مشيئة اللَّه.
* * *
(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
أيٍ ولا تخافون أنتم شِرْكَكُمْ باللَّهِ ما لم يُنرلْ بِهِ عليكم سلطاناً ، أي
حُجة بَينَة.
(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ).
أيْ أحَق بأن يأمَنَ من العذاب ، المُوحِّد أمِ المُشْرك
* * *
وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قالوا جائز أن يكون هذا قول اللَّه (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) غير حكاية عن
إِبراهيم ، وجائز أن يكون إبراهيم قال ذلك.
* * *
وقوله : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
داود وصليمان نسق على نوح ، كأنه قال : وهدينا داود وسليمان وجائز أن
يكون من ذرية نوح ، وجائز أن يكون من ذرية إبرَاهيمَ ، لأن ذِكْرَهُما جميعاً قد جرى . ، وأسماء الأنبياء التي جاءَت بعد قوله : (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ)نسق على نوح ، إلا أن الْيَسَع يُقَال فيه اللَّيْسَع واليَسعَ ، بتشديد اللام وتخفيفها.
* * *
وقوله : (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
أي هدينا هُؤلاءِ ، وهدينا بعض آبَائهم وَإِخْوَانِهمْ.
ومعنى قوله : (وَاجْتَبَيْناهُمْ).
مثل اخترناهم ، وهو مأخوذ من جبيت الماءَ في الحوْضِ إذا جمعته .

(2/269)


وقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ).
أي : الذين قد كفَروا ، ويكفرون ، مِمن أرسلت إِليه.
(فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
أي قد وَكَلْنا بالإيمان بها ، وَقِيلَ في هذه ثلاثة أقْوال.
قيل يعني بذلك الأنبياءَ الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت مَبعثِهم ، وقيل يعني به الملائكة.
وقيل أيضاً يعني به مَنْ آمَنَ مِنْ أصحاب النبي وأتباعه.
وهو واللَّه أعلم يعني به الأنبياءَ الذين تقدموا لقوله تبارك وتعالى :
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
أي الأنبياء الذين ذكرناهُمُ الذين هدى اللَّه فبهداهم اقتده
أي اصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا ، فإن قومهم قد كذبوهم فصبروا على ما كذبوا وَأُوذُوا ، فاقْتَدِ بِهِمْ.
وهذه الهاء التي في " اقتَدِهْ " إنما تثبت في الوقف ، تبين بها كسرة
الدال ، فإن وَصَلْتَ قلتَ " اقتدِ "
(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ).
قال أبو إسحاق : والذي أختار من أثِق بعلمه أن يُوقَف عند هذه الهاء.
وكذلك في قوله (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20).
وكذلك (لَمْ يَتَسَنَّهْ) وكذلك (وما أدْراكَ ما هيهْ)
وقد بيَّنَّا ما في " يَتَسَنَّهْ " في سورة البقرة.
وقوله : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

(2/270)


معناه ما عظَّموا اللَّه حق عَظَمَته إِذ جحدوا تنزيله ، وذلك أن جماعة من
اليهود - من منافقيهم - جاءُوا وهم يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم - يجادلونه ويصُدُّون عنه.
وكان سِمَتُهم سِمَةَ الأحْبَارِ ، وكانوا يتنعَّمُونَ ولا يتعبدونَ ، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن - في التوراة أن الله جلَّ وعزَّ لا يحب الحَبْرَ السَّمِين ، فجحدوا التوراة ، وقالوا : (مَا أنزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ، فقال الله عزَّ وجل : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا).
يُظهرون ما يُحبون من ذلك ويُخفون كثيراً.
(وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا).
أي عُلِّمْتُمْ على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - (مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
يقال لكل من كان في عمل لا يجدي إِنما أنت لاعب.
* * *
وقوله : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا).
تقرأ بالتاء والياء جميعاً في لِتُنْذِرَ المعنى أنزلناه للبركة والإنذار.
ومعنى أم القرى أي أهل أم القرى ، و (مَنْ حَوْلَهَا) عطف عليهم.
وأُمّ الْقُرَى مكة سميت أُمَّ الْقُرَى لأنها كانت أعظم القرى شأناً.
* * *
وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
جاءَ في التفسير أنه يعني به مسيلمة ، وَصَاحِبَ صَنْعَاءَ ، لأنهما ادعيا
النبوة .

(2/271)


(وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
موضع " من " جر.
المعنى : ومن أظلم ممن افترى ومن قال سَأنزِلُ مثل ما
أنزل اللَّه ، وهذا جواب لقولهم : لو نشاءُ لقلنا مِثلَ هَذَا.
وقوله : (ولوْ ترىَ إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ).
جواب " لو " محذوف ، المعنى : ولو ترى إذ الظالمون فِي غَمَرات المَوْتِ
لرأيت عذاباً عظيماً ، ويقال لكل من كان في شي كثير : قد غَمرَ فُلاناً ذلك ، ويقال قد غمر فلَاناً الدَّيْن ، تأويله : قد كثر فصار فيما يعلم بمنزلة ما يُبْصَر قَدْ غَمَرَ وَغطى من كثرتِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ).
(أي) عليهم بالعذاب.
ومعنى (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ).
فيه وجهان - الله أَعلم -.
يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) فجائز أن يكون كما تقول للذي تعذبهُ لأزْهقَنَّ
نفسك ، ولأخرجَنَّ نَفْسك - فهم يقولون - واللَّه أعلم.
(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) على هذا المعنى.
وجائز أن يكون المعنى خلِّصُوا أنفسكم . أي لستم تقدرون على
الخلاص.
(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ).
أي العذاب الذي يقع به العذاب الشديد .

(2/272)


وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
أمَّا معنى (فُرَادَى) فكل وَاحدٍ مُنْفَرِدٌ مِن شريكه في الغَيِّ وشَقِيقهِ.
ومعنى : (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
جاءَ في التَفْسِير : عُرَاةً غُرْلًا ، والغُرْلُ هُمُ الغُلْف . والذي تحتمله
اللغة أيضاً . كما بدأناكم أول مَرةٍ ، أي كان بعثكم كخلقكم.
وقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ).
الرفع أجود ، ومعناه لقد تقطع وَصْلُكُم . والنصب جائز.
المعنى : لقد تقطع ماكنتم فيه من الشركة بينكم.
* * *
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
أي يشق الحبة اليابسة الميتة والنواة اليابسة فيُخْرِجُ مِنها ورقاً أخضَر.
وهو معنى ، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ).
أي يخرج النبات الغض الطرِيَّ الخَضِرَ من الحب اليابس.
(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ).
ويخرج الحب اليابس من النَبات الحى النامي.
احتج اللَّه جل ثناؤُه عليهم بما يُشَاهدُونَ من خَلْقِه لأنَّهم أنكرُوا البعث
فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياءَ وأنه قادر على بعثهم.
وقوله : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
أي فمن أين تصرفونَ عن الحق.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّْ : (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

(2/273)


مَعنى الإصباح والصبح وأحد ، جائز أن يكون خالِقُ الإصباح وجائز أن
يكون معناه شاق الصبح ، وهو راجع إلى معنى خالق الصبع.
وقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا).
النصب في الشمس والقَمر هي القراءَة . والجر جائز على معنى وجاعل
(الشمس والقمر حسباناً) ، لأن في جاعل معنى جَعَلَ.
وبه نصبتَ (سكناً) ولا يجوز جَاعِلُ الليلُ سكناً ، لأن أسماءَ الفاعلين إذا كان الفعل قد رفع أضيفت إلى ما بعدها لَا غَيْر تقول هذا ضارِبَ زَيْدٍ أمْسِ.
فإجماع النحويين أنه لا يجوز في زيد النصْب ، وعلى ذلك أكثر
الكوفيين ، وبعض الكوفيين يجيز النصْبَ . فإذا قلت هذا مُعْطِي زَيْدٍ درهماً
فنصب الدرْهَمَ محمول على أعطى.
* * *
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
الأكثر في القراءَة (مُسْتَقَرٌّ) بفتح القاف ، وقد قرئت بكسرها
و(مُسْتَوْدَعٌ) بالفتح لا غير.
وأما رفع مستقر ومستودع فعلى معنى لكم مستقَرٌّ ولكم مستودعٌ.
ومن قرأ بالكسر ، فمستقر ومُسْتَوْدَع فعلى معنى فمنكم مستقر
ومنكم مستودَع.
وتأويل مستقر أي مستقر في الرحم ومستودَع أي منكم
مستودع في أصلاب الرجال ، وعلى هذا أيضاً فمستَقَر بفتح القاف ، ومستودَعٌ.
أي فلهم مستَقَر ولكم في الأصلاب مستودعٌ وجائز أن يكون فمستقِر -
بالكسر - ومستودعَ أي : فمنكم مستقر في الأحياءِ ومنكم مستودعَ أي مستقر في الدنيا موجود ، ومستودَع في الأصلاب لم يخلق بعْدُ.
وجائز أن يكون

(2/274)


فمستقِرٌّ بالكسر ، ومستودع فمنكم مستقر في الأحياءِ ومنكم مستودع في
الثرى.
وهذه الأقوال كلها قد قيلت واللَّه أعلم بحقيقة ذلك
* * *
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قال أهل اللغة أصل كلمة ماء ماه إلا أن الهمزة أبدلت من الهاءِ
لِخفَاءِ الهاءِ ، والدليل على ذلك قولهم أمواه في جمعه ، ومياه ، ويصَغر مُويه.
قال الشاعر :
سَقى اللهُ أَمْواهاً عَرَفْتُ مَكانَها . . . جُراباً وَمَلْكوماً وبَذَّرَ والْغَمْرا
وقوله : (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا)
معنى خَضِر كمعنى أخْضَر ، يقال اخْضر فهو
أخضر وخضِر ، مِثل أعوز فهو أعْوَر وعَوِر.
وقوله : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ).
(قِنْوَانٌ) جمع قِنْو مثل صِنْو وصِنْوَان ، وإذا ثَنيتَ القِنْو فهما قِنْوانِ يا هذا
بكسر النون ، والقنْوُ العِذْق بكسر العين وهي الكباسة ، والعَذْق النخلة.
و (دَانِيَةٌ) أي قريبة المتناوَل ، ولم يقل ومنها قنوان بعيدةٌ.
لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة السحيقة من النخل قد كانت غير سحيقة ، واجتزِئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة ، كما قال عزَّ وجلَّ :
(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل وسرابيل تقيكم البرد.
لأن في الكلام دليلاً على أنها تقي البرد لأن ما يستر من الحر يستر من
البرد .

(2/275)


وقوله : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ).
عطف على قوله (خضِراً) أي فأخرجنا من الماءِ خَضراً وجَناب من أعناب
والجنة البستان ، وإنما سمي البستان جنة ، وكل نبت متكاثف يستر بعضه بعضاً فهو جنة ، وهو مشتق من جننت الشيءَ إذا سترته.
ومن هذا قيل للترس مِجَن لأنه يستر.
وقولى : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).
أي في الطعم وفيه مايشبه طعمُ بعضِه طعْمَ بَعْض.
وَقرَنَ الزيتُونَ بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل
على الغصن من أوله إلى آخره.
قال الشاعر :
بورك الميت الغريب كما . . . بورك نَضْرُ الرمَّانِ والزيتون
ومعناه أن البركة في ورقه واشتماله على عوده كله.
وقوله : (انظُرُوا إلَى ثَمَرهِ).
يقال ثمرة وثَمَرٌ وثمَارٌ ، وثُمُر جمع ثِمارٍ ، فمن قرأ إلى ثُمُره بالضم أراد
جَمْعَ الجَمْعِ ، وإن شئت قُلْت إلى ثمْره فخففت لثقل الضمةِ.
(وَيَنْعِهِ).
الينعُ النضْجُ ، يقال يَنعَ الشجرُ وأينع إذا أدرك.
قال الشاعر :

(2/276)


في قباب حول دَسْكَرَةٍ . . . حوْلَها الزيتون قدْ يَنعَا
قال أبو عبيدة البيت ليزيد بن معاوية أو للأحوص.
احتج اللَّه عليهم بتصريف ما خلق ونقْلِه من حال إلى حال ، بما يعلمون
أنه لا يقدر عليه المخلوقونَ ، وأنه كذلك يبعثهم لأنهم كانوا يُنكِرُونَ البَعْثَ
فقال لهم : (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
فأعلمهم أن فيما قص دليلاً لمن صَدَّق.
* * *
وقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
المعنى أنهم أطاعوا الجنَ فيما سولت لهم من شِرْكِهِمْ.
فَجَعَلُوهم شركاءَ للَّهِ عزَّ وجلَّ وكان بعضهم ينسب إلى الجن الأفعال التي لا تكونُ إلا لله عزَّ وجلَّ فقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ).
فالهاء والميم إن شئت كانت عائدة عليهم ، أي فجعلوا للَّهِ الذي خلقهم
شركاءَ لا يخلقون . وجائز إن تكون الهاءَ والميم تعودان على الجن ، فيكون
المعنى : وجعلوا للَّهِ شركاءَ الجن واللَّه خلق الجن.
وكيف يكون الشريك لله المحدَثَ الذي لم يكُنْ ثُمَّ كَانَ.
فأما نصب الجن فمن وجهين أحدهما أن يَكون الجن مفعولاً فيكون
المعنى وجعلوا للَّهِ الجن شركاءَ ، ويكون الشركاء مفعولًا ثانياً كما قال :
(وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا).
وجائز أن يكون الجن بَدَلًا من (شرَكَاءَ) ومفسراً للشركاءَ.
وقوله : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

(2/277)


معنى خرقوا اختلقوا وَكَذَبوا ، وذلك لأنهم زعموا أن الملائكة بنات
الله ، وزعمت النصارى أن المسيح ابنُ اللَّه ، وذكرت إليهود أن عزيرَ ابنُ اللَّه ، فأعلم جل ثناؤه أنهم اختلقوا ذلك بغير علم ، أي لم يَذكُرُوه عَنْ عِلْم.
وإنما ذكروه تَكذباً.
وقوله : (سُبْحَانَه وَتَعَالَى).
أي : براءَته من السوءِ ، ومعنى سبحانه التبْرِئَة عَنْ كُل سُوءٍ ، لا اختلاف
بين أهل اللغة في معنى التسبيح أن التبرئة للَّهِ جلَّ وعزَّ.
* * *
وقوله : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
أي هو خالق السَّمَاوَات والأرض.
(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ).
أي من أين يكون له وَلَدٌ ، والولد لا يكون إلا من صَاحِبَةٌ.
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
فاحتج جلَّ وعزَّ في نَفْيِ الْوَلَد بأنه خَالق كُل شيء ، فليس كمثله شيء.
وكيف يكونُ الولدُ لمن لَا مِثْلَ لَه ، فإِذا نسب إليه الولَدُ فَقَدْ جُعِلَ لَهُ مِثل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
أعلم عزَّ وجلَّ أنَّه يُدْرِك الأبصارَ ، وفي هذا الإعْلَام دَليلُ أن خَلْقَهُ لا
يُدْرِكُونَ الأبْصَارَ ، أي لا يَعْرفونَ كيف حَقيقَةُ البَصَر ، وما الشيء الذي صار به الِإنسان يُبْصرُ بعَيْنَيه دُونَ أنْ يُبْصِرَ من غيرهما من سائر أعضائه ، فأعلم أنْ
خَلْقاً مِنْ خَلْقِهِ لَا يُدْرِك المخلوقون كنهه ، ولا يحيطون بعلمه ، فكيف به
عزَّ وجلَّ ؟؟!!!

(2/278)


فالأبصار لا تحيط به
(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
فأما ما جاءَ من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول اللَّه فغير مدفوع.
وليس في هذه الآية دَلِيلٌ عَلَى دفْعِه ، لأن معنى هذه الآية معنى إدراك
الشيء والإحاطة بحقيقته.
وهذا مذهب أهل السنة والعِلْمِ والحديث.
* * *
وقوله : (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
أي قد جاءَكم القرآن الذي فيه البيانُ والبصائرُ.
(فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِه).
المعنى فلنفسه نَفْعُ ذَلِكَ.
(وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيهَا).
أي فَعَلَى نَفْسه ضَرَرُ ذلك ، لأن اللَّه جل ثناؤُه غَنِي عن خَلْقِه.
وقوله : (وَمَا أنَا عَليكم بِحَفِيظٍ).
أي لستُ آخذُكم بالإيمان أخْذَ الحفيظ والوكيل ، وهذا قبل الأمر
بالقتال ، فلما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقتال صار حفيظاً عليهم ومسيطراً على كل من تَوَلَّى.
* * *
وقوله : (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
أي وَمِثْلَ ما بيَّنَّا نُبَيِّن الآيَات.
وموضعُ الكاف نَصبٌ . التي في أول كذلك.
المعنى ونصرف الآيات في مثل ما صرفناهما فيما تُلِيَ عَلَيكَ.
وقوله : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ).
فيها خمسة أوجه ، فالقراءَة دَرَستَ . بفتح الدال وفتح التاءِ ومعناه
وليقولوا قرأت كتُبَ أهل الكتاب وتقرأ أيضاً دَارَسْتَ ، أي ذاكرت أهل

(2/279)


الكتاب.
وقال بعضهم : (وليقولوا دَرَسَتْ) أي هذه الأخبارَ التي تَتْلُوهَا عَلَينَا
قديمة قد دَرَسَتْ ، أي قد مضت وامَّحَتْ.
وذكر الأخْفَشُ دَرُستْ بضم الراءِ ومعناها (دَرَسَتْ) إلا أن درُست بضم الراءِ أشد مبالغة ، وحَكَى دُرِسَتْ بكسر الراءِ أي قرئت.
وقوله : (وَلنُبيِّنَهُ لقَوم يَعلَمُون).
إن قال قائل : إنما صُرفَت الآياتُ ليقولُوا دَرَسْتَ ؟
فالجواب في هذا أن السبب الذي أدَّاهُمْ إلى أنْ يقُولُوا دَرَسَتَ هُوَ تلاوة الآيات.
وهذه اللام يسميها أهل اللغة لام الصيرورة ، وهذا كقوله تعالى :
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)
فهم لم يلتقطوه يطلبون بأخذه أن يعاديهم ولكن
كانت عاقبة أمره أن صار لهم عدواً وحَزَناً.
وكما تقول : كتب فلان هذا الكتاب لِحَتْفِهِ ، فهو لم يقصد بالكتاب أن يُهْلِكَ نَفْسَه ، ولكن العَاقِبَةَ كانت الهلاكَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
أي لو شاءَ اللَّه لجعلهم مؤمنين ، وقيل لو شاءَ اللَّه لأنزل عليهم آية
تَضْطَرهم إلى الإيمان ، وقال بعضهم (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا).
أي لو شاءَ لاستأصلهم فقطع سبب شركهم.
* * *
وقوله : (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
نُهُوا في ذلك الوقت قبل القِتالِ أن يَلْعَنُوا الأصْنَامَ التي يَعْبُدهَا
المشركُونَ .

(2/280)


(فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ).
أي فَيسُبًّوا اللَّه ظلماً ، وقال بعضهم فيسبوا اللَّه عُدُوَّا.
وعَدُوَّا ههنا في معنى جماعة ، كأنه قيل : فيسبوا اللَّه أعدَاءً.
وعُدُوًّا منصوب في هذا القول على الحال . وعَدْواً منصوب على
المصدَرِ على إرادة اللام ، لأن المعنى فيعتدون عَدْوَاً ، أييظلمون طلماً.
ويكون بإرادة اللام أ أي فيبسوا الله للظلم ، وفيها وجه آخر . فيبسوا الله عُدواً - بضم الدال - وهو في معنى عُدُوا ويقال في الظلم عَدَا فلان عَدْواً وعُدُواً ، وعُدُواناً ، وعَدَاءً . أي ظلماً جاوز فيه القدْرَا.
وقوله تعالى عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ).
فيه غير قول : أنه بمنزلة (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فذلك تزيين أعمالهم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكفْرِهم).
وقال بعضهم : (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي زَيَّنَ لكل أمَّةٍ العَمل الذي هو
فرض عليهم . والقول الأول أجوذ . لأنة بمنزلة (طَبَعَ الله عَلَى قُلوبهم). والدليل على ذلك ، ونقض هذا قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
* * *
وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
أي اجتهدوا في المبالغة فى اليمين.
(لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا).

(2/281)


وإنما حلفوا على ما اقترحُوا هُمْ من الآيات ، وإنما قالوا :
(لَنْ نُومِنَ لكَ حَتَى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (والملائكة قَبيلاً).
أي تأتي بهم كفيلًا ، أي يَكْفُلون.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ.
ويروى أن المؤمنين قالوا : لو أنْزِلَ عليهم آية لعلهم كانوا يؤمنون ، فقال
الله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي وما يُدريكم ، أي لَستُم تعلمون الغيبَ ، فلا تدرون أنهم يؤمنون.
كما تقول للرجل إذا قال لك : افْعَل بي كذا وكذا حتى أفْعَل كذا وكذا مما لا تعلم أنه يفعله لا محالة : ما يدريك . ثم استأنف فقال :
(أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
هذه هي القراءَة ، وقرئت أيضاً (إِنَّها إذا جَاءَت لَا يؤمنون).
وزعم سيبويه عن الخليل أن معناها لعلها إذا جاءَت لا يؤمنون ، وهي
قراءَة أهل المدينة ، وقال الخليل : إنها كقولهم إِيت السوق أنك تشتري شيئاً ، أي لعلك.
وقد قال بعضهم إنها " أن " التِي على أصل الباب ، وجعل " لا " لَغْواً.
قال : والمعنى وما يُشْعِركم أنها إذا جاءَت يؤمِنُونَ ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95).

(2/282)


والقول الأولُ أقوى وأجودُ في العربية والكسرُ أَحَسَنُها وأجودها.
والذي ذكر أن " لا " لَغْوٌ غَالِطٌ ، لأن ما كان لغواً لا يكون غير لغو.
من قرأ : إنها إذا جاءَت - بكسر إنَّ - فالإِجماع أن " لا " غير لغو ، فليس
يجوز أن يكون معنى لفظةٍ مرةً النفي ومرة الإيجاب.
وقد أجمعوا أن معنى أن ههنا إذا فتحت معنى لعل ، والإجماع أولى بالِإتباع.
وقد بينْتُ الحجة في دفع . ما قاله من زعم أن لا لغو.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
هذا جواب قول المؤمنين : لعلهم يؤمنون.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لا يؤمنون ، وهذا كإِعْلام نوح : (أنهُ لَنْ يُؤمِنَ
مِنْ قَوْمِكَ إلا مَنْ قَدْ آمَنَ).
ومعنى (قُبُلًا) جمع قبيل ، ومعناه الكفيل.
ويكون المعنى : وحَشَرْنَا عَليْهِم كل شيء قبيلاً قبيلاً.
ويجوز أن يكون قُبُلٌ جمعَ قبيل . ومعناه الكفيل.
ويكون المعنى : لو حشرنا عليهم كل شيءٍ ونجعل لهم بصحة ما نقول ما كانوا
ليؤمنوا ، ويجوز أن يكون " قُبُلاً " في معنى ما يقابِلهم ، أي لَوْ حَشَرْنَا عليهم كل شيء فقابَلهمْ.
ويجوز وحشرنا عليهم كل شيء قِبَلًا أيْ عِيَاناً ، ويجوز قُبْلاً على تخفيف
قُبُل وكل ما كان على هذا المثال فتخفيفه جائز ، نحو الصُّحف والصحْف
والكُتب والكتْبُ ، والرسُل والرسْل .

(2/283)


ومعنى (إلا أنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أي إلا أنْ يَهْدِيَهُمْ اللَّه.
وجائز أن يكون نُنَزِّلُ عليهم آية تضطرهم إلى الإيمَانِ.
* * *
وقوله : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
أي وكما جعلنا لك ولأُمَّتِك شياطين الجن والإنس أعداءً كذلك جَعَلْنَا
لِمَنْ تَقَدَّمَكَ من الأنبياءِ وأمَمِهم . و (عَدُوًّا) في معنى أعداءِ.
و (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) منصوب على البَدلِ مِنْ (عَدُوًّا).
ومفَسِّراً له.
ويجوز أن يكون (عَدُوًّا)مَنْصوباً على أنه مفعول ثان.
المعنى وكذلك شياطين الجن والإنس أعداءِ للأنبياءِ وأممهم.
(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).
الزخرف في اللغة الزينة.
والمعنى أن بعضهم . يزَيِّن لبعض الأعمالَ القبيحة.
و (غُرُورًا) مَنْصوب على المصدَر ، وهذا المصدرُ محمول على المعنى.
لأن مبنى إيحاءِ الزخْرف من القول معنى الغرور.
وكأنه قال يَغرونَ غُروراً.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُة).
أيْ لَوْ شَاءَ الله لَمَنَع الشيَاطِينَ من الوَسْوَسَةِ للإنْس والجِنِّ ولكن اللَّهَ
يمتحن ما يعلم أنه الأبلغ في الحكمة والأجْزل في الثواب والأصْلَح للعبَادِ.
* * *
وقوله : (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
- معنى " لتَصغى " لتمِيلَ ، أي وليَصِيرَ أمرهم إلى ذلك.
ويجوز ، وَلتَصْغَى إِليْهِ أفْئِدَة.
يقال صَغَوْت أصْغَى مثل محوتُ أمْحى ، وإِنما جاز أصغَى وكان ينبغي
أن يكونَ أصْغو لموضع الغَيْن ، لأنها تفتح هي وأخواتها.
وهو أن يفعُل ويفْعِل

(2/284)


يصير معها في كثير من الكلام يفعَل نحو صبَغَ يصْبَغ وأصله يصبُغُ ، وهو يقال
ومِثْلُ ذهَبَ يذهبُ ، كأنه كان يَذْهُب ، ويقال صَغَيْتُ أصْغَى أيضاً ، وأصغَيْتُ ، أَصغَى شاذ ، وأصْغَيْتُ أصْغِي جيِّدٌ بَالغ كثير
وأفْئِدَة : جمع فؤاد ، مثل غراب وأغربة.
ومعنى : (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ).
جائز أن يكون وليعملوا ما هم عاملون من الذنوب ، يقال قد اقترف فلان
ذنباً ، أي قد عمل ذنباً.
ويجوز " ولْيقْتَرفُوا " أي ليخْتَلِقُوا ولْيَكْذِبُوا ، وهذه لاَم أنْ ، المعنى ولأن
يَرْضَوْه ولْيَقْتَرِفُوا على أن اللام لامُ أمر ومعناه معنى التهدُّدِ والوعيدِ ، كما
تقول افْعَل ما شئت ، فلفظه لفظ الأمر ومعناه معنى التهدُّدِ.
* * *
وقوله : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
أعْلَمَ اللَّه عزَّ وجلَّ - أن أكثرهم من الذين اتبعوا أكابِرَهم لَيْس عند
أنفسهم أنهم على بصائر ، وأنهم إِنما يَظُنون ، ومنهم من عانَدَ ، ومن يعلم أن
النبي حق.
فإن قال قائل : كيف يعذبُون وهم ظانون ، وهل يجوز أن يعَذَبَ من كفر
وهو ظَانٌّ ، ومَن لم يكفر وهو على يقين ؟
فالجواب في هذا أن اللَّه جل ثناؤُه قد ذكر أنَّه يعذَبُ على الظَنِّ.
وذلك قوله : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27).
والحجة

(2/285)


في هذا أنهم عُذَبُوا عَلى هذا الظن ، لأنهم اتبعوا أهْواءَهم وتركوا التماس
البصيرة من حيث يجب واقتصروا على الظن والجهل.
* * *
وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
موضعا مَنْ " رفع بالابتداءِ ، ولفظها . لفظ الاستفهام.
المعنى : إن ربك هو أعلم أي الناس يَضِل عن سبيله ، وهذا مثل قوله :
(لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
معناه كلوا مما أخْلَصْتم ذبحه للَّهِ ، والمنْعُ من الميْتَةِ دَاخِل في هذا.
وليس بين الناس اختلاف في أن المشركين ناظروا المسلمين ، فقالوا لهم :
تتركون ما سبقكم الله إلى إماتَتِه وتأكلون ما أمَتُّم أنْتمْ فأعلم جلَّ وعزَّْ أن الميتةَ حرام وأن ما قصِدَ بتَزكِيته اتَبَاعُ أمْرِ اللَّه عزَّ وجلَّ فذلك الحَلال.
فقال : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
وَمَوْضِغ (أنْ) نَصْبٌ لأن " في " سقطت فَوَصَل المَعْنَى إلى (أنْ) فَنَصَبَها.
المعنى أي شيءٍ يقع لكم في أن لا تأكلوا.
وسيبويه يجيز أنْ يكونَ موضع (أنْ) جرا وإِن سَقَطتَ " في " ، والنصْب عنده
أجود . -
قال أبو إسحاق : ولا اختلافَ بين الناسِ في أن الموضع نصْبٌ.
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).
وحُرمَ جميعاً ، أي فصل لكم الحلالَ مِن الحرامِ ، وأحَلَّ لكمْ في
الاضطرار ما حَرَّمَ عليكم .

(2/286)


فموضع (ما) نصب في قوله : (إلا مَا اضْطرِرْتمْ إلَيْه).
ومعنى ما اضْطُرِرْتم دعَتْكمُ شِدة الضرورَةِ ، أي شِدة المَجَاعةِ إلى أكله.
(وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
أي إن الذين يُحِلُّون المَيْتة ويُناظِرونكم في إحلالها ، وكذلك كل ما
يضلونَ فيه ، إنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بَصِيرةَ ولا علمَ عندهم.
* * *
وقوله : (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
جاءَ في التفسير أن ظاهرهُ الزنَا ، وباطنه اتخاذ الأخدان والأصدقاء على
جهة الريبة.
والذي يدُل عليه الكلام أن المعنى - واللَّه أعلم - اتركرا الإثم -
ظَهراً ، أو بَطْناً ، أي لا تقربوا ما حرَّم اللَّه عليكم جَهْراً ولا سِرًّا.
* * *
وقوله : جلَّ وعزَّ : (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
أي مِما لَمْ يُخْلَصْ ذبْحُه للَّهِ عزَّ وجلَّ.
(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ومعنى الفِسْق الخروجُ عن الحق والدِّين ، يقال فسقت
الرطبة ، إذا خرجت عن قشرتها.
(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ).
أي يُوَسوِسُ الشيطانُ لوَليِّه فَيُلْقي في قلبه الجدال بالباطِل ، وهو ما
وصفنا من أن المُشْركين جادلوا المسلمين في الميتة . -
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
هذه الآية فيها دليل أنَّ كل مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرمَ الله عليه أوحرَّم شيئاً
مما أحلَّ الله له فهو مُشرِكٌ.
لو أحلَّ مُحِل الميتة في غير اضطرار ، أو أحل الزنا لَكان مُشركاً بإِجماع الأمَّةِ ، وإن أطاع اللَّه في جميع ما أمر به ، وإنما سُمِّي مُشْرِكاً لأنه اتبع غير اللَّه ، فأشرك باللَّه غيره ،

(2/287)


وقوله : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
جاءَ في التفسير أنه يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو جهل بن هشام فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هُدِيَ وأعْطِيَ نُورَ الإسْلامِ والنُبوةَ والحكمَةَ ، وأبو جهل في ظلمات الكفر.
ويجوز أنْ تكون هذه الآية عامةً لكل من هداه الله ولكل من أضَلَّه اللَّهُ . فأعلم اللَّهَ جلَّ وعزَّ أن مَثَل المهْتدِي مَثَلُ الميتِ الذي أُحْييَ وجُعِلَ مستضيئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان ، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات لا يتخلص منها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
موضع الكاف نصب معطوفة على ما قبلها ، وهو قوله :
(كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
المعنى مثل ذلك الذي قصصنا عليك زُيَِّنَ لِلْكَافِرينَ عملُهم.
(وكذلك جعلنا) أي ومثلَ ذلك (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) ، لأن الأكابر ما هم فيه من الرياسة والسَّعةِ أدعى لهم
إلى المكر والكفر ، والدليل على ذلك قوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرزْقَ لعبادِهِ
لبغَوْا في الأرْضِ) وقوله : (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ).
ومعنى : (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ).
أي ذلك المكر يحيق بهمْ ، لأنهم بمكرهم يُعَذَبُونَ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
هذه الهاءُ والميم تعودان على الأكابر الذين جَرَى ذِكْرُهُمْ لأنهم

(2/288)


قالوا : لَن نُؤمِنَ حتى نُعْطَى منَ الآيَاتِ مثل ما أعْطِيَ الأنْبياء وأعلم اللَّهٌ
عزَّ وجلَّ أنه أعلم من يصلح ، فقال جلَّ وعزَّ : (وَلَقَدْ اخْتَرنَاهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى العَاَلمِينَ).
وقوله : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
أي هو أعلم بمَن يخْتَصُّ للرسالة.
وقال بعضهم لا يبلغ في تصديق الرسل إلا أن يكونوا قبل مَبعثهم مُطَاعِين
في قَوْمِهِمْ ، لأن الطعن كان يتسع عَلَيْهم ، ويقال إنما كانوا أكابرَ ورؤَساءَ
فاتبِعُوا.
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ).
أي هم وِإن كانوا أكابرَ في الدنيا سيصيبُهم صغارٌ عِنْد اللَّه أي مَذَلَّة.
و " عِند " متصلة بِـ (سيُصِيبُهم) عند اللَّه صغار.
وجائز أن تكون " عند " متصلة بصغار فيكون المعنى سيصيب الذين أجْرَمُوا صَغَارٌ ثابت لهم عند ، للَّهِ.
ولا تصلح أن تكونَ " من " محذوفة من (عِنْدَ) إنما المحذوف (في) من
(عند) في المعنى إذا قلت : زيد عند عمروٍ
والمعنى زيد في حضرة عمرو.
* * *
(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
يروى عن ابن مسعودٍ أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - :
وهَل ينشرح الصدر ؟
فقال نعم ، يدخل الْقَلْبَ النورُ ، فقال ابن مسعودٍ : هل لذلك من علم ؟
قال نعم ، التجافي عن دَارِ الغُرُورِ ، والإنابة إِلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل الموت .

(2/289)


(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)
يُروى عن ابن عباس أنه قال : الْحَرَج موضع الشجر الملتف ، فكان
قلبَ الكافرَ لا تَصِلُ إِليه الحكمة.
كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي يلتف فيه الشجر.
وأهل اللغة أيضاً يقولونه : الشجر الملتف يقال له ألْحَرَج.
والحرج في اللغة أضيق الضيق والذي قال ابن عباس صحيح حَسَنٌ.
فالمعنى عند أهل اللغة إنَّه ضيق جدًّا.
ويجوز حَرِجاً - بكسر الراءِ - فمن قال حَرِج فهو بمنزلة قولهم : رجل
دَنِفٌ ، لأن قولك دَنَف ههنا وَحَرَج ليس من أسماءِ الفاعلين . إِنما هو بمنزلة
قولهم : رَخلٌ عَدْل أي ذو عَدْل.
وقوله : (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
وَيصَّاعَدُ أيضاً ، وأصله يَتَصَاعَدُ ويَتَصَعَّدُ ، إِلَّا أنَّ التَاءَ تدغم في الصًاد
لقربها منها.
ومعنى كأنما يصَّعَّد في السماءِ - واللَّه أعلم - كأنه قد كلف أن يَصْعَد
إِلى السماءِ إذَا دُعِيَ إلى الِإسلام مِنْ ضِيق صَدْرِهِ عنه.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - كأنَّ قلبه يصعد في السماءِ نبُوًّا على الِإسلام واستماع الحكمة.
(كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي مثل قصصنا عليك يجعل الله الرجس على الذين لا يُؤمنون.
وَالرَجْسُ اللعنةُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة.
وقوله جلَّ وعزّ : (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

(2/290)


أي للمؤْمنين دار السلام ، وقال بعضهم : السلام اسم من أسماءِ اللَّه.
ودليله : (السَّلاَمُ الْمُومِنُ الْمُهَيْمِنُ).
ويجوز أن تكون سميت الجنة دار السلام لأنها دارُ السَلامة الدائمة التي لا تنقطع.
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
المعنى - واللَّه أعلم - فيقال لهم : (يَا مَعْشَر الْجِنَ قَدْ اسْتَكثَرْتُمْ مِنَ
الِإنْسَ).
المعنى قد استكثرتم ممن أضللتموهم من الإنس.
(وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ).
جاءَ في التفسير أن استمتاع الِإنس بالْجِن أن الرجُلَ كان إذا سافر سفراً
فخاف أو أصابَ صيداً ، قال أعوذُ بِرَبِّ هذا الوادي ، وبصاحب هذا الوادي يعني به الجِنَّ ، واستمتاعُ الجِنِّ بالِإنس أنَّ الِإنْسِي قد اعترف له بأنَّه يقدر أن يدفع عنه.
والذي يدل عليه اللفظ - واللَّه أعلم - هو قبول الإنس من الجن ما كانوا
يُغْوُونهم به لِقَوْله : (اسْتَكْثَرْتُم مِنَ الِإنْسِ).
فأما من كان يقول هذا أعني يستعيذ بالجنِّ فقليل.
(قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ).
الْمَثْوَى الْمُقَامُ.
(خَالِدِينَ فِيهَا).
منصوب على الحال ، المعنى : النار مُقَامُكم في حال خُلُودٍ دائم.
وقوله : (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ).
معنى الاستثناء عندي ههنا - واللَّه أعلم - إِنَّمَا هو من يوم القيامة ، لأن

(2/291)


قوله : (وًيوْمَ يَحْشَرُهُمْ جَمِيعاً) هو يوم القيامة ، فقال خالدين فيها مُذ يُبعثون إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِن مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ من قبورِهم ، ومقدارِ مدَّتِهم في محاسبتهم ، وجائز أن يكون إلا ما شاءَ الله أن يعذبهم به من أصناف العذاب ، كما قال
جلَّ وعزَّ : (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ).
فيجوز واللَّه أعلم إلا ما شاءَ ربك من مقدار حشرهم ومحاسبتهم
ويجوز أن يكون إلا ما شاءَ ربك مما يزيدهم من العذاب.
وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
أي هو حكيم فيما جعله من جزائهم ، وحكيم في غيره.
* * *
وقوله : (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
فقال : (رُسُلٌ مِنْكُمْ) وإِنما المرسل من الِإنس دون الجن ، فإِنما جاز ذلك
لأن الجماعة تعقل وتخاطب ، فالرسل : هم بعض من يعقل.
وهذا كقوله : عزَّ وجلَّ : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ).
وَإنَّمَا يخرجُ ذَلك مِنَ الْمِلْح.
أي البحر الذي ليس بعذبٍ ، فقال منهما لأن ذكرهما قَدْ جُمِعَ.
فهذا جائز في اللغة ، في كل ما اتَّفَقَ في أصله كما اتفقت الجِن مع الإنس في باب التمييز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
زَعَمَ سيبويه أنَّ موضِعَ ذلك رفع.
المعنى : الأمر ذلك لأنه (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ).
وقال بعضُهُم : يجوز أن يكون موضعها نصباً.
المعنى : قيل ذَلك لأنه

(2/292)


لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ، والمعنى يخرج على جميع القولين لأن
المعنى يدل على أمْر الإرسالِ ، فكأنه - واللَّه أعلم - ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل أمْر عَذَاب مَنْ كذَّبَ بها لأنه لم يكن مهلك القرى بظلمِ ، أيِ لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولًا.
كما قال عزَّ وجلَّ : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15).
وقوله : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
(كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ).
مَوضع الكاف نصب.
المعنى (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ) مثل ما أنشأكم.
يقال : أنشأَ اللَّه الخلق إذا خلقه وأبدأه ، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه.
ومن ذلك قولك فأنشأ الشاعر يقول ، أي ابتدأ من نفسه ، والنشَأ الصغارُ من الأولادُ.
قال نُصَيبٌ :
وَلَوْلَا أن يقال صَبَا نصَيبٌ . . . لقلت بنفسي النَشَأُ الصِّغَار
ولهذا يقال للصغار نَشءٌ حَسَنٌ ، ونُشوءُ حَسَن ، أي قد ظهر له ابتداء
حسن.
* * *
وقوله : (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
ومكاناتكُمْ ، المعنى اعملوا عَلَى تمكنكم.
ويجوز أن يكون المعنى اعملوا على ما أنتم عليه ، ويقال للرجل إِذا أمرته أن يثبت على حال : على مكانتك يا فلان ، أي أثبت على ما أنت عليه .

(2/293)


فإِن قال قائل فكيف يجوز أن يَأمُرَهُمْ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقِيمُوا على الكفر فيقول لهم : (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) ، فإِنما معنى هذا الأمْرِ المبَالغة في الوَعِيدِ ، لأن قوله لهم : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
قد أعلمهم أن من عمل بعملهم فَإلى النار مصيرُه ، فقال لهم : اقيموا
على ما أنتم عليه إِن رضيتم العذاب بالنار.
* * *
(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
والحامي الذي حَمَى ظهرَه أنْ يُرْكَبَ ، (وَأنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا).
فأعلم الله عزَّ وجلَّ انَّ ذَلِكَ افتَرَاء ، أي يفعلون ذلك افتراءً عليه ، وهو
منصوب بقوله : (لَا يَذْكُرُونَ اسمَ اللَّهِ).
وهذا يسميه سيبويه مَفْعُول لَهُ.
وَحَقِيقَتُة أن قوله : (لَا يَذْكُرونَ) بمعنَى يَفْتَرُون ، فكأنه قال يفترون افتراءً.
* * *
(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
وكأنَّه إذَا جَعَلُوا لأصْنَامِهِمْ مما في بطون الأنعام شيئاً
جَعَلُوه مَا يَكُون ذَكَراً مَوْلُوداً حيا يَأكُله الذكْرَان خَاصةً.
ولا يجيزون أن يأكلَ النساءُ شيئاً.
فإن كان ذكراً ميتاً اشترك فيه الرجَالُ والنساء
وهو قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَا).
ثم قال : (خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا).
فهو على ضربين : أجودهما أن يكون أنثَ الْخَبَرَ ، وجعل معنى " ما "
التأنيث لأنها في معنى الجماعة ، كأنَّهم قالوا جَمَاعَةً مَا فِي بُطُون هذه الأنعام

(2/294)


خالصة لذكورنا ، وُيرَدُّ (وَمُحَرَّمٌ) على لفظ ما ، وقال بعضهم أنَثَه لتأنِيث
الأنعام ، والذي في بطون الأنعام ليس بمنزلة بعض الشيءِ ، لأن قولك :
سَقَطَتْ بعض أَصَابعه " بعض أصابع " إصْبَعٌ وهي واحدة منها ، والذي في بطون الأنعام : مَا في بَطْن كل وَاحِدَ غيرها.
وَمَنْ قال يجوز على أن الجملة اأعام فكأنه قال : وقالوا الأنعام التي في بطون الأنعام خَالِصَةٌ لذكورنا.
والقول الأول الذي شرحنا أبيَن ، لقوله (وَمُحَرَّمٌ) ، لأنه دليل على الحمل
المعنى في " ما " عَلَى اللفظ.
وقرأ بعضهم (خالصةً لِذكورنا) ، فهو عندي - واللَّه أعلم - ما خَلصَ حَيا.
ويجوز (وإِن يَكنْ ميْتَةً) بالياء والتاءَات ، ونَصْبَ (ميتة).
المعنى وإِن تكن تلك الحمول التي في البطون ميتةً ، ومن قرأ وإن يكن
فعلى لفظ ما ، المعنى إِن يكن ما في البطن ميتة ، ويجوز " وإِنْ تكن مَيْتَةٌ "
بالتاءِ ورفع الميتة ، ويكون " تَكنْ " بمعنى الحدوث والوقوع كأنَّه وإِن تَقَعْ مَيْتَة
وإن تَحْدُثْ مَيْتَة.
وقوله : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهمْ).
المعنى - واللَّه أعلم - سيجزيهم جزاءَ وصفهم الذي هو كذِب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
(سَفَهًا)
منصوب على معنى اللام أي للسفه ، مثل فعلت ذلك حذرَ الشر.
ويجوز أن يكون منصوباً على تأويل المصدر ، لأن قتلهم أولادهم قد سَفِهوا فيه ، فكأنَّه قال : سفِهوا سَفْهاً ، فقال

(2/295)


عزَ وجل : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ).
وقد فسرنا نصب (افتراءً).
ومعنى الافتراءِ ههنا الكذب.
ثم احتج الله عليهم ونَبَّه على عظم مَا أتَوْه فِي أنْ أقْدَمُوا على الْكَذِب على اللَّه وأقْدَمُوا على أن شَرعُوا من الدِّينِ مَا لمْ يَأذَنْ به اللَّهُ فقال :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
فكأنه قال افتروا على اللَّه وهو المحدث للأشياءِ الفاعل ما لا يقدر أحدٌ
على الإتيان بمثله ، فقال عزَّ وجل :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) أي : ابتدع جنَاتٍ مَعْرُوشاتٍ ، والْجَناتُ الْبَسَاتِينُ.
(وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ).
ومعنى المعروشات ههنا الكروم.
(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ).
في حال اختلاف أكْلُهِ . وهذه مسألة شديدة في النحو إِلا على من عرف
حقيقتها ، لأن للقائل أن يقول كيف أنشأهُ في حَال اختلاف أكله وهو قد نشأ
من قبلِ وقُوعِ أكْلِهِ . وأكْلُه ثمره ؟
فالجواب في ذلك أنه عزْ وجلَّ قدَّرَ إنشَاءَه بقوله : (هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).
فأعلم عزَّ وجلَّ إنَّه المنشئ له في حال اخْتلافِ أكلِهِ ، ويجوز أنشأه ولا
أكل فيه مختلفاً أكُلُه ، لأن المعنى مُقَدِّراً ذلك فيه ، كما تقول . : لتدخُلُنَّ منزل زيد آكلين شاربين ، المعنى تدخلون مُقَدِّرِينَ ذلك.
وسيبويه دل على ذلك وبيَّنه في قوله : مررت برجل معه صقر - صائداً به غداً ، فنصب صائداً على الحال ، والمعنى مُقَدِّراً الصيد.
ومعنى (مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) .

(2/296)


على ضربين ، فأحدهما أن بعضه يشبه بعضاً ، وبعضه يخالف بعضاً
ويكون أن يكون مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ، أنْ تكونَ الثمَارُ يُشْبِه بعضها بعضاً في النظر وتختلف في الطعوم.
وقوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ).
ثَمَرَ جمعُ ثَمَرَةٍ ، ويجوز مِن ثمُرِهِ ، ويكون الثمُر جمعُ ثِمَار فيكون بمنزلة
حُمُر جمع حمارٍ . ويجوز من ثمْره . . بإِسكان الميم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).
يجوز الْحَصَادُ والحِصَادُ ، وتقرأ بهما جميعاً ، ومثله الجَداد والْجِدادَ
لِصِرَامَ النَّخل.
اختلف الناسُ في تأويل (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) فقيل إن الآية مكيَّةٌ.
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس صَرَمَ خَمْسَمائَةِ نَخْلة ففرَّق ثِمَارَها كُلَّه
ولم يُدْخِلْ مِنْهُ شَيْئاً إلى مَنْزِله ، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا).
فيكون على هذا التأويل أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى
عياله وأهله منه شيئاً فقد أسْرَفَ ، لأنه جاءَ في الخبر : ابْدَأ بِمَنْ تعُول.
وقال قومٌ إِنها مَدَنية ، ومعنى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) ، أدُّوا مَا افْتُرِضَ
عليكم في صَدَقَتِه ، ولا اختلاف بين المسلمين في أمر الزكوات أن الثمار إذا

(2/297)


حصدت وجب إِخراج ما يجب فيها من الصدقة فيما فرض فيه الصدقة ، فعلى هذا التأْويل يكون : (وَلَا تُسْرِفُوا) أي لا تنْفِقوا أموالكم وصَدَقاتِكمْ على غير الجهة التي افْتُرِضتْ عليكم ، كما قال المشركون :
" هذا ليس كائناً " وحرموا ما أحل اللَّه ، فلا يكون إِسرافٌ أبْيَنَ من صرف الأموال فيما يُسْخِط اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
نسق على الجنات ، المعنى وهو الذي أنشأ جناتٍ ، وأنشأ من الأنعامِ
حَمُولةً وَفَرْشاً والحَمولة الِإبل التي تُحَمَّلُ.
وأجْمَعَ أهل اللغة على أن الفَرْشَ صغارها.
وقال بعض المفسرين : الفرشُ صغارُ الِإبِلِ وإِن البقر والغَنم من الفرش
الذي جاءَ في التفسير ، يدل عليه قوله :
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)
وقوله (وَمِن الِإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِن الْبَقَرِ اثْنَيْنِ).
فلما جاءَ هذا بدلًا من قوله (حَمُولةً وَفَرْشاً) جعله للبقرِ والغنم مع الِإبل.
وقوله : (كُلُوا مِما رَزَقَكَمُ الله).
أي لا تُحَرِّموا ما حَرمْتم مما جرى ذكره.
(وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
في خُطوات ثلاثة أوجه : ضم الطاءِ وفتحها وإِسْكانها.
ومعنى خطوَاتِ الشيطانِ . طُرُق الشيطان ، قال بعضهم تَخَطَي الشَيطانِ الحلالَ إِلى الحرام.
والذي تدل عليه اللغة أن المعنى لا تسلكوا الطريقَ الذي يُسَوِّله لَكَم
الشيطان .

(2/298)


وقوله : (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
بَدَل من (حَمُولَةً وَفَرْشًا) والزوج في اللغة الواحد الذي يكون معه آخر :
(مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ).
والضَّأْنُ جمع ضائن وضَأن ، مثل تاجر وتَجْر.
(وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ).
هذا احتجاج عليهم . بَيَّن اللَّه عزَّ وجلَّ بِهِ فِرْيَتَهمْ وَكذِبَهمْ فيما ادَّعَوْه مِنْ
أن مَا فِي بُطونِ الأنْعَامِ حلال للذكور ومحرم على الإناث وما حرمُوا مِنْ سائر
ما وَصَفْنَا ، فقيل لهم آلذَّكرَيْنِ حرَّمَ فإن كان حرمَ من الغنَمَ ذُكُورَهَا فكل
ذُكُورِها حرام ، وإِن كان حرَّم الأنثيين فكل الإناثِ حَرَام ، وإن كان حرمَ ما
اشتملت عليه أرحام الأنثيين فقد حرم الأوْلاَدَ ، وكلُّهَا أوْلاَدٌ فَكُلُّها حَرَام.
وكذلك الاحتجاج في قوله : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ).
فقيل لهم (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ).
أي فسروا ما حرمتم بعلم ، أي وأنتم لا علم لكم لأنكم لا تؤمنُونَ
بكِتَاب.
* * *
(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا).
أي هل شاهدتم الله قد حرم هذَا إِذ كنْتُمْ لاَ تؤمِنُونَ برسول.
ثم بين ظلْمَهُم فقال :
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وقد بَيَّن الاحتجاج أنهم لا يؤْمنون بِنَبيٍّ ولا يَدَّعُون أن نبياً خبَّرهم عن
الله أن هذا حرام ، ولا أنهم شاهدوا اللَّه قد حَرَّمَ ذلك.
ثم قال :

(2/299)


(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أن التحريم والتحليل إنما يَقْبَلُه بالوَحي أو التنزيل فقال : (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا).
والمسْفُوح المصْبُوب ، فكأنه إذا ذَبَحوا أكَلُوا الدَّمَ كما يأكلونَ اللحمَ.
(أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ).
والرجْسُ اسم لما يُسْتقْذرُ ، وللعذاب.
(أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ).
أي رُفِعَ الصوْتِ على ذَبْحِهِ باسمِ غَيْر اللَّهِ ، وكانوا يذكرون أسماءَ
أوْثانَهم على ذَبَائحهم.
" فَفِسْق " عطف على لَحْمِ خِنْزِيرٍ ، المعنى إلا أن يكون
المأكول ميتةً أو دَماً مسْفُوحاً أو لحمَ خِنْزِيرٍ أو فِسْقاً.
فسُمِّيَ ما ذكر عليه غير اسم اللَّه فِسْقاً ، أي خُرُوجاً مِنَ الدِّينِ.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ).
أيْ دَعَتْه الضرُورةُ إلى أكْله فَأكَلَه غيرَ باغٍ ، أي غير قاصد لتحليل ما
حرم اللَّه.
(وَلَا عَادٍ).
أي ولا مُجَاوزٍ للقَصْد وقَدْرَ الحاجة . و " العَادِي " الظالمُ.
(فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أي يغفر لمن لم يَتَعَدَّ.
فأما إعراب (آلذَّكَرَيْنِ) فالئصْبُ بـ (حَرَّمَ).
وَتَثْبُتُ ألف المعرفة مع ألف الاستفهام لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ،

(2/300)


لأنه لو قيل ألذكرين حَرَّمَ بألف واحدة لالتبس الاستفهام بالخبر.
وقد يجوز جمع أم حذف الألف لأن أم تدل على الاستفهام لأنه لو قيل ألرجلَ ضربت أم الغلامَ لَدَلَّتْ " أمْ " على أن الأول ، داخل في الاستفهام.
وقد أجاز سيبويه أن يكون البيت على ذلك وهو قوله :
لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإِن كنتُ دارياً شُعَيْثُ بنُ سَهْم أَمْ شُعْيْثُ بنُ مِنْقَرِ
فأجاز أن يكون على أشعيثُ بن سهم ، ولكن القراءَة بتبيين الألف الثانية
في قوله : (آلذَّكَرَيْنِ).
* * *
وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
ئعْنَى بِه الإبل والنعامُ ، لأن النعام ذوات ظفر كالإبل.
(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا).
فقال بعض الناس : . حُرمَتْ عليهم الثرُوب ، وأحل لهم ما سواها مما
حملت الظهور.
(أَوِ الْحَوَايَا)
وهي المباعرُ واحدها حَاوِية وحاوِيَاءُ وحَوِيَّة.
(أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).
نحو شحم الإلية . وهذا أكثر القولين ، وقال قوم حُرمَتْ عَليهم الثروبُ.
وأحل لهم ما حملت الظهور وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظم إِلا ما حملت
الظهور فإِنه غير محرم ، و " أوْ " دخلت على طريق الِإباحة ، كما قال جَلَّ وعزَّ :

(2/301)


(وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24).
فالمعنى كل هُؤلاءِ أهل أن يُعصَى.
فاعصِ هذا ، واعصِ هذا
و " أو " بليغة في هذا المعنى ، لأنك إِذا قلت : لا تطع زيداً وعمراً فجائز أن تكون نهيتني عن طاعتهما معاً في حال إِن أطَعتُ
زيداً على حِدَتِه لم أكُنْ عَصيتُكَ ، وإذا قلتَ : لا تطعْ زيداً أو عمراً أوخالداً ، فالمعنى أن هُؤلاءِ كلهم أهل ألا يُطاعَ فلا تطع واحداً منهم ولا تطع الجماعة.
ومثله جالس الحسن أو ابن سِيرين أو الشَعبي ، فليس المعنى أني آمرك
بمجالسة وَاحد منهم ، ولكن مَعْنَى " أوْ " الِإباحة.
المعنى كُلهم أهل أن يُجَالَس ، فإِن جالست واحداً منهم فأنت مصيب وإِن جالست الجماعة فأنت مصيب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
زعم سيبويه أن العَطْفَ بالظاهر على المضمر المرفوع قبيح ، يستقبح
قمت وزيدٌ ، وقام وزيدٌ ، فإن جاءَت " لَا " حَسُنَ الكلامُ فقلت : لا قمتُ ولَا زيد ، كما أَنَه إذا أَكد فقال قمت أَنت وزيد حَسُن ، وهو جائز في الشعر.
فأما معنى الآية فإن اللَّه جل ثناؤُه أخبر عنهم بما سَيَقولُونَه ، وقولهم :
(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) جَعَلُوا هَذَا القَوْلَ حُجةَ فِي إِقامَتهمْ عَلى شِركِهِِم فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).
والحُجَّةُ عَليهم في هذا أنهُم إِذا اعْتَقَدُوا أن كُل مَنْ كان على شيءٍ.
والأشياءً تجري بمشيئة الله تعالى - فهو على صَوابٍ فلاَ مَعنى إِذن - على
قولهم - للرسَالةِ والأنبياءِ ، فيقال لهم : فالذين على دين يخالفكم ، أليس هو
على ما شاءَ اللَّه ، فينبغي ألا تَقُولوا إِنهمْ ضالُّونَ ، وهو عزَّ وجلَّ يَفْعَلُ مَا يَشاء ،

(2/302)


وهو قادر على أن يَهْدِيَ الخلْق أجمَعين ، وليس لِلعِباد على الله أن يَفْعَل بهم
كل مَا يَقْدِرُ عَليهْ ، فقال عزَّ وجلَّ :
(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
فحجته البالغة تَبْيينهُ أنَّهُ الواحدُ وإرْسالُه الأنبياءَ بالحجج التي يعجز عنها
المخلوقون :
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
زعم سيبويه أنها " ها ، ضمت إليها " لُمَّ " وجَعلتا كالكلمة الواحدة.
فأكثر اللغات أن يقال هَلُمَّ للواحد والاثنين والجماعة.
بذلك جاءَ القرآن نحو قولهم : (هَلُمَّ إِلَيْنَا).
ومعنى (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ) أي فهاتوا شهداءَكم ، وقربوا شهداءَكم ، ومن
العرب من يثني ويجمع ويؤَنث ، فيقول للذكر هَلُمَّ ، وللاثنين هلمَّا وللجماعة
هَلُمُّوا ، ْ وللمرأَة هَلُمِّي وللاثنتين هلمَّا ، وللنسوة هَلْمُمْنَ.
وفتحت الميم ، لأنها مُدْغمة كما فتحت رُدَّ في الأمر لالتقاءِ السَّاكنين.
ولا يجوز هَلُم إلينا للواحد بالضم . كما يجوز في رُد الفتح ؛ والضم والكسر ، لأنها لا تتصرف.
وقوله : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)
فَـ " مَا " في مَوْصع نصب إِنْ شِئْتَ بـ (أَتْلُ).
والمعنى تعالوا أتْلُ الذي حرَّمَ ربكم عليكم ، وجائز أن تكون " ما " منصوبة بـ (حَرَّم) لأن التلاوة بمنزلة القول.
كأنه قال : أقول أي شيءٍ حرَّم ربكم عليكم ، أهذا أم هذا ، فجائز أن يكون
الذي تَلاهُ عَلَيْهم قَوْله : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا).
ويكوِن (أَلَّا تُشْرِكُوا) منصوبة بمعنى طرح اللام أي : أبين لكم الحرامَ لئلاً تُشْرِكُوا بِه شَيْئاً ، لأنهم

(2/303)


إِذَا حَرَّمُوا ما أحَل اللَّه فقد جَعَلُوا غيرَ اللَّه - في القَبُول منه - بمنزلة الله
جلَّ وعزَّ فَصَارُوا بِذلك مُشْرِكينَ.
ويجوز أن يَكونَ (أَلَّا تُشْرِكُوا) مَحْمُولاً على المعنى ، فيكون :
" أتل عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا به شيئاً "
فالمعنى أتْلُ عَليْكُم تَحْرِيمَ الشرْكِ بهِ.
وجائز أن يكون على معنى أوصِيكم (أَلَّا تُشْرِكُوا بِه شيئاً)
لأن قوله : (وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً) محمولٌ على معنى أوصيكم بالوالدين إحساناً.
وقوله : (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ).
أي لَا تَقْتُلُوا أولادكم من فَقْرٍ ، أي من خَوْفِ فَقْرٍ.
(وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).
بدل من الفواحش في موضع نصب.
المعنى لا تَقْرَبوا ما ظهر من الفواحش وما بطن ، جاءَ في التفسير أنَّ مَا
بَطنَ منها الزنَا ، وما ظهر اتخاذُ الأخْدَان وَالأصدقاءِ على جهة الريبة.
وظاهر الكلام أن الذي جرى من الشرك باللَّه عزَّ وجلَّ وقتل الأولاد وجميع ما حرَّموه مما أحَل اللَّهُ عزَّ وجلَّ فَوَاحش ، فقال : ولا تَقْربوا هذه الفَوَاحِشَ مظْهرين ولَا مُبْطِنِينَ ، واللَّه أعلم.
وقوله : (ذلِكمْ وَصَّاكمْ بِهِ).
يدل على أن معنى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
* * *
وقوله : (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
قال بعضهم : التي هي أحسن رُكُوبُ دابتِه واستخدام خادِمه ، وليس في

(2/304)


الظاهر أن هذا هو المراد ، وإنما التي هي أحسن حفظ ماله عليه ، وتثْمِيرُه
بما وُجِدَ إليه السبيل.
قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).
" حَتَّى " محمولة على المعنى ، المعنى احْفَظُوه عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
أي فإذا بلغ أشده فادفعوه إليه.
وبلوبخ أشُده أن يؤنَس منه الرُّشْدُ مَع أنْ يكونَ بالغاً.
وقال بعضهم : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) حَتى يَبْلُغ ثمانيَ عَشْرة سَنة ، ولسْتُ أعْرفُ مَا وَجْهُ ذلك بأن يبلغَ قبل الثماني عشرة وَقد أنِسَ منه رشداً فدفْعُ مالِه إلَيه واجب.
وقوله " جلَّ وعزَّ : (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
أي إذا شَهِدْتم أوْ حَكَمتُم فاعْدِلوا ، ولو كان المشهودُ عليه أوْ لَهُ ذَا قربى.
* * *
(قوله : (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
الأكثر في القراءَة بفتحَ النون ، ويجوز (أحْسنُ) على إضْمارِ على
الذي هو أحسنُ . فأما الفتح فعلى أن (أحسنَ) فعل ماض مبني على الفتح.
وأجاز الكوفيون أن يكون في موضع جَر ، وأن يكون صفة الذي ، وهَذَا عند
البصريين خَطَأٌ فاحش ، زعم البصريون أنهم لا يعرفون " الَّذِي " إلا
موْصُولَة ، ولا تُوصَفُ إلا بَعْدَ تَمَام صلتها ، وقد أجمع الكوفِيونَ مَعَهُمْ على أن الوَجْهَ صِلتُها ، فيحتاجون أن يثبتوا أنها رفعت موصولة ولا صلة لها ، فأمَّا دخول " ثم " في قوله : (ثُمَّ آتَيْنَا) وقد علمنا أن (ثُمَّ) لا يكون الذي بَعْدهَا أبداً مَعناه التقْدِيم أِ ، وقد علمنا أن القرآن أنزل مِن بعْدِ موسى ، وبعد التوراة .

(2/305)


ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
فقال : (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) فإنما دخلت ثم في العطف على التلاوة.
والمعنى قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ مَا حَرَّمَ رَبكُمْ عَلَيكُمْ ، أتْلُ عليْكم ألا تَقْتلُوا
أولادَكم ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ، ثم أتلو ما آتاه اللَّه موسى.
ومعنى (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يكون على " تماماً على المحسن "
المعنى : تماماً من الله على المحسنين ، ويكون (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي على
الذي أَحْسَنَه مُوسَى مِنْ طاعَةِ اللَّهِ واتبَاع أمرِه.
ويجوز تماماً على الذي هُوَ أحْسنُ الأشْياءِ.
و " تمام " منصوب مفعول له ، وكذلك وتفصيلاً لكل شيء.
المعنى آتيناه لهذه العلة أي للتمام والتفصيل.
* * *
وقوله : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
والمبارَكُ ما يأتي من قِبَلِهِ . الخيرُ الكثيرُ ، وهو من نعت (كتاب)
ومن قرأ " أنْزَلْنَاهُ مُبَارَكاً " جاز ذلك في غير القراءَةِ ، لأن المصحف لا يُخَالَفُ ألبَتَّةَ.
وقوله : (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أيْ لِتَكونوا رَاجِينَ للرحْمَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
قال بعضهم : معناه أنْزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا إِنما أنزِلَ الكتابُ أي أنزلناه لتنْقَطِعَ
حُجتُهمْ ، وإِنْ كانت الحجةُ للَّهِ عزَّ وجلَّ ، لأن الكتُبَ التي أنْزِلَتْ قبلَ
النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كانت فيها الحجة ، ولم يكن اللَّه عَزَّ وجلَّ : لِيَتْركَ خَلقَه سُدًى بغير حجة ، ولكن في تنزيل الكتاب والنبي - صلى الله عليه وسلم - غاية الحجة ، والزيادة في الإبَانةِ .

(2/306)


وقال البَصْريون : معناه أنزلناه ، كراهةَ أن تقولوا ، ولا يُجِيزون إضمار
" لا " لَا يقولون جئتُ أنْ أكْرِمَك ، أي لئلا أكرمَك ، ولكن يجوز فعلت ذلك أن أكرمَك ، على إضمار محبة أن أكرمك ، وكراهة أن أكرمكَ ، وتكون الحال تنبئ عن الضمير.
فالمعنى : أنزل الكتاب كراهة أن يقولوا : - إِنما أنزلت
الكتُب على أصحاب موسى وعيسى.
(وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ).
المعنى : وما كنا إلا غافلين عن تلاوة كتبهم.
* * *
(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
(أَوْ تَقُولُوا) المعنى أو كراهة أنْ تَقُولُوا.
(لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ).
وإنما كانوا يقولون (لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) لأنهم كانوا مُدِلِّين بالأذهان
وحُسْنِ الأفْهَام ، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم وآثارهم ، وهم
أُمِّيونَ لا يَكْتُبونَ.
وقوله : (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ).
أي فقد جاءَكم ما فيه البيان وقطعُ الشُّبُهَاتِ عَنْكُمْ.
* * *
وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ).
أي إلا أنْ تَأتِيهم ملائكةُ الموْتِ.
(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ).
أو يأتي إهْلاَكُ رَبِّك إيَّاهم وانْتِقامُهُ مِنْهُم ، إمَّا بعذَاب عاجل أو بالقيامة.
وهذا كقولنا : قَدْ نَزَلَ فُلان ببَلَد كَذا وكَذَا ، وقد أتَاهُمْ فُلانٌ أي قَدْ أوْقَع بِهِمْ.
وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ).

(2/307)


نحو خروج الدابة : أو طلوع الشمس منْ مغربها.
وقوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).
أي لا يَنْفَعُها الإيمَانُ عِند الآية التي تضْطَركم إلى الإيمان ، لأن اللَّه
جلَّ ثناؤه قال : (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
وبعث الرسل بالآيات التي تُتدَبَّر ، فيكون للمؤمِنِ بها ثوابٌ ولو بعث اللَّه على كل من لم يؤمن عذاباً ، لاضطر الناس إلى الإيمان به : وسقط التكليف والجزاء.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
قال بعضهم : هذه نزلت قبل الحرب ، أي ليس عليك قِتَالُهم إنَّمَا أمْرُهُمْ
إلَى اللَّهِ.
ومعنى (وَكَانُوا شِيَعًا) أي كانوا مُتَفَرقِين فِي دِينهمْ.
يعنى به إليهود والنصارى ، لأن النصارى بَعْضُها يكفر بعضاً وكذلك
اليهودُ ، وهم أيضاً أهْلُ التوراة ، وبعضهم يكفر بعضاً ، أعني إليهود تكفر
النصارى ، والنصارى تكفر إليهودَ.
وفي هذه الآية حَث على أن تكون كلمةُ المسلمين واحدة ، وأن لا
يتفرقُوا في الدين وأن لا يبتدعوا البدع ما استطاعُوا.
فقوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
يدل على أن مَن فَرقَ دِينَه مِن أهْلِ مِلةِ الإسْلَامِ وابْتَدع البِدعَ فقد صَارَ
بِهِ مِنْهُمْ.
ومعنى شَيَّعْتُ في اللغة اتَّبَعتُ . والعرب تقول : شاعكم السِّلْمُ وأشاعكم

(2/308)


السَّلْمُ ، ومَعْنَاهُ : تَبِعكُمْ السِّلْمُ.
قال الشاعر :
ألا يا نخْلة من ذَاتِ عرقٍ . . . بَرود الظل شايعَكِ الظلام
وتقول : آتيتك غداً أو شيَعَهُ أي أو اليومَ الذي يتبعه ، فمعنى الشيعة
الذين يتبع بعضهم بعضاً ، ومعنى الشيعُ الفرقُ التي كل فرقة منهم يتبع
بعضهم بعضاً وليس كلهم متفقين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
القراءَة : (فلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا) ، والمعنى فله عَشْرُ حَسَنات أمثالها وكما يجوز
عندي خمسة أثواباً ، ويجوز فله عَشْرُ مِثْلِها في غير القراءَة فيكون المثل في
لفظ الواحد وفي معنى الجميع ، كما قال : ، (إنكم إذاً مِثْلُهمْ).
ومن قال أمثالها فهو كقوله : (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)
وإنما جاءَ على المثل التوحيدُ.
وَأنْ يكون في معنى الجميع ، لأنه على قدر ما يشبه به ، تقول مررت بقوم
مِثلكم ، وبقوم أمثالكم .

(2/309)


فأما معنى الآية فإنه من غامض المعاني التي عند أهل اللغة لأن
المجازاة على الحسنة من اللَّه جلَّ ثناؤُه بدخول الجنة شيء لا يُبْلَغُ وصفُ
مِقْدارِه ، فإذا قال : عَشْرُ امثَالها.
أو قال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ).
مع قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ، فمعنى هذا كله أن جزاءَ اللَّه جلَّ ثناؤُه على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس ، ويضاعف
الله ذلك بما بين عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إِلى أضعاف كثيرة.
وأجمع المفسرون على قوله : (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)
لأن السيئة ههنا الشرك باللَّهِ.
وقالوا : (من جاءَ بالحسنة) هي قول لا إله إلا اللَّه ، وأصل الحسنات
التوحيد ، وأسوأ السيئات الكفر باللَّه جلَّ وعزَّ.
* * *
(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
والصراط الدين الذي دلني على الذين الذي هو دين الحق ، ثم فسر
ذلك فقال : (دِينًا قِيَمًا).
والقيم هو المستقيم ، وقرئت (ديناً قَيِّمًا) وقِيِّم مصدر كالصغر والكبر ، إلا
أنه لم يقل " قِوَمٌ " مثل قوله : (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) لأن قولك قام قيماً

(2/310)


كأنه على قَوُمَ أو قَوِمَ ، فلما اعتل فصار قام اعتل قِيَم ، فأما حِوَل فهو على أنه جار على غير فعل.
وأما نصب (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).
فمحمول على المعنى ، لأنه لما قال : هَدَاني إلى صراطٍ مستقيم ، دل على عَرفَنِي ديناً قِيماً.
ويجوز أن يكون على البدل من معنى هدَاني إلى صراط مستقيم.
المعنى هداني صراطاً مستقيماً ، دِيناً قِيماً ، كما قال - جلَّ وعزَّ - :
(وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا).
و (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) بدل من (دِينًا قِيَمًا)
و (حنيفاً) مصوب على الحال من إبراهيم ، المعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته ، وهو ههنا لإبراهيم حسَن منه لغيره.
(وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ).
وقد فسرنا معنى الحنيفية وأنها الميل إلى الإسلام ميلاً لا رجوع معه.
* * *
وقوله (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
قالوا : النسك الذبْحُ ، والنسكُ مَا يُتَقربُ به إلى اللَّه جلَّ وعزَّ.
(وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي).
الياء ياء الإضافة ، فتحت لأن أصلَها الفتح ، ويجوز إسكانها إذا كان ما
قبلها متحركاً.
يجوز (مَمَاتي) وِإن شئتَ قرأت " مَمَاتِيَ لله " بفتح الياء.
وإنْ شئْتَ أسْكنْتَ فأما يَاءُ محيايَ فلا بُدَّ من فتحها لأن قبلها ساكن.
ومعنى الآية أنه يخبر بأنه إنما يتقرب بالصلاة وسائر المناسك إلى اللَّه
جلَّ وعزَّ لا إلى غيره ، كما كان المشركونَ يذبحون لأصنامهم.
فأعلم أنه اللَّهُ وحده بقوله : (لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
* * *
وقوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
أي هو ابتدع الأشياءَ كلها لا يقدر أحد على ابتداع شيءٍ منها .

(2/311)


وقوله : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى ، لا يؤخذ أحدٌ بذنب غيْره.
* * *
وقوله :)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
قيل خلائف الأرض أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين فأُمَّتُه قد خلفت سائر الأمم.
وقال بعضهم : خلائف الأرض يخلف بعضكم بعضاً.
(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ).
فدلَّ بهذا أنه فضَّل بعضَ الناس ليختبرهم فيما رزقهم وهو جل ثناؤُه
عالم بما يكون منهم قبل ذلك ، إلا أنه اختبرهم ليظهر منهم ما يكون عليه
الثواب والعقاب.
وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
إن قال قائل : كيف قيل سريع العقاب . وعقابَه إنما يكون في القيامة.
وإن كان بعضُه قد وقع في الدنيا ؟
فإنما ذلك لأن أمرَ الساعة سريع ، لأن كل ما زال وإن تَطَاوَلَ فهو بمنزله ما لم يُحَسَّ سُرْعَة ، وكذلك قوله جل ثناؤُه :
(وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)
وكذلك قوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7).

(2/312)


سورة الأعراف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (المص (1)
قد فسرنا هذه الحروف في أول سورة البقرة ، إلا أنا أعدنا ههنا شيئاً من
تفسيرها لشي في إعرابها ، والذي اخترنا في تفسيرها . قولُ ابن عباسٍ أن
(المص) معناه أنا اللَّه أعلم وَأفصِّلُ
وقال بعض النحويين موضع هذه الحروف رفع بما بعدها ، قال : (المص كتاب) ، كتاب مرتفع بالمص ، وكأن معناه المص
حروف كِتَابٍ أنزل إِليك ، وهذا لو كان كما وصف لكان بعد هذه الحروف أبداً ذكر الكتاب ؛ فقوله : (الم اللَّهُ لَا إِلهَ إلا هُوَ) يدل على أن (الم) لا مرافع
لها على قوله ، وكذلك : (يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ، وكذلك : (حَم عسق
كَذَلِكَ يُوحَى إليْك) ، وقوله : (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه).
فهذه الأشياءُ تدل على أن الأمر علي غير ما ذكر ، ولو كان كذلك أيضاً
لما كان (الم) مكرراً ، ولا (حم) مكرراً .

(2/313)


وقد أجمع النحويون على أن قوله عزَّ وجلَّ (كتابٌ أنْزِلَ إِليك) مرفوع
بغير هذه الحروف ، المعنى هذا كتاب أنزلَ إِليك ، وهو مُجْمِع مَعَهُم على أن
ما قَالُوه جائز فيجب اتباعُهم من قولهِ وَقَوْلهِمْ ، ويجب على قائل هذا القول
التثبيت على مخالفتهم ، ولو كان كما يصف لكان مُضمِراً اسمين فكان
المعنى (الم) بعض حروف كتاب أنزل إليك ، فيكون قد أضمر المضاف وما
أضيف إِليه ، وهذا ليس بجائز.
فإن قال قائل قد يقول ألف . با . تا . ثا . ثمانية وعشرون حرفاً ، وإنما
ذكرت أرَبعة فمن أين جاز ذلك ، قيل قد صار اسم هذه ألف . با . تا . ثا ، كما أنك تقول : الْحَمْدُ سَبْعُ آياتٍ فالحمد اسم لجملة السورة ، وليس اسم الكتاب الم ، ولا اسم القرآن " طسم). وهذا فرق بَيْن.
وهذه الحروف كما وصفناحروف هجاء مَبْنِية على الوقف ، وهي في
موضع جُمَلٍ ، والجملة إِذا كانت ابتداءً وخبَراً فقط لا موضع لها . فإِذا كان
معنى كهيعص ، معنى الكاف كافٍ ، ومعنى الهاء هادٍ ، ومعنى اليَاء والْعَيْن مِن
عَلِيم ومعنى الصاد من صَذوقٍ ، وكان معنى " الم " أنا أعْلَمَ ، فإِنما موضعها
كموضع الشيء الذي هُوَ تأويل لَهَا . ولا موضع في الِإعراب لقولك : أنا
اللَّه أعلم ، ولا لقولك ؛ هو هاد ، وهو كاف ، إِنما يرتفع بعض هذا ببعض.
والجملة لا موضع لها .

(2/314)


وقوله : (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
فمعنى الحرج الضيق . وفيه وجهان ، أحدهما أن يكون لاَ يَضِق صدْرُكَ
بالإبلاغ ولا تخافن ، لأنه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : رب إِني أخاف أن يثلغوا رأسي فيجعلوه كالخبزةِ ، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّه في أمان منهم ، فقال : (وَاللَّهُ يَعصِمُك مِنَ النَّاسِ) ، وقال : (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).
أي فلا - يَضِيقَنَ صَدْرُكَ من تَأدِيَةِ مَا أرْسِلْتَ بِهِ.
وقيل أيضا : فلا تَشُكَن فيه.
وكلا التفسيرين له وجه ، فَأما تأويل فلا تَشُكَنَّ ، وتأويل (فَلَا تَكونَنََّ مِنَ
المُمْتِرِين) ، وتأويل : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإِن ما خوطب به - صلى الله عليه وسلم - فهو خطاب لأمتِهِ ، فكأنه بمنزله " فلا تشكوا ولا ترتابوا ".
وقوله : (لِتنْذِرَ بهِ).
معناه التقديم ، والمعنى واللَّه أعلم - كتاب أنزل إِليك لتنذر به وذكرى
للمؤمنين ، فلا يكن في صدرك حرج منه.
(وَذِكرَى) يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وَجَرٍّ فأمَّا النصب فعلى
قولك : أنْزِلَ لِتنْذِرَ به وذكرى للمؤمنين ، أي ولتذكر به ذكرى ، لأن في الإِنذارِ مَعنى التذكير .

(2/315)


ويجوز أن يكون وَهُوَ ذكرى للمؤمنين كقولك وهو ذكر للمؤمنين.
فأما الجر فعلى معنى لِتُنْذِرَ ، لأن معنى " لِتنْذِرَ " لأن تُنْذِرَ فهو في موضع
جر . المعنى للإنذار والذكرَى . فأما ذِكْرَى فمصدر فيه ألف التأنيث ، بمنزلة
دعوت دعوى ، وبمنزلة رَجَعْتُهُ رُجْعَى . واتقَيْتُ تقوى ، إلا أنه اسم في موضع
المصدر.
* * *
وقوله : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
أي اتبِعُوا القرآن ، وَمَا أتِيَ به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مما أنزل عليه لقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا آتَاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
(وَلَا تَتبِعُوا مِنْ دُونهِ أوْليَاءَ).
أي لَا تَتَوَلَّوْا مَنْ عَدَلَ عن دين الحق ، ومن ارتضى مذهباً من المذاهب.
فالمؤْمن وليُّ المْؤمِن.
(وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْليَاءُ بَعْض).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَلِيلًا مَا تَذَكرُونَ).
ما زائدة مُؤَكِدَة ، المعنى قليلًا تذكرون ، وفي تذكرون وجهان في
القراءَة : قَلِيلًا مَا تَذَّكرون - بالتشديد - في الذال ، والمعنى : قليلاً ما تتذكرون ، إلا أن التاءَ تدغمُ في الذال لقرب مكان هذه من مكان هذه.
ومن قرأ (تَذَكَّرُونَ) فالأصل - أيضاً - تتذكرون ، إلَّا أنَّه حذف إِحدى
التاءَين ، وهي التاءُ الثانية لأنهما زائدتان ، إِلا أن الأولى تدل على معنى
الاستقبال فلا يجوز حذفها ، والثانية إنما دَخَلَتْ على معنى فعلت الشيءَ عَلَى
تمهُّل ، نحو تَفَهَّمْتُ وَتَعَلَّمْتُ ، أي أحدثت الشيءَ على مَهَلٍ ، وتدخل على

(2/316)


معنى إظهار الشيءِ والحقيقة غيره ، كافولك تقيَّسْتُ أي أظهرت أني قَيْسِيٌّ.
فإنما المحذوف من تتفعلون الثانية ، لأن الباقي في الكلمة من تشديد
العين من تفعل يدل على معنى الكلمةِ ، ولو حذفت تاء " استقبال " لبطل معنى الاستقبال.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
المعنى وكم من أهل قرية أهلكناهم ، إلا أن أهل حذف لأن في الكلام
دليلًا عليه.
وقوله : (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا).
محمول على لفظ القرية ، ولو قيل فجاءَهم لكان صواباً.
وقوله : (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ).
قال بعض النحويين : المعنى وهم قائلون ، والواو فيما ذكر محذوفة
وهذا لا يحتاج إلى ضمير الواو ، ولو قلت : جاءَني زيد راجلًا أو وهو فارس.
أوجاءَني زيد هو فارس لم تحتج إلى واو ، لأن الذكر قد عاد إلى الأول.
ومعنى (بَيَاتًا) : ليلًا ، يقال بات بياتاً حسناً ، وبيتةً حسنَة ، والمصدر في
الِإصابات بيتاً . والبيت بيت الشعر وكذلك بيت المدَرِ ، وإنما أصل تسميته من أنه يصلح للمبيت ، ويقال لفلان بيتة وليلة وَبَيْتُ ليلة ، أي ما يكفيه من القوت في ليلة.
ومعنى (أوْ هُمْ قائِلُونَ).
أي أو جاءَهم بأسنا نهاراً في وقت القائلة ، يقال قِلتُ من القائلة ،

(2/317)


فالمعنى إِنهم جاءَهم بأسنا غفلة ، وهم غير متوقعين له ، إِما ليلاً وهم نائمون.
أو نهاراً وهم قائلون كأنهم غافِلون.
وأو ههنا دخلت على جهة تصرف الشيءِ ووقوعِه ، إما مرة كذا ، وإِما
مرةً كذَا ، فهي في الخبر ههنا بمنزلة أو في الإباحة ، تقول جالس زيداً أو
عمراً ، أي كل واحدٍ منهما أهلٌ أن يُجَالِسَ ، وَاو ههنا أحسن من الواو ، لأن الواو تتضمن اجتماع الشيئين ، لو قلت : ضربت القوم قياماً وقعوداً ، لأوجَبَتِ الواو أنك ضريتهم وهم على هاتين الحالتين ، وَإِذَا قلتَ : ضربتهم قياماً أو ضربتهم قعوداً ، ْ ولم تكن شاكًا ، فإِنما المعنى أنك ضربتهم مرة على هذه الحال ، ومرة على هذه الحال.
وموضع " كم " رفع بالابتداء وخبرها أهلكناها ، وهو أحسن من أن تكون
في موضع نصب ، لأن قولك زيد ضربْتُه أجوَدُ من زيداً ضربتُه . -
والنصب جَيد عربي أيضاً مثله قوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).
* * *
وقوله : (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
المعنى - واللَّه أعلم - أنهم لم يحصلوا مما كانوا ينتحلونه من المذهب
والذين ويدعونه إِلاَّ عَلَى اعتراف بأنهم كانوا ظالمين ، والدعوى اسم لما
يَدَّعِيه ، والدعوى يصلح أنْ تكونَ في معنى الدعَاءِ لو قلت : اللهم أشركنا في
صالح دعاءِ المسلمين ودعوى المسلمين جاز ، حكى سيبويه ذلك وأنشد :

(2/318)


وَلَّت ودَعْواهَا كثير صَخَبُه
وموضع " أن " الأحسن أن يكون رفعاً ، وأن تكون الدعوى في موضع
نصب ، كما قال جل ثناؤُه : (مَا كانَ حجتهم إلا أنْ قَالوا) ويجوز أن يكون
في موضع نصب ، ويكون الدعوى في موضع رفع إِلا أن الدعوى إذا كانت في موضع رفع فالأكثر في اللفظ " فما كانَتْ دَعْوَاهمْ " كذا وكذا.
" إِلا أن " لأنَّ الدعوى مَؤنثة . في اللفظ ، ويجوز كان دعواه باطلًا وباطلة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
اختلف الناس في ذكر الميزان في القيامة ، وجاءَ في بعض التفسير أنه
ميزان له كِفَّتَان ، وأن الميزانَ أنْزلَ إِلى الدنيا ليتعامل الناس بالعدل وتوزن به
الأعمال ، وقال بعضهم : الميزانُ العدلُ ، وذهب إِلى قولك هذا في وزن
هذا ، وإن لم يكن مما يوزنُ ، وتأويله أنه قد قام في النفس مساوياً لغيره كما
يقوم الوزن في مِرآةِ العَيْنِ.
وقال بعضهم : الميزانُ الكتابُ الذي فيه أعمال
الخلق ، وهذا كله في باب اللغة - والاحتجاج سائغ ، إِلا أن الأوْلَى مِنْ هذا أن يُتبَعَ مَا جَاءَ بالأسانيد الصحاح . فإن جاءَ في الخبر أنه ميزان له كِفَّتَان ، من حيث يَنقُلُ أهلُ الثقة ، فينبغي أن يُقْبَلَ ذَلِكَ.
وقد روي عن جرير عن الضحاك أن الميزانَ الْعدْلُ ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، إلا أن جملة أعمال الْعِبَادِ مَوْزُونَةٌ على غاية العَدْل والحَق.
وهو قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .

(2/319)


وقد فسرنا المفلح فيما تقدم.
وقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
معنى التمكين في الأرض التمليك والقدرة.
ومعنى المعايش يحتمل أن يكون ما يعيشون به ، ويمكن أن يكونَ
الوصلةَ إلى ما يعيشون به.
وأكثر القراءِ على ترك الهمْزِ فِي معايش ، وقد رَوَوْهَا عَن نَافِع مَهْمُوزَةً.
وجميعُ النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ ، وذكروا أن الهمز إنما
يكون في هذه الياء إذَا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف ، فأما مَعَايش فمن
الْعَيْش ، الياء أصلية وصحيفة من الصحُف لأن الياء زائدة ، وإنما همزت لأنهُ
لَا حَظَّ لها في الحركة ، وقد قَرُبَتْ من آخر الكلمة وَلَزمَتْهَا الْحَرَكَةُ فَأوْجَبُوا فيها الهمزَ ، وإذا جَمَعْتَ مَقَاماً قلت مَقَاوِمَ.
وأنشد النحويون :
وإني لقوام مقاوم لم يكن . . . جرير ولا مولى جرير يقومها
وقد أجمع النحويون على أن حكوا مصائِب في جمع مصيبة ، بالهمز.
وأجمعوا أن الاختيار مصاوب.
وهذه عندهم من الشاذ ، أعني مصايب.
وهذا عندي إنما هو بدل من الواو المكسورة ، كما قالوا في وسادة : إسادة ، إلا أن هذا البدل في المكسورة يقع أولاً كما يقع في المضمومة ، نحو (أُقِّتَتْ)
وإنما هو من الوقت والمضمومة تبدل في غير أول نحو ادؤُر ، يقولون ادؤُ
فحملوا المكسورة على ذلك .

(2/320)


ولا أعلم احداً فَسَّرَ ذَلِكَ غيري ، وهو أحسن من أن يجعل الشيءُ خطأ
إذ نطقت به العرب وكان له وجه من القياس ، إلا أنه من جنس البدل الذي
إنما يتبع فيه السماع ، ولا يجعل قياساً مستمراً.
فأما ما رواه نافع من معائش بالهمز فلا أعرف له وجهاً ، إلا أن لفظَ هذه
الياءِ التي من نفس الكلمة أسْكِنَ في معيشة فصار على لفظ صحيفة ، فحمل
الجمع على ذلك ، ولا أحب القراءَة بالهمز إذ كَانَ أكْثرُ النَّاسِ إنَّمَا يَقْرأونَ
بترك الهمز ، ولو كان مما يهمزُ لجاز تحقيقه وترك همزه ، فكيف وهو مما لا
أصل له في الهمز ؛ وهو كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ الذي ينبغي أن يقال فيه إلى ما
عليه الأكثر لأن القراءَة سنة فالأوْلى فيها الاتباع ، والأولى اتباع الأكثر.
وزعم الأخفش أن مصائب إنما وقعت الهمزة فيها بدلاً من الواو
أُعلَّت في مصيبة ، - وهذا ردِيءِ . لا يلزم أن أقول في مقام مقائِم ولفي معونة معائن.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : " (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
زعم الأخفش أن (ثم) ههنا في معنى الواو ، وهذا خطأ لا يجيزه الخليل
وسيبويه وجميع من يوثق بعربيته ، إنما ثم للشيءِ الذي يكون بعد المذكور قبله
لا غير ، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداءُ خلق آدم أولًا ، فإِنما المعنى
إِنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه ، فابتداء خلق آدم التراب ، الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (إن مثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَل آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب).
فبدأ اللَّه خلق آدم تراباً ، وبدأ خلق حواءَ من ضلع من أضلاعه ، ثم

(2/321)


وقعت الصورة بعد ذلك ، فهذا معنى (خلقناكم ثم صورناكم).
أي هذا أصل خلقكم . ثم خلق الله نطفاً ثم صُوِّرُوا . فثمَّ إِنما هي لما بعدُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).
أي بعد الفراغ من خَلْق آدمَ أمِرَتِ الملائكَةَ بالسجود.
وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ لمْ يَكنْ مِنَ السَّاجدِين).
استثناء ليس من الأول ، ولكنه ممن أمِرَ بالسجود.
الدليل على ذلك قوله.
(مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ).
فدل بقوله : (إِذْ أَمَرْتُكَ) أنَّ إبْلِيسَ أمِرَ بالسجود مع الملائكة ، ومعنى (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) إلْغَاءُ " لا " وهي مَؤكدة ، المعنى : ما منعك أن تسجد
فمسألته عن هذا واللَّه قد علم ما منعه ، توبيخ له وَلْيُظْهِرَ أنه معاند ، وأنه
ركب المعصية خلَافاً للَّهِ ، وكل من خالف اللَّه في أمره فلم يَرَهُ وَاجِباً عليه
كافر بإجماع ، لو ترك تارك صلاةً قال إنها لا تجب كان كافراً بإِجماع الأمة.
فأعلم اللَّه جل ثناؤُه أن معصية إبليس معصية معانَدَة وكفر ، وقد أعلم الله أنه من الكافرين فقال : (إلا إبْلِيسَ أبَى واسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
فَالْفَصْلُ بين معصية إبليس ومعصيةِ آدمَ وحَوَّاءَ أنَّ إبليس عاند وأقام ولم
يتب ، وأن آدم وحواءَ اعترفا بالذنب وقالا : (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

(2/322)


ومثل " أَلَّا " في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ)
أي : لأن يعلم أهل الكتاب ، وقول الشاعر :
ابى جودُه لاَ البخل واستعجلت به . . . نعم من فتى لا يمنع الجوعَ قاتله
قالوا معناه أبى جودُه البخلَ.
وقال أبو عمرو بنُ العلاءِ : الروَايَةُ أبى جوده البخل.
واستعجلت به " نَعَمْ " ، والذي قاله أبو عمرو حسن ، المعنى أبى جوده " لا "
التي تُبخل الإِنسان ، كأنَّه إِذا قيل : لا تسرف ولا تبذر مالك أبى جودُه " لا "
هذه ، واِستعجلت به " نعم " ، فقال : نعم أفعل ولا أترك الجودَ.
وهذان القولان في البيت هما قولا العلماء ، وأرى فيه وجهاً آخر وهو
عندي حسن . أرى أن تكون " لا " غير لغو ، وأن يكون البخل منصوباً بدلاً من " لا ".
المعنى أبى جوده البُخْلَ واستعجلت به " نعم ".
وموضع " ما " في قوله : (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) رفع ، المعنى أي شيء
منعك في السجود ، فلم يقل منعني كذا وكذا فأتى بالشيء في معنى الجواب.
ولفظه غير جواب ، لأن قوله : (أنَا خَيرٌ مِنْهُ) في معنى منعني من السجود
فَضلى عَلَيْه . ومثل هذا في الجواب أن يَقول الرجل كيف كنت ، فَيَقولُ : أنا
صالح ، وإنما الجواب كنت صحالحاً ، ولكن المعنى إنَّه قد أجابه بما احتاج إليه
وزاده أنه في حال مسألته إياه صالح فقال اللَّه عزْ وجلَّ :

(2/323)


(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
لأنه قد استكبر بهذا الجواب فأعلمه اللَّه أنه صاغر بهذا الفِعْل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
أي أخرنِي إلى يَومِ البَعْثِ ، فلَم يُجَب إلى الإِنْظَارِ إلَى يَوْمِ البعث
بعينه ، وأُعْلمَ أنه منظور إلى يوم الوقْت المعلُومِ.
* * *
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
في قوله : (أغويتني) قولان . قال بعضهم : فبما أضْلَلْتَنِي
وقال بعضهم : فبما دَعَوْتني إلى شيء غَوِيت به ، أي غويتُ من أجْل آدم.
(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).
ولا اختلاف بين النحويين في أن " على " محذوفة ، ومن ذلك قولك :
ضرِبَ زيد الظهْر والبَطْنَ.
* * *
وقوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
معناه - واللَّه أعلم - ثم لآتينهمْ في الضلَال من جميع جهاتهم.
وقيل من بين أيديهم أي لأضِلنَّهم في جميع ما يُتَوَقعُ.
وقيل أيضاً : لأخوِّفنََّهم الفَقرَ.
والحقيقةُ - واللَّه أعلم - أي أنْصَرِفُ لهم في الإضلال في جميع جهاتهم.
* * *
وقوله : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
- ْ معنى مَذْءُوم كمعنى مَذْمُوم ، يُقَالُ : ذَأمْتُه أذْأمُه ذَأماً ، إذَا رَعَبْتَه
وَذَمَمْتَه.
ومعنى (مَدْحُورًا) مُبْعَداً من رحمة اللَّه .

(2/324)


وقوله : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ).
هذه اللام لام القسمِ تدخلُ توطئة للأمر.
(لأملأنَّ).
والكلام بمعنى الشرط والجزاء ، كأنه قيل : من تبعك أعَذبُه ، فدخلت
اللام للمبالغة والتوكيد ، ولام لأملأنَّ لام القسمِ ولام " من تبعك " توطئة
لها ةيجوز في الكلام : واللَّه من جاءَكَ لأضْربنه ، ولا يجوز ُ : واللَّه لَمَنْ
جَاءَكَ أضربه ، وأنت تريدُ لأضربنه ، ولكن يجوز : واللَّهِ لمنْ جاءَك أضْربْهُ
تريد لأضْربَنَّه.
وقال بعضهم في قوله : (ثُمَّ لآتِيَنهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهمْ)
أي لأغْوَينهُمْ فيما أمِرُوا به.
وقوله : (وَعَن شَمَائِلِهمْ) أي : لأغوَينهم فيما نُهُوا عَنْه والذي أظنه - والله
أعلم - على هذا المذهب : أني أغويهم حتى يُكَذِّبُوا بأمور الأمم السالِفةِ
- بالبَعْث ، كما ذكر في هذا.
ومعنى : (وَعَنْ أيْمَانِهمْ وَعَنْ شمَائِلِهمْ).
أي لأضلنهمُ فيما يَعْقلونَ ، لأن الكسب يقال فيه : ذَلكَ بمَا كسبتْ يَدَاك ، وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئاً ، إلا أنه يقال لكل ما عمله عامل كسَبَتْ يَدَاكَ ، لأن اليَدَيْن الأصلُ في التصرف فجعلتا مثلًا لجميع مَا عُمِلَ بغيرهِمَا.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) ، وقال : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).

(2/325)


وقال : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
ثم فَسَّر فقال : (مَا أغْنَى عَنْهُ مَالُهَ ومَا كَسَبَ).
* * *
وقوله : (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
هذا الاختيارُ ، أعنِي ذكر أنْتَ ، تقول اذهب أنْتَ وزيد ، ولو قلت :
اذهب وزيد كان قبيحاً.
وقد فسًرناهُ فيما سَلَف :
وقوله : (وَلَ اتَقْرَبَا هَذِه الشَّجرَةَ).
قال بعضهم : هي السنْبلَةُ ، وقيل هي شَجرةُ الكَرْمِ.
وقوله : (فَتكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).
الأجود أن يكون . " فتكونا " في موضع نصب على جوانب الأمر بالفاءِ.
أي فإِنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين.
ويجوز أن يكونَ في موضع جزم عطفاً على قوله : وَلاَ تَقْرَبَا فَتكُونَا ، أي فلا تكونا من الظالمين.
* * *
وقوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
تدل واللَّه أعلم على مَعْنى قوله : (قال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِه الشَّجرَةِ إِلَّا أنْ تَكُونَا مَلَكَيْن).
ويجوز ُمَلِكين ، لأن قوله : (هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجرَة الخُلْدِ وَمُلْك لَا يَبْلَى)
يدل على مَلِكَيْن وأحسبه قد قرئ به ، فتدل - واللَّه أعلم - على أن
القول إنَّما كان وسوسة من إبليس.
والأجود أنْ يكون خطاباً ، لقوله (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

(2/326)


أي فَحَلَفَ لَهما :
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
أي دَلَاَهُمَا فِىِ المعصية بأن غرهما.
(فَلَمَّا ذَاقَا الشَجرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا).
أي ظهرت لهما فروجُهُمَا ، وإنما السَّوْءَةُ كناية عن الفَرْجِ ، إلا أن الأصلَ -
في التسمية السَّوءَةُ.
وقوله عزَّ وجلَّ (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
مَعْنى طَفِقَا أخَذَا في الفِعْل ، والأكثر طَفِقَ يَطْفَقُ . وقَدْ رُوَيتْ طَفَق
يطفِقُ ، بكسر الفاءِ.
وقِيلَ : كان ورقُ الجنةِ ذلك ورقَ التين ، ومعنى يَخْصفَانِ ، يجعلانِ
وَرَقَةً على ورَقَة ، ومنه قيل للخَصَّافِ الذي يَرْقَع النَعْلَ : هو يخصِفُ.
قال الشاعر :
أو يخصف النعلَ لهْفِي أيَّةً صَنَعَا
وًيجُوزُ يَخْصِفَانِ وَيخصِّفَان ، والأصل الكسر في الخاءِ ، وفتحها وتشديدُ
الصَّادِ ، وَيكون المعنى : يَخْتَصِفَانِ.
وفي هذه الآية دليل على أن أمْرَ التكشُفِ وإظهَار السوءَة قبيح من لدُنْ

(2/327)


آدم . ألا ترى أنه ذكر عظم شَأنها في المعصِية فقال :
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا).
وأنهما بادَرَا يسْتَتِرَانِ لقُبْحِ التكَشف.
وقوله : (وَوُرِيَ عَنْهُمَا).
يجوز فيه أوُرىَ ، لأنَّ الواوَ مَضْمومَة ، إنْ شِئْتَ أبْدلتَ منها همزة ، إلا
أن القراءَة تُتبَعُ في ذلك.
والقراءَةُ المشهورةُ وخط المصحف (ووُرِيَ) بالواو.
ومعنى (إلا أنْ تكُونَا مَلَكَيْنِ) وقوله : (ذاقَا الشجرَةَ ،).
يدل على أنهما ذاقاها ذَوْقاً ولم يُبالِغَا في الأكْلِ.
* * *
وقوله : (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
ويقرأ (ورياشاً)
والريشُ اللباس . العرب تقول : أعْطَيْتُه بريشتهِ ، أي بكسوته ، والريش.
كل ما سَتَر الرجُلَ في جِسْمِه ومعيشتِه ، يقال : ترَيَّشَ فلان أي صار له مَا يَعيش بِه ، أنشد سيبويه وغيرُه.
فريشي منكمو وهواي معكم . . . وِإن كانت زيارتكم لماما
(وَلِبَاسُ التَّقْوَى).
برفع اللباس ، فمن نصَبَ عطفَ به على الريش يكون المعنى : أنزلنا
عليكم لباس التقوى ، ويرْفَعُ خيراً بِذلِكَ.
ومن رفع اللباس فَرَفْعُه على ضربين :
أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون ذلك من صفته ، ويكون (خَيْر) خبرَ
الابتداء . المعنى ولباسُ التقوى المشِارُ إليه خَيْر.
ويجوز أن يكون . (وَلبَاسُ التقْوَى) مرفوعاً بإضمار " هو " المعنى هو

(2/328)


لباس التقوى : أي وستر العورة لبَاسُ المتقِينَ.
ثم قال : (ذَلِكَ خَيْرٌ) ويكون على أن لباس التقوى مرفوعٌ بالابتداءِ ، ويكون (ذلِكَ) خَيْرٌ يرتفع به " خَيْرٌ " على أنه خبر ذلك.
ويكون ذلك بمنزلة " هو " كأنه - واللَّه أعلم - ولباس التقوى
هو خير ، لأن أسماءَ الإشارة تقرب فيما يعود من الذكر من المضمر.
والوجهان الأوَّلاَنِ أبينُ في العربية.
* * *
وقوله : (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
(حيثُ) في موضوع جر إلا أنها بُنِيَتْ على الضَّم ، وأصلها أن تكون
موقوفةً ، لأنها ليست لمكانٍ بعينه وأن ما بعدها صلة لها ، لَيْسَتْ بمضافة إليه.
" : منَ العَربِ من يقول : ومن حَيْثَ خَرَجْتَ ، فيفتح لالتقاءِ السَّاكنين ، ومنهم من يقول مِن حوْثٌ خَرجتَ.
ولا تقرأ بهاتين اللغتين لأنهما لم يقرأ بواحد منهما ولا هما في جودة حَيْثُ المبنيَّةِ على الضم.
وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
(جَعَلْنَا) في اللغة على ضُرُوب ، منها جعلت بعض الشيءِ فوق بَعْض.
أي عملته وهَيأته على هذه الصيغَة ، ومنها جَعلَ - زيدٌ فُلاناً عاقِلًا ، تأويله : سماه عَاقِلًا ، ومنها جَعلَ يَقُولُ كذا وكذا ، تأويله أنه أخذ في القول.
فأما مَعْنَى الآيةَ فعلى ضربين - واللَّه أعلم -.
أحدهما أن يكون الكفار عُوقبوا بأن سُلِّطَتْ عليهم الشيَاطين تزيدهم فِي
غَيِّهم عقُوبةً على كُفْرِهِمْ كما قَالَ عزَّ وجلَّ :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83).

(2/329)


أي تَحْمِلُهمْ على المعاصي حَمْلاً شَدِيداً ، تَزعجهم
في شدّةِ الغَى.
ويجوز إِنَا جعَلْنَا الشَيَاطِينَ أوليَاءَ لفَذِينَ لَا مهلؤمِنُونَ ، أيسوينا بين
الشياطين والكافرين في الذهاب عن اللَّه . كما قال : (المنَافقون وائنَافِقَات
بعْضُهُم منْ بَعْضٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
معنى الفاحشة ما يشتد قبحه من الذنوب.
(قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا).
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لا يأمر بالفحشَاءِ لأن حكمتَه وجميعَ ما خلق
تدل على أنه لاَ يفعلُ إلا المسْتَحسَنَ ، فكيف يأمر بالفحشاءِ.
وقد احتج عليهم في غير هذا الموضوع بما قد بينَّاه في سورة الأنعام.
* * *
وقوله : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
أي بالعَدْلِ ، فكيف يأمُرُ بالفَحشاءِ من يعْلَم أنه لا يفعل إلا الحكمة.
ولا يثبت إِلا العدلَ مِنْ أمْرِه ، فإِذا كان يأمر بالعدل - والعدْل ما قام في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميز - فكيف بالفحشاءِ ، والفحشاء ما عظم قبحه.
ثم وبَّخَهُم فقال :
(أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
أي أتكْذِبونه.
وقوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
أي وَقْتَ كل صَلَاةٍ اقصدوه بصلاتكم .

(2/330)


(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
أي مخلصين له الطاعة.
احتج عليهم في إِنكارهم البعث.
وهو متصل بقوله : (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ).
فقال : (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
أي فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.
* * *
وقوله : (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
معناه إِنه أضَل فَريقاً حَق عليهم الضلالة.
ثم قال : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
ولو قُرِئَتْ أنَّهم اتَخَذوا الشياطين لكانت تجوز ، ولكن الِإجماع على
الكَسْرِ.
وقوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
يدل على أن دوماً ينتحلون الِإسلامَ ويزعمونَ أن من كان كافراً ، وهو
لَا يعلم إنَّه كافر فليس بكافرٍ مُبْطِلُون لأمر نِحْلتِهمْ ، لأن الله جل ثناؤُه قد
أعلمنا أنهم يَحْسَبون أنهمْ مهتدون ، ولا اختلاف بين أهل اللغة في أن
الحُسْبَانَ ليس تأْويله غيرَ مَا يُعْلم من معنى حسب.
والدليل على أن الله قد سماهم بظنهم كَفَرةً قوله عزَّ وجل :
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27).
فأعلمَ أنهم بالظنِ كافِرونَ ، وأنهم معذبون .

(2/331)


وقوله : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
هذا أمرٌ بالاسْتِتَارِ في الصلوات ، وكان أهلُ الجاهلية يطوفون عُراةً.
وَيقُولون : لا نطوف حول البيتِ في ثياب قَدْ أذْنَبْنَا فِيهَا ، وكانت المرأة تطوف عُرْيَانَة أيضاً إلا أنها كانت تشُدُّ في حَقْويها أشياءَ من سُيورٍ مقطعة ، تُسَمِّي العرب ذلك الرهْط ، قالت امرأة تطوف وعليها رهط :
اليَوْمَ يَبْدو بعضُه أوكُلُّه . . . فما بدا منه فلا أُحِلُّه
تعني الفرجَ ، لأن السيورْ لا تستُر سَتْراً تَامًّا.
فأمر الله بَعْدَ ذِكرِه عقوبةَ آدم وحواءَ في أن بَدَتْ لهما سوءَاتُهما.
بالاستتار في وقت كل صلاة ، بعد أن أعلم أن التعرِّيَ وظُهُورَ السوءَةِ مكروه
من لدن آدم ، وقوله بعقب الاستتار :
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا).
لأنهم ادَّعَوْا أنَّ اللَّه جلّ ثناؤُه قد حرم عليهم شيئاً مما في بطون
الأنعام ، وحرم عَلَيْهم البَحِيرَةَ والسائبة ، وكانوا يزعُمونَ فيما يأتون من الفحشاءِ كالتعري وما أشبَهَهُ - أن الله جل ثناؤُه - أمرهم بذلك فأمرهم اللَّه بالاستتار ، وأن يأكلوا - ما زعموا أن الله عزَّ وجلَّ حرَّمَه مما لم يحرمه ، وأن يشربوا مما

(2/332)


زعموا أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - حرم عليهم شربه ، لأن ألبان البحيرة والسائبة كانت عندهم حراماً.
* * *
وقوله : - جلَّ وعزَّ -: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
والإسراف أن يَأكُلَ مَا لَا يَحِل أكْلُه مما حرمَ اللَّه تعالى أنْ يؤكَلَ شَيء
منه ، أو تأكَل مما أحل لك فوق القصد ومقدار الحاجة ، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَ
أنه لا يحب من أسرف ، ومن لم يحْبِبْهُ اللَّه عزَّ وجلَّ فهو في النار ثم قَررَهم
ووَبخهم فقال :
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
أي من حرم أن تلبسوا في طَوَافِكُمْ مَا يَسْتُركمْ.
(وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).
أي ومن حرم الطيبات مما رزق اللَّه ، أي من حرم هذه الأشياءَ التي
ذكرتم أنها حرام.
ثم قال عزَّ وجلَّ : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِةِ).
وتقرأ (خَالِصَةً) و (خَالِصَةٌ) يومَ القيامة.
المعنى أنها حلال للمؤْمنين ، وقد يَشْرَكُهمْ فيها الكافرون.
أعلم عزَّ وجلَّ أن الطَّيبَات تَخْلُصُ للمؤْمنين في الآخرة ولا يَشْرَكُهُمْ فيها
كافر.
فأما إِعراب " خَالصَةٌ " فهو أنهُ . خبر بعد خبر ، كما تقول : زيد عاقِل
لَبِيب . فالمعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يومَ القيامة.
ومن قرأ (خَالِصَةً) جعل خالصة منصوباً على الحال ، على أن العامل في قولك
في الحياة الدنيا في تأويل الحال . كأنك قلتَ : هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في
الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة .

(2/333)


وقوله : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)
موضِع (أَنْ) نَصْب : المعنى حرم اللَّه الفواحش تَحريمَ الشَرك.
ومَعْنى (لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) أَي لم ينزل به حجةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
أي وَقْت مَؤقَت.
(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
المعنى : ولا يستقدمون ساعة ، ولا أقل من ساعة ، ولكن ذكِرَتِ الساعة
لأنها أقل أسماءِ الأوقات.
* * *
وقوله : (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
آدم لا ينصرفُ لأنه على قدر أفعَل وهو معرفة ، وهو مشتق من أدمَةِ
الأرْض ، وهو وجهها ، فسمي بما خلق منه ، ، اللَّه عزَّ وجلَّ أعلم.
وقوله : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ).
هذه " إِن " التي للجزاء ، ضمَّتْ إِليها ما.
والأصل في اللفظ " إِنْ ما " مفصولة ، ولكنها مدغمة ، وكتبتْ على الِإدغام ، فإذا ضُمَّتْ إن إِلى ما ، لزم الفِعْلَ النون الثقِيلة أو الخفيفة ، وجواب الجزاءِ في الفاء أي" في قوله : (فمَن اتقى وأصْلَحَ).
فإِنما تلزم " مَا " النونُ لأن ما تدخل مَؤكَدة فتلزمها النون كما تلزم اللامَ
النُونُ في القَسمَ إِذا قلت : واللَّهِ لَتَفْعَلنَّ ، فما توكيد ، كما أن اللام توكيد.
فلزمت النون كما لزمت لامَ القسم.
* * *
وقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
أيُّ ظُلْمٍ أشنع من الكذب على الله ؟؟!!!
وقوله : ْ (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ).
أي ما أَخبر الثه جلَّ ثناؤُه عن جزائهم نحو قوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14).
334

(2/334)


ونحو قوله : (يَسْلُكْهُ عَذَاباً صُعًداً)
ونحو قوله : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
ونحو : (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ) ، فهذه أنصِبَتهُمْ من الكتاب على قدر ذُنوبهم في كفرهم.
(حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا).
زعم سيبويه - والخليل - أن " حَتَّى " و " إِمَّا " و " إِلَّا " لا تجوز فيهن الِإمالة . لا يجيز : (حتى إِذا جاءَتهم) ولا يجيز " أمَّا " ، ولا " لا إِله إِلَّا اللَّهُ " ، هذا لحن كله ، وزعم أن هذه ألفات الفَتح لأنَّها أواخر حروف جاءَت لمعنًى ، فَفُصِلَ بينها وبين أواخر الأسماءِ التي فيها الألف نحو حُبْلَى وهدى ، إِلا أن حتى كُتبتْ بالياءِ ، لأنها على أربعة أحرف ، فأشبهت سكرى.
و " إِمَّا " التِي للتخيير شبهت بأن التي ضمت إِليها " ما "
مثل قوله : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).
كُتبَتْ بالألف لما وصفنا ، و " إِلًا " أيضاً كُتَبتْ بالألف أنها لو
كُتَبَتْ بالياءِ لأشبهت إلى.
وقوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ).
فيه - واللَّه أعلم - وَجْهان :
يكون : حتى إذا جاءَتهم ملائكة الموت يتوفونهم سألوهم عند المعاينة.
فيعرفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين ، لأنهم (قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا).
أي بطلوا وذهبوا .

(2/335)


ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون : - حتى إذا جاءَتهم رسلنا ملائكة العذاب
يتوفونهم ، فيكون (يَتَوَفوْنَهُمْ) في هذا الموضع على ضربين :
أحدهما يتوفونهم عذاباً ، وهذا كما تقول : قد قتلت فلاناً بالعَذاب وإن لم يمت.
ودليل هذا القول قوله عزْ وجلَّ : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ).
وجائز وهو أضعف الوجهين أنهم يتوفون عدَّتهم واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).
لأنهم ضل بعضهم باتباع بعض.
(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا).
أي تداركوا ، وأدغمت التاءُ في الدال ، فإذا وقفت على قوله " حتى إذا "
لم تبتدئ حتى تَأتيَ بألف الوصل ، قتقول : ادَّارَكُوا فتأتي بألف الوصل
لسكون الدال فيها.
ومعنى تداركوا اجتمعوا.
وقوله " (جميعاً) منصوب على الحال ، المعنى حتى إِذا تداركوا فيها
مجتمعين.
(قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا).
أي قالت أخراهم : دعتهم أولاهم فاتبع الآخِرُ - الأولَ . فأعلم التابعونَ أن
المتبوعين أضَلُّوهُمْ بأن دَعَوْهم إلى الضلال ، والمعنى قالت أخراهم يا ربنا
هؤُلاءِ أضلونا ، لأولاهم ، تعني أولاهم.
وقوله : (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).

(2/336)


أي عذاباً مُضاعَفاً لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما
المثل ، والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيءِ.
(قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ).
أي للتابع والمتبوع لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعاً ، أي لكل عذاب
مضاعف ، فمن قرأ : (وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) بالتاءِ.
أي ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب.
ومن قرأ (وَلكِنْ لَا يَعْلَمُون) - بالياءِ ، أي ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذَابِ الفريق الآخر.
ويجوز - واللَّه أعلم - ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
أي كذبُوا بحججنا وأعلامِنَا التي تدل على نبوة الأنبياءِ وتوحيد اللَّه.
(لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ).
أي لا تَصْعَدُ أرواحهم ولا أعمالهم ، لأن أعمال المؤْمنين وأرواحهم
تصعد إِلى السماءِ ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).
ويجوز لا تُفْتَح ولا تُفَتَّحُ بالتخفيف والتشديد ، وبالياءِ والتاءِ.
وقال بعضهم : لا تفتح لهم أبواب السماءِ ، أي أبواب الجنة ، لأن الجنة
في السماءِ ، والدليل على ذلك قوله : (وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنَّةَ).
فكأنه لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).

(2/337)


فالخياط الإبرة ، وسمها ثقبها.
المعنى لا يدخلون الجنة أبداً.
وسئل ابن مسعود عن الجَمَلِ فقال هو زوج الناقة . كأنه استجهل من
سأله عن الجمل.
وقرأ بعضهم الجُمل ، وفسَّروه فقالوا قَلسُ السفينة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)
أي ومثل ذلك الذي وصفنا نجزي المجرمين.
والمجرمون - واللَّه أعلم - ههنا الكافرون ، لأن الذي ذكر منْ قصتهم
التكذيبُ بآيات اللَّه ، والاستكبار عنها.
* * *
(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
أي فراش من نار.
(وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ).
أي غاشية فوق غاشية من النار.
وقوله : (وَكَذلك نَجْزي الظَّالِمِينَ).
والظالمون ههنا الكافرون.
وقوله " غَوَاشٍ) زعم سيبويه والخليل جميعاً أن النون هنا عوض من
الياء لأن غواشيَ لا تنصرف ، والأصل فيها غَوَاشي ، بإسكان الياءِ.
فإذا ذهَبَت الضمةُ أدْخَلْت التنوين عوضاً منها ، كذلك فسر أصحاب سيبويه ، وكان سيبويه يذهب إلى أن التنوين عوَض من ذهاب حركة الياءِ ، والياءُ سقطت لسكونها وسكون التنوين . فإذا وقفت فالاختيار أن تقف بغير ياءٍ ، فتقول

(2/338)


غَوَاش ، لتدل أن الياء كانت تحذف في الوَصْل.
وبعض العرب إذا وقف قال غَوَاشي ، بإثبات الياءِ.
ولا أرى ذلك في القرآن لأن الياء محذوفة في
المصحف ، والكتاب على الوقف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
أي عملوا الصالحات بقدر طاقتهم ، لأن معنى الوسع ما يقدر عليه.
وقوله : (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجنَّة هُمْ فيها خَالدُونَ).
أُولَئِكَ رفع بالابتداءِ ، وأصحاب خبر ، وهم والجملة خبر الذين ، ويرجع
على الذين أسماءِ الإشارة ، أعني أولئك.
* * *
قوله : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قال بعضهم : ذهبت الأحقاد التي كانت في قلوبهم ، وحقيقته - والله
أعلم - أنه لا يحسد بعضُ أهل الجنَّة بعضاً في عُلو الرُتبة ، لأن الحسدَ غل.
* * *
وقوله تعالى : (تجْرِي من تحْتِهُمُ الأنْهارُ).
في معنى الحال ، المعنى ونزعْنا ما في صدورهم من غل في هذه
الحال ، ويجوز أن يكون " تجري " إخباراً عن صفة حالهم ، فيكون تجري
مستأنفاً.
ومعنى (هَدَانا لهذا).
أي هدانا لما صيرَنا إِلى هذا ، يقال : هديت الرجل هداية وهدى وهدْياً.
وأهْدَيت الهَدْيَة فهي مُهداة ، وأهديت العروس إلى زوجها وهديْتُها.
وقوله جلَّ وِعز : (وَنودُوا أنْ تلكُمُ الْجَنَّةُ).

(2/339)


في موضع نصب ، وهَهُنَا الهاءُ مضمرة ، وهي مخففَة من الثقيلة.
والمعنى نودوا بأنه تلكم الجنَّةُ.
والأجود - عندي - أن تكون أن في موضع تفسير النداءِ ، كان
المعنى ، ونودوا أن تلكم الجنة ، أي قيل ألهم ، : تلكم الجنة ، وإنما قال :
تلكم ، لأنهم وُعدوا بها في الدنيا ، فكأنه قيل : هذه تلكم التي وعدتم بها.
وجائز أن يكون عاينوها فقيل لهم من قبل دخولها إشارة إلى ما يرَوْنَه : تلكم
الجنة ، كما تقول لما تراه : ذلك الرجل أخوك . ولو قلت : هذا الرجل لأنه
يراك جاز ، لأن هذا وهُؤلاءِ لما قرب منك ، وذاك وتلك لما بَعُدَ عنك.
رأيته أو لم تره.
* * *
وقوله : (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
معنى " أن " ههنا إن شئت كان مفسراً لما نادى به أصحاب الجنة.
والمعنى أي قد وجدنا ، ويجوز أن تكون أن الشديدة وخففت ، المعنى أنه قد
وجدنا.
قال الشاعر :
في فتية كسيوف الهند قد علموا . . . أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقوله : (قَالوا نَعَمْ).
وفي بعض اللغات قالوا نَعِمْ في معنى نَعَمْ - موقوفةُ الآخر - لأنها حرف
جاءَ لمعنى .

(2/340)


وقوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
ويجوز أنَّ لعْنةَ اللَّه على الظَّالِمِينَ ، وقد قرئ بهما جميعاً والمخففة
مخففة من الشديدة ، ويجوز أن تكون المخففة في معنى أي الخفيفة التي هي
تفسير ، كأنَّها تفسير لما أّذَّنُوا فيه.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
(فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا).
أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاءِ يومهم هذا.
ومعنى : (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).
و " كجحدِهم " و " ما " نسقُ على " كما ، في موضع جر.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
هدى في موضع نصْبٍ ، أي فصلناه هادياً وذا رحمة.
ويجوز هدى ورحمةٌ نقوم يؤمنون على الاستئناف ، المعنى هو هُدًى ورحمةٌ لقوم يؤمنون.
* * *
وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ).
معناه هل ينظرون إِلا ما يؤُول إليه أمرهم من البعث ، وهذا التأويل والله
أعلم - هو قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إلا اللَّهُ) ، أي ما يعلم متى يكون البعث.
وما يؤُول إِليه إِلا اللَّه : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)
بالبعث - واللَّه أعلم -.
وقوله : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ).
(يومَ) منصوب بقوله : (يقول) و (الذين نسوه) على ضربين :

(2/341)


جائز أن يكون صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نُسِيَ وجائز أن يكونوا
نسوه وتركوا العمل له والإيمانَ به.
وقوله : . (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
(أَوْ) نسق على قوله (من شفعاءَ) ، " كأنهم قالوا : هل يشفع لنا شافع أو
هل نرد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (فَنَعْمَلَ) منصوب على جواب الفاءِ للاستفهام.
ويجوز أن تنصب (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) ، أي إِن رددنا استغنينا عن الشفاعة.
* * *
وقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ).
و (يُغَشِّي اللَّيْلَ النَّهَارَ) ، جميعاً يقرأ بهما.
والمعنى أن الليل يأتي على النهار فيغطيه ، ولم يقل يغشى النهارَ الليْلَ.
لأن في الكلام دليلاً عليه ، وقد جاءَ في موضع آخر : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ).
وقوله تعالى : (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ).
أي خلق النجوم جارِيَاب مَجَارِيَهُنَّ بأمرِه.
* * *
وقوله : (وَعَلى الأعْرافِ رِجَالٌ).
وقوله : (وَنادَى أصْحَابُ الأعْرَافِ)
اختلف الناس في أصحاب الأعراف ، فقال قوم : هم قومُ استوت
حسناتهم وسيئاتُهم ، فلم يستحقوا الجنة بالحسنات ، ولا النار بالسيئات.
فكانوا على الحجاب الذي بين الجنة والنار.
والأعراف أعَالي السُّورِ ، ويُقَالُ لكل عَال عُرْف وجمعُه أعراف .

(2/342)


ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - على الأعراف على معرفة - أهل الجنة
وأهل النار هُؤلاءِ الرجال ، فقال قوم ما ذكرنا ، وإن اللَّه يدخلهم الجنة ، وقال قوم أصحاب الأعراف أنبياء وقال قوم ملائكة.
ومعرفتهم كُلًّا بِسيماهُمْ يعرفون أصحاب الجنة بأن سيماهم إِسْفَارُ
الوُجوه والضحِكُ والاسْتِبْشَارُ كما قال عزَّ وجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39).
ويعرفون أصحاب النار بسيماهم وسيماهم اسوداد الوجوه
وَغُبْرَتُها - كما قال جلَّ وعزَّ : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).
و (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
والقَتَرة كالدُّخَان.
وقوله : (مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وما كنتم تَسْتَكْبِرُونَ).
هذا - واللَّه أعلم - خطاب أصحاب الأعراف لأهل النار ، وقرئت
تستكثرون بالثاءِ.
وأما تجوله : (أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ).
يعني أهل الجنة كأنه قيل لهم : يا أهلَ النار أهُؤلاءِ الذين حلفتم لاَ ينالهم
الله برحمة).
(ادخُلُوا الجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ).
وإن شئت بالفتح لا خوفَ عليكم.
فجائز أن يكون (ادْخُلوا الجنَّةَ) خطاباً من أصحاب الأعراف لأهل

(2/343)


الجنة ، لأن كل ما يقوله أصحاب الأعراف فَعَنِ اللَّه تعالى . وجائز أن يكون
خطاباً من اللَّه عزَّ وجلَّ لأهل الجنة.
وقوله : (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
فأعلم اللَّه عزْ وجل : أن ابن آدم غيرُ مستغن عن الطعام والشراب وإن
كان معذباً.
فأعلمهم أهلُ الجنة أنْ اللَّه حرمها على الكافرين ، يَعْنون أن اللَّه حرم
طعامَ أهل الجنة وشرابَهم على أهل النار ، لأنهم إنما يشربون الحميمَ الذي
يُصْهَرُ به مَا في بُطُونهمْ.
* * *
وقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
قال قوم : تضرعوا تملقاً ، وحقيقته - واللَّه أعلم - أن يَدْعُوه خاضعين
متعبدين.
و (خُفْيَةً) أي اعتقدوا عبادته في أنْفُسِكم ، لأن الدعاءَ معناه العبادة.
وقوله : (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
والمعتدون المجاوزون ما أمِروا به ، وَهُمُ الظالمونَ.
* * *
وقوله : (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(وَادْعُوهُ حوْفاً وطَمَعَاً).
أي ادْعوه خائِفين عذَابه وطامعين في رحمته ، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لَنْ يَدْخُلُ الجنة أحدٌ بعَمَلِه ، قالوا : ولا أنت يا رسول اللَّه ؟ قال ولا أنا إلا أن يتَغمدنيَ اللَّهُ برحمته.
وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
إنما قيل (قَرِيبٌ) لأن الرحمة والغفْرَانَ في معنَى واحدٍ وكذلك كل تأنيث
ليس بحقيقي.
وقال الأخفش جائز أن تكون الرحمةُ ههنا في معنى المَطَر .

(2/344)


وقال بعضهم : هذا ذُكرَ ليفصل بين القريب من القرابة ، والقريب من القُرْبِ ، وهذا غلط ، أن كل ما قَرُبَ من مكان أوْ نَسَبٍ فهو جارٍ على ما يصيبه من
التأنيث والتذكير.
* * *
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
(بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ).
و (نُشْرًا) أيضاً بضم النون وفتحها - وقرأ عاصم بُشْرًى بالياء.
فمن قرأ (نُشْرًا) فالمعنى وهو الذي يُنْشِر الرياح مُنْشَرةً نشْراً.
ومن قال نُشْراً فهو جمع نشورٍ ونُشُرٍ.
ومن قرأ بُشْراً فهو جمع بشيرةٍ وبُشُرٍ كما قال جلَّ وعزَّ : (وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الريَاحَ بُشْرًا).
وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه).
أي بين يدي المطر الذي هو رحمة ، (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا) أي حتى إِذا
أَقَلَّتْ الريح سَحَابًا ، يقال : أقل فلان الشيء إِذا هو حمله ، وفلان لا يَسْتقلُّ
بحَمْلِه.
فالمعنى حتى إِذا حملت سحاباً ثقالاً ، والسحاب جمع سحابة.
(ثِقَالًا) أي ثقالًا بالماءِ.
(سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ).
ومَيْتٍ جميعاً.
(فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).
جائز أن يكون : فأنزلنا بالسحاب الماءَ ، فَأخْرَجْنَا بِه مِنْ كل الثمَرَاتِ.
الأحسن - واللَّه أعلم - فأخرجنا بالماءِ من كل الثمرات ، وجائز أن يكون
أخرجنا بالبلد من كُل الئمرات ، لأن البَلَدَ ليس يُخَصُّ به ههنا بلَدٌ سوى سائر البُلْدَانِ .

(2/345)


وقوله عزْ وجلَّ : (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى).
أي مثلَ ذَلكَ الإخراجِ الذي أشرنا إِليه نخرج الموتى.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
لعل ترج ، وإنما خوطب العباد على قدر علمهم ، وما يرجوه بعضهم من
بعض ، واللَّه يعلم أي تَذَكرون أم لا.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أي لعلكم بما بينَّاهُ لكم تستَدِلُّونَ على توحِيد اللَّهِ وأنه يبعث الموتى.
* * *
وقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
وقرأها أهل المدينة نكَدًا - بفتح الكاف - ويجوز فيه وجهان آخران :
إِلَّا نَكْدًا ونُكْدًا - بضم النون وإسكان الكاف ولا يقرأ بالمضمومة ، لأنه لم تثبت به رواية في القرآن.
* * *
وقوله (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
وهم الرؤساء والأشراف ، وقال بعضهم يعنى به الرجال . -
وقد بيَّنَّا المَلأ فيما سبق من الكتاب.
وقوله : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
هذه الواو واو العطف . دخلت عليها ألف الاستفهام ، فبقيت مفتوحة.
وقد بيَّنَّا أمرها في الكتاب.
وقوله : (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
(في الفُلْكِ).
والفلك السفينة ، يكون الفلك واحداً ، ويكون جمعاً .

(2/346)


وقوله : (قَوْمًا عَمِينَ).
أي قد عَموا عن الحق والِإيمان.
* * *
وقوله : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
المعنى : لقد أرسلنا نوحاً إِلى قومه ، وأرسلنا إِلى عادٍ أخاهم هودًا.
وقيل للأنبياءِ أخوهم وإن كانوا كفرة ، يعني به أنَّه قد أتاهم بَشَرٌ مثلُهم من وَلدِ أبيهم آدمَ ، وهو أرْجح عليهم.
وجائز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم ليكون
أفهمَ لَهُمْ بأن يأخذوا عن رجل مِنْهُمْ.
* * *
وقوله : (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
السفاهة خِفَةُ الحلم والرأي ، يقال ثوبٌ سفيه إذَا كان خفيفاً.
وقوله : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
وكفروا به ظانِّينَ لَا مُسْتيْقنين.
* * *
وقوله : (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
هذا موضع أدب للخلق في حسن الجوار وفي المخاطبة ، أنه دفع ما
نسبوه إليه من السفاهة بأن قال ليس بي سفاهة ، فدفعهم بنفي ما قالوا فقط.
وقوله : (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
أي الذي أنبئكم به مِنْ عند الله ، لأنه أمَرَهمْ بِعِبَادَةِ اللَّه جلَّ وعزَّّ
وتوحيده.
* * *
وقوله : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
وَخُلَفَاءَ جمع خليفة على التذكير لا على اللفظ ، مثل ظَريف وَظُرَفَاءَ .

(2/347)


ْوجائز أن يجمع خلائف على اللفظ ، مثل طريفة وَطَرَائف.
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَزَادَكُمْ في الْخَلْقِ بَسْطَةً).
في التفسير أنَّه كان أقصَرُهُم ، طولُهُ ستونَ ذِرَاعاً وَأطْوَلهُمْ مائة ذِراع.
وقوله : (فَاذُكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ).
معناه نِعَمَ اللَّه ، واحدها إلى.
قال الشاعر :
أَبيض لا يَرْهَب الهُزالَ ولا . . . يَقْطعُ رُحْماً ولا يَخُون إِلاَّ
ويجوز أن يكون واحدها إليْ وإِليَّ.
* * *
وقوله : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
أي أرْسَلْنَا إِلى ثَمُودَ أخاهم صَالِحاً.
وثمودُ في كتاب اللَّه مصروف وغيرُ مصروف.
فأما المصروف فقوله : (ألَا إن ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ألا بُعْداً لِثَمُود).
الثاني غَيْرُ مصروفٍ ، فالذي صرفه جَعَلَهُ اسماً للحي ، فيكونُ مُذَكَراً سمي به مُذَكرٌ وَمَنْ لم يصرِفْه جعله اسْماً للقَبيلة.
وقوله : (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
وتقرأ غَيرِه ، فمن رفع فالمعنى ما لكم إِلهٌ غيرُهُ ، ودخلت " مِنْ " مَؤكدةً.
ومَنْ جَرَّ جعله صفةٌ لإلَهٍ.
وأجاز بعضهم النصبَ في غَيْر وهو جائز في غير القرآن ، على النصب على الاستثناءِ وعلى الحال من النكرة.
ولا يجوز في القرآن لأنه لم يقرأ به.
وأجاز الفراء . . ما جاءَني غيرَكَ بِنَصْبِ غيرَ ، وهذا خطأٌ

(2/348)


بيِّن ، إنما أنشد الخليل وسيبويه بيتاً أجازا فيه نصب غير ، فاستشهد هو بذلك البيت واستهواه اللفظ في قولهما إن الموضعَ موضِعُ رفع.
وإنما أضيفت غير في البيت إلى شيءٍ غير متمكن فبنيت على الفتح كما يبنى يوم إذَا أضِيفَ إلى إذْ على الفتح.
والبيت قول الشاعر :
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت . . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
وأكثرهم ينشده غيرَ أن نطقت ، فلما أضاف غير إلى " أنْ " فتح غير ، ولو
قلت : ما جاءَ في غيرَك لم يجز . ولوجاز هذا لجاز ما جاءَني زيداً.
وقوله : (قَدْجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبكُمْ).
دعاهم إلى التوحيد ودلهم على نُبُوتةِ بالناقة فقال :
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لكُمْ آيَةً).
(آيَةً) انتصب على الحال ، أي أنظروا إلى هَذه الناقَةِ آية أي عَلامَةً.
وقد اختلف في خبرها ، فقيل في بعض التفسير : إِن الملأ من قوم
صالح كانوا بين يديه فسألوه آية وكانت بين يديه صفاة - وهي الصخرة - فأخرج الله منها ناقة معها سَقْبُها أي وَلَدُها.
وجاءَ في بعض التفسير أنه أخذ ناقة من سائر النوق ، وجعل الله لها

(2/349)


شِرْباً يوماً وَلَهُمْ شربُ يومِ . وذُكِرَتْ قصته في غير هذا الموضع فقال :
(هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155).
فكانت تشرب يوما ثم تُفْحِجُ يوماً آخر في وادِ فلا تزال تحتلب ولا ينقطع حلَبُها ذلك اليوم.
فجائز أن يكون أمرُ خروجها من الصخرة صحيحاً ، وجائز أن يكون أمر
حلبها صحيحاً . وكل منهما آية معجزة تدل على النبوة.
وجائز أن تكونَ الرِّوَايَتَانِ صحيحتَيْنِ فَيُجْمَعُ أنَّها خرجت من صخرة وأن حَلْبَهَا على ما ذَكَرْنَا.
ولم يكن ليقول : (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فتكون آية فيها لبسٌ.
وقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
أي لما أهلكهم وورثكم الأرض.
(وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).
أي أنزلكم.
قال الشاعر :
وبُوِّئَتْ في صَمِيمِ مَعْشَرِها . . . وتَمَّ في قَوْمِها مُبَوَّؤُها
أي أنزلت من الْكَرَم في صميم النسب.
وقوله : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ).
يقال : نَحَتَ يَنْحِتُ ، ويقال أيضاً نَحَتَ يَنْحَتُ ، لأن فيه حرفاً من حروف
ويروى أنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون أن ينحتوا بيوتاً في الجبال ،

(2/350)


لأن السقوفَ والأبنية كانت تبلى قبل فناءِ أعمارهم.
* * *
وقوله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ).
أي جاوزوا المقدَارَ فى الْكُفْر.
* * *
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
والرجفة : الزلزلة الشديدة.
ويروى أنه لما قال لهم : (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)
أصبحوا في أول يوم مصفرة وجوهُهم ، وفي اليوم الثاني محمرة وجوههم
وفي اليوم الثالث مسودَّةً وجوههم ، وفي اليوم الرابع أتاهم العذاب.
ويقال إِن ابتداءَ عقرهم الناقة كان في يوم الأربعاءِ ، وأخذهم العذاب
في يوم السبت.
وقوله : (فَأصْبَحُوا نَادمينَ).
أي في وقت لا ينفعهم الندم.
وأصْبَحُوا جَاثمِينَ . في اليوم الذي أخذتهم فيه الرجفة.
ومعنى (جَاثِمِينَ) قد خمدوا من شدة العذاب.
وقال بعضهم أصْبَحُوا كالرماد الجاثِم.
* * *
وقوله : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
أي وأرسلنا لوطاً إِذ قال لقومه.
وقال الأخفش ويجوز أن يكون منصوباً على واذكر لوطاً إِذ قال لقومه . والوجهُ أن يكون معطوفاً على الإرسال.
وقال بعض أهل اللغة : لوط مشتق من لطتُ الحَوْضَ إذا مَلَّسَتَه بالطين.
وهذا غلط . لأن لوطاً من الأسماءِ الأعجمية ليس من العربية ، فأما لطت

(2/351)


الحوض وهذا ألوط بقلبي من هذا ، فمعناه ألصق بقلبي . واللِّيطُ القِشرُ . وهذا صحيح في اللغة.
ولكن الاسم أعجمي كإِبراهيم وإِسحاق ، لا نقول إنه مشتق
من السُّحْقِ وهو البعدُ . وهو كتاب الله الذي لا ينبغي أن يقدم على تفسيره إلا برواية صحيحة وحجة واضحة.
وقوله : (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).
هذا دليل أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط.
وقد اختلف الناس في حَدِّ اللُّوطِي ، فقال بعضهم هو كالزاني.
وروي أن أبا بكر حرق رجلاً يقال له الفجاءَة بالنار في اللواط.
وقال بعضهم : يجب أنْ يقتلَ مُحْصَناً أو غير مُحْصَنٍ ، لأن الله تبارك
وتعالى قتل فاعليه بالحجارة.
فخاطبهم لوط فقال : (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ).
وقال في موضع آخر : (إنكمْ لتأتون الفاحشة).
والفاحشة الشيءَ الغليظ القبيح.
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
يجوز أن يكون " جَوَابَ " مرفوعاً . (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا)
والأجود النصب وعليه القراءَة .

(2/352)


(إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
أي يتطهرون عن عملكم.
* * *
وقوله : (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
في التفسير أنَّ أهلَه ابنتاه.
(إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)
قيل في الغابرين ههنا قولان.
قال أهل اللغة : من الغابرين من الباقين.
أي من الباقين في الموضع الذي عذبوا فيه.
وَأنْشَدَ أبو عَبَيْدَة معمر بن المثنى.
فما وَنَى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ . . . له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ
أي ما بقي.
وفال بعضهم : (من الغابرين) أي من الغائبين عن النجاة.
وكلاهما وجه . واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
مَدْيَنُ لا ينصرف لأنه اسم للقبيلة أو البلدة ، وجائز أن يكون أعجمياً.
وقوله : (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ).
قال بعض النحويين ؛ لم يكن لشعيب آية إِلا النبوة ، وهذا غلط فاحش.
قال قد جاءَتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل فجاءَ بالفاءَ جواباً للجزاء ، فكيف يقول : قد جاءَتكم بينة من ربكم ولم يكن له آية إِلا النبوة ، فإن كان مع النبوة آية فقد جاءَهم بها.
وقد أخطأ القائل بقوله : لم تكن له آية ، ولو ادَّعَى مُدَّعٍ
النبوة بغير آية لم تُقْبَلْ منه ، ولكن الِقول في شعيب أن آيته كما قال بينَة .

(2/353)


إِلا أن الله جل ثناؤه ذكر بعض آيات الأنبياءِ في القرآن وبعضهم لم يذكرآيته ، فمن لم تذكر آيته لا يقال : لا آية له.
وآيات محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تذكر كلها في
القرآن ولا أكثرها.
وقوله : (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)
البَخْسُ النقْص والقِلَّة ، يقال بخست أبخس بالسين ، وبخصت عيْنَه
بالصاد لا غير مثل فقأت عينيه.
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).
أي لا تعملوا فيها بالمعاصي وَبخِس الناس بعد أنْ أصلحها الله بالأمر
بالعدل وإرسال الرسل.
* * *
ْوقوله : (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
أي بكل طريق.
ومعنى توعدون أي توعدون من آمن بشعيب بالعذاب والتهدد يقال :
وعدته خيراً ، ووعدته شرًّا ، فإِذا لم تذكر واحداً منهما.
قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدته.
وقوله : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
أي عن الطريق التي آمن اللَّه من آمن بها.
(وَتَبْغُونَهَا عِوَجًاأ).
أي وتريدون الاعوجاج والعدول عن القصد.
يقال في الدين وفيما يعلم إذا كان على غير استواء عوج بكسر العين وفي الحائط والعودِ عَوَج بفتح العَيْن .

(2/354)


وقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ).
جائز أن يكون (فَكَثَّرَكُمْ) جعلكم أغنياءَ بعد أن كنتم فقراءَ ، وجائز أن
يكون كان عددهم قليلاً فكثرهم ، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار
فكثرهم ، إلا أنه ذكرهم بنعمة الله عليهم كما قال : (فاذكروا آلاءَ اللَّهِ)
أي نعم اللَّهِ.
* * *
وقوله : (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
المعنى : ليكونن أحدُ الأمْرَين ، ولا تُقارُّ على مخالفتنا.
وقوله : (قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ).
أي أتعيدوننا في ملتكم وإن كرهناها.
فإِن قال قائل : كيف قالوا لشُعَيب : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ، وشعيب نَبِيٌّ ؟
ففيه قولان :
أحدهما : لما أشرَكُوا الذين كانوا على مِلَّتهم قالوا : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا . وجائز أنْ يقال : قد عَادَ عليَّ من فلان مكروه ، وإن لم يكن سبقه
مكروه قبل ذلك وإنما تأويله إنَّه قد لحقني منه مكروه.
وقوله : (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
(وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
اختلف الناس في تأويل هذا ، فأولى التأويلات باللفْظ أن يكون :
(وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
لأنه لا يكون غير ما يشاءَ اللَّه.
وهذا مذهب أهل السنة.
قال اللَّه عزْ وجل : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
والمشيئة في اللغة بيِّنة لا تحتاج إِلى تأويل .

(2/355)


فالمعنى : ما يكون لنا أن نعود فيها إِلا أن يكون الله عزَّ وجلَّ قد سبق
في علمه ومشيئته أنا نعود فيها.
وتصديق ذلك قوله : (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا).
ثم قال (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا).
وفي موضع آخر : (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ).
وقال قوم : (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)
أي فاللَّه لا يشاءُ الكفر ، قالوا : هذا مثل قولك : لَا أكلِّمك حتى يبيضَّ الفار وَيشيبَ الغُرابُ ، والفارُ لا يبيض ، والغراب لا يشيب.
قالوا فكذلك تأويل الآية.
قال أبو إسحاق : وهذا خطأ لمخالفته أكثر من ألف موضع في القرآن
لا تحتمل تأويلين ، ولا يحدث شيءٌ إِلا بمشيئته وعن علمه.
إِما أن يكونَ عَلِمَهُ حادثاً فشاءَه حادثاً ، أو عَلِمَهُ غيرَ حادثٍ فشاءَه غيرَ حادث.
ولا يجوز لما مكنَ الخلق من التصرف أن يُحدثَ الممتنعَ موجوداً ، ولا يكون ما علمه أنَّه يُوجَدُ ممتنعاً.
وسنةُ الرَسول عليه السلام تشهد بذلك ولكن اللَّه تبارك وتعالى
غيب عن الخلق علمه فيهم ، ومشيئته من أعمالهم فأمرهم ونهاهم.
لأن الحجة إِنما تثبت من جهة الأمر والنهي ، وكل ذلك جائز على ما سبق في
العلم وجرت به المشيئة ، قال الله تعالى : (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا). . الآية.
فسقوط الورقة منسوب إِليها وهو خلقه فيها كما خلقها ، وكذلك إِلى آخر
الآية .

(2/356)


وقال : (يَعْلَمُ مَا فِي أنْفُسِكمْ فاحْذَروه) ، وما في النفوس من
الخواطر الجائلة والهم الجائل والعزم الجائل فيها . فلا يجوز عدم ما علمه
كائناً فيها ، ولا يجوز كون ما علمه معدوماً.
فحذرهم مخالفةَ ظاهر أمره ونهيه لأن عليهم السمع والطاعة للأمر إذا
أمروا به ، وهم جارون على ما عَلِمَ منهم أنَّهم يختارون الطاعة ، ويختارون
المعْصِيَة ، فلا سبيل إِلى أن يختاروا خلاف ما علم أنهم يختارونه.
وإن لم يكن الأمر على ما قلنا وجَب أن يكون قولهم : علم اللَّه أفعال العبَادِ قبل كونها إِنما هو علم مجاز لا علم حقيقة.
واللَّه تعالى عالم على حقيقة لا مجاز ، والحمد للَّهِ.
وقال قوم - وهو بعد القول الأول قريب - :
إِن المعنى : (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا).
أي قد تبرأنَا من جميع ملَّتِكُمْ فما يكون لنا أن نعود في شيءَ منها إِلا أن يشاءَ اللَّه وجهاً من وجوه البر الذي تتقربون به إلى اللَّه ، فيأمرنا به ، فنكونَ بهذَا قد عُدْنا.
قال أبو إسحاق : والذي عندي - وهو إِن شاءَ اللَّه الْحَقُّ - القول الأول.
لأن قوله : (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) ، إنَّما هو ، النجاة من الكفر وأعمال المعاصي لا من أعمال البر.
وقوله : (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا).
(عِلْمًا) منصوب على التمييز.
وقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
أهل عُمان يسمُون القاضي الفاتح والفتاح .

(2/357)


وجائز أن يكون افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، أي أظهر أمْرنَا حتى ينفتح
ما بيننا وبين قومنا وينكشف ، فجائز أن يكون يسألون بهذا أن ينزلَ بقومهمْ من العذاب والهلكة ما يظهر به أن الحق مَعَهُمْ.
* * *
وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
هي الزِلزلة الشديدة.
وقوله جلَّ وعزَّ : (فأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثمينَ).
أي أجْسَاماً مُلْقاة في الأرض كَالرمَاد الجَاثِم.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).
أي كَأَنْ لَمْ ينزلوا فيها.
قال الاصمعي : المَغَاني المنازِلُ التي نزلوا بها ، يقال غَنينا بمكان كذا وكذا ، أي نَزَلْنَا به.
ويكون (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا). كَأَنْ لَمْ ينزلوا كان لم يعيشوا فيها مستغنين ، كما قال حاتم طيٍّ :
غَنِينَا زَماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنى . . . فكُلاًّ سقاناه بكَأسَيْهما الدهرُ
فما زادنا بَغْياً على ذي قرابةٍ . . . غِنانا ولا أَزْرَى بأَحْسابنا الفَقْرُ
والعرب تقول للفقير الصعلوك.
* * *
وقوله : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
أي حين نزل بهم العذاب تولى عنهم.
(وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ).

(2/358)


معنى آسى أحْزَن - أي كيف يَشْتد حُزني.
يقال : أسِيت عَلى الشيءِ آسَى أسىً إِذا اشتدَ حزنُك عَليْه.
قال الشاعر :
وانْحَلَبَتْ عيناه مِن فرْطِ الأسى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
يقال لكل مدينة قرية ، وإِنما سمِّيَتْ بأنه يجتمع فيها الناس ، يقال قريت
الماءَ في الحوضِ إِذا جمعته فيه ، فسمِّيْتْ قريةً لاجتماع الناس فيها.
ومكَةُ أم القرى ، لأن أهل القرَى يؤمونها أي يقصدونها.
وقوله : (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ).
قيل : الْبَأْسَاء كل ما نالهم مِن شِدَّة في أموَالهم ، والضَراءُ ما نالهم من
الأمراض ، وقيل : الضراء ما نالهم في الأموال ، والْبَأْسَاء ما نالهم في أنْفَسهم.
وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
أي يَخْضعون ، والأصْلُ يتَضَرعُون ، فأدغمت التاءِ في الضادِ.
* * *
وقوله : (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
أي كَثروا وَكَثُرَتْ أمْوالهم.
وقوله : (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ).
فأخذهم الله ليعتبروا ويُقْلعُوا عن الكفر وتكذيب الأنبياءِ ، فقالوا مسَّ

(2/359)


آباءَنا مثلُ هذا ، أي قد جرت عادة الزمان بهذا ، وليست هذه عقوبة ، فبين اللَّه تأولهم بخَطئِهِمْ ، وقد علموا أن الأممَ قَد أهْلِكتْ بِكُفْرِهِم قَبْلَهُم.
وقوله : (فَأخَذْنَاهم بَغْتَةً) أي فجأة (وهُمْ لَا يَشعرُون).
فهذا ما أخبر اللَّه تعالى به عن الأمم السالفةِ لتعتبرَ أمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال :
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
أي أتاهم الغيث من السماء والنَباتُ من الأرض . وجعل ذلك زاكياً
كثيراً.
* * *
وقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
أي ليلاً ، أي أفَأمِنت الأمةُ التي كذبت النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بَأْسُنَا بَيَاتًا . أي ليلاً.
(وَهُمْ نَائمُونَ).
يقال نام الرجل ينام نوماً فهو نائم . وهو حسن النِيمةِ ، ورجل نُومةٌ إِذا
كان خَسِيساً لا يؤبه له ، ورَجُل نُوَمة إذا كان كثير النوم ، وفلان حسن النِّيمة أي حسن هيئة النوم ، والنِّيمُ - الفرو.
والفاءَ في قوله : (أَفَأَمِنَ) والواو في قوله (أَوَأَمِنَ)
أمِنَ ، فتحت لأنها واو عطف وفاء عطف دخلت عليها ألف الاستفهام.
وقوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
يقال لكل من كان في شيء لا يُجْدي أو في ضلال : إِنما أنت لاعب.
وإنَّمَا قيل لهم : (ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُون). أي وهم في غير ما يجدي عليهم.
* * *
وقوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
أي وأمنوا عذاب الله أن يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .

(2/360)


وقوله : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
وتقرأ (نَهْدِ) بالنُونِ ، فمن قرأ نهدي بالنون فمعناه أولَمْ نبَينْ.
لأن قولك : هديته الطريق معناه بَيَّنْت له الطريق.
ومن قرأ بالياء كان المعنى أو لم يبين الله لهم أنَّه لو يشاء أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
وقوله : (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ).
ليس بمحمول على أصَبْنَاهم.
المعنى ونحن نطبع على قلوبهم ، لأنه لو حمل على أصبْنَاهمْ لكان
ولطبعنا ، لأنه على لفظ الماضي ، وفي مَعْنَاه.
ويجوز أن يكون محمولاً على الماضي ، ولفظه لفظ المستقبل كما أن لو
نشاءَ معناه لوشئنا.
* * *
وقوله (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
وهذا إِخبار عن قومٍ لا يؤمِنونَ.
كما قال جلَّ وعزَّ : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
وكما قال للنبِى - صلى الله عليه وسلم - :
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3).
فهذا إِخبار من الله جَل وعز أنَّ هؤلاَءِ لَا يؤمِنُون .

(2/361)


وقال قوم : (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ . .) أيْ لَيْسُوا مؤمنين
بتكذيبهم ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأن قوله : (كَذَلكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلوبِ
الكَافِرينَ) . . يَدُلَ على أنهم قد طُبعَ عَلَى قُلُوبِهمْ.
وموضع الكاف في " كذلك " نصْبٌ.
المعنى مثل ذلك يطبعَ الله على قُلوبِ الكافرِين.
* * *
وقوله : (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
هذه " إِن " تدخل واللامَ على معنى التوكيد واليمين.
وتدخل على الأخْبَار . تقول : إِن ظننت زيْداً لَقَائِماً.
* * *
وقوله : (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
(فَظَلَمُوا بِهَا).
أي بالآيات التي جاءَتهم ، لأنهم إِذا جاءَتهم الآيات فكفروا بها فقد
ظلموا أبْين الظُلْم ، لأن الظلم وضعُ الشيء في غير مَوْضِعِه ، فجعلوا بدل
وجوب الإيمان بها الكفر ، فذلك معنى قوله (فظَلموا بِهَا).
* * *
وقوله (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ).
وتقرأ (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ)
ومن قرأ حقيق عَلَيًَّ أن لا أقول فالمعنى
واجب عَليَّ : تركُ القول على اللَّه إِلا بالحقً.
* * *
وقوله : (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
قد أوجب فرعونُ أنَّه ليس بآيةٍ كما ادعى ، لأنه قد أوجَبَ له الصدق إن
اتى بآية يعجز عنها المخلوقون.
* * *
وقوله (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)

(2/362)


إن شئت قلت : " عَصَا هُو " بالواو . والأجْوَدُ حَذْفُها ، أعْنِي الواوَ لسكونها
وسكون الألف ، والهاء ليست بحاجز.
وقوله : (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ).
قال أبو عبيدة وغيره : الثعبان الحية . . وقال غيره : الحية الذَكَرُ.
وقال اللَّه في موضع آخر (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى).
ومعنى (مُبينُ).
أي مبينٌ أنَّها حَيَّة.
* * *
وقوله : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
معنى نزع يده أظهرها وأبانها.
وقال في مَوضع آخر (وَأدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرجْ بَيْضاءَ).
وفي موضع آخر (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).
فهذا دليل أن معنى نزع يده إخراجُها من جيبه وإِخراجها من جناحِهِ.
وجناح الرجل عَضُدُه وقَلَّ جناحُ الرجل عِطفُه.
وتأويل الجناحين من الِإنسان أنهما كالجَنَاحَين من الطائر.
وهما العَضُدانِ.
وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).
أي تخرج لونها أبيض حُوريًّا .

(2/363)


وكان موسى فيما يُرْوَى أدِمَ.
(مِنْ غَيرِ سُوء).
أي تخرج بيضاءَ بياضاً ليس بِبرص ، بياضاً يدل على أنَّه آية.
وكانت عصا موسى إِنما تكون حيَّة ، عندَ إِظهارهَا بها الآية ، ثم تعود عصا ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (سَنُعيدُهَا سيرَتَها الأُولى).
* * *
وقوله : (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
وفي هذا الموضع (قال المَلأ مِنْ قَوْم فِرْعَون).
الملأ هُمُ الوُجُوهُ ، وذوُو الرأي ، وإِنما سُمُّواملأً لأنهم مُلئوا بما يحتاج إليه
مِنهُم.
وقرُئَتْ لسَحَّارٌ عَليمٌ.
* * *
(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
قال فرعون مجيباً لهم : (فمَاذَا تَأمُرونَ).
ويجوز أن يكون " فمَاذا تأمُرون " من قول الملأ ، كأنهمْ خاطبوا فرعون
ومن يَخُصُّهُ ، وجائز أن يكون الخطاب لفرعونَ وحده ، لأنه يقال للرئيس
المطاع : ما ترون في هذا ؟ أي ما ترى أنت وجندُكَ.
و " مَاذا " يصلح أن تكون " ماذا " اسماً واحِداً ، ويكون في موضع نصب.
ويكون المعنى أي شيء تأْمُرون .

(2/364)


ويصلح أن يكون " ذا " في موضع الذي ، وتكون ما في معنى رفع.
ويكون المعنى ما الذي تأمُرون.
* * *
وقوله (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
تفسير (أَرْجِهْ) أخرِّه ، ومعناه أخِّرْ أمرَهَ ولا تعجل في أمرِه بحكم فتكون
عَجَلتكَ حجة عليك.
وفي قوله (أَرْجِهْ) ثلاثة أوجُه قد قرئ بها.
قرأ أبو عَمْرو : أرجِئه وأخاه.
وقرأ جماعة من القراءِ : أرجِهِ وأخاه ، وقرأ بعْضُهمْ أرجِهْ وأخاهُ - بإسكان الهاءِ.
وفيها أوجه لا أعلمها قرئ بها . يجوز أرجِهو وأخاه ، وأرجهي.
وأرجئهي ، وأرجهو بغير همزٍ . فأمَّا من قرأ أرجِه بإسكان الهاء فلا يعرفها
الحذاق بالنحو ، وَيزعُمُون أن هاءَ الإِضْمارِ اسم لا يجوز إِسكانها.
وزعم بعضُ النحويين أن إِسكانها جائز.
وقد رْويت لعمري في القراءَة إِلا أن التحريك أكثر وأجْوَد.
وزعم أيضاً هذا أن هاء التأنيث يجوز إِسكانها وهذا لا يجوز.
واستشهد في هذا بشعر مجهول ، قال أنشدني بعضهم :
لمَّا رأَى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ
وهذا شعر لا يعرف قائله ولا هو بشيء ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل
أخطأت ، لأنَّ الشاعِر قد يجوز أن يخطئ .

(2/365)


وأنشد أيضاً آخر أجهل من هذا وهو قوله
لست إِذن لزغْبَلهْ . . . إِن لم أغيِّر بَكْلتي
إِن لم أساو بالطُول.
فجزم الهاءَ في زغبله ، وجعلها هاء ، وإِنما هي تاء في الوصل.
وهذا مذهب لا يعرج عليه.
* * *
وقوله : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
وَسَحَّارٍ جميعاً قد قرئ بهما.
وقوله : (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
أي لكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي.
* * *
وقوله : (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
(وَاسْتَرْهَبُوهُمْ).
أي استدعوا رهبَتَهُم حتى رهبهم الناس.
* * *
وقوله (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
وتلقَفَ مخففة ومثقلة ، يقال لقفْت الشيء ألْقَفُه.
ومعنى قوله (يَأْفِكُونَ) : أي يأتون بالإفك وهو الكذب ، وذلك أنهم زعَموا
أَن حبَالهم وعصيهم حيات فكذبوا في ذلك ، وإنما قيل إنهم جعلوا الزئبق
وصوَّروها بصوَر الحيَّات ، فاضطرب الزئبق لأنه لا يستقر.
وقوله : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66).
ْفلمَّا ألقى مُوسى عصاه بلعت عصيهم وحبالَهم)
قال الشاعر :
أنت عصا موسى التي لم تزل . . . تلقف ما يَأفِكهُ السَّاحِرُ

(2/366)


هذا البيت أنشِد لأبي عبيدة ، وزعم التَوزي صاحَبُ أبي عبيْدَة أنَّه لا
يعرفه . وهو صحيح في المعنى.
وقوله جلَّ وعز : (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
يقال نقِمت أنقِم ، ونقِمْتُ أنقَمُ ، الأجود نَقَمتُ أنقِمُ والقراءَة مَا تَنْقِم
وهي أفصح اللغتين.
وقوله : (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).
أي ، يشتمل علَيْنَا.
وقوله : (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
ويُقْرأ (وإِلَاهَتَك) ويجوز (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ).
فَمن نَصَب " (وَيَذَرَكَ) ردَّه على جواب الاستفهام بالواو.
المعنى أيكون منك أن تذر موسى ، وأن يذَرَك.
ومن قال (وَيَذَرُكَ) جَعَلَة مستأنفاً ، يكون المعنى : أتذَرُ موسى وهو يذرك وآلهتك.
والأجود أن يكون معطوفاً على (أتذَرُ) فكون أتذَرُ موسى وأيَذَرُكَ موسى.
أي أتطْلِقُ هذا له.
وأمَّا من قرأ وآلهتك ، فإِنَّ المعنى أن فِرعَون كانت له أصنام
يعبدها قومه تقرباً إليه.
* * *
وقوله : (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
" عسَى " طمعٌ وإِشفاق ، إِلا أن ما يطمع اللَّه فيه فهو واجبٌ ، وهو معنى
قول المفسرين : إن عَسَى من اللَّه واجبٌ.
وَمعنى : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)
أي يرى ذلك بوقوع منكم ، لأن اللَّه جلَّ وعزَّ لا يجازيهم على ما يعلمه
منهم من خطيئاتهم التي يعلم أنهم عامِلوهَا لا محالة ، إِنما يجازيهمْ على ما
وقع منهم .

(2/367)


وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
السنين في كلام العرب الجدُوبُ ، يقال مستهم السَّنَةُ ، ومعناه جَدْبُ
السنة وشِدَّةِ السنة ونقص الثمرات.
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
إِنما أخِذُوا بالضراءِ لأن أحوال الشِدةِ تُرِقُ القُلُوب وتُرَغبُ فيما عند اللَّه
وفي الرجوع إِليه ، ألا ترى إِلى قوله جلَّ وعزَّ :
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) ، وقال جلً
وعز : (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51).
* * *
وقوله : (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
أي إِذا جاءَهم الخِصْبُ قالوا أعْطِينَا هذا باستحقاق.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ).
أي جَدْبُ أو ضُر.
(يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ).
المعنى : يتطيَّرُوا . فأدغمَت التاءُ في الطاءِ ، لأنهما من مَكان واحد من
طرف اللسانِ وأصول الثنايا.
وتفسير قوله : (يَطَّيَّرُوا) : يتشاءَموا ، وإِنما قالت العرب الطيرةُ ويتطير فيما
يكرهونَ ، على ما اصطلحوا عليه بينهم ، جعلوا ذلك أمراً يتشامون به فقال
عزّ وجلَّ : (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ).

(2/368)


المعنى : ألاَ إِنما الشْؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا
ما ينالهم في الدنيا ، وقال بعضهم : " طَائِرهم " حظهم ، والمعنى واحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
زعم بعض النحويين أن أصل " مهما " : مَا تأتنا به ، ولكن أبدل من الألف
الأولى الهاء ، ليختلف اللفظ ، فما الأولى هي ما الجزاءُ ، وما الثانية هي التي تزاد تأكيداً للجزاءِ ، ودليل النحويين على ذلك إنَّه ليس شيء من حروف الجزاءِ إلا و " ما " . . تزاد فيه ، قال اللَّه جلَّ ثناؤه :
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)
كقولك إن تثقفهم في الحرب فشَرِدْهم.
وقوله : (وَإمَا تُعْرِضَنَّ عنهم) أيضاً وهذا في كتاب الله كثير.
وقالوا : جائز أن تكون " مَهْ " بمعنى الكف) ، كما تقول مَهْ أي أكفف.
وتكون " ما " الثانية للشرط والجزاءِ ، كأنهم قالوا واللَّه أعلم - أكفف مَا تأتينا به من آية.
والتفسير الأول هو الكلام وعليه استعمال الناس.
وهذا ليس فيما فيه من التفسير شيء لأنه يخل اختلاف هَذين التفسيرين بمعنى الكلام.
* * *
وقوله : (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
قال الأخفش : الطوفان جمع طوفانَه.
وقيل في التفسير إن الطوفان المطر الذي يُغرقُ من كثرته.
قال الله جلَّ وعزَّ في قصة نوح :

(2/369)


(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).
وقيل الطوفان الموت العظيم.
وقوله : (وَالْقُمَّلَ).
قال فيه أبو عبيدة هو الْحَنْمَان صِغار القِرْدَان.
واختلف في تفسيره فقال بعضهم هِيَ دَوَاب أصغَرُ من الْقَمْل.
(وَالدَّمَ).
قيل إِن اللَّه جلَّ وعزَّ : جعل مَاءَهمْ دَماً ، فكان الِإسرائيلي يستقي الماءَ
عذباً صافياً ، فإِذا أخذه القبطِى تحوَّلَ دَماً صَافِياً.
وقوله : (آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ).
أي إِن بعضها منفصل مِنْ بعض ، ويقال إِنه كان بين الآية والآية ثمانية
أيَّامٍ ، وأرسلت عليهم الضفادِع تَدْخل في ثِيَابِهِمْ وفي طعامِهِمْ.
و (آيَاتٍ) منصوب على الحال ، وهي العلامات.
* * *
وقوله : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
والرجز اسم للعذاب.
(قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
وكانوا قد أخذوا بني إِسرائيل بالكد الشَدِيدِ حتى قالوا لموسى :
(أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا).
فيقال إِنهم كانوا يستعملون بنى إسرائيل في تلبين اللَّبِن ، وكان

(2/370)


فرعون وأصحابه من القبطِ يفعلون ذلك ببني إِسرائيل ، فلما بعث موسى
أَعطوهم اللَّبِنَ يُلَبِّنُونَه ، ومنعُوهم التبْن لِيَكون ذلِكَ أشق عليهم.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
وهو البحرِ ، وكذلك هو في الكتب الأول.
* * *
(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
(وكانُوا عَنْهَا غَافِلِين).
أي كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم.
* * *
وقوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
يعني بني إِسرائيل ، وكان منهم داوُد وسليمان مَلكوا الأرْضَ
وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى).
يعنى ما وعدهم اللَّه به من إِهلاك عَدوِّهِمْ واستخلافِهِمْ في الأرْضِ.
(وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).
و (يَعْرُشُونَ) جَمِيعاً . يقال عرَشْ يَعْرِش ويعْرُشُ ، إِذا هو بنى.
* * *
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
ومعنى : (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ).
أي يواظبون عليها ويلازمونها ، يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عَليْهِ.
عكفَ يَعْكِف ويعْكفُ . ومن هذا قيل للملازم للمسجد معتكف.
* * *
وقوله : (إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
(مُتَبَّرٌ) مُهلك وَمُدَمَّر ، ويقال لكل إِناءٍ مكسَّرٍ مُتَبَّرٌ ، وَكُسَارَتُه يقال
له التَبْر.
* * *
وقوله : (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)

(2/371)


أي أغيْرَ اللَّه أطلب لكم إلهاً : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
* * *
وقوله : (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
المعنى : واذكروا إِذ أنجيناكم من آل فِرْعَوْن.
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).
معنى يسومونكم يولُونكم.
* * *
وقوله : (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
((وَوَاعَدْنَا مُوسَى) (وَوَعَدْنَا مُوسَى).
(ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ).
قيل أمره الله أن يصوم ثلاثين يَوْماً ، وأن يعمل فيها بما يقرِبه إلى اللَّهِ.
وقيل في العَشرِ أنزِلت عَليْهِ التَوْراة وكُلِّمَ فِيهَا.
وقال بعضهم لما صام ثلاثين يوماً أنكرَ خُلُوفَ فِيهِ فاسْتَاكَ بعود
خَرُّوبِ ، فقالت الملائكة إنا كنا نَسْتَنْشِئ مِن فيكَ رائحة المسك فأفسدته
بالسواكَ . فزيدت عَليه عَشْر ليالٍ.
وقد قال في موضع آخر : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).
فهذا دليل أن المواعدة كانت أربعين ليلةً كاملة.
واللَّه جلَّ وعزَّ أعلم.
* * *
وقوله : (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).
يجوز هارون بالفتح وهو في موضع جر بدلاً من أخيه ، ويجوز لأخيه
هارونُ بضم النُونِ ، ويكون المعنى وقال موسى لأخيه ، يا هَارون
(اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).
* * *
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا).
أي للوقتِ الذي وقَتْنَا له.
(وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).

(2/372)


كلم الله موسى تكليماً . خصَّه اللَّهُ أنه لم يكن بينه وبين الله جل ثناؤه
وفيما سَمِعَ أحَدٌ ، ولا مَلَك أسْمَعه اللَّهُ كَلَامَهُ ، فلما سمع الْكَلاَمَ
(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ).
أي قد خاطبتني من حيْثُ لا أراك ، والمعنى أرني نفْسَك.
وقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ) مجزوم جواب الأمر.
(قَالَ لَنْ تَرَانِي) ولن نفي لما يستقل.
(وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ).
أي ظهر وبان.
(جَعَلَهُ دَكًّا).
يجوز " دكًّا " بالتنوين ، ودَكَاءَ بغَير تنوينٍ ، أي " جَعله مَدْقُوقاً مع الأرض.
يقال دككت الشيءَ إِذا دققته ، أدُكه دَكًّا ، والدكَّاءُ والدَّكاوَاتُ الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها ، لا تبلغ أن تكون جبلا.
وقوله : (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا).
(صَعِقًا) منصوب على الحال ، وقيل إِنه خرَّ مَيِّتاً ، وقيل خرَّ مَغشياً عليه.
(فَلَمًا أفَاقَ).
ولا يكاد يقال للميت قد أفاق من مَوْته ، ولكن للذي غشي عليه والذي
يذهب عقله قد أفاق من علته ، لأن الله جلَّ ثناؤُه قال في الذين ماتوا :
(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ).
وقوله : (قَالَ سُبْحَانَكَ).

(2/373)


أي تنزيهاً لك من السوءِ.
جاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قوْله " سبحان اللَّه "
تنزيه للَّهِ من السوءِ.
وأهل اللغة كذلك يقُولون من غير مَعْرِفةِ بما فيه.
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن تفسيره يجمعون عليه.
* * *
وقوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).
أي أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى في الدنيا.
هذا معنى (أرني انظرْ إِليك) إِلى آخره الآية ، وهو قول أهل الْعِلْم وأهل
السنة.
وقال قوم : معنى (أرني أنْظُر إِليك) ، أرني أمراً عظيماً لا يُرَى مِثْلُه في
الدنيا مما لا تحتمله بنية موسى ، قالوا فأعلمه أنَّه لن يرى ذلك الأمْر ، وأن
معنى . (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) : تجلى أمر رَبِّه.
وهذا خطأ لا يعرفه أهل اللغة ، ولا في الكلام دليل أن موسى أراد أن
يرى أمراً عظيماً من أمْرِ اللَّه ، وقد أراه اللَّه من الآيات في نفسه ما لا غاية
بَعْدَه.
قد أراه عصاه ثعباناً مبيناً ، وَأراه يده تخرج بيضاءَ من غير سوءٍ وكان
أدم ، وفرَق البحر بعصاه . فأراه من الآيات العظام ما يستغنى به عن أن
يطلبَ أمراً من أَمر الله عظيماً ، ولكن لما سَمِعَ كلام الله قال : رب أرني أنظُر
إِليك ، سمعت كلامك فأنا أحب أن أراك . فأعلمه الله جل ثناؤُه إنَّه لن يراه.
ذم أمره الله أن يشكره ، فقال :
(يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
أي اتخذتك صفوةً على الناس.
(بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي).

(2/374)


ولو كان إِنما تَبعَ كَلَامَ غير الله لما قال برسالاتي وبكلامي ، لأن
الملائكة تنزل إلى الأنبياءِ بكلام اللَّه.
وقوله : (فَخُذْ مَا آتيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين).
ثم أعلَم اللَّه جل ثناؤه أنَّه قد أعطاه من كل شيءٍ يحتاج من أمر الدِّين
مع ما أراه من الآياتِ فقال جلَّ وعزَّ :
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
وقيل في التفسير إِنهما كانا لوحين . ويجوز في اللغة أن يقال للوحين
ألواح . ويجوز أن يكون ألواح جمع أكثَر مِنَ اثْنَين.
وقوله : (فَخُذْهَا بِقُوة) أي خُذْها بقوةٍ فى دينك وَحجتِكِ.
وقوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا).
في هذا وجهان ، وهو نحو قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)
ونحو قوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).
فيحتمل وجْهيْن :
أحدهمَا أنَّهمْ أمِروِا بالخيْرِ ونُهُوا عن الشرِ ، وعرفوا مَا
لَهم فِي ذَلِكَ ، فقيلَ (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)
ويجوز أن يكون نَحوَ ما أمِرْنا به من الانتصار بعد الظلم ، ونحو القصَاص في الجرُوح إِذ قال : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41).
فهذا كله حَسَنٌ والعفو أحسنُ من القِصاصِ والصَبْرُ أحسن من
الانتصار.

(2/375)


وَقَوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
أي اجعَلُ جزاءَهم الِإضْلالَ عن هداية آياتي.
ومعنَى (يَتَكَبَّرُونَ) أي أنهم يرون أنهم أفضَلُ الخلقِ وأن لهم من الحق ما ليس لغيْرِهِم.
وهذه الصفة لا تكون إِلَّا للَّهِ جلَّ ثناؤُه خاصةً لأن الله تبارك وتعالى هو الذي له القدرَة والفضلُ الذي ليس مثله ، وَذَلِكَ يَسْتحقُ أن يقال له : المتكَبر ، وليس لأحدٍ أنْ يتكبر لأن الناس في الحقوق سواء.
فليس لأحدٍ مَا ليْسَ لِغَيره واللَّه جل ثناؤُه المتكبرُ.
أعلم الله أن هُؤلاءِ يتكبرون في الأرض بغير الحق.
وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا).
وسبيل الغى هو سبيل الضلال ، يقال : غوَى الرجل يَغْوِي غيًّا وهو غاوٍ
إذا ضَل.
وقوله : (ذَلِكَ بأنَّهُمْ كذَّبوا بآياتِنا).
" ذَلِكَ " يصلح أن يكون رفعاً ، أيإِن أمرَهم ذلك ، ويجوز أن يكون
نصباً على معنَى فَعَل اللَّهُ بهم ذلك بأنهم كذبوا بآياتِنَا.
(وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلينَ).
" غافلين " يصلح أن يكون - واللَّه أَعلم - كانوا في تركهم الِإيمان بها
والنظَرِ فيها والتدبر لها بمنزلة الغافلين.
ويجوز أن يكون (وكانوا) عن جوابها غافلين كما تَقول : ما أغفَلَ فلاناً عما
يُرَادُ به.
* * *
وقوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
و (مِنْ حُلِيِّهِمْ) ومن حِلِيِّهِمْ .

(2/376)


فمن قرأ من (حَلْيِهم) فالحَلْيُ اسم لمَّا يُحَسَّن به من الذهب والفضة.
ومن قرأ (من حُلِيَهِمْ) بضم الحاءِ - فهو جمع حَلْيٍ على حُلِيٍّ مثل حَقْوٍ
وحُقِيٍّ ، ومن كسر الحاءِ فقال - من حِلِيِّهِمْ - أتْبَعَ الحاءِ كسر اللام.
ومعنى (من بَعْده) أي من بعد ما جَاءَ الميقات ، وخَلفَه هارون في قومه.
وكان لهم حَلْيٌ يجمعونه في أيام زِينتهم ، وكان لِلْقُبةِ حَلى عند بني إِسرائيل.
فقال لهم السامري ، وكانَ رجلًا مطاعاً فِيهم ذَا قَدْر ، وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إِلهاً يعبدونه كما رأوا قوم فرعون يَعْبًدُون الأصنامَ.
فجمع السامِرِي ذلك الحلى ، وهو قولهم :
(وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا) أي ألقيناها.
(فكذَلِكَ ألقَى السَّامِرِيُّ) أي وكذلك طرح السَّامِرِيُّ ما كان عندَه
من الحلي فصاغه في العجل.
فقال اللَّه تعالى :
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا).
والجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز ، إِنما معنى الجَسَد معنى الجثة
فقط.
(لَهُ خُوَارٌ) : أي له صوت.
وقيل له خوار - بالحاءِ والجيم - وكلاهما من الصوت ، وكان قد عمله.
كما تعْمَل هذه الآلات التي تصوِّت بالْخَيْلِ ، فجعله في بيت وأعلمهمُ أن
إلَهَهمْ وإِله موسى عندى.
ويقال في التفسير إِنَّه سُمِعَ صَوْته مرةً واحدةً فقط.
فقال الله عزَّ وجلَّ :

(2/377)


(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا).
أي لا يُبَين لهم طريقاً إِلى حجة.
* * *
وقوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
يقال للرجل النادم على مَا فَعَلَ الْخَسِر عَلَى ما فرط منه ، قد سُقِطَ في
يده وأسْقِطَ ، وقد رُوِيتْ سُقِطَ في القراءَة ، فالمعنى : ولما سقط الندم في
أَيديهم ، كما تقول للذي يحصل على شيء - وَإِنْ كَانَ مما لا يكون في اليد - قد حصل في يده من هذا مكروه ، تُشَبِّهُ ما يحصُل في القلب وفي النفس بما
يرى بالعَيْنِ.
* * *
وقوله : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
(غَضْبَانَ) منصوب على الحال ، وهو على مثال فعلان ، وله فَعْلى نحو
غَضْبَى - لم ينصرف ، لأن فيه الأَلفَ والنونَ ، كألفي حمراء ، والأسف :
الشديد الغضب ، قال الله جلَّ وعزَّ : (فَلَما آسَفُونَا انتقمنا منهم) ، أي فلما
أغضبونَا.
وقوله : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ).
يقال عجلت الأمر والشيءَ سبقته ، وأعجلته استحثثته.
(قَالَ ابْنَ أُمَّ).
بالفتح وإِن شئت بن أُمِّ بالكسر ، فمن قَالَ ابْنَ أُمَّ بالفتح فإِنه إِنما فتحوا
في ابْنَ أُمِّ وابن عم لكثرة استعمالهم هذا الاسم.
وأن النداءَ كلام محتملٍ للحذف فجعلوا " ابن " و " أمَّ " شيئاً واحداً نحو خمسة عشر.
ومن قال ابن أمِّ - بالكسر - فإِنه أضافه إِلى نفسه بعدَ أن جعله اسماً واحداً ، ومن العرب من

(2/378)


يقول : يا ابن أمِّي بإثباتِ الياء.
قال الشاعر :
يا ابن أمي ويا شُسقَيقَ نَفْسِي . . . أنْتَ خَليْتَنِي لَدَهْر شَدِيد
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
المعنى اتخذوا العجل إِلهاً.
وقوله : (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
لحقتهم الذلة أنهم رأوا أنهم قد ضلوا وذَلًّوا ، والذَلَّةُ هو ما أمروا به مِنْ
قَتْل أنفُسِهِمْ ، وقيل إن الذَلَّة أخذ الجزيةِ ، وأخذ الجزية لم يقع في الذين
عبدوا العجل ، لأن الله جلَّ وعزَّ تاب عليهم بِقَتْلِهِمْ أنفُسهمْ.
* * *
وقوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
يقال سكت يسكُتُ سَكْتاً إِدْا هو سكن ، وسكت يسكتُ سُكُوتاً وَسَكْتاً
إِذا قطع الكلام ، ويقال : رجل سِكِّيت بيّنَ السُّكُوت والساكوتةِ إِذا كان كَثِيرَ السكوتِ ، وأصاب فلاناً سُكَّات إِذا أصابه داء منعه من الكلام ، والسُّكَيْتُ - بالتخفيف والتشديد - الذي يجيء آخِرَ الْخَيْلُ.
وروى بعضهم : " ولما سُكِتَ عن موسى الغضبُ " ولا تقرأن به لأنه خلاف المصحف.
قول بعضهم : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) معناه : وَلَمَّا سَكَتَ موسَى عن الغضب ، على القلب ، كما قالوا : أدخَلْتُ الْقَلَنْسوَّةَ في رَأْسِي.
المعنى أدْخلت رأسي في الْقَلَنْسُوَةِ.
والقول الذي معناه سكن قول أهل العربية.
* * *
وقوله : (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

(2/379)


معناه واختار موسى من قومه ، وكان موسى اختار من اثني عشر سِبطاً من
كل سبطٍ ستة رجال ، فبلغوا اثنين وسبعين رَجُلاً فَخَفَّفَ منهم رَجليْن.
ومعنى اختار قومه ، اختار من قومه فحذفت " من " وَوُصِلَ الفعلُ فَنُصِبَ.
يقال اخترت من الرجال زيد واخترت الرجال زيداً.
وأنشدوا :
ومنا الذي اختارَ الرجالَ سماحة . . . وجوداً إِذا هب الرياح الزعارع
وقوله : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ).
وهي الحركة الشديدة والزلزلة الشديدة.
يقال إِنه رجف بهم الجَبل فماتوا فقال :
(قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ).
أي لو شئت أمتَّهم من قبل أن تأْتيهم بما أوْجَبَ عليهم الرجفة.
* * *
وقوله : (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
(إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ).
معناه تُبْنَا إِليك.
(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ).
أَي كل ما خَلَقْته فبرحمتي وفضلي يعيش ، فمعناه ورحمتي وَسِعَتْ كل
شيءٍ في الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فسَأَكتُبها للذينَ يَتَقُونَ).
في الآخرة ، أي أجازيهم بها في الآخرة .

(2/380)


قوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
الْأُمِّيُّ : هو على خلقة الأمَّة ، لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّتِهِ.
وقوله : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
وهذا أَبلغ في الاحتجاج عليهم لأنه إخبار بما في كُتُبهم.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يكتب ولا قرأ التوراة والِإنجيلَ ، ولا عَاشَر أهلَهما فإتيانه بما فيهما من آيات الله العظام.
ومُحال أن يجيءَ مُدَّع إِلى قوم فيقول لهم ذِكْرِي في
كتابكم ، وليس ذلك فيه . وذكره قد أنبأ من آمن من أهل الكتاب به.
وقوله : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).
يجوز أن يكون (يَأْمُرُهُمْ) مستأنفاً.
وقوله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ).
أي يحل لهم ما حُرِّمَ عليهم من طيباتِ الطَّعام.
ويجوز (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) أي ما أخذ مِن وجْههِ طيِّباً.
(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ).
والإصر ما عقدته من عَقْد ثقيل.
(وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)
والأغلال تمثيل ، أَلا ترى أنك تقول : جعلت هذا طوقاً في عُنقِك.
وليس هناك طوق ، وإِنما تأويله أني قَدْ وَلَّيتُكَ هذا وألزمتك القِيَامَ بِه ، فجعلتُ لزومَه لك كالطوق في عنقك.
والأغلال التي كانت عليهم : - كان عليهم أَنه من قتَلَ قُتِل ، لا يُقْبَلُ في
ذلك ديَة ، وكان عليهم إِذا أَصاب جلودَهُم شيءُ من البَوْل أَن يَقرِضُوه ، وكان عليهم ألا يَعْمَلُوا فىِ السبْتِ . فهذه الَأغْلال التي كانت عليهم .

(2/381)


وقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ).
أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
(وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ).
اختلف أهل اللغة في معنى قوله : (وَعَزَّرُوهُ) وقوله : عَزَرْتُ فُلاناً أعزرُه
وأعزُره عزْراً ، قال بعضهم : معنى عَزَرْته رَدَدتُه ، وقال بعضهم معنَى عَزْرتُه
أَغَثْتُه ، وقال بعضهم : يقال عَزَرْتُ الرجلَ أعزِرُه إِذا لمتُهُ ، ويقال عزَّرْت فلاناً ، قال بعضهم عَزَّرْتْ فُلاناً نصرتُه ، وقال بعضهم منِعتُ منه.
فالمعنى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) معنى عزَّروه منعوا أعداءه من الكُفْرِ به.
وقال بعضهم : عَزَّروه بمعنى نصروه ، والمعنى قريب لأن مَنْعَ الأعداء منه
نصرته.
ومعنى عزَّرْتُ فلاناً إِذا ضَرَبْتُه ضرباً دونَ الحدِّ ، يمنعه بِضَرْبه إِياه عن
مُعَاودَةِ مثل عمله.
وقوله : عَزَّرْتُه رَدَدْتُه يجوز أن يكون منه التعزيز ، أي فَعَلْتُ به ما يَرُدُّه عَنْ
المعْصيَةِ.
وقوله : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ).
أي واتَبَعَوا الحقَّ الذي بيانه في القلوب كبيان النورِ في العيون.
* * *
وقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
أَي يَدْعُونَ الناس إِلى الهداية بالحق.
(وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
أَي وبالحق يحكمون.
وقوله : (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
(وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا)
ويجوز عَشِرَةَ- بكسر الشين - المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسْبَاطاً

(2/382)


من نعت " فرقة " كأنه قال : جَعَلْنَاهم أسباطاً وفرقناهم أَسْبَاطاً فيكون أَسباطاً
بدلاً من اثنتي عشرة . وهو الوجه.
وقوله : (أُمَمًا) من نعت (أَسباطاً).
قال بعضهم : " السِّبْطُ القرن الذي يجيءَ بَعْدَ قَرْنٍ ، والصحيح أَن
الأسباط في وَلَدِهِ إِسحاق بمنزلة الْقَبَائِل في وَلَدِ إِسْمَاعِيل " فَوَلَدُ كُل من وُلِدَ
من أولاد يعقوب سبط وَوَلَدُ كُل من وَلَدِهِ من وَلَدِ إِسماعيل قبيلة.
وإِنما سُمِّيَ هُؤلاءِ بالأسْبَاطِ ، وهؤُلاءِ بالقبائل ، لِيُفْصَل بين وَلدِ إِسْمَاعِيلَ وَوَلَد إِسْحَاقَ.
ومعنى القبيلة من وَلَدِ إِسماعيل معنى الجماعة يقال لِكل جماعة مِنْ
وَلدٍ قَبِيلَة وكذلك يقال لكل جمع على شيء واحد :
قبيلٌ ، قال اللَّه جلَّ وعزَّ : (إنَهُ يَرَاكمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ من حيث لا تَرَوْنَهُمْ).
فأما الأَسباط فهو مُشْتَق من السَّبَطِ ، والسُّبَطُ ضرب من الشَجر تُعْلفُة الِإبِلُ ، ويقال للشجرة لها قبائلُ.
فكذلك الأسباطُ من السَّبَط . كأنه جعَلَ إِسحاق بمنزلة شجرة ، وجعِلَ إسماعيلُ بمنزلة شجرة.
وكذلك يَفْعَلُ النسابُونَ في النسب يجعلون الوالد بمنزلة الشَّجَرَةِ
ويجعلون الأولاد بمنزلة أغصانها ، ويقال : طُوبِىَ لِطرْحِ فلانٍ ، وفلان من
شجرةٍ صَالِحَةٍ - فهذا - واللَّه أعلم - معنى الأسبَاطِ والسِّبْطِ.
* * *
وقوله جلّ ثناؤه : (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

(2/383)


السؤَال على ضربين ، فأحد الضربين أن قال لِتَسْتَخْبرَ عما لَا تَعْلَمُ
لَتَعْلَمَ ، والضرب الثاني أن تسأل مستخبراً على وجه التقرير ، فتقولُ للرجُلِ أنا فعلتُ كذا ؛ وأنت تعلم أنك لم تفعل ، فإِنما تسأله لِتُقَررَهُ وَتُوَبخَهُ.
فمعنى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل أهل الكتاب عن أهل هذه القرية - وقد أخبر الله جلَّ ثناؤُه
بِقِصتِهَا لِيُقررَهُم بقديم كفرهم ، وأن يُعْلِمهُمْ ما لا يُعْلم إِلَّا بكتاب أو وَحْىِ.
(إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ).
أي إِذ يظلمون فِي السبْتِ ، يقال أعَدَا ، فلان يَعدُو عُدْواناً ، وعِدَاءَ
وَعَدْواً ، وَعُدُوًّا - إِذَا ظَلَمَ.
وقوله : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ).
حيتان - جمع حوتٍ ، وَأكْثرُ ما تسَمًي العربُ السمَك الْحِيتَانَ
والنينان.
(إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ)
موضع " إِذ " نصبٌ ، المعنى سَلْهُم عن عُدُوهِمْ في السبْتِ ، أي سلهم عن
وقت ذلك.
(إِذ تَأَتِيهِمْ).
في موضع نصبٍ أَيْضاً ب (يعدون).
المعنى سلهم إِذ عَدَوْا في وقت الِإتْيانِ.
(شُرَّعًا).
أي ظاهرة ، وكانت الحيتان تأتي ظاهرة فكانوا يحتالون بِحَبْسِها في يوم
السبت ثم يأْخذونها في يوم الأحدت ويقال إِنهم جاهروا بأخذها في يوم
السبتِ .

(2/384)


وقوله : (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
أي مثل هذا الاختبار الشديد نختبرُهُمْ.
وموضع الكاف نصب بقوله : (نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
أي شددت عليهم المحنة بِفِسْقِهِمْ . ويحتمل - على بعد - أن يكون :
ويومِ لا يَسْبِتونَ لا تأْتيهم كذلك أي لا تأْتيهم شرعاً ، ويكون نَبلوهم
مستأْنفة ، وذلك القول الأول قول الناس وهو الجَيِّد.
* * *
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
الأصل لِمَا ، ولكن الألف تحذف مع حروف الجر نحو لِمَ وعَم وَبِمَ.
قال اللَه تعالى : (فبِمَ تُبَشِّرُونَ) ، (عَمَ يَتَسَاءَلُونَ).
ومعنى الآية أنهم لَامُوهُمْ في عظة قوم يعلمون أنهم غير مُقْلِعينَ.
هذا الأغلَب عليْهمِ في العلم بهم.
(اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا).
ومعنى (أَوْ) - واللَّه أعلم - أنهم أخبروهم - على قدر ما رأوا من
أعمالهم - أنهُم مًهْلَكُون في الدنيا أو معذبونَ في الآخرة لا محالة.
وقوله : (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ).
المعنى قالوا موعظتنا إِياهم معذرة إِلى ربكم وَلَعَلهُمْ يتقُونَ.
فالمعنى أنهم قالوا : الأمر بالمعْروف وَاجبٌ علينا ، فعلينا موعظة هؤلاءِ
لعَلهُمْ يتقونَ ، أي وجائز عندنا أَن ينتفعوا بالمعذرة

(2/385)


ويجوز النصْبُ في " مَعْذِرَة " فيكُون المعنَى في قوله : (قالوا معذرة إِلى
رَبِّكم) على معنى يعتذرون مَعْذِرةً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
(نَسُوا) يجوز أن يكون في معنى تركوا ، ويجوز أن يكون تركهم بمنزلة
من نَسِيَ.
وقوله : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ).
أي شديد ، يقال بَئِس يَبؤُس بَأساً إِذَا اشْتَد ، وقيل إِنَّ القوم كانوا ثَلاثَ
فِرقٍ ، فرقةٌ عملت بالسوءِ ، وفرقة نهت عن السوءِ ، وفرقةٌ أمسكت عن النهي.
وقيل كانوا فرقتين ، فرقة نَهتْ عن السوءِ وفرقة عملت بالسوءِ ، وبعض الفرقة التي فيها من نهى عن السوءِ مؤمن غير راض بما فَعَل أهلُ السُّوءِ فدخلوا في النجاة مع الذين ينهون عن السوءِ ، ونَزَلَ العَذابُ بالذِينَ عَدَوْا في السبت.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
العاتي : الشديدُ الدخولِ في الفساد ، المتمرد الذي لا يَقْبَلُ موعِظة.
وقوله : (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
جائز أن يكونُوا أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سُمِعَ ، فيكون أبلغ في
الآية والنازلة بِهِمْ ، وجائز أن يكون " فقلنا لهم " من قوله :
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82).
ومعنى " خَاسِئينَ " : أي مُبْعَدِينَ .

(2/386)


وقال قوم : جائز أن تكون هذه القردة المتوَلِّدةُ أصلها منهم
وقال قوم المسخُ لا يبقى ولا يَتَولد ، والجملة أنا أخْبِرْنَا بأنهُمْ جُعِلُوا قردة ، والقِردةُ هي التي نعرفها.
وهي أكثر شيءٍ في الحيوان شبهاً بابن آدم ، واللَّهُ أعلم كيف كانَ
أمْرُهُمْ بعدَ كونهم قِرَدَة.
* * *
وقوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قال بَعضهم : تَأَذَّنَ : تَألَّى ربك ليبعثن عَليْهم ، وقيل : إن تَأَذَّنَ أعلم.
والعرب تقول : تعلم أن هذا كذا ، في معنى أعلم.
قال زهير :
تَعلَّمْ أن شرَّ الناسِ حي . . . ينادي في شعارهمو يسار
وقال زهير أيضاً :
فقلت تَعَلَّمْ أن للصيد غِرةً . . . وإِلا تضيعها فإنك قَاتله.
وقوله : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).
أي من يوليهم سوءَ العذاب.
فإِن قال قائل قد جعلوا قِردةً فكيف يبْقَون إِلى يوْمِ القِيَامَةِ ؟
فالمعنى أن الذكر لليهودِ ، فمنهم من مُسخ ، وجُعِل منهم القِردة والخنَازيرَ ومن بقي فمعانِدٌ لأمر اللَّه ، فهم مُذَلُّون بالقتل ، إِلا أن يُعْطُوا الجزية ، فهم مذَلَّون بها وهم في كل مكان أذلُّ أهلِه.
قال الله عزَّ وجلَّ : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ).

(2/387)


أي إِلا أن يعطوا الذَمَّةَ والعَهدَ.
* * *
وقوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
يقال للذي يجىءُ في أثر قرنٍ خَلْف.
والخَلَفُ ما أخْلفَ علَيْكَ بدَلًا مما أخذ منك ، وُيقَالُ : في هذا خَلَفٌ أيضاً ، فأمَّا ما أخلف عليك بدلًا مما ذهب منك فهو الخَلَفُ بفتح اللام.
وقوله : (وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى).
قيل إنهم كانوا يَرْتَشون على الحكم ، ويحكمون بجورٍ ، وقيل إِنهم كانوا
يرتشون ويحكمون بحق ، وكل ذلك عرَضٌ خسيس.
وقوله : (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ).
فالفائدة أنهم كانوا يذنبون بأخذهم الرشِيَ ، ويقولوا سيغفر لنا من غير
أن يَتُوبُوا ، لأن قوله : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)
دليل على إِصرارهم على الذنب ، واللَّه جلَّ وعزَّ وَعَدَ بالمغْفِرَةِ في العظائم التي توجب النار مع التوبة . فقال :
(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
أي فهم ذاكرون لما أخِذَ عليهم.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
" الذين " في موضع رفع ، وفيها قولان ، أعني في (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) ، قال قوم : إِنا لا نضيع أجر المصلحين منهم ، وهو الذي نختار

(2/388)


لأن كل من كان غير مؤمن وأصلح فأجره ساقط ، قال اللَّه جلَّ وعزَّْ :
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
وقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4).
فالمعنى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) أي يؤمنون به ، ويحكمون بما فيه
إنا لا نضيع أجر المصلح منهم والمصلح المقيم على الِإيمان المؤَدَّى
فرائضه اعتقاداً وعَمَلاً ، ومثله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)
أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عمَلاً.
وقال قوم : المصلحون لفظ يخالف لفظ الأول ، ومعناه معنى الأول فَعَادَ
الذكر في المعنى وإن لم يكن عائداً في اللفظ ، ولا يجيز هؤلاءِ زيد قام أبو
عمرو . لأن أبا عمرو لا يوجبه لفظ زيد.
فإن قال قائل : المؤْمن أنا أكرم من اتقى اللَّه ، جاز ، لأن معنى من اتقى
اللَّه معنى المؤمن ، فقد صار بمنزلة قولك زيد ضربته ، لأن الذكر إِذا تقدَّم
فالهاء عائدة عليه ، لا محالة ، وإِن كان لفظها غير لفظه ، لأن ضمير الغائب لا
يكون إلا هاءً في النصبِ.
* * *
وقوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

(2/389)


موضع (إِذ) نصب . المعنى واذكر (إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ).
(مِنْ ظُهُورِهِمْ) بَدل من قوله : (مِنْ بَنِي آدَمَ) المعنى وإذ أخذ ربك
ذُزيتِهُمْ وذرياتِهمْ جميعاً.
وقوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
قال بعضهم : خلق اللَّه الناسَ كالذَّرِ من صلب آدَمَ ، وأشهدَهُمْ على
توحيده ، وهذا جائز أن يكون جعل لأمثَال الذَّرِ فهْماً تعقل به أمره.
كما قال :
(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
وكما قال : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ).
وكل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة معناه أنه يُولَدُ وفي قلبه توحيد
اللَّه ، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه.
وقال قوم : معناه أنَّ الله جَل ثَنَاؤُه ، أخرج بني آدم بعضهم من ظهور
بعض.
ومعنى (وَأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ).
أن كلَّ بالغ يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ واحدٌ ، لأن كل ما خلق الله تعالى دليل على
توحيده ، وقالوا لولا ذلك لم تكن على الكافر حجة.
وقالوا فمعنى (وَأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ) دَلَّهُمْ بخَلْقِه على توحيده.
* * *
وقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
هذا نسق على ما قبله ، المعنى اتلُ عليهم إِذ أخذ ربك من بني آدم.
واتْلُ عَليهْمْ نبَأ الذِي آتَيْناهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ منْها).
هذا فيه غير قول ، قيل إِنه كان عنده اسم اللَّه الأعظَم فدعا به على

(2/390)


موسى وأصحابه ، وقيل إنه أمَيَّةُ بن أبِي الصلت ، وكان عنده علم من الكتب ، وقيل إنه يعني به منافقو أهل الكتَاب.
وقوله : (فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ).
أي الفاسدين الهالكينَ.
* * *
وقوله : (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
أي لو شئنا أن نحول بينه وبين المعْصِيةِ لفعلْنا ، (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ).
معناه ولكنه سكن إلى الدنيا ، يقال أخْلدَ فلان إلى كذا وكذا ، وخلد إلى
كذا وكذا ، وأخْلدَ أكْثرُ في اللغة ، والمعنى أنه سكن إلى لذات الأرْض.
(وَاتبَعَ هَوَاهُ).
أي لم يرفعه بها لاتباعه هواه.
وقوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ).
ضرب اللَّه عزَّ وجلَّ : بالتارِك لآياته والعَادِلِ عنها . أحسن مثل في أخَسِّ
أحْوالِه ، فقال عزْ وجل : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) إذا كان الكلب لهثان ، وذلك أن الكلب إذا كان يلهث فهو لا يقدر لنفسه على ضَر وَلَا نَفْع ، لأن التمثيل به على أنه يلهث على كل حال حملت عليه أوتركته ، فالمعنى فمثله كمثل الكلب لاهثاً ثم قال :
(ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
* * *
وقال : (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
المعنى : ساءَ مثلاً مَثَلُ القوْم.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
(أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
وصفهم بأنهم لا يُبْصرون بعُيُونهِم ولا يعقلون بقلوبهم . جَعَلَهُم في

(2/391)


تركهم الحق وإعراضهم عنه ، بمنزلة من لا يُبْصر ولا يعقل.
ثم قال جلَّ وعزَّ (بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
وذلك أن الأنعام تُبْصرُ منافِعَها ومضارَّها فتلزم بعض ما لا تُبصِرُه.
وهُؤلاءِ يعلم أكثَرُهُمْ أنَّه مُعَاندٌ فيقدمُ عَلى النَار.
وقال جلَّ وعزَّ : (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)
أي على عمل أهل النار.
* * *
وقوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
لا ينبغي أن يدعوه أحد بما لم يصف نفسه به ، أو لم يسم به نَفْسَه.
فيقول في الدعاءِ . يا الله يَا رَحْمَنُ يَا جَوَادُ ، ولا ينبغي أن يقول :
" يا سبحان " لأنه لم يصف نفسه بهذه اللفظة . وتقول يا رحيم ، ولا
يقول : يا رفيق ، وتقول يا قوي ، ولا تقول يا جَلْدُ.
* * *
وقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
أي ألم يَسْتدِلوا بما أنبأهم به من ملكوت السَّمَاواتِ والأرْض.
(وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ).
أي إن كانوا يُسَوفُونَ بالتوبة فعسى أن يكون قدْ اقترب أجَلهُمْ.
فالمعنى : أولمْ ينظروا فيما دَلَّهم اللَّه جل ثناؤه على توحيده فكفروا به
بذلك فَلعلَّهُم قد قرُبَتْ آجالُهم فيموتون على الكفر.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).

(2/392)


وقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
الطغيانُ : الغلو في الكفر.
ويعمهون : يتحيَّرون.
ويجوز الجزمُ والرفعُ في (يَذَرُهُمْ). فمن جَزَمَ عطف على موضع الفاء.
المعنى من يضلل الله يذرهُ في طغيانه عَامهاً.
ومن قرأ (ويذَرُهُمْ) فهو رفع على الاستئناف.
* * *
وقوله : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
والساعة ههنا التي يموت فيها الخلق.
ومعنى مُرساها مُثَبِّتها ، يقال - رسا الشيء يرسو إِذا ثبت فهو راسٍ
وكذلك جبالٌ راسيات ، أي ثابتات . وأرْسيْته إِذا أثبتُّه.
فالمعنى يسألونك عن الساعة متى وقوعها.
وقوله : (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ).
أي لا يظهرها في وقتها إلا هو.
ومعنى : (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
قيل فيه قولان ، قال قوم : (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ثقل وقوعها
على أهل السماوات والأرْضِ.
ثم أعلم جلَّ ثناؤه كيف وقوعها فقال جلَّ وعزَّ :
(لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).
أي إلا فجأة.
وقوله : (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا).
المعنى - واللَّه أعلم - يسألونك عنها كأنك فَرحٌ بسَؤالهم ، يقال تحفيتُ بفلان

(2/393)


في المسْألَةِ إِذا سألت سؤالًا أظهرت فيه المحببَّةَ والبِربهِ ، وأحْفَى فُلان بفُلانٍ
في المسألة ، وإِنما تأويله الكثرة ويقال حَفِت الدَّابَّةُ تَحْفَى حَفىً ، مَقْصُور إذا
كثر المشي حتى يؤلمها
والحفاء ممدود أن يَمْشِيَ الرجُلُ بغيرِ نَعْلٍ.
وقيل : (كَأنَّكَ حَفِيٌ عَنْهَا) ، كأنك أكثرت المسألة عنها.
وقوله : (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ).
مَعْنَى (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) لا يعلمها إِلا هوَ.
* * *
وقوله : (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ).
أي لادَّخَرتُ زمن الخِصْبِ لزمن الجَدْب.
وقيل (لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي لو كنتُ أعلم ما أسأل عنه من الغيب في
الساعة وغيرها.
وقوله : (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ).
أي لم يَلْحَقْني تكذيبٌ.
وقيل أيضاً : (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي ما بي من جُنُون ، لأنهم نسبوا
النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى الجنون ، فقال : (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
ثم بَيَّن لهم مادَلَّهُم عَلى توحيدِ الله عزَّ وجلَّ فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ).
يعني آدمَ.
(وجَعَلَ مِنْها زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)
(فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) .

(2/394)


كناية عن الجماع أحسن كناية.
(حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً).
يعني المَني ، والحمْل ما كان في البَطْن - بفَتْح الحاءِ - أو أخرجَته
الشجرة ، والحمْلُ بكسر الحاءِ ما يُحْمَلُ.
وقوله : (فَمَرَّتْ بِهِ).
معنى مرت به استمرت ، قعدت وقامت لَمْ يُثْقِلهَا.
(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ).
أي دَنت ولَادَتُها ، لأنه أولَ أمره كان خفيفاً ، فلما جُعِل إنساناً ودنت
الولادة أثْقلتْ.
وقوله : (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا).
أي دعا آدم وحواءٌ رَبهمَا.
(لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
يروى في التفسير أنَّ إِبليس - عليه اللعنة - جاء إلى حواءَ فقال : أتدرين
ما في بطنك ؟ فقالت لا أدري ، قال فَلعله بهيمة ثم قال : إن دعوت الله أن
يجعله إِنساناً أتَسمِينَه باسمي ؟ : فقالت ، نعم فسمته عَبْد الحارِث ، وهو
الحارث . وهذا يروى في التفسير.
وقيل إن آدمَ وحواءَ أصْل . فضرب ، هذا مثلاً لمشركي العرب وَعُرَفُوا
كيف بَدَأ الخلقَ ، فقيل فلما آتاهما اللَّه - لكل ذَكر وأنْثى - آتاه اللَّهُ ولداً ذكراً أو أُنثى - هو خَلَقَه وصوَّره .

(2/395)


(جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ) يعني الذين عبدوا الأصنام.
(فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
الأول هو الذي عليه التفسير ، ومن قرأ " شِرْكاً "
فهو مصدرُ شَرِكْتً الرجلَ أشركه شِرْكاً.
قال بعضُهم : كان يَنْبغِي أنْ يكونَ على قراءَة من قرأ شِرْكاً جعلا لَغَيرِه
شِرْكاً ، يقول لأنهما لا ينكران أن الأصل الله عزَّ وجلَّ فالشرك إِنما يجعل
لغيره ، وهذا على معنى جعلا له ذَا شرْك فحذف ذا مثل (وَاسْأَل الْقَرْيَةَ) (1).
* * *
وقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
والعفوُ الفضل ، والعفوُ ما أتى بغير كُلْفَة.
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ).
أي بالمعروف.
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
* * *
وقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
لادنى حركة تكون ، تقوك : قد نَزَغْتهُ إِذَا حركْته.
فالمعنى إِنْ نَالَك مِن الشيطان أدْنى نزغ أي وسْوسة.
وقوله : (مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ).
يقال : طفْت أطُوفُ ، وطاف الخيالُ يَطيفً.
وقوله : (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).
أي تفكروا فيما هو أوضح لهم من الحجة.
(فإِذا هم مُبْصِرونَ) على بصيرة.
* * *
وقوله : (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
المروي عن ابن عباس {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} وهي نفس آدم {وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} آدم {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَت} أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال : ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج ؟ أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك ؟ فخافت حواء ، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام ، فلم يزالا في هم من ذلك ، ثم أتاها وقال : إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث ، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله : {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً ، والمراد به الحرث هذا تمام القصة.
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى قال : {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة.
الثاني : أنه تعالى قال بعده : {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [ الأعراف : 191 ] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى ، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
الثالث : لو كان المراد إبليس لقال : (أيشركون من لا يخلق شيئاً) ، ولم يقل (ما لا يخلق شيئاً) ، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة «من» لا بصيغة «ما» الرابع : أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس ، وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى : {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث ؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم ؟ الخامس : أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح ، فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار.
فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله : {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [ البقرة : 31 ] وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس : أن بتقدير أن آدم عليه السلام ، سماه بعبد الحرث ، فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له ، أو جعله صفة له ، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من قبله.
فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم ، وذلك لا يقوله عاقل.
فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه.

إذا عرفت هذا فنقول : في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد.
التأويل الأول : ما ذكره القفال فقال : إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك ، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل ، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك.
فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام.
ثم قال تعالى : {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عن ذلك الشرك ، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد.
التأويل الثاني : بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم آل قصي ، والمراد من قوله : هو الذى خلقكم من نفس قصي وَجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وعبد اللات ، وجعل الضمير في {يُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
التأويل الثالث : أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه : الأول : أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام ، وحكى عنهما أنهما قالا : {لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة ، ثم قال : {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} فقوله : {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد ، والتقرير : فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما ؟ ثم قال : {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم يقال لذلك المنعم : أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك ، فيقول ذلك المنعم : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي ؟ على التبعيد فكذا ههنا.
الوجه الثاني : في الجواب أن نقول : أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله : {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} فنقول : التقدير ، فلما آتاهما ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذا فيما آتاهما ، أي فيما آتى أولادهما ونظيره قوله : {واسئل القرية} [ يوسف : 82 ] أي واسأل أهل القرية.
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله : {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء }.
قلنا : لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله : {جَعَلاَ} المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع ، وهو قوله تعالى : {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
الوجه الثالث : في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله : {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام ، إلا أنه قيل : إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق.
ثم بدا لهم في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته.
وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلهذا قال تعالى : {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه : « أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه » وعلى هذا التقدير : فالإشكال زائل.
الوجه الرابع : في التأويل أن نقول : سلمنا صحة تلك القصة المذكورة ، إلا أنا نقول : إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث ، وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم.
يقال في المثل : أنا عبد من تعلمت منه حرفاً ، ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان : كتابة عبد وده فلان.
قال الشاعر :
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا . . ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه ، وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه ، إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد ، فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 15 صـ 70 - 72}

(2/396)


هذا معناه التًقْدِيمُ ، المعنى (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).
(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ).
يعني الشياطين ، لأنَّ الكفار إخوانُ الشياطين ، والْغَيُّ الْجَهْلً ، والوقوع
في الحركة . ويقال أقصر يُقصِرُ ، وقَصَّرَ ، يُقَصر.
* * *
وقوله : (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
أي هلا اختلقتها ، أي هلا أتَيْتَ بها من نفسك ، فأعْلمَهُم - صلى الله عليه وسلم - أن الآيات من قِبل اللَّه جل ثناؤه.
وقوله : (إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي هذا القرآن الذي أتَيْت به بصائر من ربكم ، واحدة البصائر بصيرة.
والبصيرة والبصائر طرائق الدَّم ، قال الأشْعَر الْجُعْفِي.
راحوا بصائرهم على أكْتَافِهمْ . . . وَبَصِيرَتي يَعْدُو بها عَتَدُ وَأيُّ
والبصيرة التُّرْس ، وجمعها بصائر.
وجميع هذا أيضاً معناه ظهور الشيء وبيانه .

(2/397)


وقوله : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
يروى أن الكلام في الصلاة كان جائِزاً ، فكان يدخل الرجلُ فيقول : كم
صَلَّيْتُمْ فيقال : صلينا كذا . فلما نزلت فاستمعوا له وأنصِتوا حرم الكلامُ في
الصلاة إِلا ما كان مما يتقرب به إِلى اللَّه جل ثناؤُه . ومما ذكَرَتْهُ الفقهاءُ نحو
التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار وما أشبه ذلك . من ذكر الله جلَّ وعز
ومسألته العفو.
ويجوز أن يكون فاستمعوا له وأنصِتُوا ، اعملوا بما فيه ولا تجاوزوا لأن
معنى قول القائل : سمع اللَّه دُعاءَكَ . تأويله : أجاب الله دعَاءَك ، لأن اللَّه
جلّ ثناؤُه سميع عليم.
* * *
وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
(بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
الآصال جمع . أصُلٍ ، والأصل جمع أصيل ، فالآصال جمع الجمع.
والآصال العَشِيات.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
يعنى به الْملاَئكة.
(وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزهُونَهُ عَن السوءِ.
فإِن قال قائل : الله جل ثناؤُه في كل مكانٍ ، قال الله تعالى : (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)
فمن أين قيل للملائكة : (عِنْدَ رَبِّكَ) ، فتأويله إنَهُ من قَرُب من رحمة الله وَمِنْ تَفَضُلِهِ وإِحسانه .

(2/398)


سورة الأنفال
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله جلَّ وعزَّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
(الأنْفَال) الْغَنَائِم ، واحدها نَفَل ، قال لبيد :
إِن تقوى ربنا خير نَفَل . . . وبإِذن الله رَيْثِي وَعَجَلْ
وإِنما يَسْألوا عَنْهَا لأنَّهَا فيما رُوِيَ كانت حَراماً عَلَى من كَانَ قبلهم.
ويُروى أن الناسَ في غَزَاةِ بَدْرٍ كانوا قليلين ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن جاءَ بأسير غنْماً ومن جاءَ بأسيرين على حسب ذلك.
وقيل أيضاً انه نفل في السرايا فقال الله جلَّ وعز : (الأنفَال للَّهِ والرسُولِ).
* * *
وقوله : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
أي بالحق الواجب ، ويكون تأويله : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).
كذلك نَنْفل من رأيْنَا وإِن كرِهوا . لأن بعض الصحابة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين جعل لكل مَن أتى بأسير شيئاً ، قال يبقى أكثر الناس بغير شيءٍ .

(2/399)


فموضع الكاف في " كما " نصب ، المعنى الأنفال ثابتة لك مثل إِخْراج
ربِّكَ إِياك مِن بَيتكَ بالحق.
وقوله : (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ).
معنى (ذَاتَ بَيْنِكُمْ) حقيقة وصْلِكُم ، والبَيْنُ : الوَصْلُ ، قال تعالى :
(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي وصلكم.
فالمعنى : اتقُوا اللَّهَ وكُونوا مُجْتَمعينَ على ما أمر الله ورسُولُه ، وكذلك
اللهم أصلح ذات البَيْن ، أي أصلح الحال التي بها يجتمع المسلمون.
وقوله : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
أي اقبَلُوا ما أمِرْتُمْ بِه في الغنائم وغيرها.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
تأويله : إذا ذكِرَت عظمةُ اللَّهِ وقُدْرَتُه ، وما خوَّف به مَنْ عصاه ، وَجلَتْ
قلُوبُهُم أي فَزِعَتْ لذلك قال الشاعِر :
لعمرك ما أدري وإِني لأوجل . . . على أيِّنا تعدو المنية أول
يقال : وَجِل يَوْجل وَجَلاً ، ويقال في معنى يوجَل ياجَلُ يِيجل وييْجَل ،

(2/400)


هذه أربع لغَات حكاها سيبويه وأجودُهَا يَوْجَل ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)).
وقوله : (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا).
تأويل : الإيمان التصديق ، وكل ما تلى عليهم من عند اللَّه صدقوا به
فزاد تصديقهم ، بذلك زيادَة إيمانهم.
وقوله : (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
(حَقًّا) منصوب بمعنى دلَّت عليه الجملةُ.
والجملة هي (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) حقا.
فالمعنى أحُق ذَلك حقا.
وقوله : (لَهُمْ دَرَجَات عِندَ رَبِّهِمْ)
أي لهم مَنَازِل في الرفعة على قدر منازلهم.
* * *
وقوله : (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
وعدهم الله جلَّ وعزَّ في غَزَاةِ بدر أنَّهُم يظفرون بأهل مكة وبالعِيرِ وهي
الإبل لِكراهَتِهم القِتالَ ، فَجَادَلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا إنما خرجنا إِلى العير.
وقوله : (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ).
أي وهم كانوا في خروجهم للقتال كأنهم يساقون إِلى الموت لِقلَّة
عدَدهم وأنهم رَجَّالَة ، يروى أنهم إنما كان فيهم فارسان فخافوا.
* * *
وقوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
المعنى : واذكروا إذ يعدكم الله أن لكم إِحدى الطائفتين .

(2/401)


(أَنَّهَا لَكُمْ) في موضع نَصْبٍ على البدَل من (إحدى) ومثله قرله :
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ)
المعنى : ولولا أن تطؤوهم.
وقوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).
أي تودُّون أنَّ الطائفة التي ليسَت فيها حرب وَلا سِلاح ، وهي الإبلِ
تكونُ لكم ، وذاتُ الشوْكةِ ذاتُ السِلاح ، يقال : فلان شَاك في السلاح.
وشائِك في السلاح وشَالٌّ السلاح بتشديد الكاف من الشكَةِ ، ومثل شاكي
قول الشاعر :
فَتَعَرَّفوني إنَّني أنا ذاكُمُ . . . شاكٍ سِلاحِي في الحوادِثِ مُعلِمُ
وقوله : (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ).
أي ظفركم بذات الشوكة أقطعُ لدابرهم.
* * *
وقوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
لما رأوا أنفسهم في قلة عَدَدٍ استغاثوا فَأمَدَّهم اللَّه بالملائكة.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
يقال : رَدِفت الرجلَ إذا ركبْت خَلْفَهُ ، وَأرْدَفته إذا أرْكَبْته خلفي ، ويقال :
هذه دابة لا ترادِف ، ولا يقال لا تُرْدَفُ ، ويقال أردَفْتُ الرجُلَ إذا جئتُ
بعده ، فمعنى (مُرْدِفِين) يأتون فرقة بعد فِرْقة ، ويقرأ مُرْدَفِين ، ويجوز في اللغة

(2/402)


(مَردَّفِين) ، ويجوز مُرِدِّفين ومُرَدَّفِين . يَجوز في الراءِ مع تشديد الدال : كسرُها وفتحها وَضمها ، والدال مُشدَّدَة مكسورة على كل حال :
قال سيبويه : الأصل مُرْتَدِفِينَ . فأدغمت التاءُ في الدال فصارت مُرَدَّفينَ ، لأنك طرحت حركة التاءِ على الراءِ ، قال : وإن شئت لم تطرح حركة التاءِ وكسرت الراءَ لالتقاءِ السَّاكنين ، والذين ضموا الراءَ جعلوها تابعة لضمة الميم.
* * *
وقوله : (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
أي ما جعل اللَّه المدَدَ إلا بشرى.
* * *
وقوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
" إذْ " مَوْضِعُها نصبٌ على معنى وما جعله اللَّه إلا بشرى في ذلك
الوقت ، ويجوز على أن يكون : اذكروا إذ يغشيكم النعاس.
يقال : نَعَسَ الرجل يَنْعَسُ نُعَاساً وهو نَاعس ، وبعضهم يقول : نَعْسان
ولكنْ لا أشتهيها.
وَ (أمَنَةً) منصوب مفعول له كقولك : فعلت ذلك حَذَرَ الشر.
والتاوِبل أن اللَّه أمَّنهم أمْناً حتى غشيهم النعاس لِمَا وَعَدهم من النَصر.
يقال : قد آمنتُ آمَنُ أمْناً - بفتح الألف - وَأمَاناً وأمَنَةً.
وقوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ).
كان المشركون قد نزلوا على الماءِ وسبقوا المسلمين ، ونزل المسلمون
في رَمْلٍ تسوخ فيه الأرجُلُ ، وأصابت بعضهم الجنابة فوسوس لهم الشيطانُ
بأن عَدُوَّهم يقدرون على الماء وهم لا يقدرون على الماءِ ، وَخيلَ إِليهم أن

(2/403)


ذلك عَوْنٌ من اللَّه لعدوهم ، فأمطر اللَّه المكان الذي كانوا فيه فَتَطَهرُوا من
الماءِ ، واستوت الأرض التي كانوا عليها حتى أمكن الوقوفُ فيها والتصرفُ.
وهذا من آيات اللَّه جل ثناؤُه التي تدل على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأمْر بدر كان من أعظم الآيات لأن عَدَدَ الْمُسْلِمين كان قليلاً جداً ، وكانوا رجَّالةً فأيدهم الله ، وكان المشركون أضْعَافَهُم ، وَأمَدَّهُم اللَّه بالملائكة.
قال بعضهم : كان الملائكة خمسةَ آلاف ، وقال بعضهم تسعة آلاف.
وقوله : (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشيْطَانِ).
أي وَسَاوِسَهُ وخطاياه.
(وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ).
أي وَيُثَبِّتَ بالماءِ الذي أنزله على الرمْل حَتى اسْتَوى ، وجائز أن يكون
زين به للربط على قلوبهم ، فيكون المعنى " وَليْرْبطَ عَلَى قُلُوبكُمْ وَيُثَبِّتَ"
بالربط الأقدام.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
" إذ " في موضع نصب على " وَليَرْبِطَ إذْ يُوحِي " ويجوز أن يكون على
" اذكر وا ".
(فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا).
جائز أن يكون أنهم يُثَبتُوهم بأشياءَ يلقُونَهَا في قُلُوبِهِمْ تَقْوَى بها.
وَجَائِزَ أن يكونوا يَرَوْنهم مدَداً ، فإذا عاينوا نصر الملائكة ثبتوا .

(2/404)


وقوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).
أباحهم اللَّه قتلهم بكل نوع في الحرب . . وَاحِدُ الْبَنانِ : بَنَانَة ، وَمَعْناهُ
ههنا الأصابعُ وغيرها من جميع الأعضاء.
وإِنما اشتقاق البنان من قولهم أبَنَّ بِالمكان إذا أقَام به ، فالبناءُ به يَعْتَملُ
كلَ ما يَكُونُ للإقامة والحياةِ.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
(شَاقُّوا). جانبوا ، صَارُوا في شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ الْمؤمِنِينَ ، وَمثلُ شَاقُوا جَانَبُوا
وَحَازَبوا وَحَارَبوا.
معنى حَازَبوا صارَهُؤلاءِ حِزْباً وهُؤلاءِ حِزْباً.
(وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
(يُشَاقِقْ ، وَيُشاقِّ) جميعاً ، إِلا أنها ههنا يشاقق ، بإظهار التضعيف مع
الجزم وهي لغة أهل الحجاز ، وغيرهم يدغِم ، فإِذا أدْغمَتَ قلتَ : من يُشاقَّ
زيداً أهِنْه ، بفتح القاف ، لأن القافين ساكنتان فحركت الثانية بالفتح لالتقاءِ
السَّاكنين ولأن قبلها ألفاً ، وإِن شئت كَسَرْتَ فقلتَ يُشاقِّ زَيْداً ، كسرت القاف لأن أصل التقاءِ السَّاكنين الكسر.
فإذا استقبلتها ألف ولام اخترت الكَسْر فقلت
(وَمَنْ يُشاقِّ اللَّه). ولا أعلم أحداً قرَأ بها.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
يقال : أزحَفْتُ للْقَوْمِ إِذا ثَبَت لهم ، فالمعنى : إِذا وَاقَفْتموهم للقتال.
(فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ).
أي لا تنهزموا حتى تُدْبِرُوا .

(2/405)


وقوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
يعني يوم حربهم.
(إِلَّا مُتَحَرِّفًا) . منصوب على الحال ويجوز أن يكون النصب في متحرف ، ومتحيز على الاستثناءِ ، أي إلا رجلاً متحيزاً ، أي
يكون منفرداً فينحاز ليكون مع المقاتلة . .
وأصل (مُتَحَيِّز) متَحَيْوزِ فأدْغمت الياءُ في الواو.
* * *
وقوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
ويقرأ ، وَلَكِنِ اللَّهُ قَتَلَهُمْ ، فمن شَدَّدَ نَصَبَ لَنَصْبِ (لكنَّ) وَمَنْ خفف
أبطل عملها ورفع قولَه : (اللَّهُ) بالابتداءِ.
أضافَ اللَّهُ قتلهم إليه ، لأنه هو الذي تَوَلى نَصْرَهُمْ ، وَأظْهَرَ فِي ذلك
الآيات المعجزات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ).
ليس هذا نَفْيَ رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن العرب خوطبت بما تعقل.
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر الصديق : ناولني كفا من بَطْحاءَ ، فناوله كفًّا فرمى بها فلم يبق منهم أحدٌ - أعني من الْعَدُو إِلا شُغِلَ بعينه فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن كفًّا من تُراب أوْ حصًى لاَ يَمْلأ عيونَ ذلك الجيش الكثير

(2/406)


برَمْية بَشَرٍ ، وأنه عزَّ وجلَّ تولى إيصَال ذلكَ إلى أبْصَارِهم ، فقال عزَّ وجلَّ : (وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ). أي لَمْ يُصِبْ رَمْيُكَ ذَاكَ ويبلغْ ذلك المبلغ بكَ ، إنما اللَّه عزَ وجل تولى ذلك ، فهذا مجازُ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا).
أي لينصرهم نصراً جميلاً ، ويختبرهم بالتي هي أحسن.
ومعنى يبليهم ههنا يُسْديَ إليْهم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
بتشديد الهاءِ والنصب في (كَيْدِ) ويجوز الجر في (كَيْدِ) وإضافة (مُوهِن)
إليه . ففيه أرْبَعة أوجُه . في النصب وجهان ، وفي الجر وجهان.
وموضع (ذلكم) رفع ، المعنى الأمر ذلكم وأن اللَّه ، والأمرُ أن اللَّه موهن.
وقوله : (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ).
موضع (ذلكم) رفع على إضمار الأمر ، المعنى : الأمر ذلكم فذقوه ، فمن
قال : إنه يَرْفعُ ذلكم بما عادَ عليه من الهاءِ أو بالابتداءِ وجعل الخبر فذُوقوه.
فقد أخطأ من قبل أن مَا بَعدَ الفاءِ لا يكونُ خبراً لمبتدأ.
لا يجوز زيد فمنطلق ، ولا زيد فاضربُه ، إلا أن تضمر " هذا " تريد هذا زيد فاضربه.
قال الشاعر :
وقائِلَةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ . . . وأُكْرُومَةُ الحَيّيْنِ خِلْوٌ كما هِيا

(2/407)


وذكر بعضهم : أن تكون في موضع نصب على إضمار واعلموا أن
للكافرين عذاب النار . ويلزم على هذا أن يقال : زيد منطلق وعمرا قائماً.
على معنى وَاعْلَمْ عمراً قائماً ، بل يلزمه أن يقول عمراً منطلقاً ، لأن المخبر
مُعْلِم ، وَلَكِنهُ لَمْ يَجُز إِضمار أعلم ههنا ، لأن كل كلام يُخبَر به أو يستخبر فيه فأنت مُعْلِمٌ به . فاستغنى عن إِظهار العلم أو إِضماره.
وهذا القول لَمْ يَقُلْه أحَد مِنَ النَحَويين.
* * *
وقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
معناه : إِن تستنصروا فقد جاءَكم النصر ، ويجوز أن يكون معناه إِن
تستحكموا فقد جاءَكم الحُكْم . ؛ وقد أتى التفسير بالمعنيين جميعاً.
رووا أن أبا جهل قال يوم بدرٍ : " اللهم أقْطَعُنَا للرحم ، وأفسَدُنَا للجماعة
فأحنه اليومَ " فسأل الله أن يحكُمَ بحيْنُ من كان كذلك ، فنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونال الحَيْنُ أبا جهلٍ وأصحابه ، فقال اللَّه جلَّ وعزَّ :
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إِن تَستَقْضُوا فقد جاءَكم القضاءُ.
وقيل إِنه قال : اللهم انصر أحبَّ الفِئَتَينْ إِليك ، فهذا يَدلُّ على أن
معناه : إِنْ تَسْتَنْصِروا . وكلا الوجهين جَيدٌ.
* * *
وقوله : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
يُعنَى به الذين قالوا : قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقلْنَا مِثْل هَذَا.
فسماهم اللَّه جل ثناؤُه لَا يَسْمعونَ ، لأنهمْ اسْتَمَعُوا استماعَ عداوة
وبغضاءَ ، فلم يتفهموا ، ولم يتفكرُوا . فكانوا بمنزلة من لم يسمَعْ.
* * *
وقوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)

(2/408)


يعنى به هؤُلاءِ الذين يسمعون ويفهمون فيكونون في ترك القبول بمنزلة
من لم يسمع ولم يَعْقِل.
* * *
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
أي لوعلم اللَّه فيهم خيراً لأسمَعَهُم جوابَ كل ما يَسألونَ عَنْهُ.
ثم قال جلَّ وعزَّ :
(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
أي لو بَيَّن لَهُم كل ما يعتلجُ في نفوسهم لتوَلَّوْا - وَهُمْ مُعْرضُونَ -
لمعانَدَتِهِمْ.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
أي لما يكون سبباً للحياة وهو العلم . وجائز أن يكون لما يكون
سبَباً للحياة الدائمة ، في نعيم الآخرة.
ومعنى استجيبوا في معنى أجيبوا.
قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إِلى الندا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي فلم يُجبْه.
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).
قيل فيه ثلاثةُ أقوال ، قال بعضهم يَحُول بينَ المؤْمِنِ والكُفْر ، ويحول
بين الكافِر والإيمان بالموت ، أي يحول بين الإِنسان وما يسوف به نفسه
بالموت ، وقيل : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)
معناه : واعلموا أن الله مع المرءِ في القرب بهذه المنزلة.
كما قال : جلَّ وعزّ : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)
وقيل إِنهم كانوا يفكرُون في كَثْرَةِ عَدُوهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ فيدخل في

(2/409)


قلوبهم الخوفُ ، فأعلمَ اللَّهُ جلَّ ثناؤه أنه يحول بين المرءِ وَقَلْبِهِ بأن يبدُله
بالخوفِ الأمن ، ويُبَدِّلَ عَدُوَّهم - بظنهم أنهم قادرون عليْه - الجُبْنَ والخَوَرَ.
* * *
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
أي اتقوا أن يُبَدَلَ الظالمون بنقمة من اللَّه ، يُعنى بهذا مَرَدَة المنافِقِينَ
الذين كانوا يصدُّونَ عن الإيمان باللَّهِ.
وزعم بعض النحويين أنَّ الكلام جزاء فيه طرف من النهي ، فَإِذَا
قلْتَ : أنزِل عن الدابة لا تَطْرَحْكَ ولا تَطْرَحَنك ، فهذا جواب الأمر بلفظ
النهي ، فالمعنى : إنْ تَنْزل عنها لا تطرحك فإِذا أتيت بالنُون الخفيفة أو
الثقيلة كان أوكَدَ للكلام.
ومثله : (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
إِنها أمَرتْ بالدخول ثم نَهَتْهُم أن يُحْطِمَهُم سليمانُ فقالت : (لَا يَحْطِمنكمْ سلَيْمَانُ وجنودُه). فلفظ النهي لِسلَيْمانَ ، ومعناه للنمْلِ ، كما تقول :
لا أريَنكَ هَهنَا ، فلفظ النهي لنَفْسِكَ ومعناه : " لا تَكُونَن هَهُنَا فإِني أراك ".
* * *
وقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
المعنى : واذْكُرْ إِذ يمكُرُ بك الذِين كفروا . فأذكَرَه اللَّه جل ثناؤُه نِعْمَةَ مَا
أنعَمَ عليه من النَّصْرِ والطفَرِ يوم بدْرٍ ذلك فقال (وَإِذْ يمكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اذكر تلكَ الخلال.
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
لأن مكر الله إِنما هو مجازاة ونصر للمؤْمنين ، فاللَّه خير الماكرين .

(2/410)


(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
وقد دُعوا بأن يَأتوا بِسُورَةٍ واحِدَةٍ من مثل القرآن فلم يَأْتُوا.
وقوله : (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
واحدتها أسطورة ، يعنون ما سَطَّرَة الأوَلُونَ من الأكاذيب.
ثم قالوا :
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
القراءَة على نصب (الْحَقَّ) على خَبَرِ " كان " وَدَخَلَتْ " هُوَ " للفَصْل.
وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب.
وَاعْلَمْ أن (هُوَ) لا موضع لها في قولنا ، وأنها بمنزلة " ما " المؤَكَدَة.
ودخلت ليُعْلَم أن الحق ليس بصفة لهذا أو أنه خبر ، ويجوز هو الحق مِنْ
عِنْدكَ ولا أعلم أحداً قرأ بها.
ولا اختلاف بين النحويين في إِجازتها ولكن القراءَة سُنَّة
لا يقرأ فيها إِلا بقراءَة مَرْويةٍ.
وقوله : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
المعنى : واذكر إِذ قالوا هذا القولَ ، وقالوا على وجه الدفع لهُ وقالوه
والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم . فأعلَمَ الله إنَّه لم يكن ليُعَذِبَهمْ وَرَسُوله بين أظهرهم.
فقال :
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)

(2/411)


أي : وَمَا كَانَ اللَّهُ ليعذبهم ومنهم من يؤول أمرُه إِلى الِإسلام.
قال : (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
المعنى : أي شيءٍ لهم في ترك العذاب ، أي في دَفْعِه عَنهُم.
(وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ).
المعنى : وهم يَصُدُّونَ عن المسجدِ الحَرام أولياءَهُ وما كانوا أولياءَه.
(إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ).
المعنى : ما أولياؤُهُ إِلا المتقون.
فأعلم الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لم يكن ليعذِبَهم بالعذاب الذي وقع بهم من القتل والسبي وهو بَيْن أظهُرهِم ، ولا لِيُوقع ذلك العذاب بمن يؤُول أمْرُه إِلى الِإسلامِ مِنْهُمْ ، وأعلمه إنَّه لا يدفع العذاب عن جملتهم الذي أوقعه بِهِمْ ، ثم أعلم أنهم ما كانوا مع صَدِّهِمْ أولياءَ الْمسجدِ الحرام وَأولياءَ اللَّه ، إِنهم إِنما كانَ تَقَربُهُمْ إِلى الله جلَّ وعزَّ بالصفير والتصفيق فقال جلَّ وعزَّ : (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
فالمكَاءُ الصفير ، والتصدِيَةُ التصفيق.
* * *
وقوله : (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
أي ليميز ما أَنفقه المؤْمنون في طاعة الله مما أَنفقه المشركون في
معصية اللَّه ، (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا).

(2/412)


والركْمُ أن يَجْعَلَ بعضَ الشيءِ على بعض ، ويقال رَكمتُ الشيءَ أركُمهُ
ركماً ، والرُّكام الاسم.
(فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ).
أي يجعل بعض ما أنفقه المشركون على بعض ، ويجْعَلُ عليهم في
النارِ ، فيكون مما يُعذبُونَ بِه ، كما قال جلَّ وعزَّ : (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ).
* * *
وقوله : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
أَي حَتى لا يُفْتَنَ الناسُ فتنة كُفْر.
ويدلُّ على معنى فتنة كفر قوله عز وجلَّ : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
* * *
وقوله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
المعنى : فإِن أقاموا على كفرهم وعَدَاوتهم فاعْلَمُوا أن الله مولاكم ، أي
هو المولى لكم ، فلا تضركُم مُعَادَاتهم.
* * *
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
كثر اختلاف الناس في تأْوِيل هذه الآية والعمل بها وجُمْلَتُها أنَّها مال من
الأمْوَالِ التي فَرَضَ الله جل ثناؤُه فيها الفُروضَ ، والأموال التي جرى فيها ذكَر الفُروض للفقراءِ والمسَاكينِ وَمَنْ أَشْبهم ثلاثة أصنافٍ.
سمى الله كل صنف منها ، فسمى ما كان من الأموال التي يأخدْها المسلمون من المشركين في حال الحرب أَنْفَالَاَ وغَنَائِمَ ، وسمى ما صار إِلى المسلمين مما لم يُؤخَذ في الحرب من الخراج والجزية فيئاً ، وسَمَى ما خرج أَموال المسلمين

(2/413)


كالزكاة ، وما نذووا من نذر ، وتقربوا به إِلى الله جلَّ وعزَّ صَدَقَةً ، فهذه جملة تسمية الأموال.
ونحن نبين في هذه الآية ما قاله جمهوو الفقهاء وما توجبه اللغة إِن شاءَ
اللَّه.
قال أبو إسحاق : اجمعت الفقهاء أن أربَعةَ أخماس الغنيمة لأهل الحرب
خاصة ، والخمس الذي سُمِّي في قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) إِلى آخر الآية في الاختلاف.
فأما الشافعي فذكر أن هَذَا الخُمس مقسوم على ما سمَّى اللَّه جلَّ وعزَّ
من أهل قسمته وجعل قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) افتتاحُ كلامٍ.
قال أبو إِسحاق ، وأحسب معنى " افتتاح كلام " عنده " هذا أن الأشياءَ
كلها لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ، فابتدأ وافتتح الكلام.
فإنَ قال قائل : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) كما قال (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، ثم قَسّم هذا الخمس على خمْسَةِ أَنْصِبَاءَ ، خمسٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخمس ليتامى المسلمين لا ليتامى آل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخمس في المساكين - مَساكين المسْلمين لا مساكين النبي - صلى الله عليه وسلم - وخمس لابن السمبيل.
ولا يرى الشَافعي أن يَتْركَ صنفاً من هذه الأصناف بغيرِ حظ في القسمة.
قال أبو إسحاق : وبلغني أنه يرى أن يُفضَّلَ بعضهُم على بعض على
قدر الحاجة ، ويرى في سهم الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - أن يصرف إلى ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرفه فيه.
والذي رُوِيَ أنَّه كان يصرف الخمس في عُدَدٍ للمسلمين نحو اتخاذ

(2/414)


السلاح الذي تقوى به شوكتهم . فهذا مذهب الشافعي وهو على لفظ ما في
الكتاب.
فأما أبو حنيفة - ومن قال : بقوله - فيقسم هذا الخمس على ثلاثة
أصناف ، يسقط ما للرسول من القسمة ، وما لذوي القُرْبَى ، وحجته في هذا أن أبا بكر وعمرَ لم يعطيا سَهْمَ ذوي القربى ، وأن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب بوفاته ، لأن الأنبياء لا تورثُ . فيُقَسَّم على اليتامى والمساكين وابن السبيل على قدر حاجة كل فريق منهم ويعطي بعضاً دون بعض منهم خاصةً ، إِلَّا إنَّه لا يخرج القَسْم عن هُؤلاءِ الثلاثة.
وأما مذهب مَالِك فيُرْوَى أن قوله في هذا الخمس ، وفي الفيءِ أنه إنما
ذكر هُؤلاءِ المُسَمَّوْنَ لأنهم من أهم مَنْ يدفع إليهم ، فهو يجِيزُ أن يَقْسِمَ بينهم ، ويجيز أن يُعْطِيَ بعضاً دون بعض ، ويجوز أن يُخْرِجَهُمْ مِن القسم إِن كان أمرُ غيرهم أهمَّ من أمرهم ، فيفعل هذا على قدر الحاجة.
وحجته في هذا أن أمرَ الصدَقاتِ لم يزل يجري في الاستعمال على ما
يراه الناس.
وقال الله عزَّ وجلَّ : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). فلو أن رَجُلاً وجبت عليه خمسة دراهم لأخرجها إِلى صنف
من هذه أو إِلى ما شاءَ من هذه الأصناف ، ولو كان دْكر التسْمِية يوجب الحق للجماعة لما جاز أن يُخَصَّ وَاحد دون غيره ، ولا أن يُنْقَصَ واحد مما يُعَطى غَيْرُه

(2/415)


قال أبو إسحاق : مِنْ - حجَج مالك في أن ذكر هؤلاءِ إنما وقع للخصوص.
قوله تعالى : (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ).
فذكر جملة الملائكة ، فقد دخل جبريل وميكال في الجملة وذكِرَا بأسمائهم
لخصوصِهِمَا ، وكذلك ذكر هؤلاءِ في القسمة والفيءِ والصدقة ، لأنهم من أهم مَنْ يصرف إليه الأموال من البر والصدقة.
قال أبو إسحاق : ومن الحجةِ لمالك أيضاً قول الله عزَّ وجلَّ :
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).
فللرجل أن ينفق في البر على هذه الأصناف وعلى صنف
منها ، وله أن يخرج عن هذه الأصناف ، لا اختلاف بين الناس في ذلك.
قال أبو إسحاق : هذا جهلة ما علمناه من أقوال الفقهاءِ في هذه الآية.
وقوله عزْ وجلَّ : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا).
يجوز أن يكون " إنْ كنْتمْ " مُعَلقَةً بقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) . . . إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)
فأيقِنوا أن اللَّه نَصَرَكم إِذ كنتم قد شاهدتم مِنْ نَصْره ما
شاهدتم.
ويجوز أنْ يَكُونَ (إِنْ كُنتمْ آمَنتُمْ بِاللَّه) معناها : اعلموا أن مَا غَنِمْتمْ من
شيءٍ فأن للَّه خمسه وللرسول يأمران فيه بما يريدان إنْ كنتم آمَنْتمْ باللَّه فأقبلوا ما أمِرْتم به في الغنيمة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَوْمَ الْفُرْقَانِ).
هو يوم بدر ، لأن الله عزَّ وجلَّ أظهر فيه مِنْ نَصْرِهِ بإرداف الملائكة

(2/416)


والِإمداد بهم للمسْلِمِينَ مَا كانَ فيه فرْقانَّ بين الحق والباطل ، ثم أكد التبينَ في
ذلك فقال عزَّ وجلَّ : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا)
أي الدنيا منكم ، والعدوة شفير الوادي ، يقال : عِدْوة ، وعُدْوَة
وعدى الوادي مقصور ، فالمعنى إِذ أنتم بالعدْوَةِ الدُّنْيَا ، أي بشفير الوادى
الذي يلي المدينة.
(وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقصْوَى).
بشفير الوادي الذي يلي مكَةَ.
(وَالركْبُ أسْفَلَ منْكمْ).
الركْبُ : العير التي كان فيها أبو سفيان على شاطئ البحر.
فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن نَصْرَ المؤمنين وهم في هذا الموضع فرقان.
قال أبو إِسحاق : قد بيَّنَّا أنه كان رَمْلًا تسوخ فيه الأرْخل ، ولم يكونوا على
ماءٍ ، وكان المشرِكونَ نَازِلينَ على موْضِع فيه الماءُ ، وهم مع ذلك يُحامونَ عن العِيرِ ، فهو أشدُّ لِشوْكَتِهِمْ ، فجعل اللَّه جلَّ وعزَّ النصرَ في هذه الحال ، مع قلة عَدَدِ المسلمين وكَثْرَة عَدَد المشركين وشِدةِ شَوكَتِهِم ، فرقَاناً.
ويجوز فىٍ قوله : (وَالركْبُ أسْفَلَ منْكمْ) وجهان :
الوجه أن تنصب (أسْفَلَ) ، وعلَيه القراءَة.
ويجَوز أن ترفع (أسْفَلُ) على أنك تريد والركبُ أسْفَلُ
منكم أي أشَد تَسَفُلاً.
ومن نصب أرادَ والركب مكاناً (أسْفَلَ) منكم .

(2/417)


وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).
جعل اللَّه عزَّ وجل القاصِدَ للحق بمنزلة الحيِّ ، وجعل الضَالَّ بمنزلة
الهَالِك ، ويجوز حَيِي بياءَين ، وحَيَّ بياءٍ مشددَة مدْغَمة ، وقد قرئ بهما
جميعاً . فأمَّا الخليل وسيبويه فيجيزان الِإدغام والِإظهار إِذا كانت الحركة في
الثاني لَازِمةً ، فأمَّا من أدغَم فلاجتماع حرفين من جنس واحد.
وأمَّا من أظهر فلأن الحرف الثاني ينتقل عن لفظ الياءِ ، تقول حَييَ يَحْيَا ، والمحيا والممات.
فعلى هذا يجوز ُ الِإظهارُ . فأمَّا قوله عزَّ وجلَّ : (هُوَ يحْيي وُيميتُ)
وقوله : (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40).
فلا يجوز فيه عند جميع البصريين إلا يُحْيي بياءيْنِ ظاهرَتَيْنِ
وأجاز بعضهم . يُحيّ بياءَ واحدة مشددة مُدْغَمة.
وذكر أن بعضهم أنشد :
وكأنها بين النساءِ سبيكة . . . تمشي بسدة بَيْتِهَا فَتَعي
ولو كان هذا المنشد المستشهد أعلمنا من هذا الشاعر ، ومن أي القبائل
هو وهل هو مِمَن يْؤخذ بشعره أم لا مَا كان يضره ذلك.
وليس ينبغي أن يُحْمل كتاب الله على " أنشدني بعضُهُمْ " ولا على بيْت شَاذ لو عرف قائله وكان مِمنْ يْؤخذ بقوله لم يجز.
وهذا عندنا لا يجوز في كلامٍ ولا شِعْرٍ ، لأن الحرفَ الثانِيَ إِذَا كانَ

(2/418)


يسكن من غير المعتل نحو : " لم يَوَدَّ " فالاختيار إِظهار التضعيف ، فكيف إِذا
كان من المعتل.
* * *
وقوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
رويت عن الحسن أن معناها في عينك التي تنام بها.
وكثير من أصحابِ النحو يذهبون إِلى هذا المَذْهَب.
ومعناه عندهم : إِذ يريكهم الله في موضع منامك أي بِعَيْنك ثم حذف الموضِعُ ، وأقام المقام مكانه ، وهذا مَذْهَبٌ حسن.
ولكنه قد جاءَ في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآهم في النوم قَلِيلًا ، وقص الرؤْيا على - أصحابه فقالوا : صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ يا رسول اللَّه ، وهذا المذهب أسوغ في العربية ، لأنَّه قَد جاءَ :
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)
فدَل بهذا أن هذا رؤْية الالتقاءِ ، وأن تلك رؤْيةُ النوم.
ويجوز على هذا المذهب الأول أن يكون الخطاب الأول للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الخطاب الثاني لجميع من شاهدَ الحربَ وللنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ).
أي لتأخرتم عن حربهمْ وكِعْتُمْ وَجَبُنْتُمْ ، يقال فشِلَ فشَلاً إِذَا جَبنَ
وهابَ أن يَتَقدم.
* * *
وقوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
عنى أن هؤلاءِ لا يُؤمنون أبداً ، كما قال لنُوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
* * *
وقوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)

(2/419)


معناه افعل بِهِمْ فعلاً من القَتْلِ تُفَرِقُ به مَنْ خَلْفَهمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَثْقَفَنَّهُمْ) معناه تصادفَنهُمْ وَتَلْقينَّهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
أي نقضاً للعهد.
(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ).
أي انبذ عهدهم الذي عاهَدْتهم عليه أي ارم به.
على سواءَ ، أَي لِتكُونَ وَهُمْ سَواءً في العداوة.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
أي الذين يخونون في عهدهم وغيره.
* * *
وقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم).
معناه عادةُ هُؤلاءِ في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم ، فجوزي هُؤلاءِ
بالقتل والسَّبىِ كما جوزيَ آل فرعونَ بالإِغراق والإِهْلَاكِ ، كذا قال بعض أهل اللغة ، فِي الدأَب أَنه العادة.
وقال أَبو إِسحاق : وحقيقة الداب إِدَامَة العَمَل ، تقول : فلان يداب في
كذا وكذا أَىِ يداوم عليه ويواظب ، وُيتْعِبُ نفسه فيه.
وهذا التفسير معنى العادة إِلا أن هذا أَبيَنُ وأَكشفُ.
* * *
وقوله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
موضع " إِذْ " نصبٌ ، المعنى : اذكر إِذ زيَنَ لهم الشيطان أَعمالهم.
(وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ).
تمثل لهم إِبليس في صورة رَجُل يقالُ له سُراقة بنُ مالك بنُ جُعْثُم من
كنانة ، وقال لهم : لَنْ يَغْلِبكم أَحَدٌ ، وَأَنَا جَارٌ لكم من بني كنانة.
(فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ) .

(2/420)


توافَقَتَا حتَى رَأت كُل وَاحِدةٍ الأخْرَى ، فَبَصرَ إِبليسُ بالمَلائكَة تنزل من
السّماءِ فنكص على عقبيه.
(وَقَالَ إِنَّي بَرِيءٌ مِنْكمْ).
وذلك أَنه عُنِّفَ لهَرَبِه ، فقال :
(إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
ومعنى نكص رجع بِخِزْيٍ.
فإِن قال قائل : كيف يقول إِبليس : (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) وهو كافِر ؟
فالجواب في ذلك أنَّه ظن الوقت الذي أُنْظِرَ إِليْه قَدْ حَضر.
* * *
وقوله : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
معناها : لَا يَحْسَبَنَّ من أفلت من هذه الحرب قَدْ سَبَق إِلى الحياة.
والقراءَة الجيدةُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ) بالتاءِ على مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكون " تَحْسَبَنَّ " عاملة في الذين ، ويكون (سبقوا) الخبر.
ويجوز فتح السين وكسرها ، وقد قرأ بعض القراءِ ، ولا يحسَبَنَ الذين
كفروا ، بالياء وَوَجهها ضعيف عند أهل العربية إِلا أنَّها جائزة على أن يكون
المعنى ، ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، لأنها في حرف ابن مسعود إنهم
سبقوا ، فإِذا كانت كذلك فهو بمنزلة قولك : حسبت أن أقوم وحسبت أقومُ على حذف (أن) وتكون أقوم وقام تنوب عن الاسم والخبر
كما أنك إِذا قلت : ظننت لَزَيْد خَيْر مِنْكَ.
فقد نابت الجملةُ عن اسم الظَنِّ وخَبرِه وفيها وجه آخر :
ولا يحسبَنَ قبيلُ المُؤْمِنينَ الَّذِينَ كَفَروا سَبَقُوا .

(2/421)


ويجوز فيها أوجُهٌ لَم يُقْرأ بِهَا ، يجوز " ولا يُحْسَبَنَّ الذينَ كفروا سبقوا "
و " لا يَحْسبُنَّ الذين كفروا ".
أي لا يحسب المؤمنون الذين كفروا سبقوا.
ولكن القراءَة سنة ، لا يُقْرأ إِلا بما قرأت به القراءُ.
ويجوز إِنهم بكسر إِنَّ ، ويجوز أنَّهم.
فيكون المعنى : ولا يَحْسَبَنَ الَّذِينَ كفروا أَنهم يعجزون.
ويكون (أن) بَدَلًا مِن (سَبقُوا).
قال أبو إسحاق : هذا الوجه ضعيف ، لأن " لا " لا تكون لَغْواً في موضع
يجوز أن تقع فيه غير لغوٍ.
وقوله : (يُعْجِزُونَ) فتحُ النون الاختيارُ ، ويجوز كسرها على أن يكون
المعنى أنهم لا يَعجزُونَنِي ، بحذف النون الأولى لاجتماع النونين.
قال الشاعر :
رأته كالنعام يُعَلُّ مِسْكاً . . . يسوءُ الغاليات إِذا فَلَينِي
يريد فلينني.
* * *
وقوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
(وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).
(وَآخَرِينَ) عطف على قوله (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
أي وترهبون آخرين منْ دُونهِمْ.
* * *
وقوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
السَّلْمُ : الصلح والمسالمة ، يقال : سِلْمٌ وسَلَمٌ وسَلَم في معنى واحِد.
أي إِن مالُوا إِلى الصلح فَمِلْ إِلَيْه.
* * *
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
أي إِن أرَادُوا بإِظهارِ الصلْح خَدِيعَتك ، (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ).

(2/422)


أي فإِن الذي يتولى كفايتك اللَّه.
(وَمَنِ اتبَعَكَ مِنَ الْمؤمِنِينَ).
موضع " مَنْ " نصبٌ ورَفْعٌ ، أما مَنْ نَصب فعلى تأْويل الكاف ، المعنى
فإِن اللَّه يكفيك ويكفي من اتبَعَكَ من المؤْمنين ، ومن رفع فعلى العطف على
اللَّه والمعنى : فإن حسبك اللَّهَ وتُبَّاعُك مِن المؤْمنينَ.
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ).
ومعنى (أَيَّدَكَ) قَوَاكَ.
(وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
أي جمعهم على المودة على الِإيمان.
وقوله : (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا).
(جَمِيعًا) منصوب على الحال.
(مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
أعلم الله جلَّ وعزَّ أن تأليف قلوب المؤمنين من الآيات العظام وذلك أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعِث إِلى قوم أنَفتهم شديدةٌ ، ونصرة بعضهم بعضاً ومعاوَنَتُه أبلغ نصرةٍ وَمعَاوَنَةٍ ، كان يُلْطَم من القبيلة لطمةً فيقاتل عنه حَتَى يُدْرَكَ ثَأرهُ ، فألَّف الايمان بين قلوبهم حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن هذا ما تَوَلَّاة منهم إِلا هو.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
تأويله حُثَّهم على القتال.
وتأويل التحريض في اللغة أن يحث الِإنسان على الشَيء حثًّا يعلم معه
أنه حَارضٌ إِن تخلف عنه ، والحارض الذي قدْ قَارَبَ الهلاكَ ، وقَوله تعالى :

(2/423)


(حَتَى تَكُونَ حَرَضاً) أي حتى تَذوب غَمًّا فتقارب الهلاك فتكون من
الهالكين.
* * *
وقوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ).
لا يجوز إِلا كسر العين . وزعم أهل اللغة أن أول عشرين كسِرَ كما كُسِرَ
أولُ اثنين ، لأن عِشْرين من عَشْرةٍ مثل اثنين من واحِدٍ.
ودليلهم على ذلك فتحهم ثلاثِين كفتح ثلاثةٍ.
وكسرة تِسعين ككسرة تسعة.
* * *
وقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
(وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا).
قرئَت على ثلاثةِ أوْجُهٍ : قُرئت ضَعْفاً بفتح الضادِ ، وضُعْفاً بضم الضادِ
والمعنى واحِدٌ ، يقال هوِ الضعفُ والضُّعْف ، والمَكْثُ والمُكْثُ ، والفَقْرُ
والفُقْر ، وباب فَعْلٍ وفعْل بمعنَى واحِدٍ في اللغة كثير.
وقرأ بعض الشيخة : وعلم أن فيكم ضُعَفَاءَ على فُعَلَاءَ ، على جمع
ضعيف وضعَفاءَ ولم يَصْرفْ ولم يُنَوَّنْ لأن فعلاءَ في آخرها ألف التأنيث.
(فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ).
وقُرئت " فإِن تكن " بالتاءِ ، فمن أنث فلأن لفظَ المائة مَؤنث ، ومن ذكَّر
فلأنَّ المائة وقعت على عَدَد فذكِّر.
* * *
وقوله : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
ويقرأ أسُارَى ، فمن قرأ أسْرَى فهو جمع أسِير وأسْرَى.
وَفعْلى جمع لكل ما أصِيبوا به في أبدانهم وعُقُولهم ، يقال : هالك
وهلكى ، ومريض ومَرْضَى ، وأحمق وحَمْقَى ، وسَكْران وسَكرى .

(2/424)


ومن قرأ أسارَى فهو جمع الجمعِ ، تقول أَسير وأسارى.
قال أبو إِسحاق : ولا أعلم أحداً قرأها أسارى.
وهي جائزة ولا تقرأن بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة.
(حَتَى يثْخِنَ فِي الأرْضِ).
معناه حتى يبالغ في قتل أعدائه ، ويجوز أن يكون حتى يتمكن في
الأرض.
والِإثخان في كل شيء قوة الشيء وشدته يقال قد أثخنته.
* * *
ومعنى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ).
أي بعضهم في المواريث أولى ببعض.
وهذه المواريث في الولاية بالهجرة منسوخة ، نسخها ما في سورة النساءِ
من الفرائض.
* * *
وقوله : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
معناه تذهب صَوْلتكم وقوتكم ، ويقال في الأولِ : الريحُ معَ فُلان ، أي
الدَّوْلَةُ .

(2/425)


سورة براءة
قوله جلَّ وعزَّ (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
سُئل أبَيُّ بنَّ كعب : ما بال براءَة لم تفتتح بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فقال : لأنها نزلت في آخر ما نزل من القرآن ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر في أول كل سورة بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :
ولم يأمر في سورة براءَة بذلك فَضُمَّتْ إلى سورة الأنفال لشبهها بها.
يعني أن أمْرَ العهودِ مذكور في سورة الأنفال وهذه نزلت بنقض العهود
فكانت ملتبسة بالأنفال في الشبه.
قال أبو إِسحاق : أخبرنا بعض أصحابنا عن صاحبنا أبي العباس محمد
ابن يزيد المبرد أنَّه قال : لم تفتتح ب " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، لأن " بسم اللَّه " افتتاح للخير . وأول " براءَة " وَعيدٌ ونقض عُهود ، فلذلك لم تفتتح بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
و (براءَة) نزلت في سنة تسع من الهجرة ، وافتتحت مكة في سَنَةِ ثمان.
وَوَلَّى رسولً الله - صلى الله عليه وسلم - عَتَابَ بنَ أسَيدٍ للوقوف بالناس في الموسم فاجتمع في

(2/427)


تلك السنة في الموقف ومعالم الحج وأسبابه المسلمون والمشركون ، فلما كان
في سنة تسع وَلى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق الوقوفَ بالناس وأمر بتلاوة براءَة ، وولى تلاوتها عَلياً وقال في ذلك : لن يُبَلِّغَ عني إِلا رجُل مني ، وذلك لأن العربَ جَرت عادتها في عقد عقودها ونقضها أن يتولى ذلك على القبيلة رَجلٌ منها ، فكان جائزاً أن يقول العربُ إِذا تلى عليها نقض . العهد من الرسول :
هذا خِلاف ما نعرف فينا في نقض العهود ، فأزاح رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هذه العِلَّةَ ، فَتًليَتْ براءَة في الموقف :
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
أي قدْ بَرِئ من إِعطائهم العهودَ والوفاءَ لهم ، ذلك أن نكثوا.
(بَرَاءَةٌ) مرتفعة على وجهين أحدهما على خبر الابتداء ، على معنى هذه
الآيات براءَة من الله ورسوله ، وعلى الابتداء ، يكون الخبر (إِلى الذين
عاهدتم) لأَن براءَة موصولة بِـ مِنْ ، وصار كقولك : القصد إِلى زيد ، والتبرؤُ إِليك ، وكلاهما جائز حسن ، يقالي بَرئْتُ في الرجلِ والدين براءَةً ، . وبرِئْتُ من المرَضِ وبَرَات أيضاً بُرْءَاً ، وقد روَوْا برات ابرُؤَ بُرُوءاً ، ولم نجد فيما لامه همزة فعَلْت أفعُل ، نحو قرأت أقرا ، وهنأت البعير أهنؤُه .

(2/428)


وقد استقصى العلماء باللغة هذا فلم يجدوه إِلا في هذا الحرف
وُيقال برَيْت القَلمَ - وكل شَيءٍ نَحَتُه - أبْرِيه بَرْيَا ، غير مهموز ، وكذلك
بَرَاةُ السيْرُ غير مهموز ، والبُرَةُ حَلَقَة من حَدِيد في أنف الناقة ، فإِذا كانت من شعر فهي خِزَامَةُ.
والذي في انف البعير من خَشب يقال له الخِشَاش ، يقال أبريت الناقة
أبْرِيها براءَ إِذا جَعَلْت لها بُرَةً.
ولا يقال إِلا بالألف أبْريْتُ ، ومن الخزامة خَزَمْتُ - بغير ألف - وكذلك
من الخِشاش خَشَشْتُ ، والبُرَةُ الخلخال من هذا ، وتجمع البرةُ بُرين والبُريَ.
* * *
وقوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
أي اذهبوا ؛ وأقبلوا وَأدبِرُوا أربعةَ أشْهُرٍ.
(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ).
أي وإِن أجَّلْتُم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا اللَّه
(وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ).
الأجْوَدُ فتح (أَنَّ) علَى معنى اعلموا أن الله مخزي الكافرين ، ويجوز
كَسْرها على معنى الاستئناف ، وهذا ضمان من الله عزَّ وجلَّ بنَصْرِهِ المؤْمنين
على الكافرين.
* * *
(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
عطف على (بَرَاءَة) ومعناه : وإعلان من الله ورسوله ، يقال آذنته بالشيء
إِذا أعلمته به.
(إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
قيل يَومُ الحج الأكبر هو يوم عرفة ، والحج الأكبر الوُقوف بعرفة.
وقيل الحج الأصغر العمرة .

(2/429)


والِإجماع أنَّه من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج.
وقال بعضهم إِنما سُمي يومَ الحج الأكبر لأنه اتفقت فيه أعياد أهل المِلَّةِ ، كان اتفق في ذلك اليوم عيدُ النصارى واليهودِ والمجوسِ وهذا لا يُسمى بهِ يومُ الحج الأكبر ، لأنه أعيادُ غير المسلمين ، إِنما فيها تعظم كفر باللَّه ، فليست من الحج الأكبر في شيءِ.
إجماع المسلمين على أن الوقوف بعرفة أكْبَرُ الحجِّ.
* * *
وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
" الذين " في موضع نصب ، أي وقعت البراءَة من المعاهدين الناقضين
للعهود.
(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ).
أي ليسوا داخلين في البراءَة ما لم ينقضوا العهود.
* * *
وقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أي اقتلوا هؤلاءَ الذين نقضوا العهدَ ، وَنُقِضَ عَهْدُهُمْ وَأحِلوا هذه المدةَ.
ويقال إِن الأربَعةَ الأشْهرِ كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر
وربيعاً الأول ، وعشرا من ربيع الآخر ، لأن البراءَة وقعت في يوم عرفة ، فكان هذا الوقت ابتداءَ الأجل.
(وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
قال أبو عبَيْدَة : المعنى كل طريقٍ.
قال أبو الحسن الأخْفَش " على " محذوفة.
المعنى اقعدوا لهم على كل مَرْصد
وأنشد :
نُغالي اللَّحمَ للأَضْيافِ نِيئاً . . . ونُرْخِصُهُ إِذا نَضِجَ القَديرُ

(2/430)


المعنى نغالي باللحم ، فحذف الباءَ ههنا ، وكذلك حذف (على).
قال أبو إسحاق : كل مَرصَد ظرف ، كقولك ذهبت مَذْهَباً.
وذهبت طريقاً ، وذهبت كل طريق . فلست تحتاج أن تقول في هذا إلا
ما تقوله في الظروف مثل خلف وأمام وقدام.
وقوله : (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ).
أي إِن تابوا وآمنوا فهم مثلكم ، قد درأ عَنْهم إِيمانهم وَتَوْبَتهمْ إثمَ كفرهم
ونكثهِم العهودَ.
* * *
وقوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيرَه منَ القَتْل إلى أن يسمع كلام
اللَّه (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ).
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).
أي الأمر ذلك ، أي وجب أن يعرفوا وأن يُجَازوا بجَهْلِهمْ وبِمَا يَتَبينُونَ
الإسلام.
وأما الإِعراب في أحَد معِ " إِنْ " فالرفع بفِعل مُضْمر الذي ظهر يفسرُه.
المعنى وإن استجارك أحد.
ومن زعم أنه يرفع أحَداً بالابتداءِ فخطأ.
لأن الجزاءَ لا يتخطى ما يرفع بالابتداء ويعمل فيما بعده .

(2/431)


فلو أظهرت المستقبل لقلت : إِن أحدٌ يقمْ أكرمهُ ولا يجوز إِنْ يَقمُ أحدٌ
زَيُدٌ يَقُمْ . لا يجوز أن ترفع زيْداً بفعل مضمر الذي ظهر يفسِّرُه ويَجزم.
وإِنما جاز في " إن ، لأن " إن ، يلزمها الفِعْلُ.
وجواب الجزاءِ يكون بالفِعْل وغيره.
ولا يجوز أن تُضْمِرَ وتجزم بعد المبتدأ.
لأنك تقول ههنا إن تأتني فزيد يقوم ، فالموضع موضع ابتداءٍ.
وإنما يجوز الفصل في باب " إنْ " لأن " إِنْ " أمُّ الجزاءِ ، ولا تزول عنه
إلى غيره ، فأما أخَواتُها فلا يجوز ذلك فيها إلا في الشِعر.
قال عدي بن زيد.
فمتى واغل يزرهم يُحيوه . . . وتُعطَفْ عليه كأسُ السَّاقي
* * *
وقوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
أي ليس العهد إلا لهُؤلاءِ الذين لم ينكثوا.
فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).
أي ما أقاموا على الوفاءِ بعَهْدهِمْ ، وموضع " الذين " نصب بالاستثناءِ .

(2/432)


وقوله : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
وحذف مع كيف جملة " يكون لهم عهد " لأنه قد ذكر قبل ذلك.
قال الشاعر يرثي أخاً له مات :
وخَبرتُمانِي أنما الموت بالقُرَى . . . فكيف وهاتا هَضبة وقليب
أي فكيف مات وليس بقرية . ومثله قول الحطيئة :
وكيف ولم أعْلمْهمُوخَذَلُوكُمُو . . . عَلَى مُعْظَم ولَا أدِيمَكُمُو قَدُّوا
أي فكيف تَلومونني على مدح قوم ، وتَذُمونَهُمْ ، واستغنى عن ذكر
" ذَلِك " مع ذكر كيف ، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدل على ما أضْمِرَ.
قال أبو عبيدة الإل : العهدُ ، والذِّمَّة ما يتذَمم منه ، وقال غيره : الذمة.
العهد ، وقيل في الإل غير قول.
قيل : الإل : القرابة ، وقيل : الِإل : الحلف ، وقيل : الِإل : العهْدُ ، وقيل
الإل اسم من أَسماءِ اللَّه ، وهذا عندنا ليس بالوجه لأن أسماءَ اللَّه جلَّ وعز
معروفة معلومة كما سمعَت في القرآن وتُلِيَتْ في الأخبار قال الله جلَّ وعزَّ :
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا).
فالداعي يقول : يا اللَّه ، يا رحمن ، يا ربُّ ، يا مْؤمِن ، يَا مهيَمن .

(2/433)


ولم يَسْمَعْ " يا إلُّ في الدعاءِ.
وحقيقة " الإلّ " عندي على ما تُوحيه اللغة تحديد الشيءِ فمن ذلك :
الإلَّةُ : الحربة ، لأنَّها محدَّدَة ، ومن ذلك : إذُن مُؤلَّلة ، إذا كانت محدَّدَة.
والأل يُخرَجُ في جميع ما فُسِرَ من العهْدِ والجوار على هذا ، وكذلك
القرابَة ، فإِذا قلت في العهد بَيْنَهُما إِلٌّ فمعناه جواز يحاد الإنسان ، وإذا قُلْتَهُ في القرابة فتأوِيله القرابَة الدانِية التي تحادُّ الإنسانَ.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
أي رؤساءَ الكافرين ، وقادتهم ، لأن الِإمام متبَع.
وهذه الآية توجب قَتلَ الذِميِّ إذا أظْهَرَ الطعنَ في الإسلام لأن العهد
معقود عليه بألَّا يطعَنَ ، فإِذا طعنَ فقد نكث.
وقوله : (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) فيها عند النحويين لُغة واحدة : أيمة بهمزة وياء
والقرَاءُ يقرَأون (أَئِمَّةَ) بهمزتين ، وأيمة بهمزة وياء فأما النحويون فلا يجيزون
اجتماع الهمزتين ههنا ، لأنهما لا يجتمعان في كلمة ، ومن قرأ أئمة -
بهمزتين - فينبغي أن يقرأ يا بني أأدم ، والاجتماع أن آدم فيه همزة واحدة.
فالاختلاف راجع إلى الإِجماع ، إلا أن النحويين يستصعِبون هذه المسألة.
ولهم فيها غير قول :
يقولون إِذا فضلنا رجلاً في الإمَامة : هذا أوَمُّ من هذا ويقول بعضهم أيُمَّ
من هذا ، فالأصل في اللغة أأْمِمَةٌ لأنه جمع إِمامٍ ، مثل مِثَال وأمْثلَةٍ ، ولكن

(2/434)


الميمين لما اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية وألغِيت حركتها على الهمزة.
فصار أئِمة ، فأبدل النحويون من الهمزة الياء.
ومن قال : هذا أيَمَّ من هذا جعل هذه الهمزة كلما تحركت أبْدَلَ مِنها
قال أبو إسحاق : والذي قال : (هَذا أوَمُّ مِن هذا) كانت عنده أصلها أَأَم.
فلم يمكِنْه أن يُبدِلَ منها ألِفاً لاجتماع السَّاكنين ، فجعلها واواً مفتُوحة ، لأنه
قال : إذا جمعت آدمَ قُلتَ أوادِمَ.
وهذا هو القياس الذي جعلها ياءً.
قال : قد صارت الياءُ في أئمة بدَلاً لازماً.
وهذا مذهب الأخفشِ ، والأول مذهب المازني.
قال أبو إسحاق وأظنه أقْيَسَ الوَجْهَين ، أعني : هذا أوَمُّ مِنْ هَذَا ، فأما
أئِمة باجتماع الهمزتين ، فليس من مذاهب أصحابنا ، إلا ما يحكى عن ابن
إسحاق فإنه كان يحب اجتماعهما وليس ذلك عندي جائزاً ، لأن هذا الحرف
في أئمة قد وقع فيه التضعيف والإدغام ، فلما أدغم وقعت علة في الحرف.
وطرحت حركته على الهمزة فكان تركها دليلاً على أنها همزة قد وقع عليها
حركة ما بعدها ، وعلى هذا القياسِ يجوز : هذا أأمُّ مِنْ هذا والذي بدأنا به هو الاختيار من أن لا تجتمع همزتان.
* * *
وقوله : (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ).
وتقرأ (لا إِيمان لَهُمْ) فمن قرأ : (لا أيمَان لهمْ) بالفتح فقد وصفهم بالنكث
في العهد ، وهو أجودُ القراءَتين ، ومن قرأ " لا إيمَانَ لهم " فقد وصفهم بالردةِ ، أي لا إِسْلامَ لَهم ، ويجوز أن يكون نَفَى عنهم الإيمان لأنهم لم يُؤمنوا ، كما
تقول : لا عِلْمَ لِفُلانٍ .

(2/435)


ويجوز أن يكون لا أيمَانَ لَهُمْ إذَا كنتمْ أنْتُمْ آمَنْتُموهُمْ ، فنقضوا هم
عَهدكُم ، فقد بطل الأمان الذي أعطيتموهم ، أي لا إيمانَ لَهُمْ : على
" آمنتُ إيماناً على المصدر ".
(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).
أي لِيُرْجَى منهم الانتهاء والنكث : النقض في كل شي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
هذا على وجه التوبيخ ، ومعناه الحضُّ على قتالهم ، وقيل في قوله :
(وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
أنهم كانوا قاتلوا حُلفاء الرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (أتَخْشَوْنَهُمْ).
معناه أتَخْشَونَ أنْ يَنَالَكُمْ مِنْ قِتَالِهم مَكْرُوهٌ.
(فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ).
أي فمكرُوهُ عَذابِ اللَّهِ أحق أن يُخْشَى.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أيْ مصدقِينَ بعقاب اللَّه وثوابه.
* * *
وقوله : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
(وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ).
فيه دليل أنه اشتد غضبهم للَّهِ عزَّ وجلَّ ، فوعد اللَّه في هذه الآية النصْرَ.
وفيها دليل على تثبيت النُبُوة ، لأنه قال عزَّ وجلَّ : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ).
فوعدهم اللَّه النصْرَ وَوَفَّى به ، ودل على صدق ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله تعالى : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

(2/436)


(وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)
ليس بجواب لقوله : (قَاتِلُوهُمْ) ولكنه مستأنف ، لأن (يتوب) ليس من
جنس ما يُجاب به (قاتلوهم).
* * *
وقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
الله جلَّ وعزَّ قد علم قَبْلَ أمْرهم بالقِتَالِ من يُقَاتلُ مِمنْ لَا يُقَاتِلُ ولكنه
كان يعلم ذلك غيباً ، فأرادَ العلمَ الذي يُجازي عَلَيْهِ لأنه جلَّ وعزَّ إنما يجازي
على ما عملوا.
وسورة " براءَة " كانت تُسَمَّى الْحافِرةَ ، لأنها حَفَرت عن قلوبِ المنافقين.
وذلك أنه لما فُرِضَ القِتالُ تبين المنافقُ من غيره ، ومن يُوالي المؤمِنين مِمن
يوالي أعداءَهم فقال جلَّ وعزَّ :
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً).
والوَليجة : البِطَانَةُ ، وهي مأخوذة مِنْ وَلَجَ الشيء يلِجُ إِذا دَخَلَ.
أي ولم يَتَخِذوا بينهم وبينَ الكافرين دَخيلَةَ مَوَدةٍ.
* * *
وقوله : (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
(شَاهِدِينَ) حال . المعنى ما كانت لهم عمارةُ المسجد الحرام في حال
إِقرارهم بالكفر.
(أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).
أي كُفْرُهُمْ قد أذهبَ ثوابَْ أعمالهم.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

(2/437)


ولم يذكر الرسول في هذَا ، لأن فيه دليلاً بقوله وأقَامَ الصلاةَ التي أتى
بتحديدها الرسول.
(وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ).
تأويله لم يخف في باب الدين إلا اللَّه.
(فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
عسى واجبة من اللَّه.
* * *
وقوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
المعنى أجعلتم أهل سِقَايَةَ الحَاجِّ وأهَلَ عِمَارَةِ المَسْجِدِ الحرامِ كمن
آمن باللَّه واليوم الآخِر وجَاهَد.
واختلف الناس في تفسير هذه الآية :
فقيل : إنه سأل المشركون إليهودَ فقالوا نحن سُقَاةُ الحَاجِّ وَعُمَّارُ المسجد
الحَرامِ . أفَنَحْنُ أفْضَلُ أم محمد وأصحابه ؟
فقالت لهم إليهود عناداً للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أنتم أفضل.
وقيل إنه تفاخر المسلمون المجاهدون والذين لم يهاجروا ولم يجاهدوا.
فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن المجاهدينَ والمهاجرين أعظمُ دَرَجَةً عند اللَّه ، فقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
(درجةً) منصوب على التمييز ، المعنى أعظمُ من غَيْرهمْ درَجَة.
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

(2/438)


والفائز الذي يظفر بأمنيته من الخير.
* * *
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
أي يُعْلِمْهم في الدنيا ما لهم في الآخرة.
وقوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
أي وفي حنين ، أي ونصركم في يوم حنين ، وحنين : اسمُ وَادٍ بين مكة
والطائفِ.
وقوله : (فِي مَوَاطِنَ كَثيرةٍ) أي في أمكنةٍ ، كقولك في مقامَاب.
تقول استوطن فلان بالمكان إذا أقام فيه.
وزعم بعضُ النحويينَ أن (مواطن) لم ينصرف ههنا لأنه جَمْع.
وأنها لا تُجْمَعُ.
قال أبو إِسحاق : وإنما لم تُجْمَعْ لأنها لا تدخل عليها الألف والتاءُ ، لا
نقول مَوَاطِنات ، ولا حَدَائدات إلا في شعْر ، وإِنما سمعَ قَوْلَ الخليل أنه
جمع لا يكون عنى مثال الواحد ، وتأويله عند الخليل أن الجموع أبَداً تَتَنَاهى
إِليه فليس بعده جمع ، لو كسرت أي جمعت على التكسير أقوال ، فقلت
أقاوِيل لم يتهيأ لك أن تكَسر أقاوِيل ، ولكنك قد تقول أقاويلات.
قال الشاعر :
فَهُنَّ يَعْلَكِنَّ حَدائداتها

(2/439)


وإنما لم ينصرف (مواطن) عند الخليل لأنه جمع وأنه ليس على مثال.
الواحدِ ومعنى ليس على مثال الواحد ، أي ليس في ألفاظ الواحد ما جاءَ على
لفظه وأنه لا يجمع كما يحمع الواحد جمعَ تكْسِيرٍ.
ومعنى الآية أن اللَّه جلَّ وعزَّ أعْلَمهم أنَّه ليس بكثرتهم يَغْلِبُون وأنهم
إنما يغلبون بنصر اللَّه إياهم فقال جلَّ وعزَّْ :
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا).
يروى أنهم كانوا اثنى عشر ألفاً في ذلك اليوم ، وقال بعضهم : كانوا
عَشَرة آلاف فأعجبوا بكثرتهم ، فجعل الله عقوبتهم على إعجابهم بالكثرة -
وَقَوْلهم : " لن نغْلَب اليومَ مِنْ قلَّةٍ بأن رَعَّبهم حتى وَلَّوْا مُدْبِرِين ، فلم
يبق مع رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلا العَبَاسُ بنُ عبدِ المطلِب وأبو سُفيانَ بن حَرْبٍ ، ثم أنْزَلَ اللَّه عليهم السكينة حتى عادوا وَظَفِرُوا فأراهم اللَّه في ذلك اليوم من آياتِه ما زادهم تَبْييناً بنُبُوة النبيِ - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ).
وقرئت مَسْجِدَ اللَّه ، فمن قرأ (مَسجِدَ اللَّهٍِ) عَنَى به المسجدَ الحرامَ
ودَخَل معه غيْرُه ، كما تقول : ما أسْهَلَ عَلَى فُلانٍ إنْفاقَ الدِّرْهَم والدينَارِ ، أيْ هَذَا الجنس سَهْل عَليْه إِنفَاقُه.
ويجوز أن يكون مساجد الله يعني به المسجد الحرام ، كما تقول إِذا

(2/440)


ركب الرجل الفرس ، قد صار فلان يركب الخَيْلَ ، فعلى هذا تجري الأسماءُ
التي تُعَبِّرُ عَنِ الأجْنَاسَ.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
يقال لكل مُسْتَقْذرٍ نَجَس ، فإِذا ذكرتَ الرجسَ قلتَ : هو رِجْس نَجِسٌ.
وهذا وقع في سنةِ تسع من الهجرةِ ، أمِرَ المسلمون بمنع المشركين من
الحج وَبِقتْلِهِمْ حيثُ ثقِفُوهُمْ.
(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ).
كان لأهل مكة مكسبة ، ورفق ممن كان يحج من المشركين.
فأعْلَمَهُمُ اللَّه أنه يعوضهم من ذلك.
والعيلة : الفقر.
قال الشاعر :
وما يدري الفقير متى غناهُ . . . وما يدري الغني متى يعيلُ
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
معناه : الذين لا يؤمنون باللَّه إِيمانَ الموحّدِين ، لأنهم أقروا بأن اللَّه
خالِقُهم ، وأنه له ولدٌ.
وأشرك المشركون معه الأصنام ، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن
هذا غيرُ إيمانٍ باللَّه ، وأن إيمانهم بالبعث ليس على جهة إِيماننا لأنهم لا
يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربُون وليس يقرون باليوم الآخر كما أعلم اللَّه جلَّ وعزَّْ وليس يدينون بدين الحق ، فأمر الله بقتل الكافرين كافةً إِلا أن يُعْطُوا الجِزيَةَ عَنْ يَدٍ ، وَفُرِض قَبُولُ الجِزْيَةِ من أهلِ الكتابِ وهم النَّصَارى واليهود .

(2/441)


وَسَنَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في المجوس والصابئين أن يجروا مجرى أهل الكتاب في قبول الجزية.
فأمَّا عَبَدَةُ الأوثان من العرب فليس فيهم إِلا القتْلُ.
وكذلك مِنْ غَيْرِهِمْ.
وقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
قيل معنى (عَنْ يَدٍ) عَنْ ذلٍّ ، وقيل عن يَدٍ عن قهر وذُلٍّ ، كما تقول اليد
في هذا لِفلان . أي الأمر النافذ . لفُلانٍ.
وقيل (عَنْ يَدٍ) أي عن إنْعَامٍ عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية منهم وتركَ
أنْفسِهِم نعمة عليهم ، ويد من المعروف جزيلة.
* * *
وقوله : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
قرئتْ (عُزَيْرٌ) بالتنوين وبغير تنوين ، والوجه إِثبات التنوين لأن " ابْناً " خبَر.
وإِنما يحذف التنوين في الصفةِ نحو قولك : جاءَني زيد بن عمروٍ ، فيحذف
التنوين لالتقاء السَّاكنين وأنَّ ابناً مضاف إِلى عَلَم وأن النعت والمنْعُوتَ
كالشيء الواحد . فإِذا كان خبراً فالتنوين وقد يجوز حذف التنوين على
ضعف لالتقاء السَّاكنين وقد قرئت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2).
بحذف التنوين ، لسكونها وسكون الباءِ في قوله : (عُزيْر ابن اللَّهِ).
وفيه وجه آخر : أن يكون الخبر محذوفاً ، فيكون معناها عزير ابن اللَّه
معبودنا ، فيكون " ابْنُ " نَعْتاً.
ولا اختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ).

(2/442)


إن قال قائل : كل قول هو بالفم فما الفائدة في قوله بأفواههم ؟
فالفَائِدَة فِيه عظيمة بيِّنَة.
المعنى أنَّه ليس فيه بيان ولا برهان إِنما هو قول بالفم لا معنى
تحته صحيح ، لأنهم معترفون بأن الله لم يتخذْ صَاحِبَة فكيف يَزْعمونَ لَه
ولَداً ، فإِنما هو تَكذُّبٌ وقولٌ فقط.
وقوله ة (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ).
أي يشَابِهون في قولهم هذا ما تقدم مِنْ كَفَرَتِهِمْ ، أي إِنما قالوه اتباعاً
لمن تقدم من كَفَرَتِهِمْ . الدليل على ذلك قوله :
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ).
أي قبلوا مِنْهمْ أن العزَيْرَ والمسيحَ ابنا الله تعالى.
وهذا معنى : (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)
وقرئ يضَاهُونَ ، وأصل المضاهاة في اللغة المشابهة ، والأكثر تَرْكُ الهمزةِ ، واشتقاقه من قولهم : امْرَأةْ ضيْهَاء.
وهي التي لا ينبت لها ثدي ، وقيل هي التي لا تحيض.
وإنما معناها أنها أشبهت الرجال في أنَّها لا ثدْيَ لها ، وكذلك إِذا لم تحض . وضهياء فعلاء.
الهمزة زائدة كما زيدت في شمأل ، وغرقئ البيضة ، ولا نعلم
أنها زيدت غير أول ، إِلا في هذه الأشياءَ.
ويجوز أن تكون " فَعْيَل " وإِن كانت بِنِيَةً ليس لها في الكلام نظير.
فإِنا قد نعرف كثيراً مما لا ثَاني له . من ذلك قولهم كَنَهْبَل وهو الشجر
العظام ، تقديره فَنَعْلل ، وكذلك قَرَنْفل ، لا نظير له وتقديره فَعَنْلُل.
وقد قيل :

(2/443)


إبِل لا نظير له وإن كان قد جاءَ إطِل وهو الخصْرُ ، وقالوا إِيْطِل ثم حذفوا فقالوا إطِلِ ، فيجوز أن يكون " يُضاهِئون " من هذا بالهمز ، وتكون همزة ضهياءَ أصلًا في الهمز.
* * *
وقوله : (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
معناها تنزيهاً له من شركهم.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
أكثر التفسير إنما هو للمشركين ، وقد قيل إِنها فيمن منع الزكاة من أهل
القِبْلة لأن من أدى من ماله زكاته فقد أنفق في سبيل الله ما يجب من ماله.
وقوله : (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ).
دخلت إلا ، ولا جُحْدَ في الكلام ، وأنت لا تقول ضربت إِلا زَيْداً ، لأن
الكلام غير دال عَلَى المحذوف.
وإذا قلت : (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ).
فالمعنى يأبى اللَّه كل شيءَ إلا أن يُتم نورَه
وزعم بعض النحويين أن في " يأبى " طرفاً من الجحد ، والجَحْدُ والتحقيق
ليسا بذي أطراف ، وآلةُ الجحد لا ، وَمَا ، ولم ، ولن ، وليس ، فهذه لا
أطراف لها . ينطق بها على حالها ، ولا يكون الِإيجاب جُحْداً ولو جاز هذا
على أن فيه طرفاً من الجحد لجاز : كرهت إِلا أخاك ، ولا دليل ههنا على

(2/444)


المكروه ، ما هو ولا من هو ، فكرهتُ مثل أبَيْتُ ، إلا أن أبيتُ الحذف مستعمل
وقوله : (وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
فقال : (الذهب والفضَة) ولم يقل ولا ينفُقُونَهما في سبيل اللَّه ، فإِنما جاز
ذلك لأن المعنى يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون المكنوز في سبيل الله.
ويجوز أن يكون محمولًا على الأموال ، فيكون : (ولا ينفقونها) ، ولا ينفقون
الأموال ، ويجوز أن يكون : ولا ينفقونها . ولا ينفقون الفضة ، وحذف الذهب لأنه داخل في الفضَّةِ كما قال الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما . . . عندك راضٍ والرأي مختلف.
يريد نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راضٍ.
فحذف " راضون " فكذلك يكون المعنى :
والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه في سبيل اللَّه ، والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه.
* * *
وقوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ : أن عدة شهور المسلمين ، الذين تُعُبِّدُوا بَأن يجعلوا
لِسَنَتِهِمْ - اثنا عشر شهراً ، على منازل القمر ، فجعل حجهم وَأعيَادَهمْ

(2/445)


وصلَاتهمْ في أعبادهم هذا العَدَد ، فالحج والصوم يكون مرة في الشتاءِ ومرة
في الصيف ، وفي فصول الأزمان على قدر الشُهور ودَوَرَان السنِين ، وكانت
أعياد أهل الكتاب وَمتعَبَّدَاتهمْ في سنَتِهم يَعْملونَ فيها على أن السنة ثلاثمائة
يوم وخمسة وستون يوماً وبعضُ يوم ، على هذا يجري أمر النصارى واليهود.
فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن سِنِي المسْلِمِينَ على الأهِلَّةِ.
وقوله : (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)
الأربعة الحرم : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
(فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
قيل في الأربعة ، وقيل في الاثني عشر . فمن قال في الأربعة قال : أراد
تعظيم شأن المعاصي -
كما قال جلَّ وعزَّ : (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
فالفسوق لا يجوز في حج ولا غيره ، ولكنه عزَّ وجلَّ عرف الأيام التي
تكون فيها المعَاصِي أَكْثَرَ إثماً وعقاباً.
وقوله : (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).
فـ " كافَّةً " منصوب على الحال ، وهو مصدر عَلَى فَاعِله كما قالوا العاقِبة
والعافِية . وهو في موضع قَاتِلوا المشركين محيطين بهم باعتقاد مقاتَلِتِهمْ.
وهذا مشتق من كُفَّةِ الشيء ، وهي حَرْفُه ، وإِنما أخذ من أن الشيءَ إذا
انتهى إِلى ذلك كُفَّ عن الزيادة ، ولا يجوز أنْ يُثَنَّى ولا يَجْمَع ، ولا يقال
قاتلوهم كافَّاتٍ ولا كافِّين ، كما أنك إِذا قلت : قاتلوهم عامَّة لم تثَنِّ ولم
تجمَعْ ، وكذلك خَاصََّةً .

(2/446)


هذا مذهب النحويين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ الْمَتقِينَ).
تأويله أنه ضامن لهم النصْر.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
النسيء - هذا - تأخير الشيء ، وكانوا يُحَرمونَ القتال في المحرم فإِذا
عزموا على أن يقاتلوا فيه جعلوا صفراً كالمحرم ، وقاتلوا في المحرم وأبدلوا
صَفَراً منه ، فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعزَّ أن ذلك زيادة في الكفر.
(لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ).
فيجعلوا صَفَراً كالمحرم في العدةِ ، ويقولوا : إن هذه أربعة بمنزلة
أربعة.
والمواطأة المماثلة والاتفاق على الشيء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
الِإجماع في الروايات أن هذا كان في غَزْوَةِ تَبًوكَ ، وذلك أن الناس
خرجوا فيه على ضَيْقَةٍ شديدة شاقةٍ.
وقوله عزَّ وجلَّ : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ).
المعنى تثاقلتم ، إلا أن التاءَ ادْغِمَتْ في التَاءِ ، فصارت ثاءَ ساكنة.
فابتدئت بألف الوصل - الابتداء -.
وفي (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) عندي غير وجه.
منها أن مَعْنَاهُ تثاقلْتُمْ إِلى الِإقامة بأرضِكم ، ومنها اثَّاقَلْتُمْ إِلى شهوات
الدنيا.
وقوله : (أرضِيتمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ).
أي أرضِيتمْ بنعيم الحياة الدُنيا من نعيم الآخرة

(2/447)


(فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).
أي ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياءُ اللَّهِ في الجَنة.
وقوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
هذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد ، وأعلم انَه يستبدل لِنَصْرِ دينه
ونبيه قوماً غيرَ مُثاقِلِين عنِ النصْرِ إِلى أعدائه إِذ أعلمهم اللَّه عزَّ وجل أنهم إن
تركوا نصره فلن يَضُرهُ ذلك شيئاً كما لم يضرره إذ كان بمكة لا ناصرين له.
فقال عزْ وجل :
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
وكان المشركون قد أجمعوا على قتله - صلى الله عليه وسلم - فمضى هو وأبو بكر الصديق هارباً منهم في الليل ، وترك عَلِياً عَلَى فِراشِهِ ليرَوْا شخصه على الفراش فلا يعلمون وقت مُضيِّهِ ، وأطلعا أسماءَ بنت أبي بكر على مكانهما في الغَار ، وَمَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ثُمَامَة ، وهي شجرة صغيرةٌ ضعيفة فأمر أبا بكر أن يأخذها معه ، فلما صارا إِلى الغار ، أمر أبا بكرٍ فجعلها عَلَى باب الغار ، ثم سبق أبو بكر إِلى دُخُولِ الغارِ فانبطح فيه ، وألقى نفسه ، فقال رسول اللَّه : لم فَعَلْتَ ذلك ؟
فقال : لأنَّ هَذِه الغِيرَان تكون فيها الهوامُّ المؤْذية والسباع فأحْبَبْتُ إِن
كان فيها شيء أن أقيكَ بِنَفْسِي يا رسول اللَّه.
ونظر أبو بكر إِلى جحر في الغار فسدَّه برجله ، وقال إِنْ خَرَجَ منه ما يؤذِي وقيتُكَ منه.
فلما أصبح المشركون اجتازوا بالغار فبكى أبو بكر الصديق فقال له
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يُبكيك ؟
فقال : أخاف أنْ تُقْتَلَ فلا يُعْبد اللَّه بَعْدَ اليوم.
فقال له رسول اللَّه : (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) أي إِنَّ الله تعالى يمنعُهُم مِنا وَيَنْصُرُنَا ،

(2/448)


فقال : أهكذا يا رسول اللَّه : قال نَعمْ فرقأ دمعُ أبو بكر وسكن.
وقال المشركون حين اجتازوا بالغار : لو كان فيه أحَد لم تكُنْ ببابه هذه الثمامة.
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا).
أيده بملائكة يَصْرِفون وجوهَ الكُفَار وأبْصَارَهُمْ عن أنْ يَرَوْه.
وقوله : (سَكِينَتهُ عَلَيْهِ).
يجوز أن تكون الهاءَ التي في عليه لأبي بكر ، وجائز أن تكون ترجع
على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن اللَّه جل ثناؤُه ألقى في قلبه ما سَكَن بِه وعلم أنهمْ غيرُ وَاصِلين إليه.
فأعلم الله أنهم إنْ تَركوا نصْرَه ، نَصَرَه كما نصره في هذه الحال.
وَثَانِيَ اثنين مَنصُوبٌ على الحال.
المعنى فقد نَصَرَهُ الله أحدَ اثنين.
أي نصرَهُ منفرداً إلا مِنْ أبِي بكر - رضي الله عنه -.
* * *
وقال جلَّ وعزَّ : (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
فقيل (خِفَافًا وَثِقَالًا) أي مُوسِرين ومُعْسِرين.
وقيل (خِفَافًا وَثِقَالًا) خفَتْ عليكم الحركة أوْ ثقلت ، وقيل ركباناً ومُشاة ، وقيل أيضاً شباباً وشيوخاً.
وُيروَى أن ابنَ أمِّ مَكْتُومٍ جاءَ إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أعَليَّ أن أنفر ، فقال نَعَم ، حتى أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ).
* * *
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
العرَضُ كل ما عرض لك من منافع الدنيا ، فالمعنى : لو كانت غنيمة
قريبة ، أي لو كان ما دُعُوا إِليه غُنْماً ، وسفراً قاصِداً أي سَهْلاً قريباً لاتبعوك
لَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ .

(2/449)


أي بعدت عليهم الغاية التي تقصدها . وكان هذا حين دُعُوا إلى غزوَةِ
تبوك ، فَثَقلَ عَلَيهِمُ الخروجُ . إلى نواحي الشام.
* * *
وقوله : (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
أي حتى يَتبين لك من يُنَافِق مِمن يصُحِّح . ثم أعلمه جل وعلا أن
عَلامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان في التخففِ عن الجهاد فقال :
(لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
موضع " أن " نَصْبٌ.
المعنى لا يستأذنك هُؤلاءِ في أن يجاهدوا ، ولكن " في " حُذِفتْ فأفضى الفعلُ فنَصَبَ " أن ".
قال سيبويه ، ويجوز أن يكونَ موضعها جَرا ، لأن حَذْفها هَهُنا إِنما جاز مع ظهور " أن " فلو أظهرت المصدَر لم تحذف في " لا يستاذنك القوم الجهادَ " حتى تقول في الجهاد
ويجوز لا يستأذنك القوم أن يجاهدوا.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
وأعْلَمَ اللَّهُ جل ثنَاؤهُ أنَّ مَنِ ارْتَابَ وشكَّ في اللَّهِ وفي البَعْثِ فهو كافر.
* * *
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
أي فَتَرْكَهُمْ العدة دليل على إِرَادَتهم التَخفَف.
(وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ).
والتَثْبِيط ردُّكَ الِإنسانَ عَنِ الشيءِ يفعله ، أي كره الله أن يخرجوا معكم
فردهم عن الخروج.
ثم أعلم عزَّ وجلَّ : (لم كره ذلك فقال :
(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

(2/450)


والخبال الفساد ، وذهاب الشيء.
قَال الشاعر :
أبني لُبيْني لَستُمَا بِيَدِ . . . إلا يداً مخبولة العَضُد
أي فاسدة العَضُدِ.
(وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ).
يقال أوْضعتُ في السير إذا أسرعت ، ولأسرعوا فيما يخل بكم.
(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ).
أي فيكم من يسمع ويؤدي إليهمِ ما يريدونَ.
وجائز أن يكون (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) من يقبل مِنهُمْ.
وفي المصحف مكتوب " ولأوضَعوا) ولا أوضعوا ، ومثله في القرآن :
(أَوْ لا أذْبَحنَّهُ " بزيادة ألف أيضاً ، وهذا إِنما حَقُّه على اللفظ وَلأوْضَعُوا.
ولكن الفتحة كانت تكتبُ قبل العرَبى ألفاً . والكتاب أبتدئ به في
العربي بقرب نزولِ القرآنِ فوقع فيه زيادات في أمكنة واتباع الشيء بنقص عن الحروف . فكتبت " ولا أوضعوا " بلام وألف ، بدلاً من الفتحة ، وبهمزة.
فهذا مجاز ما وقع من هذا النحو في الكتاب.
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
أي لا تؤثمني بأمرك إِياي بالخروج ، وذلك غير متيسر لي فآثم.
وقيل إِن المنافقين هزئوا بالمسلمين في غزوة تبوك ، فقالوا أتريدون بنات

(2/451)


الأصْفَر : فقال : (لَا تَفْتِنِّي) أي (لَا تَفْتِنِّي) ببنات الأصفر.
فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنهم قد سقطوا في الفتنة أي سقطوا في الإثم.
* * *
(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
أي قد علمنا بالحزم في التخلف عنك . فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن
المسلمين لَنْ يُصيبهم إِلا ما كتب الله لهمْ فقال جلَّ وعزَّ : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
أي ما قدَّر علينا كما قال : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا).
ثم أكدَ ذلك فقال : (إِنَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وفيه وجه آحْر إنَّه (لَنْ يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا) ما بيَّن لنا في كتابه.
من أنا نَظْفَر ، فتكون تلك حسنى لنا أو نُقْتَل فتكون الشهادة حسْنَى لنا أيضاً ، أي فقد كتب اللَّه لنا ما يصيبنا أو عَلِمْنَا ما لنا فيه حظ ، ثم بيَّنَ جل ثناؤُه فقال تعالى :
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
إلا الظفَر أو الشهادة.
(وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا).
فأنتم تربصونَ بنا إِحدى الحسنيَيْن ، ونحن نَتَربصُ بكم إحدى الشَّرَّتَيْن.
فبين ما تنتظرونه وننتظره فرق عظيم .

(2/452)


وقوله جلَّ وعزَّ : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
وإن شئت كُرْهاً بالضم ، هذا لفظ أمْرٍ ومعناه معنى الشرط والجزاء.
والمعنى أنفقوا طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ.
ومثل هذا من الشعر قول كثير :
أَسِيئي بنا أَو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ . . . لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
فلمْ يأمرها بالإساءَة ، ولكن أعلَمَها أنها إِن أساءَت أو أحسَنَتْ فهو على
عهدهَا.
فإِن قال قائل كيف كان الخبر في معنى الأمر ؟
قلنا هو ، كقولك : غفر اللَّه لزيدٍ ، ورحم اللَّه زيداً.
فمعناه : اللهم ارحم زيداً.
* * *
(وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
مَوْضِع " أن " الأولى نَصْبٌ ، وموضِع " أنِ " الثانية رفع.
المعنى ما منعهم من قبول نفقاتهم إلَّا كفْرهم.
ويجوز " أن يُقبَلَ مِنْهُم نَفَقَاتهُمْ " لأن النفقَات في
معنى الإِنفاق ، . . ، ويجوز : وما منعهم من أن يَقْبلَ مِنهمْ نَفَقَاتِهمْ إلا أنهمْ
كَفَروا ، وهذا لا يجوز أن يقرأ به لأنه لم يروَ في القراءَة.
وقوله : (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى).
وكَسَالى - بالضم والفتْحِ - جمع كسلان ، وكقولكَ سكران وسُكارى
وسَكارى . ويجوز ولا يَأتونَ الصلاَةَ إِلا وهم كَسْلى.
ولا يجوز ذلك في القرآن.
(وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ).

(2/453)


القراءَة على فتح الكاف (1) ، ويجوز الكسر إلا وهم كارِهونَ ، ولم يرْوَ
في القرآن (1).
* * *
وقوله : (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
معناه - واللَّه أعلم - فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الدنيا ، إنما
يريد اللَّه ليعذبهم بها في الآخرة.
ويجوز واللَّه أعلم : إنما يريد اللَّه ليعذبهم بها في الدنيا أي هم ينفقونها
في الدنيا ، وهم منافقون فهم متعذبون بإنْفَاقها إذ كانوا ينفقونها على كرهٍ.
وقوله : (وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وهُمْ كَافِرُونَ).
معناه ، وتخرج أنْفُسهم أي يغْلُظ عليهم المكروه حتى تزهق أنفُسُهم.
* * *
(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
أي يحلفون باللَّهِ أنهم مؤمنون كما أنتم مؤمِنونَ ، وما هُمْ مِنْكُمْ لأنهم
يظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ).
أي يفرقون أن يُظْهِرُوا ما هم عليه فيقتلُوا ، ثم أعلم جلَّ وعزَّ أنهم لو
وجدوا مخْلَصاً فيه لفارقوكم ، فقال جلَّ وعزَّ :
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
والملجأ واللَّجَأ ، مقصورٌ ومهموزٌ ، وهو المكان الًذِي يُتَحَصَّنُ فيه.
ومَغَارَات جمع مَغَارة ، وهو الموضع يغور فيه الِإنسان ، أي يستتر فيه.
ويقرأ : (أو مُغاراتٌ) بضم الميم لأنه يقال أغْرَتُ وَغُرْتُ ، إِذا دخلت الغَوْر.
__________
(1) بدون إمالة ، والمراد بالكسر الِإمالة.
(2) في القراءة بهذه الإمالة .

(2/454)


وقوله : (أَوْ مُدَّخَلًا).
ويقرأ أو مُدْخَلاً بالتخفيف ، ويقرأ أو مَدْخلاً.
فأما (مُدَّخَل) فأصله مُدْتخل ، ولكن التاء والدال من مكان واحد فكان
الكلام من وجه واحدٍ أخف ، ومن قال مَدْخَلاً فهو من دَخَلَ يَدْخُل مدْخلًا.
ومن قال مُدْخَلاً فهو من أدْخَلْتُه مُدْخَلاً.
قال الشاعر :
الحمدُ لله مُمْسَانا ومُصْبَحُنا . . . بالخَيْرْ صبحَناربِّي وَمَسَّانَا
ومَعْنَى مُدَّخَل ومُدْخل أنهم لو وجدوا قوماً يدْخُلون في جُمْلَتِهِمْ أو
يُدْخلونَهُمْ في جُمْلَتِهِمْ : (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).
المعنى لوْ وَجَدوا هذه الأشياءَ (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).
أي يسرعون إِسراعاً لا يَرُد وجُوهَهَمْ شَيء.
ومن هذا قيل : فرس جمُوحٌ للذي إِذا حمَل لم يَرُدَّهُ اللجام.
* * *
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
وتقرأ يَلْمُزُونَكَ : يُقالُ لَمَزْتُ الرجُلَ ألْمِزُهُ بكسر الميم ، وألْمُزُه بِضَم
الميم إِذَ عِبْتُهُ ، وكذلك هَمزْتُه أهمزُه إِذا عِبْتُه.
قال الشاعر :
إِذا لَقِيتُك تبدي لي مُكاشرةً . . . وإِن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامِزَ اللُّمَزَهْ

(2/455)


واللمزة الكثير العيْب للناس ، وقال بعضهم : اللُّمَزَة العَيِب . بكسر
العَيْنِ أي بكسْرِ عيْيهِ عيِب كنهِم ، إِذَا عاب . يراد به عيْب صاحِبِه
وقالوا : اللُّمْزَةُ الْعيبُ بالمسارَّة . وهذا كله يرجع إلى العَيب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
وهم قوم كانوا يُعْطَوْنَ : يُتألَّفُون عَلى أن يُسْلِمُوا.
وهذا غير مُسْتَعْمل اليَوْمَ لظهور الِإسلام.
(وفِي الرقَابِ).
كأنْ يُعَاوِنَ المكَاتبَ حتَى يفكً رقبتَه :
(وَالْغَارِمِينَ).
وهم الذين لزمهم الذَين في الحمَالَةِ ، والحمالةُ ، الِإعْطاءُ في الذِّمَّة
ويجوز أن يكون الغارم الَّذِي لزمَه الذَيْنُ في غيْرِ مَعْصِيَةٍ ، فالأولى أن يكون
الدين الذِي يقضى عَنْهُ في غير مَعْصِيَةٍ ، لأنَّ ذَا المعْصِيَةِ إِن أُدِّيَ عنه الدَّيْن
كان ذلك تَقوية عَلَى المَعَاصي.
(وَفِي سَبيلِ اللَّهِ).
أي وللمجاهدين حَقٌ في الصدَقَةِ.
(وابْنِ السبِيلِ) ابنُ الطَريقِ.
وتأويله الذى قُطعَ عليه الطريق.
(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)

(2/456)


مَنْصُوبٌ على التَوْكِيدِ ، لأن قوله : إِنَّما الصَّدَقَاتُ لهؤُلاءِ كقولك فَرَضَ
اللَّه الصدقَاتِ لهُؤلاءِ.
وقد بينَّا في أول الأنفالِ ما قيل في جميع الأموال ، واسْتَقْصَيْنَاهُ.
ويجوز فرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ على ذلك ولا أعلمه قرئ به.
* * *
وقوله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
وتفسير الآية أن مِنَ المنَافِقينَ مَنْ كانَ يَعيبُ النبى - صلى الله عليه وسلم - وَيقُولُ : إِنْ بَلغَه عَنَي حَلَفْتُ له وَقَبِل مِنِّي لأنَّهُ أذُنٌ.
فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنهُ (أذُنُ خَيْرٍ لكُمْ).
أي مُسْتَمِعُ خَيْرِ لَكُمْ ، ثم بَين مِمَنَ يَقْبَلُ فقال :
(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).
أي هو أُذُن خَيْرٍ لا أُذُنُ شَر ، يَسْمَعُ ما ينزله الله عليه ، فيصَدِّق به.
ويُصدق المؤمنين فيما يُخْبِرُونَه بِه.
(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ).
أي هو رحمةٌ ، لأنه كان سَبَبَ المؤمنين في إِيمَانِهِمْ.
وَمَن قرأ أذنٌ خَيرٌ لَكُمْ ، فالمعنى فإن من يَسْمَعُ منكم ويكون قريباً منكم قابلًا للعُذْرِ خيرٌ لكم.
ويروى في هذه الآية أن رَجُلًا مِنَ المُنَافِقِينَ قال : لو كان ما أتى به
محمد حقا فنَحن حَمِير ، فقال له ابن امرأته إِنَّ مَا أتَى بِه لحق ، وإِنَّكَ لَشَر من
دَابتِكَ هَذِهِ وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعض من حَضَرهُ نَعْتذِر إِليه ونحلف له فإِنه أُذُن .

(2/457)


وقوله : (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
قال بَعْضُ النحويينَ : إِن هذه اللامَ بِمعنَى القَسَم ، أيْ يَحْلِفُون بالله
لكم لَيُرْضُنَّكُمْ وهذا خطأٌ لأنهم إِنَّمَا حَلَفُوا أنَّهُمْ مَا قالُوا ما حُكِي عنهُمْ
ليُرْضُوكُمْ باليمين ، ولم يَحْلِفُوا أنَّهُمْ يُرضُون فيما يستقبل.
(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ).
وقوله : (إنْ كانوا مُومِنِين).
أي إِن كانوا على ما يُظْهرُون فكان ينبغي ألا يَعِيبُوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكونون بتوليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتَرْكِ عَيْبِه مؤمنين.
ويجوز في قَوْله (وَرَحْمةٌ) الجر على العطف عَلَى (خَيْر). فيكون المعنى
قل أُذُن خير لكم وأذُنُ رَحْمَةِ للمؤْمنين.
وقوله : (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، ولم يَقُل يُرْضوهُمَا ، لأن المعْنَى يَدُلُ عليه
فحذف استخفافاً ، المعنى واللَّه أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ، وَرَسُوله أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ، كما قال الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما . . . عندك راضٍ والأمرَ مختلفُ
المعنى نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك رَاضٍ.
* * *
وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
معناه من يعادي اللَّه ورَسوله ، ومن يشاقِق الله ورَسُولَه.
واشتقَاقُه من اللغَة كقولك من يجانب الله ورَسُوله ، أي من يكونُ في
حَدٍّ ، واللَّه ورسوله في حَدٍّ .

(2/458)


(فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ).
والقراءَةُ بالفتح والكسر : " فَأَنَّ لَهُ " ، فمن كسر فعلى الاستئناف بعد
الفاءِ ، كما تقول فله نار جهنم ، ودَخَلت إِنْ مؤكدَة ، وَمَنْ قَال : فَأَنَّ لَهُ ، فإِنما أعاد " فَانَ " توكيداً ، لأنه لما طال الكلام كان إِعَادَتُها أوكَدُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
لفظ يَحَذرُ لفظ الخبر ، ومعناه الأمرُ ، لأنهُ لَا لَبْسَ في الكلام في أنه
أمر ، فهو كقولك ليْحذَر المنافقونَ ، وعلى هذا يجوز في كل ما يؤمَرُ به أن
تقول يُفْعَلُ ذَلكَ ، فَيَنُوبُ عن قَولك ليفُعلْ ذلكَ.
ويجوز أن يكون خبراً عَنْهُم لأنهم كانوا يكفرون عناداً وَحَسَداً.
وَدَليل هذا القول : (قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ).
* * *
وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
وذلك أنهُمْ قالوا : إِنما كنا نخوض كما يَخُوضُ الركْبُ.
* * *
وقوله : (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
تأويله إنَّه قد ظهر كفركم بَعدَ إِظهاركُم الِإيمان.
(إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً).
والقراءَةُ (إِنْ نَعْفُ) وَ (إِنْ يُعْفَ ، وإِنْ يَعْفُ) جيدَةٌ ، ولا أعلم أحداً من
المشهورين قرأ بها.
ويروى أن هاتين الطائفتين إِنما كانوا ثلاثة نَفَر فَهَزِئ اثْنَان وضَحِكَ
وَاحِدٌ ، فجُعِل طائفة للواحد.
وكذلك قالوا في قوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
يَرادُ بهِ نَفْسٌ طائفَة .

(2/459)


والطائفة في اللغَةِ أصْلها الجماعةُ ، لأَنها المقدار الذِي يطيف بالشىءِ.
وقد يجوز أن يقال للواحد طائفة يراد بها نفس طائِفة يراد به نفس طائفَة.
* * *
وقوله : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
هذا يتلو قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمنْكُمْ).
أي ليس المنافقون من المؤْمنين ، لأن المنافقين ، (يَأْمُرُونَ بِالمنكَرِ)
أي يأمرون بالكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وًينْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ).
أي ينهون عن الِإيمان به.
(وًيقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ).
أي لا يتصدَّقون ولا يُزَكُّونَ.
(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ).
أي تركوا أمر اللَّه فتركهم اللَّهُ من رحمته وتوفيقه.
* * *
وقوله : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
(هِيَ حَسْبُهُمْ).
أي كفايةُ ذُنُوبِهِمْ كما تقول : عذبتك حسب فعْلِكَ ، وحَسْبُ فُلان ما نَزَل به ، أي ذَلكَ عَلى قَدرْ فعله.
* * *
وقوله : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
موضع الكاف نصب ، أي وعدهم اللَّه على الكفر به كما وعد الذين من
قبلهم.
وقوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِم) قيل فاستمتعوا بحِظهم منَ الدنيا وقيل
فاستمتعوا بدينهم.
والخلاق النصيب الذي هو عند صاحبه وافرُ الحظ.
* * *
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

(2/460)


ألم يأتهم خبر الذين هلكوا في الدنيا بذنوبهم فيتعظوا.
و (المُوتَفِكَاتِ).
جمع مْؤتفكة ، ائتفكت بهم الأرض ، أيانقلبت ، يقال إِنهم قوم لوط.
ويقال إِنهم جميعُ مَنْ أُهْلِكَ ، كما تقول للهالك انقلبت عليه الدنيا.
(فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظلِمُونَ).
أعلمَ اللَّهُ جلَّ ثناؤه أن تعذيبه إِياهم باستحقاقهم ، وأن ذلك عدل
* * *
وقوله : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
(وَرِضْوانُ).
وتقرأ ورُضْوان ورِضوان ، وهما جميعاً عن عاصم.
ومعنى (وَرِضْوَانٌ من اللَّهِ أكبرُ) ، أي أكبر مما هم فيه من النعيم.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
أمر بجهادهم ، والمعنى جاهدهم بالقتل والحجة ، فالحجة على
المنافقين جهاد لهم.
* * *
وقوله : (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
(وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا).
قيل إِنهم كانوا هَمُّوا بقتل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنهم كانوا اثني عَشَر رجُلاً عزموا على أن يقفوا له بعقبة على طريقه ، ويغتالوه ، فأعلمه الله ذلك.
فلما بلغ إِليهم أمرَ مَنْ نحاهم عن طريقه ، وسماهم رَجُلاً رجُلاً.
فهذه من أعظم آياته ، لأن الأمر إِنما عُلِمَ في قصتِهم بالوحي.
(وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).

(2/461)


وإِنما قيل أغناهم اللَّه ورسوله ، لأن أموَالهم كثرت من الغنائم ، فكان
سبب ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
معناه مؤلِماً.
وإِنما قال في الدنيا لأنهُم أمِرَ بقَتلِهِم.
وَيجُوز : (وما نَقِمُوا).
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
الأصل : لنتصَدقن ، ولكن التاءَ أدْغِمَتْ في الصاد لقربها منها.
* * *
وقوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
يجوز أن يكون " فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ".
قال : (فأعقبهم نفاقاً) أَي أضلهم الله بفعلهم.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
يَلْمِزُون ، ويلْمُزون - بكسر الميم وضمها - ومعناه يَعيبونَ وكانوا عابُوا
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فىِ صدقات أَتوا بها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
يروى أَن عبد الرحمن أتَى بصُرةٍ تملأ الكف ، وأن رجُلًا كان يقال له
أبو عقيل ، أَتَى بصَاعٍ من تَمْر ، فعابوه بذلك وقالوا : إِن محمداً غَنِيٌّ عن صاعِ هذا وإِنما أَتَى بهذا ليُذَكِرَ بنفسِهِ.
فهو معنى (والذينَ لا يجدون إِلا جُهْدَهم) " جَهْدَهُمْ " ، بالفتح والضم.
(فَيَسْخرُونَ مِنَهُمْ).

(2/462)


(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ).
والسِخْرِيَّ من الله المجازاة على فعلهم وقد بيَّنَّا ذلك.
* * *
وقوله جلَّ وعزْ : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
فيروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أستَغْفرُ لهم أكثَرَ مِنْ سَبعين مرة فنزلت (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ).
* * *
وقوله : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
بمعنى مخالَفة رسول اللَّه.
وهو منصوب لأنه مفعول له ، المعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول اللَّه.
ويقرأ خَلْفَ رسول اللَّه ، ويكون ههنا أنهم تأخَّروا عن الجِهاد في سبيل اللَّه.
(وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا).
وهذا وعيد في ترك الجهاد.
ويجوز لا تنفُروا بضم الفاءِ.
* * *
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
(جزاءً) مفعول له ، المعنى : وليبكوا جزاءً لهذا الفعل.
* * *
وقوله : (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
يروى أنَّها نزلت في عبد الله بن أبي ، وكَانَ رأسَ المنَافِقينَ فلما حضرته
الوفاة بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله أحَدَ ثَوْبيْه ليُكفَنَ به ، فبعث إِليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بأحدهما ، فأرسل المنافق إِلى رَسول الله أريد الذي كان يلي جلدك من ثِيَابِك ، فوجه إِليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
فقيل له فيه : لم وجَّهت إِليه بقميصك يكفن فيه وهو كافر ؟
فقال : إِن قميصي لن يغني عنه شيئاً من اللَّه ، وإِني أؤمل
من اللَّهِ أن يَدْخُلَ في الِإسلام خلق كثير بهذا السبب ، فيروى أنه أسلم من
الخزرج ألفٌ لما راوه يطلب الاستشفاءَ بثوب رسول اللَّه.
وأراد الصلاةَ عَليْه.

(2/463)


فنزل الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ).
ويروى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى عليه
وَإِنَّما مجاز الصلاة عليه أنه كان ظاهره ظاهر الإِسلام ، فأعلمه الله جلَّ وعزَّ أَنه إِذا عَلمَ منه النفاق فلا صلاة عليه
(وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ).
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له.
* * *
وقوله : (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
المعَذِّرُونَ - بتشديد الذال - وتُقْرأ المُعْذِرُونَ ، فمن قرأ : المُعْذِرُونَ.
فتأويله الذين أعذَرُوا أي : جاءُوا بِعُذْرٍ ، ومنْ قرأ : الْمُعَذِّرُونَ بتشديد الذال
فتأويله المعْتَذِرُونَ ، إِلا أن التَاءَ أدْغِمَتْ في الذال لقرب مخرجهما.
ومعنى المعْتَذِرينَ الذين يعتذرون ، كان لهم عذرٌ أو لم يكن لهم.
وهو ههنا أشبه بأن يكون لهم عذر.
وأنشدوا :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما . . . ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
المعنى فقد جَاءَ بعذر ، ويجوز المعِذِّرون - بكسر العين - لأن الأصل
المعتذرون ، فأسكنت التاءُ وأدْغمت في - الذال ونقلت حركتها إِلى العَيْن فصار الفتح أولى الأشياءِ ، ومن كسر العين حرك لالتقاءِ السَّاكنين ، ويجوز
المُعُذُرون ، باتباع : الضَمةَ التي قبلَها وهذان الوجهان - كسر العين وضمها - لم يُقْرَأ بِهِما ، وإِنما يجوز في النحو ، وهما جهتان يثقل اللفظ بهما ، فالقراءَة بهما مطروحة.
ويجوز أن يكون المُعذرُونَ : الذين : يعَذَرون ، يُوهمون أنَّ لهم
عذار ولا عُذْرَ لهم.
وقوله : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ) .

(2/464)


قيل (أولو الطول) هم أولو الغِنى ، وقيل أولو الفَضْلِ في المعنى والرأي
والجاه.
والطَوْل الفضل في القدرة على هذه الأشياءِ.
وقوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
الخوالف : - النساءَ ، وقد يجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال.
والخالف الذي هو غير مُنْجِب . ولم يأت في فاعل فواعل إلا في حرفين.
فارس وفوارس ، وهالك ، وهوالك.
* * *
وقوله : (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
هؤُلاءِ أعراب كانوا حول المدينة ، فكفرهم أشدُّ لأنهم أقسى وأجفى من
أهل المدَرِ ، وهم أيضاً أبعد من سماع التنريل وإِنذار الرسول.
وقوله : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ).
" أن " في موضع نَصْبٍ ، لأن الباءَ محذوفة من أن.
المعنى أَجْدَرُ بترك العلم ، تقول : أنت جدير أن تفعل كذا ، وبأن تفعل كذا ، كما تقول أنت خليق أن تفعل ، أي هذا الفعل ميسَّر فيك.
فإِذا حُذِفَتْ الباءُ ، لم يصلح إِلا بأن.
وإِن أتيت بالباءِ صلح بأن وغيره ، تقول أنت جدير أن تقوم وجدير بالقيام ، فإِذا قلت ، أنت جدير القيامَ ، كان خطأً ، وإِنما صلح مع أن لأن أن تدل على الاستقبال ، فكأنَّها عوض - من المحذوف.
* * *
وقوله : (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ).
أي الموت والقتل.
* * *
وقوله : (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
(قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ).
فيها ثلاثة أوجه قُرُبَاتٍ بضم الراءِ ، وقُرْبَاتٍ بإسكانها وقُرَبَاتٍ بفتح الراءَ .

(2/465)


(وَصَلَوَاتِ الرسُولِ).
وكذلك : (وَصلِّ عَلَيْهمْ) . معناه دعاء الرسول.
قَالَ الأعشى :
تقول بِنْتِي وقد قربت مُرْتَحَلا . . . يا ربِّ جَنِب أبي الأوْصَابَ والوَجَعَا
عَليكِ مثلُ الذي صليت فاغتمضي . . . عيناً فإِن لجنبِ الأرضِ مُضطجعا
إِن شئت قلت عليك مثلُ الذي ، ومثلَ الذي ، فمن قال :
" عليك مثلَ الذي صلَّيتِ " ققد أمرها بالدعاءِ ، كأنَّه قال ادعي مِثْلَ الذي
دعوت ، ومن قال مثلُ فالمعنى عليك مثل هذا الدعاءِ.
أي ثبت عليك مثل هذا.
* * *
وقوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
ويجوز والأنصارُ ، فمن قال : " والأنصْارِ " نَسَقَ عَلَى المُهَاجِرين.
المعنى : والسابقون الأولون من المهاجرين ومن الأنصار ، ومن قال :
والأنصارُ نسق به على " والسَّابِقون " كأنه قال : " والسابقون والأنصارُ ".
وقوله : (والَّذِينَ اتَبَعُوهُمْ بِإحْسَانٍ).
أي من اتبعهم إلى يَوْم القيامة.
(رضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ وَرَضُوا عَنَهُ).
تأويله : - واللَّه أعلم - أن اللَّه رَضِيَ أفعَالَهم ، وأنهم رضوا ما جازاهم
اللَّه به.
* * *
وقوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)

(2/466)


مقدَّم ومؤَخر ، (مَرَدُوا) متصل بقوله منافقون.
(سَنُعَذِبُهُمْ مَرتَينِ).
أي سنعذبهم بالإنفاق وبالفعل ، وقيل بالقَتْل وعذابِ القَبْر.
(ثمَ يُرَدونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ).
أي يُعذبون في الآخرة.
* * *
وقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
يصلح أن تكون تطهرهم بها نعْتاً للصدقة ، كأنه قال : خذ من أموالهم
صدقة مطهرة ، والأجْودُ أن يكونَ تطهرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم.
المعنى خذ من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بها ، ويجوز " تطهرْهُمْ "
بالجزم على جواب الأمْر . المعنى إِن تأخذ من أموالهم تطهرهم وتزَكهمْ.
ولا يجوز في القراءَة إلا بإثبات الياءِ في تزكيهم ، اتباعاً للمصحف.
(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
أي ادع لهم.
و (سَكَنٌ) أي : يسكنون بها.
* * *
وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
تأويله ويقْبَلُ الصَّدَقَاتِ ، وكذلك ما يروى " إن الصدَقَةَ تقع في يد اللَّه
جلَّ وعزَّ تأويله أن الصَّدَقَةَ يتقبلُها الله جل ثناؤه ويضاعف عليها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّْ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
(وَآخَرُونَ مُرْجَأُوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ)
معنى (مُرْجَأُوْنَ) مؤخرون.
يقال أرجأتُ الأمْر ، إذا أخَّرْته.
ويقرأ (مُرْجَوْنَ) على أرْجَيْتُ.
و (آخرون) عطف على قوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ).
المعنى : من أهل المدينة منافقون ومنهم آخرون مُرْجَوْنَ .

(2/467)


ويقال إنهم الثلاثة الذين خُلِّفُوا
(إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).
(إِمَّا) لوقوع أحد الشيئين ، واللَّهُ عزَّ وجلَّ عالم بما يصير إليه أمرهم ، إلا
أنْ هذا للعباد ، خوطبوا بما يعْلَمُون ، فالمعنى لكنْ أمرهم عندكم علي هذا في الخوف والرجَاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
" الذين " في وضع رَفع ، المعنى ومنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا.
انتصب (ضِرَارًا) مفعولًا له.
المعنى اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد.
فلما حُذِفتِ اللام أفضى الفعلُ فنصبَ ، ويجوز أن يكون مصدراً
محمولًا على المعنى ؛ لأن اتخاذهم المسجدَ على غير التقوى معناه ضارُّوا به
ضِرَارًا.
وتفسير الآية أن قوماً من منافقي الأتصار أرادوا أن يفرقوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من يصلي معه من المؤمنين فاتخذوا مَسْجِداً يقطعون به المؤمنين والنبي - صلى الله عليه وسلم - عن مَسْجِد قُباءَ.
(وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ).
كان رجل يقالُ له : أبوعمرو الراهب حَارَب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومضى إِلى هِرَقْل ، وكان أحَدَ المنافقين ، فقالوا نبني هذا المسجد وننتظر أبا عَامِرٍ حتَى يجيءَ ، فيصلي فيه ، فالإِرصاد ، الانتظار .

(2/468)


واتخذوا هذا المسجدَ مُضارة وكفْراً ، لأن عِنَادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وأطلَعَ اللَّهُ نبيه - صلى الله عليه وسلم - على طَويتهمْ ، وعلى أنهم سيحلفون كاذبين ، فقال جلَّ وعزَّ :
(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وكانوا دعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصَلِّيَ فيه فأنزل اللَّه جل ثناؤه : (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
ْثم بين الله عزَّ وجلَّ : أي المسجدين أحق بالقيام فيه فقال :
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).
يعني به مسجد قُبَاءَ.
(أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ).
" وَأنْ " في موضع نصبٍ ، المعنى : لمسجد أسس على التقوى أحقُّ بأن
نقوم فيه.
(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا).
يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بباب المسجد فقال :
(إِن اللهَ أحسن عليكم الثناءَ في طَهوركم فبِمَ تَطَهرون ؟
فقالوا نغسل إثر الغائط بالماء.
وهُؤلاء قومٌ من الأنصار.
* * *
وقوله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
ويجوز " أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ " ، ويجوز " أَفَمَنْ أَساسُ بُنْيَانِهُ "
ويجوز " أَفَمَنْ أُسُسُ بُنْيَانِهُ ".
فأمَّا (أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) ، و (أُسِّسَ بُنْيَانُهُ) ، فقراءَتان جَيدَتان ، والذي ذُكِرَ غير
هاتين جائزُ في العربية ، غير جائز في القراءَة ، إِلا أن تثبتَ به رواية.
المعنى أن من أسس بنيانه على التقوى خير ممن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على الكفر
فقال : (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ).

(2/469)


وشفا الشيء حَرْفُه وحدُّه ، والشفا مقصور يكتب الألف ويثنى شفوين.
ومعنى (هَارٍ) هَائِر وهذا من المقلوب ، كما قالوا في لاث الشيءُ إذا دار فهوَ لاثٍ والأصل لَائث وكما قالوا شاك السلاح وشائك.
قال الشاعِر :
فَتَعَرَّفوني إنَّني أنا ذاكُمُ . . . شاكٍ سِلاحِي في الحوادِثِ مُعلِمُ
وكما قال العجاج :
لَاثٍ به الأشاءُ والعُبْريُّ
الأشَاءُ النخل ، والعُبْريُّ السدْرُ الذي على شاطئ الأنهار ومعنى لاثٍ
به مطيف به.
(فانْهارَ بِه في نَارِ جَهَنَّمَ).
وهذا مثل ، المعنى أن بناءَ هذا المسجد الذي بني ضراراً وكفْراً كبناء
على جَرْف جهنم يتهور بأهله فيها.
* * *
وقوله : (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
قال بعضهم لا يزال كفراً ، وقال بعضهم لا يزال شكاً.
والريبة من الريب ، والريْبُ الشَّكُّ.
فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعز أن بناءَهم لا يزالون شاكين فيه ، وجائز أن يكون اللَّه
جل ثناؤه جعل عقوبتهم أنْ ألْزَمَهمْ الضلال بركوبهم هذا الأمر الغليظ.
(إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ).

(2/470)


ويجوز : " إلا أنْ يَقْطِعَ قُلُوبَهم " معناه إلا أنْ يَمُوتوا.
وقال بعضهم : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوُبهم ندماً وأسَفاً على تفريطهم.
* * *
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
يروى : أنه تاجرهم فأغلى لهم الثمن.
وهذا كما قال : (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلَالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبحَتْ
تِجَارَتُهُمْ).
(يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا).
بالمعنى لأن معنى قوله : (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، وعدهم الجنة وعْداً عليه
حَقًّا.
ولو كانت في غير القرآن جاز الرفع على معنى ذلك وعد عليه حق.
وقوله : (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ).
يَدُل أن أهل كُل مِلَّةٍ أمِروا بالقتال وأوعدوا عليه الجنة.
* * *
وقوله : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
يصلح أن يكون رفعه على وجوهٍ :
أحدها المدح كأنه قال هُؤلاءِ التائبون ، أو هم التائبون.
ويجوز أن يكون على البدل.
المعنى يقاتل التائبون ، وهذا مذهبُ أهْلِ اللغة.
قال . أبو إسحاق : والذي عندي واللَّه أعلم أن قوله : التائبون العابدونَ
رفع بالابتداءِ ، وخبرُه مُضمر ، المعنى التائبون العابدون إلى آخر الآية لهم
الجنة أيضاً ، أي من لم يجاهِد غيرَ معانِدٍ ولا قَاصِد لتَرْك الجهادِ ، لأن بعض

(2/471)


المسلمين يجزى عن بعض في الجهاد . فمن كانت هذه صفته فَلَهُ الجنة
أيضاً.
التائبون الذين تابوا من الكفْرِ ، والعابدون : الذين عبدوا اللَّه وحدَه.
والراكعون الساجدُونَ الذين أدُّوا ما افترض الله عليهم في الركوع والسُّجُودِ.
(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ).
الآمِرُونَ بالإيمانِ باللَّهِ.
(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الكفر باللَّه.
ويجوز الْآمِرُونَ بجميع المعروف ، الناهون عن جميع المنكر.
(والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ).
القائمون بما أمر اللَّه به.
وقوله : (السَّائِحُونَ).
في قول أهل اللغة والتفسير جميعاً : الصائمونَ.
ومَذْهَبُ الحسن أنهم الذين يصومون الفرض.
وقد قيل : إِنهم الذين يديمون الصيام.
وقول الحسن في هذا أبْيَن.
وكذلك (الراكعون الساجِدُون) عند الحسن هم الذين يُؤدُّونَ ما افترِضَ
عليهم في ركوعهم وسجودهم.
* * *
وقوله : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على عَمِّه أبي طالب الِإسْلاَمَ عند وَفاتِه ، وذكر له وجُوبَ حَقِّه عَليه ، فَأبى أبو طَالب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لأستغفرنَ لك حتى أُنْهَى عن ذلك.
ويروى أنَّه استغفر لأُمِّه ، ويروى إنَّه استغفر لأبيه ، وأنَّ

(2/472)


المؤمنين ذكروا محاسن آبائِهم في الجاهلية وسألوا أن يستغفروا لآبائهم لما
كان من محاسنَ كانت لهم ، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذلك لا يجوز فقال :
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى).
وقوله : (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)
أي من بعد ما تبين لهم أنهم ماتوا كافرين.
ثم أعلم جلَّ وعزَّ كيف كان استغفار إبراهيم لأبيه فقال :
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
فيروى أنه كان وعده أن يستغفر له أيام حياته ، ويروى أن أبا إبراهيبم
كان وعد إبراهيم أن يُسْلم إن استغفر له ، فلما تبين له إِقامته على الكفر تبرَّأ
منه.
وقال اللَّه تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)
إِلى قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ).
أي تأسَّوْا بِإبْرَاهِيمَ فِي هذا القول.
وقوله : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
يروى أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأوَّاه ، فقال : الأوَّاه الدَّعَّاءُ ، والأوَّاه فِي أكثر الروَاية الدَّعَّاء
ويروى أن الأوَّاه الفقيه ، ويروى أن الأوَّاه المؤمن بلغة الحبشة.
ويروى أن الأوَّاه الرحيم الرفيق.
قال أبو عبيدة : (الأوَّاه) المتأوِّه شَفَقاً وفرقاً المتضرع يقيناً ، يريد أن يكون

(2/473)


تضرعه على يقين بالِإجابة ولزوماً للطاعة.
وقد انتظم قولُ أبي عبيدَةَ أكثرَ ما رُوِي في الأوَّاه
وأنشد أبو عبيدة :
إِذا ما قمتُ أَرْحَلُها بليلٍ . . . تأَوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
يروى أنه لما نزل تحريم الخمر ووقعت الحدود قال المسلمون فيمن
مات قبل ذلك ولم يدرك التحريم اسألوا عن حالهم ، فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنه
لا يؤَاخذهم بِمَا حَرم مما لم يحرم عَليْهِم.
وجائز أن يكون : إِذا وفقَ اللَّه للهداية فلا إِضلال بعدَهَا ، لأن من يهد اللَّهُ فلا مُضِلَّ لَه.
* * *
وقوله : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
معناها في وقت العُسرةِ ، لأن السَّاعَةَ تقعُ على كل زمانٍ ، وكان في ذلك
الوقت حر شديد ، وكان القوم في ضيقة شديدة ، وكان الجمل بين جماعة
يَعْتَقِبُونَ عليه ، وكانوا من الشدة والفقْر ربما اقتسم الثمرةَ اثنان وربما مصَّ
الثمرة الجماعة ليشربوا عليها الماءَ ، وربما نَحروُا الِإبل فشربوا من ماءِ
كُرُّوشِهَا من الحر.
فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنَّه قد تاب عليهم من بعد ما كاد يَزيغُ قُلوبَ فريق
منهم ، أي نن بعد ما كادوا يَقْفِلون مِنْ غَزْوَتهِم للشدةِ ، ليس أنَّه يزيغ عن
الِإيمان ، إنما هو أن كادوا يرجعون فتاب الله عليهم بأن أقفَلهم من غَزْوَتهِمْ .

(2/474)


وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
على نسق الكلام يدل على أنهم أمِروا بأن يكونوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشدهَ والرخاءِ.
ويجوز - واللَّهُ أعلم - على هذا قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).
وقد رويت عن بعضهم " مِنَ الصادِقِينَ " والمعنى واحد ، ويجوز أن يكون
ممن يصدق ولا يكذب في قول ولا فعل.
* * *
وقوله : (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
الظمأ العطشُ ، والنصَب : التعَبُ.
(ولا مخمصة) المخمصة : المجاعة ، فأعلم اللَّه أنه يجازيهم على جميع
ذلك ، وأنَّه يكتب لهم عَمَلاً صالحاً.
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
هذا لفظ خبر فيه معنى أمر كما كان (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) والمعنى أنهم كانوا إذا كانت سَريةٌ نفروا فيها بأجمعهم.
فأَعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنَّه ينبغي أن ينفر بعضهم ويبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضٌ لئلا يبقى وحدَه.
ولئلا يخلو من خرج منهم من فائدة منه ، فقال جلَّ وعزَّ :
(فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).
المعنى أنهم إِذَا بَقِيَتْ منهم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقية فسَمِعُوا منه وَحْياً أعْلمُوا الذين نفروا ما علموا فاستوَوْا في العلم ، ولم يخلوا منه.
وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون هذا دليلاً على فرض الجهاد يجزى
الجماعة فيه عن الجماعَة .

(2/475)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
(غِلْظَةً) فيها ثلاث لغات غِلْظَة ، وغُلْظَة ، وغَلْظَةً.
فهذا دليل أنه ينبغي أن يُقَاتِلَ أهل كلِّ ثَغرٍ الذِينَ يَلُونَهُمْ وقيل إن هذا
يعنَى به العرب ، وقيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ ربَّما تخطى في حربه الذين يَلُونه من الأعداءِ ليكون ذلك أهيبَ له فأمر بقتال من يليه لِيسْتَنَّ بذلك.
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
أي اللَّهُ آمر مَنْ نَصَرة بالحِرب.
* * *
وقوله : (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا).
المعنى : وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفُوا ، ويقال إنهم هم المرجَوْن لأمر
الله.
* * *
وقوله : (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
وأضاف الإِيمان إلى السُّورةِ لأنه يزيد بسببها.
* * *
وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
أي شَكٌّ ونفاق.
(فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
أي زادتهم كفْراً إِلى كفرهم ، لأنهم كلما كفروا بسورة ازداد كفرهم.
* * *
وقوله : (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
معناه يُخْتَبَرونَ في كل عام ، وقيل يُختبرون بالدعاءِ إلى الجهاد.
وقيل يختبرون أنه ينزل عليهم العذاب والمكروه.
* * *
وقوله : (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
يقولون ذلك إِيماء لأنهم منافقون لا يظهرون ذلك.
(هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ).

(2/476)


يقولون ذلك اسْتِسْراراً وتَحَذراً من أن يُعلِمَ بِهمُ اللَّه - عزَّ وجلَّ -
وهو أعلم.
(ثُمَّ انْصَرَفُوا).
أي يفعلون ذلك وينصرفون ، فجائز أنْ يكون ينصرفون عن المكان الذي
اسْتَحقُوا فيه ، وجائز أن يكون ينصرفون عن العمل بشيء مما يستمعون.
(صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ).
أي أضلهم الله مُجازَاة على فعلهم.
* * *
وقوله : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
أي هو بَشَر مثلكم . أي فهو أوكد للحجة عليكم
لأنكم تفهمون عمَّن هو مثلكم.
وجائز أن يكون عنى به إنَّه عربي كما أنكم عربٌ ، فأنتم تَخْبُرونَه وقد
وقفتم على مذهبه.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ).
أي عزيز عليه عنتكم ، والعنتُ لقاءُ الشَدةِ.
(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ).
أي حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِكم.
* * *
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
أي الذي يكفيني اللَّه.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
والعظيمُ ههنا جائزان.
* * *
وقوله : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).

(2/477)


دخلت " مِنْ " في الزمان ، والأصل مُنْذُْ ومُذْ ، هذا أكَثر الاستعمال في
الزمان.
و " من " جائز دخولها لأنها الأصل في ابتداءِ الغاية والتبعيض.
ومثل هذا قول زهير :
لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحِجْرِ . . . أَقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دَهْرِ
وقيل إِن معنى هذا مُذْ حِجج ومُذْ شَهْر .

(2/478)


سورة يونس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قولها عزَّ وجلَّ : (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قد بيَّنَّا في أول البقرةِ ما قيل من " الر " وما أشبه ذلك.
وقوله : (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).
أي الآياتِ التي جرى ذِكرُها هِيَ آياتُ الكِتاب الحكيم.
* * *
وقوله : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
يعنى بالناس ههنا أهل مكة ، ويروى أنهم قالوا : العجب أن اللَّهَ لم
يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيمَ أبي طالب ، وجائز - واللَّه أعلم - أنهم
عجبوا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنذرهم وبَشَّر الذين آمنوا ، والِإنذار والبِشَارَةُ مُتّصِلَان بالبعث والنشور ، فَعجِبوا أن أعلَمَهُمْ أنهم يبعثون ويجازَوْنَ بالحسنة والسيئةِ.
فقال : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
فموضع (أن) الأولى رفع ، المعنى : أكان للناس عَجباً وَحْيُنَا
وموضعُ " أن " الثَانِيةِ نصبٌ بـ أوْحَيْنَا ، وموضع " أنَّ " المشددة نصب بـ بَشِّرِ ، والقراءة

(3/5)


الفتح ، ويجوز كسرها : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)
لأنَّ البِشارة قول ، فالمعنى : قُلْ لَهُمْ إِنَّ لهمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِهمْ ولكنَّه لا يُقْرأ بهَا إلا أن تثبتَ بها رواية لأن القراءةَ سنةٌ.
وَالقَدَم الصِّدْق : المنزلة الرفيعة.
(قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) - و (لَسَاحِرٌ مِبين) - جميعاً.
وإنما قالوا " لسحر مبين " لَمَّا أنذرهم بالبعث والنشور.
* * *
وقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
أعلمهم أنَّ الَّذِي خَلَق السَّمَاواتِ والأَرْضَ وَقدْرَتُه هذه القُدرَة قادِرٌ على
بَعْثِهِمْ بعْدَ مَوْتهم.
وقوله : (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ).
ولم يجر للشفيع ذكر قبل هذا ، ولكن الذِينَ خوطِبوا كانوا يقولون إنَّ
الأصنامَ شُفَعَاؤنا عندَ اللَّهِ ، فالذَكْرُ جرى بعد في الشُّفَعَاء.
فقوله : (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لَا يَشفَعُ شَفِيع إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى اللَّهُ.
قال اللَّه - جلَّ وعزَّ : (وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضى)
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).
أي فاعبدوه وحده.
* * *
وقوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)

(3/6)


يدُلُّ على أنَّ الأمْرَ في العَجَبِ كان في البَعْثِ والنشًورِ.
(جَمِيعًا) منصوب على الحال.
وقوله : (حَقًّا).
(وَعْدَ اللَّهِ) منصوب على معنى وَعَدَكُم اللَّهُ وَعداً ، لأن قوله : (مَرْجِعُكُمْ)
معناه الوعدُ بالرجوع ، وَ (حَقًّا) منصوب على أَحُقُّ ذلك حَقًّا.
ويجوز من غير القراءة وَعْدُ اللَّهِ حقٌّ.
(إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).
قرئت (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وقرئت أنَّه - بفتح الألف وكسرها.
جميعاً . كثيرتان في القراءة ، فمن فتح فالمعنى : إليه مَرْجعُكم جميعاً لأنه
يبدأ الخلق ، ومَن كَسرَ كَسرَ على الاسْتِئْنَافِ والابْتِدَاءِ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ).
أي بالعدل.
* * *
وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
(وَقَدَّرَهُ) يَعْنِي القَمَرَ ، لأنه المقدَّرُ لِعِلْمِ السِّنين والحساب ، وقد يجوز أن
يكون المعنى وقدّرهما منازل فحذف أحدهما اختصاراً وإيجازاً كما قال
الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما . . . عندك راضٍ والرأي مختلف

(3/7)


وقوله : (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
معنى (دعواهم) دعاؤهم ، يعني إن دعاء أهلِ الجنة تنزيه الله وتعظيمه.
(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ).
جائز أن يكون ما يُحَيِّي به بعضهم بعضاً سلام ، وجائز أن يكون اللَّه
يحييهم منها بالسلام.
(وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
أعلم اللَّه أنهم يبتدَئون بتعظيم الله رب العالمين.
وَ (أنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - بالتخفيف - على حذف أنَّ الشديدة
والهاء ، والمعنى أنه الحمد للَّهِ رب العالمين.
* * *
وقوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
يُروَى أنهم لَوْ أجِيبُوا في الدعَاءِ على أنفسهم وأهليهم ، كقول الرجُلِ
لابنه وحميمه : أماتَكَ اللَّهُ ، وفعل بك كذا وكذا.
وجائز أن يكون عنى قوله : (فَأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) ، وما أشْبَهَ ذلِكَ فلو عجل الله ذلك كما يُعجِّلُ لَهُم الخيرَ لأهْلَكَهُمْ بِه.
ونصب (استعجالهم) على مثل استعجالهم بالخير ، أي على نعت
مصدرٍ محذوف.
والمعنى : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ للنَّاسِ الشَر تَعْجيلاً مثل استعجالهم
بالخير ، (لَقُضِيَ إلْيهِمْ أجَلُهُمْ).
وَيقرأ : لقَضَى إليهم أجَلَهم جميعاً ، جَيِّدتَانِ ، وَلَقُضِيَ أحسنهما ، لأن

(3/8)


قوله : (ولو يعجل اللَّه للناس الشر) يتصل به (لقُضِيَ إلْيْهِمْ أجَلُهم).
(فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
الطغيان في كل شيء ارتفاعه وعُلوُّه.
والعَمَهُ التَحَير.
المعنى فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في غُلُوهمْ وكُفْرِهِمْ يتحيرُونَ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
المعنى - واللَّه أعلم - : وإذا مسَّ الِإنسانَ الضر من حال من الأحوال
فجائز أن يكون دعانا لجنبه ، ودعانا وهو سَطِيح ، أو دَعَانَا قَائِماً.
ويجور أن يكون : وإذا مس الِإنسانَ الضر لجنبه أو مَسَّهُ قاعداً ، أو مَسَّهُ
قائِماً ، دَعَانَا.
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).
المعنى مَر في العافية على ما كان عليه قبل أن يبْتَلَى ، ولم يتعظ بما
نَالَه.
وقوله : (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ويجوز زَيَّن للمسرفين.
موضع الكاف نصب على مفعول ما لم يسم فاعله المعنى زُينَ
للمسْرِفين عملُهم كذلك أي مثل ذلك ، أي جعل جَزَاءَهم الإضلالَ بإسرافهم بكفرهم .

(3/9)


وقوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
المعنى كالمعنى من قوله : (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ).
أعلم اللَّه - جل ثناؤه أنهم لَا يؤمِئونَ وَلَوْ أبْقَاهمْ أبَداً . فجائز أن يكون جَعَلَ
جَزاءَهُمْ الطبْعَ عَلَى قُلوبِهم ، وَجَائز أن يكون أعلم ما قَدْ عَلِمَ منْهُمْ.
والدَّليلُ عَلَى أنَّه طبع على قلوبهم جَزَاءً لهم
قوله : (كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ).
قوله : (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).
(كَأَنْ) مخففة من الشديدة ، المعنى كأنَّه لَم يَدْعُنَا.
قالت الخنساء :
كأنْ لم يكونوا حِمًى يُتَّقَى . . . إذْ الناسُ إذ ذاك من عزَّ بزَّا
أي كأنهم لم يكونوا.
* * *
وقوله : (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
موضع (كَيْفَ) نَصْبٌ بقوله (تَعْمَلُونَ) لأنها حرف استفهام ، ولَا يعمل
فيها (لِنَنظرَ) لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل في الاستفهام.
ولو قلت : لننظر أخيْراً تعمَلُونَ أمْ شَرًّا كان العاملُ في خيرٍ وشَيءٍ تَعْمَلُونَ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
منصوب على الحال.
(قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا).

(3/10)


لا يؤمنون بالبعث والنشور.
(ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ).
أي إيت بقرآنٍ لَيس فيه ذكرُ البعْت والنُشُور وليس فيه عَيْبُ آلِهَتِنَا . .
أو " بَدِّلْهُ " أي أو بدل منه ذكر البعث والنشور.
(قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)
تأويله : إِنَّ الَّذِي أتَيْتُ به مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا مِنْ عِنْدِي فأبدله.
* * *
(قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
ويجوز (عُمْرًا) بإسكان الميم ، أي قد لبثت فيكم من قبل أن يُوحَى إليَّ لا
أتْلُو كِتَاباً ولا أخُطُه بيميني ، وهذا دليل على أنه أوحي إليَّ ؛ إذْ كنتم تعرفونني بينكم ، نَشأْتُ لا أقرأ كتاباً ، وإخْبارِي إياكُم أقَاصِيصَ الأولين مِنْ غَيرِ كِتابٍ ولا تلقينٍ يَدُلُ عَلَى أنَّ مَا أتيتُ به من عند اللَّه وَحْي.
* * *
وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
المعنى : ما لا يَضرهم إن لم يعبدوه ، ولا ينفعهم إن عبدوه.
(وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ).
أي أتعبدون مَا لَا يسمعُ ولَا يُبصِرُ ولا يُميِّزُ ، وتزْعُمون أنها تَشْفعُ عندَ
اللَّه ، فتُخْبِرونَ بالكَذَبِ.
* * *
(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

(3/11)


قيل يعنى بالناس ههنا العرب الذين كانوا على الشرك.
اختلفوا : آمن بعضٌ وكفر بعضٌ.
وقيل : ما كانَ الناسُ إلا أُمَّةً واحدةً ، أي ولدوا على الفطرة ، واختلفوا
بعد الفطرة.
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).
ويجوز لقَضَى بينهم ، أي لولا أنَّ اللَّه - جلَّ وعزَّ - جعل لهم أجلاً في
- القضاء بينهم ، لفَصَلَ بينهم في وقت اختلافهم.
و (بَيْنَ) منصوبة لأنها ظرف.
* * *
وقوله : (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
يُعنَى بالناس ههنا الكافرونَ.
وقوله : (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا).
جواب الجزاء ، وهو كقوله :
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)
المعنى وإن تصبهم سيئة قنطوا ، وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا.
فإذا تنوب عن جواب الشرط كما ينوب الفعل.
* * *
وقوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
ويجوز هو الذي يَسِيركُمْ ، ولا أعلم أحَداً قَرأ بِها.

(3/12)


(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ).
الفُلك يكون واحداً ويكون جمعاً ، كما أن فُعْلًا في قَوْلك أُسْدٌ ، جمع
أَسَدٍ ، وفُعْل وفَعَل من باب واحد ، جاز أن يَكُونَ جَمعُ الفَلَكِ فُلُكاً.
(وَجَرَيْنَ بِهِمْ).
ابتداءُ الكَلام خطابٌ ، وبعد ذلك إخبارٌ عن غائبٍ لأن من أقام الغائبَ
مقام مَنْ يُخَاطِبُه جاز أنْ يردَّه إلى الغائب.
قال الشاعر :
شطت مزار العاشقين فأصبحت . . . عسراً على طلابك ابْنَةَ مَخْرَمِ
ومثل الآية قول كثير.
أَسِيئي بنا أَو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ . . . لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
وقرأ بعضهم : هو الذي يَنْشُركُمْ.
وأكثر ما جاء في التفسير في قوله : (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)
يعنى به آدم عليه السلام.
(فَاخْتَلَفُوا) اختلف هابيل وقابيل.
وقوله : (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ).

(3/13)


المعنى من كل أمكنة الموج.
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ).
يقال لكل من وقع من بلَاء قد أحيط به ، أي أحاط به البلاء وَقيل
أحاطت بهم الملائكة.
* * *
(فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
المعنى فلمَّا أنجاهم بغَوْا ، والبغي التَّرامي في الفساد.
قال الأصْمَعِي :
يقال بغى الجَرْحُ يبغي بَغْياً إذا ترامى إلى فَسادٍ.
وبغت المرأة بِغَاءً إذا فَجَرَتْ.
وقوله : (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وتقرأ (متاعُ الحياة الدنيا) ، خبراً لقوله : (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ).
ويجوز أن يكون خبر الابتداء (على أنْفُسَكُمْ).
ويكون (متاعُ الحياة الدنيا) على إضمار هو.
ومعنى الكلام أن ما تنالونه بهذا الفساد والبغي إنما تتمتعون به في الدنيا
(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ).
ومن نصب (متاعَ الحياة الدنيا) فعلى المصدر ، المعنى تتمتعون متاع
الحياة الدنيا ، لأن قوله (إنما بغيكم عَلى أنفسكم) يدل على أنهم يتمتعون.
ومعنى (بغيكم على أنفسكم) أي عملكم بالظلم عليكم يرجع ، كما
قال جلَّ وعزَّ : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
وقوله : (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ).
ويقرأ ، وأَزْيَنَتْ .

(3/14)


والزخرف كمال حسن الشيء ، فمن قرأ . . و " وَازَّيَّنَتْ " فالمعنى وتزَينَتْ
فأدغمت التاء في الزاي ، وسكنت الزاي فاجتلبت لها ألف الوصل ، ومن قرأ : " وأَزْيَنَتْ " بالتخفيف فهو على أفعلتْ أي جاءت بالزينة ، وازَّيَّنَتْ بالتشديد أجود في العربية ، لأن أزيَنَتْ الأجود فيه في الكلام أزانَتْ.
(وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَاا).
أي قادرون على الانتفاع بها.
وقوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).
أي كأن لم تَعْمَرْ بالأمس ، والمغاني المنازل التي يعمرها الناس بالنزول
بها ، يقال : غنينا بمكان كذا وكذا إذا نزلوا به.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
السَّلَامُ : هو اللَّه جلَّ وعزَّ - فاللَّه يدعو إلى داره ، ودارُه الجنة.
وجوز - وَاللَّهُ أعلم - أن يكون دار السلام الدار التي يُسْلَمُ فيها من الآفات.
* * *
وقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
الحسنى الجنة ، و " زِيَادَةٌ" في التفسير النظر إلى وجه اللَّه - جلَّ وعزَّ.
ويجوز أن تكون الزيادة تضعيف الحسنات لأنه قال - جلَّ وعزَّ :
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).
والقول في النظر إلى وجه الله كثير في التفسير
وهو مرويٌّبا بالأسانيد الصحاح) ، لا يشك في ذلك.
(وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ).
القتر : الغبرة التي فيها سواد ، (وَلَا يَرْهَقُ) لا يغشى

(3/15)


وقوله جلَّ وعزَّ ، لأهل النار : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
(كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا).
ويقرأ قِطْعاً من الليل مظلماً من نعت القطْع ، ومن قرأ قِطَعاً جعل مظلماً
حالًا من الليل.
المعنى أغْشِيَتْ وجوهُهُم قِطَعاً من الليل في حال ظُلْمته.
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
(جميعاً) منصوب على الحال
(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ).
مكانكم منصوب على الأمر ، كأنه قيل لهم انتظروا مكانكم حتى نَفْصِلَ
بينكم ، والعرب تتوعد فتقول مكانك ، وانتَظِرْ ، فهي كلمة جرت على الوعيد.
(فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ).
من قولك زِلْت الشيءَ عَنْ مَكانِه أَزِيلُه ، وزيَّلْت للكثرْة ، ومن هذا إذَا
نحيته عن مكانه.
* * *
وقوله : (فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
معناه كفى اللَّه شهيداً ، و (شَهِيدًا) منصوب إن شئت على التمييز ، وإن
شثت على الحال.
* * *
(إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ).
معناه : ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين.
قوله : (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

(3/16)


(هنالك) ظرف.
المعنى : في ذلك الوقت تبلو ، وهو منصوب بـ تبلو إلا أنه
غير متمكن ، واللام زائدة ، والأصل هناك ، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف ، والكاف للمخاطبة.
ومعنى (تَبْلُو) تُخْبَرُ ، أي تعلم كل نفس ما قدمت.
ومثل هنالك قول زهير
هُنالِكَ إنْ يستخْبِلُوا المال يَخْبلوا . . . وإن يُسْألُوا يُعطُوا وإن يَيسروا يُغْلوا
وقرئت - هنالك (تَتْلو) بتاءين ، وفسرها الأخفش وغيره من النحويين تتلو من التلاوة ، أي تقرأ كل نفس ، ودليل ذلك قوله : (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) - إلى قوله : (اقْرَأْ كِتَابَكَ).
وفسروه أيضاً : تَتْبَعُ كُل نَفْس ما أسلفت.
ومثله قول الشاعر :
قد جعلت دَلْوِي تَسْتَتْلِيْني . . . ولا أحب تبع القرين
أي تستتبعني ، أي تستدعي اتباعي لها.
(وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ).
القراءة (الْحَقِّ) من صفة اللٌه عزَّ وجلَّ - ويجوز الحقُّ والحقَّ.
والنصب

(3/17)


من جهتين إحداهما رُدُّو حَقا ، ثم أدخِلت الألف واللام ، ويجوز على تقدير هو مَوْلَاهُمُ الحق ، أي يحق ذلك حقاً ، وفيه جهة ثالثة في النصب على المدح :
هي : اذكر مولاهم الحق.
ومن قرأ " الحقُّ " - بضم القاف - فعلى هو مولاهم الحق ، لا من جعلوا
معه من الشركاء.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
(فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ).
بعد أنْ قُرِّروا فقيل لهم :
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ).
لما خوطبوا بما لا يقدر عليه إلا اللَّه - جلَّ وعزَّ - كان فيه دليل على
توحيده.
* * *
وقوله : (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
الكاف في موضع نَصْبٍ ، أي مثل أفعالهم جَازَاهُمْ رَبُّكَ.
وقوله : (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي حق عليهم أنهم لا يؤمنون ، فإنهم لا يؤمنون بدل من كلمة رَبِّكَ.
أعلم اللَّه أنهم بأعمالهم قد مُنِعُوا من الِإيمان ، وجائز أن تكون الكلمة
حَقت علَيهم لأنهم لا يؤمنون ، فإنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك وتكون
الكلمة ما وُعِدوا به من العقاب .

(3/18)


وقوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ).
تَقول هديت إلى الحق ، وهدَيتُ الحقَّ بمعنى واحدٍ ، لأن " هَدَيْتُ "
يتعدى إلى المهدِيين وإلى الحقِّ . يتعدى بحرف جر.
المعنى يهدي من يشاء للحق.
(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)
أي : قُررُوُا ، فقيلَ لهم : أيٌّ أولى بالاتباع ؛ الذي يهدي أم الذي لا يَهْدِي إلَّا
أَنْ يُهْدَى.
وجاء في التفسير أنه يعنى به الأصنام.
وفي يهدي قراءات ، قرأ بعضهم أَمَّنْ لَا يَهْدْي بإسْكان الهاءِ والدال.
وهذه القراءة مَرْوِيَة إلا أن اللفظ بها ممتنع ، فلست أدري كيف قرئ بها وهي
شاذَّة . وقد حكى سيبويه أن مثلها قد يتكلم به.
وقرأ أبو عمرو بن العلاء أَمَّنْ لَا يَهَدِّي - بفتح الهاء - وهذا صحيح جَيدٌ
بالغ - الأصل يَهْتَدِي فأدْغَم التاء في الدال وطرح فتحتها على الهاء والذين
جمعوا بين ساكنين . الأصل عندهم أيضاً يَهْتَدِي ، فأدغمت التاء في الدال
وتركت الهاء ساكنة ، فاجتمع ساكنان.
وقرأ عاصم أَمَّنْ لَا يَهِدِّي ، وهي في الجودة كفتح الهاء في الجودة.
والهاء على هذه القراءة مكسورة لالتقاء السَّاكنين.
ورويت عن عاصم أيضاً " يَهِدِّي " بكسر الهاء والياء.
أتْبَعَ الكسرةَ الكسرةَ ، وهي رديئة لنقل الكسر في الياء .

(3/19)


وقرئت أَمَّنْ لَا يَهْدِي بدال خفيفة.
فهذه خمسة أوجه قد قرئ بها هذَا الحرفُ
وقوله : (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
(مَا لَكُمْ) كلام تام ، كأنَّه قيل لهم : أي شيء لكم في عِبادَةِ الأوثانِ ، ثم
قيل لهم : (كيْفَ تحكُمُون) أي : على أي حال تحكمون ، فموضع كيف نصب بـ (تحكُمُون).
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
هذا جواب لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ).
وجَوَابٌ لقولهم افتراه ، والمعنى وما كان هذا القرآن لأن يفترى من دون الله ويجوز ُ أن يكون المعنى : وما كان هذا القرآن افتراءً ، كما تقول : وما كان هذا الكلام كِذباً.
(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بيْنَ يَدَيْهِ).
وفيه وجهان أحدهما أن يكون تصديق الشيء الذي القرآن بين يديه ، أي
الذي قبل سماعكم القرآن ، أي تصديقٌ من أنباء الأمَمِ السالفة وأقاصيص
أنْبائِهِم.
ويجوز أن يكون " ولكن تصديق الذي بين يدي القرآن " ، أي تصديق
الشيء الذي تقدمَه القرآن أي يدل على البعث والنشور.
وقرئ ولكن تَصْدِيقٌ الذي بين يديه ، فمن نصب فإن المعنى ولكن كان
تصديق الذي بين يديه ، ومن رفع فعلى ولكن تصديق الذي هو بين يديه.
ومن رفع قال : (وَتَفْصِيلُ الكِتَابِ).

(3/20)


وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
المعنى بل أيَقَولُونَ افْتَراهُ هذا تقرير لهم لإقامةِ الحجةِ عليهِمْ :
(قُلْ فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ).
أي أتقولون النبى اختلقه وأتَى به من ذَاتِ نَفْسِه ، فَأتُوا بسُورةٍ من مثله.
أي بسورة مثل سُوَرِةٍ منه ، وإنما قيل مثله ، يراد سُورةٌ منه لأنه إنما التمس من
هذا شبه الجنس.
(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ).
ممن هو في التكذيب مثلكم ، وإنْ خالفكم في أشياء.
(إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ) في أنَّه اختلقه.
* * *
(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
هذا - واللَّه أعلم - قيل في الذين كذبوا ، وهم شَاكوُنَ (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ).
أي لم يكن معهم عِلْمُ تَأويله ، وهذا دليلٌ أن علم التأويل ينبغي أن يُنْظَرَ
فِيه ، ويجوز أن يكون : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) لَمْ يأتِهمْ ما يؤول إليه أمرهم في
التكذيبِ به من العقوبة.
ودليل هذا القول : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).
(كيْفَ) فِي مَوْضِع نَصْبٍ على خبر كان ، ولا يجوز أن يعمل فيها . . " انْظَر "
لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه.
* * *
وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
أي منهم من يعلم أنه حق فيصدِّق به ، أو يعاند فيظهر الكفر ،

(3/21)


(وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ) أي منهم من يشك ولا يُصَدِّقُ.
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
أي ظاهرهم ظاهر من يستمع ، وهم لِشَدةِ عَدَاوَتهم وبغضهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسوء استماعهم بمنزله الصُّم.
(وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ).
أي ولو كانوا مع ذلك جُهَّالاً.
وهذا مثل قول الشَّاعر.
أصم عما ساءه سميعُ
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
أي يُقْبل عليك بالنظر وهو كالأعمى من بُغْضه لك وكراهته لما يراه من
آياتك ، كما قال اللَّه - جل ثناؤه -
(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
أي قَرُب عندهم ما بين مَوْتهِم وبَعْثِهِم ، كما قال - عزَّ وجلَّ :
(لَبِثْنَا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
(يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).
يَعْرفً بعضهُم بعضاً ، وفي معرفة بعضِهِم بعضاً وعلم بعضهم بإضلال
بعض ، التوبيخُ لهم وإثبات الحجةِ عَلَيْهِمَ.
* * *
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ).
يجوز - واللَّه أعلم - أن يكون هَذا إعْلَاماً من اللَّه - جَلَّ وعَزَ - بعد أن

(3/22)


بيَّن الدَلالة على أمْرِ البَعْثِ والنُشُورِ ، أنَّه من كذبَْ بَعْدِ هذه الآية فقد خَسِرَ
وَيجوز أن يكون - والله أعلم - بِتَعارُفِهِمْ بَيْنَهُم يقولون قَدْ خَسر الَّذِينَ كَذَبُوا بلقاء اللَّه.
* * *
وقوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
يقال في التفسير إنه يعنى به وَقْعَةُ بَدْرٍ ، وقيل إنَّ اللَّهِ - جلَّ وعزَّ - أعلم
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ينتقم من بعض هذه الأمَّةِ ولم يُعْلِمْه أيكونُ ذلك قبل وفاته أم بَعْدَهَا.
والذي تدل عليه الآية أنَّ اللَّه - جَل وعز - أعلمَه أنه إن لم ينتقم منهم في
العاجل انتقم منهم في الآجل ، لأن قوله : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) يدل على ذلك.
وقد أعلم كيف المجازاة على الكفر والمعاصي.
* * *
وقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
المعنى - واللَّه أعلم - أنَّ كل رسول شَاهِدٌ على أمَّتِه بإيمانهم وكُفْرهم.
كما قال - جلَّ وعزَّ - (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).
وكما قال جلَّ وعزَّ : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30).
ويجوز - واللَّه أعلم - أنَّ اللَّه أعلم أنه لا يعذِّبُ قوماً إلا بعد الإعذَارِ
إليهم والإِنذار ، أي لم يعذبهم حتى يجيئهم الرسول ، كما قال - جلَّ وعزَّ - :

(3/23)


(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وكَما قال : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
* * *
وقوله - جلّ وعزَّ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
البَيَاتُ كلً ما كان بِليْلٍ ، وهو منصوبٌ على الوَقْتِ.
وقوله : (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ).
(ما) في موضع رفع من جهتين :
إحداهما أن يكون ذَا بمعنى . . " ما الَّذِي "
يستعجِلُ منه المُجرِمُونَ ، ويجوز أن يكون " مَاذَا " اسماً وَاحِداً ، ويكون
المعنى : أي شيء يستعجل منه المجْرِمُون والهاء في منه يعود على العذاب
نصب ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من اللَّه - جلَّ وعزَّ -.
والأجْوَدُ أن تكون الهاء تعود على العذاب ، لقوله : (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ).
وقوله : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).
المعنى : آلْآنَ تْؤمِنُونَ ، فَزعمَ القراءُ أن . . " آلأن " إنما هو " أَأَنْ كَذَا
وكَذَا " ، وأن الألف واللام دخلت على جهة الحكاية.
وما كان على جهة الحكاية نحو قولك " قام " إذا سميت به فجعلته مبنياً
على الفتح لم تدخله الألف واللام.
وَ " الآن " عِند سيبويه مبني على الفتح . نحو " نحن لِنَ الآنَ نصيرُ
إليك). فتفتح لأن الألف واللام إنما تدخلُ لِعهْدٍ.
و " الآنَ " لم تعهده قبل هذا

(3/24)


الوقت ، فدخلت الألف واللام للِإشارة إلى الوقتِ.
والمعني نحن من هذا الوقت نفعل ، فلما تضمنت معنى هذا ، وجب أنْ تَكُونَ موقوفة ففتحت لالتقاء السَّاكنين ، وهما الألف واللام.
* * *
وقوله : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
أي لستم ممن يُعْجِزُ أن يُجازَى عَلى كفْره.
* * *
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
(وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).
هَؤُلاء الدُّعاةُ الرؤَسَاءُ الكفرة ، أسَروا ندامتهم.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
(قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
يعني القرآنَ.
* * *
وقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
اللام أصلها الكسر . و (فَبِذَلك) بدل من قوله . . (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ).
وهو يدل على أنه يعني به القرآن أيضاً.
* * *
وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
" مَا " في موضع نصب بـ (أَنْزَلَ) ، والمعنى إنكم جعلتم البحائر والسوائب
حراماً واللَّه لم يحَرَّمْ ذلك .

(3/25)


وقوله : (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
أيْ أيُّ وَقْتٍ تكونُ في شأن من عبادة اللَّه ، وما تلوتَ بهِ - من الشَأنِ مِنْ
قُرآنٍ.
(إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)
أي إذ تَنْتَشِرُونَ فيه ، يُقال : أفاض القوم في الحديث إذَا انْتَشَرُوا فيه
وخاضوا.
(وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ).
يقرأ يَعْزُبُ وَيعْزِبُ - بضم الزاي وكسرها - ومعناه ما يبْعُد ، والمثقال :
والثقْلُ في معنًى واحدٍ.
(وَلَا أصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أكْبَرَ).
فالفتح على . . ما يعزب عن ربك من مثقال ذَرة ولا مِثْقَالٍ أصْغَرَ مِنْ
ذَلِكَ ولا أكبرَ ، والموضع موضع جر إلا أنه فتح لأنه لا يصرف.
ومن رفع فالمعنى : ما يَعْزُبُ عن ربك مثقالُ ذرَّةٍ ولا أصْغَرُ من ذلك ولا أكبَرُ إلا في كِتَابٍ مُبين.
والخبر قوله : (إِلَا في كِتَابٍ مُبينٍ).
* * *
وقَولُه : (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
جاء في أكثر التفسير . البشرى ، الرؤيا الصالحة يراها المؤمن في منامه.
وفي الآخرة ، الجنة ، وهو - واللَّه أعلم - أن البشرى ما بشرهم الله به ، وهو

(3/26)


قوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21).
وهذا يدل عليه : (لَا تَبْدِيلَ لِكلِمَاتِ اللَّهِ).
وقوله (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
أي لا يحزنك إيَعادُهمْ وتكذيبهم وتظاهرهم عليكَ.
(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ).
إن الغلبة للَّهِ فهو ناصِركَ وناصر دينه.
* * *
(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
يفعل فيهم ما يشاء.
* * *
وقوله : (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا).
المعنى ما عندكم من حجة بهذا.
* * *
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
هذا وقف التمام ، وقوله :
(مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
مَرْفُوع على معنى ذلك متاع في الدنيا ، ولو كانت نصباً لجَازَتْ ، إِلا أنه
لا يقرأ بها لمخالفة المصحف.
* * *
وقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ).
ويقرأ . . فاجْمَعُوا أمرَكم وشُركاءَكُمْ.
زعم القراءُ أنَّ معناه : فاجْمَعُوا أمرَكم وادْعُوا شركاءكم.
وهذا غلط لأن الكلام لا فائدة فيه ، لأنهم إن كانوا يدعون شركاءهم لأنْ يجمعوا أمرهم ،

(3/27)


فالمعنى فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، كما تقول لو ترِكَتِ الناقَةُ وفصِيلَها
لَرَضعها ، المعنى لو تُرِكَت مَعَ فصيلها لَرَضعَها.
ومن قرأ - " وشُرَكَاؤُكُمْ " جاز أن يعطف به على الواو ، لأن المنصوب قد
قوَّى الكلام.
لو قلت لو تُرِكْتَ اليومَ وزيد لعلمت جاز ، ولو قلت لو تركت
وزيدٌ لقبح ، لأنك لا تعطف على الضمير المرفوع حتى تقوِّيَ المرفوع بلفظ
معه.
ومن قرأ . . " وشُركاءَكم " في قوله فاجْمَعُو أمركم - بوصل الألف.
فنصبه على ضربين :
أحدهما العطف على الأمر ، المعنى فاجْمَعوا أمركم
واجمَعُوا شُركاءكم ، ويكون فاجمعوا مع شركائكم أمْرَكُم.
(ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً).
أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً ، كما قال رؤبة :
بَلْ لَو شَهِدتَ النَّاسَ إذ تُكُمُّوا . . . بغمة لو لم تُفَرّجْ غُمُّوا
غُمُوا بالمكروه ، بِغُمَّةٍ ، أي ما يَسْتَرهم ، واشتقاق ذَلكَ من الغَمَامَةِ التي
تستُر ، ويجوز ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً أي غَمًّا .

(3/28)


(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ).
قرئت ثم أفضوا إِلَيَّ ، فمن قال : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) فالمعنى : ثم افعلوا ما
تريدون . و " ثُمَّ افْضوا " - بالفاء - وهي قريبة المعنى منها.
* * *
وقوله : (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
هذا الكلام تقرير لقولهم :
(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ).
هذا اللفظ ؛ أيْ إنَّ هذا لسحر مبين . ثُمَّ قَررَهُمْ فقال :
(أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ).
والمفلح الذي يفوز بإرادته أي فكيف يكون هذا سحراً وقد أفلح
الذي أتى به ، أي فاز ، وفلح في حجتَه.
* * *
(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
أيْ لتَصْرِفَنَا وَتَعْدِلَنَا ، يقال لفَتُّه عن الأمر ألفِته لَفْتاً إذا عَدَلْته عنه ، ومن
هذا قولهم التفت إليه أي عدل وجْهَه إليه.
(وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ).
الْكِبْرِيَاءُ : الملك ، وإنما سُمِّيَ الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلَب من أمر
الدنيا.
وقوله : (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
(مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ).

(3/29)


أي قال موسى : الذي جئتم به السِّحْر ، ويقرأ ما جئتم به ، آلسِّحرَ.
والمعنى أي شىء جئتم به آلسِّحرُ . هوعلى جهة التوبيخ لهم.
* * *
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
قيل إنه مكث يدعو الآباء فلم يؤمنوا ، وآمنت طائفة من أوْلادِهم.
(عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ).
جاز أن يقال - مَلَئِهِمْ لأن فرعون ذو أصحابٍ يأتمرون له ، والملأ من
القوم الرُؤَسَاءُ الًذِينَ يُرْجَعُ إلىَ قولهم.
* * *
وقوله : (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
أي لا تُهلكنا وتعَذَبْنَا فَيَظُنُ آلُ فرعون إنا إنما عُذَبْنَا لأنَنَا على ضلال.
* * *
وقوله : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً).
جاء في التفسير : اجعلوا صلاتكم إلى البيت الحرام ، وقيل : اجعلوا
بيوتكم قبلة أي صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف لأنهم آمنوا على خوف من فرعون.
* * *
وقوله : (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
(رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ).
ويقرأ (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي ، إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأمْوَالاً في
الحياة الدنيا فأصَارَهم ذلك إلى الضلال كما قال - جلَّ وعزَّ - (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) أي فالتَقَطُوهُ وآلَ أمرُه أنْ صار لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا ، لا أنهم قصدوا إلى أتى يكون لهم عدواً وحزناً.
(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ).

(3/30)


جاء في التفسير أي اجعل سُكَرَهُمْ حجارة . وتأويل تطميس الشيء
إذهابُه عن صورتِه والانتفاع به على الحال الأولى التي كان عليها.
(وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ).
أي اطبع على قلوبهم.
(فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
دعاءٌ أيضاً عليهم.
ويجوز - واللَّه أعلم - ما قاله محمد بن يزيد.
ذكر أن قوله : (فَلَا يُومِنُوا) عطف على قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)
أي ربنا إنك آتيتهم ليضلوا فلا يؤمنوا.
* * *
* وقوله : (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
يروى في التفسير أن موسى دعا ، وأن هارون أمَّن عَلَى دُعائِهِ.
وفي الآية دليل أنهما دَعَوَا جَميعاً لأن قوله : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)
يدل أن الدعْوةَ منهما جميعاً ، والمُؤَمِّنُ عِلى دُعاء الداعي دَاعٍ أيْضاً لأن قوله " آمين " تأويله استجب فهو سائل كسؤال الداعي.
وقوله : (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
موضع (تَتَّبِعَانِّ) جزم ، إلا أن النون الشديدةَ دخلت للنهي مؤكِّدةً.
وكُسِرتْ لسكونها وسُكون النون التي قبلها ، واختير لها الكسر لأنها بعد
الألف ، فشبهت بنون الاثنين.
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)

(3/31)


جعلهُ الله يَبَساً حتى جَاوَزُوه.
* * *
وقوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
(نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) نلقيك عُرياناً وقيل ننجيك ببدنك نلقيك على نَجْوةٍ
من الأرض ، وإنما كان ذلك آيةً لأنه كان يَدَّعِي أنَّه إلهٌ وكان يعبُده قومُه ، فبيَّنَ اللَّه أمْرَه وأنه عَبْدٌ.
وفيه من الآية أنه غرِق القومُ وأُخْرِجَ هو مِنْ بيْنهم فكان في ذلك آية.
* * *
وقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
هذه آية قد كثر سُؤَالُ الناسِ عنها وخوضُهم فيها جِدَّا ، وفي السورة ما
يدل على بيانها وكشف حقيقتها :
والمعنى أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك الخطاب شامل للخلق فالمعنى : إن كنتم في شك فاسألوا.
والدليل على ذلك قوله في آخر السورة :
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ).
فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليس في شَكٍّ ، وأمرُه أن يتْلُو عليهم ذَلِكَ.
ويروى عن الحسن أنه قال : لم يَسألْ ولم يَشُد ، فهذا بَيِّن جداً.
والدليل على أن المخاطبة للنبي مخاطبةٌ للناس قوله :
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
فقال (طَلَّقْتُمُ) ولفظ أول الخَطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -

(3/32)


وحده فهذا أحسن الأقوال وفيها قولان آخران.
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ) ، كما تقول للرجل : إن
كنت أبي فتعطف عليَّ ، أي إن كنت أبي فواجِبٌ أن تتعطف على ، ليس أنه
شك في أنه أبوه.
وفيها وجْهٌ ثَالِثٌ : أن تكون " أنْ " في معنى " مَا " فَيكون المعنى ما كنت
في شك مِما أنْزَلنا إليْكَ ، فاسأل الذين يقرأون ، أي لسنا نأمرك لأنك شاك.
ولكن لتزداد ، كما قال إبراهيم : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
فالزيادة في التثبيت ليست مما يبطل صحة القَصد (1).
* * *
(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
فهلَّا كانت قرية.
قال الشاعر.
تَعُّدُونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُم . . . بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
اختلف المفسرون : في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو ؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام.
وقيل غيره ، أما من قال بالأول : فاختلفوا على وجوه.
الوجه الأول : أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر ، والمراد غيره كقوله تعالى : {يا أيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [ الأحزاب : 1 ] وكقوله : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر : 65 ] وكقوله : {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [ المائدة : 116 ] ومن الأمثلة المشهورة : إياك أعني واسمعي يا جاره.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه : الأول : قوله تعالى في آخر السورة {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى} [ يونس : 104 ] فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز ، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.
الثاني : أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية.
والثالث : أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه ، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار ، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل ، فالكل مصحف محرف ، فثبت أن الحق هو أن الخطاب ، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة ، ومثل هذا معتاد ، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير ، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع ، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص ، فإنه لا يوجه خطابه عليهم ، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم.
الوجه الثاني : أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك ، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام ، فإنه يصرح ويقول : « يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة » ونظيره قوله تعالى للملائكة : {أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [ سبأ : 40 ] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا : {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [ سبأ : 41 ] وكما قال لعيسى عليه السلام : {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [ المائدة : 116 ] والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.
الوجه الثالث : هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر ، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات ، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات ، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس ، ونظيره قوله تعالى : {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [ هود : 12 ] وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله : {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع.
ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع ، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط ، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين ، فهو كلام حق ، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية ، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا ، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع ، فليس في الآية دلالة عليه ، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر ، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.
والوجه الرابع : في تقرير هذا المعنى أن تقول : المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان ، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى ، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات ، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى : {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل ، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه ، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان ، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى ، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.
الوجه الخامس : أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [ الأنبياء : 22 ] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً ، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا.
ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.
الوجه السادس : قال الزَّجَّاج : إن الله خاطب الرسول في قوله : {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} وهو شامل للخلق وهو كقوله : {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [ الطلاق : 1 ] قال : وهذا أحسن الأقاويل ، قال القاضي : هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال ، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره ، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر ، ثم قال : ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.
الوجه السابع : هو أن لفظ {إن} في قوله : {إِن كُنتَ فِى شَكّ} للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة ، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته ، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع ، كما في قوله : {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ} [ الانفطار : 6 ، 7 ] و {يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} [ الانشقاق : 6 ] وقوله : {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} [ الزمر : 49 ] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه ، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال : {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين }. ا هـ {مفاتيح الغيب حـ 17 صـ 128 - 130}

(3/33)


أي فهلَّا تَعُدُّون الكميَّ ، والكمي الداخل في السلاح.
والمعنى : فهلَّا كان أهل قرية آمنوا.
وقوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ).
استثناء ليس من الأول ، كأنه قال لكن قوم يونس لما آمنوا.
وقوله : (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا).
معناه هلَّا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم الِإيمان ، وجرى هذا بعقب
قول فرعون لما أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ).
فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن الِإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ولا عند حُضُورِ الموت الذي لَا يُشَك فيه.
قال اللَّه - جلَّ وعزَّ - : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ).
وقوم يونس - واللَّه أعلم - لم يقع بهم العذاب ، إنما رأوا الآية التي تدل
على العذاب ، فلما آمنوا كُشِفَتْ عنهم.
ومثل ذلك العليل الذي يتوب في مَرَضِه وهو يرجو في مرضه العافيةَ ولا
يخافُ الموتَ فتوْبتُه صحيحة
أما الذي يعاين فلا توبة له ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ في قِصتِه : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).
فأمَا النصب في قوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فمثله من الشعر قول النابغة :

(3/34)


وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها . . . عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ
إلاَّ الأَوارِيَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها . . . والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمَظلُومة الجَلَدِ
ويجوز الرفع على أن يكون على معنى فَهَلَّا كانت قرية آمنت غير قومِ
يونس ، فيكون . . (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) صفة.
ويجوز أن يكون بدلاً من الأول ، لأن معنى قوم يونس محمول على
معنى هَلَّا كان قوْمُ قريةٍ ، أو قوم نبي آمنوا إلا قوم يونس.
ولا أعلم أحداً قرأ بالرفع.
وفي الرفع وجه آخر وهو البدل ، وإن لم يكن الثاني من جنس
الأول ، كما قال الشاعر.
وبلدة ليس بها أنيس . . . إلا اليعافير وإلا العيس
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)

(3/35)


معناها وما كان لنفس الوصلة إلى الِإيمان إلا بمَا أعْلَمها اللَّهُ منه.
ويكون أيضاً إلا بتوفيق اللَّه ، وهو إذنه.
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).
والرجس العذاب ، ويقال هو الرجزُ.
* * *
وقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
ونُنْجِى ، أي إذا أهلكت قرية أنجى الله الأنبياء ، والمؤمنين مما يَنْزِل
بأهْلها.
فإن قال قائل : فهلَّا كانت قرية آمَنَت ، ألم يؤمن أحَدٌ من أهل القرى ؟
فالمعنى أن أهل القرى ذكر الله في جمهورهم الكفر ، فقال :
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96).
فأما من قرأ . . " نجِّي المومِنِينَ " فلا وجه له.
وقد نجِّي النجاء المؤمنين . .
وهذا روي في القراءة عن عاصم في سورة الأنبياء ولا وجْهَ له . .

(3/36)


سورة هود
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
كتاب مرفوع بإضمارِ هذا كتابٌ.
وقال بعضهم : (كتابٌ) خبرُ " الر "
وهَذَا غلض ، لأن قوله : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ليس هو (الر) وحدها.
وفي التفسير (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) بالأمر والنهي والحلال والحرام ثم فصلت بالوعد
والوعيد.
والمعنى - واللَّه أعلم - أنَّ آيَاتِه أحْكِمتْ وَفُصِّلَت بجميع ما يحتاج إليه
من الدلالة على التوحيد ، وإثبات نبوة الأنبياء - عليهم السلام - وإقَامَةِ
الشرائع.
والدليل على ذلك قوله : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)
وقوله : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ).
ويدل على هذا قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ).
المعنى (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

(3/37)


أي من عند حكيم خبير ، لِـ أنْ لا تعبدوا إلا اللَّه.
وموضع أن نصب على كل حال.
(وقوله : (إنني) مقول قول مقَدرٍ ، أي قل يا محمد لهم إنَّنِي لكم منه.
أي من جهة اللَّه " نَذِيرٌ " أي مُخَوِّفٌ من عَذَابِه لمنْ كفرَ.
و " بَشِير " بالجنة لمن آمَنَ.
وقوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
أي وأمركم بالاستغفار.
(ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا).
أي يُبْقِيكمْ ولا يَسْتَأصِلُكمْ بالعذاب كما استأصلَ أهل القرى الذين
كفروا.
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).
أي من كان ذا فَضْلٍ في دينه فَضَله اللَّه بالثواب ، وفَضله بالمنزلة (في
الدنيا) بالدين كما فَضلَ أصْحَاب نبيه (عليه السلام).
* * *
وقوله : (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
(أَلَا) معناها التنبيه ولا حَظَّ لها في الإعراب ، وما بَعْدَها مبتدأ.
ومعنى (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا) ، أي يُسِرون عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل إن طائفة من المشركين قالت : إذَا أغْلَقْنَا أبوَابَنَا وأرْخَيْنَا سُتُورَنا.
واسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا ، وثَنَيْنَا صُدُورَنَا على عداوةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف يعلم بِنَا ، فأعْلَمَ - عز وجل -

(3/38)


بما كتموه فقال جلّ ثناؤه : (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ).
وقرِئَتْ " أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنَوْني صدورُهم ".
قرأها الأعمش ورُوِيتْ عن ابن عباس " تَثْنَوْني " صدورُهم.
عَلَى مِثال تَفْعَوْعِلُ ومعناها المبالغة في الشيء ، ومثل
ذلك قد احْلَوْلَى الشيء إذَا بلغ الغايةَ في الحلاوة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).
قِيلَ (مُسْتَقَرَّهَا) مَأواها على ظهر الأرض ، (وَمُسْتَوْدَعَهَا) ما تصير
إليه ، وقيل أيضاً : (مُسْتَقَرَّهَا) في الأصْلاب (وَمُسْتَوْدَعَهَا) من الأرحام.
وقوله : (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
أى ذلك ثابت من علم اللَّه . فجائزٌ أن يكون في كتاب ، وكذلك قوله
- جلَّ وعز - : (إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا).
* * *
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
الله قادر على أن يخلقَها في لحظة ، لأنه على كل شيء قدير ، وإذا خَلَقَهمَا وقَدَّرَهمَا هذا القدْر العَظِيم - والسَّمَاء ليسَ بينها وبَيْنَ الأرْضِ عَمَدٌ يُرَى - في سِتَة أَيَّامٍ علم أنَّ مَنْ كانَتْ قدرَته هذه القدرة لم يُعْجزْه شَيءٌ.
قال اللَّه - جلَّ وعزَّ - : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى).
وكان المشركون يُكذِّبُونَ بأنَّه يَبعَث الموتَى ، ويُقِرُونَ أنه خَالِق السماوات
والأرض .

(3/39)


وقوله : (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ).
هذا يدل على أن العرشَ والماءَ كانا قبلَ السَّمَاوَاتِ والأرضِ.
وقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
معناه ليختبركم الاختبار الذي يجازيكم عليه ، وهو قد علم قبل ذلك
أيُّهم أحْسنُ عملاً ، إلا أنَّه يجازيهم على أعمالهم لَا عَلى عِلْمِه فيهم.
* * *
(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
ويقرأ إلا ساحِر مبين ، والسحر باطل عندهم ، فكأنَّهم قالوا : إنْ هَذَا إلا
بَاطِل بَيِّنٌ.
وأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ القدرةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرْضِ تدل
على بَعْث الموْتى . وأهلُ الكفر مختلفون في البعث فالمشركون يقولون أنهم
لا يُبْعَثُونَ ألبتَّةَ ولا يرْجعُونَ بعد موتهم ، واليهود والنصارى يَزْعُمُ أن لا أكْلَ
ولا شُربَ ولَا غَشْياً للنساءِ في الجنة وكل كافر بالبعث على جهته.
* * *
(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8)
معناه إلى أجل وحين معلوم ، كما قال الله تعالى . .
(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). أي بعد حين.
وقوله : (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا).
(يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) منصوبٌ بمصروف ، المعنى ليس العذاب مصروفاً عَنْهُمْ
يَوْمَ يأتيهمْ .

(3/40)


(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ).
كما تقول أحاط بفلان عَمَلُه ، وأهلَكَة كَسْبُه ، أي أهلكه جزاءُ كسبِه
وعاقبتُه.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
يعني الكافر ، والرحْمَة الرزق ، ههنا ، والإِنسان اسم للجنس في معنى
الناس.
* * *
وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
استثناء ليس من الأول ، المعنى لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).
* * *
وقوله : (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
يُرْوَى أن المشركين قالوا للنبِى - صلى الله عليه وسلم - لَوْ تَرَكْتَ عيْبَنَا وسَبَّ آلِهتِنَا لجالسناك ، ومعنى (أن يقولوا لَوْلَا أنْزِلَ عليه كنْزٌ)
معناه كراهةَ أن يَقولُوا.
(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ).
أي إنما عليك أن تنْذِرَهُم وتَأتِيهُمُ من الآيات بما يُوحَى إليك وليس
عليك أن تأتيهم بشهواتهم واقتراحهم الآيات.
ثم أعلمهم وجه الاحتجاج عليهم فقال جلَّ وعزَّ.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
أي ، أيقولون افتراه .

(3/41)


(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ).
أي مثل سورة منه ، أيّ سورة منها.
(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
أي اطلبوا أن يعاونكم على ذلك كل من قدرْتم عَليه ، ورجَوْتمْ مُظَاهَرَتَه
ومعاوَنَتَه.
* * *
(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
ومعنى (أنْزِلَ بِعلْمِ اللَّهِ) ، أي أنْزِلَ واللَّه عَالِم بإنْزَاله ، وعالم أنه حق من
عنده.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - (بِعِلْمِ اللَّهِ) أي بما أنبأَ الله فِيهِ من غَيْب
وَدَلَّ على ما سَيكون وما سلف مما لم يَقْرأ بِه النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً وهذا دليل على أنه من عند اللَّه.
* * *
وقوله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
أي نجازيهم على أعمالهم في الدُّنْيَا.
فأمَّا كان في باب حروفِ الجزاء ففيها قولان :
قال أبو العباس محمد بنُ يزيد : جائزٌ أن تكون لِقُوَّتهَا عَلى معنى
المضِيِّ عبارةً عن كل فعل مَاضٍ ، فهذا هو قوتها ، وكذلك تتأوَلُ قوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ).

(3/42)


وحقيقها - واللَّه أعلم - من تعلم منه هذا ، فهذا على باب سائر الأفعال.
إلا أنَّ معنى (كان) إخبار عن الحالِ فيما مضى من الدهر ، فإذا قلت سيكون
عالماً فقد أنْبأتَ أن حاله سَتَقع فيما يستقبل ، فإنما معنى كان ويكون العبارة
عن الأفعال والأحوال.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
قيل في التفسير إنه يعنيْ محمداَ - صلى الله عليه وسلم - ويتلوه شاهد منه ، أي شاهد مِنْ رَبِّه ، والشاهِد جبْريل ، وقيل يَتْلوه البرهان ، والذي جرى ذكر البَيِّنَة ، لأن البينة والبرهان بمعنىً واحدٍ.
وقيل (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يعني لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -
أي أفمن كان على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه ، وكان معه من الفضل ما يبين تلك البينة كان هو وغيره سواء ، وترك ذكر المضادِّ لَه لأن فيما بعده دليلاً - عليه.
* * *
وقوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ).
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - أفمن كان على بينة من ربه يعني به
النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر المؤمنين.
ويكون معنى . . (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يتلوه ويتبعه.
أي يتبع البيانَ شاهدٌ من ذَلِكَ البيانِ ، ويكون الدليل على هذا القول : (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ويكون دليله أيضاً : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ، فاتباع الشاهد بعد البيان كاتباع التفصيل بعد الأحْكَامِ.
* * *
وقوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً).

(3/43)


أي وكان من قبل هذا كتابُ موسى دَليلاً على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون كتاب موسى على العطف على : قوله (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى)
أي وكان يتلوه كتاب موسى ، لأن النبي بَشَر به موسى وعيسى في التورَاةِ
والإِنجيلِ ، قال اللَّه - جلَّ وعزَّْ - : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
ونصب (إمَاماً) على الحال ، لأن كِتَابَ موسى معرفة.
(فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).
يجوز كسر الميم في مِرْيةٍ وضمها ، وقد قُرئ بهما جَميعاً في مِرْيَةَ
وفرْية.
ويجوز نصب (كتاب موسى) ، ويكون المعنى : ويتلوه شاهدٌ منه وهو
الذي كان يتْلِو كتابَ موسى . والأجْودُ الرفعُ ، والقِراءةُ بالرْفع لا غير.
* * *
وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
الأشهاد هم الأنبياء والمؤمنون ، وقال أولئك يعْرضون على رَبِّهم.
والخلقُ كلهم يُعْرضون على ربهم ، كما قال جلَّ ثناؤه
(إليْنَا مَرْجِعُهُمْ) (إلَيْنَا يُرْجَعُونَ) فذكر عرضهم على ربهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم.
* * *
وقوله : (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
لعنة الله إبعاده من يلعنه من عفوه ورحمته.
* * *
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)

(3/44)


أي : يَصُدُّونَعن طريق الِإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يريدون رَدَّ السبيل التي هي الِإيمان والاستواء إلى الكُفْرِ والاعوجاجِ عن القصد.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).
ذكرت هم ثانية على جهة التوكيد لثشأنِهِمْ في الكًفْر.
* * *
وقوله : (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
أي اللَّه لا يعجزه انتقامٌ من دَارِ الدنيا ، ولا وَليٌّ يمنع من انتقام الله لمن
أراد به النقمة ، ثم استأنف فقال : (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ).
فوصف مضاعفة العذاب على قَدْر ما وَصَفَ من عِظَم كًفْرهم بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وبالبعث والنشور.
* * *
(مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ).
أي مِنْ شدةِ كًفْرِهم وعَداوَتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيعون أن يسمعوا ما يقول.
ثم بيّنَ - جلَّ وعزَّ - ضَرَرَ ذلك عليهم فقال :
(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21).
* * *
وقوله : (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
قال المفسرون : المعنى جزاء حقاً ، أنهم في الآخرة هم الأخسرون
وزعم سيبويه أن جرم بمعنى حَق.
قال الشاعر .

(3/45)


ولقد طَعَنْت أبا عيينة طعنة . . . جَرمَت فزَارَة بعدها أن يَغضبُوا
معناه أحقَّت فزَارةَ الطعنةُ بالغضب.
ومعنى " لا " نفي لما ظنُّوا أنَّه ينفعُهم ، كأن المعنى لا ينفعهم ذلك جرَمَ
أَنَّهم في الآخِرةِ هُمُ الَأخْسرون ، أي كَسَبَ ذلكَ الفعلُ لهم الخسرانَ ثم
ضرب اللَّهُ مثلاً للمؤمنين والكافرين فقال :
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم لأنهم في عداوتهم وتركهم التفهم
كمن لا يسمع ولا يبصر.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
كسر إنَّ في القراءة على معنى قال لهم إنِّي لكم نذير مُبين ، ويجوز
أَنِّي لكم نذير مبينٌ على معنى : لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بالِإنذار أنْ لاَ تَعْبُدوا إِلَّا اللَّه إِنِّي أنذركم لتُوَحدوا اللَّهَ ، وأن تَتْركوا عبادَة غيره.
(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
يجوز في غير القراءة : إني أخاف عليكم عذاب يومٍ ألِيماً ، لأن الأليم
صفة للعذاب ، وإنما وصف اليوم بالألم ، لأن الألمَ فيه يقع ، والمعنى عذاب
يومٍ مُؤلمٍ ، أي مُوجِعٍ.
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)

(3/46)


(الملأ) رُوسَاء القَوْمِ وكبراؤهم الَّذِينَ هم مُلاءٌ بالرأي وبما يحتاج إليه
منهم.
أي فأجابوه بهذا الجوابِ وَالْقوْلِ.
(مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا).
أي ما نراك إلا إنساناً مثلنا ، (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا).
أي لم يتَبِعْكَ الملأُ مِنا ، وإنما اتبعك أخِسَّاؤُنا.
وقوله : (بَادِيَ الرَّأْيِ).
بغبر همزٍ في بادي ، وأبو عَمْروٍ يهْمِزُ بَادِئَ الرأي ، أي اتبعوا اتباعاً في
ظاهر ما يرى ، هذا فيمن لم يهْمزْ ، ويكون التفسير على نوعين في هذا
أحَدهمَا أن يكون اتبعُوكَ في الظاهر ، وبَاطِنُهم عَلَى خلاف ذلِك.
ويجوز أن يكونَ اتبعوك في ظاهر الرأي ولم يتَدَبًرُوا مَا قُلتَ ولم يفكًرُوا فيه وقراءة أبي عمرو على هذا التفسير الثاني.
أي : اتبعوكَ ابتداء الرأي ، أي حين ابتدأوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك.
فأما نصب بَاديَ الرأيِ فعلى : اتبعوك في ظاهر الرأي ، وعلى ظاهر
الرأي ، كأنَّه قال : الاتباع الذي لم يفكروا فيه.
ومن قال باديَ الرأي فعلى ذلك نَصَبَه.
* * *
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
(فَعَمِيَتْ)
كذا أكثر القراءة - بفتح العين والتخفيف - وقد قرِئَتْ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ -
بضم العَيْن وتَشْدِيد الميم -
هذا ما أجابهم به في أن قالوا : إن الذين اتبعُوكَ إنما اتبعوك غير

(3/47)


محقِّقِين . فأعلمهم أنهم مُحَققونَ بهذا القول لأنه إذا كان على بَينةٍ ، ممن آمن
به فعالِمٌ بَصِير مَفْضُول له ، وأن من لم يفهم البينَةَ فقد عَمِيَ عليه الصواب.
وقوله : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ).
أي فعَمِيتِ البينَةُ عليكم
(أَنُلْزِمُكُمُوهَا).
القراءة بضم الميم ، ويجوز إسْكانُها عَلَى بُعْدٍ لِكثْرةِ الحركات وثقَل
الضَمَّةِ بعدَ الكسرة.
وسيبَوَيه والخليل لا يُجيزَانِ إسكانَ حرف الإعراب إلا في اضطرارٍ.
فأما ما رُوِيَ عن أبي عَمْرو مِن الِإسْكانِ فلم يُضبْط ذلك عنه ، ورواه
عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركات ويختلسها ، وهذا هو الوجه.
* * *
وقوله : (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ).
وَإذَا لَاقُوا ربًهُمْ جَازَى مَنْ ظَلَمهُمْ وطردَهُم ، بجزائِه من العَذَاب.
* * *
وقوله : (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
(وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا).
(تَزْدَرِي) تستسفِل وتستخس.
يقال : ززيْت على الرجُل إذَا عِبْتُ عَلَيْه وخسَّسْتَ فِعْلَه.
وأزْريْتُ إذَا قَصَّرتُ به وتَزْدَرِي أصله تزتَرِي بالتاء ، إلا أن هذه
التاءَ تبدل بعد الزَّاي دَالًا ، لأن التاء من حروف الهمس ، وحروف الهمس
خفيَّة فالتاء بعد الزاي تخفى ، فأُبدِلَتْ منها الدال لِجَهْرِهَا ، وكذلك يفتعل من الزينة يَزْدَان ، تقول : أنت تزدان يا هذا.
وقوله : (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا).

(3/48)


لأنهم قالوا : (اتَبَعَكَ أرَاذِلُنَا).
وقوله : (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ).
أي إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعُوني في ظَاهِر الرَّأْي والذي أدعو إليه
توحيد اللَّه ، فإذا رأيت من يُوَحد الله جل ثناؤه عملتُ على ظاهره ، واللَّه أعلم بما في نفْسِه ، لا يعلم الغيب إلَّا اللَّه.
* * *
وقوله : (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
(فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ويقرأ فأكْثرتَ جَدَلنا ، والجَدَل والجِدال المبالَغة في الخصُومةِ
والمنافَرة ، وهو مأخوذٌ مِنَ الجَدْل وهو لتعدة الفتْل ، والصَّقْر يقال له أَجْدَل لأنَّه من أشَدِّ الطير.
* * *
وقوله : (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
(يُغْوِيَكُمْ) يُضِلكم ويهلككم.
* * *
وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
معناه بل أيقولون افتراه.
(قل إن افتَريتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِي).
من قولك أجرم الرجل إجرَاماً ، ويقال جَرمَ في معنى أجْرَمَ ، وأكثر ما
تستعمل أجرم فِي كَسْبِ الِإثم خاصَّةً يقال رجل مجْرِم وجَارم.
ويجوز فَعَليَّ أَجْرامي على جمع جُرْم وهو على نحو قوله :
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) وأَسْرَارَهُمْ إلا أن القراءة بكسر الألف.
وإجرامي على المصدَرِ.
* * *
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
فلذلك - واللَّه أعلم - استجارَ نوح بقوله : (لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27).

(3/49)


أعْلِمَ أنَّهم لَا يَلدُون إلاً الكَفَرةَ.
بقوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
مَعْناهُ لا تحزن ولا تَسْتَكِنْ.
* * *
وقوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
الفلْك السفينة ، والفَلَك يكون واحداً ويكونُ جمعاً كما أنهم قالوا أَسَدٌ
وأُسْد ، قالوا في الواحد فَلَك وفي الجمع فلْك ، لأن فَعْلا وفَعَلا جمعها واحدٍ
ويأتيان بمعنى كثيراً ، يقال العُجْم والعَجَم ، والعُرْب والعَرَبِ والفُلكْ والفَلَكَ.
والفَلْكة يُقَال لكلّ شيءٍ مسْتَديرٍ أو في استدارة.
ومعنى : (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا).
أي بإبْصَارنا إليْكَ وحفظنا لك ، وبما أوحيْنا إليْك
(وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).
المعنى : لا تخاطبني في إمهال الذين كفروا إنهم مغرقون.
ثم أخبر اللَّه - جَلً ثناؤه - بعَمله الفلك فقال :
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
يقال في التفسير إنهم كانوا يَقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي مُرْسَل صار
نجَّاراً ، فقال : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ).
أي نحن نستجهِلكُمْ كما تستجهلوننا ، ثم أعْلَمَهمْ بِمَا يَكون عاقبة
أمْرِهم فقال :

(3/50)


(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
أي فسوف تعْلَمون من هو أحق بالخْري ، ومن هو أحْمدُ عاقِبةً.
* * *
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
أعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - نوحاً أنْ وَقْتَ إهلاكهم فَوْرُ التَّنُور.
وقيل في التَّنُور أقْوالٌ . قيل إن التَّنُورَ وجه الأرْض.
ويقال إن الماء فارَ من ناحيةِ مَسْجد الكُوفَةِ
ويقال إن الماء فار من تَنُورِ الخابزَةِ ، وقيل التَنُور تنوير الصبْح.
والجملة أن الماء فار من الأرض وجاءَ من السَّماء قال اللَّه - جلَّ وعزّ -
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12).
فالماء فَوْرُه من تَنُّورٍ أو من ناحية المسجد أو من وجه الأرض ، أو في
وقت الصبح لا يمنع أن يكون ذلك العلامةَ لِإهلاكِ القوم.
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).
أي : من كل شيء ، والزوج في كلام العرب واحدٌ ويجوز أن يكون معه
واحد ، والاثنان يقال لهما زَوْجَانِ يقول الرجل : على زوجان من الخفاف.
وتقول : عِنْدي زوجان من الطير ، وإنما تريد ذكر أو أنثى فقط.
وتقرأ من كلِّ زوجين - على الِإضافة - والمعنى واحد في الزَوْجين أضَفْتَ أم لم تضِفْ.
(وَأهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ).

(3/51)


أي واحملْ مَنْ آمَن ، ويقال إن الذين آمنوا معه كانوا ثمانين نفساً.
فقال تعالى : (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).
لأن ثمانمين قليل في جُمْلَةِ أُمَّةِ قَوْمِ نوحِ.
* * *
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
أي باللَّهِ تجري ، وبه تستقرُّ.
ومعنى قًلْنَا بِاسْمِ اللَّه أي باللَّه.
وقد قرئت على وجوه ، قرئت مَجْرَاها بفتح الميم ، ومُرسَاهَا بضم
الميم . وقرئت مُجْراها ومُرْسَاها بضم الميمين جميعاً . ويجوز مَجْرَاها
ومَرْسَاها ، وكل صواب حسن.
فأما من قرأ مجراها بفتح الميم ، فالمعنى جَرْيُها ومُرْسَاها المعنى وباللَّه
يقع إرساؤها ، أي إِقْرارها.
ومن قرأ مُجْراها ومُرْسَاهَا . فمعنى ذلك باللَّه إجرأؤها وباللَّه إِرْسَاؤها يقال : أجريته مُجْرى وإجْراءً في معنى واحد.
ومن قال مَجرَاها ومَرسَاهَا ، فهو على جَرَتْ جَرْياً ومَجرى ، وَرَسَتْ رسُوَّا ومَرْسىً.
والْمُرسَى مستقرها.
والمعنى أن الله جلَّ وعزَّ أمَرَهُمْ أن يُسَمُّوا في وقت جريها ووقت
استقرارها.
ومُرْساها في موضع جر على الصفة للَّهِ - جلَّ وعزَّ -.
ويجوز فيه شيء لم يقرأ به ولا ينبغي أن يقرأ به لأن القراءة سنة متبعة :

(3/52)


باسم اللَّه مُجْرِيَها علي وَجْهيْنِ :
أحدهما الحال ، المعنى مُجْرِياً لَهَا ومُرْسِياً لها.
كما تقول مررت بزيدٍ ضَارِبَها على الحال.
ويجوز أن يكون منصوباً على
المدح ، أعني مُجرِيَها ومُرْسِيَهَا.
ويجوز أن يكون مُجْرِيها ومُرْسِيها في موضع
رفع على إضمار هو مجريها ومرسيها.
* * *
وقوله : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
قيل إن السَّمَاءَ والأرضَ التقى ماؤهما فطبق بينَهُمَا وجرت السفينة في
ذلك الماء.
وقوله : (وَهِيَ تَجْرِيِ بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجِبَالِ).
إن الموج لا يكون إلا فوقِ الماء ، وجاء في التفسير أن الماء جَاوَزَ كل
شيء خَمَسَةَ عَشَر ذِرَاعاً ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ : (فالْتَفَى الماءُعلى أمْرٍ قَدْ
قُدِرَ).
فجائز أن يكون يلتقي ماء السماء وماء الأرض وما يطبق ما بينهما.
وجائز أن يطبق ما بينهما.
والموج تَمَوُّجُ المَاءِ ، وأكثر ما يُعْرَفُ تكونُه في عُلُوِّ الماء ، وجائز أن
يتموج داخل الماء . .
والرواية في السفينة أكثر ما قيل في طولها أنه كان ألفاً ومائتي ذراع.
وقيل ستمائة ذراع . وقيل إن نوحاً بعث وله أربعون سنةً ولبث في قومه كما قال الله - جل ثناؤه - ألْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسين عَاماً . .
وعمل السفينة في خمسين سنة ولبث بعد الطوفان ستين سنة .

(3/53)


وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ).
يجوز أن يكون كان في معزل من دينه ، أي دين أبيه ويجوز أنْ يكونَ
- وهو أشبه - أن يكون في معزل من السفينة -
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا).
الكسر أجود القراءة أعني كسر الياء ، ويجوز كسرها وفتحها من
جهتين ، إحداهما أن الأصل با بُنَيي ، والياء تحذف في النداء ، أعني ياء
الِإضافة ، وتبقى الكسرة تدل عليها ، ويجوز أن تحذَفَ الياء لسكون الراء منَ
ارْكبْ ، وتقَرُّ في الكتاب على ما هي في اللفظ.
والفتح من جهتين ، الأصل يا بُنيَّا فتبدل الألف من ياء الِإضافة.
العرب تقول : يا غلاما أقبل ، ثم تحذف الألف لسكونها وسكون الراء.
ويقَرُّ في الكتاب على حذفها في اللفظ ويجوز أن تحذف ألف النداء كما تحذف ياء الإضافة ، وإنما حذفت ياء الإضافة وألف الِإضافة في النداء كما يحْذَفُ
التنوين ، لأن ياء الِإضافة زيادة في الاسم كما أن التنوين زيادة فيه ، ويجوز
وجه آخر لم يقرأ به وهو إثبات الياء ، يا بُنَيِّي ، وهذه تَثْقُل لاجتماع الياءات.
* * *
(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
أي يمنعني من الماء ، والمعنى من تَغْرِيقِ الماء
(قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ).
هذا استثناء ليس من الأول ، وموضع " مَنْ " نَصْبٌ المعنى لكن مَنْ رَحم
اللَّهُ ، فإنه مَعْصُوم ، ويكون (لاَ عَاصِمَ) معناه لا ذَا عِصْمَةٍ ، كما قالوا : (عِيشَة رَاضِيَةٌ) ، مَعناه مُرْضية وجاز راضية على جهة النسب أي في عيشةٍ ذات رضا .

(3/54)


وتكون " من " " على هذا التفسير في موضع رفع ، ويكون المعنى لا مَعْصُومَْ
إلا المرحوم.
وقوله : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
(وَغِيضَ الْمَاءُ).
يقال غاض الماء يغيض إذا غاب في الأرض ، ويجوز إشْمامُ الضَم في
الغين.
(وَقُضِيَ الأمْرُ) أي هلاك قوم نوح.
(وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ).
والْجُودِيّ جبل بناحية آمِدَ.
* * *
وقوله : (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
قرأ الحسنُ وابنُ سيرين " عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ " وكان مذهبُهمَا أنه ليس
بابنه ، لم يولد من صلبه ، قال الحسن : واللَّه ما هو بابنه.
وقال ابن عباس وابن مسعود إنه ابنه ، ولم يبتل اللَّه نبِيا في أهْلِه بمثلِ هَذِه البَلْوَى.
فأمَّا من قرأ : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).
فيجوز أن يكون يعني به أنه ذو عمل غير صالح ، كما قالت الخنساء.
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت . . . فإنما هي إقبال وإدبار

(3/55)


أي ذات إقبالٍ ، وقد قال اللّه - عزَّ وجلَّ - (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) فنسبه إليه.
وللقائلِ أن يقول نسبه إليه على الاستعمال ، كما قال اللَّه - جلَّ وعزَّ -
(أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) ، فنسبهم إليه على قولهم ، واللَّهُ لا
شريك له ، ولكن الأجودَ في التفسير أن يكون : إنه ليس من أهلك الذين
وَعَدْتكَ أن أنَجِّيَهُمْ ، ويجوز أن يكون (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)
إنَّه لَيْسَ من أهلِ دينِك.
* * *
(فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
ويقرأ " فلاتسألَنَّ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ".
* * *
وقوله : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
المعنى وأرْسلنا إلى عادٍ أخاهُم هُودًا.
وقيل أخاهم من جهتين :
إحْدَاهُما أنه منهم وبيِّن بلسانهم ، والأخرى أنه أخوهم من ولد آدم ، بشر
مثلهم .

(3/56)


(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
وإن شئت غَيرِه ، غيرِه من نعت الِإله ، و " غَيْرُه " على معنى ما لكم إلهٌ
عيرُه.
* * *
(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
كان أصابهم جَدْبٌ فاعْلَمَهُم أنَّهم إن اسْتَغْفَرُوا ربَّهُمْ وتابوا أرسل السماء
عليهم مدراراً.
والتوبة الندم على ما سلف ، والعزمُ على ترك العَوْدِ في الذنوب.
والإقامةِ على أداء الفرائض.
وَنصب (مِدْرَاراً) على الحال ، كأنَّه قال يرسل السماء عليكم دارَّة ، ومعنى
مدرار المبالغة ، وكان قومٌ هودِ - أعني عاداً - أهلُ بساتين وزُرُوع وعَمَارَةٍ.
وكانت مساكنهم الرمالَ التي هي بين الشام واليَمَن ، فدعاهم هودٌ إلى
توحيد اللَّه واستغفاره وترك عبادة الأوثان ، فلم يطيعوه وتوعدهم بالعذاب
فأقاموا على كفرهم ، فبعث الله عليهم الريح ، فكانت تدخل في أنوفهم
وتخرج من أدْبَارِهم وتُقَطعُهمْ عُضْواً عُضْواً
(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا).
أيْ يزِدْكم قوةَ في النعمة التي لكم
ويجوز أن يكون : ويزدكم قوةً في أبْدَانِكُمْ.
* * *
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
أي ما نقول إلا مسَّك بعض أصنامنا بجنونٍ ، بِسَبِّكَ إيَّاهَا فقال لهم

(3/57)


(إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
وهذه من أعظم آيات الرسُل أن يكون الرسول وَحْدَه ، وأمتُه متعاونة
عليه ، فيقول لها : كِيدُونِي ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ، فلا يستطيِع وَاحدٌ مِنهم ضَرَّه.
وكذلك قال نوحٌ لِقَوْمِه : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71).
وقال محمد - صلى الله عليه وسلم - (فَإنْ كَانَ لَكمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ).
فهذه هن أعظم آيات الرسل وأدَلَّها على رِسَالَاتِهِمْ.
* * *
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
(مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)
أي هي في قبضتِه ، وَتَنَالُهَا بِمَا تَشاء قُدرَتُه ، ثم قال :
(إن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
أي هو سبحانه وإن كانت قَدْرَته تنالها بما شاء ، فهو لا يشاء إلاَّ
العَدْل.
* * *
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
المعنى فإن تَتَولًوْا.
(فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ).
فجعل (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) في موضع قَدْ ثَبتَتِ الحجة عليكم
(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ).
* * *
وقوله : (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
(نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)
يحتمل أن يكون بما أرَيْنَاهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة ،

(3/58)


ويحتمل أن يكون (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي لا ينجو أحد وإن اجتهد إلا برحمة من
اللَّه - جلَّ وعزَّ -
(وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ).
أي مما عُذب بِهِ قوم عاد الكفار في الدنيا ومما يُعذبُونَ به في الآخرة.
* * *
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
" أَلَا " ابتداء وتنبيه . وَ (بُعْدًا) منصوب على أبْعَدَهُمُ اللَّه بُعْدًا، ومعنى
بُعْدًا أي بُعْدًا من رحمة اللَّه.
* * *
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
المعنى : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً . وثمود لم ينصرف لأنه اسمِ
قبيلة ، ومن جعله اسماً للحيِّ صرفه وقد جاء في القرآن مصروفاً :
(الا إنَّ ثَمُودًا كَفَروا رَبَّهُمْ).
* * *
(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
ثم بين ما هي فقال :
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً).
يقال : إنها خرجت من حَجَرٍ ، وفي هذا أعظم الآيات ، ويقال إنها
كانت تَرِدُ المَاء لا تَرِدَ الماء معها دَابةٌ ، فإذا كان يوم لا تَرِد ، وردَتْ الوَارِدَةُ
كلها.
وفي هذا أعظَمُ آية .

(3/59)


ونَصْبٌ آية على الحَال.
المعنى إن قال هذه نَاقَةُ اللَّهِ آيةً أو آية لكُمْ.
فكأنه قال : انتبهوا لها في هذه الحالة.
والآية العلامة.
(فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
وتأكل من أرض اللَّهِ ، فمن قرأ تَأكلْ بالجزم فَهوَ جَوَابُ الأمر.
وقد بيَّنَّا مثله في سورة البقرة ، ومن قرأ تأكلُ فمعناهُ فذروها في حال أكلها . ويجوز في الرفع وجه آخر ، على الاستئناف.
المعنى فإنها تأكل في أرض اللَّه.
(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ).
(فَيَأْخُذَكُمْ) جواب النَهْيِ ، والمعنى عذاب يَقْرُبُ مِمن مَسَّها بالسُّوءِ.
أي فإن عقرتموها لم تُمْهَلُوا.
* * *
(فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فأهلكوا بَعْدَ الثلاثِ ، وَقَدْ بيَّنا في الأعراف كيف أهلكوا.
* * *
وقوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
معناه كان لم ينزلوا فيها.
قال الأصْمعي : المَغَانِي المَنازِل التي نزلوا بها.
يقال غَنِينَا بمكان كذَا وكَذا إذَا نَزَلوا به.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
بالبشر ى ، بالولد.
(قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ).
وقَالوا سَلاَمٌ ، يُقْرأ أن جميعاً ، فأما قوله (سَلاماً) فمنصوبٌ على سَلَمْنا
سَلاَماً ، وأما سَلاَمٌ فمرفوع على معنى أمري سَلاَمٌ
(وَمَنْ قَرَا سَلامٌ) فمرْفُوعٌ عَلَى أمري سلام.

(3/60)


أي لَسْتُ مُرِيداً غير السلامة والصفح
(فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).
أي ما أقام حتى جاء بعجل حنيذٍ.
والحنيذ المشويُّ بالحِجَارَة
وقيل : الحنيذ المشوي حَتَّى يَقْطُرَ.
والعربُ تقولً : احْنِذِ الفرس أي اجعل عليه الجُلَّ حَتَّى يقطرَ عَرقاً.
وقيل الحنيذ المشوي فقط.
وقيل : الحنيذ السَّمِيطُ.
ويقال حَنَذَته الشمس والنار إذَا شوته.
* * *
(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
لم يأكلوا لأنهم ملائكة ، ويقال إنهم كانت العلامةُ لديْهم في
الضيفان إذا قصدوا لِخيْرٍ الأكلَ.
يقال : نكِرْت الشيءَ وأنكرت ، ويقل في اللغة أنكر ويَقِل منكور.
والكلام أنكر ومنكور.
و (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).
معناه أضمر منهم خوفاً
(قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ).
ألا تراه قال في موضع آخر : (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33).
* * *
(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
يروى أنها ضحِكتْ لأنها كانت قالت لإبراهيم : اضْمُمْ لوطاً ابنَ أخيك

(3/61)


إليْك ، فإني أعلمُ أنه سينزل بهؤلاء القومِ عذابٌ ، فضحكت سروراً لمَّا أتى
الأمر على ما تَوَهَّمَتْ.
فأما مَن قال : ضحكت : حَاضَتْ فليس بشيء
(فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ).
يقرأ يعقوبُ ويعقوبَ - بالرفع والنصب
وفي هذه البشارة بشارة بالوَلَدِ وَوَلَد الوَلَدِ ، يقالُ هذا ابني من الوراء.
أي هذا ابن ابني.
فبشرناها بأنها تلد إسحاق وأنها تعيش حَتَى ترى وَلَدَه.
وروينا في التفسير أن عُمْرَهَا كان تسعاً وثمانين ، وأن عمر إبراهيم كان
تسعاً وتسعين في وقت البشارة.
فأما من قرأ : (وَمِن وراءِ إسحاقَ يعقوبَ) ، فيعقوب في موضع نصب
محمول على موضع فبشرناها بإسحاق ، محمول على المعنى ، المعنى : وهبنا
لها إسحاق ووهبنا لها يعقوب.
ومن قرأ يَعْقُوبُ فرفْعُه على ضربين ، أحدهما الابتداء مَؤخَّراً ، معناه
التَّقديم ، والمعنى ويعقوب مُحْدَثٌ لها من وراء إسحاق.
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفعل الذي يعمل في " مِنْ وَرَاء "
كأنَّه قال وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب.
ومن زعم أن يعقوب في موضع جر فخطأ زعمُه ، ذلك لأن الجارَّ
لا يفصلُ بينه وبين المجرور ، ولا بينه وبين الواو العاطفة ، لا يجوز مررت بزيد

(3/62)


في الدارِ ، والبيْتِ عَمْروٍ ولا في البيتِ عَمْرو ، حتى تقولَ وَعَمروٍ في
البيت.
* * *
(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
المصحف فيه يا ويلتي بالياء ، والْقِراءَة بالألف ، إن شِئت على
التضخيم ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الِإمَالة.
والأصل يَا ويلَتِي فَأبْدِلَ من الياء والكسرةِ الألف ، لأن الفتح والألف
أخف من الياء والكسرة.
ويجوز الوقف عليه بغير الهاء.
والاختيار أنْ يوقف عليه بأنهاء ، يا ويلَتَاهُ.
فأمَّا المصحف فلا يخالف ، ولا يوقف عليه بغير الهاء ، فإن اضطر
واقف وقف بغير الهاء.
فأمَّا الهمزتان بعد " يَا وَيلَتَى " ففيهما ثلاثة أوجه ، إن شئت حَقَّقْتَ الأولى
وخَفَّفْتَ الثانيةَ ، فقلتَ يا وَيلَتَى أألِدُ ، وإن شئتَ - وهو الاختيار خفَّفْت الأولى وخفَّفْتَ الثانية فقلت يا وْيلَتَى آلِدُ ، وإن شئت حَقَّقْتَهُما جميعاً فقلت أَألدُ
وتحقيق الهمزتين مذهب ابن أبي إسحاق.
(وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً).
القراءة النصب وكذلك هي في المصحف المجمع عليه ، وهو منصوب
على الحال ، والحال ههنا نصبها من لطيف النحو وغامضه.
ذلك أنك إذَا قلت هذا زيد قائما ، فإن كنت تقصد أن تخبر من
يعرف زيداً أنه زيدٌ لم يجز أن تقول : هذا زيد قائماً ، لأنه يكون زيداً ما دَام

(3/63)


قائماً ، فإذا زال عن القيام فليس بزيدٍ ، وإنما تقول ذاك لِلذي يعرف زيداً : هذا زيدٌ قَائِماً فيعمَلُ في الحال التنبيه ، والمعنى انتبه لزيد في حال قيامه.
وَأشِيرُ لك إلى زيد حال قيامه ، لأن " هذا " إشارة إلى ما حضر ، فالنصب الوجْهُ كما ذكرنا ويجوز الرفع.
وزعم سيبويه والخليلُ أن النصبَ من أربعةِ أوْجهٍ :
فوجه منها أن تقول : هذا زيد قائم فترفع زيداً بهذا وترفع قائماً خبر
ثانياً ، كأنك قلت : هو قائم أو هذا قائم.
ويجوز أن تجعل زَيْداً وقَائِماً جميعاً خبرين عن هذا فترفعهما جميعاً
خبراً بهذا ، كما تقول : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ تريد أنه جمعَ الطعمين.
ويجوز أن تجعلَ زيداً بدلاً من هذَا ، كأنك قلت زيد قائم.
ويجوز أن تجعل زيداً مبَيِّناً عن هذا ، كأنك أردت : هذا قائم ، ثم بينت
من هو بقولك زيد.
فهذه أربعة أوجه.
* * *
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
الرَّوْعُ : الفزغ . يعني ارتياعُه لمّا نكرهم حين لم يأكلوا من العِجل.
والرُّوع - بضم الراء - النفس.
يقال وقر ذلك في رُوعِي ، أي في نَفْسي ومن خَلَدِي.
(وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ).
يجادلنا حكاية حال قد مضت لأن " لَمَّا " جعلت في الكلام ، لِمَا قد وقعَ

(3/64)


لوقوعِ غَيرِه . تقول : لما جَاءَ زيد جاء عمرو.
وَيجوز لمَّا جاء زيد يتكلم وعمرو ، على ضربين :
أحدُهُمَا أن إنْ لما كانت شرطاً للمستقبل وقع الماضي فيها في مَعنى
المستقبل ، نحو إن جاء زيد جِئتُ . والوجه الثاني - وهو الذي أختارُه - أن
يكون حالًا لحكاية قد مضت.
المعنى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءَتْه البُشْرى أخَذَ
يُجَادِلُنا في قوم لوط ، وأقبل يجادِلنَا . ولم يذكر في الكلام أخذ
وأقبل ، لأن في كل كلام يخاطب به المخاطب معنى أخَذَ وأقْبَلَ إذَا أرَدْتَ
حكايةَ الحَالِ ، لأنك إذَا قلتَ : قام زيد ، دللت على فعل ماضٍ.
وإذا قلت أخَذ زيْدْ يَقُولُ دللت على حال ممتدة من أجلها ذكرتَ أخَذَ وأقْبَلَ . وكذلك جعل زيد يقول كذا وكذا ، وكَرَبَ يَقول كذا وكذا
وقد ذكرنا (الأوَّاه) في غير هذا الموضع ، وهو المبتهل إلى اللَّه
المتخشع في ابتهاله ، الرحيم الذي يكثر من التأوه خوفاً وإشفاقاً من الذنوب.
ويروى أن مجادلته في قوم لوط أنه قال للملائكة وقد أعلَمُوه أنهم
مُهلِكُوهم ، فقال أرأيتم إنْ كانَ فِيها خمسُونَ من المؤمنين أتهلكونَهُمْ
مَعَهمْ إلى أن بلغ خمسةً ، فقالوا لا ، فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36).

(3/65)


ويروى أنهم كانوا جَمْعاً كثيراً ، أكثرُ ما رُوِي فيهم أنهم كانوا أربعة
آلاف.
(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
المعنى جَادَلَنا فقلنا يا إبراهيم أعْرض عن هذا.
ويروى أن إبراهيم لَمَّا جَاءته الملائكةُ كان يعمَلُ في أرض له وكلما
عمل دَبْرَةً من الدِّبَارِ وهي التي تسمى المشارات غَرَّز بَالَتَهُ وصَلَّى ، فقالت
الملائكة حقيق على اللَّه أن يتَّخِذَ إبراهيم خليلاً.
* * *
وقوله : (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
معناه ساءَه مَجيئُهم ، لأنهم استضافوه فخاف عليهِمْ قومَه ، فلما مَشَى
معهُمْ قليلاً قال لهنَّ : إن أهل هذه القرية شَرُّ خلقِ الله وكان قَدْ عُهِدَ إلى
الرسُل ألَّا يهلكوهم حتى يَشْهَد عليهم لوط ثلاث مرات ، ثم جَازَ عليهم بعد
ذلك قليلاً ، وردَّ عليهم القول ثم فَعلَ ذلكَ ثالثةً ومَضَوا معه.
(سِيءَ بِهِمْ) أصله سُوِئ بهم ، من السّوءِ إلا أن الواو أُسكِنتْ وثُقِلت
كسرتها إلى السِّين ، ومن خفَّفَ الهمزة قال : سِي بِهِمْ (وضاق بهم ذَرْعاً). يقال ضاق زيد بأمْرِهِ ذَرْعاً إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مَخْلَصاً.
(وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ).

(3/66)


أي شديد ، فلما أضافهم مضت امرأته - عجوز السوء - فقالت لقومه إنه
استضاف لوطاً قومٌ ، لمْ أر أحْسنَ وجوهاً مِنْهُمْ وَلَا أطْيَبَ رَائِحةً ، ولا أنظف
ثياباً.
* * *
(وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
أي يسرعون في المجيء ، فراوَدوه عن ضيفه ، وحاولوا فتح بابه.
فأعلمته الملائكة أنهم رسل اللَّهِ وأن قومَه الفسقَةَ لن يصلوا إليهم.
فقال لهم لوط حين رَاوَدوه : (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي).
فقيل إنهم عُرِضَ عليهم التزويج ، وكأنه عرضه عليهم إنْ أسْلَمُوا
وقيل : (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي) : نساء أُمَّتِي ، فكأنَّه قال لهم التزويج أطهر لكم.
فلما حاولوا فتح البابِ طمس اللَّه أعْينَهمْ.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ).
ولما استعجلوه بالعذاب ، قالت لهم الرسل : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).
(هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)
القراءة بالرفع في أطْهر ، وقد رُوِيتْ عن الحسن هن أطهرَ لكم ، وعن
عيسى بن عمر.
وذكر سيبويه إنْ ابنَ مَروانَ لَحَن في هَذِه في نَصْبَهَا.
ْوليس يُجيز أحدٌ من البصريين وأصحَابِهِمْ نصبَ أطْهر ، ويجيزها

(3/67)


غيرهم . والذين يجيزونها يجعلون " هُنَّ " في هذا بمنزلتها في " كان " فإذا
قالوا : هؤلاء بَنَاتِي أطْهَر لَكم ، أجازوا هُنُّ أطهَر لَكمْ ، كما يجيزون كان زيد
هو أطهر مِنْ عَمْروٍ.
وهذا ليس بمنزلة كان . إنما يجوز أن يقع " هو " وتثنيتها وجمعها
" عماداً " فيما لا يتم الكلام إلا به ، نحو كان زيد أخاكَ.
لأنهم إنما أدخلوا " هُمْ " ليُعْلِمُوا أن الخَبَرَ لا بد منه ، وأنه ليس بصفة للأول . وباب " هذا " يتم الكلام بخبره ، إذا قلت : هذا زيد فهو كلام تام.
ولو جاز هذا لجاز جاء زيد هو أنْبَلُ من عمرو.
وإجماع النحويين الكوفيين والبصريين أنه لا يجوز قدمَ
زيد هو أنْبلَ مِنك حتى يرْفَعوا فيقولوا هو أنبل منك.
وبعد فالذين قرأوا بالرفع هم قُراءُ الأمْصارِ ، وهم الأكثر.
والحسن قد قرأ " الشياطون " والشياطون ممتنع في العربيةِ.
وقد قال بعضهم : إن المشركين في ذلك الدهر قد كان لهم أن يتزوجوا
من المسلمين.
* * *
وقوله : (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ).
أي بظلمةٍ من الليل . يقال : معنى قِطْع من الليل أي قطعةٍ صالحةٍ ،

(3/68)


وكذلك مَضى عِنْك من الليل ، وسعْوٌ مِنَ الليْلِ.
ويقرأ : (فَأسْرِ) بإثباتِ الهمزَةِ في " اللفظ ، ويقرأ : فَاسْرِ يقال أسْرَيْت
وسَرَيْت إذَا سِرْت ليلاً.
قال الشاعر :
سرَيْت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم . . . وحتى الجِيادُ ما يُقَدْن بأَرْسانِ
وقال النابغَة
أسرَتْ عَلَيْهِمْ من الجوزاء سارِية . . . تزْجِي الشمَال عليها جامدُ البَردِ
وقد روَوْا في هذا البيت سَرَتْ.
وقال اللَّه - جَل وعز - . : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ).
وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ).
يجوز فيه النصب والرفعُ فمن قرأ : (إِلَّا امْرَأَتَكَ) . بالنصْبِ فَعَلَى معنى

(3/69)


فأسر بأهلك (إِلَّا امْرَأَتَكَ) ، ومن قرأ بالرفع ، حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى : (ولا يلتفِتْ منكم أحدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ).
* * *
وقوله : (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
(جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا).
يقال إن جبريل جعل جناحه في أسْفَلِهَا ثم رَفَعها إلى السماء حتَى سمع
أهلُ السماءِ نُباحَ الكِلابِ وصِيَاح الدجَاجِ ، ثم قَلَبَها عَلَيْهِمْ.
(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
وقد قال الناس في سِجيل أقْوالًا ، ففي التفسير أنها مِنْ جِلٍّ
وحِجَارَة . وقال أهل اللغة : هو فارِسِي مُعرَّبٌ ، والعرب لا تعرف هذا . والذي عندي أنه إذَا كان هذا التفسيرُ صَحيحاً فهو فارِسي أعْرِبَ لأن اللَّه
- جلَّ وَعَزَّ - قد ذكر هذه الحجارة في قصة قوم لوط ، فقال :
(لِنُرْسِلَ عَليْهِمْ حِجَارةً مِنْ طِينٍ) فقد تبين للعرب ما عُنِيَ بـ سجيل.
وَمِنْ كلام الفرسِ ما لا يحْصَى مما قد أعْرَبتْهُ العَرَبُ.
نحو جاموس وديباج . فلا أنْكِرَ أن هذا مِما أعْرِبَ.
وقال أبو عبيدة معمرُ بنُ المثَنَّى : تأويله كسَيْرَة شديدة ، وقالَ إن مثل
ذلك قول الشاعر :

(3/70)


ورَجْلةٍ يَضْرِبون البَيْضَ عن عُرُضٍ . . . ضَرْباً تَوَاصَتْ به الأَبْطالُ سِجِّينا
والبيت لابن مُقْبِل ، وسِجين وسِجيل بمعنى وَاحدٍ.
وقال بعضهم :
سِجيل من أسْجَلتهُ أي أرْسَلْتَهُ فكأنَّها مُرْسَلَة عَلَيهْم.
وقال بعضهم من سِجيلٍ ، من أسْجَلْتُ إذا أعْطيتُ ، فجعله من السَّجْل
وهو الدلْو.
قال الفَضلُ بنُ عباس :
من يُساجِلْنِي يساجِل ماجداً . . . يَملأ الدلو إلَى عَقْد الكَربُ
وقيل من سِجيل كقولك مما سُجِّلَ أي مما كتب لهم ، وهذا القول إذا
فُسِّرَ فهُوَ أثبتها . لأن في كتاب اللَّه تعالى دَلِيلاً عليه.
قال - جلَّ وعزَّ - : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9).

(3/71)


سِجيل في معنى سِجين.
فالمعنى إنها حجَارَة مما كتب اللَّه - جل ثناؤه - أنه يُعَذَبُهُمْ بها.
وهذا أحْسنُ ما مَرَّ فيها عِنْدِي.
فامّا قوله : (مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ).
فمعناه أن بعضها يأتي مَعَ بَعْض كالمطرِ.
وأما (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) فروي عن الحسن أنها مُعْلَّمَة ببياض وحُمْرةٍ.
وقال غيرُه : مُسَوَّمَةً بعَلامَةٍ يعلم بها أنها ليست مِنْ حِجَارةِ أهْلِ الدنيا ، وتُعْلَم
بسيماها أنها مما عذب اللَّهُ بها.
(وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).
قِيلَ إنها ما هي من ظالمي هذه الأمة بِبَعِيدٍ.
* * *
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
المعنى أرسلْنا إلى أهل مَدين أخَاهُمْ شعَيْباً ، فحذف أهل وأقام مَدْين
مقامَه.
ومَدْين اسمُ المَدينة أو القبيلة فلذلك لم ينصرف.
* * *
وقوله : (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
ومعناه طاعة اللَّه (خيرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
ويجوز أنْ يكون مَعْنَاهُ الحال التي تَبْقَى لكم من الخير خير لكم.
* * *
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
ويقرأ : أصَلَواتك.
(تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا).
هذا دليل أنهم كانوا يعبدون غير اللَّه - جلَّ وعزَّ -
(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ).

(3/72)


المعنى إنا قَدْ تَرَاضَيْنَا بالبخس فيما بَيْنَنَا.
وفي التفسير أنَّه نهاهم أن يَحْذِفُوا الدرَاهِمَ . أي (أن) يكسروها.
(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).
قيل كنى بذَا عن أنهُمْ قالوا له : إنك السَّفِيهُ الجاهِل.
وقيل إنهُمْ قالوا له هذا على وجه السِّخرِيّ.
* * *
وقوله : (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وجواب الشرط ههنا متروك.
المعنى : إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي اتَّبعُ الضلاَلُز
فترك الجواب لعلم المخَاطَبينَ بالمعنى ، وقد مر ما تُرِكَ جَوَابُه لأنه
مَعْلُوم وشرحُه في أمكنتِه.
وقوله : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا).
أي : حَلالاً ، وقيل : . رزقاً حَسَناً ما وُفقَ لَه مِنَ الطاعَةِ.
(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ).
أي لست أنهاكم عن شيء وأدْخُلُ فيه ، وإنما أختار لكم ما أختار
لنفسي ، ومعنى " مَا أخَالِفُكَ إليه " ، أي ما أقصد بخلافك القَصْدَ إلى أن
أرْتكِبَهُ.
(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).
أي بقدر طاقَتِي ، وَقَدْرُ طَاقَتِي إبْلَاغُكم وإنذَارُكم ، ولست قادراً على
إجبَاركم على الطاعةِ.
ثم قال :

(3/73)


(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ).
فأعْلَمَ أنه لا يقدر هو ولا غيرُه على الطاعة إلاَ بتوفيق اللَّه.
ومعنى (إِلَيْهِ أُنِيبُ) إليه أرجع.
* * *
(وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
مَوضع أنْ نَصْبٌ ، المعنى لا تكْسِبَنَّكُمْ عداوتُكم إيَّايَ أنْ يُصيبَكم عذابُ
العاجلة (مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِي).
وكان إهلاك قوم لوط أقربَ الإهْلَاكات التي عرفوها ، فكأنَّه قال لهم :
العظةُ في قوم لوط قريبة مِنكم.
* * *
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
وكان ضرِيراً.
وحِمْيرُ تُسمَي المكفوف ضعيفاً ، وهذا كما قيل ضَرِير أي قد ضُر
بذهاب بَصَرِهِ ، وكذلك قد كُفَّ عن التصَرفِ بذهاب بصره.
(وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ).
أي لولا عشيرتك لرجمناك أي لَقَتلناك بالرجْم ، والرجم من سَيئ
القتلات ، وكان رهطه من أهل مِلَّتِهِمْ فلذلك أظهروا الميل إلَيْهِمْ والإكرام
لهم.
* * *
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
أي أنتم تزعمون أنكم تتركون قَتْلِي إكراماً لِرهْطِي - واللَّه - جلَّ وعزَّ -
أولى بأن يتبعَ أمْرُه.
(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا).

(3/74)


أىْ نَبَذْتُموه رَرَاءَ ظهوركم ، والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمْرٍ قد جعل
فلانٌ الأمر بظهره.
قال الشاعر :
تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي . . . بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
يروى أن جبريلَ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فماتوا في أمْكِنَتِهمْ ، فأصبحوا جاثمين
لا يقدرون على حركة قَدْ مَاتوا.
* * *
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
كان لم ينزلوا فيها ، يقال : غَنِينَا بِانمَكانِ اذَا أنزَلْنَا بِهِ).
(أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ).

(3/75)


(ألَا) حرف يُبتدأ الكلام به ، وهو تنبيه للمخاطب
ومعنى (بُعْدًا لِمدْيَنَ) أنهم قد بُعُدوا مِنْ رَحْمةِ اللَّهِ ، وهو منصوب على
المصدر ، المعنى أبْعَدَهُم الله فبعُدوا بعدًا.
ودليل ذلك : (كما بَعِدتْ ثَمُودُ).
ويجوز بعَدَت وَبَعُدَتْ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
أي بعلاماتنا التي تدل على صِحة نبوته.
(وَسُلْطَانٍ مُبينٍ).
أي وحجة بَينةٍ . والسُّلْطانُ إنَّما سُمِّيَ سُلْطَاناً لأنه حُجةٌ اللَّه في أرْضِه.
واشتقاق السلطان مِنَ السليط ، والسليط ما يُضَاءُ بِهِ ، ومن هذا قيلَ للزيْت
سَليط.
* * *
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
مَلؤهُ أشرافُ قوْمِهِ ، الَّذِينَ هم مِلَاءٌ بالرأيِ والمَقْدِرَة
(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).
أي استحبُّوا العَمَى علىَ الهُدَى.
* * *
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
يقال قَدَمْتُ القَوْم أقدُمُهُمْ قَدْماً وقُدُوماً إذَا تَقدْمتُهُمْ.
أي يقدُمُهم إلى النَّارِ ، ويدُل على ذلك قوله : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).

(3/76)


وقوله : (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
كل شيءٍ جعَلْتَه عَوْناً لِشَيْء وأسندتَ به شيئاً فقدْ رَفَدْتَه ، يقال عمدتُ
الحائِطَ وأسنَدْتُه ورَفَدْتهُ بمعنى واحدٍ ، والمرْفَدُ القَدَح العظيم.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
أي : من القُرى التي أهْلِكتْ قَائِمٌ قد بقيت حِيطَانُه ، نحو قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).
(وَحَصِيدٌ) مخسوف به ، وهي مأ قَد انمحى أثَرُه.
* * *
وقوله : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
(وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ).
معناه غير تخسير ، ومنه قوله (تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ) أي خسِرَت.
* * *
وقوله : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
فأعلم اللَّه - عَز وجل - أنه يحيي الخلق ويبعثهم في ذلك اليوم ويشهدوا به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
الذي يختاره النحويون : يوم يأتي لا تكلم نفس إلآ بإذنه . بإثبات الياء.
والذي في المصحف وعليه القراء القراءات بكسر التاء من غير ياء.
وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثِيراً.
وقد ذكر سيبويه والخليل أن العربَ تقول لا أدْرِ فتحذف الياء وتجتزي بالكسْرِ ، إلا أنَّهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال.
والأجود في النحو إِثبات الياء والذي أراه اتباع المصحف مع
إجماع القراء ، لأن القراءة سنة ، وقد جاء مثله في كلام العرب.
وهذة الآية فيها سؤال أكثر ما يَسْألُ عنه أهل الإلحاد في الدِّين فيقولون
لم قال : (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، و (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)

(3/77)


وقال في مواضع من ذكر القيامة (فَأقْبَلَ بَعْضهُمْ عَلَى بَعْضِ يَتَلَاوَمُونَ).
وقال : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)
وقال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ).
وقال (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ).
ونحن نفسر هذا على ما قالت العلماء المتقدمون في اللغة المسلمون
الصحيحو الِإسلام :
قالوا : قوله - عزَّ وجلَّ - : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)اللَّه عالم بأعمالهم
فَسألهُم سؤال توبيخ وتقرير لإيجاب الحجة عليهم.
وقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) أي لا يُسْألُ ليُعْلَمَ ذلك منه ، لأن اللَّه قد علم أعمالهم قبل أن يعملوها.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (لا ينطقون) ، أي لا ينطقون بحجة تجبُ لَهم ، وإنما يتكلمون بالإقْرارِ بذنوبِهِمْ ولَوْمِ بعضهم بعضاً وطَرْحِ بَعضِهِم
الذنوبَ على بعض ، فأمَّا التكلم والنطق بحجة لهم فلا ، وهذا كما تقول
للذي يخاطبك كثيراً وخطابه فارغ من الحجة : ما تكلمت بشيء ، وما نطقت
بشيء فسمي مَن تكلم بما لاحجةَ له فيه ، غير متكلم -
كما قال عزَّ وجلَّ : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهمْ لَا يُبصِرونَ) وهم يُبْصِرون وَيسْمعُونَ إلا أنهم في أنهم لا يقبلون ولا يُفكَرُونَ فيما يسمعون ولا يتأتَلونَ ، بمنزلة الصمّ.
قال الشاعر :

(3/78)


أصم عما ساءه سميعُ
فهذا قولٌ حسن.
وقال قوم : ذلك اليوم طويل وله مواضع ومواطن ومواقف ، في بعضها
يُمْنَعُونَ منِ الكلام وفي بعضها يطلق لهم الكلامُ.
فهذا يدل عليه (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
وكلا القولين حسن جميل.
* * *
(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
من شديد الأنين وقبيحه.
(وَشَهِيقٌ)
والشهيق الأنين الشديد المرتفع جدا.
وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوته
في النهيق.
وقوله تعالى : (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
(إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ).
فيها أربعة أقوال (1). قولان منها لأهل اللغة البصريين والكوفيين جميعاً.
قالوا : المعنى خالدين فيها إلا ما شاء ربك بمعنى سوى ما شاء ربُّك.
كما تقول : لو كان معنا رجل إلا زَيْداً أي رجل سوى زيدٍ ولك عندي ألف
درهم سوى الألفين ، وإلا الألفين اللذين لك عِنْدِي.
فالمعنى على هذا خالدين فيها مقدار دوام السَّمَاوَات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلو والزيادة كما قلت سوى الألفين اللتين عَليَّ.
وقالوا قولًا آخر : (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ولا يشاء أن يخرجهم منها ، كما
تقول أنا أفعل كذا وكذا إلا أن أشاء غير ذلك ثم تقيم على ذلك الفعل وأنت
قادر على غير ذلك ، فتكون الفائدة في هذا الكلام أن لو شاء يخرجهم لَقَدَرَ ، ولكنه قد أعلمنا أنهم خالدون أبداً.
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه :
ثم قال تعالى : {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلا ما شاء رَبَّكَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :
قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية ، واحتجوا بالقرآن والمعقول.
أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين : الأول : أنه تعالى قال : {مَا دَامَتِ السموات والأرض} دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ، ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة.
الثاني : أن قوله : {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون :
{لابثين فِيهَا أَحْقَاباً} [ النبأ : 23 ] بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة.
وأما العقل فوجهان : الأول : أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز.
الثاني : أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره ، لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم ، فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز ، وأما الجمهور الأعظم من الأمة ، فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية.
أما قوله : {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} فذكروا عنه جوابين : الأول : قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها.
قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات} [ إبراهيم : 48 ] وقوله : {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} [ الزمر : 74 ] وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم ، وذلك هو الأرض والسموات.
ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم ، فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً مجهولاً للأكثر ، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة ، أقصى ما في الباب أن يقال : لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به ، وحينئذ يحسن التشبيه ، إلا أنا نقول : لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع ، ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل ، فكذا ههنا.
والوجه الثاني : في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض ، ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار ، وما طما البحر ، وما أقام الجبل ، وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد ، علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع.
ولقائل أن يقول : هل تسلمون أن قول القائل : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات ، أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى ، فإن كان الأول ، فالإشكال لازم ، لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات ، ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب ، وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض ، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة ، فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع.
واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر ، وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين ، كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط : ألا ترى أنا نقول : إن كان هذا إنساناً فهو حيوان.
فإن قلنا : لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان ، أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان ، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً ، فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم ، فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً ، أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم.
فإن قالوا : فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة ؟
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً ، وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده ، فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر ، وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات.
وأما الشبهة الثانية : وهي التمسك بقوله تعالى : {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة.
الوجه الأول : في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء.
قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ألبتة ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه ، فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب ، وفي ضرب الأمثلة فيه ، وحاصله ما ذكرناه.
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف لأنه إذا قال : لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، معناه : لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب ، وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله : {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك ، فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً ، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.
الوجه الثاني : في الجواب أن يقال : إن كلمة {إِلا} ههنا وردت بمعنى : سوى.
والمعنى أنه تعالى لما قال : {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا ، ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله : {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} المعنى : إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها.
الوجه الثالث : في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار ، وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر ، أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة ، والمعنى : خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار.
الوجه الرابع : في الجواب قالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [ هود : 106 ] وتقريره أن نقول : قوله : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالدين فِيهَا} يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار.
الوجه الخامس : في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار ، بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء.
الوجه السادس : في الجواب قال قوم : هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار ، لأن قوله : {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم ، ثم قوله : {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع.
ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم ، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ، ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال : الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة ، وهذا كلام قوي في هذا الباب.
فإن قيل : فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها ، فما الدليل على فسادها ، وأيضاً فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء ، فإنه تعالى قال : {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إلا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ }.
قلنا : إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار ، ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار.
قلنا : أما حمل كلمة «إلا» على سوى فهو عدول عن الظاهر ، وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضاً ، لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ، ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار ، فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار ، وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء.
وأما قوله الاستثناء عائد إلى الزفير والشهيق فهذا أيضاً ترك للظاهر ، فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه ، وأما قوله المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير.
فنقول : لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض.
والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مراراً فبطل هذا الوجه ، وأما قوله إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء فنقول : أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال : إن أحداً يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار ، فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات.
أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع ، فوجب إجراؤها على ظاهرها فهذا تمام الكلام في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء قال : {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفساق من النار ، كأنه تعالى يقول أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد وليس لأحد عليَّ حكم ألبتة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 18 صـ 51 - 54}
وقال السَّمين :
وقوله تعالى : { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحال المقدرة . قلت : ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة ، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول ، بخلافِ هنا.
قوله : { مَا دَامَتِ } « ما » مصدرية وقتية ، أي : مدة دوامهما . و « دام » هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت.
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً ، أحدها : وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال : « فإنْ قلت : ما معنى الاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت : هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه ، بل يُعَذَّبون بالزمهرير ، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب ، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، والدليل عليه قوله : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ، وفي مقابله { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } ، أي : يَفْعل بهم ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاعَ له » . قال الشيخ : « ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء ، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء » . قلت : الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضاً.
الثاني : أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله : « خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ » والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها.
الثالث : أنه مِنْ قوله : « ففي النار » و « ففي الجنة » ، أي : إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة ، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة ، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة . وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما ، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة ، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها.
قال الشيخ : يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحابَ الأعراف ، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة «.
الرابع : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله : » ففي النار « و » ففي الجنة «؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ.
الخامس : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو » خالدين « ، وعلى هذين القولين تكون » ما « واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك ، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] والمراد ب » ما « حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار ، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف ، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً.
السادس : قال ابن عطية : » قيل : إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] ، استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط ، كأنه قال : إنْ شاء اللَّه ، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع «.
السابع : هو استثناءٌ من طول المدة ، ويروى عن ابن مسعود وغيره ، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } . وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة ، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى ، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين ، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود.
الثامن : أن » إلا « حرفُ عطفٍ بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك.
التاسع : أن الاستثناءَ منقطعٌ ، فيقدَّر ب » لكن « أو ب » سوى « ، ونَظَّروه بقولك : » لي عليك ألفا درهم ، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك « بمعنى سوى تلك ، فكأنه قيل : خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك . وقيل : سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه.
العاشر : أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا.
الحادي عشر : أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة.
الثاني عشر : أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر.
الثالث عشر : أنه استثناءٌ من قوله : » ففي النار « كأنه قال : إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك ، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.
الرابع عشر : أنَّ » إلا ما شاء « بمنزلة كما شاء ، قيل : كقوله : { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، أي : كما قَدْ سَلَفَ. اهـ (الدر المصون).

(3/79)


فهذان المذهبان من مذاهب أهل اللغة.
وقولان آخران :
قال بعضهم إذا حُشِرُوا وبُعِثُوا فهم في شروط القِيامَةِ فالاستثناء وقع من
الخلود بمقدار موقفهم للحساب.
والمعنى خالدين فيها ما دامت السَّمَاوَات والأرض إلا مقدار موقفهم للمحاسَبةِ.
وفيها قول رابع : أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً إلا ما
شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر.
وكذلك لأهل الجنة نعيمُ ما ذُكر ولهم ما لم يذكر مما شاء ربكَ.
ويدل عليه - واللَّه أعلم - عَطاءً غَيرَ مَجْذُوذٍ).
أي غير مقطوع.
قَالَ النابعةُ
تقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُه . . . وتوقِد بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ
يصف السيوف وأنها تقطع الدُّرُوع
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
أي نوفيهم ما يصيبهم من خير أو شر.
* * *
وقوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قرئت بتشديد النون وتخفيفها ، وقرئت " لَمَا " بتخفيف الميم ولَمَّا

(3/80)


بتشديدها (1).
فأمَّا تشديد " إنَّ " والنصب فعلى باب إنَّ ، وأما تخفيفها وترك
النصب على حاله فلأن " إنَّ " مشبهة بالفعل فإذا حذف منها التشديد بقي
العمل على حاله ، وأما تخفيف " لَمَا " فهو الوجه والقياس.
ولام لمَّا لام إن و " مَا " زَائدةٌ مؤكدة . لم تغيِّر المعنى ولا العمل.
وأمَّا التشديد في " لَمَّا " فزعم بعض النحويين أن معناه " لَمَنْ مَا " ثم انْقلبتْ النون ميماً فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت إحداها - وهي الوسطى ، فبقيت لَمَّا - وهذا القول ليس بشيء لأن " مَنْ " لا يجوز حذفها ، لأنها اسم على حرفين ، ولكن التشديد فيه قَوْلَانِ :
أحدهما يروى عن المازني.
زعم المازنى أن أصْلَها لَمَا ثم شددت الميم.
وهذا القول ليس بشيء أيضاً . لأن الحروف نحو " رُبَّ " وما أشبهها تخفف.
ولسنا نثَقل ما كان على حرفين فهذا منْتَقِض.
وقال بعضهم قولًا لا يجوز غيره - واللَّه أعلم - أن " لَمَّا " في معنى :
إلا . . كما تقول سألتك لَمَّا فعلت كذا وكذا.
وَإِلَّا فعلت كذا . ومثلهُ : (إنْ كل نَفْس لَمَّا عَلَيْهَا حَافِط).
معناه " إلا " وتأويل اللام مع " إن " الخفيفة إنما هو تأويل الجُحد والتحقْيقِ ، إلا أن " إنْ " إذا قلت إنْ زَيداً لَعَالم هي " مَا "
ولكن اللام دخلت عليها لئلا يُشْبِهَ المنفي المثبتَ فتكون المشددة بدخول اللام
عليها بمعنى المخففة إذَا دخلت عليها اللام.
فعلى هذاجاءَتْ " أن " الناصبة.
فجائز أن تكون " أنَّ " النَاصِبَةُ مِنْ حيث دخلت عليها اللام كما دخلت على إن غير الناصبة دخلت عليها " لَمَّا " ودخلت عليها " إلا " فصار الكلام في تخليص التحقيق له بمنزلة ما نفى عنه غير المذكور بعد " لما " ، ووجب له ما بعد " لَمَّا "
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } : هذه الآيةُ الكريمة مما تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً ، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً وتخريجاً ، وقد سَهَّل اللَّه تعالى ، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها.
فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم : « وإنْ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . وأمَّا « لمَّا » فقرأها مشددةً هنا وفي يس ، وفي سورة الزخرف ، وفي سورة السمآء والطارق ، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً : فروى عنه هشامٌ وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط ، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف . وتلخص من هذا : أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ : « وإنْ » و « لَمَا » مخففتين ، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ « إنَّ » وثَقَّل « لمَّا » ، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا « إنَّ » و « لمَّا » معاً ، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا « إنَّ » وخَفَّفا « لَمَّا » . فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين.
هذا في المتواتر ، وأمَّا في الشاذ ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر ، إحداها : قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب « وإنْ كل » بتخفيفها ، ورفع « كل » ، « لَمَّا » بالتشديد ، الثانية : قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم : « لمَّاً » مشددة منونة ، ولم يتعرَّضوا لتخفيف « إنَّ » ولا لتشديدها . الثالثة : قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك : « وإنْ كلٌّ إلا » : بتخفيفِ « إنْ » ورفع « كل » . الرابعة . قال أبو حاتم : « الذي في مُصْحف أبي { وإنْ مِنْ كلٍ إلا لَيُوَفِّيَنَّهم }.
هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة ، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً ، حتى قال أبو شامة : » وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات ، وتسهيلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها.
فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة ، وهي لغة ثانية عن العرب . قال سبويه : « حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول : » إنْ عمراً لمنطلقٌ « كما قالوا :
2711 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ
قال : » ووجهُه مِن القياس أنَّ « إنْ » مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل ، والفعلُ يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو : « لم يكُ زيد منطلقاً » { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } [ هود : 109 ] وكذلك لا أَدْرِ « . قلت : وهذا مذهبُ البصريين ، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ ك » إنْ « ، والأكثر الإِهمالُ ، وقد أُجْمع عليه في قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا [ مُحْضَرُونَ ] } ، وبعضُها يجب إعمالُه ك » أنْ « بالفتح و » كأنْ « ، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً ، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور ك » لكن «.
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في « إنْ » المخففةِ ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم ، بدليل هذه القراءة المتواترة . وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً قولَه :
2712 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ
قال الفراء : « لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى كقوله :
2713 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني . . . طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ
قال : » لأنَّ المكنى لا يَظْهر فيه إعرابٌ ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع « . قلت : وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر :
2714 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
و [ قوله ] :
2715 كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ . . . هذا ما يتعلق ب » إنْ « . وأمَّا » لَمَا « في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ » إنْ « الداخلةُ في الخبر . و » ما « يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] فأوقع » ما « على العاقل . واللام في » ليوفِّيَنَّهم « جوابُ قسمٍ مضمر ، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول ، والتقدير : وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم . ويجوز أن تكونَ هنا نكرةً موصوفةً ، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ ل » ما « والتقدير : وإنْ كلاً لخَلْقٌ أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم ، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ ل » إنْ «.
وقال بعضُهم : اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم ، ولمَّا اجتمع اللامان ، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما ب » ما « كما فُصِل بالألف بين النونين في » يَضْرِبْنانِّ « ، وبين الهمزتين في نحو : أأنت . فظاهرُ هذه العبارة أنَّ » ما « هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا ، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ » إنْ « فقال : » العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر ، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه ، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم ، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام «.
وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال : » واللامُ في « لَمَا » موطِّئةٌ للقسم و « ما » مزيدةٌ « ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام » إنْ « . وقال أبو شامة : » واللامُ في « لَمَا » هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية « وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية ، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو : » إنْ زيدٌ لقائم « وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية ، فلا يُقال إنها فارقة.
فتلخَّص في كلٍ من اللام و « ما » ثلاثة أوجه ، أحدها : في اللام : أنها للابتداء الداخلة على خبر « إنْ » . الثاني : لامٌ موطئة للقسم . الثالث : أنَّها جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيداً . وأحدها في « ما » : أنها موصولة . الثاني : أنها نكرة . الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللامين.
وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/ ، أحدها : ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة ، وهو أن الأصل : لَمِنْ ما ، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على « ما » الموصولة « أو الموصوفة كما تقرَّر ، أي : لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم ، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم » ما « وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً ، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال ، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى » لمَّا « . قال نصر ابن علي الشيرازي : » وَصَلَ « مِنْ » الجارة ب « ما » فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن ، فبقي « لمَّا » بالتشديد « . قال : و » ما « هنا بمعنى » مَنْ « وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } أي مَنْ طاب ، والمعنى : وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم ، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم ».
وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال : « حُذِفت الميمُ المكسورة ، والتقدير ، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم ».
الثاني : ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو : أن يكونَ الأصل : لمَنْ ما بفتح ميم « مَنْ » على أنها موصولة أو موصوفة ، و « ما » بعدها مزيدةٌ فقال : « فقلبت النونُ ميماً ، وأُدْغمت في الميم التي بعدها ، فاجتمع ثلاثُ ميمات ، فحُذِفَت الوُسْطى منهن ، وهي المبدلةُ من النون ، فقيل » لَمَّا « . قال مكي : » والتقدير : وإنْ كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم « ، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزَّجَّاج عن بعضهم فقال : » زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما ، ثم قلبت النون ميماً ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات ، فَحُذِفت الوسطى « قال : » وهذا القولُ ليس بشيءٍ ، لأنَّ « مَنْ » لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين «.
وقال النحاس : » قال أبو إسحاق : هذا خطأ ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ « مَنْ » فيبقى حرفٌ واحد « . وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال : » إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو « قدم مالك » فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ « قال : » على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في « لَمَنْ ما » ولم يُحذفْ منها شيءٌ ، وذلك في قولِه تعالى :
{ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] ، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ « . قلت : اجتمع في » أمم ممَّن مَعَك « ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن » أمماً « فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم » مِنْ « ومعنا نونان : نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما ، ومعنا ميم » معك « ، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها ، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين ، واثنتان نون.
واستدلَّ الفراء على أن أصل » لَمَّا « » لمِنْ ما « بقول الشاعر :
2716 وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً . . . على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم
وبقول الآخر :
2717 وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه . . . إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ
قلت : وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم } [ آل عمران : 81 ] بتشديد » لمَّا « أن الأصل : » لمن ما « فَفُعل فيه ما تقدَّم ، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته ، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه ، فعليك بالنظر فيه.
وقال أبو شامة : » وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] إن أصله : لكن أنا ، ثم حُذِفت الهمزة ، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون ، وكذا قولهم : « أمَّا أنت منطلقاً انطلقت ، قالوا : المعنى لأِنْ كنتَ منطلقاً » . قلت : وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ ألبتَّةََ ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ ، ثم حُذف ، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ.
ثم قال أبو شامة : « وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت » يعني الفراء ، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي/ التخفيف والتشديدِ مِنْ « لمَّا » في معنى واحد فقال : « ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء { والبغي يَعِظُكُمْ } [ النحل : 90 ] . بحذف الياء عند الياء ، أنشدني الكسائي :
2718 وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا . . . لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا
فحذف ياءَه لاجتماع الياءات » . قلت : الأَوْلى أن يُقال : حُذِفت ياءُ الإِضافة مِنْ « لديّ » فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في « لدى » وهو مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ { يا بني } بالإِسكان على ما سَبَق ، وأمَّا الياء مِنْ « يتباشرون » فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفراء : « ومثلُه :
2719 كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ . . . يريد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام ».
قلت : توجيهُ قولهم : « من آخرها إلقادم » أن ألف « إلى » حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين ، وذلك أن ألف « إلى » ساكنة ولام التعريف من « القادم » ساكنةٌ ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجاً ، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان : لامُ « إلى » ولامُ التعريف ، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه ، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف « إلى » غير الهمزة فاتصلت بلام « القادم » فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها ، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها : « ءِ القادم » بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع.
قال أبو شامة : « وهذا قريبٌ مِنْ قولهم » مِلْكذب « و » عَلْماءِ بنو فلان « و » بَلْعنبر « يريدون : من الكذب ، وعلى الماء بنو فلان ، وبنو العنبر » . قلت : يريد قوله :
2720 أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً . . . غيرُ الذي [ قد ] يُقال مِلْكذب
وقول الآخر :
2721 - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ . . . ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ
وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ « مِنْ » لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد : مِلكذبِ.
الثالث : أنَّ أصلَها « لَما » بالتخفيف ثم شُدِّدت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان . قال الزَّجَّاج : « وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين ، وأيضاً فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو : » رُبَ « في » رُبَّ « . وقيل في توجيهه : إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً ، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها ، إلا أن يقال : إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله :
2722 . . . مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا
يريد : القصبَ ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّد منها ألف ، وضعَّف الحرف ، وكذلك قوله :
2723 ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي . . . شدَّد اللام مع كونِها حَشْواً بياء الإِطلاق . وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح ، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف » لما « فإنها أصليةٌ ثابتة ، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جداً.
الرابع : أن أصلَها » لَمَّاً « بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى ، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه ، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه ، وذلك كا قالوا في » تَتْرى « بالتنوين وعدمِه ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي : جَمَعْته ، والتقدير : وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم ، ويكون » جميعاً « فيه معنى التوكيد ككل ، ولا شك أن » جميعاً « يفيد معنى زائداً على » كل « عند بعضهم . قال : » ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ « لمَّاً » بالتنوين «.
الخامس : أن الأصل » لَمَّاً « بالتنوين أيضاً ، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً ، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف . وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال : » لأن ذلك إنما يجوز في الشعر « يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف ، وسيأتي توجيهُ قراءةِ » لَمَّاً « بالتنوين بعد ذلك.
وقال أبو عمرو ابن الحاجب : « استعمالُ » لَمَّا « في هذا المعنى بعيد ، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ ، فإن قيل : لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى » لمَّاً « المنصرف فهو أبعدُ ، إذ لا يُعرف » لمَّا « فعلى بهذا المعنى ولا بغيره ، ثم كان يلزَمُ هؤلاء أن يُميلوا كمَنْ أمال ، وهو خلافُ الإِجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك بمستقيم ».
السادس : أنَّ « لَمَّا » زائدة كما تزاد « إلا » قاله أبو الفتح وغيرُه ، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً ، وهو أنَّ « إلا » تأتي زائدةً.
السابع : أنَّ « إنْ » نافيةٌ بمنزلة « ما » ، و « لمَّا » بمعنى « إلا » فهي كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا } [ الطارق : 4 ] أي : ما كلُّ نفسٍ إلا عليها ، { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] أي : ما كل ذلك إلا متاع/ . واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ « إنْ » النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها ، وهذا اسمٌ منصوب بعدها . وأجاب بعضهم عن ذلك بأن « كلاً » منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب : وإنْ أرى كلاً ، وإن أعلمُ ، ونحوه ، قال : « ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد ، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله :
2724 ألا رجلاً جزاه اللَّه خيراً . . . يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ
هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّر أو نُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ ، واختار يونس التنوين للضرورة » ، وقدَّره بعضهم بعد « لمَّا » مِنْ لفظ « ليُوَفِّينَّهم » والتقدير : وإن كلاً إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم . وفي هذا التقدير بُعْدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد « إلا » لا يعمل فيما قبلها . واستدلَّ أصحابُ هذا القول أعني مجيء « لَمَّا » بمعنى « إلا » بنص الخليل وسيبويه على ذلك ، ونصره الزَّجَّاج ، قال بعضهم : « وهي لغة هُذَيْل يقولون : سألتك باللَّه لمَّا فعلت أي : إلا فعلت » . وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورودَ « لمَّا » بمعنى إلا ، قال : أبو عبيد : « أمَّا مَنْ شدَّد » لمَّا « بتأويل » إلا « فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب ، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ : » قام القوم لمَّا أخاك « يريد : إلا أخاك ، وهذا غيرُ موجودٍ ».
وقال الفراء : « وأمَّا مَنْ جَعَلَ » لَمَّا « بمنزلة » إلا « فهو وجهٌ لا نعرفه ، وقد قالت العربُ في اليمن : » باللَّه لمَّا قمت عنا « ، و » إلا قمت عنا « ، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره ، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام : ذهب الناس لمَّا زيداً ».
فأبو عبيد أنكر مجيء « لمَّا » بمعنى « إلا » مطلقاً ، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً ، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد « لمَّا » في هذه الآية : « لا يصلح أن تكون بمعنى » إلا «؛ لأن » لَمَّا « هذه لا تفارق القسم » وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً ، وفيه نظرٌ ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو : « نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت » و « أسألك باللَّه لمَّا فعلت » . وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد « لمَّا » في هذه السورة على تقدير أن « لمَّا » بمعنى « إلا » لا تختص بالقسم ما معناه : أن تشديد « لمَّا » ضعيف سواء شددت « إن » أم خَفَّفْت ، قال : « لأنه قد نُصِب بها » كلاً « ، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة ، وكما لا يَحْسُن : » إنَّ زيداً إلا منطلق « ، لأن الإِيجابَ بعد نفي ، ولم يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد ، فلذا لا يَحْسُن : إن زيداً لَمَّا مُنْطلق » لأنه بمعناه ، وإنما ساغ : « نَشَدْتُك اللَّهَ إلا فعلت ولمَّا فعلت » لأنَّ معناه الطلب ، فكأنه قال : ما أطلب منك إلا فِعْلك ، فحرفُ النفي مرادٌ مثل : { تَالله تَفْتَؤُاْ } [ يوسف : 85 ] ، ومَثَّل ذلك أيضاً بقولهم : « شَرٌ أهرُّ ذاناب » أي : ما أهرَّه إلا شرٌّ ، قال : « وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ . وقال الكسائي : » لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا « . قال الفارسي : » ولم يُبْعِدْ فيما قال « . ورُوي عن الكسائي أيضاً أنه قال : » اللَّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة ، لا أعرف لها وجهاً «.
الثامن : قال الزَّجَّاج : » قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه : « إنَّ » لمَّا « في معنى إلا ، مثل { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى » إنْ زيدٌ لمنطلق « : ما زيد إلا منطلق ، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها ، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً ، والمعنى نفيٌ ب » إنْ « وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا ، ولَمَّا بمعنى إلا ».
قلت : قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ « إلا » في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز « لمَّا » التي بمعناها؟
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه ، أحدها : أنها « إنَّ » المشددةَ على حالها ، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها ، وأمَّا « لمَّا » فالكلامُ فيها كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ « لَمِنْ ما » بالكسر أو « لَمَنْ ما » بالفتح ، وجميعُ تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا . والقولُ بكونها بمعنى « إلا » مُشْكِلٌ كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا.
الثاني : قال المازنيٌّ : « إنَّ » هي المخففة ثُقِّلَتْ ، وهي نافيةٌ بمعنى « ما » كما خُفِّفَتْ « إنَّ » ومعناها المثقلة و « لَمَّا » بمعنى « إلا » . وهذا قولٌ ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به ، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ « إنْ » النافية ، وأيضاً ف « كلاً » بعدها منصوبٌ ، والنافيةُ لا/ تَنْصِبُ.
الوجه الثالث : أنَّ « لَمَّا » هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنى . قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه : « لمَّا » هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه ، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم : « خَرَجْتُ ولمَّا » و « سافرتُ ولمَّا » و هو شائعٌ فصيح ، ويكون المعنى : وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] ، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء ، ومجازاتَهم ، ثم بَيَّن ذلك بقولِه { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } ، قال : « وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا ، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن » ، قال : « والتحقيقُ يأبى استعبادَه » . قلت : وقد نَصَّ النحويون على أن « لمَّا » يُحذف مجزومُها باطِّراد ، قالوا : لأنها لنفيِ قد فَعَلَ ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله :
2725 أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا . . . لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ
أي : وكأن قد زالت ، فكذلك مَنْفِيُّه ، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري ، عَلى حَذْفِ مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب « معاني الشعر » له قولَ الشاعر :
2726 فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا . . . فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
قال : « قوله » بدءاً « ، أي : سيداً ، وبَدْءُ القوم سيِّدهم ، وبَدْءُ الجَزْور خيرُ أَنْصِبائها ، قال : » وقوله « ولما » ، أي : ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم ، كقول الآخر :
2727 خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ . . . ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ
قال : « ونظيرُ السكوتِ على » لمَّا « دونَ فعلها السكوتُ على » قد « دونَ فعلِها في قول النابغة : أَفِدَ الترحُّل : البيت ».
قلت : وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة ، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد « لمَّا » سواءً شدَّد « إن » أو خفَّفها.
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جداً ، فإنها « إنَّ » المشددة عَمِلَتْ عملها ، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر « إنَّ » ، والثانية جواب قسم محذوف ، أي : وإنَّ كلاً للذين واللَّهِ ليوفِّينَّهم ، وقد تقدَّم وقوعُ « ما » على العقلاء مقرَّراً ، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] غير أنَّ اللامَ في « لمَنْ » داخلة على الاسم ، وفي « لمَّا » داخلة على الخبر . وقال بعضهم : « ما » هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن : لامِ التوكيد ولامِ القسم . وقيل : اللام في « لَمَا » موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، والمعنى : وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود.
وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة : « جَعَل » ما « اسماً للناس كما جاز { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جواباً لإِنَّ ، وجعل اللامَ التي في » ليوفِّيَنَّهم « لاماً دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين » ما « وصلتِها كما تقول : » هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ « ، و » عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه « ومثلُه : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] . ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال : » إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو : إنَّ زيداً لإِليك لمُحْسن ، ومثله :
2728 - ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً . . . لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ مَصْرَعا
قال : « أَدْخَلها في » بَعْد « ، وليس بموضعِها ، وسمعت أبا الجراح يقول : » إني لبحمد اللَّه لصالحٌ «.
وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة : » وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب « كلاً » بإِنَّ ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر ، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى ، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم ، وتختص بالدخول على الفعل ، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين « إنَّ » واللامَ ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل ، ومثلُه في الكلام : « إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ ».
فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له ، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه ، قال المبرد : وهي جرأةٌ منه « هذا لحنٌ » يعني تشديدَ « لمَّا » قال : « لأن العرب لا تقول : » إن زيداً لَمَّا خارج «.
وهذا مردودٌ عليه . قال الشيخ : « وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو : » إنَّ زيداً لَمَّا خارج « ، هذا المثالُ لحنٌ » /.
قلت : إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم ، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه ، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت « لمَّا » المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك ، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال.
وقال أبو جعفر : « القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن ، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال : » إنَّ هذا لا يجوز ، ولا يقال : « إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه » ، ولا « لَمَّا لأضربنَّه » . قال : « وقال الكسائي : اللَّهُ عَزَّ وجلَّ أعلم ، لا أعرف لهذه القراءة وجهاً » وقد تقدَّم ذلك ، وتقدَّم أيضاً أن الفارسي قال : « كما لا يحسن : » إنَّ زيداً إلا لمنطلق «؛ لأنَّ » إلا « إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدم هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد ، فكذا لا يحسن » إنَّ زيداً لما منطلق « ، لأنه بمعناه ، وإنما ساغ » نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت « إلى آخر ما ذكرته عنه . وهذه كلُّها أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي.
وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا } بتخفيف » إنْ « ورفع » كل « على أنها إنْ النافية و » كلٌّ « مبتدأ ، و » لمَّا « مشددة بمعنى إلاَّ ، و » لَيُوَفِّيَنَّهم « جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ . وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] ومثلُه : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] ، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ » لمَّا « بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه.
وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم » لَمَّاً « بالتشديد منونةً ف » لمَّاً « فيها مصدرٌ مِنْ قولهم : » لَمَمْتُه أي جمعته لمَّاً « ، ومنه قولُه تعالى : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] ثم في تخريجه وجهان ، أحدُهما ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكونَ منصوباً بقوله : » ليوفينَّهم « على حَدِّ قولِهم : » قياماً لأقومَنَّ ، وقعوداً لأقعدَنَّ « والتقدير : توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم ، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنى دون الاشتقاق.
والثاني : ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو : أن يكونَ وصفاً ل » كل « وصفاً بالمصدر مبالغةً ، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه » كل « نكرةً ليصحَّ وَصْفُ » كل « بالنكرة ، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ » كل « ، ولو تَعَرَّفَتْ لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً ، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى :
{ وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] ، فوقع « لمَّا » نعتاً ل « أكلاً » وهو نكرة.
قال أبو عليّ : « ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال ».
[ وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ ل « كلاً » كما يتبعها أجمعون ، أو أنه منصوبٌ على النعت ل « كلاً » ] فإنه قال : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } كقوله « أكلاً لمَّاً » ملمومين بمعنى مجموعين ، كأنه قيل : وإنْ كلاً جميعاً ، كقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] انتهى . لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ ، بل فَسَّر معنى ذلك ، وأراد أنه صفةٌ ل « كلاً » ، ولذلك قَدَّره بمجموعين . وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات « لَمَّا » بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها ، وإنما أُجري الوصلُ مجرى الوقف ، وقد عُرِف ما فيه . وخبرُ « إنْ » على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جداً وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة ، لولا ما فيها مِنْ مخالفة سواد الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية ، و « مِنْ » زائدةٌ « في النفي ، و » كل « مبتدأ ، و » ليوفِّينَّهم « مع قَسَمه المقدَّر خبرُها ، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصير التقديرُ بدون » مِنْ « : { وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم }.
والتنوين في » كلاً « عوضٌ من المضافِ إليه . قال الزمخشري : » يعني : وإنَّ كلَّهم ، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه « . وقد تقدَّم أنه على قراءةِ » لَمَّاً « بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه » كل « إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة.
وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد ، فمنها : التوكيد ب » إنَّ « و ب » كل « وبلام الابتداء الداخلة على خبر » إنَّ « وزيادةِ » ما « على رأيٍ ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له ، وبنون التوكيد ، وبكونها مشددةً ، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع.
وقرأ العامَّةُ » يعملون « بياء الغيبة ، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين . وقرأ ابن هرمز » بما تعملون « بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب ، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون ، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم.
اهـ (الدر المصون).

(3/81)


فتقول على هذا الحد إن كلهم لَمَّا يُحبّني - معناه يؤول إلى معنى ما كلهم إلا
يُحبّني ، وكذلك يجوز إنْ كلًّا لما يُحِبُّني ، بحذاء إنْ كلًّا لَما يُحِبُّنِي ، فدخلت
" لَمَّا " محققَةً كما دخلت اللام محَققةً وصار تأويل الجملة تأويل المنفي
والمحقق.
وحكى سيبويه وجميع البصريين أن " لَمَّا " تستعمل بمعنى إلا.
ويجوز إن كلا لَمًّا لَيُوفينهم ، معناه وأن كُلًّا لَيُوفَينهم جَمْعاً.
لأن معنى اللَّمّ الجمع
يقال لممت الشيء ألمُه لَمًّا إذا جَمعْتُه.
فَأمَّا قولهم : لَمَّ اللَّه شَعَثَك ، فتأويله جمع اللَّه لك ما يُذْهِبُ شَعَثَك.
* * *
وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
فَطَرفا النهار غُدُوُّه وعَشِيه ، وصلاة طرفي الئهارِ الغدَاة والظهر والعصرُ.
(وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ).
ويجوز وزُلُفاً من الليل - بضم الزاي واللام - وهو منصوب على الظرف
كما تقول حَيِّنَا طَرفي النهارِ وأول الليل - ومعنى (زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) الصلاة القريبة من أول الليل ، وزلَفاً جمع زُلْفة ، يعنى بالزلف من الليل المغرب وعشاء الآخرة.
(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
أي إن هذه الصلوات تكفر ما بينها من الذنوب.
وهذا يُصَدِّقُ ما في الخبر مِنْ تكفير الصَّلَواتِ الذنوبَ.
والزُلُف واحد مثل الحُلُم . وجائز أنْ يكونَ جَمْعاً - على زَلِيف مِنَ الليل
فيكون مثلَ القَرِيبِ والقُرُب ، ولكن الزُّلَف أجودُ في الجمع.
وما علمت أنَّ زَليفاً يستعملُ في الليْل

(3/82)


وقوله : (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
(أُولُو بَقِيَّةٍ).
معناه أولو تمييز ، ويجوز أن يكون معناه " أولو " طاعة.
ومعنى البقية إذَا قلتَ فلان في بَقِيَّةٍ ، معناه فيه فضل فيما يمدح به.
(إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ).
استثناء منقطع ، المعنى لكنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ممن نهى عن
الفساد.
(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ).
معناه اتبعوا الشيء الذي به تدوم لهم التُرْفَةُ والنعيم ، وركنوا إلى الدنيا
فلم يقبلوا ما ينقص تُرْفَتَهُمْ في كسب أو عمل.
* * *
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
يجوز أن يكون وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ أحداً وهوَ يظلمهُ -
كما قال : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا). وجائز أن يكون معناه : وما كان ربك لِيهلِك القرى - ومعناه أهل القرى - بظلم وأهلها يتَعاطَوْن فيما بينهم بالنصفة.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
أي لو شاء لجمعهم على هدايته ، كما قال - عز وجل - :
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).
* * *
(وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
" مَنْ " استثناء ، على معنى : لكن من رحم ربك فإنه غير مخالف .

(3/83)


وقوله : (وَلذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
أي خَلَقَهُمْ للسعادة والشقاء ، فاختلافهم في الدِّين يؤدي بهم إلى سعادة أو
شَقَاء.
وقيل : ولذلكَ خَلَقَهُمْ أي لرحمته خَلَقَهم ، لقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).
والقوْلُ الأول يدل عليه.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
(لَأَمْلَأَنَّ) لَفْظُ القَسمِ ، أيْ فتمَّ قَولُه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (1).
* * *
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
(كُلًّا) منصوب بـ (نَقُصُّ) ، المعنى وكل الذي يُحتاجُ إليه من أنباء الرسل
نقُص عليْكَ.
و " ما " منصوبة بدل من كل.
المعنى : نقص عليك ما نُثبتُ به فؤادك.
ومعنى تَثْبِيْتُ الفؤادِ تسكين القلب ، وهو ههنا ليس للشك ، ولكن كلما كان الدلالة والبرهان أكثر كان القلب أثبت كما قال إبراهيم :
(وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
(وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
يجوز أن يكون وجاءك في هذه السُّورة ، لأن فيها أقاصيص الأنبياء
ومواعظ وذكر مَا فِي الجنَّةِ والنَّارِ.
ويجوز أن يكون قوله : (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ).
أي في ذكري هذه الآيات التي ذُكِرَتْ قبل هذا الموضع.
أي جاءك الحق في أن الخَلقَ يُجَازَوْنَ بأنْصِبَائِهِمْ في قوله :
(وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، وَفِي قَوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ).
__________
(1) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى
فإن قيل : قوله تعالى : (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إشارة إلى ماذا ؟
قلنا : قلنا هو إشارة إلى ما عليه الفريقان من حال الاختلاف ، أهل الرحمة
للرحمة ، وقد فسره ابن عباس رضى ألله عنهما فقال : خلقهم فريقين فريق رحمهم فلم يختلفوا ، وفريق لم يرحمهم فاختلفوا ، وقيل : هو إشارة إلى معنى الرحمة وهو الترحم وعلى هذا يكون الضمير في خلقهم للذين رحمهم فلم يختلفوا وقيل : هو إشارة إلى الاختلاف والضمير في خلقهم للمختلفين ، واللام على الوجه الأول والثالث لام العاقبة والضرورة لا لام كى وهى التى تسمى لام الغرض والمقصود ، لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة ، ونظير هذه اللام قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا).
وقول الشاعر :
لدوا للموت وابنوا للخراب . . . فكلكم يصير إلى التراب
وقيل : إنها لام التمكين والاقتدار كما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا) وقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) والتكمين والاقتدار حاصل ، وإن لم يسكن بعض الناس في الليل ، ولم يركب بعض هذه الدواب ، ومعنى التمكين والاقتدار هنا أنه سبحانه وتعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف ومكنهم منه ، وقيل : اللام هنا بمعنى على ، كما في قوله تعالى : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وقول تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا).
أ هـ {أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ 213 - 214}

(3/84)


وقد جاءَهُ في القرآن كُلِّهِ الحقُّ ، ولكنه ذكرها هنا توكيداً ، وليس إذا قيل
قد جاءك في هذه الحق وجب أن يكون لم يأتك الحق إلا في هذه ، ولكن
بعض الحق أوكدُ من بَعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا ، لا في عينه.
إذَا قُلْتَ : فُلانٌ في الحق وأنت تريد أنه يجود بنفسه ، فليس هو في غير تلك
الحال في باطل ، ولكن ذِكْرُ الحق ههنا أغنَى عَنْ ذكر الموتِ لعظمه وأنه
يحصل عنده على الحق .

(3/85)


سورة يوسف
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
المعنى هذه الآيات ، تلك الآيات. " المُبينُ " الذي وعدتم به في التوراة
كما قال : (الم ذلك الكتاب).
* * *
وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
هذه الهاء تصلح لشيئين ، أحدهما أن تكون للكتاب ، المعنى إنا أنزلنا
الكتاب قرآناً عربياً.
ومعنى (قُرْآنًا) مجموع ، ويجوز : أن يكون (إنا أنْزَلنَاهُ) أي أنزلنا خبَرَ يُوسُفُ وقِصتَهُ.
ويروى أن علماءَ إليهود قالوا . لِكُبَراءِ المُشْرِكين : سَلُوا محمداً لم انتقل
آلُ يعقوبَ من الشام إلى مصر ، وعن قصة يُوسُفَ فقال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا).
ودليل هذا القول قولُه - عزَّ وجلَّ - : (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7).
* * *
وقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)

(3/87)


أي نبين لك أحْسَن البَيَانِ والقاصُّ الذي يأتي بالقِصةِ على حقيقتها.
(بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ).
أي بِوَحْيِنَا إلَيْكَ هذا القرآنَ.
القراءةُ نصبُ القرآنِ ويجوز الجر والرفْع جميعاً.
ولا أعلم أحداً قَرأ بهما.
فأمَّا الجر فعلى البدل من قوله : (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) فيكون المعنى نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن ، ولا تَقْرأنَّ بها.
والرفع على ترجمة مَا أِوْحَيْنا إليك ، كان قَائِلًا قال : ما هو ؟
وما هذا فقيل هذا القرآن ، ولا تقرأنَّ بها أيضاً.
(وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
أي من الغافلين عن فصة يوسف وإخوته ، لأنه عليه السلام إنما عَلِمَ
ذلك بالوحي.
* * *
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
يجوز أن يكون موضع " إذْ " نَصْبا.
المعنى نَقصُّ عليك إذْ قال يوسف لأبيه
ويجوز أن يكون على معنى اذكر إذ قال يوسف لأبيه.
(يَا أَبَتِ إِنِّي).
في قوله : (يَا أَبَتِ إِنِّي) قراءتان : (يَا أَبَتِ إِنِّي) ، (يَا أَبَتَ إِنِّي) - بالخفض
والنصب . وأجاز بعض أهل العربية يا أبةُ إنِّي.
فمن قرأ (يَا أَبَتِ إِنِّي) - بكسر التاء - فعلى الإضافة إلى نفسه وحذف
الياء ، لأن ياء الإضافةِ تحذف في النداء ، وقد ذكِرَ ذَلِكَ فيما سلف من

(3/88)


الكتاب ، وأما إدْخَالُ التَأنِيثِ في الأب فإنما دخلت في النداء خاصة ، والمذكر
قد سمّي باسم لِمؤنَثٍ فِيه عَلَامَة التأنِيثِ ، وُيوصَفُ بما فيه هاء التانبث.
فأما المذكر الذي يسمى بِمُؤنث فقولهم عين ونفس يراد به الرجل.
وأما الصِّفة فقولهم غلام يَفَعَة ، ورَجُل رَبْعَة.
والتاء كثرت ولزمت في الأب عوضاً من تاء الِإضافة.
والوقف عليها يا أبَهْ وإن كانت في المصحف بالتاء.
وزعم الفراء أنك إذا كسرت وقفت بالتاء لا غير ، وإذا فتحت وقفت بالتاء والهاء ، وَلَا فرق بين الكسر والفتح.
وزعم قطرب أن الفتح على جهات :
إحْداها أنك أردت يا أبة ثم حذفت التنْوينَ ، وعلى يَا أبَتاه وَعَلَى قول قولُ الطرماح.
يا دارُ أقْوَتْ بعد أَصرامِها . . . عاماً وما يُبْكِيكَ من عامِها
وهذا الذي قاله قطرب خطأ كله.
التنوين لا يحذف من المنادى

(3/89)


المنصوب ، لأن النصب إعرابُ المنادى ، ولا يجوز معرَبٌ منصرف غير منون
في حال النصب وأما قوله : يا دارَ أقوت ، بنصب الدارِ - فلم يَرْوِه أحَد من
أصحابنا ولا أعْرفُ له وجهاً.
أنشد سيبويه والخليل وجميع البصريين يَا دَارُ أقْوتْ ، بضَم الراء.
وأما يا أبتاه ، فالنُّدبة ههنا - لا معنى لها.
ولكن الفَتْحَ يجوزُ على أنه أبْدَلَ من تَاء الإضافة ألفاً ثم حذف الألف
وبقيت الفتحة ، كما تحذف بالإضافة.
وَأمَّا " يَا أبةُ إني " بالرفع فلا يجوز إلا على ضعف ، لأن الهاء ههنا جعلت
بدلاً من ياء الإضافة.
(إني رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً).
القراءة بفتح العين وفتح جميع الحروف في أحَدَ عَشَر.
وقد روي بتسكين العين في القراءة : (أحَدَ عْشرَ كوكَباً "
قرأ بها بَعْضُ أهلِ المدينة وهي غير منكرة مَا كَانَ قبل العين حرف متحرك لكثرة الحركات في قوله أحَد عَشَر
فأمَّا اثنا عَشَرَ فلا يجوز فيها . الإسكان في العين.
وقد رويت لغة أخرى وهي ،أحد اعْشرَ وهذه الرواية في الرداءة وتَرْكِ الاستعمال بمنزلة الحمدِ للَّهِ ، لا يلتفت إليها.
فأمَّا التسكين في العين فقراءة صحيحة كثيرة ولكنَّ سيبويه والخليلَ
وجميعَ أصحابهم لا يجيزون إلا فتح العين ، إلَّا أن قُطْرُباً قد روى إسكان
العين ورواه الفراء أيضاً ، وقد قُرئ به.
فأمَّا ما لا اختلاف فيه ففتح العين.
و (كوكباً) منصوب على التمييز .

(3/90)


(والشمْسَ والْقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
فكرر رأيتهم توكيداً ، المعنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقَمَرَ لِي
سَاجِدين فكرر (رأيتهم) لَما طال الكلام.
فأمَّا قوله (سَاجِدِين) فحقيقته فِعْلُ كُلِّ ما يعقل ، وجَمعُه وجمعُ
ضميرَه بالواو والنون في الرفع ، والياء والنون في النصب والجر.
فإذا وصف غير الناس والملائكة بأنه يعبد ويتكلم فقد دخل في المُمَيزين وصار الِإخْبَارُ عنه كالإخبَارِ عنهم.
فمن ذلك قوله : (قَالَت نَمْلَةٌ يا أنها النمْل ادْخلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
وقوله : (بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)
وقال : (وَكل في فَلَكٍ يَسْبَحُون).
فَالوَاوُ والنونُ دَخَلَتَا لما وَصَفْنَا مِنْ دخولهم في التمييز ، والألف والتاء
والنون لكل مؤنث ولكل مَوَاتٍ لا يَعقل غَيْرِ المميزين ، فإذا جَعَلَ اللَّه عزَّ وجل غير المميزة كالمميزَةِ فكذلك تكون أفعالُها والأنْباء عنها.
* * *
وقوله : (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
معناه يختارك ويصطفيك ، وهو مشتق مِنْ جَبَيْتَ الشَيءَ إذَاحَصَّلْتَه
لنفسِكَ ، ومنه جَبَيْتُ الماءَ في الحوض.
وموضع الكاف في قوله " كذَلِكَ "
نصبٌ ، المعنى ومثل مارأيتَ تأويلَه ، (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)

(3/91)


قيل يعلمك تأويل الرؤيا وقيل يعلمك تأويل أحادِيثِ الأنبياء
والأمَمِ ، يعني الكتب وكلاهما جائز - واللَّه أعلم -.
(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ).
المعنى يتمها كما أتمها على أبويك ، فقد فَسَّر لَهُ يَعْقوبُ الرؤيا.
والتأويل أنه لما قال له إني رأيت أحد عشر كوكباً والشَمْس والقَمَرَ رَأيْتُهمْ لي
سَاجِدين ، فتأوَّلَ الأحَدَ عَشَرَ كوكباً أحَدَ عَشَرَ نفْساً لَهُمْ فَضْل وأنهم يُسْتضَاءُ بهمْ ، لأنَّ الكَواكِب لَا شيءَ أضْوأ مِنْهَا وبها يُهْتَدَىَ.
قال اللَّه جلَّ وعزَّ : (وبالنَّجْمِ هُمْ يَهتدُون).
فتأول الشمس والقَمَرَ أبَويه . فالقمرُ الأبُ والشمسُ
الأم والأخذ عَشرَ كَوْكَباً إخْوَتُه ، فتأوَّل له أنه يكون نَبِيًّا ، وأن إخوته يكونون أنبياء لأنه أعْلَمَهُ أن اللَّه يُتمُّ نعمتَه عَلَيْه وَعَلَى إخْوَته كما أتَمَّها على أبَويهِ إبراهيمَ وإسحاقَ ، فإتمام النعمَةِ عَلَيْهِم أن يكونوا أنْبِيَاء إذ قال :
(كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ).
وقوله : (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ).
الرؤيا فيها أربعُ لغاتٍ "
رُؤْيَا بالهمز ، ورويا بالواو بلا همز ، وهاتان يُقْرأُ بِهمَا ورُيَّاك بالإدغامِ ، ورِيَّاك بكسر الراء - وَلاَ تَقْرأ بهَاتَيْنِ.
ويوسف فيه لغتان ، يوسُفُ بضم السِّينِ ويوسف بكسر السِّينِ وكذلك
يُونُس ، وُيونِس . وحَكَوْا يُونَسَ بفتح النُونِ ، حكاها قطرب وهي شاذة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
(آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)
وَقُرِئَتْ آية . ومعناه عِبْرَةُ ، وقَدْ رُويت في غير هذا المصحف عِبْرة
للسائلين ، وهذا معنى الآية.
ويجوز أن تكون " آية " بَصِيراً للسائلين الذين

(3/92)


سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأنْبأهُم بقصةِ يُوسُفَ.
وهو عنها غافل لم يقْرأ كتاباً ولم يأته إلا من جهة الوحي
جَوَاباً لهم : حين سألو.
* * *
وقوله : (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
أي : إِنَّ أَبَانَا قَدَّمَ اثنين صَغِيريْن في المَحبَّةِ عَلَيْنا ، ونحن عُصْبَة ، أي جماعة نفعنا أكثر من نفع هذين.
(إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
هذا موضع ينبغي أن يُتَفَهَّمَ ، إنما عَنَوْا أن أبَاهُمْ ضَالٌّ في محبَّة هذين
ولَوْ وَصَفُوه بالضلالة في الدين كانوا كُفَاراً.
والعُصْبةُ في كلام العرب العَشِيرةُ ونحوهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
(وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).
أي تَتُوبونَ من بعد قتله.
وقوله : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا).
معناه - والله أعلم - أرضاً يَبْعدُ بها عن أَبِيه لأنَّه لن يَخْلُوَ مِن أَنْ يكونَ
في أرض.
قوله : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ).
يدل على أنَّهم تآمروا في أن يَطْرحُوه في أَرض لا يَقْدِرُ عليه فيها أبوه
و (أَرْضًا) منصوب على إسقاط (في) وإفْضَاءِ الفِعْل إليها.
لأن (أَرْضًا) لَيْسَتْ من الظروف المبْهِمة.
* * *
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
الغَيابَةُ كل مَا غَابَ أَو غَيبَ عَنْكَ شيئاً ، قال المنخل :

(3/93)


وإن أنا يَوْماً غيبتني منيَّتِي . . . فسيري بسيري في العشيرة والأصْلِ
والجب البئر التي ليست بمطويَّةٍ ، وسُمّيتْ جُبًّا من أنها قُطِعَتْ قَطْعاً.
ولم يحدث فيها غير القطع ، مِنْ طيٍّ وما أشْبَههَ.
وروَوْا أن اسم الذي أشارَ عَليهم بِألَّا يَقْتلوهُ يَهُوذَا ، وَكانَ مِنْ
أَشَدهم.
(يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ).
هذا أكثر القراءة - بالياء - وقرأ الحسن تلتقطه بالتاء ، وأجاز ذلك جميع
النحويين ، وزعموا أن ذلك إنما جاز لأن بعض السيارة سيَّارةٌ ، فكأنَّه قال :
تلتقطه سَيَّارةُ بعض السَّيَّارَةِ.
وأنشدوا :
وتشرق بالقول الذي قد أذعَتَهُ . . . كما شرِقتْ صدرُ القناة من الدم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ).
قرئت على أربعة أوجُهٍ (1) ، على إشْمَامِ الميم الضَّمَّ - تأمنُنا ، وعلى
الِإدغام وترك الإشمام ، (تَأْمَنَّا) ، وقرئت (تأمَنُنَا) بنونَين وضمة بينهُمَا.
وقرأ يحيى ابن وَثَّابِ تِيْمَنَّا.
وقراءة يحيى تخالف المصحفَ ، وهي في العَرَبيةِ جَائزةٌ
بكسر التاَء في كل ما ماضيه على فَعِلَ نحو أَمِنَ - يا هذا - والإِدغام لأن
الحرفين من جنس واحدٍ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { لاَ تَأْمَنَّا } : حالٌ وتقدَّم نظيرُه . وقرأ العامَّة « تأمَنَّا » بالإِخفاء ، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين ، لا أنَّ النونَ تُسَكَّن رَأْساً ، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً . قال الداني : « وهو قولُ عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس ».
وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام ، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف ، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا : وتكون الإِشارة إلى الضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه ، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا مِنْ جُمْلتها ، ومنها إشراب الكسرةِ شيئاً مِن الضم نحو : { قِيلَ } [ البقرة : 11 ] و { وَغِيضَ } [ هود : 44 ] وبابه ، وقد تقدم أولَ البقرة . ومنها إشمامُ أحدِ حرفين شيئاً من الآخر كإشمام الصاد زاياً في { الصراط } [ الفاتحة : 5 ] : { وَمَنْ أَصْدَقُ } [ النساء : 78 ] وبابهما ، وقد تقدم ذلك أيضاً في الفاتحة والنساء . فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف ، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة . ومنها الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً ، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى.
وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ . وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب . اتفق الجمهورُ على الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز « لا تَأْمُنَّا » بضم الميم ، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ إدغامها بعد سَلْب الميمِ حركَتها ، وخطُّ المصحف بنون واحدة ، ففي قراءة الحسن مخالفة لها.
وقرأ أبو رزين وابن وثاب « لا تِيْمَنَّا » بكسر حرف المضارعة ، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ سَهَّل الهمزةَ . قال الشيخ : « ومجيئُه بعد » مالك « والمعنى يُرْشد إلى أنه نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم » ما أَحْسَنَنا « في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ بالنفي » . قلت : وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه . وقوله « لالتبس بالنفي » صحيح.
اهـ (الدر المصون).==

4.  معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج "
(المتوفي 311 هـ)

والإشمام يدل على الضَّمَّة المحذوفة ، وترك الِإشمام جيِّدٌ ، لأن الميم
مفتوحةٌ فلا تُغَيَّر ، والإِظهار في " تأمَنُنا " جيِّدٌ ، لأن النونين من كلمتين.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
(غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)
بالياء ، وقُرئت (نرتع ونلعب) بالنون ، وَقُرئَتْ يُرْتَع ويُلْعَب - بضم الياء -
وقرئت نَرْتَع ونَلْعَبْ . فجَزْمُ هذه القراءاتِ . كُلِّها على جواب الأمر (1).
المعنى أَرْسلْهُ إنْ ترْسله يرتِعْ ، وكذلك يُرْتَع ، وكذلِك يَرْتَع وَيلْعَبْ - بكسر العين -.
وكسر العين من الرعْي ، المعنى يَرْتَعِي ويلْعَبْ ، كأنهم قالوا يرعى ماشيَتهُ
وَيلْعبْ ، فيجتمع النفْعُ والسرورُ ، وَيرْتَعُ من الرتْعَة ، أي يتسع في
الخصب ، وكل مُخْصِبٍ فَهُوَ رَاتِع.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
(وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ).
وقرئت غَيَابَاتِ الْجُبِّ ، وقد فسرنا الْجُبَّ.
وجاء في التفسير أَنها بئر بَيْتِ المَقْدِسِ.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
هذا جائز أن يكون من صلة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وهم لا يشعرون.
وجائز أن يكون من صلة " وأوحينا "
المعنى : وأوحينا إليه وهم لَا يشعرون - أي أنبأناه بالوحي
وهم لا يشعرون أنه نبيٌّ قد أُوحي إليه.
* * *
(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
(عِشَاءً) منصوب على الظرف.
(إنا ذَهَبْنَا نَسْتَبقُ).
وقِيلَ نَنْتَضِلْ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } : فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها : قراءةُ نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين . الثانية : قراءةُ البزي عن ابن كثير « نَرْتَع ونلعب » بالنونِ وكسرِ العين . الثالثة : قراءةُ قنبل ، وقد اخْتُلِفَ عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلاً وَوَقْفاً وحَذْفُها وصلاً ووقفاً ، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه ، فعنه قراءتان . الخامسة : قراءة أبي عمرو وابن عامر « نرتَعْ ونلعبْ » بالنون وسكون العين والباء . السادسة : قراءة الكوفيين : « يرتعْ ويلعبْ » بالياء من تحت وسكون العين والباء.
وقرأ جعفر بن محمد « نرتع » بالنون « ويلعب » بالياء ، ورُوِيَتْ عن ابن كثير . وقرأ العلاء بن سيابة « يَرْتَع ويلعبُ » بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء . وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن « نُرْتَعْ » بضم النون وسكون العين والباء . وقرأ أبو رجاء كذلك ، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما . والنخعي ويعقوب « نرتع » بالنون و « يلعب » بالياء . والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل.
وقرأ زيد بن علي « يُرْتَع ويُلْعَب » بالياء مِنْ تحت مبنيّين للمفعول . وقرىء « نرتعي ونلعبُ » بثبوت الياء ورفع الباء . وقرأ ابن أبي عبلة « نَرْعي ونلعب » فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً ، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ.
فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف ، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه دونهم ، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة ، وجعله مأخوذاً [ مِنْ ] يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي . ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد أنه جَزَمَهَ بحذف الحركة وجعله مأخوذاً مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال :
2747 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإذا يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ
ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزوماً ، ومَنْ رفعها جعله مرفوعاً على الاستئناف أي : وهو يلعب ، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في « يلعب » دون « نرتع » فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار . ومَنْ قَرَأَ : « نُرْتِع » رباعياً جعل مفعوله محذوفاً ، أي : نُرْعي مواشِينَا ، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر/ المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد ، والأصل : نرتع فيه ونلعب فيه ، ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار : نرتعه ونلعبه ، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعاً واستتر في رافعه ، فهو في الاتساع كقوله :
2748 ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن ، وتكون حالاً مقدرة . وأمَّا إثبات الياء في « نَرْتعي » مع جزم « نلعب » وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها ، وقال ابن عطية : « هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر » وقيل : هي لغةُ مَنْ يجزم بالحركة المقدرة وأنشد :
2749 ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً.
و « نَرْتع » يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى ، ويكون على حَذْف مضاف : نرتع مواشينا ، أو من المراعاة للشيء قال :
2750 تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا . . . رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ : رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة ، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى : « القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة » وقال الشاعر :
2751 أكفراً بعد رَدِّ الموت عني . . . وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا.
اهـ (الدر المصون).

(3/95)


(قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
(فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)
أي بمصدِّق لَنَا.
(وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ).
ليس يريدون أنَّ يَعْقُوبَ - عليه السلام - لا يُصَدِّق من يَعْلَم أنه صادق ، هذا مُحال ، لاَ يُوصَفُ الأنْبِياءُ بذلك ، ولكن المعنى : لو كنا عندك من أهل الثقَةِ والصدْق لاتهَمتَنا فِي يُوسُفَ لمحبَّتِكَ إيَّاهُ ، وظننت أنا قد كَذَبْنَاكَ.
* * *
وقوله : (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
يروى أنهم - رحمة " اللَّه عَلَيْهِم - لمَّا طَرَحُوا يُوسُفَ عليه السلام في
الْجُبِّ أخَذوا قميصَه وذَبَحوا جَدْياً فلطخوا القميصَ بدم الجَدْي.
وقيل سخْلَة.
والمعنى واحد ، فلما رأى يعقوب - صلى الله عليه وسلم - القميصَ قال : كَذَبْتُم ، لو أكله الذئبُ لخرقَ قمِيصَهُ.
وقيل إنه قال إِنْ كَان هَذا الذئبُ لحلِيماً ، أشْفقَ على القميص
فلم يمزقْهُ ، وأَكَل ابني فالدَّمُ دمٌ كذِب ، أَيْ ذُو كذِبٍ ، والمعنى دم مكذوب
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا).
أي بل زَيَّنَتْ أنفسُكم أَمْراً في قِصةِ يوسُفَ
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
معناه صبر لا جَزَع فيه ولَا شَكْوى إلى النَّاسِ.
وصبر جميل مرفوع على ضرِبَيْنِ :
المعنى فشأني صَبْر جَميل ، والذي أعتقده صبرٌ جميل ، ويجوز أن
يكون عَلَى " فصَبْرِي صبر جَميلٌ "
وهذا لفظ قُطْربُ : فَصَبْري صَبرٌ جَميل.
والأول مذهب الخليل وجميع أصحابه.
ويجوز في غير القرآن فصَبْراً جميلاً.
وأنشدوا في الرفع :

(3/96)


شكا إِليَّ جملي طولَ السُّرى . . . يا جملي ليس إليَّ المشتكى
صبرٌ جُمَيْلٌ فكِلانا مُبْتَلى
وصبراً جميلاً منصوب على مثل (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا).
* * *
وقوله : (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
الوارد الذي يرد الماء ليسقي للقوم.
(فَأَدْلَى دَلْوَهُ).
يقال : أَدْلَيْتَ الدلْوَ إذَا أرْسلتَها لتملأها ، وَدَلَوْتَها إذَا أخرجْتَها.
(قَالَ يَا بُشْرَايَ) (1).
بألف وياء مفتوحة ، وقرئت يا بُشْرَيَّ ، وقد فسرناها في قوله : (فَمَنْ تَبعَ
هُدَايَ) ، وتفسيرها أن ياء الإضافة تغيِّر ما قبلها ولا يُبَينُ معها
الإعراب ، فإذا كان قبلها ألف فالاختيار أَلَّا تغير الألف ، وبعض العرب يبدل الألف معها ياء ، فيكون بدَلَها بمنزلة تغيير الحروف قبلها.
وقرئت : (يا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ) ، بغير ياء.
ومعنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب ولا تعقل إنما هو على تنبيه
المخاطبين ، وتوكيد القصةِ.
إذا قلتَ يا عجَباهُ فكأنك قلت : اعجبوا ويا أيها
العجبُ هذا مِنْ حِينكَ.
وكذلك إِذَا قال يا بُشراي فكأنَّه قال : أبشروا ، وكأنه
قال يا أيتها البشرى هذا من إِبَّانِكِ وأوَانِكِ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً).
لَمَّا وجدُوهُ أحبوا أَنْ لَا يُعْلَم بأنه مَوجُودٌ ، وأَن يُوهِمُوا أنه بضاعة دفعها
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يابشراى } قرأ الكوفيون بحذف ياء الإِضافة ، وأمال ألفَ فعلى الأخوان ، وأمالها ورش بين بين على أصله ، وعن أبي عمرو الوجهان ، ولكن الأشهرَ عنه عدمُ الإِمالة ، وليس ذلك مِنْ أصله على ما قُرِّر في علم القراءات . وقرأ الباقون « يا بشراي » مضافة لياء المتكلم ، ونداء البشرى على حدِّ قولِه : { ياحسرتا على } [ الزمر : 56 ] { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] كأنه يقول : يا بشرى هذا وقتُ أوانِ أن تُنادَيْ ويُصاحَ بكِ . ومَنْ زعم أنَّ « بشرى » اسم رجل كالسدِّي فقد أَبْعَدَ.
وقرأ ورش عن نافع « يا بُشْراْيْ » بسكون الياء ، وهو جمعٌ بين ساكنين في الوصل ، وهذا كما تقدم في { وَمَحْيَايَ } [ الأنعام : 162 ] ، فعليك بالالتفات إليه . وقال الزمخشري : « وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حَدِّه إلا أن يَقْصِدَ الوقف ».
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن : « يا بُشْرَيَّ » بقلبِ الألفِ ياءً وإدغامها في ياء الإِضافة وهي لغة هُذَلِيَّة تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة عند قوله : { فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ } [ البقرة : 38 ] . وقال الزمخشري : « وفي قراءة الحسن يا بُشْرَيَّ بالياء مكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإِضافة وهي لغة للعرب مشهورة ، سمعت أهلَ السروات يقولون في دعائهم : يا سيدي ومَوْلَيَّ ».
اهـ (الدر المصون).

(3/97)


إليهم أهل الماء ، وبضاعة منصوب على الحال ، كأنَّه قال : وأسَروه جَاعِليِه
بضاعةً.
* * *
وقوله : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
قيل بخس : ظلم ، لأن الإنسانَ الموجود لا يحل بيعُه ، وقيل : بخس
نقصان ، وأكثر التفسير على أن بخساً ظلماً.
وجاء في التفسير أنه بيع بعشرين درهماً ، وقيلَ باثنَيْن وَعِشرينَ دِرْهماً
أخذ كل واحد من إخوته درهمين ، وقيل بأربعين درهماً ، ورُوِيَ كُل ذَلكَ.
وقوله (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
(فيه) ليست بصلة الزاهدين ، المعنى : وكانوا من الزاهدينَ ثم بيَّن في
أي شيء زهدوا.
فكأنَّه قال : زهدوا فيه ، وهذا في الظروف جائز.
فأما المفعولات فلا يجوز فيها ، لا يجوز كنت زيداً من الضاربين ، لأن زيداً من
صلةِ الضاربين فلا يتقدم الموصول صلته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
مصر مفتوحة في موضع الجر إلا أنَّها لا تَنْصَرِفُ ، لأنها اسم والمدينة
بعينها ، وهي معرفة
(لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا).
(مَثْوَاهُ) مُقَامُه . المعنى أحسني إليه في طول مُقامِه عنْدَنَا.
ويروى أنَّ أَفْرَسَ الناس ثلاثة ، وأن أجودهم فراسة العزيز في فراسته في

(3/98)


يوسف ، وابنة شعيب في فراستها في موسى حين قالت :
(يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)
وأبو بكر في تَوْليتهِ عمرَ الخلافة بعدَهُ.
وقوله : (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ)
أي ومثل الذي وصفنا مَكنا ليوسف في الأرضِ.
(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
جائز أن يكون تأويل الرؤيَا ، وأن يَكُونَ تأويل أحاديثِ الأنْبِيَاءِ.
* * *
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
الأشُدُّ من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين ، آتيناه حُكْماً وعِلْماً.
أي جَعَلْنَاه حَكيماً عَالِماً ، ولَيْس كل عالمٍ حَكِيماً.
الحكيم العالِمُ المستعملُ علمَه ، الممتنع من استعمال ما يُجَهَّلُ فيه.
وأصل أَحْكَمْتُ افي اللغَةِ مَنَعْتُ ، ومن هذا حَكَمَةُ الذَائةِ ، لأن الفارس
يمنع بها الدائةَ من إرَادَتِها.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
أي ومثل مَا وَصَفْنَا من تعليم يوسفَ نَجْزي المُحْسِنينَ.
* * *
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
المعنى أنها رَاوَدْته عما أرادَتْه مما يريد النساء من الرجَالِ ، فَعُلِمَ بِتَرْكِهِ
ذكرَ الفَاحِشَةِ نفسها ما راودته عليه (1).
(وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ).
المعنى هَلُمَّ لَكَ ، أي أَقْبل إلى مَا أَدعوكَ إليهِ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ } : أي : طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ ، والمُراوَدَةُ المصدر ، والرِّيادة : طَلَبُ النِّكاح ، ومشى رُوَيْداً ، أي : ترفَّق في مِشْيتِه ، والرَّوْدُ ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها ، ورادَتِ المرأةُ في مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك ، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه ، والإرادةُ منقولةٌ مِنْ راد يرود إذا سعى في طلب حاجة ، وقد تقدَّم ذلك في البقرة ، وتعدى هنا ب « عن » لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ ، أي : خادَعَتْه عن نفسه ، والمفاعلةُ هنا من الواحد نحو : داوَيْتُ المريض ، ويحتمل أن تكون على بابها ، فإنَّ كلاً منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق ، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها التركَ . والتشديد في « غَلَّقَتْ » للتكثير لتعدُّد المجال.
اهـ (الدر المصون).

(3/99)


وفي (هَيْتَ لَكَ) لُغَات : يجوز هَيْتُ لك ، وهَيْتِ . وأجْودها وأكثرها
هيتَ - بفتح التاء - ورُوِيتْ عنْ علي صلوات اللَّه عليه : هِيتِ لَكَ فأمَّا الفتحُ مع فتح التاء والهاء ، فهو أكثر كلام العرب.
قال الشاعر :.
أبلغ أمير المؤمنين . . . أخا العِراقِ إذا أَتَيْتَا
أنَّ العِراقَْ وأهْلَهُ . . . عُنُق إليكَ فهيْتَ هَيْتا
أي فأقبل وتعالَ.
وحكى قطرب أنه أنشده بعض أهل الحجاز لطرفة بن العبد :
ليس قومي بالأبعدين إذا ما . . . قال داع من العشيرةِ هَيْت
هم يُجيبونَ ذَا هَلُمَّ سرَاعاً . . . كالأبَابِيلِ لا يُغَادَرُ بَيْتُ
رُوَيتْ عن ابن عباسٍ هِئْتُ لَكَ مهموزةً مكسورة الهاء ، من الهَيْئةِ
كأنها قالت تَهَيأتُ لك ، فأما الفتح في (هيْتَ) فلأنها بمنزلة الأصوات ، ليس
منها فعل يتصَرَّفُ ففُتحت التاءُ لسكونها وسكون الياء ، وأختير الفتح لأن قبل التاء ياء كما قالوا : كيْفَ وأيْنَ ، ومن قال هيتِ لك - بكسر التاء ، فلأن أصل التقاء السَّاكنين حركة الكسر ، ومن قال : هَيتُ ضمها لأنها في معنى الغاياتِ ، كأنها قالت : دُعائي لك ، ولما حذفت الإضافةُ وتضمنتْ معناها بُنيتْ على الضم كما بُنيتْ حَيْثُ ومُنْذُ يا هذا.
وَقِراءةُ عَلِيٍّ " هِئْتُ لك " بمنزلة هيتَ
والحجة فيها كالحجة فيها مفتوحة (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { هَيْتَ لَكَ } اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ أم معرَّبةٌ ، فقيل : معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك ، قاله السدي . وقيل : من السريانية ، قاله ابن عباس والحسن . وقيل : هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ ، أي : تعالَه فأعربه القرآن ، قاله أبو زيد الأنصاري . وقيل : هل لغة حَوْرانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقولٌ عن عكرمة . والجمهور على أنها عربية ، قال مجاهد : « هي كلمة حَثٍّ وإقبال ، ثم هي في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها ، وفي بعضها اسميتُها ، وفي بعضها يجوز الأمران ، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها :
فقرأ نافع وابن ذكوان » هِيْتَ « بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة . وقرأ » هَيْتُ « بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضمومة ابنُ كثير . وقرأ » هِئْتَ « بكسر الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحةٍ أو مضمومةٍ هشامٌ . وقرأ » هَيْتَ « بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون ، فهذه خمس قراءات في السبع.
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة . وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة . وقرأ ابن عباس أيضاً » هُيِيْتُ « بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ . وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة . فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات . فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس » هُيِيْتُ « بزنة حُيِيْتُ . وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم بالهمز : فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتح تخفيفاً نحو : أيْنَ وكَيْفَ ، ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً ب » حيث « ، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء الساكنين كجَيْرِ ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان.
ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس » هُيِيْتُ « بزنة » حُيِيْت « فإنها فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ ، ويحتمل الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء ، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان ، أحدهما : أن يكون بمعنى حَسُنَ هَيْئَةً.
والثاني : أن يكونَ بمعنى تهيَّأ ، يُقال : هِئْتُ ، أي : حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ . وجوَّز أبو البقاء أن تكون « هِئْتُ » هذه مِنْ : هاءَ يَهاء ، كشاء يشاء.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء ، فقال الفارسي : « يشبه أن [ يكون ] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي ، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله : » وراوَدَتْه « و { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] وتابعه على ذلك جماعة . وقال مكي بن أبي طالب : » يجب أن يكون اللفظُ « هِئْتِ لي » ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ « وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه لم يَزَلْ/ يَفِرُّ منها ويتباعد عنها ، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه ، فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها؟
وقد أجاب بعضهُم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى : تهيَّأ لي أمرُك ، لأنها لم تكنْ تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حَسُنَتْ هيئتك.
و » لك « متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت : القول لك أو الخطاب لك ، كهي في » سقياً لك ورعياً لك « . قلت : واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً ، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل ، إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ.
وقال أبو البقاء : » والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء ، أو تكونَ لغةً في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه السلام ، وهو فاسدٌ لوجهين ، أحدهما : أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له . والثاني : أنه قال لك ، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي « . قلت : قد تقدَّم جوابُه . وقوله : » إن الهمزة بدلٌ من الياء « هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو : بير وذيب ، ولا يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو : مِيل ودِيك ، وأيضاً فإن غيرَه جعل الياءَ الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من الهمزة ، قالوا : فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام . واعلم أنَّ القراءةَ التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام ، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ عنه ، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح » حِرْز الأماني « . اهـ (الدر المصون).

(3/100)


ثم قال : (مَعَاذَ اللَّهِ).
مصدر ، المعنى أعوذُ باللَّهِ أَنْ أَفْعَلَ هَذا ، تَقُولُ : عُذْتُ عِياذاً ومَعَاذاً.
(إِنَّهُ رَبِّي).
أي إن العزيز صَاحبي (أحْسَن مَثوايَ) ، أي تَولَّانِي في طُولِ مَقَامِي
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
أي : إِن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا ظالم.
[ويجوز أن يكون «إِنه ربي» يعني الله عز وجل «أحسن مثواي» أي : تولَّاني في طول مُقامي.] (2)
* * *
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
أكثَرُ المفسِّرِين أنه هَمَّ بها حتى رأى صورة يعقوب عليه السلام ، وهو
يقول له : يا يوسف أَتَهُمُّ بِفِعْلِ السفَهاءِ وأنت مكتوب فِي ديوانِ الأنبياء ، وقيل إنه رأى في البيت مكتوباً : (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32).
وهذا مذهب أهل التَفْسِير ، ولسنا نشكُّ
أنه قد رأى برهاناً قطعه عَما هَمَّ به (2).
وقال قوم : المعنى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ).
وذَهَبُوا إلى أن المعنى لَوْلاَ أن رَأَى برهان رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا.
والذي عليه المفسرون أنه هَمَّ بها وأنه جَلَسَ منها مجلس الرجُلِ من
المرأة إلا أَن اللَّه تفضل بأن أراه البُرهانَ ، أَلَا تَراه قال :
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).
والمعنى لَوْلاَ أنْ رأى بُرْهَان رَبِّهِ لأمْضَى ما هَمَّ بِه.
وليس في الكلام بكثير أتى تقول : ضربتك لولا زيد ، ولا هممت بك
لولا زيد ، إنما الكلام لولا زيد لهَمَمْتُ بك . و (لولا) تجابُ باللامِ ، فلو
__________
(1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 4 / 203).
(2) قال الإمام فخر الدين الرازي :
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى :
في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا ؟ وفي هذه المسألة قولان : الأول : أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة.
قال الواحدي في كتاب «البسيط» قال المفسرون : الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال : طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه ، ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب ، وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة ، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال : {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [ يوسف : 52 ] قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك : {وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى} [ يوسف : 53 ] ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه ، فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب.
والقول الثاني : أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل ، والهم المحرم ، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين ، وبه نقول وعنه نذب.
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة ، ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوهاً :
فالحجة الأولى : أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب ، وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب ، وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال.
إذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه ، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة.
ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة : {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء} [ يوسف : 24 ] وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه ، ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء.
وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر ، وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه ، إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ ، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم ، فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه ، فإن ذلك يستنكر جداً فكذا ههنا والله أعلم.
الثالث : أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة ، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع ، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية.
الرابع : أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية.
واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام ، وتلك المرأة وزوجها ، والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب ، وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية ، وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب.
أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام : {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} [ يوسف : 26 ] وقوله عليه السلام : {رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} [ يوسف : 33 ] وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة : {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [ يوسف : 32 ] وأيضاً قالت : {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} [ يوسف : 51 ] وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك ، فهو قوله : {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى لِذَنبِكِ} [ يوسف : 28 ، 29 ] وأما الشهود فقوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين} [ يوسف : 26 ] وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله : {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [ يوسف : 24 ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات : أولها : قوله : {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} واللام للتأكيد والمبالغة.
والثاني : قوله : {والفحشاء} أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء.
والثالث : قوله : {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال : {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [ الفرقان : 63 ] والرابع : قوله : {المخلصين} وفيه قراءتان : تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص.
ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته ، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه ، وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته ، فلأنه قال : {فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} [ ص : 82 ، 83 ] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى : {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى ، وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي :
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى . . بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده . . طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال.
وإذا عرفت هذا فنقول : الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين :
المقام الأول : أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها.
والدليل عليه : أنه تعالى قال : {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} وجواب {لَوْلاَ} ههنا مقدم ، وهو كما يقال : قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك ، وطعن الزَّجَّاج في هذا الجواب من وجهين : الأول : أن تقديم جواب {لَوْلاَ} شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح.
الثاني : أن {لَوْلاَ} يجاب جوابها باللام ، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال : ولقد همت ولهم بها لولا.
وذكر غير الزَّجَّاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله : {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
واعلم أن ما ذكره الزَّجَّاج بعيد ، لأنا نسلم أن تأخير جواب {لَوْلاَ} حسن جائز ، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب ، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال : إنهم يقدمون الأهم فالأهم ، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام.
وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة ، وأيضاً ذكر جواب {لَوْلاَ} باللام جائز.
أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز ، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزَّجَّاج في هذين السؤالين ، وهو قوله تعالى :{إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [ القصص : 10 ].
وأما السؤال الثالث : وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله : {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
فنقول : بل فيه أعظم الفوائد ، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء ، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، ثم نقول : إن الذي يدل على أن جواب {لَوْلاَ} ما ذكرناه أن {لَوْلاَ} تستدعي جواباً ، وهذا المذكور يصلح جواباً له ، فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً ، وترك الجواب كثير في القرآن ، لأنا نقول : لا نزاع أنه كثير في القرآن ، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً.
وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه ، وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب ، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها ، وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق.
والله أعلم.
المقام الثاني : في الكلام على هذه الآية أن نقول : سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول : إن قوله : {وَهَمَّ بِهَا} لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية ، فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه : الأول : المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد ، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به ، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر ، يقال : هممت بفلان أي بضربه ودفعه.
فإن قالوا : فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله : {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
قلنا : بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله ، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صوناً للنفس عن الهلاك ، والثاني : أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به ، فكان يتمزق ثوبه من قدام ، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن ، ولو كان ثوبه ممزقاً من خلف لكانت المرأة هي الخائنة ، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى ، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً عنها ، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني : في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة ، وهذا مستعمل في اللغة الشائعة.
يقول القائل : فيما لا يشتهيه مايهمني هذا ، وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي ، فسمى الله تعالى شهوة يوسف عليه السلام هماً ، فمعنى الآية : ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود.
الثالث : أن يفسر الهم بحديث النفس ، وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات ، فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة.
فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة ، ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية ، ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف ، إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه ، إلا أن دينه وهداه يمنعه منه ، فهذا لا يدل على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل ، فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين.
واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات » فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له : يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي : ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين ، والله أعلم.
المسألة الثانية :
في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه : الأول : أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني : أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة.
بل نقول : إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال : {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} [ الأحزاب : 33 ] فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.
والثالث : أنه رأى مكتوباً في سقف البيت {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [ الإسراء : 32 ] والرابع : أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش ، والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها ، ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [ الصف : 2 ، 3 ] وأيضاً أن الله تعالى عير إليهود بقوله : {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [ البقرة : 44 ] وما يكون عيباً في حق إليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات.
وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أموراً : الأول : قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف : لم فعلت ذلك ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية ، فقال يوسف : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فوالله لا أفعل ذلك أبداً قالوا : فهذا هو البرهان.
الثاني : نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضاً على أصابعه ويقول له : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه.
قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
والثالث : قالوا إنه سمع في الهواء قائلاً يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه.
والرابع : نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج ، ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال : هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له : إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل ، وأيضاً فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز ، وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية ، فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جرواً دخل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبقي هناك بغير عمله قالوا : فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوماً ، وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام ، والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ، ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل ، وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه ، ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين ، والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة والله أعلم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 26 صـ 92 - 97}

(3/101)


كان : ولقد هَمَّتْ بِهِ وَلَهمَّ بها لولا أن رأى أي برهان رَبِّه لكان يجوز على
بعد (1).
وقوله : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ).
أي كذلك أرَيْنَاهُ البُرهَانَ لنَصْرِفَ عنه السُّوءَ والفَحْشَاءَ ، فالسوءُ - خيانة
صاحبه ، والفحشاء ركوب الفاحشة.
(إِنَهُ مِن عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ).
أي الذين أخلصوا ، أخْلَصَهُمُ اللَّهُ مِن الأسْوَاءِ والفواحش ، مثل
المُصْطَفَيْنَ.
وَقُرِئتْ مِنَ المخْلِصِينَ بكسر اللام ، أي الذين أخْلَصوا دينَهُمْ للَّهِ
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
أي استبقا إلى الباب ، يعني به يوسف وامرأة العزيز.
(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ).
والقدُّ القطع ، أي خَرقَتْه خَرْقاً انقَدَّ مِنْه.
(وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ).
أي صادفا سيدها لدى الباب فحصرها في ذلك الوقت كيدٌ لَمَّا فَاجأَتْ
سَيِّدَهَا.
(قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ).
أي ما جزاؤه إلا السِّجْن.
(أوْ عَذَابٌ ألِيمٌ).
أي عذاب مُوجع.
قال يوسف :
(هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { لولا أَن رَّأَى } : جوابُ لولا : إمَّا متقدِّمٌ عليها وهو قوله : « وَهَمَّ بها » عند مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ أدواتِ الشرط عليها ، وإمَّا محذوفٌ لدلالة هذا عليه عند مَنْ لا يرى ذلك ، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبينِ ومَنْ عُزِيا إليه غيرَ مرة كقولهم : « أنت ظالمٌ إن فعلْتَ » ، أي : إنْ فَعَلْتَ فأنت ظالمٌ ، ولا تقول : إنَّ « أنت ظالمٌ » هو الجوابُ بل دالٌّ عليه ، وعلى هذا فالوقفُ عند قوله : « برهان ربه » والمعنى : لولا رؤيتُه برهانَ ربه لهمَّ بها لكنه امتنع هَمُّه بها لوجودِ رؤيةِ برهان ربه ، فلم يَحْصُل منه هَمٌّ ألبتَّةَ كقولك : « لولا زيدٌ لأكرمتك » فالمعنى أن الإِكرام ممتنعٌ لوجود زيد ، بهذا يُتَخَلَّص من الأشكال الذي يورَدُ وهو : كيف يليق بنبيٍّ أن يَهُمَّ بامرأة؟.
قال الزمخشري : فإن قلت : قوله « وهمَّ بها » داخلٌ تحت القَسَم في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أم خارجٌ عنه؟ قلت : الأمران جائزان ، ومِنْ حَقِّ القارىء إذا قَصَدَ خروجَه من حكم القَسَم وجَعَلَه كلاماً برأسه أن يَقِفَ على قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ويبتدىء قولَه : { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرق بين الهَمَّيْن . فإن قُلْتَ : لِمَ جَعَلْتَ جَوابَ « لولا » محذوفاً يدلُّ عليه « وهَمَّ بها » وهَلاَّ جَعَلْتَه هو الجوابَ مقدَّماً . قلت . لأنَّ « لولا » لا يتقدَّم عليها جوابُها مِنْ قِبَلِ أنه في حكم الشرط ، وللشرط صدرُ الكلام وهو [ مع ] ما في حَيِّزه من الجملتين مثلُ كلمةٍ واحدة ، ولا يجوز تقديمُ بعضِ الكلمة على بعض ، وأمَّا حَذْفُ بعضها إذا دَلَّ عليه الدليل فهو جائز «.
قلت : قوله » وأمَّا حَذْفُ بعضها « إلى آخره جواب عن سؤالٍ مقدرٍ وهو : فإذا كان جوابُ الشرط مع الجملتين بمنزلةِ كلمةٍ فينبغي أنْ لا يُحْذَفَ منهما شيءٌ ، لأن الكلمةَ لا يُحذف منها شيءٌ . فأجاب بأنه يجوز إذا دلَّ دليلٌ على ذلك . وهو كما قال.
ثم قال : » فإن قلت : لِمَ جَعَلْتَ « لولا » متعلقةً ب « هَمَّ بها » وحدَه ، ولم تَجْعَلْها متعلقةً بجملةِ قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ؟ لأنَّ الهمَّ لا يتعلَّق بالجواهر ولكن بالمعاني ، فلا بد من تقدير المخالطة ، والمخالطةُ لا تكون إلا بين اثنين معاً ، فكأنه قيل : / ولقد هَمَّا بالمخالطة لولا أنْ مَنَعَ مَانعُ أحدِهما . قلت : نِعْم ما قلت ، ولكن اللَّه سبحانه قد جاء بالهمَّين على سبيل التفصيل حيث قال : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا }.
قلت : والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة ، أعني كون قوله : « لولا » متعلقةً ب « همَّ بها » فإنه قال : « ولو كان الكلامُ » ولهمَّ بها « لكان بعيداً ، فكيف مع سقوط اللام »؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ « وهمَّ بها » جواباً ل « لولا »؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت ، وعلى تقدير أنه كان مقترناً باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها.
وجواب ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما تقدَّم . وأمَّا قولُه : « ولو كان الكلام » ولهمَّ بها « فغيرُ لازمٍ »؛ لأنه متى كان جوابُ « لو » و « لولا » مثبتاً جاز فيه الأمران : اللامُ وعَدَمُها ، وإن كان الإِتيان باللامِ وهو الأكثر.
وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضاً في هذا المعنى فقال : « قولُ مَنْ قال : إنَّ الكلام قد تَمَّ في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ } وإنَّ جوابَ » لولا « في قوله : » وهمَّ بها « ، وإن المعنى : لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها ، فلم يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام » قال : « وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف » أمَّا قولُه : « يردُّه لسان العرب » فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ قولِه : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] فقوله إن كادَتْ : إمَّا أن يكون جواباً عند مَنْ يرى ذلك ، وإمَّا أن يكونَ دالاً على الجواب ، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب . هذا معنى ما ردَّ به عليه الشيخ . قلت : وكأن ابن عطية إنما يعني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه ، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد.
اهـ (الدر المصون).

(3/102)


أي هي التِي أرادَتِ السًّوءَ.
(وَشهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أهْلِهَا).
قيل إنه رجل حكيم ، وقيل إنَّه طِفْل
(إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
أي إن كان هو المقبل عليها وهي الدافعة له عن نفسها فيجب أن تكون
خرقت قميصه من قُبُل ، وإن كان هو المتباعدَ مِنْهَا ، وهي التابعة له في
استباقهما فيجب أن يكون قَدُّ القَميصِ من دبُرٍ.
والقراءة من قُبُل ومن دُبُرٍ ، ومن قبْل ومن دُبْرٍ.
ويجوز من قُبُل بغير تنوين ، ومن دُبُر ، على الغاية ، أيْ مِنْ قُبْله.
أما الفتح فبعيدٌ في قوله : من قُبْلَ ومن دُبْرَ . لأن الذي يفتح يجعله مبنياً على الفتح فيشبهه بما لا ينصرف فيجعله.
ممتنعاً من الصرف لأنه معرفة ومُزَالٌ عن بابه ، وهذا الوجه يجيزه البصريون.
فأمَّا قُبْلُ وقُبُلُ فالتسكين في الباء جائز ، وقد روي عن ابن أبي
إسحاق الفتح والضم جميعاً ، والفتح أكثر في الرواية عنه ، ولا أعلم
أحداً من البصريين ذكر الفتح غَيرَه.
* * *
(فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
أي إن قولَكِ : (ما جزاءُ مَنْ أَرَادَ بأَهلِكَ سُوءًا). . . من كَيْدِكُنَّ .

(3/103)


فأمَّا دخول " كَانَ مع " إن " الجزاءَ ، وَكونُ الفِعْلِ بعدَهَا لِمَا مَضَى ففيه
قولان :
قال محمد بن يزيد : " كان " لقوتها وأنها عبارة عن الأفعال لم تغيرها إِنِ
الجزاء الخَفِيفَةُ.
والقول الثاني أَن " كان " عبارة عَنِ الأفعَالِ - وأن كان في معنى
الاستقبال ههنا - عَبَّرتْ عن فعل ماض ، المعنى إن يكن قَمِيصُهُ قُذ ، أيْ إنْ
يُعْلَمْ قَمِيصُه قُدَّ مِنْ قُبل فالْعِلْمُ مَا وقع بعد ، فكذلك الكون لا يكون لأنه مؤدٍّ عن العلم.
* * *
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
معناه يا يوسف اكتم هذا الأمر ولا تذكره.
(وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ).
ويرْوى أنهُ كان قَليلَ الغَيْرَةِ.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ).
(بَدَا) فعل استغْنى عَنْ فَاعِل.
العربُ تقولُ : قد بَدا لي بَدَاء أي تغير رأي عما كان عليه.
وأكثر العرب تقول : قد بدا لي ، ولم يذكر بَدَاءً ، لكثرته
لأنه في الكلام دَلِيلاً على تغير رأيه ، فَتُرِكَ الفاعلُ وهُوَ مُرَاد.
ثم بين ما البَدَاءُ فقال لَيَسْجُننه حَتى حينٍ ، كأنَّهم قالوا : لَيَسْجُنَنهُ ، والرأي الذي كاد لهم قبل :
قيل إن العزيز أمره بالإعراض فقط ثم تغير رأيه عن ذلك.
* * *
وقوله : (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
يقال نِسوة ونُسْوة - بالضم والكَسْرِ -
وقيل : (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ).

(3/104)


أي عَبْدَهَا وغلامَها ، لأن استعمالَهم كان للغلام المملوك أن يُسمَّى
فتى.
(قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) (1).
أي بلغ حُبُّه إلى شِغَافَ قَلْبها ، وفي الشغاف ثلاثة أقوال :
قال بعضهم الشغَاف غلاف القلب.
وقيل : هو داء يكون في الجوف في الشراسيف.
وأنشدوا :
وقد حال هَمُّ دون ذلك دَاخِلُ . . . دخولَ الشغَافِ تبتَغِيه الأصَابعُ
وقد قُرِئَتْ شَعَفَها بالعين ، ومعنى شعَفها ذهب بها كل مذهب مشتق من
شَعَفَاتِ الجبال ، أي رُؤوس الجبال ، فإذا قلت فلان مشعُوف بكذا ، فمعناه أنه قد ذهب به الحبِّ أقصى المذاهب.
* * *
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
إن قال قائل : لم سُمِّيَ قولُهنَّ مكراً ؟
فالجواب فيه أنها قد أطلعتهن ، فاسْتَكْتَمَتْهُنَّ فمكرنَ بها وأَفْشَيْنَ سِرها ، فلما سمعت بما فَعَلْنَ أرادت أَنْ يُوقَعْني فيما وقعت فبه فأرسلت إليهن.
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً).
(اعْتَدَتْ) أفعلت من العَتَادِ ، وكل ما اتخَذْتَه عُدةً للشيء فهو عَتَادَ ومعنى
(مُتَّكَأً) ما يُتكأ عليه لطعام أو شَرَاب أو حديث.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قَدْ شَغَفَهَا } هذه الجملةُ يجوز أن [ تكون ] خبراً ثانياً ، وأن تكونَ مستأنفة ، وأن تكونَ حالاً : إمَّا من فاعل « تُراوِدُ » وإمَّا مِنْ مفعوله . و « حبَّاً » تمييزٌ ، وهو منقولٌ من الفاعلية ، والأصل : قد شَغَفها حبُّه . والعامَّة على « شَغَفها » بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى خَرَقَ شِغاف قلبها ، وهو مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف : حجاب القلب جُليْدَة رقيقة . وقيل : سويداء القلب . وقيل : داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل : جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان القلب ليسَتْ محيطةً به ، ومعنى شَغَفَ قلبَه ، أي : خرق حجابَه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحبِّ ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه . والمَشْغوف : مَنْ وصل الحبُّ لقلبه ، قال الأعشى :
2768 تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً . . . مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما صنعا
وقال النابغة الذبياني :
2769 وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ . . . مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ
وقرأ ثابت البناني بكسر الغين . قيل : وهي لغة تميم.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة ، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً . واختلف الناس في ذلك فقيل : هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران ، قاله الزمخشري ، وأنشد :
2770 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي
والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه ، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه ، « كما شَغَفَ » ، أي : كما أَحْرق وبالغ المهنوءة ، أي : المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران ، ولا ينشدونه بالمهملة.
وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة : « مِنْ قولك : فلان مَشْعوفٌ بكذا ، أي : مغرى به ، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب . وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد : » الشَّغَف يعني بالمعجمة في الحب ، والشَّعَفُ في البغض « . وقال الشعبي : » الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ ، والشَّعَفُ الجنون ، والمَشْعوف : المجنون «.
اهـ (الدر المصون).

(3/105)


(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ).
يعالجن بالسكين ما يأكلْنَ ، وقال بعضهم مُتْكَأً ، وقالوا واحدته مُتْكَة
وهي الأتْرُجُّ . والقراءة الجيدة (مُتْكَأً) بالهمز ، يقال : تِكئَ الرجلُ - يتْكَأُ ، تُكَأً ، والتكَا أصله من وكَأت ، وإنما متكأ مفتعل ، وأصله موتكأ مثل مُوتَزن منَ الوزن (1).
(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ).
إن شئت ضممت التاء ، وإن شئت كسرتَ ، والكسر الأصل لسكون التاء
والخاء ، ومن ضم التاء فلثقل الضمة بعد الكسرة.
وأعتدت لهن الطعام وجعلت في أيديهن السكاكين ، وأمرته بالخروج عليهن في هيئته ، ولم يكن يتهيأ له أن لا يخرج ؛ لأنه بمنزلة العبد لها.
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ).
أردن أن يقطعن الطعام الذي في أيديهن فَدَهِشْنَ لَمَّا رأينَه فَخَدشْنَ
أيديَهُن.
ولم يقطعن الأيدي حتى تَبيَن منهنَّ.
وهذا مسْتعمل فى الكلام.
يقول الرجل : قد لطعت يدِي . يعني أنك قد خدشتها.
ومعنى (أَكْبَرْنَهُ) أعظمنه.
ويقال : (أَكْبَرْنَهُ) حِضْنَ.
وقد رُوِيتْ عن مجاهد.
وليس ذلك بمعروف في اللغة.
وقد أنشدوا بيتاً في هذا وهو قوله :
يَأْتي النساءَ على أَطْهارِهِنّ ولا . . . يَأْتي النساءَ إِذا أَكْبَرْنَ إِكْباراً
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مُتَّكَئاً } العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمز ، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ ، أي : هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ . والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها . وقيل : المتكأ : مكان الاتِّكاء . وقيل : طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد . قال القتبيُّ : » يُقال : اتَّكَأْنا عند فلانٍ ، أي : أَكَلْنا «.
قال الزمخشري : » مِنْ قولك : اتَّكَأْنا عند فلان : طَعِمنا ، على سبيل الكناية؛ لأنه مِنْ « دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك » : اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها . قال جميل :
2771 فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا . . . وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ «
انتهى . قلت : فقوله : » وشَرِبْنا « مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا.
وقرأ أبو جعفر والزهري » مُتَّكَا « مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ ، فصار بزنة مُتَّقَى . والثاني : أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء ، فالمعنى : أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه : إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا بالقطع بالسكين ، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح.
وقرأ الحسن وابن هرمز » مُتَّكاءً « بالتشديد والمدِّ ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله :
2772 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ
وقوله :
2773 يَنْباع مِنْ ذفرى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله :
2774 أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ . . . الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ
أي : بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة.
وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة/ والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب » مُتْكَاً « بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ ، إلا أنهما فتحا الميم . والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان ، وأنشدوا :
2775 فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها . . . تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ
وقيل : بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه ، ونشدوا :
2776 نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً . . . وترى المُتْكَ بيننا مُسْتعارا
قيل : وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرى وافَقَتْ هذه . وقيل : بالضم العسلُ الخالص عند الخليل ، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي . ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال : وهو الشرابُ الخالص.
وقال المفضل : هو بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كِنْدة.
وقوله : { لَهُنَّ مُتَّكَئاً } : إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً ، ويَدُلُّ له قوله : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وإمَّا أن يريدَ الجنس.
اهـ (الدر المصون).

(3/106)


وهذه اللفظة ليست بمعروفة في اللغة.
والهاء في (أَكْبَرْنَهُ) تنفي هذا ؛ لأنه لا يجوز أن يقول : النساء قد حِضْنَهُ يا هذا ؛ لأن حضن لا يتعدى إلى مفعول.
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ).
وحاشا للَّهِ ، يقرأان - بحذف الألف وإثباتها - ومعناه الاستثناء.
المعنى فيما فسَّره أهل التفسير : وقلْنَ : معاذ اللَّه ما هذا بشراً.
وأما على مذهب المحققين من أهل اللغة ، فحاشا مشتقة من قولك :
كنْت في حشا فُلانٍ ، أي في ناحية فلانٍ ، فالمعنى في " حَاش للَّهِ ، بَرأَهُ اللَّه
من هذا . من التَّنَحِّي ، المعنى قد نحَّى الله هذا مِنْ هَذَا ، إذا قلت حاشا لزيد
من هذا فمعناه قد تنحَّى زيد من هذا ، وتباعد منه ، كما أنك تقول قَدْ تَنحَّى
من الناحية ، وكذلك قد تحاشى ، من هذا الفِعْلِ (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا هَذَا بَشَرًا).
هذه القراءة المعروفة ، وقد رُوَيتْ : ما هذا بِشِرى ، أي ما هذا بعد
مُشْتَرى.
وهذه القراءة ليست بشيء ، لأن مثل بِشِريٍّ " يكتب في المصحف
بالياء (2).
وقولها : (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
" مَلَك " مطابق في اللفظ لِبَشرٍ.
وسيبويه ، والخليل وجميع النحويين القدماء يزعمون أَن بشراً منصوب
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { حَاشَ للَّهِ } » حاشى « عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه ، وحَكَوا عن العرب » غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ « بالنصب ، وأنشدوا :
2780 حشى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ . . . بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب » رَهْط « . و » حشى « لغةٌ في حاشى كما سيأتي . وقال الزمخشري : » حاشى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول : أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال :
2781 حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ . . . ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم
وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشى اللَّهِ : براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه ، وهي قراءة ابن مسعود « . قال الشيخ : » وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرقَ بين قولك : « قام القومُ إلا زيداً » و « قام القوم حاشى زيدٍ » ، ولَمَّا مَثَّل بقوله : « أساء القومُ حاشى زيدٍ » وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله : حاشا أبي ثوبان ، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة ، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين ، وهما :
2782 حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا . . . ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ
عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به . . . ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
قلت : قوله « إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء » ليس « و » لا يكون « و » غير « لم يذكروا معانيهَا ، إذ مرادُهم مساواتُها ل » إلا « في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات.
وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة ، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله :
2783 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ
وقول الآخر :
2784 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتعيَّن أن تكونَ فعلاً ، فاعلُه ضمير يوسف أي : حاشى يوسف ، و » للَّه « جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله ، واللامُ تفيد العلةَ أي : حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يرمى بما رَمَتْه به ، أي : جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً ، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل : تنزيهاً للَّه وبراءةً له ، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : مِنْ عن يمينه فجعلوا » عن « اسماً ولم يُعْربوه ، وقالوا » مِنْ عليه « فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر ، بل أَبْقَوا » عن « على بنائه ، وقلبوا ألف » على « مع المضمر ، مراعاةً لأصلها ، كذا أجاب الزمخشري ، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب . وفيه نظر.
أمَّا قوله : » مراعاة لأصله « فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية ، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام ، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف ، ولهم في ذلك مذهبان : الإِعرابُ والحكاية ، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ . وأمَّا استشهادُه ب » عن « و » على « فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ » عن « حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها.
وأمَّا قَلْبُ ألفِ « على » مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق ك « لدى ».
والأَوْلى أن يقال : الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره ، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال « حاشاً للَّه » منصوباً ، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها.
وقيل في الجواب عن ذلك : بل بُنيت « حاشا » في حال اسميتها لشبهها ب « حاشا » في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى ، كما بُنِيَتْ « عن » و « على » لما ذكرنا.
وقال بعضُهم : إنَّ اللامَ زائدةٌ . وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ . واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها . قال النابغة الذبياني :
2785 ولا أرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ . . . ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ
قالوا : وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا : « سَوَّفْتُ بزيد » و « لَوْلَيْت له » ، أي : قلت له : سوف أفعلُ . وقلت له : لو كان ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتمل.
وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال : « لا تَخْلو » حاش « في قوله : » حاش للَّه « من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء ، أو تكون فعلاً على فاعَل ، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله ، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف ، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية ، والمعنى : أنه صار في حَشَاً ، أي في ناحية ، وفاعل » حاش « » يوسف « والتقدير : بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه ، أي : لخوفِه ».
قوله : « حرفُ الجر لا يدخل على مثله » مُسَلَّم ، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه . وقوله : « لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً » ممنوع ، ويدلُّ له قولهم « مُنْ » في « منذ » إذا جُرَّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ . قالوا : ويدلُّ على أنَّ أصلَها « منذ » بالنون تصغيرُها على « مُنَيْذ » وهذا مقرَّر في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده « حاشى » بألفين : ألفٍ بعد الحاء ، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً ، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه . والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً.
فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها . وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها ، كالفارسي.
قال الفارسي : « وأمَّا حذفُ الألف فعلى » لم يَكُ « و » لا أَدْرِ « و » أصاب الناسَ جُهْدٌ ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة « ، و [ قوله ] :
2786 وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني/ . . . في شعر رؤبة ، يريد : لم يكن ، ولا أدري ، ولو ترى ، ووصَّاني . وقال أبو عبيد : » رأيتُها في الذي يقال : إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه : « حاش للَّه » بغير ألف ، والأخرى « مثلُها » . وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك ، قالوا : فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة ، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب ، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال : « ومِنْ العرب من يقول : » حشى زيد « أراد حشى لزيد » . فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم.
وقرأ الأعمش في طائفة « حشى للَّه » بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب ، وعليه قوله :
2787 حشى رَهْطِ النبيِّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقرأ أُبَي وعبد اللَّه « حاشى اللَّهِ » بجرِّ الجلالة ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [ نحو : « سبحان اللَّه » وهو اختيارُ الزمخشري . الثاني : أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده ، وإليه ذهب الفارسي ، ] وفي جَعْلِهِ « حاشى » حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ ، إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ « قام القومُ حاشى زيد ».
واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية ، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه ، وجعله في ذلك كخلا وعدا ، عند مَنْ أثبت حرفيَّة « عدا » ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية ، كما فعلوا ذلك في « على » فقالوا : يكون حرف جر في « عليك » ، واسماً في قوله : « مِنْ عليه » ، وفعلاً في قوله :
2788 عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان ، ملخصُه أن « على » حالَ كونها فعلاً غير « على » حال كونها غيرَ فعل ، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو ، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ . وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول : لو كانت « حاشى » في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية ، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها.
وقرأ الحسن « حاشْ » بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقف . ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : « حاشى الإِله » قال : « محذوفاً مِنْ حاشى » يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة ، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب « اللوامح » فإنه قال : « بحذف الألف » ثم قال : وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده ، فأما « الإِله » فإنه فكَّه عن الإِدغامِ ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول ، ومعناه المعبود ، وحُذِفت الألف من « حاشى » للتخفيف «
قال الشيخ : » وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ « اللوامح » من أنَّ الألف في « حاشى » في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين ، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ : « حاشى الإِله » ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها ، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف في « يَخْشى الإِله » ، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف «.
قلت : الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه ، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به . وقول صاحب « اللوامح » : « وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ به ما بعده » لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدَّمْ ما يستثنى منه بمجروره.
واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان ، كهي في « سقياً لك ورعياً لزيد » عند الجمهور ، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس « حاشى » لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما ، وقد تقدم أن بعضَهم ادعى زيادتَها.
اهـ (الدر المصون).

(2) قال السَّمين :
قوله : { مَا هذا بَشَراً } العامَّة على إعمال « ما » على اللغة الحجازية ، وهي اللغة الفصحى ، ولغةُ تميم الإِهمالُ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدتُه عليه من قوله :
2789 وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيتين . ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز . وقال الزمخشري : « ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ » بشرٌ « بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود » . قلت : فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم.
وقرأ العامَّة « بَشَراً » بفتح الباء على أنها كلمة واحدة . وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي « بشرى » بكسر الباء ، وهي باء الجر دخلت على « شِرى » فهما كلمتان جار ومجرور ، وفيها تأويلات ، أحدُهما : ما هذا بمشترى ، فوضع المصدرَ موضع المفعول به كضَرْب الأمير . الثاني : ما هذا بمُباعٍ ، فهو أيضاً مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف.
الثالث : ما هذا بثمن ، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يجرى عليه شيءٌ من هذه الأشياء.
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه « إلا مَلِك » بكسر اللام واحد الملوك ، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك/ وأثبتوا له عِزَّ الملوك.
وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث . وقال أبو البقاء : « وعلى هذا قُرىء » مَلِك « بكسر اللام » كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضاً للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء البتة ، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال : « وقرىء ، ما هذا بشرى أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم ، إنْ هذا إلا مَلَك كريم ، تقول : » هذا بشرى « أي : حاصلٌ بشرى بمعنى يشترى ، وتقول : هذا لك بشرى أم بِكِرا؟ والقراءةُ هي الأَوْلى لموافقتها المصحف ومطابقة » بشر « ل » ملك «.
قوله : » لموافقتها المصحفَ « يعني أنَّ الرسم » بشراً « بالألف لا بالياء ، ولو كان المعنى على » بشرى « لَرُسِمَ بالياء . وقوله : » ومطابقة « دليلُ على أنه لم يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء . اهـ (الدر المصون)

(3/107)


خبرَ مَا ، ويجعلونه بمنزلة ليس وَ " مَا " مَعناها معنى ليس في النفي ، وهذه
لغة أهل الحجاز ، وهي اللغَةُ القُدْمَى الجيدَةُ.
وزعم بعضهم أن الرفْعَ في قولك : (مَا هَذَا بَشَرًا) أقْوى الوجهين ، وهذا غلط ، لأن كتاب اللَّه ولغة رسول اللَّه أقْوى الأشياء وأقوى اللغات.
ولغة بني تميم : ما هذا بشر.
ولا تجوز القراءة بها إلَّا بروايةٍ صَحيحةٍ.
والدليل على ذلك إجماعهم على : (مَا هُنَّ أمَّهَاتِهِمْ)
وما قرأ أحَد ما هُنَّ أُمَّهَاتُهمْ.
* * *
وقوله : (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ).
القراءة الجيدة تخفيف لَيَكُونًا . والوقوف عليها بالألف ، لأن النون
الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف ، تقول : اضْرباً زيداً ، فإذا وقفت قلت :
اضربَا ، كما أبدلت في : رأيتُ زيداً الألف من التنوين ، وقد قرئت : ولتكونَنَّ - بتشديد النُّونِ ، وأكرهها لخلاف المصحف ، لأنَّ الشديدة لا يُبْدَلُ منها شيء.
(مِنَ الصَّاغِرِينَ). مِنَ المذَلِّيِنَ.
* * *
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
والسَّجْن جميعاً - بكسر السين وفتحها - فمن فتح فعلى المصدر.
المعنى أَنْ أُسْجَنَ أَحبُّ إليَّ ، ومن كسرَ فعَلَى اسم المكَانِ ، فيكون المعنى :
نُزولُ السجنِ أَحبُّ إليَّ مِمًا يَدْعُونَنِي إليْهِ ، أي من ركوب المعصية.
(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ).
أي إلا تعْصِمْني أَصْبُ إليْهِنَّ ، أَي أَمِلْ إلَيْهن . يقال : صبا إلى اللَّهْوِ
يصبو صُبُوًّا ، وصِبِيًّا ، وَصَبًّا ، إذا مالَ إلَيْه (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَصْبُ } قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبو أي : رَقَّ شَوْقُه . والصَّبْوة : المَيْلُ إلى الهوى ، ومنه « الصَّبا » لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي : تميل ، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال : صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً ، وصَبِيَ يصبى صَبَاً ، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب.
وقرأت فرقة « أَصَبُّ » بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ ، والصَّبابَةُ : رِقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء

اهـ (الدر المصون).

(3/108)


وقال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ). . وجائز أن يكون يَعْني امرأة
العزيز وحدها ، ألا أنه أراد كيْدَها وكيدَ جميع النساء ، وجَائز أن يكون كيدَها وكيدَ النِسْوَةِ اللاتِي رَأَيْنَ يوسُف حِينَ أرَتهُن إيَّاهُ.
* * *
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
ولم يقل فحبس لأن في قوله : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ) دليلاً أنه حُبسَ.
و " فَتَيان ، جَائز أَنْ يكونَا حَدَثَيْنِ أوْ شَيْخَيْن ، لأنهم كانوا يُسَمونَ المملوك فَتًى.
(قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا).
ولم يقل إني أراني في النوم أعْصِرُ خَمراً ، لأن الحال تدُلُّ على أنه ليس
يرى نفسه في اليقظة يَعْصِرُ خَمراً.
وقال أهل اللغة : الخمرُ في لُغَةِ عُمَان اسم للْعِنَبِ ، فكأنَّه قال : أراني أعصر عِنَباً ، ويجوز أن يكونَ عَنَى الخمْرَ بعينها ، لأنه يُقَالُ للذِي يَصْنَعُ من التَمْرِ الدبْس هذا يَعْمَلُ دِبْساً ، وإنَّمَا يعْمَلُ التمرَ حتَى يصيرَ دِبْساً ، وكذلك كل شيء نُقِلَ مِنْ شيء.
وكذلك قوله أعصِرُ خمراً ، أي أعصِرُ عِنَبَ الخمْرِ أي العِنَبَ الَّذِي يكونُ عَصِيرُه خمراً.
(وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ).
أي تأويل ما رأينا.
وقولهما (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) يدل على أنهما رأيا ذلك في النوم ، لأنه لا تأويل
لرُؤية اليقظة غير ما يراه الإِنسان.
(إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

(3/109)


جاء في التفسير أنه كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ، ويعود العليل.
وقيل من المحسنين ، أي ممن يُحسِنُ التأويل . وهذا دليل أنَّ أمر الرؤيا
صحيح ، وأنها لم تزل في الأمم الخالية ، ومن دفع أمر الرؤيا وَأنَّه منها ما
يصح فليس بمسلم لأنه يدفع القرآن والأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه روي عن رسول الله أن الرؤيا جزء من أربعين جزءاً من النبوة.
وتأويله أن الأنبياء يُخْبِرُونَ بما سَيَكُون.
والرؤيا الصادقة تدل على ما سيكونُ.
* * *
(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
وليس هذا جواب ما سألا عنه ، إنما سألا أن يخبر هما بتأوِيلِ مَا رَأياه
فأحب يوسف عليه السلام أن يدعُوهما إلى الِإيمان وأن يعلمهما أنه نَبي ، وأن
يدلهما على نبوته بآية معجزة ، فأعلمهما أنه يخبرهما بِكلِّ طَعَام يؤتيان به قبل
أن يرياه ، ثم أعْلَمَهُما أن كل ذلك مما عرفه الله إياه فقال :
(ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).
أي لست أخبركما عَلَى جِهَةِ التَكَهُّنِ ، والتنَجُّمِ ، إنما أخبركما بِوَحي
منَ اللَّهِ وعِلْمٍ ، ثم أعْلَمَهمَا أن هذا لا يكون إلا لمؤمِنٍ بِنَبِي فقال :
(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
أي اتباعا الِإيمان بتوفيق اللَّه لنا بفضله علينا (وعلى الناس) بأن دلهم
على دينه المؤدِّي إلى صلاحهم .

(3/110)


(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)
ثم قال لهما :
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
فَدَعَاهم إلى توحيد اللَّه بعد أنْ علمهما أنه يخبرهما بالغيب ، ثم قال
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
أي أنتم جعلتم هذه الأسماء آلهةً.
ثم أخبرهم بتأويل الرؤيا بعد أن دعاهم إلى الإيمان.
فأما تكرير قوله هم فعلى جهة التوكيد.
* * *
وقوله : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
فكان هذا صاحبَ شَراب الملك ، فأعلمه أن تأويل ما رأى هو هذا.
ويجوز فيُسْقِي ، والأجود فيَسْقِي ، تقول سقيته بمنزلة ناولته فشرب.
وأسقيته جعلْتُ له سَقْياً ، تقول أسقيته من كذا وكذا أي جعلت له سقياً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
لَمَّا تأول لهما الرؤيا قال الذي أنْبَأهُ بأنَّه يُصْلَبُ أنه لم يَرَ شَيئاً فأعلَمه
أنَّ ذلك واقع به وإنْ لَمْ يَرَ ، كما أعْلَمَهُمَا بخبر ما يَأتِيَهما من الطعام.
* * *
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
أي عند الملك صاحبك.
(فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) .

(3/111)


أنسى يُوسُفَ الشيطانُ أن يَذْكُرَ اللَّهَ.
(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
اختلفوا في البِضَعْ فَقَال بعضهم : البضع ما بين الثلاث إلى الخمس.
وقال قطرب إلى السبع.
وقال الأصمعي وهو القول الصحيح : البضْعُ ما بين
الثلاث إلى التَسْع ، واشتقاق البضْع والبَضْعَةِ مِنْ قَطَعْتَ الشيءَ
فمعناه القِطعَة ممن العَدَدِ ، فَجُعِلَ لِمَا دُون العَشَرةِ من الثلاث إلى التًسع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
(سَبْعٌ عِجَافٌ).
العجَاف التي قد بلغت في الهُزَالِ الغايةَ والنهايَةَ.
(يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ).
الملأ الذين يرجع إليهم في الأمور ، ويقتدي بآرائهم.
(إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
هذه اللام أدخلت على المفعول لِتُبيُنَ المعنى إن كنتم تعبرون ، وعابرين
ثم بين باللام فقال للرؤيا.
ومعنى عبَّرت الرؤيا وعَبَرْتُها خبرت بآخر ما يؤول إليه أمرها.
واشتققته من عَبْرِ النهْرِ ، وهو شَاطِئ النهْرِ ، فتأويل عبرت النَهْرَ ، أي بلغتُ إلى عِبْرِه ، أي شاطئه ، وهو آخر عَرْضِهِ.
* * *
(قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
والضغث في اللغة الحُزْمةُ والباقَةُ من الشيء ، كالبقل وما أشبهه ، فقالوا
له : رُؤْياكَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ، أي حُزَم أخلاطٍ ليست برؤيا بينةٍ.
__________
(1) هذا رأي لبعض المفسرين ، والأقرب أن الشيطان أنسى الرجل الناجي أن يذكر يوسف عند الملك ، ويقوي هذا ما يأتي من قوله (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45).

(3/112)


(وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ).
أي ليس للرؤية المختلطة عندنا تأويل.
* * *
(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
أي بعد حين ، وقرأ ابن عباس : واذَّكرَ بَعْدَ أمَهٍ ، والأمهُ النسيَانُ ، يقال
أمِهَ يَأمَهُ أمَهاً . هذا الصحيح بفتح الميم ، وروى بعضهم عن أبي عبيدة : أمْهُ
بسكون الميم ، وليس ذلك بصحيح عنه ، لأن المصدَرَ أنه يأمَهُ أمَهٌ لا غير.
وقرأ الحسَنُ : أنا آتيكم بتأويله ، وأكرهها ، لخلاف المصحف.
(وَادَّكَرَ) أصله واذْتَكَرَ ، ولكن التاء أبدل منها الذال وأدغمت الذالُ في
الدال.
ويجوز واذَّكر بالذال ، والأجود الدال (1).
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
أراد يا يوسف ، والندَاء يجوز في المعرفة حذف يا منه ، فتقول : يا زيد.
أقبل ، وزيدُ أقبل.
قال الشاعر :
محمد تفد نفسك كل نفس . . . إذا مَا خِفْتَ مِن أمْر تَبَالا
أرادَ يَا مُحَمدُ.
والصًذيق المبالغ في الصِّدْقة ، والتصديق.
وقوله : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).
أي لعلهم يعلمون تأويل رؤيا الملك ، ويجوز أن يكون : لعلهم يعلمون
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { وادكر } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنها جملةٌ حاليةٌ : إمَّا مِن الموصول ، وإمَّا مِنْ عائده وهو فاعل « نجا » . والثاني : أنها عطفٌ على « نجا » فلا مَحَلَّ لها لنسَقِها على ما لا محلًّ له.
والعامَّةُ على « ادَّكَرَ » بدالٍ مهملة مشددة وأصلها : اذْتَكَرَ افتعل مِنْ الذِّكر ، فوقعت تاءُ الافتعال بعد الذال فأُبْدِلت دالاً فاجتمع متقاربان فأُبْدِلَ الأول مِنْ جنس الثاني وأُدغم . وقرأ الحسن البصري بذالٍ معجمة . ووجَّهوها بأنه أبدل التاءَ ذالاً مِنْ جنس الأولى وأدغم ، وكذا الحكم في { مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 15 ] كما سيأتي في سورته إنْ شاء اللَّه تعالى.
والعامَّةُ على « أُمَّة » بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة ، وهي المدة الطويلة . وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة ، وفسَّروها بالنعمة ، أي : بعد نعمةٍ أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل ، وأنشد الزمخشري لعديّ :
2798 ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْ . . . مَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ
وأنشد غيره :
2799 ألا لا أرى ذا إمَّةٍ أصبحَتْ به . . . فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء « أَمَهٍ » بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ ، وهو النسيان ، يقال : أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهاً وأمْهاً بفتح الميم وسكونها ، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ.
وقرأ مجاهد وعكرمة وشُبَيْل بن عَزْرَة : « بعد أَمْهٍ » بسكون الميم ، وقد تقدَّم أنه مصدرٌ لأَمِه على غير قياس . قال الزمخشري : « ومَنْ قرأ بسكون الميم فقد خُطِّئ » . قال الشيخ : « وهذا على عادتِه في نسبته الخطأ إلى القراء » قلت : لم يَنْسِبْ هو إليهم خطأً؛ وإنما حكى أنَّ بعضَهم خطَّأ هذا القارئ فإنه قال : « خُطِّئ » بلفظِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، ولم يقل فقد أخطأ ، على أنه إذا صَحَّ أنَّ مَنْ ذكره قرأ بذلك فلا سبيلَ إلى الخطأ إليه ألبتَّةََ . و « بعد » منصوب ب « ادَّكر ».
اهـ (الدر المصون).

(3/113)


مكانك فيكون ذلك سبب خَلَاصِكَ من الحبْسِ.
* * *
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
أي تَدْأبُونَ دَأباً ، ودَلَّ على تَدْأبُونَ (تَزْرَعُونَ).
والدَّأبُ الملازمَةُ للشيء والعادةُ.
وقوله : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
(وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
وقُرئت : وفيه يُعْصَرَونَ ، فمن قال وفيه يَعْصِرونَ بالياء أيْ يأتي العام بعد
أرْبَعَ عشرةَ سنةً الذي فيه ، يُغَاث الناس فيَعصِرونَ فيه الزيْتَ والعِنبَ.
ومن قرأ يُعْصَرونَ أرَادَ يُمْطَرُونَ ، من قوله : (وَأنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَخاجاً " ، وَمَنْ
قرأ : وَفِيه تَعْصِرون ، فإن شاء كان على تأويل يَعْصِرُونَ ، وأن شاء كان على
تأويل وفيه تَنْجوْنَ من البلاء ، وتعتصمون بالخِصْب.
قال عَدِي بنُ زَيْدٍ :
لو بغير الماء حلقي شَرِق . . . كنت كالغضانِ بالماء اعتصَارِي
ويقال : فلان في عَصَرٍ وفي عُصْرٍ ، إذا كان في حِصْنٍ لا يُقْدَرُ عليه.
* * *
وقوله سبحانه : (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
لما أعْلِمَ بمكانه من العلم بالتأويل طَلَبَه
(قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ).
أي إلى صاحبك ، ورب الشيء صاحبُه
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَعْصِرُونَ } قرأ الأخوان » تَعْصِرون « بالخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، وهما واضحتان ، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب ، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به . و » يَعْصِرون « يحتمل أوجهاً ، أظهرُها : أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو نحو ذلك . والثاني : أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه . والثالث : أنه من العُصْرة وهي النجاة ، والعَصَر : المَنْجى . وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه عنه :
2800 صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ . . . ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ
ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه { فِيهِ يُغَاثُ الناس } يُقال : عَصَره يَعْصِرُه ، أي : أنجاه.
وقرأ جعفر بن محمد والأعرج : » يُعْصَرون « بالياء من تحت ، وعيسى البصرة بالتاء من فوق ، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول . وفي هاتين القراءتين تأويلان ، أحدهما : أنها مِنْ عَصَره ، إذا أنجاه ، قال الزمخشري : » وهو مطابِقٌ للإِغاثة « . والثاني : قاله قطرب أنها من الإِعصار ، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } [ النبأ : 14 ] . قال الزمخشري : » وقرىء « يُعْصَرون » : يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة ، وفيه وجهان : إمَّا أن يُضَمَّن أَعْصَرت معنى مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه ، وإمَّا أن يقال : الأصل : أُعْصِرَتْ عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [ إلى ضميرهم ، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين « ].
وقرأ زيد بن علي : » تِعِصِّرون « بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة ، وأصلها تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد ، وأتبع العينَ للصاد ، ثم أتبع التاء للعين ، وتقدَّم تحريره في { أَمَّن لاَّ يهدي } [ يونس : 35 ].
ونقل النقاش قراءةَ » يُعَصِّرون « بضم الياء وفتح العين وكسر الصادِ مشددةً مِنْ » عَصَّر « للتكثير . وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المتقدمة تحتملان أن يكونا مِن العَصْر للنبات أو الضرع ، أو النجاة كقول الآخر :
2801 لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ . . . كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
أي : نجاتي . اهـ (الدر المصون).

(3/114)


(فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ).
ويجوز اللائي قطعْن ، أي اسألْه أن يستعمِل صحةَ بَراءَتِي مما قُرِفْتُ به.
وُيرْوَى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كنت في مكان يوسف ثم جاءني الرسول لبادرت إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - استحسن حزم يوسف وصَبْرَه حين دعاه الملكُ فلم يبادِرْ إليه حتى يعلَمَ أنه قد استقر عند الملك صحةُ بَراءَتِه.
* * *
(قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
لم يفرد يوسفُ عليه السلام امرأة العزيز بالذكر ، حُسْنُ عِشْرَةٍ منه
وَأدَبٍ . فخلطها بالنسْوةِ.
وقوله : (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).
قُرِئَتْ " حَاشَ للَّهِ " و " حَاشا لِلَّهِ" وقرأ الحسنُ : حَاشْ للَّهِ بتسكين الشين.
ولا اختلاف بين النحويين أن الِإسْكَانَ غير جائزٍ ، لأن الجَمْعَ بين ساكنين لا
يجوز ولا هُوَ مِنْ كَلام العَرَب.
(مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).
فأعلم النسوةُ الملكَ ببراءة يوسفَ ، وقالت - امرأة العزيز :
(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ).
أي بَرَزَ وتبيَّن ، واشتقَاقَه في اللغة من الحِصَّةِ ، أي بانت حصَّةُ الحق
وجهتُه من جهة الباطل.
* * *
(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
هذا قول يُوسفَ عليه السلام ، المعنى إني أردت التبيين للمَلِكِ أمْرَ
أمرأته والنسوة ، ليعلم أني لم أخنه بالغيب.
و " ذلك " مرفوع بالابتداء ، وإن شئت عَلَى خَبرِ الابْتِداء.
كأنَّه قال : أمْري ذَلِكَ .

(3/115)


وُيروَى أن جبريل عليه السلام قال له : ولا حِينَ حلَلْتَْ التكة (1) ، وقيل ولا
حين هممت ، فقال :
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
موضع ما نصب على الاستثناء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي).
جزم جواب الأمر ، ومعنى أَسْتَخْلِصْهُ : أي أجْعَلْه خالصاً لي ، لا يشركني
فيه أحد.
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)
أي عرفنا أمانتك وبراءتك مما قرفت به.
* * *
(قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
أي على أموالها
(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
أي أحْفظها وأعلمُ وُجُوهَ مُتصَرفَاتها ، وإنماسأله أن يجعله على خزائن
الأرض لأن الأنبياء بُعِثُوا في قامة الحق والعدْلِ ووضع الأشياء مواضعَها ، فعلم يوسف عليه السلام أنه لا أحد أقوَمُ بذلك منه ، ولا أوضَعُ له في مواضعها . .
فسأل ذلك إرادة للصلاح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
وهذا - واللَّه أعلم - قد كان قبله كلام جرَّ إليه ما يُوجب طلبَ أخيهم
منهم ، - لأنه لا يقول ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ من غَير أن يجريَ مَا يُوجِبُ
هذا القول . فكأنَّه - واللَّهُ أعلم - سألهم عن أخبارهمْ وأمْرِهِم وعدَدِهم ، فاجْتَرَأ لقول هذه المسألة.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.

(3/116)


(أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).
لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.
* * *
وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
القراءة بكسر التُون ، ويجوز الفتح بفتح النون لأنها نون جماعة كما
قال : (فَبِمَ تُبَشرُونَ) بفتح النون ، وتكون (وَلَا تَقْرَبُونِ) لفظه لفظ الخبر
ومعناه معنى الأمر.
* * *
(قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
(وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) توكيد.
* * *
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ).
ولفِتْيَيهِ ، قُرِئَتَا جميعاً ، والفتيان والفتية المماليك في هذا الموضع.
(اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
وفي هذا وجهان ، أي إذا رأوا بضاعتهم مردودة عليهم ، علموا أن ما
كيلَ لهم مِنَ الطعام لم يؤخذ منهم ثمنُه ، وأن وضع البضاعة في الرحال لم
يكن إلا عن أمْر يُوسُفَ ، ويجوز أن يكون (لعلهم يَرْجِعُونَ) يَرُّدون البضاعة.
لأنها ثمن ما اكتالوه . ولأنهم لا يأخذون شيئاً ألا بثمنه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
(فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
أي إن أرسلته معنا اكتلنا ، وإلا فقد مُنِعْنَا الكيلَ.
* * *
(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

(3/117)


أي كذلك قلتم لي في يوسف : (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12).
فقد ضمنتم لي حفظ يوسف وكذلكم ضمانكم هذا عندي.
(فَاللَّهُ خَيْرٌ حِفْظاً).
وتقرأ (حَافِظًا). وحفظاً منصوب على التمييز ، و (حَافِظًا) منصوب
على الحال ، ويجوز أن يكون حافظاً على التمييز أيضاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
(وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ).
وتقرأ رِدَّتْ بكسر الراء ، والأصل رُدِدَتْ ، فأدغمت الدال الأولى في
الثانية وبقيت الراء مضمومةً.
ومن كسر الراء جعل كسرتها منقوله من الدال.
كما فعل ذلك في قِيلَ وبيع لتدل أن أصلَ - الدال الكسر.
وقد حكى قطرب أنه يقال في ضُرِبَ زيد ؛ ضُرْبَ زَيْدٌ وضِرْبَ زيدٌ -
بكسر الضاد . أسكن الراء ، ونقل كسرتها إلى الضاد.
وعلى هذه اللغة يجوز في كَبِدٍ كِبْد.
* * *
(قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي).
أي ما نريد ، وما في موضع نصب ، المعنى أي شيء نريد وقد رُدَّتْ
علينا بضاعتنا ، ويجوز أن يكون (ما) نفياً ، كأنَّهم قالوا ما نبغي شيئاً.
(هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا).
(وَنَمِيرُ أهْلَنَا).
يقال : مِرْتُهم أميرهم ميراً إذا أتيتهم بالمير.
(وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).
لأنه كان يكال لكل رجل وقْرُ بَعير.
(ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ).

(3/118)


أي ذلك كيل سهل ، أي سهل على الذي يمضي إليه.
* * *
(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
(إلا أنْ يُحَاطَ بِكُمْ).
فموضع أن نصب ، والمعنى لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا لإحَاطَةٍ بِكُمْ ، أي لا لتمتنعوا
من الإتيان به إلا لهذا ، وهذا يسمى مفعولاً له ، وإلا ههنا تأتي بمعنى تحقيق
الجزاء ، تقول : ما تأتي - إلا لأخْذِ - الدرَاهِم وإلا أن نأخذ الدراهم ، ومعنى الإحاطة بهم ، أنه يحال بينهم وبينه فلا يقدروا على الإتيان به.
* * *
(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
قد خاف عليهم العين ، وأمر العين صحيح - واللَّه أعلم - وقد روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عَوّذَ الحسَنَ والحسيْنَ فقال في دعوته : وأعيذكما من كل عين لامَّة.
* * *
وقوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
أي إلا خوف العين ، وتأويل (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)
قُدَّرَ أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين.
وجائز أن يكون : لايغني مع قضاء الله شيء.
(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ).
أي لذو علم لتعليمنا إياه ، ونصب حاجة استثناء ليس من الأول ، المعنى
لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
(آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ)
أي ضَمَّ إليه أخاه.
(فَلَا تَبْتَئِسْ) : أي لا تحزن ولا تستكن

(3/119)


(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
ْأي أعلم معلم ، يقال آذنته بالشيء فهو مُؤذَن به أي أعلمته وأذنت أكثرت الإعلام بالشيء.
(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
المعنى : يا أيها الأصحاب للعير ، ولكن قال : أيتها العير ، وهو يريد أهل
العير ، كما قال : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهل القرية وأَنَّثَ " أيَّا " لأنه جعلها للعير.
* * *
وقوله : (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
وقرئت " صَوَاعَ الملك " ، وقرئت " صَاعَ الملكِ " ، قرأ أبو هريرة صاغ
الملك ، وقرئت صوغ الملك - بالغين معجمة.
(وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ).
أي حمل بعير من الطعام
(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)
أي كفيل.
الضواع هو الصاع بعينه ، وهو يذكر ويؤنث ، وكذلك الصاعُ يذكر
ْويؤنث ، وجاء في التفسير أنه إناء مستطيل يشبه المكوك ، كان يشرب به
الملكُ ، وهو السقاية . وقيل إنه كان مصنوعاً من فضة مموَّهاً بذهب.
وقيل إنه كان من مِسٍّ ، وقيل إنه كان يشبه الطاسَ.
* * *
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
معنى تَاللَّهِ : واللَّه ، إلا أن التاء لا يقسسم بها إلا في (اللَّه) لا يجوز
تالرحمن ولا تَرَبِّي لأفعلنَّ ، والتاء بدل من الواو كما قالوا في وراثٍ تُراث ،

(3/120)


وكما قالوا - يتزِنُ ، وأصله يَوْتَزِنُ مِنَ الوزن وإنَّمَا قالوا : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) ، لأنهم كانوا لا يَنْزِلُونَ على قوم ظلماً.
ولا يرعون زرع أحَدٍ
وجعلوا على أفواه إبلهم الأكفةَ لئلا تعبث في زرع ، وقالوا :
(وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ).
لأنهم قد كانوا فيما روي ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم ، أي
فمن رَدَّ مَا وَجَده كيف يكون سارقاً.
* * *
(قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
أي مِثْلُ هذا الجزاءِ نجزي الظالمين ، وكان جزاء السارق عندهم أن
يُستَعْبَدَ بسَرقَتِهِ ، يَصيرُ عَبْداً لأنه سرق.
فأمَّا رفعُ (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) فمن جهتين :
أحدهما أن هو جزاؤه ابتداء ، ويكون من وجد في رحله الخبر ، ويكون المعنى جزاء السَّرق الإنسانُ الموجود في رحله السَّرَقُ.
ويكون قوله (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) زيادةً فى الإبانة.
كما تقول : جزاء السارق القطع فهو جزاؤه . فهذا جزاؤه ، زيادةٌ في الإبانة.
ويجوز أن يكون يرتفع بالابتداء ، ويكون (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ).
هذه الجملة خبر الجزاء ، والعائد عليه من الجملة " جَزَاؤُهُ " الذي بعد
قوله " فهو " ، كأنَّه قيل : قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ، أيْ فهو
الجزاء ، ولكن الإظهار كان أحسن ههنا لئلا يقع في الكلام لبس ، ولئلا
يتوهم أن (هو) إذا عادت ثانية فليست براجعة على الجزاء ، والعرب إذا
أقحمت أمر الشيء جعلت العائد عليه إعادة لفظه بعينه.
أنشد جميع النحويين :

(3/121)


لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . . نغص الموتُ ذا الغنى والفقيرا
ولم يقل : لا أرى الموت يسبقه شيء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
(ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ).
رجع بالتأنيث على السقاية ، ويجوز أن يكون أنث الصواع.
(كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ).
أي في سيرة الملك ، وما يدين به الملك ، لأن السارق في دين الملك
كان يغرم مِثْلَي مَا سَرِقَ ، وكان عند آل يعقوبَ وفي مَذْهَبِهِم أنْ يَصِيرَ السارقُ عَبْداً يَسْتَرِقَهُ صاحب الشيء المسروق.
(إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
موضع (أَنْ) نصب ، لما سقطت الباء أفضى الفعل فنصب ، المعنى ما كان
ليأخذ أخاه في دين الملك إلا بمشيئة اللَّه.
(نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ).
على إضافة الدرجات إلى " من " ويجوز (دَرَجَاتٍ) بالتنوين ، على أن يكون
(مَنْ) في موضع نصب ، المعنى نرفع من نشاء دَرَجاتٍ . ويجوز رفع درجات
من نشاء ، وهي حسنة ، ولا أعلمها رُوِيتْ فلا تقرأن بها إن لم تصح
فيها رواية.
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
قيل في التفسير : فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى اللَّهِ
عزَّ وجلَّ.
* * *
(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)

(3/122)


يعنون يوسف ، ويروى أنه كان فى صغره أخَذَ صُورَةً مما كان يتعبد به
بعض من يخالف أهْلَ مِلَّةِ الإسلام من ذهب ، وهذا الذي أخذه كان على
جهة الإِنكار ، لئلا يُعظَّمَ مثل ذلك
(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ).
أي لبم يظهرها لهم.
(قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا).
وهذا إضمار على شريطة التفسير ، لأن قوله (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) بَدَلٌ
من (ها) في قوله : (فَأَسَرَّهَا).
المعنى : فَأَسَرَّ يوسف في نفسه قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا)
المعنى - واللَّه أعلم - (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) في السرقِ بالصحَةِ لأنكم
سَرَقْتُمْ أخَاكُمْ مِنْ أبيكم.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ).
أي اللَّه أعلمُ أسرق أخ لَهُ أمْ لا.
* * *
(قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
والعزيز الملك
(إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا).
(شَيْخًا). من نعت أبٍ ، وأبٌ مَنْصُوبٌ بـ (إنَّ) و (كَبِيرًا) من نعت شيخ.
(فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
أي ممن يُحسِنُ ولا يُعَامِلُ بالتحديد في واجب لأنه كان أعطاهم الطعام
وأعطاهم ثمنه في رده البضاعة لهم ، فطالبُوه بأن يُحْسِنَ.

(3/123)


(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
(مَعَاذَ اللَّهِ) منصوب على المصدر المعنى أعوذ باللَّهِ مَعاذاً ، وموضع أن
نَصْبٌ ، المعنى أعوذ باللَّهِ من أخذ أحَدٍ إلا مَنْ وَجَدْنا متاعنا عنده ، فلما
سَقَطَتْ (من) أفضى الفعل فنصب.
(إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ)
أي إن أخذنا غيره فنحن ظالمون.
* * *
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
المعنى خَلَصوا يَتَناجَوْنَ ، أي خَلَصُوا مُتَنَاجِينَ فيما يعملُون في ذهابهم
إلى أبيهم ، وليس معهم أخوهم ، و " نجِيٌّ " لفظ واحد في معنى جمع ، وكذلك (وإذْ هُمْ نَجْوَى).
ويجوز قوَم نجيٌّ وقوم نَجْوَى وقوم أَنْجِية.
قال الشاعرُ
إني إذا ما القومُ صاروا أنْجيَهْ
واختلف القولُ اختلاف الأرْشِيَة
هناكَ أوصيني ولا توصي بَيهْ
ومعنى خلصوا انفردوا وليس معهم أخوهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ).
أجِود الأوجه أن يكون (مَا) لغواً ، فيكون المعنى : وَمِنْ قَبْلُ فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ - ويجوز أن يكون ما في موضع رفع ، فيكون المعنى ومن قَبْلِ

(3/124)


تفريطكم في يوسف ، أي وقع تفريطكم في يوسف ، ويجوز أن يكون (ما) في
موضع نصْبٍ نسق على (أنَّ) ، المعنى ألم تعلموا أن أباكم ، وتعلموا تفريطبهم في يوسف.
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي).
أي لن أبرح أرض مصر ، وإلا فَالناس كلهم على الأرض.
(أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي).
نسق على (حَتَّى يَأْذَنَ) ، ويجوز أن يكون " أو " على جَوابِ " لَنْ "
المعنى لن أبرح الأرض حتى يحكم اللَّه لي.
* * *
وقوله : (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
(إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ).
ويجوز سُرقَ ، إلا أن سرق آكد في القراءة ، وسُرِّقَ يكون على ضربين ، "
سُرِّق عُلِم أَنهُ سَرَقَ ، وسُرِّق اتهمَ بالسرق.
* * *
ْ(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
أي زيَّنت لكم أنفسكم وحببت إليكم أنفسكم.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
المعنى فأمري صبر جميل أو فصبري صبر جميل ، وقد فسرنا هذا فيما
سبق من السور :
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
(يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)
معناه يا حزناه ، والأصل يا أسفي إلا أن " يا " الإضافة يجوز أن تبدل ألفاً
لخفة الألف والفتحة.
(فَهُوَ كَظِيمٌ) أي محزون.
* * *
(قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)

(3/125)


معنى تاللَّه : واللَّه ، و " لا " مضمرة ، المعنى واللَّه لا تفتأ تذكر يوسف
أي لاَ تزال تذكر يوسف.
(حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً).
والحَرَضُ الفاسد في جسمه ، أي حتى تكون مُدْنَفاً مريضاً.
والحرض الفاسد في أخلاقه ، وقولهم : حَرضْتُ فلاناً على فلانٍ ، تَأويلُه أفسدته عليه.
وإنما جاز إضمار " لا " في قوله (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) لأنه لا يجوز في
القسم تاللَّه تفعل حتى تقول لتفعلن . أو لا تفعل.
والقسم لا يجوز للناس إلا باللَّهِ عزَّ وجلَّ ، لا يجوز أو يحلف الرجل بأبيه.
ولا ينبغي أن يحلف بالأنبياء ، ولا يحلف إلا باللَّه ، ويروى عن النبي عليه السلام أنه قال لِعُمَر : لا تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفاً فليحلف باللَّه.
فإن قال القائل : فما مجاز القسم في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ في قوله : (والليل إذا يغشى) ، (والسماء ذات البروج) (والتين والزيتون)
وما أشبه هذه الأشياء التي ذكرها اللَّه جل جلاله في كتابه ؟
ففيها أوجه كلها قد ذكرها البصريون ، فقالوا : جائز أن يكون اللَّه عزَّ وجلَّ أقسم بها لأن فيها كلها دليلًا عليه وآيات بينات ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلخ الآية.
وقال : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ).
فكان القسم بهذا يدل على عظمة اللَّه.
وقال قطرب جائز أن يكون معناها : ورب الشمس وضحاها ، وربِّ التين
والزيتون ، كما قال : (والسماء ذات البروج).
وقال : (والأرض وما طحاها).

(3/126)


وقال : (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ).
وقالوا أيضاً : جائز أن يكون وخَلْقِ السماوات والأرض ، وخَلْقِ التين
والزيتون.
وقالوا : يجوز أن يكون لما كان معنى القسم معنى التحقيق ، وأن هذه
الأشياء التي أقسم اللَّه بها حق كلها ، وكذلك ما أقسم عليه حق فالمعنى كما
أن التين والزيتون حق ، لقد خلقنا الِإنسان في أحسن تقويم.
وأجْود هذه الأقوال ما بدأنا به في أولها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
(وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ).
قالوا (مُزْجَاة) قليلة ، وقالوا كانوا جاءُوا بمتاع الأعراب كالصوف والسمن.
وما أَشْبَهَ ذلك مما يبيعه الأعراب ، وقيل إن البضاعة كانت مما لا يُتْفقُ مثلهُ في الطعام ، لأن متاع الأعْراب كذلك كان تحته رديء المال.
وتأويله في اللغة ، أن التزجية الشيء القليل الذي يُدَافَعُ به ، تَقُول : فلان يُزَجِّي العَيْشَ أي يَدْفَع بالقليل ويكتفي به.
فالمعنى على هذا : . إنَا جئنا ببضاعة إنما يُدافع
بها أي : يتقوَّت ، لَيْسَ مِما يُتَسَعُ بِه.
قال الشاعر :
الواهب المائة الهِجَانَ وعَبْدَهَا . . . عودُوا تُزَجِّي خَلْفَها أطفالَها

(3/127)


أي تدفع أطفالها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
(أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).
فيها أربعة أوجه :
بجمع الهمزتين - ، قالوا أئِنكَ - على تحقيقهما ، ويجوز أئنك - على أن
يجعل الثانية بين الياء والهمزة . ، وقرئت . (أئنك) على إِنك بفصل بين
الهمزتين بألف لاجتماع الهمزتين.
قال الشاعر :
أَيا ظبية الوَعْساء بين جَلاجِل . . . وبين النَّقَا آأَنتِ أَمْ أُمُّ سالم
ويجوز قالوا إنك لأنت على لفظ الخبر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
أي لا إِفساد عليكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
(لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ).
معناه لولا أن تجهِّلُونِ ، ويروى تسفهًّونَ.
* * *
وقوله : (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
يقال قد خطئ يخطأ خطأ وخَطأ ، وأخطأ يخطئ إخطاء.
قال امرؤ القيس :

(3/128)


يا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كاهِلا . . . القاتِلِينَ المَلِكَ الحُلاحِلا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قال ذلك يعقوب إرَادَةَ أَن يستغفر لَهم في وقت وجه السَّحَرِ ، في الوقت
الذي هو لِإجَابَةَ الدعاء لَا أَنه ضَنَّ بالاستغْفار وذلك أشبه بأخلاق الأنبياء.
أعني المبالغة في الاستغفار ، وتعمد وقت الإجابة.
* * *
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
(آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ).
أي ضَمَّ إليه أبويه.
* * *
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
(الْعَرْش) السرير.
(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا).
كان من سنة التعظيم في ذلك الوقت أن يُسْجَدَ للمعظَّم.
وَقِيلَ : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) وَخَروا للَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
فيها قولان ، أعني في دخول " مِنْ " :
جائز أن يكون أراد عَلَّمْتَنِي بعض التأويل ، وآتَيتني بعض الملك.
وجائز أن يكون دخول " مِنْ " لِتُبين هذا الجنس من سائر الأجناس ، ويكون المعنى : رب فد آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث ، مثل قوله عزَّ وجلَّ : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)
يدل على أن " مِنْ " ههنا إنما هي لتبيين الجنس ، ومثله قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) ولم يؤمَرُوا باجتناب بعض الأوثان ، ولكن المعنى : واجْتَنِبوا الرجْسَ الذي هو الأوْثَانُ .

(3/129)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
ينتصب على وجهين : أحدهما على الصفة لقوله (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ).
والمعنى : يَا ربِّ قد آتيتني ، وهذا نِدَاء مضاف في موضع نصبٍ.
ويكون (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ) صفة لِلأول.
وجائز أن ينتصب على نداء ثانٍ ، فيكون المعنى : يَا فَاطِرَ السماواتِ والأرْضِ أَنْتَ وَليِّي.
(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
أي ألْحِقْنِي بمرَاتبهم مِنْ رحمتك وغفرانك.
* * *
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
هذا خِطاب للنبي عليه السلام ، المعنى الذي قَصَصْنَا عليك من أمْر
يوسفَ وَإخوته مِنَ الأخْبَارِ التي كانت غائبة عنك.
فأُنزلت عَلَيْهِ دلاَلةً على إثبات نبوته ، وإنْذَاراً وتيْسِيراً بتفصيل قِصَص الأمم السالفة.
وموضع (ذَلِكَ) رفع بالابتداء ويكون خبره (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ).
ويكون (نوحيه إلَيْكَ) خَبَراً ثَانِياً ، وإن شئت جعلت " نوحيه " هو الخبر ، وجعلت ذلك في موضع الذي.
المعنى الذي مِنْ أنباء إلغيب نوحيه إليك ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
معناه وما أكْثَر الناسِ بمؤمنين ولو حَرَصتَ على أن تَهْدِيَهمْ لأنك لا
تهدي مَنْ أحْبَبْتَ ولَكِنَّ الله يَهْدي مَنْ يَشَاءُ.
* * *
(وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
أي وَمَا تَسْاَلهم على القرآن وتلاَوته وهِدَايتكَ إيَّاهم من أَجْر.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)
أي ما هو إلا تذكرة لهم ، بما هو صلاحهم ونجاتهم من النَّارِ وَدُخولهم

(3/130)


الجنة ، وإنذارُهم وتبشيرُهم ، فكل الصلاح فيه.
* * *
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
أي مِن علامة وَدلالة تَدُلُّهم على توحيد اللَّه ، من أمر السَّمَاءِ وأنها بغَيْرِ
عَمَدٍ لا تقع على الأرض ، وفيها من مجرى الشمس والقمر ما فيها ، وفيها
أعظم البرهان والدليل على أن الَّذي خلقها واحد ، وأن لها خالقأ ، وكذلك
فيما يشاهد في الأرض من نباتها وبحارها وَجَبالِهَا.
(وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).
أى لا يفكرون فيما يدُلَّهمْ عَلَى توحيد اللَّه - عزَّ وجلَّ - والدليل على أنهم
لا يفكرون فيما يستدلون به قوله عزَّ وجلَّ :
(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أي إن اعترفوا بأن الله خالقهم وخالق السَّمَاوَات والأرض ، أشركوا في
عبادته الأصنام ، وأشركوا غيْر الأصنَام.
* * *
(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
أي أن يأتيهم ما يعجزهم من العذابَ
(أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً).
أي فجأةً ، و (بَغْتَةً) مصدر منصوب على الحال ، تقول لقِيتة بَغْتَةً
وَفَجْأةً ، ومعناه من حيث لم أتوقع أن ألقاه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
(وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا).
وفي غير مَوْضِعٍ ولَلدار الآخرة ، فمن قال الدار الآخرة فالآخرة نعت
للدار ، لأن لجميع الخلق دَارَيْن ، الدارُ التي خُلِقوا فيها وهي الدُّنْيا ، والذَاز
الآخرة التي يُعَادُونَ فيها خلقاً جدِيداً ، ومَنْ قالَ " دَارُ الآخِرة " فكأنَّهُ قال : وَدَارُ

(3/131)


الْحَياة الأخِرَةِ ، لأنَّ للناس حَاتَيْنِ ، حياة الدنْيَا وحياة الآخرة ، ومثل هذا في
الكلام الصلَاة الأولَى ، وصَلاَة الأولى.
فمن قال الصَّلاةُ الأولى جعل الأولى نعتاً للصلاة ، ومن قال صلاةُ الأولى أراد صلاة الفريضة الأولى ، والساعَةِ الأولى.
* * *
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قرِئَتْ كُذِبوا وكذِّبُوا ، بِالتخفيف والتشديد ، وقرئت " كَذَبُوا " فأمَّا من
قرأ وَظَنوا أَنهم قد كذبُوا بالتشديد - فالمعنى حتى إذا استياس الرُّسُل من أنْ
يُصَدِّقَهمْ قومهم جَاءَهُمْ نَصْرُنَا.
ومن قرأ قد كُذِبُوا بالتخفيف ، فالمعنى وظن قومهم أنهم قد كذِبُوا فيما وُعِدُوا ، لأن الرسُل لا يظُنُون ذلك.
وقد قال بعضهم وظنوا أنهم قد أخْلِفوا أي ظن الرسُلُ ، وذلك بعيدُ في صفة الرسل.
يروى عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوعد شيئاً أخْلِفَ فيه وفي الخبر :
ومَعاذَ اللَّه أن يَظنَّ الرسُلُ هَذَا بِربِّها.
ومعنى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ [كَذَبُوا]) ظنَّ قَومُهم أيضاً أنهم قد كَذَبوا (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ).
قرئت فنُنجِّي ، وفَننْجِيَ ، وقرِئَتْ فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ.
وقرأ عاصم (فَنُجِّيَ مَنْ نشاء) بفتح الياء.
فأمَّا من قرأ (فننْجِي) فعلى الاستقبال ، والنون نونُ الاستقبال.
أعني النون الأولى ، ومن قرأ (فَنُنجِّي) - بإسكان الياء - فحذف النون
الثانية لاجتماع النونَين ، كما تقول : أنت تَبَيِّن هذا الأمْرَ ، تريد تَتَبيَّنُ ، فحذف لاجتماع تاءين ، ومن قرأ (فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ) عطف على قوله جاءهم نصرنا فنجا
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { كُذِبُواْ } قرأ الكوفيون » كُذِبوا « بالتخفيف والباقون بالتثقيل . فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها ، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت : » معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها « وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة.
وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه ، أجودُها : أن الضميرَ في » وظنُّوا « عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ يوسف : 109 ] ، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه . والضمير في » أنهم « و » كُذِبوا « عائد على الرسل ، أي : وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا ، أي : كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم.
الثاني : أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل . قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه » حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا ، أي : كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب ، والمعنى : أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار ، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ ، حتى استشعروا القُنوط ، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا « انتهى/ فقد جعل الفاعلَ المقدر : إمَّا أنفسُهم ، وإمَّا رجاؤُهم ، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين ، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن.
الثالث : أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل ، والظنُّ على بابه من الترجيح ، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ، قالوا : والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم ، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام ، وحاشى الأنبياء من ذلك ، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك.
قال الزمخشري : « إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين ، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟ » قلت : ولا يجوز أيضاً أن يقال : خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه.
وقال الفارسي أيضا : « إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى : ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [ لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه ] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه ، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته » . وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : « معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال : كانوا بشراً وتلا قوله تعالى : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول } [ البقرة : 214 ].
الرابع : أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم ، أي : وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا : ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون . ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال : نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم ، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم » فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً : « لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً ».
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل ، أي : وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم ، وفي صحيح البخاري عن عائشة : « أنها قالت : هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم ، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك » . قلت : وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين ، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على بابه ، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم.
وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد « كَذَبوا » بالتخفيف مبنياً للفاعل ، والضمير على هذه القراءة في « ظنُّوا » عائد على الأمم وفي { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } عائدٌ على الرسل ، أي : ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب ، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في « ظنُّوا » على الرسل وفي { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } على المُرْسَل [ إليهم ] ، أي : وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به ، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل ، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم . وقال الزمخشري : بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل « ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه : وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم » فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة ، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل ، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال : « وقرأ مجاهد » كَذَبوا « بالتخفيف على البناء للفاعل على : وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة : إمَّا على تأويل ابن عباس ، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم : قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو : وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا » . اهـ (الدر المصون).

(3/132)


من نشاء على لفظ الفعل الماضي ، ومن قرأ (فنُنجِّيَ من نَشَاءُ).
فبمعنى الماضي على ما لم يسمَّ فاعله ، ويَكون موضع " مَنْ " رَفْعاً.
ويُعْلَمُ بالمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ - نَجَّاهُمْ (1).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
أي الذي تقدمه من الكتب.
ونصب " تَصْدِيقاً " على معنى كان ، المعنى : ما كان حديثاً يفترى ولكن
كان تصديق الذي بين يديه.
ويجوز : (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
فمن قرأ هكذا رفع الباقي المعطوفَ على تصديق ، ويكون
مرتفعاً على معنى ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه.
ويكون ([وَتَفْصِيلُ] كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى [وَرَحْمَةٌ] لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نَسَقاً عَلَيْه.
وهذا لَمْ تثبت بقراءته رواية صحيحة ، وَإنْ كانَ جائزاً في العربية لا
اختلاف بين النحويين في أنه جيِّدٌ بالغ ، فلا تَقْرأنَّ به ولا تُخَالِفْ الإجماع
بمذاَهب النحْويينَ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَنُجِّيَ } قرأ ابن عامر وعاصم بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول ، و « مَنْ » قائمة مقام الفاعل . والباقون بنونين ثانيتهما ساكنةٌ ، والجيم خفيفة ، والياء ساكنة على أنه مضارع أنجى و « مَنْ » مفعولةٌ ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه . وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم ، إلا أنهم سَكَّنوا الياء . والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم ، وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله :
2835 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قد خُلِطْ بجُلْجُلان
وتقدَّم معه أمثالُه . وقيل : الأصل : ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء ، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم . على أنه قد قيل بذلك في قوله { نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] كما سيأتي بيانه.
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء . قال ابن عطية : « رواها ابنُ هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي غلطٌ من ابن هبيرة » قلت : توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع باقٍ على رفعه فأنكر فتحَ لامِه وغلَّط راويَها ، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها : نصبُه بإضمار « أنْ » بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه
{ وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 284 ] إلى أنْ قال : « فيغفر » قرىء بنصبه ، وتقدم توجيهه ، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة أو غيرَ جازمة كهذه الآية . وقرأ الحسن أيضاً « فَنُنَجِّي » بنونين والجيم مشددة والياء ساكنة ، مضارع نجى مشدداً للتكثير . وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة « فنجا » فعلاً ماضياً مخففاً و « مَنْ » فاعله.
ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك ، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر ، و « مَنْ » مفعوله ، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها « فنجي » بنونٍ واحدة نقله الداني . وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها ، فأشعر هذا بوقوع خلافٍ في الرسل ، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ للمفعول.
وقرأ أبو حيوة « يشاء » بالياء ، وقد تقدَّم أنه يقرأ « فنجا » أي فنجا مَنْ يشاء اللَّه نجاته.
وقرأ الحسن « بأسَه » ، والضمير للَّه ، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد.
اهـ (الدر المصون).

(3/133)


سُورَةُ الرَّعْد
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
(المر)
قد فسرنا في سورة البقرة ما قيل في هذا وأشباهه ، ورُوِيَ أنَّ معناه أنَا
اللَّهُ أرَى ، ورُوِي أنا اللَّه أعلم وأرى ، وروي أن " المر " حروف تدل على اسم الرب جَلً جَلالُه
وقولى تعالى : (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ).
جاء في التفسير أنَّ الذي أنْزِلَ قَبْل القرآن آياتُ الكتاب.
(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ).
أي والقرآن المنزلُ عَليكَ الْحَقُّ ، ويجوز أن يكونَ موضِعُ (الذي) رفعاَ
على الابتداء ، ويجوز أن يكون رفعاً على العطف على (آياتُ)
ويكون (الْحَقُّ) مَرْفُوعاً على إضمار هُوَ ، ويجوز أن يكون موضع الذي خَفْضاً ، عطفاً على الكتاب ، المعنى تلك آيات الكتاب وآياتُ الًذِي أنْزِلَ إليكَ ، ويكون الذي أنزل من نعت الكتاب وإن جاءت الواو ، ويكون الحق مرفوعاً على الِإضمار ، ويجوز أن يكون الحق صفة للذي .

(3/135)


المعنى : تلك آيات الكتاب والذي أنْزِلَ إليك من ربك الحق ، ولا
أعلم أحداً قرأ بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
لَمَّا ذكر أنهم لا يؤمنون عرف الدليلَ الذي يوجب التصديق بالخالق
عزَّ وجلَّ - فقال : (اللَّهُ الَّذِي رَفَع السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) ، وفي ذلك من القدرة والدلالة ما لا شيءَ أوضحُ منه أن السماء محيطة بالأرض متبرية منها.
بغير عَمَدٍ . والمعنى بغير عمدٍ وأنتم ترونها كذلك ، ويجوز أن تكون
(ترونها) من نعت العَمَدِ ، المعنى بغير عَمَدٍ مرئيةٍ ، وعلى هذا تعمدها قدرة
الله عزَّ وجلَّ.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).
كل مقهور مدبَّر لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر ، فذلك معنى
السُّخْرَةِ ، فالشمس والقمر مسخران يجريان مجاريهما التي سخرا جاريين
عليها.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يحكمه.
(يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).
أي يبين الآيات التي تدل على قدرته على بعثكم ، لعَلكُم تُوقِنُونَ.
لأنهم كانوا يجحدون البعث ، فاعلموا أن الذي خلق السَّمَاوَات وأنشأ الإنسان ولم يكن شيئاً ، قادر على إعادته.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

(3/136)


دلَّهُم - بعد أن بين آيات السماء - بآيات الأرض ، فقال - عزَّ وجلَّ - : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) روي في التفسير أنها كانت مُدَورَةً فمُدَّت.
ومَعْناهُ بَسَطَ الأرْضَ.
(وَجَعَلَ فِيها رَوَاسيَ).
أي جِبَالاً ثوابِتَ ، يقال : قد رَسَا الشيءُ يَرْسُو رُسُوًّا فهو راسٍ إذا ثبت
(وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).
جعل فيها نوعين ، والزوج الواحد الذي ليس له قرين
(يُغَشِّي اللَّيْلَ النَّهَارَ).
وتقرأ (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) ثم أى أم أنَّ ما ذكر من هذ ؛ الأشياء فيه برهان
وعلامات بينات فقال :
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ثم زادهم من البرهان فَقَال . .
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
يروى في التفسير أنها تتجاوَرُ ، بعضُها عامر ، وبعضها غير عَامِر ، وكذا
في التفسير أيضاً أن معناه قطع متجاورات.
(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ).
الأجود رفع جنات ، المعنى وفي الأرض قطع متجاورات ، وبينهما
جناتٍ ، ويجوز النصب في جنات ، ويقرأ وجناتٍ من أعنابٍ ، المعنى جعل
فيها رواسي وجعل فيها جنات من أعناب ، ويجوز أن يكون وَجَناتٍ خفضاً.
ويكون نسقاً على كل ، المعنى : ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ،

(3/137)


ومن جنات من أعناب (وَزَرْعٌ) ، فأما (وَزَرْعٌ) فيجوز فيه الرفع والخفض.
وكذلك (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ).
والصِّنْوَانُ جمع صِنْوٍ وصُنْوٍ ، ومعنى الصنوان أن يكون الأصل واحِداً
وفيه النخلتان والثلاث والأكثر ، ويجوز في جمع صنو أصْنَاءٌ ، مثل عِدْل
وأعدال ، وكذلك صُنْو فإذا كثرت فَهِيَ الصُّنى والصِّنيِّ.
(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ).
ويجوز تسقى بالتاء ، بماءٍ واحدٍ
(وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).
والْأُكُل : الثمَرُ الَّذِي يؤكَلِ ، ويجوز ، وُيفَضل بعضَها عَلَى بعضٍ لأنه
جرى ذكر اللَّه ، فالمعنى يُفَضل اللَّهُ ، وكذلك إذا قال : ونفضلُ بالنونِ لأن
الإِخبار عن اللَّه بلفظ الجماعة كما قال : (إِنَا نحنَّ نُحْيي وَنُمِيتُ)
وهذا خوطب به العَربُ لأنهم يستعملون فيمن يُبَجِّلُونَه لفظ الجمَاعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
هذا خطاب للنبي عليه السلام.
(أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
أي هذا موضع عجب ، لأنهم أنكروا البعث ، وقد بين لهم من عِظَمِ
خلقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ما يدل على أنَّ البَعْثَ أسْهَل في القدرة مما قد تَبَيَّنُوا.
فَأمَّا موضع (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فموضع إذَا نَصْب فمن قرأ . .
(أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا) على لفظ الاستفهام ، ثم قرأ (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
فإذا منصوبة بمعنى نبعث ويجَدَّدُ خَلْقُنَا.
المعنى إذا كنا تراباً نبعث ودل على إرادتهم (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

(3/138)


ومن قرأ إذا كنَا تراباً إنا لفي خَلق جديد أدْخَل ألف الاستفهام على
جملة الكلام ، وكانت إذا نصباً بـ (كُنَّا) ، لكن الكلام يكون في معنى الشرط
والجزاء ، ولا يجوز أن تعمل " جَدِيد " في إذَا ، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما
قبلها.
لا اختلاف بين النحويين أنَّ ما بَعْدَ إِنْ وإذا لا يعمل فيما قبلهما.
ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن المستفهِمَ بعد البَيَانِ والبُرْهَانِ عن هذا على
جهة الإِنكار كافر ، فقال :
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ).
جاء في التفسير أن الأغلال الأعْمَالُ في أعناقهم يومَ القيامة ، والدليل
على ذلك في القرآن قوله : (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ).
وقيل أولئك الأغلال في أعناقهم ، أي الأغلال التي هي
الأعمال ، وهي أيضاً مؤدية إلى كون الأغلال في أعناقهم يوم القيامة ، لأن
قولك للرجل : هذا كُل في عنقك للعمل السيئ معناه أنه لازم لك وأنَّكَ
مُجازًى علَيْه بالعذاب يَوْمَ القيامة.
* * *
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
أى يطلبون العذاب بقولهم : (فَأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ).
(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ).
والمُثُلات - بضم الميم وفتحها ، فمن قَرأ المُثلات ، فهي جمع مُثْلة.
ومن قرأ المَثُلَات فهي جمع مَثُلَة.
ويجوز في المثلات ثلاثة أوجه . يجُوز :

(3/139)


" خلت المُثْلات " بإسكان الثاء ، ويجوز فتح الثاء المُثَلاتُ ، ومن قرأ المثلات
تُضَمُّ الثاءُ والميم ، وهي في الواحدة ساكنة مضمومة في الجمع فهذه الضمة
عوض من حذف تاء التأنيث ، ومن فتح فلأن الفتحةَ أخَفُّ الحركات ، روت
الروَاةُ :
ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا . . . عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ
ومن قرأ المُثْلات بإسكان الثاء فلأن كل ما كان مضموماً أو مكسوراً نحو
رُسُل وعَضُدٍ وفَخِذٍ فإسكانه جائز لنقل الضمة والكسرة.
والمعنى أنَّهم يَسْتَعْجِلُونَ بالعَذَابِ وقد تقدم من العذاب ما هو مُثْلة وما فيه نَكَال لهم لو اتعظوا (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
معناه هلَّا أنْزِلَ عليه وإنَّما طَلبُوا غير الآيات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو انْشِقَاقَ القمر.
والقرآنِ الذي دُعُوا أن يأتوا بسورة من مثله - وَما أشبه هذا النحو ، فالتمسوا مثلَ آيات عيسى وموسى ، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - أنَّ لِكُلَ قَوْم هَادِياً ، فقال جلَّ وعزَّ :
(إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).
أي نبي وداع إلى اللَّه يدْعُوهم بما يُعْطَى من الآيات لَا بِمَا يُريدونَ
ويتحكمون فيه.
* * *
وقوله : (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
(وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ).
معنى غاض في اللغة نقص.
وفي التفسير ما نقص الحمل من تسعة أشهر وما زاد عنها على التسعة.
وقيل ما نقص عن أنْ يتمَّ حَتَى يموتَ ، وما زاد حتى يتم الحمل.
__________
(1) قال السَّمين :
والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة ، الواحدة « مَثُلَة » كسَمُرَة وسَمُرات ، وهي العقوبةُ الفاضحة . قال ابن عباس : : العقوباتُ المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما « ، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقَب من المماثلة كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى القِصاص ، يقال : أَمْثَلْتُ الرجلَ منْ صاحبِه وأقْصَصْته ، بمعنى واحد ، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها.
وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء . قيل : وهي لغةُ الحجاز في » مَثْلة « . / وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء ، وهي لغة تميم . وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما ، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما.
فأمَّا الضمُّ والإِسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما . وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ أصلاً بنفسه لغةً ، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإِسكان نحو : العُسُرِ في العُسْر ، وقد عُرِفَ ما فيه . اهـ (الدر المصون).

(3/140)


وقوله : (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
مَوضع " مَنْ " رَفْع بسواء ، وكذلك (مَنْ) الثانية يرتفعان جميعاً بسواء ، لأن
سواء يطلب اثنين ، تقول : سواء زيد وعمرو ، في مَعْنى ذَوَا سَواء زيد وعمرو.
لأن سواء مصدر فلا يجوز أن يرتفع ما بعده إلَّا على الحذف ، تقول : عدل
زيد وعمرو ، والمعنى ذوا عدل زيد وعمرو لأن المصادر ليست بأسماء
الفاعلين ، وإنما ترفع الأسماءُ أوْصَافَها ، فإذا رفعتها المصادر فهي على
الحذف كما قالت الخنساء :
تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حتى إِذا ادَّكَرَتْ . . . فإِنما هي إِقْبالٌ وإِدْبارُ
المعنى فإنما هي ذات إقبال وذات إدبار ، وكذلك زيد إقبال وإدبار.
وهذا مما كثر استعماله أعني سواء ، فجرى مجرى أسماء الفاعلين ، ويجوز أن
يرتفع على أن يكون في موضع مُسْتَوٍ ، إلا أن سيبويه يستقبح ذلك ، لا يجيز
مُسْتَوٍ زيد وعمرو ، لأن أسماء الفاعلين عنده إذا كانت نكرة لا يُبْتَدَأ بها لضَعْفها عن الفِعْل فلا يُبْتَدأ بها ، وُيجْرِيها مَجْرَى الفعلِ.
ومعنى الآية إعلامهُم أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يعلمُ ما غاب عنهم وما شُهِدَ.
فقال عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ).
أي من هو مستتر بالليل ، والليل أسْتَر مِنَ النهار
وَمَنْ هُوَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ.
أي من هو ظاهر بِالنَّهَارِ في سَرَبِه ، يقال : خَلِّ لَهُ سَرَبَه أي طريقه ،

(3/141)


فالمعنى الظاهرُ في الطرقاتِ ، والمستخفِي في الظلماتِ ، والجاهر بنطقه
والمضمِرَ في نفسه علم الله فيهم جميعاً سواء
وذكر قطرب وجهاً آخر ، ذكر أنه يجوز أن يكون " مُسْتَخْفٍ بالليل " ظاهراً
بالليل ، وهذا في اللغة جائز ، ويكون مع هذا " وسارب بالنهار " أي مُسْتتر ، يقال : انسرب الوحْشيُّ إذا دخل في كِناسِه.
والأول بَين ، وهو أبلغ في وصف علم الغيب.
* * *
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
أي للِإنسان ملائكة يَعْتَقبُونَ ، يأتي بعضهم بِعَقِبِ بَعْضٍ
(يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ).
المعنى حفظهم إياه من أمْرِ اللهِ ، أي مما أمَرَهُمُ الله تعالى به ، لا
أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر اللَّه ، كما تقول : يحفظونه عن أمر اللَّه (1).
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).
أي لا يلي أمرهم أحد من دون الله.
* * *
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
خَوْفاً للمُسَافِرِ ، لأن في المَطَرِ خَوْفاً عَلَى المُسَافِر ، كما قال الله تعالى
(إِنْ كَانَ بِكمْ أذًى مِنْ مَطَرٍ).
وطَمَعاً للحَاضِرِ لأن تفاعه بالمطر.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - (خَوْفًا وَطَمَعًا) خوفاً لمن يَخاف ضُرُّ المَطَرِ ، لأنه ليس كل بَلدٍ ينتفع فيه بالمطر نحو مصر وما أشبهها ، وطَمَعاً لمن يَرْجُو الانتفاع به.
__________
(1) قال السَّمين :
و { مِنْ أَمْرِ الله } متعلقٌ به ، و » مِنْ « : إمَّا للسبب ، أي : بسبب أمرِ الله ، - ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة » بأَمْرِ الله « . وقيل : المعنى على هذا : يحفظون عملَه بإذن الله ، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها . قال أبو البقاء : » مِنْ أَْمْرِ الله ، أي : من الجنِّ والإِنس ، فتكون « مِنْ » على بابها « . يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ ، فتكون » مِنْ « لابتداء الغاية.
وجَوَّز أيضاً أن تكونَ بمعنى « عن » ، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة.
ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً ، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة : بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه ، وبكونها تحفظُه ، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله ، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ ، وهو جائزٌ فصيح . وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره ، وأن الأصلَ : له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه ، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه.
اهـ (الدر المصون).

(3/142)


(وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ).
أي التي قد ثقلت بالماء.
* * *
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
جاء في التفسير أنه ملك يزجر السحاب ، وجائز أن يكون صوت الرعد
تسبيحه لأن صوت الرعد من أعظم الأشياء.
وقد قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).
وخص ذكر الرعد لعظم صوته - واللَّه أعلم.
(وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ).
جائز أن يكون الوَاوُ وَاوَ حال.
فيكون المعنى فيصيبُ بها من يشاء في حَال جِدَاله في اللَّه ، وذَلِكَ أنه أتى في التفسير أن رَجلاً من الجاهلية يقال له " ارْبَدُ " سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أخبرني عن ربنا أمِنْ نحاس أم حَدِيدٍ ؟
فأنزل اللَّه عليه صاعقة فقتلته ، فعلى هذا يجوز أن يكون الواو وَاوَ حَالٍ . ويجوز أن يكون : لما تمم الله أوصاف ما يدل على توحيده وقُدْرَتِهِ على البَعْثِ قَالَ بَعْدَ ذلك (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).
أي شديد القدرة والعَذَابِ.
ويقال في اللغة مَاحَلْتُه مِحَالاً ، إذا قَاويتُهُ.
حتى يتبين له أيكما أشدُّ . والمَحْلُ في اللغة الشدة ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
جاء في التفسير : دَعوة الحق شهادة أن لا إله إلَّا اللَّهُ ، وجائز - واللَّهُ
أعلم - أن تكون دَعْوة الحقِّ أنه مِنْ دَعَا اللَّه مُوَحِّداً استجيب له دَعَاؤه .

(3/143)


(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ).
ثم بين الله عزَّ وجلَّ كيف استجابةُ الأصْنَامِ لأنَّهمُ دَعَوُا الأصْنَام من دون
اللَّه فقال :
(إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ) ، إلا كما يستجاب الذي يبسط كَفَّيْه إلى المَاء يَدعو الماء إلى فيه.
والماء لا يستجيب ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن دعاءهم الأصنام كَدُعَاءِ
العَطْشَانِ الماءَ إلى بُلوغ فيه ، (وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ).
وقال بعضهم : إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه كإنسان على شفير بئر
يدعو الماء من قرار البئر ليبلغ فاه ، والتَفْسِيرَانِ وَاحِد.
* * *
وقوله - عزْ وجل : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
جاء في التفسير أن المؤمن يسجد طوعاً ، والكافر يسجد كرهاً ، وجاء أن
مِنَ النَّاسِ مَنْ دَخَل في الإِسلام طوعاً ومنهم من لم يدخل حتى فحص عن
رأسه بالسيف ، أي فسجَدَ ودَخَلَ في الإِسلام في أول أمرِه كرهاً.
وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون (طَوْعًا وَكَرْهًا) أن يكونَ السُّجودُ الخُضُوعَ لِلَّهِ ، فمن الناس من يخضع ويقبل أمر اللَّه فيما سهل عليه ، ومنهم من تَقَبَّلَهُ وإن كانَ عليه فيه كُرْهٌ.
(وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
أي وتسجد ظلالهم . وجاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير اللَّه ، وظله
يسجد للَّهِ ، وقيل وظلالهم أشخاصهم ، وهذا مخالف للتفسير.
* * *
وقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ).
أي هل - أو أغير الله خلق شيئاً فاشتبه عليهم خلق الله من خلق غيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ - : (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

(3/144)


أي قل ذلك وَبيَّنه بما أخبر اللَّه به من الدلالة على توحيده من أول هذه
السورة بما يدل على أنه خالق كل شيء ، ثم قال - عزَّ وجلَّ - ضارباً مثلاً
للكافرين والمؤمنين :
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)
أي بما قدَّرَ لَهَا مِن مِلْئِها ، ويجوز ب@درها أي بقدر مِلْئِها.
(فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا).
أي : طافياً عالياً فوق الماء.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ).
أي ابتغاء متاعً.
(زَبَدٌ مِثْلُهُ).
والذي يوقد عليه في النار ابتغاء حلية : الذَّهَبُ والفِضةُ ، والذي يوقد
عليه ابتغاء أمْتِعة الحديدُ والصُفْر والنحاس والرصاص.
و (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثل زَبَد الماءِ.
(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ).
أي : مِنْ زَبَد الماء ، والزَّبَدُ من خَبَثٍ الحديد ، والصُّفْرِ والنحاسِ
والرصَاصِ
(فَيَذْهَبُ جُفَاءً).
أي فيدْهب ذلك لا ينتفع به ، والجفاء ما جفا ، الوادي ، أي رمى به.
(وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
وأما ما ينفع الناسَ مِنَ الماءِ والفضةِ والذهب والحديد وسائر ما ذكرنا
فيمكث في الأرض.
فمثلُ المؤمن واعتقاده ونفْعِ الإِيمان كمثل هذا الماء

(3/145)


المنتفَع به في نبات الأرض وحياة كل شيء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الآلات التي ذُكِرَتْ لأنها كلها تبقى منتفعاً بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزَّبَد الذي يذهب جَفاء وكمثل خبث الحديد ، وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به.
وموضع كذلك نصْبُ ، قال أبو زيد : يقال جَفَأتُ الرجُلَ إذا صَرَعْته
وأجْفَاتِ القِدْرُ بِزَبَدِها إذَا ألقت زَبدها فيه.
(فَيَذْهَبُ جُفَاءً). من هذا اشتقاقه.
وموضع (جُفَاءً) نصب على الحال ، وهو ممدود.
وزعمْ البصريونَ والكوفيون جميعاً أنَّ ما كان مثلَ القمَاشِ والقُمَامِ والجُفَاء فهذه الأشياء تجيء على مثال فُعَال.
* * *
وقوله : عزَّ وجلَّ : (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
أي لهم الجنة ، وجائز أن يكون لهم جزاءُ المحسنين ، وهُوَ راجعٌ إلى
الجنةِ أيضاً كما قال - عزَّ وجلَّ - : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ).
(أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ).
وسوء الحساب ألا تقبل منهم حسنة ولا يُتَجَاوَزُ لَهُم عَنْ سَيئَةٍ ، وأن
كُفْرَهُمْ أحْبَطَ أعمَالَهم كما قال : . . (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
وقيل سوء الحساب أن يُسْتَقصى عليه حسابه ولا يتجاوز له عن
شيءٍ من سيئاته ، وكلاهما فيه عطب.
ودليل هذا القول الثاني : من نوقش الحساب عُذِّبَ.
وتكون سوء الحساب المناقشة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).

(3/146)


أي يدفعون ، يقال : دَرَأتُه إِذَا دَفَعْتُه.
(أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
(جَنَّاتُ) بَدَل مِنْ (عُقْبَى).
وعَدن : إقامة ، يقال : عَدَنَ بالمكان إذَا أقام فيه.
(يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
موضع " مَنْ " رفع ، عطف على الواو في قوله : (يَدْخُلُونَهَا)
وجائز أن يكون نصباً ، كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيدٍ.
أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الأنسابَ لا تنفع بغير أعمال صالحة فقال :
يَدْخُلونَها وَمَنْ صَلَح مِمنْ جَرَى ذِكْرُه.
(وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
أي يقولون سلام عليكم بما صبرتُم.
هذه مكرمة من الله عزَّ وجل لأهل الجنَّةِ.
والمعنى يدخلون عليهم من كل باب يقولون (سلام عليكم).
فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه.
* * *
وقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ).
يعني من رجع إلى الحق.
* * *
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
(الَّذِينَ آمَنُوا)
في موضع نصب رَدًّا على (مَنْ) ، المعنى يهدي إليه الذين آمنوا
(وَتَطْمَئِنُ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) ، أي إذا ذكر الله بوحدانيته آمنوا به غير
شَاكِينَ.
(أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

(3/147)


" أَلَا " حرف تنبيه وابتداء.
ومعنى (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
أي التي هي قلوب المؤمنين لأن الكافرَ غيرمطمئن القلب.
* * *
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
القراءة بالرفع في (وَحُسْنُ مَآبٍ). عطف على (طُوبَى) كما تقول :
الحمدُ للَّهِ والكرامةُ وإن شئت كان نصباً على (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).
أي جعل اللَّه لهم طوبى وحُسْنَ مآبٍ.
(طُوبَى) عند النحويين فُعْلَى من الطِيبِ.
المعنى العيش الطيب لهم.
وجاء في التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن (طُوبَى) شجرة
في الجنة ، وقيل (طُوبَى) لهم حسنى لهم ، وقيل طوبى لهم خَيْرٌ لهم.
وقيل (طُوبَى) لهم اسم الجنة بالهندية . وقيل (طُوبَى) لهم خيرة لهم ، وهذا التفسير كله يشبهه قول النحويين أنها فُعْلَى من الطِّيب.
* * *
وقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
ترِكَ جواب " لو " لأن في الكلام دليلاً عليه ، وكان المشركون
سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفسَحَ لهم في مكة ويباعد بين جبالها حتى يتخذوا فيها قطائع وبساتين وأَنْ يُحْيي لهم قَوْماً سَمُّوهُم لَهُ ، فأعلمهمْ اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن لو فعل ذلك بقرآن لكان يفعل بهذا القرآن.
والذي أَتَوَهَّمُه - واللَّه أعلم - وقد قاله بعض أهل اللغة ، أن المعنى : لَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى لما آمنوا به.
ودليل هذا القول قوله : (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).

(3/148)


وقوله - عزَّ وجلَّ : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) (1).
قيل إنها لغة للنخع ، يَيْأَس في معنى يَعْلَمُ.
وأنْشدوا
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إِذ يَيْسِرُونَني . . . أَلم تَيْأَسُوا أَني ابْنُ فارِسِ زَهْدَم
وقرئت : أفلم يتبين الذين آمنوا.
وقال بعض أهل اللغة : أفلم يعلم الذين آمنوا علماً ييأسوا معه من أن يكون غير ما علموه.
والقول عندي واللَّه أعلم أن معناه : أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من إيمان
هؤلاء الذين وصفهم اللَّه بأنهم لا يؤمنون لأنه قال :
(لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا).
(جَمِيعًا) منصوبٌ على الحَالِ.
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفرُوا تصِيبُهُم بمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ).
قيل سَرِيَّة ، ومعنى قارعة في اللغة نازلة شديدة تزل بأمر عظيم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قال سيبويه : المعنى فيما يقص عليكم مَثَلُ الْجَنَّةِ ، أو مَثَلُ الْجَنَّةِ فيما
يُقصُّ عليكم ، فرفعه عنده على الابتداء.
وقال غيره : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) مرفوع على الابتداء.
وخبره (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ)
كما تقول :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين } أصلُ اليَأْسِ : قَطْعُ الطمعِ عن الشيء والقُنوطُ فيه . واختلف الناسُ فيه ههنا : فقال بعضهم : هو هنا على بابه ، والمعنى : أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش ، وذلك أنَّهم لَمَّا سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الآيات ليؤمِنَ الكفار ، وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال : أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم ، قاله الكسائي . وقال الفراء : « أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال : أفلم يَيْئسوا عِلْماً ، يقول : أَيْئَسهم العِلْم مضمراً ، كما تقول في الكلام : يَئِست منك أن لا تفلح ، كأنه قال : عَلِمه علماً » ، قال : فيَئِسَتْ بمعنى عَلِمَت ، وإنْ لم يكنْ قد سمع ، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل «.
وقال ابن عطية : » ويحتمل أن يكونَ « اليأسُ » في هذه الآية على بابه ، وذلك : أنه لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } على التأويلين في المحذوفِ المقدَّر قال في هذه : أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً «.
وقال الزمخشري : » ويجوز أن يتعلَّقَ { أَن لَّوْ يَشَآءُ } بآمَنوا على : أولم يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ جميعاً ولهداهم « وهذا قد سبقه إليه أبو العباس.
وقال الشيخ : » ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه : وهو أنَّ الكلامَ تامٌّ عند قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } وهو تقريرٌ ، أي : قد يَئِس المؤمنون من إيمان المعاندين ، و { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله } جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ ، أي : وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ « أنْ » مع « لو » ، كقولِ الشاعر :
2857- أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً . . . وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ
وقول الآخر :
2858- فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ . . . لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ
وقد ذكر سيبويه أنَّ « أنْ » تأتي بعد القَسَم ، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم بالجملة المُقْسَمِ عليها.
وقال بعضُهم : « بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن . قال القاسم بن معن وهو من ثقاتِ الكوفيين : » هي لغة هوازن «.
وقال ابن الكلبي : « هي لغةُ حيّ من النَّخَع ، ومنه قولُ رباح بن عدي :
2859- ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ . . . وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا
وقول سحيم :
2860- أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني . . . ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
وقول الآخر :
2861- حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا . . . غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها
وردَّ الفراء هذا وقال : » لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ « . ورُدَّ عليه : بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بَذِيمة : » أو لم يتبيَّنْ « ، مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه . وقد افترى مَنْ قال : » إنما كتبه الكاتب وهو ناعِسٌ ، وكان أصله « أفلم يتبيَّن » فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين «.
قال الزمخشري : » وهذا ونحوُه ممَّا لا يُصَدَّقُ في كتاب [ كتاب الله الذي لا يأتيه ] الباطلُ مِنْ [ بينِ ] يديه ولا مِنْ خلفِه ، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى بين دَفَتَيْ الإِمام ، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في دين الله ، المهيمنين عليه ، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجعُ ، والقاعدةُ التي عليها المبنى ، هذه واللهِ فِرْيَةٌ ، ما فيها مِرْيَةٌ « . وقال الزمخشري أيضاً : » وقيل : إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى العِلْم ، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك «.
اهـ (الدر المصون).

(3/149)


صفةُ فُلانٍ أسْمَرُ كقولك : فلان أسمر.
وقالوا معناها صفة الجنة التي وعد المتقون.
وكلا القولين حسن جميل.
والذي عندي - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وجلَّ ، عَرفنا أُمُورَ الجنة التي لم
نَرَهَا . ولم نُشَاهِدْهَا بما شَاهِدناه مِن أمور الدنيا وعايَنَّاه.
فالمعنى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) جَنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
أي يمحو الله ما يشاء مما يكتبه الحفظة على العباد ويثبت.
قال بعضهم : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، أي من أتى أجَلُه مُحِيَ ، ومن لم يأت
أجَلُه أثْبِتَ.
وقيل يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشاءُ وُيثْبِتُ أي ينسخُ مما أَمَرَ به ما يشاء وُيثْبتُ
أى ويُبْقِي مِن أمْره ما يشاء.
(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
أي أصل الكتاب.
وقيل يمحو الله ما يشاء ويثبت أي مَنْ قدَّرَ لَهُ رِزْقاً وَأَجَلاً مَحا مَا يَشَاءُ
من ذلك وأثبت ما يشاء.
* * *
وقوله تعالى : (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
" إِنْ " أدْخلَت عليها (مَا) لتوكيد الشرط.
دخلت النون مؤكدة للفعل.
(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ).
عطف على (نُرِيَنَّكَ) وجواب الجزاء : (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) أي علينا الحساب لِنَجْزيَ كل نفس بما عملت.
والمعنى إِما أرَيْنَاكَ بعض الذي وعدناهم من إظهار دين الِإسلام على
الدين كله ، أو توفيناك قبل ذلك ، فليس عليك إلَّا البَلاغُ - كَفَروا هم به
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة } : مبتدأ ، وخبرُه محذوفٌ تقديره : فيما قَصَصْنا ، أو فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة ، وعلى هذا فقولُه { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } تفسيرٌ لذلك المَثَل . وقال أبو البقاء : « فعلى هذا » تَجري « » حالٌ من العائدِ المحذوف في « وُعِد » ، أي : وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها « . ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله » تجري « . قال : » وهذا خطأٌ عند البصريين « . قال : » لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه ، وشُبْهَتُه : انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه « صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ » ، ويجوز أن يكونَ « تجري » مستانَفاً «.
قلت : وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ : ونَقَل غيرُه عن الفراء في الآية تاويلين آخرين ، أحدُهما : على حذف لفظةِ » أنَّها « والأصلُ : صفةُ الجنَّة أنها تجري ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ ، وكيف يَحْذِفُ » أنها « من غير دليلٍ . والثاني : أنَّ لفظةَ » مثل « زائدةٌ ، والأصل : الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار ، وزيادةُ » مَثَل « كثيرةٌ في لسانِهم . ومنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ } [ البقرة : 137 ] وقد تقدَّم.
وقال الزمخشري : » وقال غيرُه : -أي سيبويه - الخبر { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول : صفةُ زيدٍ أسمرُ « . قال الشيخ : » وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ « تَجْري » خبراً عن الصفةِ ، ولا « أسمر » خبراً عن الصفة ، وإنما يُتَأَوَّل « تجري » على إسقاطِ « أنْ » ورفعِ الفعل ، والتقدير : أَنْ تَجْري ، أي : جَرَيانُها.
وقال الزجَّاج : « مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري ، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده » . ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال : « لا يَصِحُّ ما قال الزجاج ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشَّبَه؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ ولا تكونُ الصفة ، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ ، فهو كقولِه تعالى : { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة.
وقال : معناه الشبه.
وقرأ عليٌّ وابن مسعود » أمثال الجنة « ، أي : صفاتها . اهـ (الدر المصون).

(3/150)


أو آمنوا.
ثم أعلم اللَّه أن بَيانَ ما وُعِدُوا به قد ظهر وتبيَّنَ فقال عزَّ وجلَّ :
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
أي أو لم يروا أنا قد فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم.
ودليل هذا القول قوله عزَّ وجلَّ في موضع آخر :
(أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44).
وقيل في تفسير هذه الآية ما وصفنا ، وقيل غير قولٍ.
قيل نَقْصُها من أطرافها موتُ أهلها ، ونقص ثمارها.
وقيل ننقصها من أطرافها بموت العلماء.
والقول الأول بين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ).
وقُرِئت : وَسَيَعْلَمُ الكافِر ، ومعنى الكفار والكافر ههنا وَاحِدٌ.
الكافر اسم للجنس ، كما تقول قد كثرت الدراهم في أيدي الناس.
وقد كثر الدِّرْهَمُ في أيدِي الناس . .
وقرأ بعضهم وسيَعلم الكافرون ، وبعضهم وسيعلم الذين كفروا.
وهاتان القراءتان لا تجوزان لمخالفتهما المصحفَ المجمعَ عليه.
لأن القراءة سُنَّة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
(قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).
الباء في موضع رفع مع الاسم ، المعنى كفى الله شَهِيدًا ، وشَهِيدًا
مَنْصُوبٌ على التمييز.
(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ).
و " مَن " يعود على الله عَزَّ وجَلَّ ، وقيل في التفسير يعنى به عبد الله بن سلام

(3/151)


وقيل ابن يامين ، والذي يدل على أنه راجع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ - قراءة
من قرأ (ومِنْ عِنْدِه) علمُ الكتابُ ، ومن عنده علم الكتاب لأن الأشبه ، واللَّهُ
أعلم - أن اللَّه لا يَسْتَشْهِدُ على خلقه بغيْره.
وذلك التفسير جائز لأن البراهين إذا قامَتْ مع اعتراف من قرأ الكتب
التي أنزلت قبل القرآن فهو أمرٌ مُؤكدٌ (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { وَمَنْ عِندَهُ } : العامَّة [ على فتح ميم ] « مَنْ » ، وهي موصولةٌ ، وفي محلِّها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ ، أي : بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه . والثاني : أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [ الجلالة ، إذ هي ] فاعلةٌ ، والباءُ زائدةٌ فيها . الثالث : أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه محذوف ، أي : ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً.
و { عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً ، و « عِلْمُ » فاعلٌ به . واختاره الزمخشري ، وتقدَّم تقريرُه ، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ ، والجملةُ صلةٌ ل « مَنْ ».
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب : إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى . قال ابن عطية : « ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز ، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ » . واعترض الشيخُ عليه بأنَّ « مَنْ » لا يُوصَفُ بها ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني ، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف.
قلت : ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ.
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } جعلوا « مِنْ » حرفَ جرّ ، و « عندِه » مجرورٌ بها ، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ ، و « عِلْم » مبتدأ مؤخر . وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجعلون « مِنْ » جارَّةً ، و « عُلِمَ » مبنياً للمفعول ، و « الكتابُ » رفعٌ به . وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد « عُلِّم » . والضمير في « عنده » على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط . وقُرئَ أيضاً « وبمَن » بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة . اهـ (الدر المصون).

(3/152)


سُورَة إبْراهِيمَ
مكية إلَّا اثنَتَين مِنهَا
نزلت بالمدينة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ) إلى قوله : (وَبِئْسَ الْقَرَارُ).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
(كِتَابٌ) مرفوع على خبر الابتداء ، المعنى هذا كتاب أنزلناه إليك.
وقال بعضهم كتاب مرتفع بقوله (الر) و (الر) ليست هي الكتاب إنما هي شيء من الكتاب . ألا ترى قوله (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ).
فإنما الكتاب جملة الآيات وجملة القرآن.
وقوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ).
(الظلمات) ما كانوا فيه من الكفر ، لأن الكفر غير بَينٍ فمُثلَ بالظلمات.
والإيمان بين نَيِّر فَمُثلَ بالنور ، والباء متصلة بـ يخرج ، المعنى ليخرج الناس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، أي بما أذن اللَّه لك من تَعْلِيمهمْ ، ويجوز أن يكون بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أنه لا يهتدي مهتدٍ إلا بإذن اللَّه ومشيئته ، ثم بيَّنَ ما النور فقال :
(إلَى صِراطِ العزِيزِ الحَمِيدِ).

(3/153)


(الحميدِ) خفض من صفة (العزيزِ) ويجوز الرفع على معنى الحميدُ اللَّه
ويرتفع (الحميد) بالابتداء وقولك " اللَّه " خبر الابتداء ، ويجوز أن يرفع اللَّهُ
ويخفض (الحميد) على ما وصفنا.
ويكون اسم اللَّه يرتفع بالابتداء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
(وَيبْغونَهَا عِوجاً).
أيْ يَطْلِبُونَ غير سَبِيل القَصْدِ وصراطِ الله وهو القَصْد ، والعوج في
الدين مبني على فِعَل ، وفي العَصَا عَوَجٌ بفتح العَيْن.
ونصب (عِوجاً) على الحال مصدر موضوع في موضع الحال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
أي بلغة قومه ليَعْقِلَ عنه قومُه ، (فَيُضِل اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ) ، الرفع هو الوَجْهُ
وهو الكلام وعليه القراءة ، والمعنى إنما وقع الإرسال للبيان لا للِإضلال.
ويجوز النصبُ على وجه بعيدٍ ، فيكون (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي) ، ويكون سبب الإِضلال الصيرورة إليه كما قال : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) ، أي التقطوه فآل ذلك إِلى أن صار لهم عدواً وحزناَ ، ولم يلتقطوه هم ليكون لهم عدواً وحَزَناً ، وكذلك يكون : (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ) ، أي فيؤول الأمر إلى أَنْ يَضِلُوا فيضلهم اللَّه.
والقول الأول هو القول وعليه القراءة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
أي البرهانِ الذي دل على صحة نبوته ، نحو إخراج يده بيضاء وكون
العصا حيَّة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ).

(3/154)


أي بأن اخْرجْ قومَكَ . المعنى أرسلناه بأن يخرج قومه (من الظلمات إلى
النور) ، أي من ظلمات الكفر إلى نور الِإسلام.
و " أنْ " ههنا يصلح أنْ يكون لْي معنىْ " أنْ " المخففة ، وتكون مُفَسَّرةً ، ويكون المعنى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي أخرج قومك ، كأن المعنى قلنا له : أخْرِجْ قومَكَ ، ومثل هذا : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا).
أي امشوا . والتأويل : قالوا لهم : امشوا.
قال سيبويه تقول كتبت إليه أن قُمْ ، وأمرته أن قُمْ ، إن شئت كانت " أن "
وصلت بالأمر ، والتأويل تأويل الخبر ، المعنى كتبْت إليهَ أن يَقُومَ وأمرته أنْ
يَقومَ ، إلا أنها وُصِلَتْ بلفظ الأمْر للمخاطب ، والمعنى معنى الخبر ، كما
تقول ، أنت الذي فعلت ، والمعنى أنت الذيِ فَعَلَ
قال : ويجوز أن يكون في معنى أي ، ومثله أرسلت إليه أنْ مَا أنْتَ وذَا.
وقوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ).
(وَذَكِّرْهُمْ) عطف على (اخرِجْ) ، وتذكيرهم بأيام اللَّه ، أي تذكيرهم بنَعَمِ
أيامِ الله عليهم ، وبنقم اللَّه التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمودَ ، أي
ذكرهم بالأيام التي سَلَفَتْ لمن كفر وما نزل بهم فيها ، وذَكِرْهًمْ . بنعَم اللَّه.
والدليل على أن التذكير مشتمل على الِإنْذار والتَّحْذِير مما نزِل بِمَنْ قبلهم قوله عزَّ وجلَّ بعد هذه الآية : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
أي ألم يأتهم أخبارُ أُولَئِكَ والنَوَازِلِ بهِمْ ، (لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ).
فأعلم الله أن بعد هؤلاء أمَماً قد مضى من كان يعلم أنباءَهَا ، ومن هذا

(3/155)


قيل : كذب النَّسَّابُونَ لأنهم لا يعلمون من كان بعد هؤلاء.
وهذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ).
يروى عن ابن مسعود أنهم عَضوا أناملهم غيظاً مما أتَتْهُم به الرسلُ.
وقيل : (رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) ، أومأوا إلى الرسل أن اسكتُوا.
وقيل ردوا أيْدِيَهُمْ ، الهاء والميمَ يرجعان على الرسل ، المعنى ردوا أيدي الرسل أي نِعَمَ الرسُل لأن مَجيئهم بالبيَّنَّاتِ نِعَم ، تقول : لفلان عندي يَدٌ أي نِعْمَة ، ومعنى في أفْوَاهِهِم بأفواههم ، أي ردوا تلك النعم بالنطق بالتكذيب لِمَا جاءت به الرسُلُ ، والمعنى أن الردَّ جَاء في هذه الجهة ، وفي معناها ، كما تقول : جلست في البيت ، وجلست بالبيت.
وقالوا : (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ).
هذا هو الرد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
(اسْتَفْتَحُوا) يُعْنَى به الرسُلُ ، سألوا اللَّه أن يفتح عليهم أي ينصرهم.
وكل نصْرٍ فهو فَتْحٌ ، والجَبَّار الذي لا يَرى لأحَدٍ عَلَيه حَقًّا ، والعنيد الذي يعدل عن القَصْدِ ، يقال جبَّار بَين الجَبْرِيَّة ، والجِبْريَّةُ - بكسر الجيم - والجِبِرية بكسر الجيم والباء ، والجَبَرُوَّة والجَبَرَوَّة ، والتجْبَار والجبرياء ، والجَبُّورة والجبرُوتُ.
* * *
(مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
أي جهنم بين يديه ، و " وراء " يكون لخلف وقُدَّام ، وإنما معناه ما توارى

(3/156)


عنك أي ما استتر عنك ، وليس من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة ، قال النابغة :
حَلَفْت فلمْ أترك لنفسك ريبةً . . . وليس وراءَ الله للمرء مَذْهَبُ
أي ليس بعد مذاهب الله للمرء مذهب.
(وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ).
أي مما يسيل من أهل النَّار من الدَّم والقيح.
* * *
(يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
أي لا يقدر على ابتلاعه ، يقال ساغ لي الشراب وَأسَغْتُه.
(وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ).
أي من بعد ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ)
فهو مرفوع على معنى وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا بِرَبِّهم ، أو
مَثَل الذين كفروا بربهم - فيما يتلى عليكم ، وجائز أن يكون - واللَّهُ أعلم - مثل الذين كفروا بربهم صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم ، كأنك قلت : " الذين كفروا بربهم أعمالهم " ، كما تقول صفة زيد أسمر ، المعنَى زيدٌ أسمَرُ وتأويله أن كل ما يتقرب به الذين كفروا إلى اللَّه فمُحْبَطٌ.
قال الله عزَّ وجلَّ : (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فِي الدُّنْيَا والآخِرَة).
ومثله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).

(3/157)


وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
أي جمعهم الله في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع.
(فَقَالَ الضُعَفَاءُ) ، وهمُ الأتباعُ.
(للذين استكبروا) وَهم المَتْبوعونَ.
(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا).
أي اتبَعناكم فيما دعوتمونا إليه ، وتَبَعاً جمع تَابع ، يقال تابع وتَبَعُ ، مثل
غائب وغَيَبٌ ، وجائز أن يكون تبع مَصْدَراً سمِّيَ به ، أي كنا ذوي تبع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا).
(سَوَاءٌ) رفع بالابتا اء ، و (أَجَزِعْنَا) في موضع الخبر.
(مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ).
أي ما لنا من مهرب ولا مَعْدِل عن العذابِ ، يقال حاص عن الشيء
يَحِيص ، وَجَاصَ عنه يَجِيصُ في معنى واحدٍ.
وهذه اللغة لا تجوز في القرآن ويقال : وقع في حَيْصَ بيْصَ ، وَحَاصَ باصَ وحَاصٍ بَاصٍ ، إذا وقع فيما لا يقدرُ أن يتخلص منه.
* * *
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
روي أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النَّارِ قام إبليس
عليه لعنة الله خطيباً ، فقال : (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) ، أي وَعَدَ من أطاعه الجنة ووعد مَن عَصاه النَّارَ ، (وَوَعَدْتُكُمْ) خلاف ذلك وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم مِنْ سُلْطَانٍ . أي ما أظهرت لكم مِنْ حُجةٍ.
(إلا أن دَعَوْتُكمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
أي أغويتكم وأضللتُكمْ ، فاتبعتموني.
ذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن إبليس

(3/158)


وما يقوله في القيامة تحذيراً من إضلاله وإغوائه.
(مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ).
أي ما أنا بمُغيثكم ، ولا أنتم بمُغِيثي ، قُرِئَتْ بِمُصْرخِيَّ - بفتح الياء.
كذا قرأه الناس ، وقرأ حمزة والأعشى بمُصْرِخِىِّ بكسر الياء ، وهذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف ذكره بعض
النحويين (1) ، وذلك أن ياء الِإضافة إذَا لم يكن قبلها ساكن حُرِّكَتْ إلى الفتح :
تقول : هذا غلامِيَ قد جاءَ ، وذلك أن الاسم المضمَرَ لمَّا كان على حرف
واحدٍ وقد منع الإعراب حرك بأخف الحركات ، كما تقول : هو قائم فتفتح
الواو ، وتقول : أنا قمْتُ فتفتح النون ، ويجوز إسكانُ الياء لِثِقَلِ الياء التي
قبلها كسرة ، فإذا كان قبل الياء سَاكِن خرِّكَتْ إلى الفتح لا غير ، لأن أصلها أن تحرك ولا ساكن قبلها ، وإذا كان قبلها ساكن صارت حركتها لازمَةً لالتقاء السَّاكنين ،.
ومن أجاز بمصْرخيِّ بالكسر لَزِمَهُ أن يقول : هذه عَصَاي أتوكأ
عليها ، وأجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر لأن أصل التقاء السَّاكنين
الكسرُ ، وأنشد :
قال لها هل لك يا ثافيِّ . . . قالت له مَا أنتَ بالمَرْضِيِّ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِمُصْرِخِيَّ } العامَّةُ على فتحِ الياءِ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ . وقرأ حمزةُ بكسرِها ، وهي لغةُ بني يَرْبوع . وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً : فمِنْ مُجْتَرِئٍ عليها مُلَحِّنٍ لقارئها ، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ ، ومِنْ مجوِّزٍ لها بضعفٍ.
قال حسين الجعفي : « سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه » . وهذه الحكايةُ تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة ، منها ما تقدَّم ، ومنها : « سألت أبا عمروٍ وقلت : إن أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال : هي جائزة أيضاً ، إنما أراد تحريك الياء ، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ » . وعنه : مَنْ شاء فتحَ ، ومَنْ شاء كسر ، ومنها أنه قال : إنها بالخفضِ حسنةٌ . وعنه قال : قَدِم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً ، فسألتُه عن شيء [ مِنْ ] قراءة الأعمش واستشعرتُه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجرِّ فقال : هي جائزةٌ ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها.
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ ، ولا التفاتَ إليه لأنه عَلَمٌ من أعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [ مَنْ فوقَ السجستاني ] :
2877- وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ . . . لم يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القناعيسِ
ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات : منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين ، وذلك أنَّ ياءَ الإِعرابِ ساكنةٌ ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ ، فلمَّا التقيا كُسِرَتْ لالتقاء الساكنين . الثاني : أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد ، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً ، وبياءٍ إذا كانت مكسورة ، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة ، فَتُكْسَرُ كما تُكْسَرُ الهاءُ في « عليْهِ » ، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ ، كما يَصِل ابن كثير نحو : « عليهي » بياء ، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ ، إذ أصلُه يقتضي عدَمها . وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع ، قال : يزيدون على ياء الإِضافة ياءً ، وأنشد :
2878- ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ . . . قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ
أنشده الفراء وقال : « فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين » . وقال أبو عليّ : « قال الفراء في كتاب » التصريف « له : زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ ، وكان ثقةً بصيراً ».
ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال : « هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ مَرْذُوْلَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ » . وقال أبو جعفر : « صار هذا إدغاماً ، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ » . وقال الزمخشري : « هي ضعيفةٌ ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول :
2879- قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ . . . قالت له : ما أنت بالمَرْضِيِّ
وكأنه قدَّر ياء الإِضافة ساكنةً ، وقبلها ياءٌ ساكنة ، فحرَّكها بالكسر لِما عليه أصلُ التقاءِ الساكنين ، ولكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ياءَ الإِضافةِ لا تكونُ إلا مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو : » عصايَ « فما بالُها وقبلَها ياءٌ؟ فإن قلتَ : جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإِدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [ ساكنةً » بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل . قلت : هذا قياسٌ حسنٌ ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه القياساتُ «.
قال الشيخ : » أمَّا قولُه « واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ ، فقد ذكر غيرُهُ أنه للأغلبِ العجليّ ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون : » ما فِيَّ أفعلُ « بكسر الياء » . قلت : الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو شامةَ ، قال : « ورأيتُه أنا في أول ديوانِه ، وأولُ هذا الرجز :
2880- أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ . . . عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ
ثم قال الشيخ : » وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج . وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِه « حيث قبلها ألفٌ » فلا أعلم « حيث » تضاف إلى الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو : « قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر » فيحتاج هذا التركيب إلى سماعٍ « قلت : إطلاقُ النحاةِ قولَهم : إنها تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا ، ولا يُحتاج [ إلى ] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية.
ثم قال : وأمَّا قولُه » ياء الإِضافةِ إلا آخره « قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو » محياْيْ « . قلت : مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا يُفيده ههنا ، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ . وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ ، وهو قوله :
2881- عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ . . . لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب » المعاني « له : » وقد خَفَضَ الياء مِنْ « بمُصْرِخِيِّ » الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً ، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش ، ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء ، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ ، ولعله ظنَّ أن الباءَ في « بمُصْرِخِيَّ » خافضةٌ للفظِ كلِّه ، والياءُ للمتكلم خارجةٌ من ذلك «.
قال : « ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله : { نُوَلِّهْ مَا تولى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ } بالجزم في الهاء » . ثم ذكر غيرَ ذلك.
وقال أبو عبيد : « أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً ، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بعدها ، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغَ به هذا كلِّه ، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها ».
قال الأخفش : « ما سَمِعْتُ بهذا مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين » . قال النحاس : « فصار هذا إجماعاً ».
قلت : ولا إجماعَ . فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ . وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ ، قال في « حُجَّته » . « وجهُ ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ ، فالياءُ في النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما ، وكالكاف في » أكرمتُك « و » هذا لك « ، فكما أنَّ الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا : لهُوْ ، وضَرَبَهُوْ ، / ولحقَ الكاف أيضاً الزيادةُ في قولِ مَنْ قال » أَعْطَيْتُكاه « و » أَعْطَيْتُكِيْه « فيما حكاه سيبويه ، وهما أختا الياء ، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر :
2882- رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ . . . وما أَخْطَأْتِ [ في ] الرَّمْيَهْ
كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا : » فِيَّ « ، ثم حُذِفَتْ الياءُ الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال :
2883- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لَهْ أَرِقانِ
وزعم أبو الحسنِ أنها لغةٌ ».
قلت : مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه : « لَهْ أَرِقان » حَذْفُ الصلةِ ، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ ، ولو مَثَّل بنحو « عليهِ » و « فيهِ » لكن أولى.
ثم قال الفارسيُّ : « كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل : أعطيتكَهُ وأَعْطَيْتُكِهِ ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها ، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت عليه من الكسرِ » . قال : « فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان غيرُها أَفْشى منها ، وعَضَدَه مِن القياسِ ما ذكرناه لم يَجُزْ لقائلٍ أن يقول : إن القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ ، وما كان كذلك لا يكون لحناً ».
قلت : وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه . وأما التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً ، قال الزجاج : « أجاز الفراء على وجهٍ ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ ».
قال الفراء : « ألا ترى أنهم يقولون : مُذُ اليومِ ، ومُذِ اليوم ، والرفعُ في الذال هو الوجهُ ، لأنه أصلُ حركةِ » منذ « ، والخفضُ جائزٌ ، فكذلك الياءُ من » مُصْرِخيَّ « خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب ».
قلت : تشبيهُ الفراءِ المسألةَ ب « مذ اليوم » فيه نظر؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ ، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله فيما قدَّمْتُه عنه : « فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيح » . وقد اضطرب النقلُ عن الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ « مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً ، والتصويبَ أخرى ، ولعل الأمرَ كذلك ، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ.
التوجيهُ الثالث : أنَّ الكسرَ للإِتباع لِما بعدها ، وهو كسرُ الهمزِ من » إنِّي « كقراءةِ » الحمدِ لله « ، وقولهم » بِعِير وشِعِير وشِهيد ، بكسر أوائِلها إتباعاً لما بعدها ، وهو ضعيفٌ جداً.
التوجيه الرابع : أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلها قَوِيَتْ بالإِدغام ، فأشبهتِ الحروفَ الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركاتِ الإِعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإِلحاقِه بالحروفِ الصِّحاح.
والمُصْرِخُ : المُغِيْث يُقال : اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني ، أي : أعانني ، وكأنَّ همزتَه للسَّلْب ، أي : أزال صُراخي . والصَّارخ هو المستغيثُ . قال الشاعر :
2884- ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ . . . وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ
ويُقال : صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة . قال :
2885- كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ . . . كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ
يريد : كان بدل الإِصراخ ، فحذف المضافَ ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي نحو : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ].
والصَّريْخُ : القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال :
2886- قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ . . . ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِِعِ
والصَّريخُ أيضاً : المُغِيثون فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على فَعِيْل كالخَليط ، وأن يكونَ مصدراً في الأصل . وقال : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } [ يس : 43 ] فهذا يُحتمل أن يكونَ مصدراً ، وأن يكونَ فعيلاً بمعنى المُفْعِل ، أي : فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر ، وتَصَرَّخ : تكلَّف الصُّراخ. اهـ (الدر المصون).

(3/159)


وهذْا الشعر مما لا يلتفت إليه ، وعَمَل مثلِ هذا سهلٌ ، وليس يعرف
قائل هذا الشِعرِ من العرب ، ولا هو مما يحتج به في كتاب الله عزَّ وجلَّ.
(إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).
إني كفرت بشرككم - أيهَا التُّبَاعُ - إياي باللَّهِ ، كما قال - عزَّ وجلَّ - :
(ويومَ القيامةِ يَكْفُرُون بِشِرْكِكُمْ).
وقوله تعالى : (عَذَابٌ ألِيمٌ) معناه وجيعٌ مؤلمٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
ضرب اللَّه - عزَّ وجلَّ - للإيمان به مثلًا ، وللكفر به مَثَلاً ، فجعل مَثل
المؤمِنِ في نطقه بتوحيده والإيمان بنبيه واتباع شريعته ، كالشجرَة الطيبة.
فجعل نفع الِإقامة على توحيده كنفع الشجرة الطيبة التي لا ينقطعَ نفعُها
وثمرها ، وجاء في التفسير أن الشجرة الطيبة النخلة ، والدليل على أن هذا
المثل يراد به توحيد اللَّه ، والِإيمانُ بنَبِيِّهِ وشرِيعَتِه قوله - عزَّ وجلَّ - :
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
* * *
وقوله : (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
اختلف الناس بتفسير الحين ، فقال بعضهم كل سَنَةٍ ، وقال بعضهم : كل

(3/160)


ستةِ أشْهُر ، وقال بعضهم : غُدْوة وعشية.
وقال بعضهم : الحين شهران.
وجميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهب إلى أنَّ الحينَ اسم كالوقت.
يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت.
فالمعنى في قوله تعالى (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) أنهاينتفع بها في كل وقتٍ ، لا ينقطع نفعها ألبتَّةَ ، والدَّليل على أن الحين بمنزلة الوقت قول النابغة ، أنشده الأصمعي في صفة الحيَّةِ والملدوغ.
تناذرها الراقون منَ سوء سمها . . . تطلقه حيناً وحيناً ترَاجعُ
فالمعنى أَن السم يَخِفُّ أَلَمُه في وقت ويعود وقتاً.
* * *
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
قيل إن الشجرة الخبيثة الحنظل وَقيلَ الكوث.
(اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ).
معنى (اجْتُثَّتْ) استؤصلت من فوق الأرض ، ومعنى اجْتُثَّتْ في اللغةِ
أخِذتْ جُثَّتَهُ بكمالها :
(مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).
فالمعنى أنَّ ذكرَ اللَّه بالتَّوْحِيدِ يَبْقَى أبداً ويَبْقَى نَفْعه أبداً ، وأن الكفْرَ
والضلاَلَ لَا ثبوتَ لَه .

(3/161)


وقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
روي أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر ، فإذا مات المَيِّت قيل له : مَنْ
ربُّك وما دِينُكَ ومن نبيُكَ ، فإذا قال : اللَّه ربي ومحمدٌ نبى والإسلام ديني.
فقد ثبَّته الله بالقول الثابت في الآخرة لأن هذا بَعْدَ وفاته ، وتثبيته في - الدنيا ، لأنه لا يلفقه في الآخرة إلا أن يكون ذلك عقدة في الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
والبوإر الهلاك والاستئصال.
* * *
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
(جَهَنَّمَ) بدل من قوله (دَارَ البَوَار) ومُفَسَّرة . . . وجهنم لم تُصْرَفْ
لأنها مؤنثة وهي معرفة.
* * *
وقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
النِّدُّ : المِثْل ، بيَّن وجه كفرهم.
(لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ، وليَضِلوا ، قرئ بهما جميعاً.
* * *
وقوله : (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
إن شئت حركتَ الياء ، وإنْ شِئْتَ أسكَنْتَها.
و (يقيموا) (1) جزم على جواب الأمر ، وفيه غير وجه ، أجودها أن يكون مبنياً ، لأنه في موضع الأمر.
وجائز أن يكون مجزوماً بمعنى اللام إلا أنها اسْقِطَتْ ، لأن الأمر قد دل
على الغائب بِقُلْ ، تقول : قل لزيد لِيَضْربْ عمراً ، وَإنْ شئت قلت : قل لزيْدِ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ « يُقيموا » مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه : ليقيموا ، فحُذِفَتْ وبقي عملُها ، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه ، كقولِه :
2891- محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ . . . إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا
يريد : لِتَفْدِ . أنشده سيبويه ، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر . قال الزمخشري : « ويجوزُ أن يكونَ » يُقيموا « و » يُنْفِقوا « بمعنى : لِيُقيموا ولِيُنْفقوا ، ويكون هذا هو المَقُولَ . قالوا : وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو » قُلْ « عِوَضٌ منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم يَجُزْ » . قلت : وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذْفَ هذه اللامِ على أضربٍ : قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ . فالكثيرُ : أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر كالآيةِ الكريمةِ ، والقليلُ : أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله : « محمدُ تَفْدِ » البيت ، والمتوسط : أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله :
2892- قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها . . . تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها
الثاني : أنَّ « يُقيموا » مجزوم على جوابِ « قُلْ » ، وإليه نحا الأخفش والمبرد . وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم : أقيموا « أَنْ يَفْعلوا ، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر . وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المرادَ بالعباد المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً ، والمؤمنون متى أَمَرَهم امْتَثَلُوا.
الثالث : أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره : قل لعبادي : أقيموا وأَنْفِقُوا ، يُقيموا وينفقوا . قال أبو البقاء : وعزاه للمبرد- » كذا ذكره جماعة ولم يتعرَّضوا لإِفسادِه . وهو فاسد لوجهين ، أحدُهما : أنَّ جوابَ الشرطِ يُخالِفُ الشرطَ : إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهما ، فأمَّا إذا كان مثلَه في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك : قم تقمْ ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا الوجه : إنْ يُقيموا يُقيموا . والوجه الثاني : أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة ، و « يُقيموا » على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ ، إذا كان الفاعل واحداً « . قلت : أمَّا الإِفسادُ الأولُ فقريبٌ ، وأمَّا الثاني فليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يقول : قل لعبدي أَطِعْني يُطِعْك ، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال.
الرابع : أنَّ التقديرَ : إن تَقُلْ لهم : أقيموا ، يُقيموا ، وهذا مَرْوِيٌّ عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية . قلت : وهذا هو القولُ الثاني.
الخامس : قال ابن عطية : » ويحتمل أن يكونَ « يُقيموا » جوابَ الأمرِ الذي يعطينا معناه قولُه « قُلْ »؛ وذلك أن تجعلَ قولَه « قُلْ » في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ وأَدِّ الشريعةَ يُقيموا «.
السادس : قال الفراء : » الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول : « أَطِعِ اللهَ يُدْخِلْكَ الجنَّةَ ».
والفرقُ بين هذا وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط ، وفي هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ.
السابع : قال الفارسيُّ : « إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه : أقيموا » . وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه . وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني ، كما بُني المنادى في نحو : « يا زيدُ » لوقوعِه موقعَ الضمير ، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفاً على حَدِّ حَذْفها في قولِه : « لا تَدْخُلوا الجنَّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا ».
وفي معمول « قُلْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : الأمرُ المقدَّرُ ، أي : قُلْ لهم : أقيموا ، يُقيموا ، الثاني : أنه نفسُ « يُقيموا » على ما قاله ابنُ عطية الثالث : أنَّه الجملةُ من قولِه { الله الذي خَلَقَ } إلى آخره ، قاله ابن عطية . وفيه تفكيكٌ للنَّظْم ، وجَعْلُ الجملةِ « يُقيموا الصلاة » إلى آخره مُفلتاً ممَّا قبلَه وبعدَه ، أو يكونُ جواباً فَصَل بين القولِ ومعمولِه ، لكنه لا يترتَّبُ على قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإِنفاقُ ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جداً . اهـ (الدر المصون).

(3/162)


يَضْرِبْ عَمرا ، ولا يجوز قل يضرب زَيْد عمرا ههنا بالجزم حتى تقول
ليضرب ، لأن لام الغائب ليس ههنا منها عوض إذا حذفتها.
وفيها وجه ثالث على جواب الأمر على معنى قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة ، لأنهم إذا آمَنُوَا وَصَدَّقوا ، فإن تصديقهم بقبولهم أمر اللَّه - عزَّ وجلَّ -.
* * *
وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ).
إن شئتَ رفعتَ البيعَ والخلالَ جميعاً ، وإن شئت نصبتهُما جميعاً بغير
تنوين وإن شئت نصبت أحدهما ورفعتْ الآخر ، فالنصب على النفي بلا ، وقد شرحنا ذلك فيما سلف من الكتاب ، والخلال والخلة في معنى الصداقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
معناه : دائبين في إصلاح ما يصلحانه من الناس والنبات لا يَفْتُرَانِ.
* * *
(وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
وتقرأ (مِنْ كُلٍّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) بتنوين (كُلٍّ) ، فموضع " ما " خفض بالإضافة
والمعنى من كل الذي سألتموه.
ومن قرأ (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) فموضع " ما " نَصْبٌ.
والمعنى وآتاكم من كل الأشياء التي سألتموه.
فإن قال قائل : فقد أعطى العباد مَا لَمْ يَسألوا ؟
قيل له ذلك غير ناقض هذه الآية ، إذَا قال : (وَآتَاكُمْ مِنْ كُل الذِي سَالتُموه) لم يوجب هذا أن يكون لم يعطهم غير ما سألوه ، ويجوز أن يكون " ما " نفياً ، ويكون المعنى وآتاكم من كل ما لم تسألوه ، أي آتاكم كل الشيء الذي لم تسألوه .

(3/163)


وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
هذا اسم للجنس يقصد به الكافر خاصَّة ، كما قال : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
والإِنسان غير المؤمن ظلومٌ كفَارٌ.
* * *
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
يعني مكة
(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).
وتَقرأ (وأجْنِبْني وبَني) عَلى أجْنَبْتُة كذا وكذا إذا جعلته ناحية منه ، وكذلك
جنبتُه كذا وكذا.
ومعنى الدعاء من إبراهيم عليه السلام أن يُجَنَبَ عبادة الأصنام ، وهو
غير عابد لها على معنى ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها كما قال :
(وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي ثبِّتنا على الإِسلام.
* * *
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
أي ضلِّلُوا بسببها ، لأن الأصنام لا تعقل ولا تَفْعَل شيئاً ، كما تقول قد
فتنتني هذه الدارُ . ، أي أنا أحْبَبْتها واسْتَحْسَنْتُها ، وافتتنت بها.
(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أي فإنك غفور رحيم له إن تاب وإن آمن ، لا أنه يقول إن من كفر فإن
اللَّه غفور رحيم ، فإن اللَّه لا يغفر له ، ألا ترى قوله في أبيه :
(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

(3/164)


(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ).
أي اجعل أفئِدَةً جماعةًْ مِن الناس تنزع إلَيْهِمْ ، ويجوز تَهَوَى إليْهِمْ.
فمن قرأ تهوي إليهم فَهُوَ على هَوَى يَهْوِي إذا ارتفع (1) ، ومن قرأ تَهَوى إليهم فعلى هَوِيَ يَهْوَى إذا أحب ، والقراءة الأولى هي المختارة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
أي واجعل مِنْ ذُرِّيَّتِي من يقيم الصلاة.
(رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ).
القراءة بغير " ياء " في دعائي ، إذا وقفت ، فإذا وصلت فأنت بالخيار إن
شئت قلت دعاءِ بغير ياء ، وكانت الكسرة في الهمزة تنوب عن الياء ، والأجود إثبات الياء ، وإن شئت أسْكَنتَها ، وإن شئت فتحتها.
* * *
وقوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
هذا قبل أن يتبين لِإبراهيم أن أبَاهُ عَدُوٌّ للَّهِ ، فلما تبيَّنَ لَهُ ذلك تبرأ منه.
وقيل إنه يَعْنِي بوالديه هنا آدمَ وحواء وقيل أيْضاً ولوَلَدَيَّ ، يعني به إسماعيل
وإسحاق ، وهذه القراءة ليست بشيء لأنها خلاف ما عليه أهل الأمصار من أهل القراءات.
(يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ).
يعني يوم القيامة ، و " يَوْمَ " منصوب بـ (اغْفِرْ لِي).
* * *
وقوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
(مُهْطِعِينَ) منصوب على الحال ، المعنى إنما يؤخرهم ليوم تَشخص فيه
__________
(1) قال محقِّقُ الكتاب :
كذا بالأصل وهو سهوٌ إذ هوى بمعنى سقط ووقع. اهـ
قلت [ مصحح النسخة الإلكترونية ]
قال ابن منظور :
وقوله عز وجل (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) فيمن قرأَ به إِنما عدَّاه بإِلى لأَن فيه معنى تميل والقراءَة المعروفة تَهْوي إِليهم أَي تَرْتَفِع والجمع أَهْواء وقد هَوِيَه هَوًى فهو هَوٍ وقال الفراء معنى الآية يقول اجعل أَفئدة من الناس تُريدُهم كما تقول رأَيت فلاناً يَهْوي نَحْوَك معناه يُريدك قال وقرأَ بعض الناس تَهْوى إِليهم بمعنى تَهْواهم كما قال رَدِفَ لكم ورَدِفَكم الأَخفش تَهْوى إِليهم زعموا أَنه في التفسير تَهْواهم الفراء تَهْوي إِليهم أَي تُسْرعُ والهَوى أَيضاً المَهْويُّ
قال أَبو ذُؤيب
زَجَرْتُ لها طَيْرَ السَّنِيحِ فإِنْ تَكُنْ . . . هَواكَ الذي تَهْوى يُصِبْكَ اجْتِنابُها.
اهـ (لسان العرب. 15 : 371).
وقال السَّمين :
قوله : « تَهْوي » هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل . والعامَّة « تَهْوِي » بكسرِ العين بمعنى : تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم . قال :
2897- وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه . . . يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ
وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام ، كقوله :
2898- حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها . . . طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ
وإنَّما عُدِّي ب « إلى » لأنه ضُمِّنَ معنى « تميل » ، كقوله :
2899- تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى . . . ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها
وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو ، وفيه قولان ، أحدُهما : أنَّ « إلى » زائدةٌ ، أي : تهواهم . والثاني : أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل ، ومصدرُ الأول على « هُوِيّ » ، كقوله :
2900- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل
والثاني على « هَوَى » . وقال أبو البقاء : « معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه ، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل ».
وقرأ مسلمة بن عبد الله : « تُهْوَى » بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ « أهوى » المنقول مِنْ « هَوِيَ » اللازمِ ، أي : يُسْرَع بها إلى إليهم.
اهـ (الدر المصون).

(3/165)


أبصارُهُمْ مُهْطعِينَ أي مُسْرعين.
قال الشاعر :
بدجلة أهلها ولقد أرأهُمْ . . . بدجلة مهطعين إلى السماع
أي مسرعين.
و (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) رافعيها ملتصقة بأعناقِهِمْ ، والمقنع الرافع.
والمقْنَع المرتفع
قال الشاعر :.
يُبادِرْنَ العِضاهَ بمُقْنعاتٍ . . . نواجذُهُنَّ كالحِدَإِ الوَقيعِ
يصف إبلأ ترعى الشجر وأن أسنانها مرتفعة كالفؤوس.
وقوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ).
أي منحرفة لا تَعي شيئاً من الخوف ، وقيل نزعت أفئدتهم من أجوافهم
قال الشاعر :
كأَنّ الرَّحل مِنها فَوْق صَعْلٍ . . . من الظِّلْمانِ جُؤْجُؤه هَواه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
القراءة بكسر اللام الأولى ، من " لِتَزُولَ " وفتح اللام الأخيرة ، هي قراءة
حسنة جيدة (1)، والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي ما كان
__________
(1) قال السَّمين :
قوله « لِتَزُولَ » قرأ العامَّةُ بكسر اللام ، والكسائيُّ بفتحِها فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ ، وفي « كان » حينئذٍ قولان ، أحدُهما : أنها تامَّةٌ ، والمعنى : تحقيرُ مَكْرِهم ، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في ثبوتِها وقوتِها . ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله : « وما كان مَكْرُهم » . القول الثاني : أنها ناقصةٌ ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين : هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به ، وإليه ذهب البصريون ، أو هذه اللام وما جَرَّتْه ، كما هو مذهبُ الكوفيين ، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.
الوجه الثاني : أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة . قال الزمخشري : « وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته ، أي : وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك » . وقال ابن عطية : « ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ : تَعظيمَ مَكْرِهم ، أي : وإن كان شديداً ، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور » فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ.
والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابُها محذوف ، أي : وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي ، وهي المعجزات والآيات ، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه . وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه معارضةً لقراءة الكسائي ، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي.
وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها ، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق ، فلا تَعارُضَ ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً.
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي « إنْ » وجهان : مذهبُ البصريين ، أنها المخففةُ واللام فارقة ، ومذهبُ الكوفيين : أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى « إلا » ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين.
وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة « وإن كاد مكرهم لَتزول » كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون « كان » دالاًّ فعلَ مقاربة ، وتخريجها كما تقدَّم ، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ.
وقُرِء « لَتَزُوْل » بفتح اللامين . وتخريجهما على إشكالها أنها جاءَتْ على لغةِ مَنْ يفتح لام « كي ». اهـ (الدر المصون).

(3/166)


مكرهمِ ليزول به أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر دين الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسية ، لأن اللَه عزَّ وجلَّ وَعَدَ نبيَّه عليه السلام إظْهَارَ دِينِه عْلى كل الأديان فقال :
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ودليل هذا قوله :
(فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
أي لا يخلفهم ما وعدهم من نصرهم وإظهار نبوتهم وكلمتهم ، ويقرأ
(وَإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ) على الرفع وفتح اللام الأولى.
ومعناه معنىً حَسَن " صحيح.
والمعنى : وعند الله مكرُهم وإن كان مكرُهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال ، فإنَ الله ينصُرُ دينه ، ومَكْرهم عنده لا يخفى عليه.
فإِنْ قَالَ قَائِل : فهل زالت الجبال لمكرهم ؛ فقد روي في بعض التفسير
قصةُ التابوت والنُّسُورِ ، وأن الجبال ظنت أن ذلك أمر من أمر اللَّه عظيم
فزالت ، وقيل هذا في قصة النمرود ابن كنعان ؛ ولا أرى لنمرودَ ههنا ذكراً ، ولكنه إذا صحت الأحاديث به فمعناه أن مَكْرَ هؤلاء لو بلغ مكر ذاك لم ينتفعوا به ، وأمَّا مَا تُوحِيه اللغَة وخطابُ العَرَبِ فأن يكون المعنى وإن لم يكن جبل قط ، زال لمكرِ المبالغة في وصَف الشيء أن يقال : لو بلغ ما لا يُظَن أنه يبلُغُ ما انتفع به.
قال الأعشى :

(3/167)


لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانينَ قامةً . . . ورُقِّيتَ أَسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
لَيَسْتَدْرِجَنْكَ الأَمرُ حتى تَهُرَّه . . . وتَعْلَمَ أَني لستُ عنكَ بمُحْرِمِ
فإنما بالغ في الوصف وهو يعلم أنه لا يُرَقَّى أسباب السماء ، ولا يَكُونُ
في جُبٍّ ثمانينَ قامةً فيستَدْرِجَهُ القَوْلُ.
فالمعنى على هذا : لو أزال مكرهم الجبَالَ لما زال أمْرُ الإسلام وما أتى
به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
وقُرئت مخلص وَعْدَه رُسُلِهُ ، وهذه القراءة التي بَنَصْب الوَعْدِ وخَفْض
الرسُل شاذَّة رديئة ، لا يجوز أن يفرق بين المضَافَ والمضاف إليه.
وأنشدوا في مثل هذا .

(3/168)


فزجَّجتها بمزجَّةٍ . . . زَجَّ القَلُوصَ أبي مَزَاده
المعنى فزجْجتها بمزجَّةٍ زَجَّ أبي مزادة القَلُوص.
والقراءة : (مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه) ، كما تقول : هذا مُعْطِي دِرْهَمٍ زيداً
(1)
* * *
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
إنْ شئت نَصَبْتَ اليوم عَلَى النَعْت لقوله : يَوْمَ يَقومُ الحسَابُ يَوْمَ تبدل
الأرْضُ.
وإن شئت أن يكون منصوباً بقوله ذُو انْتِقَام ، المعنى أن الله عزَّ وجل
ذو انتقام أي بَيَنهُمْ يوم تبدل الأرض غير الأرض ، والأرض مرفوعة على اسم ما لم يسمَّ فاعله ، وغَير منصوبة على مفعول ها لم يسم فاعله ، تقول : بُدِّلَ الخاتَمُ خاتَماً آخَر إذا كسر وَصِيغَ صيغة أخرى ، وقد تقول بُدِّلَ زَيْدٌ إذا تغيرت حاله ، فمعنى تبدل الأرض غير الأرض تسيير جبالها وتفجير بحارها وكونها مستوية لا يرى فيها عِوَجٌ وَلاَ أمْت ، فهذا - والله أعلم - تبديلها.
(والسَّمَاوَاتُ).
" أي وتبدل السَّمَاوَاتُ غير السَّمَاوَات ، وتبديل السَّمَاوَات انتثار كواكبها
وانفطارها وانشقاقها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
أي خرجوا من قبًورهم بَارزينَ.
* * *
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ } : العامَّةُ على إضافة « مُخْلِف » إلى « وعدِه » وفيها وجهان ، أظهرهما : أن « مُخْلف » يَتَعَدَّى لاثنين كفعلِه ، فقدَّم المفعولَ الثاني ، وأُضيف إليه اسمُ الفاعل تخفيفاً نحو : « هذا كاسِيْ جُبَّةٍ زيداً » قال الفراء وقطرب : « لمَّا تعدَّى/ إليهما جميعاً لم يُبَالَ بالتقديمِ والتأخير » . وقال الزمخشري : « فإن قلت : هلا قيل : مُخْلِفَ رسلِه وعدَه ، ولِمَ قَدَّم المفعولَ الثاني على الأول؟ قلت : قَدَّمَ الوعدَ ليُعْلِمَ أنه لا يُخْلِفُ الوعدَ ثم قال » رسله « ليُؤْذِنَ أنه إذا لم يُخْلِفْ وعدَه أحداً - وليس من شأنِه إخلافُ المواعيد - كيف يُخْلِفُه رُسلَهُ ».
وقال أبو البقاء : « هو قريب من قولهم :
2912- يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ . . . وأنشد بعضُهم نظيرَ الآيةِ الكريمة قولَ الشاعر :
2913- ترى الثورَ فيها مُدخِلَ الظلِ رأسَهُ . . . وسائرُه بادٍ إلى الشمسِ أجمعُ
والحُسبان هنا : الأمر المنتفي ، كقوله :
2914- فلا تَحسَبَنْ أني أَضِلُّ مَنِيَّتي . . . فكلُّ امرِئٍ كأسَ الحِمام يذوقُ
الثاني : أنه متعدٍّ لواحدٍ ، وهو » وعدِه « ، وأمَّا » رُسُلَه « فمنصوبٌ بالمصدر ، فإنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ تقديرُه : مُخْلِفُ ما وعدَ رُسَلَه ، ف » ما « مصدريةٌ لا بمعنى الذي.
وقرأت جماعةٌ { مُخْلِفَ وَعْدَ رُسَلَهُ } بنصبِ » وعدَه « وجرِّ » رسلِه « فَصْلاً بالمفعولِ بين المتضايفين ، وهي كقراءةِ ابن عامرٍ { قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ } قال الزمخشري جرأةً منه : » وهذه في الضَّعْفِ كمَنْ قرأ { قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ }. اهـ (الدر المصون).

(3/169)


والأصفاد الأغلال ، واحدها صَفَدٌ ، يفال صَفَدتُه بالحديد ، وَأصْفَدته.
وصفدت في الحديد أكثر ، وأصفدته إذَا أعطيته ، وصفدته إذا أعطيته أيضاً إلا أن الاختيار في العطية أصفدته وفي الحديد صفدته.
قال الشاعر :
وإن جئْتُه يوماً فقرَّب مَجْلِسِي . . . وأصْفدني على الزَّمانَةِ قائدا
معناه أعطاني قائداً.
* * *
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
السربال كل ما لبس.
وجعلت سرابيلهم من قطران - واللَّه أعلم - لأن القطران يبالغ في اشتعال النار في الجلود ، ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم
بغير نار وغير قطران لقدر على ذلك ، لكن عذب بما يعقل العباد العذاب من
جهته وحذرهم ما يعرفون حقيقته ، وقرئت (مِنْ قِطْرٍ آنٍ) ، قرأ بها جماعة.
والقِطْر النحاس ، وآنٍ قد انتهى حَرُّه .

(3/170)


سورة الحجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
قرئت (رُبَّمَا) يود بتشديد الباء وتخفيفها ، والعرب تقول : رُبَّ رجلٍ
جاءني ، ويخففون فيقولون رُبَ رَجُل ، قال الحادرة
فَسُمَيَّ ما يدريك أن رُبَ فِتْيَةٍ . . . باكرتُ لَذَّتَهُمْ بِأدْكَنَ مُتْرعِ
يريد سُمَيَّة ، فَرَخَّمَ .

(3/171)


ويسكنون في التخفيف فيقولون : رُبْ رَجُلٍ قد جاءني.
وأنشدوا بيت الهذلي :
أَزُهَيرُ إِنْ يَشِبِ القَذالُ فإِنَّني . . . رُبْ هَيْضَلٍ لَجِبٍ لفَفْت بِهَيْضَلِ
ويقولون ربَتَّا رجل ، وربَّتْ رَجل ، ويقولون رَبَّ رَجْل ، فيفتحون الراء
ورُبَمَا رَجل جاءني - بفتح الراء ، وَرَبَّتَمَا رجل فيفتحون.
حكى ذلك قطرب.
فأما تفسير الآية ففيه غير قول ، قيل إنه إذا كان يوم القيامة وعاين الكافِرُ
القيامة وَدَّ لو كان مسلماً ، وقيل إنه إذا عاين الموت وَدَّ لَوْ أنه مسْلِم.
وقيل إذا كان يوم القيامة أخرج المسلمون من النار فوَدَّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
وقيل يعَيِّر أهْل النار الكفَرَة المُسْلِمينَ قائلين : ما نفعكم إيمَانُكُمْ ، فيغضب
اللَّهُ عزَّ وجلَّ لذلك ، فيخرجهم من النَّارِ فيود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
والذي أراه - واللَّه أعلم - أن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب
ورأى حالًا عليها أحوال المسْلِم وَدَّ لوكان مُسْلِماً.
فهذه الأحوال كلها تحتملها الآية.
فإن قال قائل : فلم كانت ، (رُبَّ) ههنا ، ورُبَّ للتقليل ؟
فالجواب في هذا
أن العرب خوطبت بما تعقله في التهدُّدِ ، والرجل يتهدَّدُ الرجلَ فيقول له :
لَعلك سَتَنْدَمُ على فعلك ، وهو لَا يَشك في أنه يَنْدَم ، وتقول له : ربما نَدِم
الِإنْسَانُ من مثل ما صنعتَ ، وهو يعلم أن الِإنسان يندم كثيراً ، ولكن مجازه أن

(3/172)


هذا أو كان مما يُوَدُّ في حَالٍ وَاحِدَةٍ من أحوال العذاب ، أو كان الِإنسانَ
يخافُ أنْ يندمَ على الشيء لوجَبَ عَليه اجْتِنَابُه.
والدليل على أنه عَلَى مَعْنَى التهدُّدِ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(3)
وجائز أن يكون - واللَّه أعلم - أن أهوال يوم القيامة تسكرهم وتَشْغَلُهم
عن التَمني ، فإذا أفاقوا مِنْ سَكْرةٍ من سَكَرات العَذَابِ ودوا لو كانوا مسلمين.
فأمَّا من قال إن رُبَّ يُعْنِيَ بها الكثير فهذا ضِدُّ مَا يَعْرفُه أهلُ اللغةِ ، لأن
الحروف التي جاءت لمعنىً تكون على ما وضعت العَربُ . فربَّ موضوعة
للتقليل ، وكم موضوعة للتكثير ، وإنما خوطبوا بما يعقلون ويستفيدون.
وإنما زيدت ما مع رُبَّ ليليها الفعُلُ ، تقول رُبَّ رَجُلٍ جَاءَنِي وربما
جاءني رَجُل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
أي إلا ولها أجل لا تتقدمه ولا تتأخُرَ عَنه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ - (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
معناه هَلَّا تأتينا بالملائكة ، روى ذلك.
قالوا للنبي عليه السلام : (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).
* * *
فقال : (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
أي إِنما تنزل بآجال أو بوحي من اللَّه.
(وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ).
أي لو نزلت الملائكة لم ينظروا ، وانقطعت التوبات ، كما قال :

(3/173)


(وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ).
وتقرأ (ما تَنَزلُ الملائِكَةُ إلا بِالحقِّ) ، وما تُنَزِّلُ الملائِكةَ ، وما تُنَزَّلُ
الملائكةُ ، وَمَا تَنْزِلُ الملائِكَةُ.
* * *
وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
أي نَحْفَظُهُ من أن يقع فيه زيادة أو نقصان ، كما قال : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
أي في فرق الأولين
* * *
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11)
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن سفهاء كل أُمَّةٍ يستهزئون برُسُلها.
* * *
(كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
وتقرأ نُسْلِكه ، أي كذلك نسلك الضلال في قلوب المجرمين ، أي كما
فُعِلَ بالمجرمين الذين استهزأوا بمن تقدَّم مِنَ الرُّسُلِ كذلك نسلك الِإضلال
في قلوب المجرمين . ثم بين ذلك فقال :
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
أي وقد مضَت سنة الأولين بمثل ما فعله هؤلاء ، فهم يقتفون آثارهم في
الكفر ، ثم أعلمم تعالى أنهم إذا وردت عليهم الآية المعجزة قالوا سِحْرٌ وقالوا : (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) كماقالوا حين انشق القمر : (هذا سِحْرٌ مُسْتَمر) ، فقال عزَّ وجلَّ :
(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
ويقرأ يَعْرِجُونَ ، أي يصعدون ويذهبون - ويَجِيئُونَ ويصلح أن يكون

(3/174)


(يَعْرُجُونَ) للملائكة والناس ، وقد جاء بهما التفسير.
ْ(لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
وسُكِرَت ، ويجوز سَكَرت بفتح السين ، ولا تَقْرأنَّ بها إلا أن ثبتت بها
رواية صحيحة.
وفسروا سُكَرَتْ أُغْشيَتْ ، وسَكِرتْ تَحَيَّرَتْ وسكنت عن أن تَنظُر.
والعرب تقول : سَكِرتِ الريح تسكرُ إذا سَكنت وكذلك سكر الحر يسْكَرُ ، قال الشاعر :
جاء الشِّتاءُ واجْثَأَلَّ القُبَّرُ . . . وجَعَلَتْ عينُ الحَرُورِ تَسْكُرُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
جاء في التفسير نجوماً وكواكب ، وقيل منازل الشمس والقمر.
وهذه البُروجُ التي يُسمِّيهَا الحُسَّابُ : الجَمَل ، والثوْر ، وما أشبهَهَا ، هي كواكب أيضاً ، صُوَرُها على صُورِ أسْماء أصحابها.
فالبروج نجوم كما جَاءَ في التفسير.
(وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)

(3/175)


معنى رَجِيم قيل مَلعُون ، وجائز أن يكون رَجم مرجوماً بالكواكب ، كما
قال عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
مَوْضِع " مَنْ " نَصْبْ ، بمعنى لكن من استرق السمع ، وجائز أن يكون
في موضع خفض ، على معنى (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ).
والشُهُبُ الكواكب المنقضةُ من آيات اللَّه للنبي عليه السلام ، والدلِيلُ على
أنها كانت انْقَضَّتْ بعد مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن شعراء العرب الذين كانوا يمثلون في السرعة بالبرق وبالسيل وبالأشياء المسرعة لم يوجد في أشعارها بيتٌ واحدٌ فيه ذكر الكواكب المنْقَضَّة ، فلما حدثت بعد مولد النبي عليه السلام استعملت الشعراء ذكرها قال ذو الرمة.
كأَنّه كَوْكَبٌ في إِثْرِ عِفْرِية . . . مُسَوّمٌ في سوادِ الليل مُنْقَضِب
* * *
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ
(19)
كانت الأرض طينة فمدت ، وقيل مُدَّتْ من تَحْتِ البيتِ الحرام
والرواسِي الجبال الثوابت.
ومعنى (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي من كل شيء
مقدور جرى على وزنٍ مِنْ قَدَرِ اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُجَاوِزُ ما قَدره الله عليه ، لا
يستطيع خلقَ زيادة فيه ولا نقصاناً.
وقيل (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) ، أي من كل شيءٍ يُوزَن نحو الحديد
والرصاص والنحاس والزرنيخ .

(3/176)


(وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
موضع " منْ " نصبٌ من جهتين إحداهما العطف على معايش ، المعنى
وجعلناكم من لستم له برازقين ، وجائزٌ أن يكون عطفاً على تأويل لكم.
المعنى (في جعلنا لكم فيها معايش) أعشناكم ومن لستم له برازقين.
وفي التفسير أن من لستم له برازقين الدوابُّ والأنْعَام . وقيل في بعض
التفسير الوُحُوش.
والنحويون يذهبون إلى أن " مَنْ " لَا يكادُ أن يكونَ لِغَيْرِ مَا
يعْقل ، وقد قال عزَّ وجلَّ : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) ، فجاءت " من " لغير الناس إذ وُصِفَ غيْرُ الناس بصفاتهم ، كما جاءت الواو لغير الناس في قوله
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
والأجود واللَّه أعلم أن يكون " مَنْ " ههنا أعني (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ)
يراد بها العبيد والأنعام والدواب فيكون المعنى جعلناكم فيها معايش
وجعلنا لكم العبيد والدواب والأنعام وكفِيتُمْ مؤونة أرزاقها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
(لَوَاقِحَ) تأتي بالسحاب ، ولواقح تُلْقح السحاب وتُلْقِحَ الشَجر ، وجاز أن
يقال للريح لقحَت إذا أتت بالخير ، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بخير ، وأتت
بعذاب ، كما - قال عزَّ وجلَّ : (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41).
ويجوز أن يقال لها لواقح وإن لقحت غيرها لأن معناها النسب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)

(3/177)


قيل فيها غير قول ، قيل المستقدمين ممن خلق والمستأخرين ممن يحدُث من
الخلق إلى يوم القيامة ثم قال :
(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
أي الذي أنشأهم وعَلَّمَهُمْ هو يحشرهم مبعوثين كما بدأهم أول خلق :
(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
أي تدبيره يجري بحكمة وعلم ، وقيل : ولقد علمنا المستقدمين منكم
في طاعة الله والمستأخرين فيها ، وقيل إنه كانت امرأةٌ حسناءُ تصلي خلفَ
رَسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيمن يُصَلِّي من النسَاءِ ، وكان بعض من يصلي ، يتأخر في آخر الصفوف ، فإذا سَجَدَ اطلع إليها من تحت إبطه ، والذين لا يقصدون هذا المقصِدَ إِنَّمَا يَطلُبُونَ التقدم في الصفوف لما فيه من الفضل.
* * *
(قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
فمن قرأ (صراط عَلِيٌّ مستقيمٌ) ، فالمعنى هذا صراط مستقيمٌ عَلى أي
على إرَادَتِي وأمري ، ومن قرأ " عَلِيٌّ " أرَادَ : طريق رفيعٌ في الدِّين والحق.
وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
الصَّلَصَال الطين اليابس الذي يَصِل ليبسه ، ومعنى يَصِل يُصَوِّتُ
قال الشاعر :
رَجَعْتُ إِلى صَدْرٍ كجَرَّةِ حَنْتَمٍ إِذا قُرِعَتْ صِفْراً من الماء صَلَّتِ

(3/178)


و (مَسْنُونٍ).
قيل فيه مُتَغَيَر . وإنما أخذ من أنه . على سُنَّةِ الطريق لأنه إنما تغيُرَ إذا قام
بغير ماء جارٍ.
* * *
(وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
(الْجَانَّ) منصوب بفعل مُضَمَر ، المعنى وخلقنا الجانَّ خلقناه ، وخلق اللَّه
الملائكة من نور العزَّةِ ، وخلق آدم من تراب وخَلَق الجَانَّ مِنْ نَارِ السَّمُومِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
قال سيبويه والخليل : (أَجْمَعُونَ) توكيد بعدَ تَوْكيدٍ ، وقال محمدُ بن
يزيد : (أجمعون) يَدُل على اجتماعهم في السجود ، المعنى فسجدوا كلُهم في
حالٍ واحدة.
وقول سيبويه والخليل أجود ، لأن أجمعين معرفة ، فلا يكون حالًا.
* * *
(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
(إِبْلِيسَ) مستثنى ولَيْسَ مِنَ الملائكة إنما هو من الجن كما قال عزَّ وجلَّ:
(إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).
وهو منصوب استثناء ليس من الأول ، كما قال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77).
المعنى لكن إبليس أبى أنْ يكونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
موضع أن نصب بإسْقَاطِ في ، وإفضاء الناصِبِ إلى أن المعنى أيُّ
شيءٍ يقع لك في أن لا تكون مع السَّاجِدينَ.
* * *
وقوله : (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)

(3/179)


معناه مَرْجُوم مَلْعُون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
لجهنم سَبْعَةُ منازلَ لكل مَنْزِلَةٍ صِنفْ ممًن يُعذَبُ على قدر منزلته في
الذَنْبِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
الغِل الحِقدُ ، وُيرْوَى أنَّه يخلص المؤمنونَ من النار فيحبسون على قنطرةٍ
بين الجنة والنَّارِ ، فيقتص لبَعْضِهم من بَعْض ، ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نُقُوا
وهذبُوا فخلصت نياتهم من الأحقاد.
(إِخْوَانًا).
منصوب على الحال.
(عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
في التفسير لا ينظر بعضهم في قَفَا بعض.
* * *
(لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
أي لا ينالهم تعب
* * *
(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
يروى في التفسير أن العبد لو علم قدرَ عَفو اللَّه - لما أمْسَكَ عن ذنبٍ.
ولو علم مقدار عقوبة لبَخَعَ نفسه في العبادة ، ولما قَدِمَ عَلَى ذَنْبٍ.
* * *
(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
(فَقَالُوا سَلَامًا) قَالَ سَلَامْ.
(سَلَامًا) منصوب على المصدركأنهم قَالوا سَلَّمنَا سَلَامًا.
وقوله : (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ).
أي خائفون ، فإنما وجِلَ لما قدَّم إليهم العجلَ فرآهم لا يَاكُلُونَ منه
وَجِلَ .

(3/180)


(قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
يقال وَجلَ يَوْجَل ، وياجَلُ يِيْجَلُ وَيجَلُ ، إذا خاف.
* * *
(قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ).
بفتح النون وهو أجود في القراءة ، وقرئت : فَبِمَ تُبَشِّرُونِ - بكسر النون -
فرأ بها نافع ، والأصل (فبم تبشرونَنِ فاستثْقِلَ النونانِ ، فحذفت إحداهما وقيل الحذف من الإدغام ، كأنَّها فبم تُبَشَرنَ ، بتشديد النون ، فحذفت إحدى النونين لثقل التضعيف ، كما قالوا رُبَما ، ورُبَّمَا.
قال الشاعر في حذف النون :
رأته كالنعام يُعَلُّ مِسْكاً . . . يسوءُ الغاليات إِذا فَلَينِي
يريد فلينني.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
يقال قَنَط يقنِطُ ، وقَنِطَ يقنَط ، وهما جميعاً جائزتان ، والقنوط بمعنى
اليأس.
* * *
(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
أي فما أمركم.
* * *
وقوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
استثناء ليس من الأول ، المعنى : (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59).
المعنى إنا أرْسِلْنَا بالعذاب إلى قوم لوط.
* * *
وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
المعنى علمنا أنَّها لمن الغابرين ، وقيل دبرنا إنها لمن الغابرين ، وقدرنا
ههنا لا يحتاج إلى تفسير ، المعنى إلا امرأته قدرنا أنها لمن الباقين في

(3/181)


العذاب ، والغابر الباقي ، قال الشاعر :
فما وَنَى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ . . . له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ
المعنى وما بقي
* * *
وقوله : (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
أي جئناك بالعذاب الذي كانوا يَشْكونَ في نزوله.
* * *
وقوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وتقول : فَأسْرٍ بأهْلِكَ - بقطع الألِفِ ووصلِها . وسَيْرُ الليل يقال فيه أسْرى
وسَرَى ومعنى بِقطْع مِنَ اللَّيْلِ ، أي بعدما يمضي شيء صَالح من اللًيْلِ
(وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)
أمِرَ - صلى الله عليه وسلم - بترك الالتفات لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من العذاب - واللَّهُ أعلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
موضعُ (أن) نَصْبٌ . وهو بدل من قوله : (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ)
ثم فسرَ ما الأمْر ، فالمعنى وقضينا إليه (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ).
(مُصْبحينِ) منصوب على الحال.
* * *
وقوله : (إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
الضيف يوحَّدُ وإنْ وُصِفَتْ به الجماعة ، تقول : هذا ضيف ، وهَذَان
ضيف وهُؤلَاءِ ضيف . كما تقول : هؤلاء عَدْل ، وإنْ شِئْتَ قلت أضياف.
وضِيفَان . فمَنْ وحَّد فلأنه مصدر وصف به الاسم ، فلذلك وَحِّدَ ، وإنما وُحِّدَ المصدَرُ في قولك : ضربتُ القوْمَ ضَرْباً ، لأن الضرب صنف وَاحِد . وإذا كانَ

(3/182)


أصنافاً وجَمعْتَ ، فقلت ضربتهم ضربَنْ ، وضربتهم ضروباً ، أي أجناساً من
الضرب ، والضيفُ مصدر ضِفْتُ الرجُلَ أضِيفُه ضَيْفاً . فأنا ضائف ، والرجُلُ
مَضِيف إذَا كانَ مفعُولًا ، وأضَفْتُه إذا أنزلتُه.
* * *
(قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
معناه : ألم ننهك عن ضيافة العالمين.
* * *
(قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
فالجواب محمول على المعنى ، لأنَّهم أرَادُوا الضيفَانَ للفَسَادِ ، فقال
لهم لوط : هؤلاء بناتي لأن نساء أمة كل نَبِيٍّ بمنزلة بَنَاتِه وأزْواجُه بمنزلة
أمَّهاتِهِمْ ، المعنى النساء على جهة التزويج أطْهَرَ لَكُمْ.
ومعنى (إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).
أي إن كنتم مُريدين لهذا الشأنِ فعليكم بالتزويج ببناتي.
* * *
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
هذه الآية آية عظيمة في تفضيل النبي عليه السلام أعني قوله سبحانه
(لَعَمْرُكَ) ، جاء في التفسير أنه قسم بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - كذلك أكثر التفسير ، وقد جاء في بعض التفسير : (لَعَمْرُكَ) كلِمَة من كلام العَرَبِ ، ولسْت أحِبُّ هذا التفسير ، لأن قوله : كلمة من كلام العرب لا فائدة فيه ، لأن القرآن كله عربي مبين ، وَكَلِمُهُ من كَلَامِ العَرَب ، فلا بد من أن يقال ما مَعْنَاهَا.
وقال سيبويه والخليلُ وجَميعُ أهْل اللغَةِ : العَمْرُ والعُمْرُ بمعنًى واحدٍ.
فإذا استعمل في القَسِمَ فتح أوله لا غير ، لا تقول العربُ إلا لعَمْرُكَ ، وإنما
آثروا الفتح في القَسِم لأن الفتح أخف عَليْهِمْ وهم يكثرون القَسَمَ بِلَعَمْرِي.
ولعَمْرُكَ ، فلما كثر استعمالهم إياهُ لزموا الأخَفَّ عليْهِمْ .

(3/183)


وقال النحويون ارتفع لعمرك بالابتداء والخَبَر محذوف ، المعنى لعَمْركَ
قَسَمِي ، ولعَمْرُكَ ما أقسِمَ به . وحذف الخبَرِ لِأنَّ في الكلام دليلًا عليه.
المعنى أقسم إنهم لفي سكرتهم يعمَهُونَ ، ومعنى يعمهون يتحيَّرون.
وباب القسم قد يحذْف معه الفعل ، تقول : واللَّه لأفعَلَنَّ وتاللَّه لأفعَلَنَّ ، والمعنى أحلف باللَّه ، وأحلف واللَّه ، فيحذف أحلف لعلم المخاطب بأنك حالف ، وكذلك يحذف خبر الابتداء كما ذكرنا.
* * *
وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
أي أخذت قومَ لوط الصيحة بالعذاب مشرقين ، يقال أشرقنا فنحن
مشرقون ، إذا صادفوا شُروقَ الشمس ، وهو طلوعها ، كما تقول أصبحنا إذا صادفوا الصبح . يقال شَرَقَتِ الشمس إذا طلعت وأشرقت بمعنى واحدٍ ، إلا أن معنى " مُشْرِقِينَ " في معنى مصادفين لطلوع الشمس.
* * *
وقوله : (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
معنى (مِنْ سِجِّيلٍ) من طين عليه كتاب . واشتقاق ذلك من السجل.
ودليل هذا التفسير قوله : (حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ).
فأعلم أنها مِن طين وأنها مسومة أيْ مُعلَّمَةٌ لعلامات الكتاب.
* * *
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
قيل المتوَسِّمونَ المتفَرسُونَ ، وقيل المتفكرون . وحقيقته في اللغة
المتوسمون النظَّارُ المتثَبِّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء تقول
توَسَّمْت في فلان كذا وكذا ، أي عرفت وسم ذلك فيه .

(3/184)


(وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
أي لبطريق واضح بَيِّن.
* * *
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
أي لعلامة بَيِّنَة للمصدقين.
* * *
(وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
أي أصحاب الشجر ، والأيك الشجر وهؤلا أهل موضع كان ذا شجر.
فانتقم اللَّه منهم بكفرهم ، قيل إنهُ أخذهم الحر أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم . ومعنى " إِنْ واللام " التوكيد.
* * *
(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
أي لبطريق يؤتمُّ أي يُقْصَدُ فيبيَّنَ ، وأصحاب الحجر أصحاب واد يقال
له الحِجْرُ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
قيل : السبعِ من المثاني هي فاتحة الكتاب ، وهي سبع آيات ، وإنما قيل
لها المثاني لأنها يُثَنَّى بِها في كل ركعة من ركعات الصلاة ، ويثنى بها مع مَا
يُقْرأ من القرآن.
ويجوز - واللَّه - أعلم - أن يكون من المثاني أي مما أثْنِيَ به
على اللَّه ، لأن فيها حَمْدَ اللَّه ، وتَوْحِيدَه وذكر مَلَائكته وملكه يوم الدِّينِ.
وروي في التفسير أنه مَا أعْطِيَتْ أمَّة كما أعْطِيَتْ أمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - من سورة الحمد.
فأما دُخُول " مِنْ " فهي ههنا تكون على ضربين ، تكون للتبعيض
من القرآن ، أي ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يُثْنَى بها على
اللَّه - عزَّ وجلَّ - وآتيناك القرآن العظيم ، ويجوز ُ أن يكون السبع هي المثاني ، وتكون " من " الصفة كما قال عزَّ وجلَّ : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
المعنى اجتنبوا الأوْثَانَ ، لا أنَّ بعضَها رِجْسٌ .

(3/185)


ويجوز أن يكون المعنى سبعاَ مثانيَ على هذا القياس ، ويدل على
القول الأول قوله عزَّ وجلَّ : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) . .
وقيل سبعاً من المثاني : السبع الطوال ، من البقرة إلى الأعراف سِتٌّ ، واختلفوا في السابعة ، فقال بعضهم : سورة يونُس ، وقيل الأنفال وبراءة ، وإنَّما سميت مثاني لذكر الأقاصيص فيها مثناةً.
ويجوز (والقُرْآنِ العظيمِ) بالخفض ، ولكن لا تقرأنَّ بِهِ إلا أَنْ تثبُتَ به رواية صَحيحةٌ.
* * *
(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
(أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) أي أمثالاً في النِّعَم.
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ).
أي ألِنْ جانبك للمؤمنين ، أي لمن آمنَ بِكَ وَبمَا أتَيْت بِهِ.
* * *
(كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
يُروَى أنَّ المشركينَ قالوا أساطير الأولين ، وقالوا سحرٌ ، وقالوا شاعِرٌ.
وقالوا كاهِنٌ . فقسَّمُوه هذه الأقسام ، وَعَضَوْهُ أعضاء.
ويروى أن أهل الكتاب همُ المقتسمُونَ ، آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
وقالوا نحواً مما روي عن المشركين.
* * *
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
قيل في التفسير اجهرْ بالقرآن ، ويكون - واللَّه أعلم - فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ.
أي أبِنْ ما تؤمر به ، وأظهره ، وأُخِذَ ذلك منَ الصَّدِيع وهو الصبح.
قال الشاعر :
كأنَّ بياضَ غُرَّته الصديعُ

(3/186)


وتأويل الصَّدْع في الزُّجاج ، أو في الحائط ، أن يبين بعضُ الشيء عن
بَعْض.
* * *
(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
قيل هؤلاء جماعة من المشركين ، خمسَةُ نفَرٍ كانوا يستهزئون برسول اللَّه
يكيَن فنزلت بهم آفاتٌ مات أكثرهم منها ، وَعَمِيَ واحِدٌ مِنْهُمْ.
والخمسة سُمُّوا في التفسير منهم الوليدُ بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن المطلِب ، والأسود بن عبد يَغُوثَ.
أعلم اللَّه أنهم من المشركين بقوله :
(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
أي : حَتَّى يأتيك الموت ، كما قال عيسى ابن مريم :
(وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا).
فإن قال قائل كيف تكون عبادة لغيْرِ الحي ، أي كيف
يَعْبُدُ الإنسانُ وَهُوَ مَيِّتٌ ؟
فَإنَّ مجاز هذا الكلام مجاز " أبَداً " ، المعنى اعبد ربك أبَداً ، واعبده إلى الممات ، لأنه لو قيل : اعْبُدْ ربك - بغير التوقيت - لجاز إذَا
عبدَ الإنسانُ مَرةً أن يكون مُطِيعاً ، فإذا قال حتى يأتيك اليقين ، أي أبَداً وما
دمت حَيًّا ، فقد أُمِرْتَ بالِإقامة على العبادة .

(3/187)


سورة النَّحل
( مَكِّيَّة )
ما سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهنَّ نزلنَ بين مكة والمدينة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
(1)
(أَمْرُ اللَّهِ) ما وَعَدهم الله به من المجازاة على كفرهم من أصناف
العذاب ، والدليل على ذلك قوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)
أي جاء ما وعدناهم به ، وكذلك قوله : (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا)
وذلك أنهم استعجلوا العذاب واستبطأوا أَمْرَ الساعة ، فأعلم اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أن ذلك في قُرْبهِ بمنزلة ما قد أتى ، كما قال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)
وكما قال : (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).
وقوله : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
معناه تنزيهه من السوء ، كذلك جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك

(3/189)


فسَّره أهل اللغة ، قالوا : معناه تنزيه اللَّه م@ت السو@و ، وبراءة الله من السوء.
قال الشاعر :
أقول لما جاء في فخره . . . سبحان من علقمة الفاجر
أي براءة منه.
* * *
وقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
ويقرأ : تُنَزَّلُ الملائكةُ ، ويجوز فيها أوجه لا أعلمه قرئ بها : ينَزِّل
الملائكة ، وُينْزِلُ الملائكةَ ، وتَنَزَّلُ الملائكةُ بالروح - والروح - واللَّه أعلم -
كان فيه من أمر الله حياة للنفوس والِإرشاد إلى أمر اللَّه ، والدليل على ذلك
قوله : (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).
المعنى أنْذِرُوا أهلَ الكفْر والمعَاصي بأنَّه لا إله إلاَّ أنا ، أي مروهم
بتوحيدي ، وألَّا يشركوا بي شيئاً.
ثم أعلم ما يَدُل على توحيده مما خلق فقال :
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
ارتفع عن الذين أشركوهم به ، لأنهم لاَ يَخْلُقُون شيئاً وهما يُخْلَقون.
* * *
وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
اختصر ههنا ، وذكر تقلبَ أحْوال الِإنْسانِ في غير مكان من القرآن.
* * *
وقوله : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
نصب الأنعام على فعل مضمر ، المعنى خلق الأنعام خلقها ، مفسِّر
للمضمر ، والدفء ما يُدْفِئُهمْ من أوبَارِهَا وأصْوَافِهَا.
وأكْثَرُ ما تستعمل الأنعام في الِإبل خاصة ، وتكون للِإبل والغَنَم والبقر ، فأخبر اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن في الأنعام ما يدفئنا ، ولم يقل لكم فيها مَا يُكِنُّكُمْ ويدفئكم من البرد ، لأن ما ستر
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { يُنَزِّلُ الملائكة } : قد تقدَّم الخلافُ في « يُنَزِّل » بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة . وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم « تَنَزَّلُ » مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ ، « الملائكةُ » رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلا أنه خَفَّف الزايَ . وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم « تَنَزَّلُ » بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل ، والأصلُ : « تَتَنَزَّل » بتاءَيْن . وقرأ ابنُ أبي عبلة « نُنَزِّلُ » بنونينِ وتشديدِ الزايِ ، « الملائكةَ » نصباً ، وقتادةُ كذلك إلا أنه بالتخفيف . قال ابن عطية : « وفيهما شذوذٌ » ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك ، ووجهُه : أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ ، وتخريجُه على الالتفات.
اهـ (الدر المصون).

(3/190)


من الحرِ سَتَر مِنَ البَرْدِ ، وما ستر من البردِ ستر من الحرِّ ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - في موضع آخر : (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) فعلم أنها تقي البرد أيضاً ، وكذلك إذا قيل : (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) علم أنها تستر من البرْدِ ، وتسَترٌ من الحرِّ.
وقوله : (وَمَنَافِعُ).
أي ومنافعها ألبانها وأبوالها وغير ذلك.
(وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
الإراحة أن تروح الإبل من مراعيها إلى الموضع الذي تقيم فيه
(وَحِينَ تَسْرَحُونَ) ، أي حين تُخَلونها للرعْي ، وفيما ملكه الإنسان جمال " وزينة - كما قال عزَّ وجلَّ : (المَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، والمال ليس يخص الوَرِق والعينَ دونَ الأمْلَاك ، وأكثر مال العرب الِإبل ، كما أن أكثر أمْوال أهل البصرة النخَلُ.
إنما يقولون مال فلان بموضع كذا وكذا يعنون النخل.
* * *
وقوله : (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
(أَثْقَالَكُمْ) (إِثْقَالَكُمْ)
تقرأ بالفتح والكسر ، أي لو تكلفتم بلوغه على غير الِإبَل لشَقَّ عَليكم ذلك.
وقوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(8)
أي وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب ، وكثير من الناس يقولون إنَّ
لحومَ الخيلِ والبِغَالِ والحَمِيرَ دَلَّتْ عليه هذه الآية أنها حرام ، لأنه قال في الإبل
(وَمِنْهَا تأكُلُونَ . . . . وَلتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجةً في صدُورِكم)
وقال في الخيل (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)
ولم يذكر فيها الأكل . وقال قوم لو

(3/191)


كانت حرمت بهذه الآية لم يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - لحومَ الحُمرُ الأهلية ، ولكفاه ما دَلَّ عليه القرآن . وهذا غلط لأن " القرآن قد دَلَّ على أن الخَمْرَ حرام ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حَرمَتْ الخمرَ بعينها . فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حُرِّمَ في الكتاب بأنه حرام.
توكيداً لَهُ وزيادةً في البيان.
ونصب (وزينةً) مفعول لها ، المعنى وخَلَقَها زِينَةً.
* * *
وقوله : (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
(9)
أي على الله تبيين الطريق المستقيم إليه بالحججَ والبراهين
وقوله : (وَمِنْهَا جَائِرٌ).
جائر أي من السبل طرق غير قَاصِدَةٍ للحق.
وقوله : (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).
أي لو شاء اللَّه لأنزل آيةً تَضْطَرُ الخلْقَ إلى الإيمان به ، ولكنه عزَّ وجلَّ : يهدي من يشاء ويدْعو إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
* * *
وقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
المعنى أنه ينبت الشجرَ التي تَرْعَاهَا الإبِلُ ، وكلُ ما أنْبِتَ على الأرْ ض
فهو شجر.
قال الشاعر يصف الخيل :
نعْلُفُها اللحمَ إذا عزَّ الشَجر . . . والخيل في إطْعَامِها اللحمَ ضَرَر
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجْدَبَتِ الأرض.
وقوله : (فيهِ تُسِيمُونَ).
أي تَرْعَوْنَ ، يقال : أسَمْتُ الإبلَ إذا رعيتها ، وقد سَامَت تسوم وهي
سائمة إذَا رعَتْ ، وإنما أخدْ ذلك من السُّومَةِ ، وَهِي العَلَامَةُ وتأويلها أنها تؤثر
في الأرض برَعْيِها علامات .

(3/192)


وقوله : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
(وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ).
معنى (مَوَاخِرَ فِيهِ) جواري تجري جرياً ، وتشق الماء شَقا.
* * *
(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(15)
(رواسيَ) جِبَالاً رواسي ثوابت ، (أَنْ تَمِيدَ) معناهُ كَرَاهةَ أنْ تميد ومعنى تميد
لا تستقر ، يقال ماد الرجل يميد ميداً ، إذَا دِيرَ به والمَيْدَى : الذين يدار بهم إذا ركبوا في البحر ، و (أَنْ تَمِيدَ) في موضع نصب ، مفعول لها.
(وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا).
المعنى وجعل فيها رَوَاسيَ وأنهاراً وسُبُلاً ، لأن معنى ألقى في الأرض
رواسي جعل فيها رواسي ، ودليل ذلك قوله : (وَالجِبَالَ أوْتَاداً).
* * *
وقوله : (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
النجم والنجوم في معنى واحدٍ ، كما تقول : كثر الدرهَمُ في أيدي
الناسِ وكثرت الدراهم ، خلق اللَّه - جل ثناؤه - النجوم لأشياءَ
منها أنها جُعِلَتْ زينةً للسماء الدنْيَا ، ومنها أنها جعلت رُجُوماً للشياطين
ومنها أنها يُهْتَدى بِهَا ، ومنها أنها يعلم بها عدد السنين والحساب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
ويقرأ (تدعونَ من دون اللَّه) بالتاء والياء.
(لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ).
يُعنَى به الأوثانُ التي كانت تَعْبُدُهَا العَربُ.
* * *
(أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
أي وهم أموات غير أحياء.
وقوله : (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).
- أي ما يشعرون متى يبعثون ، و (أَيَّانَ) في موضع نصْبٍ بقوله (يُبْعَثُونَ) ولكنه

(3/193)


مَبني غيرُ منونٍ ، لأنه بمعنى الاستفهام فلا يعرب كما لا تعرب كم ومتى وكيف وأين ، إلَّا أن النون فتحت لالتقاء السَّاكنين.
فإن قال قائل : فهَلَّا كُسِرتْ ؟
قيل الاختيار إذا كان قبلَ الساكن الأخير ألف أن يفتح ، لأن الفتح أشبه بالألف وأخفْ معها.
وزعم سيبويه والخليل أنك إذا رَخَّمْتَ رجلًا اسمه أسْحَار ، قلت يا أسْحَارَّ - بتشديد الراء - أقبل ، ففتحت الراء لالتقاء السَّاكنين ، - وكذلك تختار مع المفتوح الفتح ، تقول إذا أمَرْت من
غُضَّ : غضَّ يا هذا . .
* * *
وقوله : (لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
معنى (لَا جَرَمَ) حق أن اللَّه يعلم ، ووجب ، وقوله : " لا " رَد لفعلهم.
قال الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طَعْنَةً . . . جَرَمَتْ فَزَارةَ بَعدهَا أَن يغضبوا
المعنى أحقت فزارة بالغضب.
* * *
وقوله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
" ما " مبتدأ ، و " ذا " في موضع الذي . المعنى ما الذي أنزل ربكم.
وأساطير مرفوعة على الجواب ، كأنهم قالوا : الَّذِي أنْزَلَ أساطير الأولين.
أي أكاذيب الأولين ، واحدها أسْطورة.
* * *
وقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)

(3/194)


هؤلاء كانوا يصدون مَنْ أرَادَ اتبَاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا سُئِلُوا عما أتَى به - قالوا الذي جاء أساطير الأولين ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم يحملون بذلك آثام الذين كفروا بقولهم . . ولا يُنْقِصُ ذلك من إثم التابع.
وقوله : (ألَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
" ما " في موضع رفع ، كما ترفع بنعم وبئس ، المعنى ساء الشيء
وِزْرُهم ، هذا كما تقول : بئسِ الشيءِ.
* * *
وقوله : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
أي من أساطين البناء التي تعْمِده.
(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).
يروى أن ذلك في قصة نَمْرُودَ بنِ كنعانَ ، بنى صَرْحاً يَمْكُرُ بِهِ فخر
سقفه عليه وَعَلى أصْحَابِه ، وقال بعضهم : هذا مثل ، جعلت أعمالهم التي
عملوها بمنزلة الباني بناء يسقط عليه فمضرة عملهم عليهم كمضرَّةِ الباني إذا
سقط عليه أبناؤه.
* * *
وقوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ
(27)
و (تُشَاقُّونِ فِيهِمْ) بكسر النونِ ، وقد فسرنا مثل هذا ، وإنَّما . . . شركائي
حكاية لقولهم ، واللَّه - جل ثناؤه - لا شريك له.
المعنى أين الذين في دعواكم أنهم شركائي
* * *
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ).
أي ألقوا الاستسلام ، وذكر السَّلَمَ ، والسَّلَمَ الصُّلحْ ، - لذكره المُشَاقةَ.
وبإزاء المشاقة والمعاداة الصلح .

(3/195)


(مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ).
أي قالوا : ما كنا نعمل من سوء.
* * *
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
" ما " و "ذا " كالشيء الواحد ، والمعنى أي شيء أنزل ربكم.
(قَالُوا خَيْرًا).
على جواب " ماذا " المعنى أنزل خَيْرًا.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ).
جائز أن يكون هذا الكلام ذُكِرَ ليَدُل عَلَى أن الذي قالوه اكتسبوا به
حسنة ، وجائز أن يكونَ تفسيراً لقولهم خيراً ، وحسنة ، بالرفع القراءةُ . ويجوز " للذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَةً " ، ولا تقرأنَّ بها ، وَجَوازُهَا أن معناها أن " أنزل خيراً " - جعل للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةً ، أي جَعَلَ لَهُمْ مكافأةً في الدنْيَا قَبْلَ الآخرة.
وقوله : (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ).
المعنى ، ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة ، ولكن المبيّنَ لقوله (دار المتقين)
هو ، قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
وهى مرفوعة بإضمار " هي " كأنك لما قلت ، ولنعم دار المتقين على
جواب السائل أيْ دَارٌ هي هذه الممدوحة ، فقلت : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا).
وإن شئت رفعت على الابتداء ، ويكون المعنى : جناتُ عَدْنٍ نعمَ دارُ
المتقين.
* * *
وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
أي : لقبض أرواحهم ، أو يأتي ما وَعَدَهُمُ اللَّهُ به من عذابه.
وقوله : (كَذَلِكَ فَعَل الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُم اللَّهُ).

(3/196)


أي كذلك فعلوا فأتاهم أمر اللَّه بالعذاب ، (فَأصَابَهُمْ سَيئَاتُ مَا عَمِلُوا).
* * *
وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
هذه الآية وأشباهها فيه تنازع وينبغي أن يقف أهل القرآن والسنة على
حقيقة تفسيرها لأن قوماً زعموا أن من قال هذا فقد كفر وأن من قال من العباد أن لا يفعل إلا ما شاء الله فقد كفر ، وهذا تأويل رَديء ، وإنما كفر أولئك وكذبوا ، لأنهم كانوا يقولون : لو شاء اللَّه ما عبدنا من دونه من شيء علىِ جهة الهزؤ ، والدليل على ذلك أنَّ قوْمَ شعيب قالوا لشعيب :
(أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87).
فلو قالوا له هذا معتقدين لكانوا مؤمنين ، وإنما قالوه مستهزئين.
وقد اتفقت الأمَّةُ على أن الله لو شاء ألا يُعْبَدَ غيرُه مَشِيئَةً اضطرار إلى ذلك لم يقدر أحد على غير ذلك ، ولكن اللَّهَ جل ثناؤه تَعَبَّد العبادَ وَوَفَقَ من أحبَّ تَوْفيقه ، وأضل من أحب إضْلَالَه ، وهؤلاء قالوا هذه مُحقِّقِينَ ما قيل لهم أنهم مكذبون إذ كان الِإجماع على أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - يقدر على أن يجْبُرَ العبادَ على طاعته وأعلم اللَّه أنهم مكذبون كما كذبَ الذين من قبلهم فقال :
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
أي الإبْلاغ . الذي يبَينُونَ مَعَهَ أنهم أنبياء.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
فأَعلم اللَّه أنهُ بَعَثَ الرسلَ بالأمْر بالعِبَادةِ ، وهو من وراء الإضلال
والهداية ، فقال :

(3/197)


(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ).
فهذا يدل على أنهم لو قالوا ذلك معتقدين لكانوا صادقين ، ثم أكدَ ذلك
فقال :
(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
وقُرئت فإن اللَّه لا يُهدَى من يُضِل ، كما قال : (من يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ
له). وَفيها وجه ثالث في القراءة . . " لَا يُهْدِي مَنْ يَضل " وهو أقلُّ الثلاثة.
* * *
وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
(وَعْدًا) منصوب مُؤكد ، المعنى بلى يبعثهم اللَّه وعداً عليه حقاً ، (لِيُبَيْنَ لَهُمَ
ائذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ).
فهذا على ضربين ، جائز أن يكون معلقاً بالبعث ، ويكون المعنى : بلى
يبعثهم الله لِيُبيَّنَ - لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ، وجائز أن يكون
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) معلقاً بقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) لِيُبَيِّنَ لهم اختلافهم ، وأنهم كانوا مِن قبله على ضلالة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
القراءة الرفع ، وقد قرئت بالنصب ، فالرفع على فهو ، ويكون على
معنى ما أراد اللَّه فهو يكون ، والنصب على ضربين
أحدهما أن يكون قوله فَيَكونَ عَطْفاً على (أنْ نَقُولَ فيكونَ).
ويجوز أن يكون نصباً على جواب (كن) فـ (قَوْلُنَا) رفع بالابتداء.
وخبره (أن نقول) ، المعنى إنما قولنا لكل مرادٍ قولنا كن ، وهذا خوطب العباد فيه بِمَا يعْقِلُونَ وما أراد اللَّه فهو كائن على كل حال
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لاَ يَهْدِي } قرأ الكوفيون « يَهْدِي » بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله ، أي : لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه ، ف « مَنْ » مفعولُ « يَهْدِي » ويؤيده قراءةُ أُبَيّ « فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ ، ولِمَنْ أضلَّ » ، وأنه في معنى قولِه : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ].
والثاني : أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ ، أي : لا يَهْدِيْ المُضِلَّون ، و « يَهْدِي » يجيءُ في معنى يهتدي . يقال : هداه فَهَدَى ، أي : اهتدى . ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله « يَهْدِي » بتشديدِ الدالِ المكسورةِ ، فَأَدْغم . ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع ، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس . والعائدُ على « مَنْ » محذوفٌ : { مَن يُضِلُّ } ، أي : الذي يُضِلُّه اللهُ.
والباقون : « لا يُهْدَى » بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول ، و « مَنْ » قائمٌ مَقامَ فاعِله ، وعائدُه محذوفٌ أيضاً.
وجَوَّز أبو البقاء في « مَنْ » أن يكونَ مبتدأً و « لا يَهْدِي » خبره ، يعني : مقدَّمٌ عليه . وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو : « زيدٌ لا يَضْرِبُ » ، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل.
وقُرِئ « لا يُهْدِيْ » بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ . قال ابن عطية : « وهي ضعيفةٌ » قال الشيخ : « وإذا ثَبَتَ أنَّ » هَدَى « لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم ، فالمعنى : لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ » . اهـ (الدر المصون).

(3/198)


وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد خلق الدنيا - السَّمَاوَات والأرْض - في قدر لمح البصر لقدر عَلَى ذلك ولكنَّ العباد خوطبوا بما يعقلون ، فأعلمهم الله
سهولة خلق الأشياء عليه قبل أن تَكُونَ ، فأعلم أنه متى أراد الشيء كان ، وأنه إذا قال كن كان . ليس أن الشيء قبل أن يخلق كان موجوداً.
إنما المعنى : إذا أردنا الشيء نقول من أجله " كن " أيها المُرادُ فيكون على قدر إرادة اللَّه ، لأن القَوْمَ أعنِي المشركِين أنكروا البعث ، (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ).
وهو معنى قوله : (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ)
أي كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون.
ولقد جاء في التفسير أن الحنثَ الشرْكُ لأن من اعْتَقَدَ
هذا فضلاً أن يحلف عليه فهو مشرك . فقال جلَّ وعلا.
(بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا).
أي بلى يبعثهم وعداً عليه حقاً ، و (حَقًّا) منصوب مصدر مؤكد لأنه إذا قال
يبعثهم دل على " وعد بالبعث وعداً ".
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
هؤلاء قوم كان المشركون يعذبونهم على اعتقادهم الإيمان منهم صهيب
وبلال ، وذلك أن صُهَيباً قال لأهل مكة : أنا رجل كبير ، إن كنت معكم لم
أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم ، خذوا مالي وَدَعُوني فأعطاهم ماله
وهاجر إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال له أبو بكر الصديق : رَبِحَ البيع يا صُهيب ، وقال عمر : نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، تأويله لو أنه أمن

(3/199)


عذابه وعقابه لما ترك الطاعة ولا جنح إلى المعصية لأمنه العذاب.
ومعنى (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً).
أي : لأنهم صاروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخلوا في الإسلام وسمعوا ثناء اللَّه عليهم.
* * *
وقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
و (نوحِي إليهم) ، وُيوحِي إليهم . أما القراءتان الأوليان فجيدتان والثالثة
ضعيفة لذكره أرسلنا . فأنْ يكون اللفظ على نوحِي ويوحَى أحسن ، لأن نوحي يوافق اللفظ والمعنى ، ويوحى إنما هو محمول على المعنى ، لأن المعنى : وما أرسل اللَّه إلا رجالًا يوحى إليهم.
وإنما تجيل لهم لأنهم قالوا لولا أنزل عليه ملك أو جاء مع نذير ، فأَعلم اللَّه - جل وعز - أن الرسل بشر إلا أنهم يوحى إليهم.
ثم أعلم كيف يستدل على صحة نبُوتهِمْ فقال :
(بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
أي بالآيات والحجَج ، والزبُرُ الكُتُب ، واحدها زَبُورٌ ، يقال زَبَرْتُ
الكتابَ وذَبَرْتُه بمعنى واحد ، قال أبو ذؤيب :
عَرَفْتُ الدِّيَارَ كَرَقْمِ الدَّوَا . . . ةِ يَذْبُرُها الكاتِبُ الحِمْيَري
وقَوله : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
فيها قولان ، قيل فاسألوا أهل الكتب أهل التوراة والإِنجيل وأهل جميع

(3/200)


الكتب يعترفون أن الأنبياء كلهم بشر.
وقيل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي فاسْألُوا مَنْ آمَنَ من أهل الكتاب.
ويجوز واللَّه أعلم - أن يكون قيل لهم اسألوا كل
من يُذْكَرُ بعلم وافق أهل هذه الملة أو خالفهم.
والدليل على أن أهل الذكر أهل الكتب قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وقوله : (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ).
* * *
وقوله : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
أي أفأمنوا أنْ يَفْعَلَ بهم ما فَعَل بقوم لوط ، والذين أهلكوا من الأمم
السالفة بتعجيل العذاب في الدنيا.
(أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ).
عطف على : (أَنْ يَخْسِفَ).
(أوْيا4 خُذَهُمْ في تَقَفبِهِمْ) أي فِي تَصَرفِهِم في أسفارهم ، وَسَائِرِ مَا يَنْقَلِبُونَ
فِيه.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
أي أو يأخذهم بعد أن يخيفهم ، بأن يهلكَ فرقة فَتخافَ التي تليها.
وقيل على تخوف على تنقص ، ومعنى التنقص أن ينتقصهم في أموالهم
وَثمَارِهِمْ حتى يهلِكَهُمْ.
ويروى عن عُمَرَ قَال : ما كنت أدري ما معنى أو يأخذهم على تخوف
حتى سمعت قول الشاعر :

(3/201)


تَخَوَّفَ السَّيْرُ منها تامِكاً قَرِداً . . . كما تَخَوَّفَ عودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ
يصف ناقة وأن السير تنقص سنامها بعد تمكنه واكتنازه.
وقوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
أي من رحمته أن أمهل فجعل فسحةً للتوبةِ.
* * *
وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
وتقرأ تتفيأ ظلاله.
(سُجَّدًا) منصوب على الحال.
(وَهُمْ دَاخِرُون).
ومعنى (دَاخِرُونَ) صَاغِرُونَ ، وهذه الآية فيها نظر ، وتأويلها - واللَّه
أعلم - أن كل ما خلق اللَّه مِنْ جِسْم وعظم ولحم ونجْم وشَجَرٍ خاضع لله
ساجد ، والكافر إن كَفر بقلبه ولسَانه وقصْدِه فنفس جسمه وعظمه ولحمه
وجميع الشجر والحيوان خاضعة لِلَّهِ ساجدة.
والدليل على ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ).
روي عن ابن عباس أنه قال : الكافر يسجد لغير الله ، وظلُّه يسجُدُ للَّهِ.
وتأويل الظلِّ تأويل الجسم الذي عنه الظل.
وقوله : (وَهُمْ دَاخِرُونَ).
أي هذه الأشياء مجبولة على الطاعة.
* * *
وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
المعنى ولله يسجد ما في السَّمَاوَات من الملائكة وما في الأرض من دابة

(3/202)


والملائكة ، أي وتسجد ملائكة الأرض ، والدليل على أن الملائكة في الأرض
أيضاً قوله تعالي : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18).
وقوله : لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ).
وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا).
وقوله : (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
أي يخافون ربهم خوف مُخْلِدِين مُعظمين.
(وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
وصفهم بالطاعة وأنهم لا يجاوزون أمراً له ولا يتقدمونه.
* * *
وقوله : (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
(وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا).
قيل معناه دائماً ، أي طاعة واجبة أبداً ، ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون
(وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) أي له الدين والطاعة ، رضي العبد بما يؤمر به أو لم يَرْضَ ، وسهل عليه أو لم يسهل ، فله الدين وإن كان فيه الوَصَبُ.
والوَصَبُ شدَّةُ التعب.
ثم قال : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ).
أي أَفَغَيْرَ اللَّهِ الذي قد بَانَ لكم أنَّه وحده ، وأنه خالق كل شيء ، وأن ما
بكم من نِعمةٍ فمن عنده ، وأنه لو أراد إهلاككم حين كفرتم وألَّا يُنْظِرَكم إلى
يوم التوبة لقدَرَ ، وأعْلَم أنه مع إقامته الحجج في أنه واحِد ، وأنه أمر ألا يُتخَذَ معه إله عبدوا غيره ، لأنهم قالوا عنْ الأصنام : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).

(3/203)


فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن لا إله إلا هو ، ولا يجوز أن يَعبد
غيره ، وَإن قَصَد التقِربَ بالعبادة لِلَّهِ وحده ، فقال - جلَّ وعلا - :
(وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ).
فذكر اثنين توكيداً لقوله إلهَيْن ، كما ذكر الواحد في قوله : (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
* * *
وقوله : (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
(53)
دخلت الفاء ، ولا فعل ههنا لأن الباء متصلة بالفعل ، المعنى ما حل
بكم من نعمةٍ فمن اللَّه ، أي ما أعطاكم الله من صحة جسم أوسعة في
رِزْقٍ ، أو متاع بمال أو ولد فكل ذلك من اللَّه.
وقوله : (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ).
أي إليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة ، يقال : جأر الرَّجُل يَجأرُ جُؤاراً.
والأصوات مبنية على فُعَال وفَعِيلٍ ، فأمَّا فُعال فنحو الصُّراخ ، والجُؤَارُ.
والبُكاء . وأما الفَعِيل فنحو العويل والزئير ، والفُعَالُ أكثر.
* * *
وقوله : (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
هذا خاص فيمن كفر به.
وقوله : (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
أي ليكفروا بأنا أنعمنا عليهم ، أي جعلوا ما رزقناهم وأنعمنا به عليهم

(3/204)


سبباً إلى الكفر كما قال تعالى : (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ).
ويجوز أن يكون (ليكفروا بما آتيناهم) أي ليَجْحَدُوا نعمة الله في ذلك ، كما قال : (أفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
وَقَوله : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
لم يأمُرْهُمْ الله جلَّ وعلا أن يتمتعوا أمْرَ تَعَبُّدٍ ، إنما هو لفظ أمْرٍ ليهدِّدَ
كما قال : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لَا تُؤمِنُوا) أي فَقَدْ وَعَد اللَّه وأوعَدَ وأنذر وبلَّغت
الرسُلُ فمن اختار بعد ذلك الكفر والتمتع بما يباعد من اللَّه فسوف يعلم عاقبة أمره.
وقد بين اللَّه عاقبة الكفر والمعصية بالحجج البالغة والآيات البينات.
* * *
وقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
هو معنى قوله تعالى : (فقالوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لشُرَكَائِنا)
فجعلوا نصيباً يتقربون به إلى الله تعالى ، ونصيباً يتقربون به إلى الأصنام
والحجارة.
وقوله : (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ).
أي تاللَّه لَتُسْأَلُنَّ عنه سؤال توبيخ حتى تعترفوا به على أنْفُسِكُمْ.
وتُلْزِمُوا أنفسَكُم الحجة.
* * *
وقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
لأنهم زعموا أن الملائكة بنات اللَّه.
(سُبْحَانَهُ) معناه تنزيه له من السُّوءِ.
(وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ).

(3/205)


(ما) في موضع رفع لا غير ، المعنى سبحانه ولهم الشيءُ الذي يشتقون
كما قال : (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ).
فإن قال قائل لم لا يكون المعنى (ويجْعَلُونَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ؟
قيل العربُ تستعملُ في هذا الموضع : جعل لِنَفْسِهِ
ما يشتهي ، ولا يقولون جَعَل زيد له ما يَشْتَهِي ، وهو يعني نفسه.
ثم أعلم أنهمْ يَجْعَلُونَ للَّهِ البنات . فقال :
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
فيجعلون لمن يعترفون بأنه خالقهم البنَاتِ اللاتِي مَحَلهُن منهم هذا
المحل . ومعنى (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) ، مُتَغيَراً تَغَيُّرَ مَغْمُوم.
ويقال لكل من لقِي مكروهاً : قد اسود وجهه غمًّا وحُزْناً.
ومِنْ ذلك قولك سوَّدْت وجه فُلَانٍ.
* * *
وقوله : (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
قيل كان الرجل في الجاهلية إذا حزبَ امرأتَهُ المخاضُ توارى لكي يعلم
ما يُوَلَدَ لَهُ ، فإن كان ذَكراً سُرَّ به وابْتهج ، وإن كانت أنثى اكْتَأبَ بها وحَزِنَ ، فمنهم من يَئدُ ولَدَهُ يَدْفِنُها حَية ، أو يمسكها على كراهة وهَوَانٍ.
فقال اللَّه تعالى : (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
أى ألَا سَاءَ حُكْمُهُمْ في ذلك الفِعْلِ وفي جعلهم للَّهِ البناتِ وجعلهم
لأنفسهمْ البنين ، ونسْبِهم للَّهِ اتخاذ الوَلَد.
* * *
وقوله : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ
(61)
معنى (عليها) على الأرض ، ودل الِإضمار على الأرض لأن الدَوَابَّ إنما
هي على الأرْض .

(3/206)


وقوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى).
جاء في التفسير أنه ، قوله : لا إله إلا اللَّهُ ، وتأويله أن اللَّه - جل ثناؤه -
له التوحيد ، ونفي كل إله سواه.
* * *
وقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
أي يجعلون لِلَّهِ البنات اللاتي يكرهَونَهُن.
وقوله : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى).
(أَنَّ) بدلٌ من (الكذب) المعنى وتصف أَلسنتهم أنَّ لهم الحُسْنَى ، أي
يصفون أن لهم - مع فعلهم هذا القبيح - من اللَّه جل ثناؤه - الجزاء
الحسن.
وقوله : (لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ).
" لَا " رد لقولهم . المعنى - واللَّه أعلم - ليس ذلك كما وصفوا ، جرم أن
لهم النَّارَ ، المعنى جَرَبمَ فعلُهم هذا أن لَهُم النارَ ، أي كسب فعلهم أن لهم
النارَ.
وقيل إنَّ " أنَّ " في موضع رفع ، ذكر ذلك قطرب ، وقال المعنى أن لهم
النار.
(وَأنهُم مُفْرَطُونَ).
فيها أربعة أوْجُهٍ : (مُفْرَطُونَ) بإسكان الفاء وفتح الراء ، ومُفَرَّطُونَ بفتحِ
الفاء وتشديد الراء وبفتحها ، ومُفْرِطُونَ - بإسكان الفاء وكسر الراء ، ومُفَرِّطُونَ بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها.
فأمَّا تفسير (مُفْرَطُونَ) و (مُفَرَّطُونَ) فجاء عن ابن عباس ، متروكون وقيل
عنه : مُعْجَلُونَ . ومعنى الفَرْط في اللغة : التَقدم ، وقد فرط إليَّ منه قولٌ أي

(3/207)


تَقَدَّمَ ، فمعنى مُفْرَطُونَ مُقَدمُونَ إلى النار ، وكذلك مُفَرطُون ، ومن فسَّرَ
متروكون فهو كذلك ، أي قد جُعِلُوا مُقَدَّمِين في العذاب أبداً متروكين فيه.
ومن قرأ مُفَرِّطُونَ ، فالمعنى أنه وَصْف لهم بأنهم فَرطُوا في الدنيا فلم
يعملوا فيها للآخرة وتصديق هذه القراءة قوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ).
وَمَنْ قَرأ مُفْرِطُونَ ، فالمعنى على أنهم أفْرَطُوا في مَعْصِيةِ اللَّه ، كَما
تقول : قد أفرط فلان في مكروهي.
وتأويله أنه آثر العجْزَ وقدَّمه (1).
* * *
وقوله : (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
بِنَصْب (رَحمَةً) المعنى : وما أنزلنا عليك الكتابَ إلا هُدى ورحمةً ، أي
ما أنزلنَاهُ عليك إلا للهداية والرحمة ، فهو مفعول له.
ويجوز : وهدى ورحَمْةً في هذا الموضع ، المعنى : وما أنزلنا عليك الكتاب إِلًا لِلْبيَانِ رهو - مع ذلك - هدى ورحْمَةٌ.
* * *
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
وتقرأ (نَسْقِيكم) (2) ويقال سَقيتُهُ وأسْقَيْتُهُ في مَعْنى وَاحد.
قال سيبويه والخليل سقيته كما تقول نَاوَلْتُه فشرب . وأسقيتُهُ جعلت له سقياً ، وكذلك قول الشاعر يحتمل المذهبين :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قرأ نافع بكسرِ الراءِ اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ إذا تجاوَزَ ، فالمعنى : أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى . فأفْعَلَ هنا قاصرٌ . والباقون بفتحها اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه ، وفيه معنيان ، أحدُهما : أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي ، أي : تركتُه ونَسِيْتُه ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول : أَفْرِطْتُ منهم ناساً ، أي : خَلَّفْتُهم ، والمعنى : أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار . والثاني : أنه مِنْ أَفْرَطْتُه ، أي : قَدَّمْتُه إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قال الشيخ ، وأنشد للقطامي :
2989- واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا . . . كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فَجَعَلَ « فَرَط » قاصراً و « أفرط » منقولاً . وقال الزمخشري : « بمعنى يتقدَّمون إلى النار ، ويتعجَّلون إليها ، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء » ، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى ، لا أن أَفْعل منقولٌ مِنْ فَعَل ، والقولان محتملان ، ومنه « الفَرَطُ » ، أي : المتقدم . قال عليه السلام : « أنا فَرَطُكم على الحوض » ، أي : سابِقُكم . ومنه « واجعله فَرَطاً وذُخْراً » ، أي : متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين.
وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - « مُفَرِّطون » بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ فَرَّط في كذا : أي : قَصَّر ، وفي روايةٍ ، مفتوحةً ، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف ، أي : تَقَدَّم وسَبَقَ . اهـ (الدر المصون).
(2) قال السَّمين :
قوله تعالى : { نُّسْقِيكُمْ } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة ، كأنه قيل : كيف العِبْرة؟ فقيل : نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً . ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ ، أي : هي ، أي : العِبْرَةُ نُسْقيكم ، ويكون كقولهم : تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه «.
وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر » نَسْقيكم « بفتح النون هنا وفي المؤمنين . والباقون بضمَّها فيهما . واختلف الناس : هل سَقَى وأَسْقى لغتان ، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور . فقيل : هما بمعنىً ، وأنشد جمعاً بين اللغتين :
2290- سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى . . . نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ
دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب . و » نُمَيْراً « هو المفعول الثاني : أي : ماءٌ نُمَيْراً . وقال أبو عبيد : » مَنْ سَقَى الشِّفَةِ : سَقَى فقط ، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ . أَسْقَى ، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها : أَسْقَى فقط « . وقال الأزهري : » العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام ، ومن السماء ، أو نهرٍ يجري ، أَسْقَيْتُ ، أي : جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟ ، فإذا كان للشَّفَة قالوا : سَقَى ، ولم يقولوا : أسقى «.
وقال الفارسي : » سَقَيْتُه ختى رَوِيَ ، وأَسْقَيْتُه نهراً ، أي : جَعَلْتُه له شِرْباً « . وقيل » سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه ، ولا يُقال مِنْ هذا : أَسْقاه.
وقرأ أبو رجاء « يُسْقِيْكم » بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان ، أحدُهما : هو الله تعالى ، الثاني : أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ ، أي : نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا . وقُرئ « تًسْقيكم » بفتح التاء من فوق . قال ابن عطية : « وهي ضعيفةٌ » . قال الشيخ : « وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في » تِسْقِيْكم «. اهـ (الدر المصون).

(3/208)


سَقَى قوْمِي بني مَجْدٍ وأسْقى . . . نمَيراً والقبائل من هلال
وهذا البيت وضعه النحويونَ على أنَّه سَقَى وأسْقَى بمعنى واحد ، وهو
يحتمل التفسير الثاني.
والأنعام لفظه لفظ جمع ، وهو اسم للجنس يذكر ويؤنث ، يقال هو
الأنعام وهي الأنعام . نسقيكم مما في بطونه.
وفي موضع آخر (مما في بطونها). فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن في إخْراجه اللبَن (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) دَلِيلًا على قدرةٍ لا يقدِر عليها إلا الله الذي ليس كمثله شيء (1).
* * *
وقوله عَز وجل : (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
أي فيما بيَّنَّا علامة تدل على توحيد اللَّه.
وقالوا في تفسير قوله : (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) إنه الخمرُ من قبل أن تحرمَ.
والرزق الحسَنُ يؤكل من الأعناب والتُموُرِ.
وقيل إن معنى السكر الطعم
وأنشدوا :
جعلت أعراض الكرام سَكَراً
أي جعلتَ دَمَهُم طُعماً لك . وهذا بالتفسير الأولِ أشبَهُ.
المعنى جعلْتَ تتخمًرُ بأعراضِ الكرام ، وهو أبين - فيما يقال : الذي يتبرك . في أعراض الناس.
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي :
قوله : {مما في بطونه} الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها ، وذكر النحويون فيه وجوهاً : الأول : أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لإفادة جمع ، كالرهط والقوم والبقر والنعم ، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد ، وهو التذكير ، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع ، وهو التأنيث ، فلهذا السبب قال ههنا {فِي بُطُونِهِ} ، وقال في سورة المؤمنين : {فِى بُطُونِهَا} [ المؤمنون : 21 ].
الثاني : قوله : {فِي بُطُونِهِ} أي في بطون ما ذكرنا ، وهذا جواب الكسائي.
قال المبرد : هذا شائع في القرآن.
قال تعالى : {فَلَماَّ رَأَى الشمس بازغةً قَالَ هذا رَبّى} [ الأنعام : 78 ] يعني هذا الشيء الطالع ربي.
وقال : {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [ المدثر : 54 ، 55 ] أي ذكر هذا الشيء.
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي ، أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً ، فلا يجوز ، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب ، ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة.
الثالث : أن فيه إضماراً ، والتقدير : نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 20 صـ 52 - 53}

وقال السَّمين :
وذَكَّر في قوله { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين » . قلت « وضَعْفُها عنده من حيث المعنى : وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام.
قوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } يجوز أن تكونَ » مِنْ « للتبعيض ، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية . وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً . قال الزمخشري : » ذكر سيبويه الأنعامَ في باب « ما لا ينصرف » في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم : ثوبٌ أَكْياش ، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً ، وأمَّا « في بطونها » في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع . ويجوز أن يُقال في « الأنعام » وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير « نَعَم » كأَجْبال في جَبَل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [ كَنَعم ] ، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ « نَعَم » في قوله :
2991- في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ . . . يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ
وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان : أنه تكسير « نَعَم » ، وأنَّه في معنى الجمع «.
قال الشيخ : أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في : » هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه : « وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول : أَقْوال وأقاويل ، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل ، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع . وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ » . ثم قال : « وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل ، كما تقول : جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب ، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول : أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ . وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد ، مِنَ العرب مَنْ يقول : هو الأنعام : قال الله عز وجل { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطاب : » سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول : هذا ثوبٌ أكياش «.
قال : » والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول ، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل ، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا ، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع ، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ : « أُتِيّ » بضمِّ الهمزة ، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد ، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول : « هو الأنعامُ » ، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم ، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال :
2992- تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى . . . وقلنا للنساءِ بها أَقيمي
ولذلك قال سيبويه : « وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد » فقوله « قد يقع للواحد » دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ ، فقولُ الزمخشري : « أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال » تحريفٌ في اللفظ ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه . ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها . قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة : « وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال ، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع » . قال : « فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة ».
قلتُ : الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً ، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه ، ولم يُحَرِّفْ لفظَه ، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه ، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه.
وقيل : إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها ، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام . وقال الكسائي : « أي في بطونِ ما ذَكَرَ » . قال المبرد : « وهذا شائعٌ في القرآن ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 1112 ] ، أي : ذَكَر هذا الشيءَ . وقال تعالى : { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 78 ] ، أي : هذا الشيءُ الطالعُ ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ ، لا يجوز : جاريتُك ذهب » . قلت : وعلى ذلك خُرِّج قوله :
2993- فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ . . . كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ
أي : كأنَّ المذكورَ . وقيل : جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع ، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة ، ومن الأولِ قولُ الشاعر : /
2994- مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ . . . وقيل : أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ ، فإنه يَسُد مَسَدَّه « نَعَم » ، و « نَعَم » يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه :
2995- وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ . . . لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن ، ومثلُه قولهم « هو أحسنُ الفتيان وأجملُه » ، أي : أحسنُ فتىً ، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه.
وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ . والسادس : أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ ، فأصلُ اللبنِ [ ماءُ ] الفحلِ قال : « وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون ، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ . فإن قال : أراد الجنسَ فقد ذُكِر » . يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على « فَحْل » المرادِ به الجنسُ . قلت : وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير . اهـ (الدر المصون).

(3/209)


وقوله : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
وبِيوتاً . فمن قرأ بُيُوتاً بَالضم فهو القياس ، مثل كعب وكُعُوب وقلْب
وقُلُوبُ ، ومن قرأ بِيُوتاً بالكسر فهذا لم يذكر مثله أحَد من البَصْريينَ لأنهم لا
يجيزون مثله . ليس في الكلام مثل فِعُل ولَا فِعُول ، والذين قرأوا به قلبوا
الضمة إلى الكسرة من أجل الياء التي بعْدَها.
ومعنى الوحي في اللغة على وجهين يرجعان إلى معنى الإِعْلامِ والإفهَام
فمن الوحي وَحْيُ الله إلى أنبيائه بما سمعت الملائكة من كلامه ، ومنه الإلهام
كما قال اللَّه : (وَأخْرَجتِ الأرْضُ أثْقَالَهَا) إلى (بأن رَبَّكَ أوْحَى لَها)
معناهُ ألْهمَهَا . فاللَّه أوحى إلى كل دابَّة وذِي رُوح في التماس منافعها واجتناب مضارهَا ، فذكر من ذلك أمر النحل.
وواحدُ النحْلِ نحلة ، مثل نخل ونخلة - لأن فيها من لطيف الصنعة وبديع الخلق ما فيه أعظم معتبر بأنْ ألهمها اتخاذَ المنازل والمساكن ، وأن تأكل من كل الثمرات على اختلاف طعومها . .
ثم سهل عليها سبيل ذلك فقال جلَّ وعزَّ : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
أي قد ذللها اللَّهُ لك وسهل عليك مَسَالكَها.
ثم قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ).
فهي تأكل الحامض والمرَّ وما لا يُوصَف طعمه فيُحِيلُ الله ذلك عَسَلاً
يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها ولكنه قال : (مِنْ بُطونهَا) لأن
استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطون فيخرج بعضها من الفم كالريق الدائم

(3/210)


الذي يخرج من فم ابن آدم ، فالنحل تخرج العسلَ من بطونها إلى أفوَاهِهَا.
(فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ).
في هذا قولان ، قيل إِن . الهاء يرجع على العَسَل ، المعنى في العَسَلِ
شفاء للناس . وقيل إن الهاء للقرآن ، المعنى في القرآن شفاءٌ للناس وهذا
القول إذا فسَّرَ علم أنه حَسَنٌ ، المعنى فيما قصصنا عليكم من قصة النحل في
القرآن وسائر القصص التي تدل على أن اللَّه واحد شفاء للناس.
والتفسير في العَسَل حسن جدًا.
فإن قال قائل : قد رأينا من ينفعهُ العسلُ ومن يضره العسل ، فكيف
يكون فيه شفاء للناس ؟
فجواب هذا أن يقال له الماء حياة كل شيء فقد رأينا
من يقتله الماء إذا أخذه على ما يصادف من علة في البدَنِ ، وقد رأينا شفاء
العسل في أكثر هذه الأشربة ، لأن الجَلَّاب والسكنجيين ، إِنما أصلهما
العَسَلُ ، وكذلك سائر المعجونات.
وهذا الاعتراض في أمر العَسَلِ إنما هو اعتراض جهلة لا يعرفون قدرة في النفع ، فأمَّا من عرف مقدار النفع فهو وإن كان من غير أهل هذه الملةِ فهو غير رافع أن في العَسَلِ شفاء.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
أي منكم من يكبر وُيسِن حتى يذهب عقله خَرَفاً فيصير بعدَ أنْ
كَانَ عَالماً جاهلاً ، والمعنى - واللَّه أعلم -
(لكيلا يَعْلم بعد علم شيئاً) أي ليريكم من قدرته أنه كما قدر على إمَاتَتِه وإحْيَائِه أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهْلِ.
وأعلم - عزَّ وجلَّ - أن الموتَ والحياةَ بيدِه ، وأن الإنسان قد

(3/211)


يَتَغَذًى بالأغذية التي يَتَعَمَّد فيها الغاية في الصلاح والبقاءِ ، فلا يقدِرَ أن
يزيدَ في مقدار مُدته شيئاً.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
أي قد فضل الله الملَّاكَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ ، فجعل المملوك لا يقدر عَلَى
مِلْكٍ مع مولَاه وأعلم أن المالك ليس يَرُدُّ على مملوكه من فضل ما في يده
حتى يستوي حالهما في المُلكِ.
وقيل لهم : إنكم كلكم من بني آدم ، وأنتم لا تسوون بينكم فيما ملكت أيمانكم ، وأنتم كلكم بَشرٌ.
فكيف تجعلون بعض الرزق الذي رزقكم اللَّه له ، وبعضَهُ لأصنامكم ، فتشركون بينَ اللَّهِ وبين الأصْنَامِ ، وأنتم لا تَرْضَوْنَ لأنفسكم فيمن هو مثلكم بالشركَة.
وقوله : (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
فيها وجهان : يجوز أن يكون " ، أفَبِانْ أنْعَمَ الله عليكم اتًخَذْتُمْ النعم
لتجحدوا وتشركوا به الأصنام . وجائز أن يكون (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ)
أفبما أنعم اللَّه عليكم بأن بَين لكم ما تحتاجون إليه تجحدون.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
جاء في التفسير أن الله خلق حَواءَ مِنْ ضِلع من أضلاع آدم ، فهو معنى
جعَل لكُمْ من أنْفُسَكُمْ أزواجاً أي من جنسكم.
وقوله : (وَجَعَلَ لكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وحَفَدَة).
اختلف الناس في تفسير الحَفَدَة ، فقيل الأولاد ، وقيل البنات وقيل
الأختان ، وقيل الأصْهَارُ ، وقيل الأعْوَانُ.
وحقيقة هذا أن اللَّه عزَّ وجلَّ جعل

(3/212)


من الأزواج بنين وَمَنْ يعاوِنُ على ما يحتاج إليه بِسُرْعَةٍ وطاعةٍ ، يقال حَفَدَ
يَحْفِدُ حَفْداً وحَفَداً وحَفَدَاناً إذا أسْرع.
قال الشاعر :
حَفَدَ الولائدُ حولهن وأَسلمتْ . . . بأَكُفِّهِنَّ أَزمَّةَ الأَجْمالِ
معناهُ أسْرَعُوا في الخِدْمة.
* * *
وقوله : (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
أي لا تجعلوا لِلَّهِ مثلاً لأنه واحد لا مثل له ، جلَّ وعزَّ ، ولا إله إلَّا
هُوَ - عَز وَجَل . ثم ضرب لهم المثل فقال :
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
فأَعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما
مقتدراً على الإنفاق مالكاً والآخر عاجزاً لا يقدر على أنْ ينفق لا يستويان.
فكيف بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تَعْقلُ وَبَيْنَ الله عزَّ وجلَّ الذي هو على
كل شيء قديرٍ ، وهو رازقٌ جميع خلقه ، فبين لهم أمْرَ ضلالتهم وبُعْدِهم عن
الطريق في عبادتهم الأوثان ، ثم زاد في البيان فقال جلَّ وعزَّ :
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
والأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يُبْصِر ولا يَعْقِل ، ثم قال :
(وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ).
أي على وَليِّه
(أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(3/213)


أي هل يستوي القَادر التام التمييز والعاجز الذي لا يحس ولا يأتي
بخير ، فكيف يسوون بين اللَّه وبين الأحجار.
* * *
وقوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
ومعناه - واللَّه أعلم - : وَلِلَّهِ عِلْمُ غيبِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ
(وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).
والساعةُ اسم لإمَاتَةِ الخَلق وإحْيائِهِمْ.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن البَعْثَ والإحْيَاءَ في قدرته ومشيئته (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس يريد أنَّ الساعةَ تأتي في أقربَ من لمح البصر ، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
و (إِمَّهَاتِكُمْ) - بالكسر - ، والأصل في الأمَّهَاتٍ " أُمَّاتٌ ، ولكن الهاء زيدت مُؤَكدةً كما زادوا هاء في قولهم أهْرَقْتُ الماءَ ، وإنما أصله أرقت الماء.
والأفئدة جمع فؤاد مثل غراب وأغربة.
ولم يجمع فؤاد على أكثر العَدَدِ ، لَمْ يُقَلْ فِئْدان ، مثل غُرْابٍ ، وَغِرْبَانٍ.
ثم دلهم - سبحانه - على قُدْرَتِه عَلَى أمْرِ السَّاعَةِ بما شاهدوا من تدبيره
فقال - :
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
(جَوِّ السَّمَاءِ) الهَوَاءُ البعيدُ من الأرض ، وأبعد منه من الأرض السُكاكُ.
ومثل السُّكَاكِ اللوح ، وواحد السُّكَاكِ سُكاكة.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

(3/214)


أي مَوْضِعاً تسكُنُونَ فِيه.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا).
والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم
وقوله : (تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ).
معنى تستخفونها ، أي يخف عليكم حَمْلُها فيْ أسفاركم وإقَامَتِكُمْ.
ويقرأ (يومَ ظعنِكُمْ) ، وظَعَنِكُمْ.
(وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ).
الأوبار للِإبل ، والأصواف للضأنِ ، والأشعار للمعزِ.
والأثَاثُ متاعُ البيتِ ، ويقال لمتاع البيت أيضاً ، الأهَرَة ، ويقال : قد أثَّ يئيث أثًّا إذا صار ذا أثَاثٍ.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
أي جعل لكم من الشجر ما تَسْتَظِلونَ بِه
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا).
واحد الأكنان كِن ، على وَزْنِ حِمْل وأحْمَال ، ولا يجوز أن يكونَ
واحدها كناناً ، لأن جمع الكنان أكنة . أي جعل لكم مَا يُكنِكمْ.
(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ).
كل ما لَبسْتَه فَهو سربالٌ . من قميص أو دِرْع أو جَوْشَنن أو غيرِه ، قال
الله عزَّ وجلَّ : (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) ، وقال (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل تقيكم
البردَ لأن ما وَقَى من الحر وَقى من البردِ .

(3/215)


وقوله : (وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ).
أي جعل لكم دُرُوعاً تَتقُون بها في الحروب مِنَ بأسِ الحَدِيد وَغيره.
وقوله : (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).
أكثر القراء تُسْلِمُونَ ، ويقرأ لعلكم تَسْلَمُونَ ، أيْ لعلكُم إذَا لبستم
الدروع في الحرب سَلِمْتُمْ من الجِرَاحِ ، ثم قالَ بَعْدَ أنْ - بيَّنَ لهم الآيات :
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
أي عليك أن تبلغ الرِسالة وتأتي بالآيات الدالة على النبوة.
* * *
وقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
أي يعرفون أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق ثم ينكرون ذلك.
* * *
وقوله : (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
أي لما رأى الذين أشركوا ما كانوا يشركون باللَّه غيْر نَافِعهِمْ وجحَدَتْهُمْ
آلِهَتُهُمْ كما قال الله جلَّ وعزَّ : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82).
* * *
وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
روِي في التفسير أن الَّذِي زيدوا عقاربُ لها أنيابٌ كالنَحْلِ الطِوَالِ.
وقيل أيضاً : إنهم يخرجون من حَرِّ النار إلى الزَمْهَرِير ، فَيُبَادِرونَ من شدة برده
إلى النَّارِ.
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
كل نبي شاهدٌ عَلَى أمَّتِه ، وهوأعدل شاهِدٍ عليها.
وقوله : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).

(3/216)


تبيان : اسم في معنى البيان ، ومثل التِّبْيَان التِّلْقَاء ، وَلَوْ قُرِئَتْ تَبْياناً على
وزنِ تَفْعَال لكانَ وجهاً ، لأن التَبيانَ في معنى التَبْيِينَ ، ولا تجوز القراءة به لأنه
لم يَقْرا به أحَد من القُراء.
* * *
وقوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
(وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا).
يقال : وكَدتُ الأمْر ، وأكَّدْتُ الأمْرَ . لغتان جَيِّدَتَانِ ، والأصل الوَاوُ.
والهمزة بدل منها.
* * *
وقوله : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
(أنْكَاثاً) منصوب لأنه في معنى المصْدَرِ لأن معنى نكثت نقَضْتُ ، ومعنى
نقضت نكثت ، وواحد الأنقاض نِكث وهو ما نُقِضَ بعْدَ أن غزل.
قال الشاعر :.
ترعيَّةً تعرفُ الأرباعَ ضجعَتُه . . . له نِكَاث مِنَ الأنجادِ والفضلِ
وقوله : (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ).
أي غِشا بينكم وَغِلًّا . و (دَخَلًا) منصوب لأنه مفعول له.
المعنى : تتخذون أيمانكم للغش والدَّخَل ، وكل ما دَخلهُ عيبٌ قيل هو مَدْخول ، وفيه دَخَل.
وقوله : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ).
لتغتز إحْداهمَا بالأخرى ، وأربى مأخوذَ من رَبَا الشيء يَرْبُو إذا كثر.
* * *
وقوله : (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
يقال نفِد الشيء ينْفَدُ نفاداً ونَفَداً إذا فَنِيَ .

(3/217)


وقوله : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
قيل لَنَرْزُقنه حلَالاً ، وقيل (حَيَاةً طيبةً) الجنةُ.
وَمَوضع : (أرْبى) رَفْع. المعنى : أن تكون أمة هِيَ أكثرُ مِنْ أمةٍ.
وزعم الفراء أن موضع (أرْبَى) نصب و " هِيَ " عمادٌ ، وهذا خطأ ، " هي " لا تدخل عماداً ولا فَصْلاً مع النِكرات.
وشبههُ بقوله : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا).
و " تجدوه " الهاء فيه معرفة ، و (أمَّة) نكرة.
* * *
وقوله : (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
معناه إذَا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ باللَّهِ من الشَيطَان الرجيم ، ليس
معناه استعذ باللَّهِ بعد أن تقرأ ، لأن الاستعاذة أمِرَ بها قبلَ الابتداء ، وهو
مستعمل في الكلام ، مثله إذا أكلت فقل بسم اللَّه ، ومثله في القرآن :
(إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فالهيئة قبل الصلاة ، والمعنى إذا أرَدْتُم ذلك فافعلوا.
* * *
وقوله : (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
أي : إذا نسخت آية بآيَةٍ أخرى عليها فيها مَشَقة.
(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ).
أي قالوا قد كذبتنا.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

(3/218)


أي : إنما يفتري الكذب الذِين إذا رَأوُا الآيَاتِ التي لا يقدِرُ عليها إلا اللَّهُ
كذبُوا بها ، فَهؤلاء أكذَبُ الكَذَبَةِ.
* * *
قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(106)
(مَنْ) في موضع رفع على البدل مِنَ الكاذِبينَ ومُفَسِّر عن الكاذبين.
ولا يجوز أن يكون (مَنْ) رَفعاً بالابتداء ، لأنه لا خبر ههنا للابتداء ، لأنَّ قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).
ليس بكلام تام ، وبعده :
(وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ).
فقوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) خبَرُ (مَنْ) التي بعد (لكن).
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ما يقولونه بينهِم.
وقوله : (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ).
ويُقْرأ " يَلْحِدُونَ " ، أي لِسَانُ الذي يميلُون القَوْلَ إليه أعجمي.
وقيل هذا غُلَام كان لحُويطب اسمُهُ عَايِش ، أسلم وحسن إسْلاَمُه .

(3/219)


(وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).
يقال : عَرَبَ الِإنسان : يَعْرُبُ عُروبيَّةً وَعَرابةً وعُروبةً.
وقوله : (مُبِينٌ).
وصفه بالبيان كما وصفه بأنًه عَرَبِيٌّ ، ومعنى عربيّ أن صاحبه يتكلم
بالعَربية وَمَعْنَاهُ مُعْربٌ : (مُبِينٌ).
* * *
وقوله : (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
" أنَّ " يصلح أن تكون في موضع رَفِع على أنَّ " لَا " رَدٌّ للكلام ، والمعنى
وجب أنَّهُمْ ، ويجوز أن تكون " أن " في موضع نَصْبٍ على أن المعنى جَرَمَ
فِعْلُهُمْ هذا أنهم في الآخرةِ همُ الخَاسِرُونَ . ومعنى جَرَمَ كَسَب ، والمجرم
الكاسِبُ ، وأكثر ما يستعمل للذنوب.
* * *
وقوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
أي من بعد الفَعْلِةِ التي فعلوها . وهذه الآية في قصة عمَّا ربن ياسِر
وأصحابه حين عذبَهُمْ أَهْلُ مَكًةَ فأَكْرَهُوهم على أن تركوا الإيمان ، وكفروا
بألسنتهم وفي قُلُوبهم ونيَّاتهم الإيمانُ ، ثم هربوا منهم وهاجروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحقهم جمع من أَهل مكة فقاتلوهم حتى نجَّاهم الله منهم ، وصبروا على جهادهم.
* * *
وقوله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

(3/220)


(يوم) منصوب على أحدِ شيئين ، على معنى (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، يَوْمَ تأتي)
ويجوز أن يكون بمعنى اذْكر لأن معنى القرآن العِظَة والِإنْذَارُ والتذكِير.
أي اذكر يوم تأتي كل نفس أي كل إنسانٍ يُجَادِلُ عن نفسه.
ويروى أنه إذا كان يومُ القيامة زَفَرَتْ جهنَّمُ زَفْرةً فلا يبقى ملك مقَرَّبٌ
ولا نبى مُرْسَلٌ إلا جَثَا عَلَى رُكبَتَيه ، وقال يا رب نَفْسِي نَفْسِي ، وتصديق هذا قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) . . الآية.
* * *
وقوله : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
المعنى - واللَّه أعلم - وضرب الله مَثَلاً مثلَ قريةٍ كانت آمنَةً مطْمئنةً.
(يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ).
أي وَاسِعاً من كل مكان.
الذي جاء في التفسير أنه . يعني بها مكة ، وذلك أنهم كانوا قد أمنوا
الجُوعَ والخوفَ لأن اللَّه جل ثناؤه جَعَلَ أفْئِدَةً من الناس تهوي إليهم.
فأرْزَاقُهُمْ تَأتيهم في بلدهم وكان حَرَماً آمِناً ويُتَخَطف الناس من حولهم.
(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).
وقد جاعوا حتى بلغوا إلى أن أكلوا الوبر بالدَّم ، وبلغ منهم الجوع
الحال التي لا غَايَةَ بعْدَها . وأنْعُم جمع نعمة ، وقالوا شِدَّة ، وأشُدّ.
وقال قطرب : جائز أن يكون جمع نُعْم وأنْعُم ، مثل بُؤْس وأَبْؤُس.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
عَذبهمُ اللَّهُ بالسيف والقَتْلِ.
__________
(1) قال السَّمين :
وقوله : { بِأَنْعُمِ الله } أتى بجمعِ القلَّةِ ، ولم يَقُلْ « بِنِعَمِ الله » جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى.
و « أنْعُم » فيها قولان ، أحدُهما : أنها جمعُ « نِعْمةٍ » نحو : شِدَّة : أَشُدّ . قال الزمخشري : « جمعُ » نِعمة « على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع » . وقال قطرب : « هي جمع نُعْم ، والنُّعْمُ : النَّعيم ، يقال : » هذه أيامُ طُعْم ونُعْم « . وفي الحديث : » نادى مُنادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْسِم بمنى : « إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا ». اهـ (الدر المصون).

(3/221)


وقوله : (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
في الكذب ثلاثة أوجه (1) ، قُرئت الكَذِبَ ، وقرئت الكُذُبُ ، وقرِئَتِ
الكذبِ ، فمن قرأ - وهُوَ أكثرُ القِرَاءَةِ - الكذِبَ فالمعنى : ولا تقولوا لوصفَ ألسنتكم الكذِبَ : (هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ).
ومن قرأ الكذبِ كان رَدًّا على مَا المعنى : ولا تقولوا لِوصْفِ ألسنَتِكُمُ الكذب . ومن قرأ الكُذُبُ فهو نعتُ للألسنة ، يقال لِسَان كذُوبٌ وألْسِنَة كُذُوبٌ.
وهذا إنما قيل لهم لِمَا كانوا حَرمُوه وأحَلوه ، فقالوا : (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا).
وقد شرحنا ذلك في موضعه.
* * *
وقوله : (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
المعنى مَتاعهم هذا الذي فعلوه متاعِ قليل.
ولو كان في غير القرآن لجاز فيه النَّصْبُ : متاعاً قليلاً ، على أن المعنى يَتمتعُونَ كذلك مَتَاعاً قليلاً.
* * *
وقوله : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(120)
جاء في التفسير أنه كان آمَنَ وَحْدَهُ ، وفي أكثر التفسير أنه كان مُعلِّماً
للخير وإمَاماً حَنِيفاً قيل أخِذَ بالخِتَانَةِ.
وحقيقته في اللغة أن الحنيف المائل إلى الشيء لا يزول عنه أبداً ، فكان عليه السلام مائلاً إلى الِإسلام غير زائل عنه.
وقالوا في القانِتِ هو المطيع ، والقانِتُ القائم بجميع أمر الله - جلَّ وعزَّ -.
وقوله : (وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ).
(لَمْ يَكُ) أصلها لم يكن ، وإنما حُذفَتِ النونُ عند سيبويه لكثرة استعمال
هذا الحرف ، وذكر الجلة من البصريين أنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال ، وأنها عبارة عن كل ما يَمْضي من الأفعال وما يُستَانَفُ ، وأنها مع ذلك قد أشبهت
__________
(1) قال جار الله الزمخشري :
وانتصاب { الكذب } بلا تقولوا ، على : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم { مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه ، واللام مثلهافي قولك : ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام.
وقوله : { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بدل من الكذب.
ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام.
ولك أن تنصب الكذب بتصف ، وتجعل «ما» مصدرية ، وتعلق { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بلا تقولوا : على ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ، أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم ، لا لأجل حجة وبينة ، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة.
فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟
قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال.
وعينها تصف السحر.
وقرىء : «الكذب» بالجرّ صفة لما المصدرية ، كأنه قيل : لوصفها الكذب ، بمعنى الكاذب ، كقوله تعالى { بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] والمراد بالوصف : وصفها البهائم بالحل والحرمة.
وقرىء : «الكذب» جمع كذوب بالرفع ، صفة للألسنة ، وبالنصب على الشتم.
أو بمعنى : الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً ، ذكره ابن جني.
ا هـ (الكشاف. 2 / 640 - 641)

وقال السَّمين :
قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } : العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ . وفيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه « تَصِفُ » و « ما » مصدريةٌ ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله { هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } و { لِمَا تَصِفُ } علةٌ للنهي عن القول ذلك ، أي : ولا تقولوا : هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لأجل وَصْفِ ألسنتِكم الكذبَ ، وإلى هذا نحا الزجَّاجُ والكسائيُّ ، والمعنى : لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ.
الثاني : أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ ، ويكون قوله : { هذا حَلاَلٌ } بدلاً مِنَ « الكذب » لأنه عينُه ، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ ، أي : فيقولوا : هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ ، و { لِمَا تَصِفُ } علةٌ أيضاً ، والتقديرُ : ولا تقولوا الكذب لوصفِ ألسنتِكم . وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ ، وذلك : أن القولَ يَطْلُبُ « الكذب » و « تَصِفُ » أيضاً يطلبه ، أي : ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ.
الثالث : أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على « ما » إذا قلنا : إنها بمعنى الذي؛ التقدير : لِما تصفُه ، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء . الرابع : أن ينتصبَ بإضمار أعني ، ذكره أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، ولا معنى عليه.
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ « الكذبِ » بالخفضِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من الموصولِ ، أي : ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو . والثاني : ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً ل « ما » المصدرية . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ ، لا يُقال « يعجبني أن تخرجَ السريعُ » ولا فرقَ بين هذا وبين باقي الحروفِ المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال ، ورفعِ الباءِ صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر ، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف ، أو جمع « كِذاب » نحو : كِتاب وكُتُب.
وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك ، إلا أنَّه نصب الباءَ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، ذكرها الزمخشري . أحدُها : أن تكونَ منصوبةً على الشتم ، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها . الثاني : أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب ، يعني أنها مفعولٌ بها ، والعامل فيها : إمَّا « تَصِفُ » ، وإمَّا القولُ على ما مرَّ ، أي : لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ . الثالث : أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك « كَذِب كِذاباً » يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتاب ، وقد قرأ الكسائيُّ : { وَلاَ كِذَاباً } بالتخفيف كما سيأتي في النبأ. اهـ (الدر المصون).

(3/222)


حُرُوفَ اللين لأنها تكون عَلَامةً كما تكون حروف اللين عَلامةً ، وأنها غُنة
تخرج من الأنف . فلذلك احتملت الحذف.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
الكلام يَدُل على أنهم ألزموا آيَة نبوة موسى عليه السلام.
وجاء في التفسير أنه حرمَهُ بعضُهم وأحلَّه بَعضُهم.
وهَذَا أدَلُّ ما جاء من الاختلاف في السبت ، وقد جاء كثير في التفسير أنهم أُمِرُوا بأن يَتَّخِذُوا عِيداً فخالفوا وقالوا نريد يوم السبت لأنه آخر يوم فرغَ فيه من خَلْق السَّمَاوَات والأرض ، وأن عِيسَى أمر النصارى أن يَتَخِذوا الجمعة عيداً فقالوا لا يكون عيدُنا إلا بَعْدَ عِيد إليهودِ فجعلوه الأحَدَ ، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.
* * *
وقوله : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(125)
جاء في التفسير : (الْحِكْمَة) النبوة ، و (الموعظة) القرآنُ.
(وَجَادِلهُمْ بالتي هِي أحْسَنُ).
أي جادلهم غير فَظ ولَا غَليظِ القَلْب في ذلك . ألِنْ لَهُم جَانِبَكَ.
* * *
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
سُمِّيَ الأولُ عقوبةً ، وإنما العقوبة الثاني - لازدواج الكلام لأن الجنسين
في الفعل معنى واحد . ومثله : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثاني ليس بِسيئَةٍ
ولكنه سُمِّيَ به ليتفق اللفظ ، لأن معنى القتل وَاحِد وقد بَيَّنَّا نظير هذا في سورة آل عمران في قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ).
وجاء في التفسير أن المسلمين هَمُّوا بأن يمثِّلوا بالمشركين ، لأنهم كانوا

(3/223)


قد مَثَّلوا بهمْ ، فَهَمَّ المسلمون بأن يزيدوا في المُثْلَةِ ، فأمروا بأن لا يزيدوا
وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون معنى : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)
أي من فُعِلَ به ما يَجِبُ فِيه القِصَاصُ فلا يُجَاوِز القِصَاصَ إلا بِمثلٍ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).
هو مثل قوله : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
* * *
وقوله : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
ضَيْق ، في معنى ضَيِّق مخَفَف ، مثل مَيْتَ وميِّتٍ . وجائز أن يكون
بمعنى الضِّيقِ ، فيكون مصدراً لقولك ضاق الشيء يضيق ضَيْقاً.
* * *
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
أي إن اللَّهَ نَاصِرُهُمْ ، كما قال : (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
فقد وَعَدَ في هذه الآيَةِ بالنَّصرِ .

(3/224)


سورة الإسْرَاءِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله - عزَّ وجلَّ - (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
(1)
(سبحان) منصوب على المصدر ، المعنى : أسبح الله تسبيحاً.
ومعنى سبحان اللَّه في اللغة تنزيه اللَّه عن السوء ، وكذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (أسْرَى بعَبْده لَيْلاً).
معناه سَير عبدَه ، يقال أسْرَيْتُ وسَرَيْتُ إذَا سِرْتُ ليْلاً ، وقد جاءت
اللغتان في القرآن ، قال اللَّه جلَّ وعزَّ : (واللَّيْلِ إذَا يَسْرِ) هذا من سَرَيْتُ
ومعنى يَسْرِي يمضي.
أسرى اللَّهُ سبحانه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام وهو مكة ، والحرم كله مسجد ، فأسرى الله به في ليلة واحدة من المسجد الحرام من مكة إلى بيت المقدس وهو قوله - جلَّ وعزَّ : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).
أجرى اللَّه حول بيت المقدس الأنهار وأنبت الثمار ، فذلك مَعْنَى باركنا
حوله .

(3/225)


(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا).
أي لِنُرِيَ محمداً.
فأراه الله في تلك الليلة من الأنبياء ، وآياتهم ما أخْبَرَ بِه في غَدِ تلكَ
الليلة أهلَ مكةَ فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لنا في طريق الشام إبلاً فأخبرنا خبرها ، فَخَبَّرهُم بخبرها ، فقالوا فمتى تقدم الإِبل علينا ، فأخبرهم أنها تَقدُمُ في يوم سَمَّاهُ لهُمْ مع شروق الشمس ، وأنه تقدمها جمل أورق ، فخرجوا في ذلك اليوم ، فقال قائل : هذه الشمس قد أشرقت ، وقال آخر فهذه الِإبل قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمنوا بعد ذلك.
* * *
وقوله : (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
أي دللناهم به على الهدى.
(أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا).
أي لا تتوكلوا على غيري ولا تتخذوا مِنْ دُونِي رَبًّا.
* * *
وقوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
القراءة بنصب (ذُرِّيَّةَ) . وقرأ بعضهم (ذِرِّيَّةَ) - بكسر الذال - والضم أكثر.
وذُرِّية فُعْليَّة من الذر ، وهي منصوبة على النداء ، كذا أكثرُ الأقوالِ
المعنى : يا ذُرِّيَّةَ من حملنا مع نوح.
وإنما ذكروا بنعم اللَّه عندهم أنه أنجى أبناءهم من الغرق بأنهم حملوا مع نوح . ويجوز النصب على معنى ألا تتخِذُوا (ذُرِّيَّةً) من حملنا مع نوحٍ من دوني وكيلاً ، فيكون الفعل ، تعدى إلى الذريَّة وإلى الوكيل ، تقول : اتخذت زيداً وكيلاً ، ويجوز (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) على معنى :
(وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ).
ويجوز الرفعُ في (ذُرِّيَّة) على البدل من الواو ، والمعنى (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي لا تتخذوا من دوني وَكيلًا (ذُرِّيَّةُ) ، ولا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت بها

(3/226)


رواية صحيحة ، فإن القراءة سنة لا يجوز أن ثخالف بما يجوز في العربية.
* * *
وقوله : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
معناه أعلمناهم في الكتاب ، وأوحينا إليهم ، ومثل ذلك قوله : (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ).
ومعناه وأوحينا إليه.
وقوله : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) معناه خلقهن وفرغ
منهن ، ومثل هذا في الشعر قوله :
وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
معناه عملهما.
وجملة هذا الباب أن كل ما عُمِلَ عَمَلاً محكماً فقد قضِيَ ، وإنما قيل للحاكم قاض لأنه إذا أمر أمراً لم يُرَدَّ أمْره ، فالقضاء قَطْع الأشياء عن إحْكامٍ.
والمعنى إنا أوحينا إليهم لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا،.
معناه لَتَعْظٌمُنَ ولَتَبْغنَّ ، لأنه يقال لكل متجبِّرٍ قَدْ عَلَا وتعظَّمَ.
* * *
وقوله : (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
المعنى فإذا جاء وعد أُولى المرتين.
(بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ).
يروى أنه بعث عليهم بختنصر.
(فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ).
أي فطافوا في خلالِ الديارِ ينظرون هل بقي أحد لَمْ يَقْتلوه ، والجَوْس
طلب الشيء باستقصاء .

(3/227)


وقوله : (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
أي رددنا لكم الدولة.
(وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).
أي جعلناكم أكثر منهم نُصَّاراً ، ويجوز أن يكون نفيراً جمع نَفْرٍ كما
يقال : العبيد والكليب والضّئين والمعيز.
و (نَفِيرًا) منصوب على التَمييز.
* * *
وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ).
وتقرأ (لِيَسُوءَ وجُوهَكُمْ) (1)
المعنى فإن جاء وعد الآخرة ليسوء الوعدُ وجُوهَكم.
ومن قرأ (لِيَسُوءُوا) فالمعنى ليسوء هؤلاء القومُ وجوهكم.
وقد قرئت (لَنَسُوءً وُجُوهَكُمْ) - بالنون الخفيفة - ومعناه لَيَسُوء الوعدُ وجوهَكم ، والوقف عليها لَيُسُوءًا . والأجود ليسوءَ بغير نونٍ ، وليسُوءُوا . ويجوز : لِيَسُوءْ وجوهكم ، ويكون الفعل للوَعْدِ على الأمر ، ولا تقرأ به ، ويجوز لِنَسوءَ بالنون في موضع الياء.
وقوله : (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).
معناه ليُدَمِّرُوا ، ويقال لكل شيء منكسر من الزُّجَاجِ والحديد والذَّهَبِ
تِبْرٌ ، ومعنى (مَا عَلَوْا) أي ليُدَمِّرُوا في حَالِ عُلُوِّهِمْ عليكم.
* * *
وقوله : (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
(وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)
معناه حَبْساً ، أخِذَ من قوله : حصرتُ الرَّجُلَ إذَا حَبَستُه فهو محصور
وهذا حَصِيرُهُ أي مَحْبِسُهُ ، والحصير المنسوج إنما سميَ حصيراً لأنه حصرت
__________
(1) قال السَّمين :
وقوله : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر « لِيَسُوْءَ » بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل . والفاعلُ : إمَّا اللهُ تعالى ، وإمَّا الوعدُ ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النفيرُ . والكسائيُّ « لِنَسُوءَ » بنونِ العظمة ، أي : لِنَسُوءَ نحن ، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه « بَعَثْنا عباداً لنا » و « رَدَدْنا » و « أَمْدَدْنا » ، وما بعده من قوله : « عُدْنا » و « جَعَلْنا ».
وقرأ الباقون : « لِيَسُوْءُوا » مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد ، أو على النفير؛ لأنه اسمُ جمعٍ ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ } . وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين ، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم؟ اللهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه ، من بابِ « عندي درهمٌ ونصفُه ».
وقرأ أُبَيٌّ « لِنَسُوْءَنْ » بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة ، وهذا جوابٌ ل « إذا » ، ولكن على حَذْفِ الفاء ، أي « فَلِنَسُوْءَنْ ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى : { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ].
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب » لَيَسُوْءَنَّ « و » وَلَنَسوْءَنَّ « بالياء أو النون التي للعظمةِ ، ونونِ التوكيدِ الشديدة ، واللامِ التي للقسَمِ . وفي مصحف اُبَيّ » لِيَسُوْءُ « بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة ، كقوله :
3031- فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : » كانوا « . وقولِ الآخر :
3032- إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد » جاعُوا « ، فكذا هذه القراءةُ ، أي : لِيَسُوْءُوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فَحَذَفَ الوَاو.
وقرئ » لِيَسْيء « بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ اللهُ وجوهكم ، أو ليقبِّح الوعدُ ، أو البعثُ . وفي مصحفِ أنس » وَجْهَكم « بالإِفرادِ كقوله :
3033- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وكقوله : ]
3034- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا
[ وكقوله : ]
3035- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ.
اهـ (الدر المصون).

(3/228)


طاقاته بعضها مع بعفى . والجَنْبُ يقال له الحصير لأن بعض الأضلاع محصورٌ
مع بعض.
* * *
وقوله : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
أي للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد اللَّه - عزَّ وجلَّ - أي
شهادة أن لَا إلهَ إلا اللَّه والإيمان بِرُسلِهِ ، والعملُ بطاعتِه ، وهذه صفة الحال
التي هي أقوم الحالات.
* * *
وقوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
المعنى أن الإنسان رُبَّما دَعَا على نفسه وولده وأهله بالشرِ غَضَباً كما
يدعو لنفسه بالخير ، وهذا لم يُعَرَّ منه بشرٌ.
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع إلى سَوْدةَ بنت زَمْعَةَ أسيراً ، فأقْبَلَ يئن باللَّيْلِ، فقالت له : ما بالُك تَئِن فشكا ألَمَ القَيدِ والأسْرِ.
فأرْخَتْ مِن كِتَافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا به فأعلم شأنه ، فقال اللهم اقطع يديها ، فرفعت سودة يديها تتوقع الاستجابة ، وأن يقطع الله يديها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني سألت الله أن يجعل دعائي ولعْنتي على من لا يستحق من أهلي رحمةً ، فقولوا لها لأني بَشرٌ أغضب كما يغضب البشر لْتَردُدْ سودة يديها . فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الإنسان خلق عجولاً ، فهذا ضلق عليه جملةُ البشَرِ من آدم إلى آخر ولده.
والإنسان ههنا في معنى الناس.
__________
(1) الرواية لعائشة وليست لسودة بنت زمعة - رضي الله عنهما -
وهذا نصها عند الإمام أحمد
23125 - حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسِيرٍ فَلَهَوْتُ عَنْهُ فَذَهَبَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا فَعَلَ الْأَسِيرُ قَالَتْ لَهَوْتُ عَنْهُ مَعَ النِّسْوَةِ فَخَرَجَ فَقَالَ مَا لَكِ قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ أَوْ يَدَيْكِ فَخَرَجَ فَآذَنَ بِهِ النَّاسَ فَطَلَبُوهُ فَجَاءُوا بِهِ فَدَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ فَقَالَ مَا لَكِ أَجُنِنْتِ قُلْتُ دَعَوْتَ عَلَيَّ فَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ أَنْظُرُ أَيُّهُمَا يُقْطَعَانِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَطُهُورًا".

(3/229)


وقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
أي علامتين يدلان على أن خالقهما واحد ليس كمثله شيء وتدلان على
عدد السنين والحساب.
(فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ).
أي جعلنا آية الليل دليلة عليه بظلمتِه.
(وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ).
أي جعلناها تضيء لكم لتبْصِروا كيف تَصَرَّفًونَ في أعمالكم
(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ).
وُيرْوَى أن القمر كان في ضياء الشمس فمحا اللَّه ضياءه
بالسواد الذي جَعَلَ فيه.
(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا).
أي بَيَّنَاهً تَبييناً لا يلتبس مَعَه بغيره ، والاختيار النَّصْبُ في . " كلَّ ".
المعنى في النصب : لِتَبْتَغُوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين ، وفصلنا كل شيء تفصيلاً.
و (كلَّ) منصوب بفعل مضمر الذي ظهر يفَسِّرهُ ، وهو (فصلْنَاهُ)
ويجوز (وَكلُّ شَيْءٍ فصلناه تفصيلاً).
وكذلك النصْب والرفع في قوله : (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)
إلا إني لا أعلم أحداً قرأ بالرفع.
وجاء في التفسير : طائره ، أي خَيْرُه وشَرُّه ، وهو - واللَّه أعلم - ما يُتَطيَّر
من مثله من شيء عمله كما قَالَ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وكما يُقال للِإنسان إثْمِي في عُنُقِك ، وإنما يقال للشيء اللازم له : هذا في عُنق الِإنْسَان ، أي لُزُومه له كلزوم القلادة له من بين ما يُلبس في العنق.
(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)

(3/230)


وفي هذه أربعة أوجه : وتُخْرَجُ له ، ويُخْرِجُ له ، أي ويُخْرِجُ اللَّهُ لَه.
ويُخْرُجُ له . أي ويُخْرُجُ عملهُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كتاباً ، وكذلك يخْرَج له
عمله يوم القيامة.
(كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) منصوب على الحال.
وقوله : (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
(بنفسك) في موضع رفع ، وإن كان مجروراً بالباء ، ولو كان في غير
القرآن جاز . . كفى بنفسكَ اليوم حسيبة ، والمعنى كفت نفسك حسيبة ، أي إذا كنت تشهد على نفسك فكفاك بهذا.
و (حَسِيبًا) منصوب على التمييز.
* * *
وقوله : (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)
يقال : وَزَرَ يَزِرُ فهو وَازر وَزْراً ، وَوِزْراً ، وزِرَة ، ومعناه أثِمَ يَأثَمُ إثماً.
وفي تأويل هذه الآية وجهان : أحدهما أن الآثِمَ والمُذْنِبَ ، لا يؤخذ
بذنبه غيرُهُ ، والوجه الثاني أنه لا ينبغي للإنسان أن يعمل بالإثم لأن غيره عمله
كما قالت الكفار : (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).
وقوله : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
أي حتى نبين ما به نُعَذبُ ، وما من أجْله نُدْخِلُ الجنةَ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
تقرأ أمَرْنَا مخففَةً على تقدير فعلنا (1) ، وتقرأ آمرنا مترفيها على تقدير أفعلنا.
ويقرأ أمَّرْنا - بتشديد الميم - ، فأما من قرأ بالتخفيف فهو من الأمر ، المعنى
أمرناهم بالطاعة ففسقوا.
فإن قال قائل : ألست تقول : أمرت زيداً فضرب عمراً ، فالمعنى أنك أمرته أن يضرب عمرا فضربه ، فهذا اللفظ لا يدل على
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { أَمَرْنَا } : قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ . ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ : فعن ابن عباس في آخرين : أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلٍ ، حاصلُه : أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه ، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ : الفسق ، أي : أَمَرْناهم بالفسق قال : « أي : أَمَرْناهم بالفِسْق ، فعملوا ، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم : افْسُقوا ، وهذا لا يكونُ ، فبقي أن يكونَ مجازاً . ووجهُ المجازِ : أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً ، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات ، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه ، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا ».
ثم قال : « فإنْ قلت : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه : أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا . قلت : لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ » فَفَسَقُوا « يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال : » أَمَرْتُه فَقام « ، و » أَمَرْتُه فَقَرأ « ، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ أو قراءةُ ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ ، ولا يَلْزَمُ [ على ] هذا قولُهم : و » أَمَرْتُه فعصاني « أو » فلم يمتثلْ « لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له ، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به ، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به ، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به ، فكأنه يقول : كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ ، كما أنَّ مَنْ يقول : [ » فلان ] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع « لا يَقْصِدُ مفعولاً . فإن قلت : هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد : أَمَرْناهم بالخيرِ ، قلت : لأنَّ قوله » فَفَسَقوا « يدافعه ، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه ، ونظيرُ » أمر « : » شاء « في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه . تقول : لو شاءَ لأحسنَ إليك ، ولو شاءَ لأساءَ إليك ، تريد : لو شاء الإِحسانَ ، ولو شاء الإِساءةَ ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ ، وقلت : قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان أو من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ ، لم تكنْ على سَدادٍ ».
وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال : « أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً ، وأمَّا قولُه : » لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ « فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه ، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه.
وقوله : « فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ » إلى « عِلْم/ الغيب » فنقول : حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه ، ومنه ما مَثَّل به في قولِه « أَمَرْتُه فقامَ » ، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار } [ الأنعام : 13 ] ، أي : ما سَكَنَ وتحرَّك ، وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبردَ ، وقول الشاعر :
3041- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً . . . أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي
أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ . . . أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني
أي : وأَجْتَنِبُ الشرَّ ، وتقول : « أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ » فليس المعنى : أمرتُه بعدم الإِحسانِ ، بل المعنى : أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ ، والآيةُ من هذا القبيل ، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره ، وكذلك « أَمَرْتُه فأساء إليَّ » ليس المعنى : أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان . وقوله : « ولا يَلْزم هذا قولَهم : » أَمَرْتُه فعصاني « . نقول : بل يَلْزَمُ . وقوله : » لأنَّ ذلك منافٍ « ، أي : لأنَّ العِصْيانَ منافٍ . وهو كلامٌ صحيح . وقوله : » فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ « لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض ، كما بَيَّنَّا . وقوله : » لا يَنْوِي مأموراً به « لا يُسَلَّم . وقوله : » لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه ، إلى آخره « قلنا : نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه ، » لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه . وقولُه : « ونظيرُ » أمر « » شاء « ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ » أمر « كَثُر التصريحُ به . قال الله [ تعالى ] : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } [ الأعراف : 28 ] { أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ يوسف : 40 ] { يَأْمُرُ بالعدل } [ النحل : 67 ] { أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ } [ الطور : 32 ] وقال الشاعر :
3042- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت : والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ.
والوجه الثاني : أنَّ » أَمَرْنا « بمعنى كَثَّرْنا ، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال : » وفسَّرَ بعضُهم « أَمَرْنا » ب « كَثَّرْنا » ، وجَعَلَه من بابِ : فَعَّلْتُه فَفَعَلَ ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر . وفي الحديثِ : « خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة » ، أي : كثيرةُ النِّتاج « . قلت : وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ ، يقال : أَمِر القومُ ، وأَمَرهم اللهُ ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة ، وقال أبو علي : » الجيِّد في « أَمَرْنا » أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا «.
واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره . يقال : أَمَرَ اللهُ المُهْرَة ، أي : كَثَّر ولدَها . قال » ومَن أنكر « أمرَ اللهُ القومَ » أي : كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً «.
ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال : أَمِر القومُ كَثُروا ، وأَمَرَهم الله كثَّرهم ، وهو من بابِ المطاوعة : أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك : شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع ، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ : « أَمِرْنا » بكسر الميم بمعنى « أَمَرْنا » بالفتح . حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال : « أَمَرَ اللهُ مالَه ، وأَمِرَه » بفتح الميم وكسرِها ، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في « لوامِحه » فكيف تُرَدُّ؟
وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين « آمَرْنا » بالمَدِّ ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ ، واختارها يعقوبُ ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟
وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي : « أمَّرْنا » بالتشديد . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ التضعيفَ للتعديةِ ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين ، كأَخْرَجْته وخَرَّجته . والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ ، واللازمُ من ذلك « أُمِّر » . قال الفارسيُّ ، « لا وجهَ لكون » أَمَّرْنا « / من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة » . وقد رُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به . ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق ، ثم كذلك كَثُر الفسادُ ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم . اهـ (الدر المصون).

(3/231)


غير الضرب ، ومثل قوله : أمَرْنا مُتْرفيها ففسقوا فيها . من الكلام : أمرتك
فعَصَيتني.
فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر ، وكذلك الفَسْقُ مُخَالَفَة أمْرِ اللَّه
جل ثناؤه.
وقد قيل : إنَّما معنى أمرنا مترفيها كَثَّرْنَا مترفيها ، والدليل علي هذا
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
" خير المال سِكَّةُ مأبورة ومُهْرة مَأمُورَة ".
أي مُكَثرَة ، والعرب تقول قَدْ أمِرَ بنو فلان إذَا كَثرُوا.
قال الشاعر :
إن يُغْبَطُو يَهْبطوا وَإن أمِروا . . . يوماً يصيروا للهلك والنَّفَد
ويروى بالنقد - بالقاف - ومن قرأ آمرنا فتأويله أكْثَرنا ، والكثرة ههنا
يصلح أن يكون شيئين ، أحدهما أن يكثر عدد المترفين ، والآخر أن تكثر
جِدَتُهم ويسَارُهُمْ.
ومن قرأ أمَّرنا بالتشدِيد ، فمعناه سَلَّطنَا مترفيها أي جعلنا
لَهُمْ إمْرةً وسلطانا .

(3/232)


وقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
أي أهلكنا عدداً كبيراً من القُرون ، بأنواع العذاب ، نحو قوم لوط وعاد
وثمود ومَن ذُكِرَ اسْمُه وقروناً بين ذلك كثيراً.
وموضع (كَمْ) النصب بقوله (أهْلَكْنَا).
* * *
وقوله : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
أي من كان يريد العاجلة بعمله ، أي الدنيا ، عجل اللَّه لمن أراد أن
يعجل له مايشاء اللَّه ، أي ليس مايشاء هو ، وما يشاء بمعنى ما نشاء.
ويجوز أن يكون المُضْمَرُ في نشاء " مِنْ " ، المعنى عجلنا للعبد ما يشتهيه ، إذا
أراد اللَّه ذلك.
وقوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ).
لأنه لم يرد اللَّهَ بعمله
(يَصْلَاهَا مَذْمُوماً).
ومذءوماَ في معنى واحد.
(مَدْحُوراً).
أي مباعَداً من رحمة اللَّه . يقال : دَحَرْتُه أدْحَرُه دَحْراً ودُحُوراً إذا باعدته
عنك.
ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن يعطي المسلم والكافِرَ وأنَّ يرْزُقُهما جميعاً
فقال :
(كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
(20)
أي نُمِدُّ المؤمنين والكافرين مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ.
* * *
وقوله سبحانه : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
معناه أمَر رَبُّك

(3/233)


وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
أي أمر أن يحسنوا بالوالدين
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا).
ترفع (أحدهما) بِـ (يَبْلُغَنَّ) ، و (كلاهما) عطف عليه.
ويقرأ : (يَبْلُغَانِّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) ، ويكون أحَدَهُمَا أو كلاهما بَدَل من الألف.
وقوله : (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ).
في قوله (أُفٍّ) سبع لغات : الكسر بغير تنوين ، والكسر بتنوين ، والضم
بغير تنوين ، وبتنوين ، وكذلك الفتح بتنوين ، وبغير تنوين ، وفيها لغة أخرى
سابعة لا يجوز أن يقرأ بها ، وهي " أُفِيّ " بالياء ، فأمَّا الكسر فلالتقاء السَّاكنين ، وأف غير متمكن بمنزلة الأصوات ، فإذا لم تُنَوَّن فَهي مَعْرِفة ، وإذا نُونَ فهو نكرة بمنزلة غاقٍ وغاقِ في الأصوات ، والفتح لالتقاء السَّاكنين أيضاً ، والفتح مع التضعيف حسن لخفة الفتحة وثقل التضعيفِ والضم ، لأن قبله مضمُوماً - حسن أيضاً ، والتنوين فيه كله على جهة النكرة.
والمعنى : لا تقل لهما كلاماً تتبرم فيه بهما ، ومعنى أفِّ النتن ، وقيل إن
أفَ وسخ الأظْفَارِ ، والتُّف الشيء الحقير نحو وسخ الأذان أو الشظية تؤخذ
من الأرض.
ومعنى الآية : لا تقل لهما ما فيه أذىً بتبرم ، أي إذا كبِرَا ، أو أسَنَّا
فينبغي أن تَتَولى من خِدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وبخدْمَتِكَ ، ولا تنهرهما بمعنى : لا تنتهرهما ، أي لا تكلمهما ضجراً صائحاً في أوجُهِهِما.
يقال نهرته أنهره نهراً ، وانتهرته أنتهره انتهاراً ، بمعنى واحِدٍ (1).
وقوله : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } قرأ الأخَوان « يَبْلُغانِّ » بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ ، أحدها : أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما ، و « أَحَدُهما » بدلٌ منه ، و « أو كِلاهما » عطفٌ عليه . وإليه نحا الزمخشريُّ وغيرُه . واستشكله بعضُهم بأنَّ قولَه « أحدُهما » بدلُ بعضٍ مِنْ كل ، لا كلٍّ من كل ، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك « أو كِلاهما » عطفٌ على البدلِ ، فيكونُ بدلاً ، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية . لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ « كِلاهما » فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه.
قلت : هذا معنى قولِ الشيخِ . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه ، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد ، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً . وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ « وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ :
3045- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ . . . ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال : » أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ كقوله : « وكنتُ . . . . » فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو ، وأيضاً فشرطُه : ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه ، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه ، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو « كلاهما » فليس من البدلِ المقسِّم « . ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله.
الثاني : أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و » أحدُهما « فاعلٌ بالفعلِ قبلَه ، و » أو كلاهما « عطفٌ عليه . وقد رُدَّ هذا الوجهُ : بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو : قاما أخواك ، أو إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو : » قاما زيد وعمرو « ، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِه سماعاً كقوله :
3046- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم
والفعلُ هنا مسندٌ إلى » أحدُهما « وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ.
الثالث : نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/ » كلاهما « توكيدٌ ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ ، وهو أن يُجْعَلَ » أحدُهما « بدلَ بعضٍ من كل ، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية ، ويقع » كلاهما « توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه : أو يَبْلُغا كلاهما ، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد ، وفيها خلافٌ ، أجازها الخليل وسيبويه نحو : » مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما « بالرفع والنصب ، فالرفعُ على تقديرِ : هما أنفسُهما ، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما ، ولكنْ في هذا نظرٌ : من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه ، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟
وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال : فإنْ قلت : لو قيل : » إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما « كان » كلاهما « توكيداً لا بدلاً ، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت : لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمِه ، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه ».
قلت : يعني أنَّ « أحدُهما : لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما ، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه.
ثم قال : » فإنْ قلتَ : ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً ، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت : لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل : « كلاهما » فحسبُ ، فلمَّا قيل : « أحدهما أو كلاهما » عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيرُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول «.
الرابع : أَنْ يرتفعَ » كلاهما « بفعلٍ مقدَّر تقديرُه : أو يبلغُ كلاهما ، ويكون » إحداهما « بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل . والمعنى : إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما.
وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ ، و » إن ما « : هي » إنْ « الشرطية زِيْدَتْ عليها » ما « توكيداً ، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه ، وهو إدغامٌ واجب . قال الزمخشري : » هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها « ما » توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون ، ولو أُفْرِدَتْ « إنْ » لم يَصِحُّ دخولُها ، لا تقول : إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ ، ولكن : إمَّا تُكْرِمنَّه.
وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه ، قال سيبويه : « وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب » ما « . قال الشيخ : » يعني مع النون وعَدَمِها « . وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد » أمَّا « ، وإن كان أبو إسحاقَ قال بوجوبِ ذلك . وقوله بعد ذلك » كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ ب « ما » ، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها.
و « عندك » ظرفٌ ل « يَبْلُغَنَّ » و « كِلا » مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً : فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً ، ووزنُها على فِعَل ك « مِعَى » وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في « كِلْتا » مؤنثَ « كِلا » هذا هو المشهور.
وقيل : ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ . وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله :
3047- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَنَطَق بمفرِدها- : هي مثنَّاة لفظاً ، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً ، فألفُها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف « الزيدان » ، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك ، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط ، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة.
وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى ، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون : رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك ، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في « شرح التسهيل ».
ومن أحكامِها : أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو : « كِلا الرجلين » ، أو معنىً لا لفظاً نحو : ، « كِلانا » ، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو : « كِلا زيد وعمرو » إلا في ضرورةٍ كقوله :
3048- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به . . . على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ
وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثنيةُ إلا في ضرورةٍ كقوله :
3049- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى . . . وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو : كلاهما قائمٌ ، وكلاهما ضربتُه ، ويجوزُ في قليل : قائمان ، وضربتُهما ، اعتباراً بمعناها ، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في قوله :
3050- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما . . . قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي
وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو : كِلانا كفيلُ صاحبِهِ ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ المعنى ، ويُستعمل تابعاً توكيداً ، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً . و « كلتا » في جميعِ ما ذُكِرَ ك « كِلا » ، وتاؤُها بدلُ عن واو ، وألفُها للتأنيث ، ووزنُها فِعْلى كذكرى . وقال يونس : ألفُها أصلٌ تأؤُها مزيدةٌ ، ووزنُها فِعْتَل . وقد رَدَّ عليه الناس ، وله موضعٌ غيرُ هذا . والنسب إليها عند سيبويه : كِلْوِيّ كمذكَّرِها ، وعند يونس : كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين.
قوله : « أُفٍّ » « أُفّ » اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر ، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي ، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك « أُفّ » وأَوَّه ، أي : أتوجَّع ، ووَيْ ، أي : أَعْجَبُ . وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابنُ عطية لفظةً ، بها تمت الأربعون ، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ : أُفُّ ، أُفَّ ، أُفِّ ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه ، أُفُ ، أُفَ ، أُفِ ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد ، أُفُّه أَفَّه أُفِّه ، أفَّا من غير إمالة ، وبالإِمالة المحضة ، وبالإِمالة بين بين ، أُفُّو أُفِّي : بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ : بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه ، إفَّا بالإِمالة.
وستٌ مع فتح الهمزة : أَفَّ أَفِّ ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، أَفْ بالسكون ، أفا بالألف . فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً ، وتمامُ الأربعين « أَفاهْ » بهاء السكت . وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة ، ومن كلامِ أهلِها ، إلى تتبُّع كثيرٍ ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ : « ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها » فذكرها ، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه ، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ ولله الحمدُ.
وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ : ثلاثٍ في المتواتر ، وأربعٍ في الشاذ ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين ، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء . وقرأ نافعٌ في روايةٍ : أُفٌ بالرفع والتنوين ، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين ، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين ، وابنُ عباس : « أفْ » بالسكون. اهـ (الدر المصون).

(3/234)


وتُقْرأ الذِّل - بكسر الذَّالِ - ومعنى (اخفضن لهما جناح الذل).
أي ألِنْ لهما جانبك مُتَذَلِّلاً لهما ، من مبالغتك في الرحمة لهما.
ويقال : رجل ذليل بين الذُلِّ ، وقد ذل يذِلُّ ذُلاً ، ودَابَّةٌ ذَلُول . بين الذل ، ويجوز أن جميعاً في الِإنسانِ.
* * *
وقوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
الأواب بمعنى التواب ، والراجع إلى الله في كل ما أمَر به ، المقْلِعُ عِن
جميع ما نهى عنه ، يقال قد آب يؤوب أوْباً إذَا رجع.
* * *
وقوله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا
(26)
(وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا).
معناه لا تسرف ، وقيل : التبذير النفقة في غير طاعة اللَّه ، وقيل كانت
الجاهلية تنحر الِإبل وتُبَذِّرُ الأموالَ ، تطلب بذلك الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها ، فأمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - بالنفقة في وُجُوهِهمَا فيما يُقَرِّبُ منه ويزلف عنده.
* * *
وقوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
أي يفعلون ما يسول لهم الشيطان.
* * *
وقوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
(عَنْهُم) هذه الهاء والميم يرجعان على ذي القُربى والمِسكين وابن
السبيل ، (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) ، أي وإن أعْرضت عَنهُمُ ، ابْتغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ، أي لطلب رزقٍ من ربك ترجوه
(فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا).
(ابْتِغَاءَ) منصوب لأنه مفعول له ، المعنى : وإن اعْرَضْتَ عنهم لابتغاء رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ.
وروي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سئل وليس عنده ما يعطى أمسك انتظار الرزق يأتي من اللَّه - جلَّ وعز - كأنَّه يكره الردَّ ، فلما نزلت هذه الآية : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا).
كان عليه السلام إذا سئل فلم يكن عنده ما يعطي قال : يَرْزُقنَا

(3/235)


اللَّهُ وإياكُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
فتأويل قوله : (مَيْسُوراً) واللَّه أعلم أنه يكسر عليهم فقرهم
بدعائه لهم.
* * *
وقوله : (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
معناه لا تبخل ولا تسرف.
(فتقعد) منصوب على جواب النهي ، و (محسوراً) أي قد بالغت في الحمل على نفسك وحالك حتى تصير بمنزلة من قد حَسِر.
والحسير والمحسور الذي قد بلغ الغاية في التعب والِإعياء.
* * *
قوله : (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
(خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) منصوب لأنه مفعول له ، والإملاق الفقر ، يقال أملق يملق
إملاقاً.
وكانوا يدفنون البنات إذَا وُلَدْنَ لهم خوفاً من الفقر ، فضمن اللَّه
- عزَّ وجل - لهم رزقهم ، فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).
وهي الموءودة ، كانوا يَدْفِنونَ الابنة إذا وُلدَتْ حيَّةً.
وقوله : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) ، وتقرأ خَطَاً كبيراً.
فمن قال خِطئاً : بالكسر فمعناه إثماً كثيراً ، يقال قد خطئ الرجل يخطأ خِطئًا : أثِمَ يَأثَمُ إثماً
(وخَطأً كبيراً) له تأويلانِ أحدهما معناه إن قتلهم كان غير صواب يقال : قد
أخطأ يخطئ إخطاء ، وخطأ ، والخطأ الاسم من هذا لا المصدَرُ ، ويكون
الخطأ من خطئ يخطأ خطأً إذا لم يصب مثل لِجَجَ يَلْجَجُ
قال الشاعر :
والناسُ يَلْحَوْنَ الأَمِيرَ إِذا هُمُ . . . خَطِئُوا الصوابَ ولا يُلامُ المُرْشِدُ

(3/236)


وقوله : (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
أي وساء الزنا سبيلاً . و (سَبِيلًا) منصوب على التمييز.
* * *
وقوله : (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
حرَّم اللَّه قتل المؤمن إلَّا أن يرْتَدَّ بَعْدَ إيمَانِه ، أو يقتل مؤمِناً متعَمِّداً ، أو
يزنيَ بعد إحْصَانٍ.
كذلك قال قتادة في تفسير هذه الآية.
(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا).
أي من غير أن يأتيَ بواحدة من هذه الثلاث.
(فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا).
الأجود إدغام الدال في الجِيمِ ، والِإظهار جَيِّدْ بالغ ، لأنَّ الجِيمَ من
وسط اللسانِ ، والدال من طرف اللسان ، والِإدغام جائز لأنَّ حروفَ وَسَط
اللسَانِ قد تقرب من حروف طرف اللسانِ.
وَوَليه الذي بَيْنَهُ وبيْنَه قرابة توجِبُ المطالبةَ بِدَمِهِ . .
فإنْ لم يكن له ولي فالسلطان وَليُه.
و " سُلْطَاناً " أي حجة.
وقوله : (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).
القراءة الجزم على النهي ، ويقرأ بالياء والتاء جميعاً ، وتقرأ فلا يُسْرِفُ
بالرفع . والِإسراف في القتل قد اخْتُلِفَ فيه.
فقال أكثر الناس : الِإسْرافُ أنْ يقتُلَ الوليُّ غيرَ قاتِلِ صاحِبِه.
وقيل : الِإسراف أن يقتل هو القاتل دُونَ السُّلْطَانِ ، وكانت العرب إذا قُتِلَ منها السًيدُ وكانَ قاتله خسِيساً لم يرضوا بأن يُقْتَلَ قَاتِلُه وربما لم يرضَوْا أن يُقْتَل واحد بواحدٍ حتَى تُقْتَلَ جماعة بواحدٍ.
وقوله : (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).

(3/237)


أي أن القتيل إذا قتل بغير حق فهو منصور في الدنيا والآخرة ، فأما
نصرتُه في الدنيا فَقَتْلُ قاتِلِهِ ، وأْما في الآخرة فإجزال الثواب له ، ويخلَّدُ قاتِلُه
في النَّار ، ومن قرأ فلا يسرِفُ - في القَتْلِ - بالرفع - فالمعنى أن وليَّه ليسَ بمُسْرِف في القَتْلِ إذا قتل قاتِلَه ولم يقبل الديَة.
* * *
وقوله : (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
أي لا تذخروا مِن مَالِه ، ولا تأكلوا - إذَا أقِمْتُمْ عليه إلا ما يُسكنُ
الجَوْعَةَ ، ولا تكتسوا إلَّا ما ستر العورة ، ولا تَقْرَبُوه إلا بالإصلاح للمال حَتى يبلغ أشُده.
وأشُده أن يبلغَ النكاح ، وقيل : أشُده أن يأتي له ثماني عشرة سنة.
وبُلوغُ أشده هو الاحتلام ، وأن يكون مع ذلك غير ذي عاهة في عقل وَأنْ
يكون حازماً في ماله.
وقوله : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).
قال بَعْضُهُمْ : لا أدري مَا العَهْدُ ، والعَهْدُ كل ما عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْه ، وكل
ما بينَ العِبَادِ من المواثيق فهِيَ عُهُود.
وكذلك قوله : ، (وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ).
* * *
وقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
(وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقيم).
والقُسْطَاسُ جميعاً - بالضمِ - والكَسْرِ - قيل : القسطاسُ هو القرسطون
وقيل القفان ، والقسطاس ميزان العدل ، أي ميزان كان من موازين الدراهِم
أوْ غَيْرِها .

(3/238)


وقوله : (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
معنى (وأحسن تأويلًا) أن الوفاء أحسن من النقصانِ ، ويجوز أن يكون
المعنى أحسن ما يؤول إليه أمر صاحب الوفاء.
* * *
وقوله : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
أي لا تقولن في شيء بما لا تعلم.
فإذا نُهِيَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مع جكْمتِه وعِلْمِهِ وتوفيق اللَّهِ إيَّاهُ - أن يقول بما لا يعلم ، فكيف سائر أمَّتِه والمسرفين على أنْفُسِهم.
يقال قفوت الشيءَ أقْفُوه قَفْواً إذا اتبَعْتَ أثرَه ، فالتأويل لا تُتْبِعَنْ لِسانَك
من القول ما ليس لك به علم ، وكذلك من جميع العَقل.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) شواهد عليك.
قال الله عزَّ وجلَّ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فالجوارح شواهدُ على ابن آدم بعمله.
ويقرأ . . (ولا تقُفْ ما ليس لك به عِلْم) بإسكان الفاء وضم القاف ، من قاف يقوفُ - وكأنه مقلوب من قفا يقفو ، لأن المعنى واحد.
وقوله : (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
فقال (مَسْئُولًا) ، وقال : (كَانَ) ، لأن " كل " في لفظ الواحد ؛ فقال (أولئك) لغير الناس ، لأن كل جمع أشَرْتَ إليْه من الناس وغيرهم ومن الموات فلفظه (أولئك)
قال جرير :

(3/239)


ذم المنازل بعد منزلة اللوى . . . والعَيْش بعد أولئك الأيَّامِ
وقوله : (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
ويقرأ مَرِحًا - بكسر الراء - ، وزعم الأخفَش أن مَرَحاً أجْودُ من مَرِحاً.
لأن مَرِحاً اسمُ الفَاعِل . وهذا - أعني المصدر - جيَدٌ بالغ ، وكلاهما في الجودة سواء ، غير أنَّ المصدرَ أوْكد في الاستعمال تقول : جاء زيد رَكْضاً ، وجاء زيدٌ راكضاً ، فركْضاً أوْكَدُ في الاسْتِعْمَال لأن ركضاً يدلُّ على توكيد الفِعْل.
وَمَرَحا - بفتح الراء أكثر في القِراءَةِ.
وتأويل الآيةِ : ولا تَمْشِ في الأرض مختالاً وَلَا فَخُوراً.
(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا).
قالوا : معنى (تَخرِق الأرْضَ) تقطع الأرْضَ ، وقيل تثقب الأرْضَ.
والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ ، فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال.
* * *
(كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
سيئه في معنى خطيئةً ، وكان أبو عمرو لا يقرأ (سَيِّئُهُ) ، ويقرأ (سَيئَةً) ، وهذا
غلط ، لأن في الأقاصيص سيئاً وغير سَيئ وذلك أن فيها (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)
وفيها : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).
و (وأَوْفوا بِالعَهْدِ) ، (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، أي اقرَبُوه بالتِي هي أحْسَنُ.
ففيما جرى من الآيات سيئ وحسن ، فسيئُهُ بلا تنوين أحْسَنُ من سيئةٍ

(3/240)


ههنا . ومن قرأ سَيئَةً جعل " كلا " إحاطة بالمنهى عنه فقط ، المعنى كل ما نهى
الله عنه كان سيئة.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
(فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا).
أي مباعداً من رحمة اللَّه.
* * *
وقوله : (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
كانت الكفرة من العَرَب تزعم أنَّ الملائكةَ بنات اللَّه ، فوُبخوا ، وقيل
لهم : (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) ، أي أختار لكم ربُّكم صَفْوَة الشيءِ وأخَذَ من
الملائكة غير الصفْوةِ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
أي بينا.
(وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا).
أي ما يزيدهُمُ التبْيِينُ إلا نُفُوراً ، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - :
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82).
* * *
(قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
فمن قرأ (كما تقولون) فعلى مخاطبة القائلين
(إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا).
أي لتقربوا إلى ذي العرش ، كما قال : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ).
وقال بعضهم : (إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)
أي لكانوا مضادِّينَ له يطلبون الانفِرادَ بالربُوبِيةِ .

(3/241)


والقول الأول عليه المفسرون.
* * *
وقوله : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
(44)
قيل إن كُلَ مَا خَلقَ اللَّه يُسبح بحمده وإن صَرِيرَ السقْفِ وصَرِيرَ البَابِ
من التسبيح للَّهِ عزَّ وجلَّ.
ويكون - على هذا - الخِطَابُ للمشركين وحدهم من
قوله : (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
وجائز أن يكون تسبيح هذه الأشياءِ مِمَّا عَلِمَ اللَّه به ، لايُفقَه مِنْه إلا ما
عَلَّمنَا.
وقال قوم : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي ما من شيء إلا وفيه دَلِيلٌ
أن الله خالِقُه ، وأن خَالِقُه حَكيمٌ مُبَرأ مِنَ الأسْوَاءِ (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
أي ولكنكم أيها الكفار لَا تَفْقَهونَ أثر الصنْعةِ في هذه المخلوقات.
وهذا ليس بشيء لأن الذين خوطبوا بهذا كانوا مُقِرِّينَ بأن الله خَالِقُهُمْ
وخالق السَّمَاوَات والأرض ومن فِيهِن ، فكيف يجهلون الخلقة وهم عارفون
بها.
* * *
وقوله : (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
قال أهل اللغة معنى (مستوراً) ههنا في موضع ساتر ، ، تأويل الحجاب
- واللَّه أعلم - الطبع الذي على قلوبهم.
ويدل على ذلك قوله : (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ).
والأكنة جمع كِنَان وهو ما سَتَرَ .

(3/242)


ومعنى (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) وقيل معناه ألا يفقهوه والمعنيان
واحد ، غير أن كراهة أجود في العربيَّةِ.
وقيل : (جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا)
الحجاب منع اللَّه إياهم من النبي - عليه السلام - ويجوز أن يكون (مستوراً) على غير معنى ساتر ، فيكون الحجاب ما لا يرونه ولا يعلمونه من الطبع على قلوبِهمْ.
* * *
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
(وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا).
الوقر ثقل السمْع ، والوقر أن يَحمِل الإنْسانُ وَقْرَهُ
وقوله : (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا).
(نُفُوراً) يحتمل مذهَبَيْن :
أحدهما المصدر . المعنى : وَلَّوْا نَافِرين نُفُوراً
ويجوز أن يكون (نُفُوراً) جمع نافِرٍ ، فيكون نافِرٍ ونُفُورٌ ، مثل شاهِدٍ وشهود.
* * *
وقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
(نجوى) في معنى المصدر ، أي وَإِذْ هُمْ ذَوُو نَجْوَى ، والنجوى اسم
للمصدر ، وكانوا يستمعون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون بَيْنَهم : هو ساحِر وهو مَسْحور وما أشبه ذلك من القول.
وقال أهل اللغة في قوله : (إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) قولَيْنِ :
أحدهما أن مَسْحوراً ذو سَحْرٍ ، والسحْرُ الرنَّةُ ، وقالوا : إنْ تتبعون إلا من
له سَحْرٌ بشَر مِثلكم يأكل الطعام.
قال لبيدٌ :
فإن تسألينا فيم نحنُ فإننا . . . عصافير من هذا الأنامِ المسحَّرِ

(3/243)


وقالوا : مَسْحوراً أي قد سحُر وأزيل عن حَدِّ الاسْتِوَاء
* * *
(وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
الرُّفَاتُ الترابُ ، والرفات أيضاً كل شيء حُطِمَ وكُسِرَ ، وكل ما كان من
هذا النحو فهو مبني على فُعَال ، نحو الفُتَاتُ والحطَامُ والرفَاتُ والترابُ.
وقوله : (خَلْقًا جَدِيدًا) ، فِي مَعْنَى مُجدَّدِ.
* * *
وقوله : (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
أكثر ما جاء في التفسِير في قوله : (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ)
إن هذا الخلقَ هو الموْتُ ، وقيل خلقاً مما يكبر في صدوركم نحو السَّمَاوَات
والأرض والجبال.
ومعنى هذه الآية فيه لطفٌ وَغُمُوضٌ ، لأن القائل يقول : كيف يقال لهم
كونوا حجارة أو حديداً وهم لا يستطيعونَ ذلك ؟
فالجواب في ذلك أنهم كانوا يقِرون أن اللَّه جل ثناؤُه خالِقُهم ، وينكرونَ أن الله يعيدهم خلقاً آخر ، فقيل لهم استشعروا أنكم لو خُلقْتُمْ من حجارة أو حديدٍ لأماتكم اللَّه ثم أحْيَاكم ، لأن القدرة التي بها أنشأكم - وأنتم مقرونَ أنه أنشأكم بتلك القدرة - بها يعيدكم ، ولو كنتم حجارة أوْ حديداً ، أو كنتم الموت الذي هو أكبر الأشياء في صدوركم.
وقوله : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ).
أي فسيحركون رؤوسهم تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ).

(3/244)


يقال أنْغَضْتُ رأسي إذا حركتُه أنْغِضُه إنغاضاً ، ونَغَضَتِ السِّن تنغَضُ
نغْضاً ، ونغض برأسه ينغَضُ نَغْضاً إذَا حركه.
قال العجاج.
أَسَكَّ نَغْضاً لا يَني مُسْتَهْدَجا
* * *
وقوله : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
أي يعيدكم يوم القيامةِ.
ومعنى تستجيبون بحمده . تستجيبون مقرين بأنه خالِقكُمْ.
* * *
وقوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
معنى ذكر داود ههنا أن اللَّهَ - جل ثناؤه - أعلم أنه قد فضل بعض النبيين
على بعض ، أي فَلَا يُنكِرُوا تفضَيلَ محمد - صلى الله عليه وسلم - وإعطاءَه القرآنَ ، فقد أعطى الله داود الزبور.
* * *
وقوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم.
وجاء في التفسير أشياء في هذه الآية ، منها أنه قيل : قل ادعوا العُزَيْر
وعيسى لأن النصارى واليهودَ زعموا أن هؤلاء آلِهَتهُم ، فأعلمهم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أنهم لا يملكون كشف ضر عنهم ولا تحويلاً من وَاحِدٍ إلى آخرَ ، وقيل إنه يُعْنَى به الملائكةُ لأن منهمُ من كان يعبد الملائِكة.
وقيل إن قوماً من

(3/245)


العرب كانوا يعبدون نفراً من الجنِّ ، فأسلم أولئك النفر من الجن ولم يعلم
بهم من كان يعبدهم ، فقيل فادعوا هؤلاء فإنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً.
* * *
وقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
بالياء والتاء.
(أولئك) رفع بالابتداء ، و (الذين) رفع صفة لهم ، و (يَبْتغون) خبرُ
الابتداء ، المعنى الجماعة الذين يدعون يبتغون إلى ربهِم الوسيلةَ ، والوسيلة
والسُّؤَال ، والسُّؤْلُ والطلَبةُ ، في معنى واحد.
(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ).
إن شئت " أَيُّهُمْ " كان رفعاً بالابتداء ، والخبر (أَقْرَبُ) ، ويكون المعنى
يطلبون إلى ربهم الوسيلة - ينظرون أيهم أقرب إليه فيتوسلون به.
فإن قال قائل : فالذي أنْكَرَ عَليهِمْ هو التوسلُ بغير عبادَةِ اللَّهِ إلى اللَّه ، لأنهم قالوا : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ، فالفرق بين المتوسلين إلى اللَّه
بمحبَّةِ أنبيائه وملائكته وصالحي عبادِه أنهم يتوسلون بهم مُوحِّدين اللَّهَ
عزَّ وجلَّ ، لا يجعلون له شريكاً في العبادة ، والكفار يتوَسلُونَ بعبادة غير اللَّه ، فجعلوا الكفر وسيلَتَهُمْ.
ويجوز أن يكون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدلاً من الواو في (يبتغون)
فالمعنى يبتغي أيهم هو أقرَبُ الوسيلة إلى اللَّهِ ، أي يتقرب إليه بِالعَمَلِ الصالح.
(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ).
أي الذين يزعمون أنهم آلِهة يرجون ويخافون .

(3/246)


قوله : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
أي ما من أهل قرية ألا سيهلكون ، إما بموت وَإما بِعَذابٍ يَسْتَأصِلَهُمْ.
(كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا).
أي مكتوباً.
* * *
(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
(أن) الأولى نصب ، و (أن) الثانية رفع.
المعنى ما منعنا الإرْسَالَ ألا تكذيبُ الأولينَ.
والتأويل أنهُمْ سألوا الآيَاتِ التي استوجب بها الأولونَ العذابَ ، لمَّا كذبوا بها ، فنزل عليهم العذابُ ، والدليل على أنهم سألوا تلك الآيات قولهم :
(لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) ، فأَعلم اللَّهُ - جل ثناؤه - أن مَوْعِدَ كُفَار هذه الأمةِ الساعة ، فقال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). فأخَّرَهم إلى يوم القيامة رحمة منه وتفضلاً.
(وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً).
ويقرأ (مُبْصَرَةً) فمن قرأ (مُبْصِرَةً)، فالمعنى تبصرهم ، أي تبين لهم ، ومن
قرأ (مُبْصَرَةً) فالمعنى مبينةً ، (فَظَلَمُوا بها) ، أي فظلموا بتكذيبها (1).
* * *
وقوله : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
جاء في التفسير : أحاط بهم أيْ كلهُمْ فِي قبضته ، وعن الحسَن أحاط
بالناس أي حال بينهم وبين أنْ يقتلوك أو يَغْلِبُوكَ كما قال - عزَّ وجلَّ - (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
__________
(1) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى
فإن قيل : قوله تعالى : (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ . . .الآية)
فيها أسئلة أولها : أن الله تعالى لا يمنعه عما يريده مانع ، فإن أراد إرسال الآيات كيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية ؟
وإن لم يرد إرسالها كان وجود تكذيبهم وعدمه سواء ، وكان عدم الإرسال لعدم الإرادة ، الثانى : أن الإرسال يتعدى بنفسه قال
الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) فأى حاجه إلى الباء ؟
الثالث : أن المراد بالآيات هنا ما اقترحه أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جعل الصفا ذهباً ، وإزالة جبال مكة ليتمكنوا من الزراعة ، وإنزال كتاب مكتوب من السماء ونحو ذلك.
وهذه الآيات ما أرسلت إلى الأولين ولا شاهدوها فكيف كذبوها ؟
الرابع : تكذيب الأولين لا يمنع إرسالها إلى الآخرين لجواز أن لا يكذب الآخرون ، الخامس : أي مناسبة وارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى : (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) ؟
السادس : ما معنى وصف الناقة بالابصار ؟
السابع : إن الظلم يتعدى بنفسه قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) فأى حاجة إلى الباء ، وهلا قال فظلموها يعنى بالعقر والقتل ؟
الثامن : أن قوله تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) يدل على الارسال بها وقوله تعالى : (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ) يدل على عدم الإرسال بها ؟
قلنا : الجواب على الأول : أن المنع مجازعبر به عن ترك الإرسال بالآيات ، كأنه تعالى قال : وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، (وعن) الثانى : أنى الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به ، لا إلى المرسل لأن المرسل محذوف وهو الرسول.
تقديره : وما منعنا أن نرسل الرسول بالآيات ، والإرسال يتعدى إلى المرسل نفسه وإلى المرسل به بالباء ، وإلى المرسل إليه بالى قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) وعن الثالث : أن الضمير في قوله تعالى : (بها) عائد إلى جنس الآيات المقترحة لا إلى هذه
الآيات المقترحة كأنه تعالى قال : وما منعنا أن نرسل بالآيات التى اقترحها أهل مكة إلا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة يريد المائدة والناقة ونحوهما مما اقترحه الأولون على أنبيائهم ، (وعن) الرابع : أن سنة الله تعالى في عباده أن من اقترح آية على الأنبياء وأتوه بها فلم يؤمن عجل الله هلاكه ، والله تعالى لم يرد هلاك مشركى مكة لأنه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن ، أو لأنه قضى وقدر في سابق علمه بقاء من بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة ، فلو أرسل بالآيات التى اقترحوها فلم يؤمنوا لأهلكهم ، وحكمته اقضت عدم إهلاكهم ، فلذلك لم يرسل بها فيصير معنى الآية وما منعنا أن نومل بالآيات المقترحة عليك إلا أن كذب بالآيات المقترحة الأولون فأهلكوا فربما كذب بها قومك فأهلكوا.
(وعن) الخامس : أنه تعالى لما أخبر أن الأولين كذبوا بالآيات المقترحة عين منها واحدة وهى ناقة صالح عليه الصلاة والسلام ، لأن آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم . (وعن) السادس : أن معنى مبصرة دالة كما يقال الدليل مرشد وهاد ، وقيل : مبصراً بها كما يقال : ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه ، وقيل : معناه مبصرة يعنى أنها تبصر الناس صحة نبوة صالح عليه الصلاة والسلام ، ويعضد هذا قراءة من قرأ مبصرة بفتح الميم والضاد أي تبصرة ، وقيل : مبصرة صفة لآية محذوفة تقديره : آية مبصرة أي مضيئة بينة ، (وعن) السابع : أن الباء ليست لتعدية الظلم - هنا - إلى الناقة بل معناه فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها ، وقيل : الظلم - هنا -
الكفر ، فمعناه فكفروا بها ، فلما ضمن الظلم معنى الكفر عداه تعديته.
(وعن) الثامن : أن المراد بالآيات ثانياً العبر والدلالات لا الآيات التى اقترحها أهل مكة.
أ هـ {أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ 283 - 286}

(3/247)


وقوله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ).
جاء في التفسير أنها رُؤيَا بيت المقدس حين أسْرِيَ به ، وذلك أنه ارتدَّ
بعضهم حين أعلمهم قصة الإسراء به ، وازداد المؤمنونَ المخلصون إيماناً.
وجاء في التفسير أنه يرِو رأى في منامِه قَوماً يرقون المنابِرِ فساءه ذلك ، فأعلم - صلى الله عليه وسلم - أنه عطاء في الدنيا.
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).
قيل في التفسير الملعون أكلُها ، وهِيَ شجرةُ الزقُّومِ التي ذكرها اللَّه في
القرآن فقال : (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44).
وقال : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66).
وقال : (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64).
فافتتن بها المشركونَ ، فقال أبو جهل : ما نعرف الزقوم إلا أكل التمر بالزبد فتزقموا.
وقال بعضُ المشركين : النار تأكل الشجر فكيف ينبتُ فيها
الشجر ، فلذلك قال جل ثناؤه : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).
فإن قال قائل : ليس في القرآن ذكر لَعْنِها ؟
فالجواب في ذلك لُعِنَ الكُفَارُ وهم آكلوها.
وجواب آخر أيضاً أن العرب تقول لكل طعام مكروه
وَضَارٍّ : مَلْعُونٌ.
* * *
وقوله : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

(3/248)


المعنى لِمَنْ خلقته طِيناً ، وطيناً منصوب على جهتين :
إحداهما التمييز ، المعنى لمن خلقته مِنْ طِينٍ.
ويجوز أن يكون " طيناً " منصوب على الحال.
المعنى أنك أنشاته في حال كونه من طين.
* * *
وقوله : (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
جاءت " قال " ههنا بغير حرف عطف لأنه على معنى قال اسجُدْ لمن
خَلقْتُ طيناً.
وقوله : (أَرَأَيْتَكَ) في معنى أخبرني ؛ فالكاف لا موضع لها ، لأنها ذكرت
في الخطاب توكيداً ، وموضع (هذا) نصبٌ بـ (أَرَأَيْتَكَ).
والجواب محذوف المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمت عليَّ لم كرمْتَه عَلَيَّ وقد خَلَقْتَنِي من نارٍ وخَلَقْتَهُ من طينٍ ، فحذف هذا لأن في الكلام دليلاً عليه.
ومعنى : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا).
لأستأصلنهم بالإغواء لهم ، وقيل لأسْتَوْليَنَ عليهم.
والذي تقول العرب : قد احتنكت السَّنَةُ أموالَنَا إذا استأصلتها.
قال الشاعِر :
نَشْكُو إليك سنة قد أجحفت . . . جَهْداً على جَهْدٍ بنا وأضْعَفَتْ
واحتنكت أموالَنَا وجلَّفَتْ
وقوله : (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا
(63)
(جَزَاءً مَوْفُورًا).
أي مُوَفر ، يقال منه وَفَرْته أفِرُهُ فَهُو مَوْفورٌ.
قال زهَيرٌ :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه . . . يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم

(3/249)


وقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
معناه استدعهم استدعاء تستخفهم به إلى إجابتك.
و (بِصَوْتِكَ) تفسيره بدعائِكِ ، وقيل (بِصَوْتِكَ) بأصوات الغناء والمزامير.
وقوله : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ).
أي أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدِك ، وقيل في التفسير : خَيْله
ورَجْلُه كل خيل يسعى في معصية اللَّه فهي من خيل إبليس ، وكل مَاش في
معصية فهو من - رجال إبليس ، ورَجِل جمع رَاجل ، ويجوز ورِجَالِك فيكون
جَمْع رَاجِل ورِجَال مثل صاحب وصحاب.
وجائز أن يكون لإبليس خيل وَرِجَال.
وقوله : (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ).
أي مرهم أن يجعلوا من أموالهم شيئاً لغير اللَّه كما قال اللَّه سبحانه :
(فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا).
وما قالوه في السائبة والبحيرة.
والشركة في الأولاد قولهم : عبد العزى ، وعبد الحرث.
وقيل شركته في الأولاد يعنى به أولاد الزنا ، وهو كثير في التفسير ، وكل معصية في ولد أو مال فإبليس اللعين شريكهم فيها.
قوله : (وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).
فإن قال قائل فكيف يجوز أن يؤمَرَ إبليس أن يقال له شاركهم في الأموال
والأولاد وأجْلِبْ علَيْهم بخيلك ورجلك وعِدْهُمْ بأنهم لا يُبْعَثُون ؛ فإذا فعل
ذلك فهو مطيع ؟
فالجواب في ذلك أن الأمر على ضربين :
أَحدهما متبع

(3/250)


لا غير ، والثاني إذا تقدمه نهي عما يؤمر به فالمعنى في الأمر الوعيد ، والتهديد لأنك قد تقول : لا تدخلن هذه الدار ، فإذا حاول أن يدخلها قلْت : أدخلها
وأنْتَ رَجُلْ ، فَلَسْتَ تَأمُرُه بدخولها ولكنك توعده وتُهددُهُ وهذا في اللغة
والاستعمال كثير موجود ، ومثله في القرآن : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).
وقد نُهوا أنْ يَتَبعُوا أهْوَاءَهُم وأن يعملوا بالمعاصي.
* * *
وقوله : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
أي من أخلص فلا حجة لك عليه ولاسلطان.
(وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا).
أي كفى باللَّهِ وكيلا لأوليائه ، يعصمهم من القبول من إبليس.
* * *
وقوله : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
تفسير (يُزْجِي) يسَيِّر ، وقد زجَّيْتُ قدمت الشيء ، وهذا الكلام ذكر
معطوفاً على قوله : (كُونُوا حِجَارَةً أوْ حَدِيدًا)
وقوله : (قُل الَّذِي فَطرَكُم أولَ مَرةٍ)
فالمعنى أنه يبعثكم الذي بدأ خلقكم ، والابتداء والإنشاء أشد من
الإعادة.
ثم أعلمهم أَن الذي قدر على تسخير الفلك في البحر - والفلك
كالجبال - قادر على إعَادَتِهِمْ ، قال اللَّه تعالى : (وَلَهُ الجوَارِ المُنْشَآتُ في
البَحْرِ كالأعْلَام) أي كالجبال.
(وَكَانَ اَلإنْسَانُ كَفُوراً).
الإنسان ههنا يعنى به الكفار خاصة.
* * *
وقوله : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
الحاصب التراب الذي فيه الحصباء ، والحصباء حَصًى صِغَار .

(3/251)


وقوله : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
(ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)
أي لا تجدوا مَنْ يَتبِعُنَا بإنْكَارِ مَا نَزَلَ بكم ، ولا من يتبِعُنَا بأن يصرفه
عنكم.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
تأويله أن اللَّه - جل ثناؤه - فضلهم بالتمييز ، وبأن سخر لهم ما في
السَّمَاوَات والأرض وبِحَمْلِهِم في البر والبحْرِ.
(وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
قال : (عَلَى كَثير) ولم يقلْ عَلَى كُلِّ مَنْ خلقنا ، لأن اللَّه - جل وعلا -
فضل الملائكة ، فقال : (وَلاَ المَلَائِكَةُ المُقَربُونَ).
ولكن ابن آدم مفضل على سائر الحيوان الذي لا يعقل ولا يميز.
وجاء في التفسير أن فضيلة ابن آدَم أنه يمشي قائماً وأن الدوابَّ والإبلَ والحميرَ وما أشبهها تمشي مُنْكَبَّةً ، وأن ابن آدم
يتناول الطعام بيديه ويرفعه إلى فيه ، وأن سائر الحيوان يتناول ذلك بفيه . وهذا الذي في التفسير هو بعض ما فُضلَ به ابن آدم.
وفضله فيما أعطي من التمييز ورزق من الطيبات وبُصِّرَ من الهدَى مع ما لا يحصى من النعم عليه كثير جدًّا.
* * *
وقوله : (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
وتقرأ يوم يَدْعُو - بالياء -
(كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) ، يعنى به يوم القيامة ، وهو منصوب على اذكر يوم يدعو كل أناس بِإمَامِهِمْ ، ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو كل انَاس بإمامهم ، ومعنى بإمامهم

(3/252)


بدينهم الذيْ ائتموا به ، وقيل بكتابهم ، والمعنى واحدٌ.
ويدل عليه (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ).
أي من كان على حق أعطي كتابه بيمينه.
(وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
المعنى ولا يظلمون مقدار فتيل ، والفتيل القشرة التي في شق النواة.
* * *
(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
أي في هذه الدنيا.
(فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمَى).
وهذا من عمى القلب ، أي هو في الآخرة أشَد عَمًى.
وتأولله أنه إذا عَمِيَ في الدنيا ، وقد عَرَّفَهُ - جل وعلا - وجَعَلَ له إلى التوبة وُصْلَةً ، وفَسَحَ لَه في ذلك إلَى وقت مماته ، فعمي عن رشده ولم يَتُبْ ففي الآخرة لا يجد متاباً ولا مُتَخلَّصاً مما هو فيه ، فهو في الآخرة أشد عمى
(وَأضَل سَبِيلاً).
أي وأضل طريقاً ، لأنه لا يجد طريقاً إلى الهداية فقد حصل على
عمله.
وقوله : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
معنى الكلام كادوا يفتنونك ، ودخلت " إن " واللام للتوكيد ، وتأويله أن
المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لا نتركُكَ تستلم الحجر حَتى تلِمَّ بآلهتنا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - في نفسه ، وما عَلَى أنْ أفعل ذلك واللَّه يعلم ما في نفسي ، وأتمكن من استلام الحجر.
هذا مما جاء في التفسير .

(3/253)


وجاء في التفسير أيضاً أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اطرد عنك سقاط الناس ومَوَالِيَهُمْ وهؤلاء الذين رائحتُهُم رَائِحَة الضأنِ ، وذلك أنهم كانوا يلبسون الصوف ، فَقالوا : اطرد هؤلاء إن كنت أرْسِلْتَ إلينا حتى تجلس إلينا ونسمع منك فَهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل في ذلك ما يستدعي به إسْلَامهم ، فتوَعدُهُ اللَّه - عز وجل - فيه أشد الوعيد (1) وَعَصَمَهُ الله من أن يُمْضِيَ ما عَزَمَ عليه ، فقال : (وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا).
أي إن فعلت ما أرادُوا لاتخذوك خليلاً.
* * *
(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
وحُكِيت (تركُن) بضم الكاف.
يقال رَكَن يركَن ، وركَن يركُنُ ، فتوعده اللَّه في ذلك أشد التوعد ، فقال :
(إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
والمعنى لو رَكنْتَ إليهم في ذلك الشّيءَ القليلَ إذن لأذقناكَ ضِعْفَ
الحياة وضِعْفَ المماتِ ، أي ضِعْفَ عذاب الحياة وضعفَ عَذابِ المماتِ
لأنك أنت نبي وُيضَاعَفُ لك العذاب على عذاب غيركِ لو جنى هذِه الجناية
كما قال : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) لأن درجة النبِيِ وَدَرَجَةَ آله الذين وَصَفَهُم اللهُ فَوقَ دَرَجَةِ غيرهم.
* * *
وقوله : (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
كانوا قد كادوا أن يخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة فأعلمهم الله أنهم لو فعلوا ذلك لم يَلْبَثُوا بَعدَه إلا قلِيلًا.
وقيل (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ، أي لَيقْتُلونَكَ.
__________
(1) قال القاضي عياض ما نصه :
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي - وَفَّقَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ ، الرَّائِضِ بِزِمَامِ الشَّرِيعَةِ خُلُقَهُ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ، وَمُعَاطَاتِهِ ، وَمُحَاوَرَاتِهِ ، فَهُوَ عُنْصُرُ الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَرَوْضَةُ الْآدَابِ الدِّينِيَّةِ ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، وَلِيَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةَ الْعَجِيبَةَ فِي السُّؤَالِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ ، الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ ، الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْجَمِيعِ ، وَيَسْتَشِيرَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ ، وَكَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْإِكْرَامِ قَبْلَ الْعَتْبِ ، وَآنَسَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ ثَمَّ ذَنْبٌ . وَقَالَ - تَعَالَى - : وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [ الْإِسْرَاءِ : 74 ] الْآيَةَ.

قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ : عَاتَبَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بَعْدَ الزَّلَّاتِ ، وَعَاتَبَ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وُقُوعِهِ ، لِيَكُونَ بِذَلِكَ أَشَدَّ انْتِهَاءً ، وَمُحَافَظَةً لِشَرَائِطِ الْمَحَبَّةِ ، وَهَذِهِ غَايَةُ الْعِنَايَةِ . ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ بِثَبَاتِهِ ، وَسَلَامَتِهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا عَتَبَهُ عَلَيْهِ ، وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ ، فَفِي أَثْنَاءِ عَتْبِهِ بَرَاءَتُهُ ، وَفِي طَيِّ تَخْوِيفِهِ تَأْمِينُهُ وَكَرَامَتُهُ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [ الْأَنْعَامِ : 33 ] الْآيَةَ . اهـ (الشفا بتعريف حقوق المصطفى. ص : 130 - 131).

وقال الثعالبي :
* ت * : وجزى اللَّه ابنَ الأنباريِّ خيراً ، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجبٌ ، فكيف بسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قال أبو الفَضْل عياضٌ في «الشِّفَا» : قوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } : قال بعض المتكلِّمين : عاتب اللَّه تعالى نبيَّنا عليه السلام قبل وقوع ما يوجبُ العتاب؛ ليكون بذلك أشدَّ انتهاءً ومحافظةً لشرائط المحبَّة ، وهذه غاية العناية ، ثم انظُرْ كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذِكْر ما عاتبه عليه ، وخيف أنْ يركن إِليه ، وفي أثناء عتبه بَرَاءَتُه ، وفي طَيِّ تخويفه تأمينُه.
قال عياضٌ رحمه الله : ويجبُ على المؤمن المجاهِدِ نفسَهُ الرائِضِ بزمامِ الشريعةِ خُلُقَهُ؛ أن يتأدَّب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقة ، وروضَةُ الآداب الدينية والدنيوية انتهى.
قال * ع * : وهذا الهمُّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِنما كان خَطْرة مما لا يمكِنُ دفعه ، ولذلك قيل : { كِدتَّ } وهي تعطي أنه لم يقعْ ركونٌ ، ثم قيل : { شَيْئًا قَلِيلاً } ؛ إِذ كانت المقاربة التي تضمنتها { كِدتَّ } قليلةً خطرةً لم تتأكَّد في النفْس.
وقوله : { إِذًا لأذقناك . . . } الآية : يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابنُ الأنباريِّ.
* ت * : وما ذكره * ع * رحمه الله تعالى من البطلان لا يصحُّ ، وما قدَّمناه عن عياضٍ حسنٌ؛ فتأمَّله. اهـ (الجواهر الحسان. 2 / 353 - 354)

(3/254)


وقوله : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا
(77)
(سُنَّةَ) منصوب بمعنى أنا سَنَنَّا هذه السنةَ فيمن أرسلنا قبلك من رُسُلِنَا.
أنهم إذا أخْرَجُوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتَلُوهُ لم يلبثهم العذاب أن ينزل
بهم ، وكان خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً بأمر اللَّه.
وقوله : (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
دلوك الشمس زَوالها ومَيْلها في وقت الظَهِيرة ، وكذلك ميلها إلى
الغروب هو دُلُوكهَا أيضاً ، يقال : قد دلكت بَراحِ وبِرَاحِ.
أي قد مالت للزوال حتى صار الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر
الشعَاعَ عن بصره براحته.
قال الشاعر :
هذا مقام قدمي رَبَاح . . . للشمس حتى دلكت براح
وقوله : (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ).
أي ظُلْمَةِ الليلِ.
(وَقُرْآنَ الفَجْرِ).
أي فأقم قرآن الفجر ، وفي هذا الموضع فائدة عظيمة تدل على أن
الصلاة لا تكون إلا بقراءةٍ ، لأن قوله أقِمِ الصلاة وأقِمْ قرآن الفجر قد أمر أن

(3/255)


نقيمَ الصلاة بالقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً ، فلا تكون صلاة إلا بقراءة.
وقوله : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).
جاء في التفسير أن ملائكة الليل يحضرون قراءة الفجر ، وملائكة النهار
يحضرونها أيضاً.
وقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
يقال تهجد الرجل إذا سَهِرَ ، وهجَدَ إذَا نام ، وقد هجَّدْتُه إذا نوَّمتُه
قال لبيد :
قلتُ هَجِّدْنا فقد طالَ السُّرَى . . . وقَدَرْنا إِن خَنا الدَّهْر غَفَلْ
وهذه نافلة لك زيادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً ليست لأحدٍ غيرِه لأن اللَّه - عز وجل - أمره بأن يزْدَاد في عبادته على مَا أمِرَ به الخلقُ أجْمعونَ ، لأنه فضله عليهم ، ثم وعده أن يبعثه مقاماً محموداً.
والذي صحت به الرواية والأخبار في المقام المحمود أنه الشفاعة.
* * *
وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
(أدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ).
ومَدْخَلَ صِدْقٍ ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ).
وجاء في التفسير (أدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ) الجنَّة ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ).
أي وأخرجني من مكة إلى المدينة.
وجاء أيضاً مُدْخَلَ ومخرج صدق دخوله

(3/256)


المدينة وخروجه من مكةَ.
وجاء مُدْخَل صدق ومخرج صدق الِإدخال في الدين والخروج من الدنيا وهو على الحقِّ ، وجاء أيضاً - وهو حسن - دخوله في الرسالة وخروجه مما يجب عليه فيها - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك حسن.
فمن قال مُدْخَلَ - بضم الميم - فهو مصدر أدخلته مُدْخَلاً.
ومن قال مَدخَل صدق فهو على أدْخَلْتهُ فدَخَل مَدْخَل صدق.
وكذلك شرح مخرج مثله.
وقوله : (واجْعَلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً).
أي اجعل نصرتي من عندك بتسليطي بالقدرة والحجة ، وقد أجاب اللَّه
- عزَّ وجلَّ - دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس ، فقال : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
وقال : (فَإن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ).
وقال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
* * *
وقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا
(84)
معناه على طريقته وعلى مذهبه ، ويدل عليه : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا).
أي أهدى طريقاً . ويقال هذا طريق ذو شَوَاكل ، أي يَتَشَعَّبُ منه طرق
جماعة.
* * *
وقوله : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
سألت إليهود النبي - صلى الله عليه وسلم -عن الروح وهم مقدرون أن يجيبهم بغير ما عَلِمَ مِن تفسيرها ، فأعلمهم أن الروح من أمر اللَّهِ.
ثم قال :

(3/257)


(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)
فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوتينا التوراة ، وفيها الحكمة ، وقَدْ تَلَوْتَ : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).
فأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ عِلْمَ التوراة قليل في علم اللَّه.
فقال : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)
أي ما نفدت الحكمةُ التي يأتي بها اللَّه عزَّ وجلَّ ، فالتوراة قليلة بالإضَافَةِ إلَى كلمات اللَّه.
وقليل وكثير لَا يصح إلا بالإضَافَة ، فإنما يقل الشيء عندما يعلمُ أكثر
منه ، وكذلك يكثر عند مَعلوم هُوَ أقَل منه.
وقد اختلف الناس في تفسير الروح فقيل إن الروح جبريل ومن تأول
ذلك فدليله قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ).
وقيل إن الروح خلق لخلق بني آدم في السماء.
وقال بعض المفسرين : إن الروح إنما يعنَى به القُرآنُ.
قال : ودليل ذلك قوله : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)
وكذلك قيل : الروح من أمر ربي ، وتأويله تسمية القرآن بالروح أن القرآن حياة القلوب وحياة النفس فيما تَصِير إليه من
الخير عند اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
أي لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يُوجَدَ له أثر.
(ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا).

(3/258)


أي لاتجد من يتوكل في رد شيء منه.
وقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
استثناء ليس من الأول ، والمعنى ولكن اللَّه رحمك فأثبت ذلك في
قلبك وقلوب المؤمنين . ثم احتج اللَّه عليهم بعد احتجاجه بقوله
(قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا) بالقرآن فأعلمهم - وهم العرب العاربةُ أهل البيان ، ولهم تاليف الكلام - فقال لهم :
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
والظهير المعينُ.
* * *
وقوله : (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا
(90)
هذا قولهم بعد أن انقطعت حجتهم ولم يأتوا بسورة من القرآن ولا دفعوا
أن يكون معجزةً ، فاقترحوا من الآيات ما ليس لهم ، لأن الذي أتاهم به من
القرآن وانشقاق القمرِ وما دلهم به على توحيد اللَّه أبلغ وأعجز في القدرة مما
اقترحوا ، فقالوا : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا).
واليَنْبُوعُ تقديره تقدير يَفْعُول ، من نبع الشيء.
* * *
وقوله : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
(كِسَفًا) وَ (كِسْفًا) ، فمن قرأ (كِسَفًا) جعلها جمع كِسْفَة ، وهي القِطْعَةُ.
ومن قرأ (كِسْفًا) فكأنَّه قال أو تَسقِطُهَا طبَقاً عَلَيْنَا ، واشتقاقه من كسفتُ الشيء إذا غطيته.
وقوله : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا).
في " قَبِيل " قولان ، جائز أن يكون . تأمر بهم حتى نراهم مقابلة.
وأن يكون قبيلاً كفيلًا ، يقال قَبُلْتُ بِهِ أقْبُل قَبالَة ، كقولك : كفلت به أكفُل كَفَالَة ،

(3/259)


وكذلك قول الناس : قد تقبل فلان بهذا أي تكفل به.
* * *
وقوله : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا
(93)
جاء في التفسير أن معناه بيت من ذهب ، وأصل الزخرف في اللغة
والزخرفة الزينَةُ ، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ :
(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا) أي أخذت كمال زينتها.
وزخرفت الشيءَ إذا أكْملْتُ زينتَه ، ولا شيء في تزيين بيتٍ وتحسينه ، وزخرفته كالذهب.
فليس يخرج ما فسروه عنِ الحق في هذا.
وقوله : (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ).
يقال في الصعود : رقيت أرقى رقياً ، ويقال فيما تداويه بالعوذة : رقيتُ
أرقى رُقيَةً ورَقياً.
وقوله : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
أي ححَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا يشهد بِنُبُوتكَ.
فأَعلم اللَّه - جل ثناؤه - أن ذلك لو نزل عليهم لم يؤمنوا فقال : (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7).
فإذا كانوا يدعون فيما يعجز عنه أنه سحر فكيف يوصل إلى تَبْصِيرَهِمْ
والتبيين لهم بأكثر مما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآية الباقية ، وهي القرآن ، ومن الأنباء ما يدبرونه بينهم وبما يخبرهم به من أخبار الأمم السالفة ، وهو لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينه ، وقد أنْبأ - صلى الله عليه وسلم - ودل على نبوته كل ما يخطر بالبال.
وقوله : (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)

(3/260)


موضع (أن) نصب.
وقوله : (إِلَّا أَنْ قَالُوا).
موضع (أنْ قَالُوا) رفع ، المعنى ما منعهم من الإيمان إلا قولهم : (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا).
فأَعلم اللَّه أن الأعدل عليهم ، والأبلغ في الأداء إليهم بشر مثلهم
وأعلمهم أن (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي يمشون
مستوطنين الأرض (لنزلنا عليهم مِنَ السماءِ مَلَكَاً رسولاً) ، لأنه لا يُرْسَلُ إلى
خلق إلا ما كان مِن جِنْسِهِ.
* * *
وقوله : (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
(96)
قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من يشهد لك بأنك رسول اللَّه ، فقال : اللَّه يشهد لي.
و (كفى باللَّهِ شهيداً) في موضع رفع ، المعنى كفى اللَّه شهيداً.
و (شهيداً) منصوب على نوعين ، إن شئت على التمييز ، كفى اللَّه من الشهداء ، وإن شئت على الحال ، المعنى كفى اللَّه في حال الشهادة.
* * *
وقوله : (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
(كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا).
أي كلما خَمَدَتْ ، ونضجت جلودهم ولحومهم بدلهم اللَّه غيرها ليذوقوا
العذاب.
* * *
وقوله : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
هذا جواب لقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90).
فأعلمهم اللَّه - جل وعلا - أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شُحًّا وبُخْلًا ، فقال :
(إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا).
يعنَى بالإنسان ههنا الكافِر خاصة كما قال - عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)

(3/261)


أي لكفور ، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي من أجل حب
الخير وهو المال لبخيل.
فأمَّا (أنتم) فمرفوع بفعل مضمر ، المعنى قل لو تملكون أنتم - لأن لو يقع
بها الشيء لوقوع غيره ، فلا يليها إلا الفعل ، وإذا وليها الاسم عمل فيها الفعل المضمر ، ومثل ذلك من الشعر قول المتلمس :.
فلو غَيرُ أَخوالي أَرادوا نَقِيصَتي . . . جَعَلْتُ لهم فَوْقَ العَرانِينِ مِيسَما
المعنى لو أراد غير أخوالي.
والقتُور : البخيل.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
قيل في التفسير إنها أخذ آل فرعون بالسنين وهي الجدب حتى ذهبت
ثمارهم ، وذهبَتْ من أهل البوادي مواشيهم.
ومنها إخراج موسى يده بيضاء للناظرين ، ومنها القاؤه عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، وأنها تلقفت إفك السَّحرِة.
ومنها إرسال اللَّهِ عليهم الطوفان - نعوذ بالله منه ، والجرادَ والقُمَّلَ والضفادع والدَّمَ ، فذلك تسع آيات.
وقد قيل إن البحر منها.
ومن آياته انفجار الحجر ولكنه لم يُرْوَ في التفسَير .

(3/262)


وقوله : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)
لم يَجِدْ فَرعَونُ ما يدفع به الآيات إلا إقراره على نفسه بأنه ظانٌّ أن
موسى مسحور ، فأعلمه اللَّه أن فرعون قد بين أنها آيات فقال :
(قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
يعنى الآيات.
(إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ).
وقرأ بعضهم لقد علمتُ - بضم التاء - والأجود في القراءة لقد علمتَ -
بفتح التاء - لأن علم فرعونَ بأنها آيات من عند اللَّه أوكد في الحجة عليه.
ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ في فرعونَ وقومه : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).
وقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا).
أي لأظنك مُهْلَكاً ، يقال : ثُبِرَ الرجل فهو مثبور إذَا هَلَكَ.
* * *
وقوله : (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا
(103)
أي فأراد فرعون أن يستفز موسى وقومَهُ مِنَ الأرْضِ فجائز أن يكون
استفزارهم إخرَاجهم منها بالقتل أو بالتنحية.
(فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا)
* * *
وقوله : (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
(جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا).
أي آتينا بكم من كل قبيلة ، واللفيف الجماعات مِن قبائل شَتى.
* * *
وقوله : (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا
(106)
وتقرأ (فرَّقناهُ) - بالتشديد ، وقرآناً مَنصوبٌ بفعل مُضمَر ،

(3/263)


المعنى : وما أرْسلْنَاكَ إلا مُبَشِراً ونَذِيراً ، تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر من عصى اللَّه بالنار ، وقرآناً فرقناهُ.
أنزل اللَّه " عزَّ وجلَّ القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، ثم أنْزلَ على
النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة ، فرقه اللَّه في التنزيل ليفهمْهُ الناسُ ، فقال : (لِتَقْرَأهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكثٍ).
ومَكثٍ جميعاً ، والقراءة بضم الميم.
* * *
وقوله : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
(يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا)
لأن الذي يخر وهو قائم يخر لوجهه ، والذَّقَنُ مجتمع اللَّحْيَيْنِ وهو عضو
من أعضاء الوجه ، وكما يبتدئ المبتدئ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى
الأرض الذَّقنُ.
و (سُجَّدًا) منصُوبٌ على الحال.
* * *
وقوله : (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
معناه ما كان وعد ربنا إلا مفعولًا.
وإن واللام دخلتا للتوكيد.
* * *
وقوله : (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
لما سمعت العرب ذكر الرحمن قالت : أتدعونا إلى اثنين إلى اللَّه وإلى
الرحمن.
واسم الرحمن في الكتب الأوَلِ المنزلة على الأنبياء.
فأعلمهم اللَّه أن دعاءهم الرحمن ودعاءهم اللَّه يرجعان إلى شيءٍ واحدٍ فقال : (أَيًّا مَا تَدْعُوا) المعنى أي أسماء اللَّه تدعوا (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
* * *
(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا).
المخافتة الِإخفاء ، والجهر رفع الصوت ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جهر

(3/264)


بالقرآن سب المشركون القرآن ، فأمره اللَّه - جلَّ وعزَّ - ألا يعرض القرآن
لسبهم ، وألا يخافت بها مخافتةً لا يسمعها من يصلي خلفه من أصحابه.
(وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
أي اسلك طريقاً بين الجهر والمخافتة.
* * *
وقوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
يعاونه على ما أراد.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ).
أي لم يحتج إلى أن ينتصر بغيره.
(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا).
أي عظِّمه عظَمَة تامَّةً .

(3/265)


سورة الكهف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
قال أهل التفسير وأهل اللغة إن معناه الحمد للَّهِ الذي أنزل على عبده
الكتاب قيماً ولم يجعل له عِوَجاً . ومعنى قيِّم مستقيم ، والعِوَجُ - بكسر العين - فيما لا يرى له شخص ، وما كان له شخص قيل فيه عَوَج بفتح العين.
تقول : فِي دينه عِوَج ، وفي العَصَا عَوَج - بفتح العين -.
وتأويله الشكر للَّهِ الذي أنزل على محمد الكتابَ مستقيماً ولم يجعل له
عِوَجاً ، أي لم يجعل فيه اختلافاً كما قال جل ثناؤه : (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
* * *
وقوله : (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
أي لينذرهم بالعذاب البائس.
(مِنْ لَدُنْه) مِنْ قِبَلِهِ.
(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)

(3/267)


المعنى بأن لهم أجراً حسناً.
* * *
وقوله : (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
(مَاكثين) منصوب على الحال في معنى خالدين.
* * *
وقوله : (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ).
وتقرأ كلمة بالرفع والنصب ، فمن نصب فالمعنى كبرت مقالتهم
" اتخَذَ اللَّهَ وَلَداً " كلمةً ، فكلمةً منصوب على التمييز.
ومن قرأ كلمة بالرفع فالمعنى عظمت كلمة هي قولهم : " اتخذ اللْه ولداً " ويجوز في كبرت كبرْتْ كلمة - بتسكين الباء ، ولا أعلم أحداً قرأ بها.
* * *
وقوله : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
تأويله فلعلك مهلك نفسك ، وقال بعضهم قاتل نفسك.
والمعنى واحد.
قال الشاعر :
أَلا أَيُّهذا الباخِعُ الوَجْدُ نفْسَه . . . لِشيءٍ نَحَتْهُ عن يَدَيْهِ المَقادِرُ
المعنى ألا أيهذا الذي أهلك الوجد نفسه.
ومعنى (عَلَى آثَارِهِمْ) ، أيْ مِن بَعدِهم.
(إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا).
يعنى بالحديث القرآن ، و (أسفاً) منصوب لأنه مصدر في موضع الحال ،

(3/268)


والأسَف المبالغة في الحزن أو الغَضَبِ . يقَال قد أسِفَ الرجل فهو أسيفٌ
وآسِفٌ.
قال الشاعر :
أَرَى رَجُلاً منهم أَسِيفاً كأَنَّمَا . . . يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفًّا مُخَضَّبا
* * *
وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
أي لنختبرهم ، و (أَيُّهُمْ) مرفوعٌ بالابتداء ، إلا أن لفظه لفظ الاستفهام
المعنى لِيخْبرَ أهذا أحسن عملا أم هذا ، فالمعنى : (إنا جعلنا ما على الأرض
زينة لها) ، أي اختباراً ومحنة ، فالحَسَن العَمَلِ من زهِدَ فيما زيِّنَ له من
الدنيا ، ثم أعلمهم أنه مبيدٌ ومُفنٍ ذلكَ كلَّه مقال :
(وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
والصَعيد الطريق الذي لا نبَاتَ فيه ، والجرُز الأرض التي لا تنبت شيئاً
كأنها تأكل النَبْتَ أكلًا ، يقال أرْضِ جُرزٌ ، وَأرضُون أجرَازٌ.
* * *
وقوله : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
(9)
والرقِيم قيل إنه اسم الجبل الذي كان فيه الكهف ، والكهف كالفَجِّ
وكالغَارِ في الجبل ، وقيل إن الرقيم اسم القرية التي كانوا فيها.
وقيل إن الرقيم لَوْحٌ كان فيه كتابٌ في المكان الذي كانوا فيه - واللَّه أعلم.
وقيل كان المشركون سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين ، وذلك أنهم أعياهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فصارتْ جماعة منهم إلى يثرب فَاعلَمَتْ جماعةً من رؤساء إليهود بقصة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت إليهود
إنَّ اسمه عندنا مكتوب وأن يبعث على فترة مِنَ الرسلِ فاسألوه عن هذه الأشياء فإن أجاب عنها فهو نبي ، فصارت الجماعة من المشركين إلى مكة وجمعوا

(3/269)


جمعاًً كتيراً وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأشياء . فأعلمهم أنه لا يعلمها ، وأنه إن نزل عليه وحي بها أعلمهم.
فروى بعضهم أنه قال : سأخبركم بها ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عنه الوحي أياماً ونزلت : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أوحى الله إليه وأنزله الله في كتابه مما دل على حقيقة نبوته.
ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّ قصًةَ أصحاب الكهف ليست بعجيبة
من آيات اللَّه ، لأنَّا نشاهد من خلق السَّمَاوَات والأرض وما بينهما مما يدل على توحيد اللَّه ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف فقال جلَّ وعزَّ :
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
أي : حتى نُبَيِّنَ قِصتَهُمْ.
* * *
وقوله : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
ومعنى أَوَوْا إليه صاروا إليه وجعلوه مأواهم ، والفتية جمع فتى مثل غلام
وغِلْمَة ، وصَبِيَ وَصِبْيَة ، وَفِعْلَة من أسماءِ الجمع ، وليس ببناء يقاس عليه ، لا
يجوز غُراب وغِرْبة ، ولا غَنى وغنية.
وقوله : (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً).
أي أعْطِنَا من عندِكَ رَحْمَةً ، أي مَغْفِرةً ورزقاً.
(وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).
يجوز في (رَشَداً) (رُشْداً) إلا أنه لا يُقْرأ بها ههنا لأن فواصل الآيات على
فَعَلٍ نحو أمَدٍ وعدَدٍ ، فَرَشدٌ أحْسَنُ في هذا المكان أي أرشدنا إلى ما يقرب
منك ويزلف عندك .

(3/270)


وقوله (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
معنى (ضربنا على آذانهم) منعْناهم - أن يسمعوا ، لأن النائم - إذا سمع
انتبه . فالمعنى أنمناهم ، ومنعناهم السمعِ.
و (عدداً) منصوب على ضربين :
أحدهما على المصدر ، المعنى نَعُدُّ عدَداً ، ويجوز أن يكون نعتاً للسنين.
المعنى سنين ذات عَدَدٍ ، والفائدةُ في قولك عدد في الأشياء المعدودات أنك
تريد توكيد كثرة الشيءِ لأنه إذا قل فُهِمَ مِقْدَارُهُ ومقدار عدده ، فلم يحتجِ إلى أن يُعَدّ ، فإذا كثُرَ احتاج إلى أن يعد، فالعدد في قَوْلكَ أقمت أياماً عدَداً أنك تُرِيدُ بها الكثرة.
وجائز أن تؤكد بعدَدٍ معنى الجماعة في أنها قد خرجت من
معنى الواحد.
* * *
فمعنى قوله : (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
أي بعثناهم من نومهم ، ويقال لكل من خرج من الموت إلى الحياة أو
من النوم إلى الانتباه مبعوث.
وتأويل مبعوث أنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن
التصرف والانْبعاث.
وقوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا).
الأمد الغَايَةُ ، و (أمداً) منصوب على نوعين ، وهو على التمييز مَنْصُوب
وإن شئت كان منصوباً على أحصى أمَداً فيكون العامل فيه أحصى ، كأنه قيل لنعلَمَ أهؤلاء أحصى للأمد أم هؤلاء ، ويكونُ منصُوباً بـ لبثوا ، ويكون أحصى متعلقاً بـ (لِمَا) فيكون المعنى أي الحزبين أحصى للُبثهم في الأمد.
* * *
وقوله : (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
(لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا).
أي قد قلنا إذَنْ جوراً.
و (شطَطاً). منصوب على المصدر ، المعنى لقد قلنا

(3/271)


إذَن قول شطط . يقال شط الرجُل وأشَطً إذا جار.
قال الشاعر :
ألَا يَا لَقَوْمي قد أشطت عواذِلي . . . وَيزْعمن أني أقْصَر اليوم باطلي
* * *
وقوله : (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
أنكر الفتية عبادة قومِهم ، وأن يعبدوا مع الله غيره ، فقالوا هؤلاء قومنا
اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون.
ولولا في معنى هلَّا ، المعنى هلَّا يأتون عليهم بحجة بَينَةٍ ، ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة.
* * *
وقوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
موضع (ما) نصب ، المعنى إذا اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون إلا اللَّه
فإنكم لن تتركوا عبادته.
(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ).
أي اجعلوا الكهف مَأْوَاكًمْ
(يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِهِ).
أي يَنْشرْ لكم مِنْ رِزْق
(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).
يقال هو مِرْفَق اليد بكسر الميم وفتح الفاء ، وكذلك مِرْفَقُ الأمْر مثل
مِرْفق اليَدِ سواء.
قال الأصْمَعي : لا أعرف غير هدا . وقَرَأتِ القراء مَرْفِقاً -

(3/272)


بفتح الميم وكسر الفاء.
وذكر قطرب وغيرُه من أهل اللغة اللغَتَيْن جَميعاً في
مَرْفقِ الأمر ومِرْفَق اليَدِ.
وقالوا جميعاً المِرْفَق لليد بكسر الميم . هو أكثَرُ في اللغة وأجود.
* * *
وقوله : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
في (تَزَاوَرُ) ثلاثة أوجه : تَزَاوَرُ ، وتَزْوَرُّ - بغير ألف ، على مثال تَحْمَرُّ.
وتَزْوَارُّ على مثال تحمارُّ ، ووجه رابع تزَاور . والأصل فيه تتزَاورُ فأدغمت التاء في الزاي.
* * *
(وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشَمَال).
(تَقْرِضُهم) بكسر الراء ، وتَقْرُضهم - بضم الراء -.
والكسر القراءة عليه ، وتأويله تعدل عنهم وتتركهم.
قال ذوالرئةَ :
إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوازَ مُشْرِفٍ . . . شِمالاً وعن أَيمانهنَّ الفَوارِسُ
يَقرِضنَ يتركن ، وأصل القرض القطع والتفرقة بين الأشياء ، ومن هذا
قولك : اقْرِضْبي دِرْهَماً ، تأويله اقطع لي مِنْ مَالِك دِرْهماً.
وقوله : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ).
أي في متسع منه
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ).
قيل إنَّ بابَ الكهفِ كان بِإزَاءِ بَنَاتِ نَعْشٍ ، فلذلك لم تكن الشمس

(3/273)


تطلع عليهم وهذا التفسير ليس بِبَيِّنٍ ، إنما جعل اللَّه فيهم هذه الآية لأن
الشمس لا تقربهم في مطلعها ولا عند غروبها.
وقوله : (ذَلِكِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ).
أكثر اللغة فهو المهتدي بإثبات الياء ، وفي المصحف في هذا.
الموضع بغير ياء وهذا في هذا الموضع كالذي في الأعراف ، فهذا هو الوجه ، وهو في الأعراف بالياء وفي الكهف بغير ياء . -
وحذف الياء جائز في الأسماء خاصة ولا يجوز في الأفعال ، لأن حذف الياء في الفعل دليل الجزم.
وحذف الياء في الأسماء واقع إذا لم يكن أمع الاسم ، الألف واللام ، نحو مهتدٍ ومُقْتَدٍ ، فأدخلت الألف واللام وترك الحذف على ما كان عليه . ودلت الكسرة على الياء المحذوفة.
* * *
وقوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
الأيقاظ : المنتبهونَ ، والرقود النيامُ ، وواحد الأيقاظ يقط ويقظان والجمع
أيقاظ.
قال الراجز :
ووجدوا إخْوتهم أيْقَاظاً
وقيل في التّفسير إنهم كانوا مُفَتحِي الأعْين ، الَّذي يراهُم يتوهمهم
منتبهين وقيل لكثرة تقلبهم يظن أنهم غير نيام ، ويدل عليه
(ونُقلِّبهُمْ ذاتَ اليَمِينِ وذَاتَ الشمِاَلِ)
ويجوز وَتَحْسِبُهُم ، وتحسَبهم.
(وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).
والوصيد فناء البيت ، وفناء الدار .

(3/274)


وقوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ).
بكسر الواو ، وتقرأ لوُ اطلعت عليهم بضم الواو ، والكسر أجود ، لأن
الواو ساكنة والطاء ساكنة ، فكسرت الواو لالتقاء السَّاكنين ، وهذا هو الأصل.
وجاز الضم لأن الضم من جنس الواو ، ولكنه إذا كان بعد الساكن مضْمُوم
فالضَم هُنَاكَ أحْسَنُ منه ههنا . نحو (أوُ انْقُصْ) - واو انقص بالضم والكسر - وقوله : (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا).
(فَراراً) منصوب على المصدر ، لأن معنى وَلَّيْتَ فرَرْت منهم.
(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا).
ورَعْباً ورُعُباً ، ورُعْباً منصوب على التمييز ، تقول : امتلأت ماء وامتلأت
فَرَقاً ، أي امتلأت مِنَ الفَرَقِ ومن الماء.
وقيل في التفسير إنهم طالت شعورهم جدا وأظفارهم ، فلذلك كان
الرائي لو رآهُمْ لَهَرَبَ منهم مَرْعُوباً.
* * *
وقوله : (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ).
فيها أرْبَعَةُ أوجه - بفتح الواو وكسر الراء ، وبورْقكم بتسكين الراء
وبوِرْقِكُمْ - بكسر الواو وتسكين الراء ، يقال وَرِق ، ووَرْق ، ووِرْق ، كما قيل : كَبِدٌ ، وكَبْدٌ ، وكِبْدٌ . وكسر الوَاو أردؤها . ويجوَزَ " بِوَرِقْكُمْ " تدغم القاف في الكاف وتصِيرُ كافاً خَالِصَةً.
* * *
وقوله : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا).
(أيها) مرفوع بالابتداء ، ومعنى (أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) أي أي أهلها أزكى
طعاماً ، وأزكى خبر الابتداء ، وطعاماً منصوب على التمييز.
وقيل : إن تأويلَ

(3/275)


(أَزْكَى طَعَامًا) أحَل طعاماً ، وذكروا أن القَوْمَ كان أكثرُهُمْ مَجُوساً ، وكانوا لا يستنظفون ذبائحهم ، وقيل : (أَزْكَى طَعَامًا) أي طعاماً لم يؤخذْ من غصْبٍ ، ولا هو من جهة لا تَحِل.
وقوله : (فَلْيَأتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ).
وفَلِيَأتِكًمْ - بإسكان اللام وكسرها - والقراءة بإسكان اللام.
والكسرُ جائز.
قوله : (وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا).
قيل لا يُعْلِمَنَ بكم ، أي إنْ ظُهِرَ عَلَيْه فلا يُوقِعَنَّ إخْوَانَهُ فيما يقع فيه.
* * *
وقوله : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
أي يقتلوكم بالرجم ، والرجْمُ مِنْ أخبَثِ القَتْل.
(أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا).
" إذاً " تدل على الشرط ، أي ولن تُفْلِحُوا إن رَجَعْتُم إلى مِلَّتِهِمْ.
* * *
وقوله : (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
أي أطلعنا عَلَيْهم (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ، أي ليعلم الذين يُكَذبُونَ
بِالبَعْثِ أنَّ وعدَ الله حق ، ويزداد من يؤمن به إيمَاناً.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ).
أي يَتَنَاظَرون في أمرهم ، فيجوز أن يكون " إذْ " مَنْصوباً
بقوله (أعثرنا عليهم) فيكون المعنى وكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا عليهم إذ وقعت المنازعة في أمرهم ، ويجوز أن يكون منصوباً بقوله : ْ لِيَعْلَمُوا ، أي لِيَعْلَموا في وقت منازعتهم .

(3/276)


وقوله : (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا).
هذا يدل - واللَّه أعلم - أنه لما ظهر أمْرُهُمْ غلب المؤمنون بالبعث
والنشُورِ لأن المَساجِدَ للمؤمنين.
* * *
وقوله : (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
(ثَلَاثَةٌ) مرفوع بخبر الابتداء ، المعنى سيقول الذين يتنازعون في أمرهم ؛
هم ثَلاثَةٌ رَابعُهُم كلبهم.
(رَجْمًا بِالْغَيْبِ).
أي يقولون ذلك رجماً ، أي ظنَّا وتخرصاً.
قال زهير
وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتمو . . . وما هُوَ عنها بالحَديث المُرَجَّمِ
(وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ).
(وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).
دخول الواو ههنا وإخراجها من الأول واحِدٌ ، وقد يجوز أن يكون الواو
يدخل ليدل على انقطاع القصة وأن الشيء قد تمَّ.
وقوله : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ).
روي عن ابن عباس أنه قال ، كان أصحاب الكهف سبعة ، وأنا من
القليل الذين يعلمونهم ، وقول ابن عباس إذا صح عنه فهو من أوثَق التفسير.
وقوله : (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا).
أي لا تأتِ في أمْرِهم بغير ما أوحي إليك ، أي أفْتِ في قِصتِهِمْ بالظاهِر
الذي أنزل إليك .

(3/277)


(وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ).
أي في أصحاب الكهف.
(مِنْهُمْ أَحَدًا).
أي من أهل الكتاب.
* * *
وقوله : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
موضع (أن) نصبٌ ، المعنى : لا تقولن إني أفعل أبداً إلا بمشيئة اللَّه ، فإذا
قال القائل : إني أفعل ذلك إن شاء اللَّه فكأنَّه قال : لا أفعل إلا بمشيئة اللَّه.
وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
أي أي وقت ذكرت أنك لم تستثنِ ، فاستَثْنِ ، وقل : إن شاء اللَّه.
(وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا).
أي قل عسى أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون
أقرب في الرشد وأدَل من قصة أصحاب الكهف.
* * *
وقوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
جائز أن يكون (سنين) نصباً ، وجائز أن تكون جرًّا.
فأما النصبُ فعلى معنى فلبثوا في كهفهم سنِين ثلاَثَمائةٍ ، ويكون على تقدير آخر " سِنين " معطوفاً على ثَلاَثٍ عطف البيان والتوكيد ، وجائز أن تكون (سنين) من نعت المائة ، وهو راجع في المعنى إلى ثلاث
كما قال الشاعر

(3/278)


فيها اثنتان وأربَعُونَ حَلُوبَةً . . . سُودًا كخافِية الغُرابِ الأسْحَمِ
فجعل سُودًا نعتاً لحلوبةٍ ، وهو في المعنى نعت لجملة العَدَدِ ، فجَائز أن
يكون : ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ ، مَحْمولاً على قوله : سَيَقُولُونَ ثَلاثةٌ رابعُهم كلبُهم
ْوًيقُولُونَ لَبِثوا فِي كَهْفِهِمْ وهذا القول دليله قوله : (قلِ اللَّهُ أعلَمُ بِمَا لَبِثًوا).
ويجوز - وهو الأجود عندي - أنه إخْبَارٌ عن الله أخبرهم بطول لُبْثِهِم.
وأعلَمَ أنَّهُ أعلَمُ بذلك.
وكان هذا أبلغ في الآية فيهم أن يكون الصحيح أنهم
قد لبثوا هذا العدَدَ كلَّهُ.
فأمَّا قوله : (وازْدَادوُا تِسْعاً).
فلا يكون على معنى وازْدَادُوا تسع لَيَال ، ولا تسع ساعاتٍ ، لأن العدَدَ
يعرف تفسيره ، وإذا تقدم تفسيره استغنى بما تقدم عن إعادة ذكر التفسير.
تقول : عندي مائة درهم وخمسة فيكون الخمسة قد دل عليها ذكر
الدرهم
وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
قال أبو العباس محمد بن يزيد : (وَعَشْرًا) معناه وعشر مُدَدٍ ، وتلك المدد كل مدة منها يوم ولَيلَة ، والعرب تقول : ما رأيته منذ عشر.
وأتيته لِعَشْرٍ خَلَونَ ، فيغلِّبُون الليالي على ذكر الأيام ، والأيام داخلة في الليَالِي والليالي مع اليوم مُدة معلومَةْ مِنَ الدهْرِ ، فتأنيث عشر يدل على أنه لا يراد به أشْهُر فهذا أحسن ما فُسِّر في هذه الآية.
وقوله : (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
(أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ).

(3/279)


أجمعت العلماء أن معناه ما أسمَعَه وأبْصَرَه . أي هُوَ عالم بقصة
أصحاب الكهف وغيرهم :
وقوله : (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).
قرئت : (وَلَا يُشْرِكْ) عَلَى النهْي.
والآية - واللَّه أعلم - تَدُلُ عَلَى أحَدِ مَعْنَيْينِ :
أحدهما أنه أجْرَى ذكر علمه وقدرته ، فأعلم عزَّ وجلَّ أنه لا يُشْرِكُ في
حُكمِه مما يخبر به من الغَيْبِ أحَداً ، كما قال : (عَالِمِ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أحَدَاً) وكذلك إذا قرئت : وَلَا تُشْركْ - بالتاء - في حكمه أحَداً ، أي لا تَنْسُبَنَّ أحَداً إلى عِلْمِ الغَيْب ، ويكون - واللَّه أعلم ، وهو جيَدٌ بالغ - على معنى أنه لا يجوز أن يحكم حاكم إلا بما حكم اللَّه ، أو بما يدل عليه حكم اللَّه ، وليس لأحَدٍ أن يحكم من ذات نفسه ، فيكون شريكاً للَّهِ في حكمه ، يأمر بحكم كما أمر اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
أي لَنْ تَجِدَ مَعْدِلًا عَنْ أمره ونَهْيِه ، ولا ملجأ إلا إليه.
وكذلك : (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ).
أي ما أخبر الله به ، وما أمر به فَلَا مُبَدِّلَ له.
* * *
وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
وقرئت بالغُدوَةِ والعَشي ، وبالغَدَاةِ والعشَي أجوَدُ في قول جَمِيع العُلَماءِ
لأن " غَدْوَة " معرفة لا تدخلها الألف واللام ، والذين أدخلوا الألف واللام

(3/280)


جعلوها نكرة ، ومعنى يدعون ربهم بالغداة والعشي ، أي يدعونه بالتوحيد
والإخلاص له ، ويَعْبُدونه يريدون وجهه ، أي لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه.
وقوله : (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ).
أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
روي أن جماعة من عظماء المشركين قالوا للنبي عليه السلام ، : باعد عنك هؤلاء الذين رائحتهم كرائحة الضَّأنِ ، وهم مَوَال وليسوا بأشراف لِنُجالِسَك ولنَفْهَمَ عنك ، يعنون خَبَّاباً ، وصُهَيْباً وعَمَّاراً - وبِلَالًا ومن أشبهَهُم ، فأمره اللَّه بأن لا يفعل ذلك وأن يجعل إقباله على المؤمنين وألا يلتفت إلى غيرهم فقال : (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
أي كان أمْرُهُ التفريطُ ، والتفريط تقديم العجزِ.
* * *
وقوله : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
المعنى وقل الدي أتيتكم به الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
هذا الكلام ليس بأمْرٍ لَهُمْ ، ما فعلوه منه فهم فيه مطيعون ، ولكن كلام
وعيد وإنذار قد بين بعده ما لكل فريق مِنْ مؤمِن وكافر.
قال عزَّ وجلَّ : (إِنَا أعْتَدْنَا للظَّالِمينَ نَاراً).
معنى أعتدنا جعلناها عِتَاداً لهم كما تقول : جعلت هذا عُدةً لهذا.
والعِتادُ : الشيء الثابت اللازم.
وقوله : (أحَاطَ بِهِمْ سُرادِقُهَا) .

(3/281)


أي صار عليهم سُرَادِق من العذاب ، والسرادق كل ما أحاط بشيء نحو
الشقة في المضرب والحائط المشتمل على الشيء.
وقوله : (كَالمُهْلَ).
يعنى أنهم يغاثون بماء كالرّصَاصِ المُذَابِ أىِ الصُّفرِ والفِضَّةِ ، وكل
ما أذَبْتَه من هذه الأشياء فهو مُهْل.
وقيل المهل : دُرْدِيُّ الزَّيت أيضاً.
وقيل المهل صَدِيدُ الجرح.
(يَشْوِي الْوُجُوهَ).
أي إذا قُدِّمَ ليشْرَبَ أشْوَىَ الوَجْهُ مِنْ حرارته.
(بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).
(مُرْتَفَقًا) منصوب على التمييز ، و (مُرْتَفَقًا) منزلاً.
وقال أهل اللغة (مُرْتَفَقًا) : متكأً.
وأنشدوا.
إنْي أَرِقتُ فبتُّ الليلَ مُرتفقاً . . . كأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ

(3/282)


وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
خبر (إِنَّ) هنا على ثلاثة أوجه :
فأحدها أن يكون على إضمار " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً منهم " ، ولم يحتج إلى ذكر منهم لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه يحبط عمل غير المؤمنين ، قال عزَّ وجلَّ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
ويجوز أن يكون خبر (إِنَّ) : (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ)
ويكون قوله : (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) قَدْ فُصِلَ به بين الاسم وخَبَرِه ، لأن فيه ذكر ما في الأول ، لأن من أحسن
عملاً بمنزلة الذين آمنوا.
وَوَجْهُ ثالث ، أنْ يكون الخبر (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)
في معنى إنا لا نضيع أجرهم ، لأن ذكر " مَنْ " كذكر الذي ، وذكر
حُسْنِ العَمَل كذِكْرِ الإيمان.
فيكون كقولك : إن الذين يعملون الصالحات إن الله لا يضيع أجر من آمن ، فهو كقولك إن اللَّه لا يضيع أجرهم.
(أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
ومعنى (جناتُ عَدْنٍ) جنات إقَامة.
وقيل في التفسير جنات عَدْن ، جنات من الأربع الجِنَانِ التي أعدها الله لأوليائه.
(يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ).
أساور جمع أسْوِرة ، وأسْوِرَة جمع سوار . يقال هُو سِوَارٌ في اليد
بالكَسْرِ ، وَقَدْ حُكِيَ سَوار وحكي قطرب إسْوَار ، وذكر أن أساور جمع إسْوَار ، على حذف الياء ، لأن جمع أسوار أساوير .

(3/283)


(وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ).
والسندس والإستبرق نوعان من الحرير.
(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا).
الأرائك واحدتها : أريكة ، والأرائك الفرش في الحجال.
و (مُرْتفقاً) منصوب على التمييز وقد فسرنا المرتفق.
* * *
وقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
كان المشركون سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورة إليهود عليهم أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قصة أصحاب الكهف وعن الروح وعن هذين الرجلين ، فأعلمه اللَّه الجواب
وأنه مثل له عليه السلام وللكفار ، ومثل لجميع من آمن باللَّهِ وجميع
من عَنَدَ عنه وكفر به ، فقال تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ).
(رَجُلَين) منصوب على معنى المفعول على معنى واضرب لهم مثلاً مثل
رجُلين.
(وَحَفَفَناها بنخل) أي جعلنا النخل مُطِيفاً بهما ، يقال : قد حفَّ القوم
بِزَيْدٍ إذَا كانُوا مُطيفين به.
(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً).
فأَعلم اللَّه أن عمارتهما كامِلةٌ متصلة لا يفصل بينهما إلا عمارةٌ ، وأعْلَمنا
أنهُمَا كاملتان في تأدية حملهما من نخلهما وأعنابهما والزرع الذي بينهما.
فقال : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
أي لم تنقص منه شيئاً ، وقال آتت ولم يقل آتتا ، رده على (كِلْتَا) لأن لفظ

(3/284)


(كِلْتَا) لفظ واحد ، والمعنى كل واحد ؛ منهما آتت أكلها ، ولو كان
(آتتا) لكان جائزاً أن يكون المعنى الجَنتَانِ كلتاهما آتتا أكلَهُمَا.
(وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا).
ولو قرئت نَهْراً لكان جائزاً.
يقال نَهَر ونَهْر ، فأعلمنا أن شُرْبَهُمَا . كان من ماء نهر وهو من أغزر الشرْب.
* * *
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
وقرئت ثُمُر ، وقيل الثمَرُ مَا أخرجته الشجر ، والثمُرُ المال ، يقال قد ثمَّر
فلان مَالًا . والثمُرُ هَهُنا أحْسَنُ ، لأن قوله : (كِلْتَا الجَنتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها).
قَد دَلَّ على الثمَرِ ، وتجوز أن يكون ثَمَرٌ جمع ثَمَرة . وثمارٌ وثُمرٌ.
وقوله : (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا).
مالًا ، ونفراً ، منصوبان على التمييز ، وأخبره أنه أعز منه ناصراً ، أي
يخبر أنَّ نُصَّارَهُ كثير.
* * *
وقوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا
(35)
وكل من كفر باللَّهِ فَنَفْسَهُ ظَلَم ، لأنه يولجها النار ذاتَ العَذَاب الدائِمِ.
فأي ظُلْم للنفس فوق هذا.
* * *
وقوله : (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
فأخبر بكفره بالساعة وبكَفره بفناء الدنيا.
(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).
فدل على أن صَاحِبَهُ المؤمن قد أعلمه أن السَّاعَةَ تَقُومُ وأنه يبعث ،

(3/285)


فأجَابَهُ بأن قال له : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي) كما أعلمتني أن أبْعَثَ ليُعطِيني في
الآخرة خيراً مما أعطاني في الدنيا ، لأنه لم يُعطِني هَذا في الدنْيَا إلا وهو
يزيدني إن كان الأمر عَلَى هَذَا في الآخرة ، فقال له صاحبه منكراً له بهذا
القول :
(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
أي ثم أكملك ، فأنكرت أمر البعث حتى شككت فيه ، وقد أعْلَمَنَا أن
الشاكَّ في أمْر اللَّهِ كافِرٌ ، وأن بعض الظنِّ إثم أي باطِل ، وقد قال اللَّه تعالى :
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27).
ثم أعلَمَهُ صاحبهُ أنه مُوَحِّدٌ للَّهِ ، وأن كل ما قدر عليه الِإنسان
من ملك ونعْمةٍ فلا قوة له ولا قدرة عليه إلا باللَّهِ ، فقال :
(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
فدل خِطَابهُ على أنَّ صَاحِبَ الجنتين مشرك عابدٌ مع الله غيرَه ، وفي
قوله : (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) خَمسةُ أوْجُه (1) :
لَكِنَّ هو الله ربي - بتشديد النون
وفتحها ، ويوقف عليها بالألف ، ويوصل بغير ألف ، ويُقْرَأ : لكنا هو الله رَبي
بالألف موصولة ، ويقرأ لكِنْ هو اللَّه رَبي بسكون النون.
ويجوز - ولا أعلم أحداً قرأ به - لكنَنَ هُوَ اللَّه رَبي بنونين مَفْتُوحَتَين ، ويجوز لكنَنَا هو الله ربي بنونين وألف.
فمن قرأ بتشديد النون فالمعنى لكن أنا هو الله ربي فطرحت
الهمزة على النون فتحركت بالفتح واجتمع حرفان من جنس واحد ، فأُدغِمَت النون الأولى في الثانية ، وحذفت الألف في الوصل لأنها تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ومن قرأ : لكنَّا فأثبت الألف في الوصل كما كان تثبيتها لي
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي } : قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً ، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً . فالوَقْفُ وِفاقٌ.
والأصلُ في هذه الكلمةِ « » لكنْ أنا « فَنَقَلَ حركةَ همزةِ » أنا « إلى نون » لكن « وحَذَفَ الهمزةَ ، فالتقى مِثْلان فأدغم . وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا . وقيل : حَذَفَ همزةَ » أنا « اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ » أنا « وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً ، وكان تقدَّم لك : أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة ، وهنا لم يُصادِفْ همزةً ، فهو علىأصلِه أيضاً ، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ.
وأمَّا ابنُ عامرٍ ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما ، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ . وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً.
وإعرابُ ذلك : أن يكونَ » أنا « مبتدأ و » هو « مبتدأ ثانٍ ، و » هو « ضمير الشأن ، و » اللهُ « مبتدأ ثالث . و » ربي « خبر الثالث ، والثالث وخبره خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُه خبر الأول . والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في » ربي « . ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ » هو « أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ » هو « عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه { بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك ، وليس بالبيِّن . ويجوز أَنْ يكونَ » هو « مبتدأً ، ومابعده خبرُه ، وهو خبرُه خبرُ » لكنَّ « . ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم ، وأَنْ يكونَ فصلاً . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ » لكنَّ « من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً.
وقرأ أبو عمروٍ » لكنَّهْ « بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون » أنا « ، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاءِ السكتِ . وعن حاتم الطائي : » هكذا فَرْدِي أَنَهْ «.
وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو : » رَوَى عنه هارون « لكنَّه هو الله » بضمير لَحِقَ « لكن » . قلت : فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل « لكن » وما بعدها الخبرُ . وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ غريبٍ : وهو أَنْ تكونَ « لكنَّا » لكنَّ واسمَها وهو « ن » ، والأصل : « لكنَّنا » فحذف إحدى النونات نحو : { إِنَّا نَحْنُ } وكان حقُّ التركيبِ أن يكون « ربنا » ، « ولا نُشرك بربِّنا » قال : « ولكنه اعتبر المعنى فأفرد ».
وهو غريب جداً.
وأمَّا في قراءةِ العامَّة : فلا يجوزُ أَنْ تكونَ « لكنَّ » مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع.
وقرأ عبدُ الله « لكنْ أنا هو » على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ . ورَوَى عنه ابن خالويه « لكنْ هو الله » بغير « أنا » . وقرئ أيضاً « لكنَنَا ».
وقال الزمخشري : وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ « . [ وقال : ] » ونحوُه -يعني إدغامَ نون « لكن » في نون « ن » بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل :
3164- وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ . . . وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
الأصل : لكنَّ أنا ، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم . قال الشيخ : « ولا يتعيَّنُ ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ » لكنَّ « ، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ ، وعليه :
3165- فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي . . . ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ
أي : ولكنَّك ، وكذا هنا : ولكنَني إياك » . قلت : لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر « لكنَّ » وهو :
3166- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
فأدخل اللامَ في خبر « لكنَّ » . وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل : ولكنْ إني مِنْ حُبِّها ، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ « إنِّي » إلى نون « لكن » بعد حذف الهمزة ، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم ، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر « إنَّ » ، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ ، وإلا فقالوا : إنَّ البيتَ مصنوعٌ ، ولا يُعرف له قائلٌ.
والاستدراكُ مِنْ قوله « أكفرْتَ » ، كأنَّه قال لأخيه : أنت كافرٌ؛ لأنه استفهامُ تقريرٍ ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك : « زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ » لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/286)


الوقف فهذا على لغة من قال أنَا قمتُ فأثبت الألفَ
قال الشاعر :
أَنا سَيْفُ العَشيرةِ فاعْرفوني جميعاً قد تَذَرَّيْتُ السَّنامَا
قال أبو إسحاق وألف أنا في كل هذا إثباتها شاذ في الوصل ؛ ولكِن
مَنْ أثْبتَ فعلى الوقف كما أثبت الهاء في قوله : (وما أدراك ما هيه).
و(كتَابيَة).
ومن قرأ (لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي)، وهي لكن وحدها ليس معها اسم ، ومن قرأ لكنَنَ لم يدغم لأن النونين من كلمتين ، وكذلك من قال : لَكِنَنا بنونين وألف ، على قياس لكن أنا ، لم يدغم لأن النونين من كلمتين ، وفي أنا في الوصل ثَلاث لغاتٍ أجودها أَنا قُمْتُ ، مثل قوله (أنَا رَبكُمْ) بغير ألف في اللفظ ، ويجوز أنَا قُمْتُ بإثبات الألف ، هو ضعيف جداً ، وحكوا أنْ قُمت بإسكان النون ، وهو ضعيف أيضاً فأما (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) - فهو الجَيِّد بإثْبَاتِ الألِف ، لأن الهمزة قد حُذِفَتْ من أنَا ، فصار إثباتُ الألف عوضعاً من الهمزة.
فهذا جميع ما يحتمله هذا الحرف.
والجَيِّد البالغ ما في مصحف أُبَي بنِ كَعْبٍ ولم نذكره في هذه القراءات
لمخالفته المصحف وهو " لكن أنا هو الله ربي " ، فهذا هو الأصل ، وجميع ما قرئ به جيد بالغ ، ولا أنكر القراءة بهذا ، لأن الحذْف قد يقع فى الكتات
كثيراً في الياءات والهمزات ، فيقرأ بالحذف وبالتمام نحو قوله :

(3/287)


(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6).
من قرأ الداعي فمصيب ، ومن قرأ الداع فمصيبً.
وكذلك من قرأ لكِنَّا ، ولكن أنا فهو مصيب ، والأجود اتباع القُراء
ولزوم الرواية ، فإن القراءة سنة ، وكلما كثرت الرواية في الحرف وكثرت به القراءة فهو المتبع ، وما جاز في العربية ولمِ يقرأ به قارئ فلا تَقْرأنَّ به فإن
القراءة به بدعة ، وكل ما قَلَّتْ فيه الرواية وضعُفَ عند أهل العربية فهو داخل في الشذوذ ، ولا ينبغي أن تقرأ به.
* * *
وقوله (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
والجنة البستان . ومعنى : (ولولا) هلَّا ، وتأويل الكلام التوبيخ.
(قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ).
(ما) في موضع رفع ، المعنى قلت : الأمر ما شاء اللَّه.
ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب على معنى الشرط والجزاء ، ويكون الجواب مضمراً ، ويكون التأويل أيُّ شيء شاء اللَّه كان ، ويضمر الجواب كما أضْمِرَ جواب لَو في قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ)
المعنى لكان هذا القرآن.
وقوله : (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ).
الاختيار النصب بغير تَنْوينٍ على النفي كما قال لا ريب فيه ، ويجوز لا
قوةُ إلا باللَّه على الرفع بالابتداء ، والخبر " باللَّه " المعنى أنه لا يقوى أحد في
ديدنه ولا في مِلْك يمينه إلا باللَّه ، ولا يكون له إلا ما شاء اللَّه.
وقوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ).
(أَقَلَّ) مَنْصُوبٌ ، وهو مفعول ثانٍ بـ ترني ، وأنا يصلح لشيئين ، إن شئت
كانت توكيداً للنُونِ والياء ، وإن شئت كانت فصلاً ، كما تقول : كنتَ أنْت

(3/288)


القائمُ يا هذا ، ويجوز رفع (أقَلُّ) ، وقد قرأ بها عيسى بن عمر : إِنْ تَرَني أنَا أقَلُّ مِنْكَ مَالاً ، على أن أنا ابتداء ، وَأقَل خَبر الابتداء ، والجملة في موضع
المفعول الثاني لِتَرنِي.
وقوله : (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ).
جائز أن يكون أراد في الدنيا ، أو في الآخرة.
(وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ).
وهذا موضع لطيف يحتاج أن يُشرَحَ وهو أن الحُسْبانَ في اللغةِ - هو
الحِسَابُ قال تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) المعنى بحساب ، فالمعنى
في هذه الآية أن يرسل عليها عَذَاب حُسْبانٍ ، وذلك الحُسْبَانُ هو حِسَابُ ما
كسبَتْ يداك.
وقوله (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)
الصعيد الطريق الذي لا نبات فيه ، وكذلك الزَلَق.
(أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
معناه غائراً ، يقال ماءٌ غَوْرٌ ، ومياه غورٌ ، وغور مصدر مثل عَدْل ورضِىً.
وقوله : (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا).
أي يغور فلا تَقْدِرُ على أثَرٍ تطلبُه من أجْلِهِ.
* * *
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
أي أحاط اللَّهُ العَذَابَ بثمره.
(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا).

(3/289)


تقلب الكفين ، يفعله الناس كثيراً.
* * *
(وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
أيْ حيطانُهَا قائمة لا سُقُوفَ عليها ، وقد تهدَّمَتْ سقُوفُها فصارت في
قرارها والعُرُوش : السقوفُ ، فصارت الحيطان كأنَّها على السقوف.
* * *
وقوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
(ينصرونه) محمول على معنى فئة ، المعنى ولم يكن له أقوام ينصرونه.
ولوكان ينصره لجاز ، كما قال : (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
(وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا).
وما كان هو أيضاً قادراً على نصر نفسه.
* * *
وقوله : (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
وتقرأ (الوِلايةُ) - بكسر الواو وفتحها -
(لِلَّهِ الْحَقِّ) ، وتقرأ (الحقُّ) ، المعنى : في مثل تلك الحال بيانُ الولاية للَّهِ.
أي عند ذلك يتيين نَصْرُهُ ، ولي اللَّه - يتولى الله إياه.
فمن قرأ (الحقُّ) بالرفع ، فهو نعتٌ للولاية ، ومن قرأ (الحقِّ) فهو
بالجر فهو نعت للَّهِ - جلَّ وعزَّ.
ويجوز (الحقَّ) ، ولا أعلم أحداً قرأ بها.
ونصبه على المصدرِ في التوكيد ، كما تقول : هنالك الحقَّ ، أي أحُقُّ الحقَّ.
وقوله : (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا).
وعُقْباً ، ويجوز و (خَيْرٌ عُقْبَى) على وزن بُشْرَى ، وثواباً وعُقْباً منصوبان
على التمييز.
* * *
وقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

(3/290)


تأويله أنه نجع في النبات حتى خالطه ، فَأخَذَ النبَاتُ زخرفة.
(فَأَصْبَحَ هَشِيمًا).
والهَشِيمُ النبات الجافَ الذي تسفيه الريح.
(تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ).
ويقرأ الريح ، وفي تذروه لغتان لَا يُقْرأ بِهمَا : تُذْرِيه - بضم التاء وكسر
الراء ، وتَذْرِيه بفتح التاء . أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الحَيَاةَ الدنيا زَائِلةٌ ، ودَليل ذَلِك أنَّ مَا مَضَى منها بمنزلة ما لم يكن ، وأعلم أن مثلها هذا المثل.
وقوله : (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا).
أي على الإنشاء ، والِإفناء ، مقتدراً.
فإن قال قائل : " فالكلام كان اللَّه " ، فتأويله أنَّ مَا شَاهَدْتَم من قدرته
ليس بحادث عنده ، وأنه كذلك كان لم يزل.
هذا مذهب سيبويه ، وقال الحسَنُ : (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)
أي كان مُقْتَدِرًا عليه قبل كونه.
وقال بَعْضُهُمْ : " كان " مِنَ اللَّه بمنزلة كائن ويكون.
وقولُ الحسنِ فِي هذَا حسنٌ جميل ومذهب سيبويه والخليل مذهب النحويين الحُذاقِ كما وَصَفْنَا ، لأنهم يقولون : إنما خوطبت العربُ بلغتِها ونزل القرآن بما يَعْقِلُونه ويتخاطبون به ، والعربُ لا تعرف كان في معنى يكون ، إلا أن يدخل على الحرف آلةٌ تنقلها إلى معنى الاستقبال ، وكذلك لا يعرف الماضي في معنى الحال.
فهذا شرح ما في القرآن من هذا الباب نحو قوله : (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) ، (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) ، وقد فسرناه قبل هذا الموضع .

(3/291)


ْوقوله : (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
(الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) هي الصلوات الخمس ، - وقيل هي : سبحان اللَّه
والحمد للَّهِ ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر.
والْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ - واللَّه أعلم -
كل عمل صالح يبقى ثوابه ، فالصلوات الخمس وتوحيد اللَّه وتعظيمه داخل
في الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ، وكذلك الصدقات والصيام والجهاد وَأعْمَالُ الخير
والبر كُلِّهَا.
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
(يَوْمَ) منصوب على معنى التلاوة والذكر ، المعنى واذكر يوم نسير الجبال.
ويجوز أن يكون نصبه على " والبَاقِيَاتُ الصالِحاتُ خير يوم يسير الجبال " أي : خير في القيامة من الأعمال التي تبقى آثامها.
وقوله (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) ، معناه ظاهرة ، وقد سُيِّرَت جبالها ، واجتثت
أشجارها ، وذهبت أبْنِيَتُهَا فبقيتْ ظَاهِرَةً ، وقد ألقت ما فيها وتخلت.
وقوله : (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).
أي لَمْ نُخَلِّفْ أحَداً مِنْهُم.
* * *
(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
معناه أنهم كلهم ظاهرون للَّهِ ، تُرَى جماعَتُهم كما يُرَى كل واحدٍ منهم.
لا يَحْجُبُ واحدٌ واحداً.
وقوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
أي بعثناكم كما خَلَقْنَاكم.
وجاء - في التفسير أنهم يُحْشَرُونَ عُرَاةً غُرْلا حُفاةً.
معنَى غُرْلًا ، جمع أغْرَل وهو الاقْلَفُ.

(3/292)


وقوله : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا).
أي بل زَعمتم أن لن تبْعَثوا ، لأن الله جل ثناؤه ، وعدَهُم بالبَعْثِ.
* * *
وقوله : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
معناه - والله أعلم - وُضِعَ كتابُ كُل امْرئ بِيَمينهِ أو شماله.
(فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا).
كل من وقع في هلكةٍ دعا بالويل.
(مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)
أي لا تاركاً صغيرةً.
(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
أي إنما يعاقبهم فيضع العقوبة موضعها في مُجازاة الذنُوبِ.
وأجمع أهل اللغة أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
* * *
وقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
قوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) دليل على أنه أمر بالسجود مع الملائكة ، وأكثر
ما في التفسير أن إبليس من غير الملائكة وقد ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ أنه كان منَ
الجِنِ بمنزلة آدم من الإنس ، وقد قيل إن الجِن ضَربٌ من الملائكة ، كانوا
خُزانَ الأرض ، وقيل خزان الجنانِ.
فإن قال قائل : فكيف استثنى مع ذكر الملائكة ، فقال فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ، فكيف وقع الاستثناء وليس هو من الأول ، فالجواب في هذا أنه أُمر
مَعَهُمْ بالسجود فاستثنى من أنه لَمْ يَسْجُد ، والدليل جملى ذلك أنك تقول :
أمرت عَبْدِي وأخوتي فأطاعوني إلا عبدي ، وكذلك قوله عزَّ وجلَّ :
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) ، ورب العالمين ليس كمثله شيء ، وقد جرى ذكره في

(3/293)


الاستثناء - وهو استثناء ليس من الأول.
ولا يقدر أحد أن يعرف معنى الكلام غيرَ هذا.
(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).
فيه ثلاثة أوجه ، يجوز أن يكون معناه : خرج عن أمْر رَبِّهِ ، يقال : فسقت
الرطبة إذا خرجت عن قِشْرهَا ، وقال قطرب : يجوز أن يكون معناه فسق عن رَدِّ أمْرِ رَبِّه ، ومذهب سيبويه والخليل وهو الحق عندنا أن معنى (فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أتاه الفسق لما أمِرَ فعصى ، فكان سبَبَ فسقِه أمْرُ رَبِّه ، كما تقول أطعمه عن جوع وكساه عن عُرْي.
المعنى كان سَبَبَ فسقه الأمْر بالسُّجودِ لَما كان سببَ
الِإطعام الجوعُ ، وسبب الكُسْوة العُرْى.
وقوله : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا).
معناه أنه بئس ما استبدل به الظالمون من رب العزة جلَّ وعزَّ ، إبليس.
* * *
وقولُه : (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
أي لم يكونوا مَوْجُودين إذ خلقت السَّمَاوَات والأرض.
(وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا).
ويقرأ (وَمَا كُنْتَ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) - بفتح التاء - المعنى في فتحها : ما
كنتَ يا محمدُ لتتخذ الْمُضِلِّينَ أنصاراً ، وضم التاء هي القراءة ، وعليها
المعنى.
يخبر اللَّه عزَّ وجلَّ بقدرته ، وأنه لا يعتضِدُ فيها ولا في نُصْرتِه
بالْمُضِلِّينَ والاعتضادُ التقوى . وطلب المعونة ، يقال : اعتضدت بفلانٍ ، معناه استعنتُ به.
و (عَضُدًا) فيه . خمسة أوجه (1) ، وجهان منها كثيران جَيِّدان ، وهما
__________
(1) قال السَّمين :
وقرأ عيسى « عَضْداً » بفتح العين وسكون الضاد ، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم : سَبْع ورَجْل في : سَبْع ورَجْل . وقرأ الحسن « عُضْداً » بالضم والسكون : وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها . وعنه أيضاً « عَضَداً » بفتحتين و « عُضُداً » بضمتين . والضحاك « عِضَداً » بكسر العين وفتحِ الضاد . وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ.
والعَضُدُ من الإِنسانِ وغيرِه معروفٌ . ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال : فلان عَضُدي . ومنه { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [ القصص : 35 ] أي : سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/294)


عَضَد بفتح العين وضم الضاد ، وعُضُد - بضم العين والضاد - ويجوز عَضْداً ، وعُضْداً ، بتسكين الضاد وضم العين وفتحها.
وقد رويت عَضِد بِكَسْر الضَّادِ
ويجوز في عَضِد بكسر الضاد (عَضْداً).
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
أضافهم إليه على قولهم.
وقوله : (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقً).
جعلنا بينهم من العذاب مَا يُوبِقُهم ، أي يُهْلِكُهمْ ، والمَوْبِقُ المَهْلِكُ.
يقال وَبِقَ الرجل يَوْبَقُ ، وَبَقاً ويقال يَيْبَقُ ، وبائق ، وفيه لغة أخرى وبَقَ يبقُ
وَبُوقاً ، وهو وَابِقٌ ، والأولُ هُوَ وَبِقٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
القراءة (وَرَأَى) ، ويجوز " ورَاءَ " المجرمون مثل ورَاعَ ، كما قال كُثَير :
وكل خليلِ رَاءني فهو قائل . . . من أجلك هذا هامة اليوم أوْ غَدِ
قوله : (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا).
معناه أيْقَنُوا . وقد بيَّنَّا ذلك.
(وَلَمْ يَجدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا).
أي معدلًا ، قال أبُو كَبير :

(3/295)


أَزُهَيْرُ هَلْ عن شَيْبةٍ من مَحْرِفِ . . . أَمْ لا خُلُودَ لِباذِلٍ مُتَكَلِّفِ
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
أي من كل مثل يحتاجون إليه ، أي بَيَّناهُ لَهُمْ.
وقوله : (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
معناه كان الكافِرُ ، ويدل عليه قوله : (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ).
فإن قال قائل : وهل يجادل غيرُ الإنسان ؟
فالجواب في ذلك أن إبليس قد جادل ، وأن كل ما يعقل من الملائكةِ والجِنِّ يجادل ، وَلَكِن الإنسانَ أكثر هذه الأشياء جَدَلاً.
* * *
وقوله : (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
موضع (أن) نصب.
المعنى وما منع الناس من الإيمان (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).
المعنى إلا طلَبَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ -.
وسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أنهم غاينوا إلعذاب ، فطلَبَ المشركون أن قالوا :
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
(أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا).
ويقرأ قِبَلاً - بكسر القاف وفتح الباء - ، ويجوز قُبْلاً - بتسكين الباء - ولم
يَقْرا بها أحدٌ.
وموضع (أن) في قوله (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ) رفع ، وتأويل قِبَلًا مُعَايَبةً ،

(3/296)


وتأويل قُبُلًا جمع قَبِيل ، المعنى أو يأتيهم العذاب أنواعاً.
ويجوز أن يكون تأويل قُبُلًا بمعنى من قُبُل أي مما يقابلهم.
وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا).
هؤلاء قد أخبر اللَّه عنهم أنهم من أهل الطبع فقال : (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ).
(أَكِنَّةً) جمع كنانة ، وهو الغطاء ، وهو مثل عِنَان وأَعِنة.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجل أن هؤلاء بأعيانهم لن يهتدوا أَبداً.
* * *
وقوله : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
الموئل المنجا ، يقال وَأَل يَئلُ إذَا نجا.
* * *
وقوله : (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
المعنى وأهل تلك القرى أهلكناهم ، يعنى به من أهْلَكَ من الأمَمُ
الخالية ، نحو عاد وثمود وقوم لوط ومن ذُكِرَ بالهَلاَكِ.
وقوله : (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً).
أي أجَلًا ، وفيها ثلاثة أوجه (1) : لِمُهْلَكِهِمْ ، وتأويل الْمُهْلَكِ على ضربين.
على المصدر ، وعلى الوقت ، معنى المصدر لإهْلَاكهم ، ومعنى الوَقتِ لِوَقْتِ
هلاكهم وكل فعل ماض على أفعل فالمصدر منه مُفْعَل ، أو إفْعَال ، واسمُ
الزمَانِ منه مُفْعَل ، وكذلك اسم المكان ، تقول أدخَلْتُه مُدْخَلاً ، وهذا مُدْخَله
أي المكانُ الذي يدخل زيد منه ، وهذا مُدْخَلُه أي وقت - إدخاله ، ويجوز أن
يقرأ (لمَهْلِكِهم) على أن يكون مَهْلك اسماً للزمَانِ على معنى هَلَك يهلِكُ.
وهذا زمن مَهْلِكِه مثل جلس يجلس ، إذا أردت المكان أو الزمَانَ ، فإذا أردت
المَصْدَرَ قلت مَهْلَك بفتح اللام مثل مجلَس ، يقال : أتَتْ الناقةُ عَلَى مَضْرِبها
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « لِمَهْلِكِهِمْ » قرأ عاصم « مَهْلَك » بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وحفصٌ بكسر اللام . والباقون بفتحها . فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ قراءاتٍ ، لعاصم قراءتان : فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه . والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه . والثالثةُ : ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام ، وهي قراءةُ الباقين.
فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف « مَهْلَك » فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله . وقال : « إنَّ » هَلَك « يتعدَّى دون همز وأنشد :
3174- ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا . . . ف » مَنْ « معمولٌ ل » هالكٍ « وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا : لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ . والأصل : هالك مَنْ تعرَِّجا . ف » مَنْ تعرَّج « فاعلٌ بهالك ، ثم أَضْمر في » هالِك « ضميرَ » مَهْمه « ونَصَبَ » مَنْ تعرَّج « نَصْبَ » الوجهَ « في قولِك : » مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ « ثم أضاف الصفة وهي » هالك « إلى معمولها ، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ ، والنصبُ مِنْ رفعٍ . فهو كقولك : » زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ « ، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه . وقد يُقال : لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب ، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة ، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها ، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو : هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه . قال الشاعر :
3175- فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً . . . والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ
وقال الهذلي :
3176- أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها . . . وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ
وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه : » إنه زمانٌ « ولم يذكرْ غيرَه . وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ . وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم ، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان.
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً . قال : » وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ « . وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه . وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه ، كلُّ ذلك عائدٌ هنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ . و » مُهْلَك « فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه ، وأَنْ يكون زماناً ، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ ، أي : وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/297)


أي على زمانِ ضِرَابِها ، وتقول جَلس مجْلَساَ - بفتح اللام - ومثله هلك مَهْلَكاً أي هُلْكاً.
وموضع (تلكَ القرَى) رفع بالابتداء ، والقرى صفة لها مُبَيّنَة ، وأهلكناهم
خبر الابتداء . وَجَائِزُ أن يكون موضع (تلك القرى) نَصْباً ويكون (أهكناهم)
مُفسِّراً للناصِب ، ويكون المعنى وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم.
* * *
وقوله : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
وإن شئْتَ قلت بالِإمَالةِ والكسْرِ ، وهي لغة تميم ، وأهل الحجاز.
يفتحونَ وُيفَخِّمُونَ.
ويروى في التفسير أنَّ فتاه " يُوشَع بنُ نون ".
(لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ).
معنى (لَا أَبْرَحُ) لا أزال ، ولو كان لا أزول كان محَالًا ، لأنه إذا لم
يزل من مكانه لم يقطع أَرْضاً ، ومعنى لا أبرح في معنى لا أزال - موجود في
كلام العرب.
قال الشاعر :.
وأَبرَحُ ما أَدامَ الله قَوْمي . . . على الأَعداء مُنْتَطِقاً مُجِيدا
أي لا أزال .

(3/298)


وإنما سمى فتاه لأنه كان يخدِمُه ، والدليل على ذلك قول موسى :
(آتِنا غَدَاءَنَا).
وقوله : (حُقباً).
الحقبُ ثمانون سنةً ، وكان مجمع البحرين الموضع الذي وعد فيه
موسى بلقاء الخضِر عليه السلام.
وأحب الله عزَّ وجلَّ أن يُعْلمَ موسى - وإن كان قد أوتي التوراة أنه قد أُوتيَ غيره من العلم أيضاً ما ليس عنده ، فَوعِدَ بلقاء الخضِر.
* * *
(فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
يعنى به موسى ويوشَع.
(نِسِيَا حُوتَهُمَا)
وكانت فيما روي سمكة مملوحة ، وكانت آية لموسى في الموضع الذي
يلقى فيه الخَضِر.
(فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).
أحيا اللَّه السمكة حتى سربَت في البحر ، و (سَرَبًا) منصوب على جهتين.
على المفعول كقولك : اتخذت طريقي في الشرب ، واتخذت طريقي مكان
كذا وكذا ، فيكون مفعولًا ثانياً كقولك اتخذت زيداً وَكِيلاً.
ويجوز أن يكون " سَرَباً " مَصْدَراً يدل عليه (فاتخذَ سبِيلَه في البحر) فيكون المعنى نَسيَا حوتَهُمَا فجعل الحوتُ طريقَه في البحر ثم بين كيف ذلك ، فكأنه قال : سَرَبَ الحُوتُ سَرباً ، ومعنى نسيا حوتهما ، كان النسيان مِنْ يُوشَع أن تقدمه ، وكان النسيانُ من موسى أن يأمره فيه بشيء.
* * *
وقوله : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
والصخرة موضع المَوْعِد .

(3/299)


قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
(فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ).
وهذا قَوْلُ يُوشَع لِمُوسَى ، حين قال موسى (آتنا غَدَاءَنَا).
وكانت السمكة من عُدَّةِ غدائهما ، فقال :
(وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).
كَسْرُ الهاء وضمها جَائِزَان في (أَنْسَانِيهُ) ، (أَنْ أذكره) بدلٌ من الهاء
لاشتمال الذكر على الهاء في المعنى ، والمعنى وما أنساني أن أذكره إلا
الشيطانُ.
(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).
(عَجَبًا) منصوب على وجهين ، على قول يوشع : واتخذ الحوت سبيله
في البحر عجباً ، ويجوز أن يكون قال يوشع : اتخذ الحوت سبيله في البحر.
فأجابه موسى فقال : (عَجَبًا) ، كأنَّه قال : أعْجَبُ عَجَباً.
ثم قال : (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي).
الأكثر في الوقف (نَبْغِ) على اتباع المصحف.
وبعد " نبغ " آيةً ويجوز وهو أحسن في العربية (ذلك ما كنا نبغي) في الوقف . أما الوصل فالأحسن فيه نبغي بإثبات الياء ، وهذا مذهب أبي عمرو ، وهو أقوى في العربية.
ومعنى قول موسى (عليه السلام) : (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) ، أي ما كنا نريد.
لأنه وعد بالخَضِر في ذلك المكان الذي تتسرب فيه السمكة.
(فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا).
أي رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثَر قَصَصاً ، والقصص اتباع
الأثر .

(3/300)


(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا
(65)
يعنى به الخضِرُ ، وقيل إنما سمي الخَضِر لأنه كان إذا صلى في
مكان اخضَّر ما حوله.
وفيما فعله موسى - وهو من جلَّةِ الأنبياء ، وقد أوتيَ التوراةَ ، من طلبه
العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحَدٍ أن يترك طلب العلم.
وإن كان قد بلغ نهايته وأحاط بأكثر ما يدركه أهل زمانه ، وأنْ يتواضع لمن هو أعلم منه.
* * *
(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
ورَشَدًا ، والفُعْلُ والفَعَل نحو الرُشْدُ والرشَدُ كثير في العربية نحو البُخْلُ
والبَخَلُ ، والعُجْمُ والعَجَمُ ، والعُرْبُ والعَرَبُ.
* * *
(قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
هدْا قول الخِضْرِ لمُوسَى ، ثم أعلمه العلة في ترك الصبر فقال :
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
أي وكيف تصبر على ما ظاهِرُه منكر ، والأنبياء والصالحون لا يَصبِرُون
على ما يرونه منكراً.
* * *
(قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
هذا قول موسى للخَضِر.
وقوله : (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
أي إنْ أنْكَرتَهُ فلا تعجل بالمسألة إلى أن أبيِّن لك الوجه فيه ، ونصب

(3/301)


(خُبْرًا) على المصدر لأن معنى لم تحط به لم تَخْبرْه خُبْرًا ، ومثله قول
امرئ القيس.
وَصِرنَا إلى الحسنى ورق حدِيثُنَا . . . ورُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبةً أَيَّ إِذلالِ
لأن معنى رُضْتُ أذلَلْتُ ، وكذلك أحطت به في معنى خبرته.
* * *
وقوله : (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
أي خرقها الخَضِرُ.
(قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) ، وليَغْرَقَ أهلُها ، وكان خرقها مما يلي
الماء ، لأن التفسير جاء بأنه خرقها بأن قلع لوحين مما يلي الماء ، فقال :
(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).
ومعنى (إِمْرًا) شيئاً عَظِيماً مِنَ المنْكَر.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
فلما رأى موسى أن الخَرْقَ لم يَدْخل مِنْة الماء ، وأنَّه لمْ يُضِر مَن فِي
السفينة :
(قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
ومعنى ترهقني تُغَشِّيني ، أي عاملني باليسر لا بالعسر.
وقوله : (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
معناه فقتله الخَضِر ، (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا).

(3/302)


قالوا في زكيةٍ بريئة ، أي لم يُرَ ما يُوجِبُ قتلَها ، و (نُكْراً) أقل من قوله (إمْراً) ، لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر مِنْ قَتْلِ نفسٍ وَاحِدَةٍ وقد قيل إنَّ
(نُكْراً) ههنا معناه لقد جئتَ شيئاً أَنْكَرَ من الأمر الأول.
و (نُكْراً) منصوب على ضربين : أحدهما معناه أتيْتَ شيئاً نكراً ، ويجوز أن
- يكون معناه : جئْتُ بشَيءٍ نكرٍ ، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب.
* * *
(قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا
(76)
أي بعد هذه المسألة : (فَلَا تُصَاحِبْني).
وُيقْرا فلا تصْحَبْني ، وَقِرَاءة شَاذةٌ فَلاَ تُصْحِبْني . .
فمن قرأ فلا تَصْحَبْني فإن معناه فَلَا تَكُونَنَّ صَاحِبِي ، ومن قرأ فلا
تصاحبني فمعناه إنْ طلبتُ صِحبتك فلا تتابعني على ذلك.
ومن قرأ تُصْحِبْني ، ففيها بأربعة أوجه ، فأجْوَدها فلا تُتابعْنِي على ذلك ، يقال قد أصحب المُهْرُ إذا انقاد ، فيكون معناه فلا تتابعَني في شيء ألتمسه منك.
ويجوز أن يكونَ معناه : فَلَا تُصْحِبْني أحَداً ولا أعرف لهذا معنى لأن موسى
لم يكن سأل الخَضِرَ أن يصْحِبَهُ أحَداً.
وقوله : (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) (1).
ويقرأ من لَدُنِي بتخفيف النُّونِ ، لأن أصل لّدُنْ الِإسكان ، فإذا أضَفْتَها
إلى نَفْسِك زدت نوناً ليَعْلَمَ سُكُونُ النونِ الأولى ، تقول من لَدُنْ زَيْدٍ ، فتسكِنَ النُونَ ثم تضيف إلى نفسك ، فتقول من لَدُنِى كما تقول عن زَيْدٍ وَعَني . ومن قال مِنْ لَدْنِي لم يجز أن يقولَ عَنِي ومِنِي بحدف النونِ ، لأن لدن اسم غير متمكن ، ومن وعن حرفانِ جاءا لمعنًى.
ولدُن مع ذلك أَثْقَلُ مِنْ " مِنْ " و " فَيْ ".
والدليل على أن الأسماء يجوز فيها حذف النون قولهم : قَدْنِي في
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَلاَ تُصَاحِبْنِي } : العامَّةُ على « تصاحِبْني » من المفاعلة . وعيسى ويعقوب : « فلا تَصْحَبَنِّي » مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه . وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء ، مِنْ أصحب يُصْحِب ، ومفعولُه محذوفٌ تقديره : فلا تُصْحِبْني نفسك . وقرأ أُبَيٌّ « فلا تُصْحِبْني عِلْمَك » فأظهر المفعول.
قوله : { مِن لَّدُنِّي } العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون . وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على « لَدُن » لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها ، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون « مِنْ » و « عَنْ » فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون : مِنِّي وعَنِّي بالتشديد.
ونافعٌ بتخفيف النون . والوجهُ فيه : أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل « لَدُن » . إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال : « لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب » لَدُنْ « مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية » . وهذه القراءةُ حجةٌ عليه . فإنْ قيل : لِمَ لا يُقال : إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ ، وإنما اتصلَتْ ب « لَدُ » لغةً في « لَدُن » حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل : لا يَصِحُّ ذلك من وجهين ، أحدهما : أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها . ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ ، فلا حاجةَ إلى النون.
والثاني : أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال : « لَدُني » بالتخفيف.
وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ « عَنْ » و « مِنْ » في قوله :
3183- أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ . . . لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً ، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على « لَدْ » الساكنة الدال ، لغةً في « لدن » فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها . وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد « عَضْد » وبابِه.
وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً ، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل . واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ ، فقائلٌ : هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف . وقائلٌ : هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى ، يعني : أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ . وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه { لاَ تَأْمَنَّا } [ الآية : 11 ] ، وفي قوله في هذه السورةِ « مِنْ لدنه » في قراءة شعبة أيضاً ، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ « عُذُراً » بضمتين . وعن أبي عمرو أيضاً « عُذْرِي » مضافاً لياءِ المتكلم.
و { مِن لَّدُنِّي } متعلقٌ ب « بَلَغْتَ » ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « عُذْرا ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/303)


معنى حَسبِي ، ويقولون قد زَيدٍ فيدخلون النون لما ذكرناه إذا أضيفت.
ويجوز قَدِي بحذف النون لأن قَدْ اسم غير متمكنِ.
قال الشاعر (فجاء باللغتين).
قَدْنِيَ مِنْ نَصْر الخُبَيْبَيْن قَدِي
فأمَّا إسكانهم دال لَدْن فأسكنوها كما يقولون في عَضُد : عَضْدٍ.
فيحذفون الصفةَ.
وقوله : (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
زعم سيبويه أن معنى مثل هذا التوكيد ، والمعنى هذا فراق بيننا أي هذا
فراق اتصالنا ، قال : ومثل هذا أمر الكلام : أخزى اللَّه الكاذب مِنِي وَمِنْكَ ، فذكر بيني وبينك ثانيةً توْكيد ، وهذا لا يكونُ إلا بالواو ولا يجوز :
" هذا فراق بيْي فَبيْنِكَ " لأن معنى الواو الاجتماع ، ومعنى الفاء أن يأتي الثاني في إثْر الأول.
* * *
وقوله : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
مَسَاكِينُ : لَا يَنْصَرِفُ لأنه جمع لا يكون على مثال الواحد ، وكذلك كل
جمع نحو مساجد ومفاتيح وطوامير ، لَا يَنصرف كما ذكرنا.
وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدم في باب ما لا ينصرف .

(3/304)


وقوله : (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا).
كان يأخذ كل سفينة لا عَيْبَ فيها غَصْباً ، فإن كانت عائبة لم يعرض
لها . ووَرَاءَهُم : خلفهم ، هذا الأجود الوجهين.
ويجوز أن يكون : كان رجوعهم في طريقهم عليه ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلمَ اللَّهُ الخَضِر خَبَرهُ.
وقيل : (كانَ وَرَاءَهُمْ) معناه كان قدَّامَهُمْ.
وهذا جاء في العربية ، لأنه ما بين يَدَيْكَ
وَمَا قدَّامَك إذا توارَى عنك فقد صار وراءك.
قال الشاعر :
أَليسَ وَرائي إِنْ تَراخَتْ مَنِيَّتي . . . لزُومُ العَصا تُثْنى عليها الأَصابِعُ
* * *
وقوله : (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
(يُرْهِقَهُمَا) يحملهما على الرهق وهو الجهل.
وقوله (فخشينا) من كلام الخَضِرِ ، وقال قوم لا يجوز أن يكون فخشينا عن اللَّه ، وقالوا دليلنا على أن فخشينا من كلام الخضِر قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا) وهذا جائز أن يكونَ عن اللَّه عزَّ وجلَّ : (فخشينا) لأن الخشية من اللَّه عزَّ وجلَّ معناه الكَرَاهَةُ ، ومعناها من الآدميين الخَوْفُ.
وقوله : (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
(فَأرَدْنَا).
بمعنى أراد اللَّه - جلَّ وعزَّ - لأن لفظ الإخْبَارِ عن اللَّه كذا أكْثَرُ من أن
يحصى.
ومعنى : . (وَأقْرَبَ رُحْماً).
أي أقرب عَطْفاً وأمَسُّ بِالقَرابَةِ ، والرُّحْمُ والرَّحْمُ في اللغةِ العطف
والرحمةُ
قال الشاعر :

(3/305)


وكيف بِظُلْمِ جَارِيةٍ . . . ومنها اللين والرُّحمُ
* * *
وقوله : (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)
وتقرأ أن يُضِيفُوهُمَا . يقَالُ : ضِفْتُ الرجلَ نزلت عليه ، وأضَفْتُه وضَيَّفْتُه ، إذا أنزلتُه وقَرَبْتُه
وقوله (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ).
أي فأقامه الخَضِرُ ، ومعنى جِدَاراً يُريدُ - والِإرادة إنما تكون في الحيوانِ
المبين ، والجدار لا يُريد إرادة حقيقيةَ ، إلَّا أن هيئته في التهيؤ للسقوط قد
ظهرت كما تظهر أفعال المريدين القاصدين ، فوصف بالِإرادة إذ الصورتان
واحدة ، وهذا كثير في الشعر واللغة.
قال الراعي يصف الِإبِل :
في مَهْمَةٍ قَلِقَتْ به هاماتُها قَلَقَ الفُؤُوسِ إِذا أَردنَ نُضولا
وقال الآخر :
يُريدُ الرمحُ صدرَ أَبي بَراء . . . ويَعدِلُ عن دِماءِ بَني عَقيل
ويقرأ : أَنْ يَنْقَضَّ ، وأَنْ يَنْقَاضَّ (1) ، فينقض يسقط بسرعة.
وينقاضَّ ينشق طولًا.
يقال انقاضَّ سِنُّه إذا انشقَت طُولاً
وقوله ؛ (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).
وُيرْوَى : لَتَخِذْت ، وذلك أنهما لما نزلا القرية لم يُضَيفْهُمَا أهْلُهَا ، ولا
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَن يَنقَضَّ } مفعولُ الإِرادة . و « انقَضَّ » يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار . والمعنى : يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى ، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ . وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال : نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه . ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش « يريد ليُنْقَضَ » مبنياً للمفعول واللامِ ، كهي في قولِه { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] . وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه { يُرِيدُ أَن يُنقَضَ } بغير لام كي.
وقرأ الزُّهْري « أنْ يَنْقَاضَ » بألفٍ بعد القاف . قال الفارسيُّ : « هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ » أي : هَدَمْتُه فانهدم « . قلت : فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل . والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً . ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال : » مثل : يَحْمارّ « ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ . ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال : » وهو مِنْ قولِك : انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم «.
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين » يَنْقاص « بالصاد مهملةً ، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه ، أي : كسره . قال ابنُ خالويه : » وتقول العرب « انقاصَتِ السِّنُّ : إذا انشقَّتْ طولاً » . وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة :
3185- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ
وقيل : إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان . وأُنْشِد لأبي ذؤيب :
3186 فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه . . . لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ
ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً . ومِنْ أنكر المجازَ مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات . أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ . وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ . وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/306)


أنزَلُوهُمَا فَقَالَ مُوسَى لو شِئتَ لأخَذْتَ أجرة إقامَتِكَ هذا الحائط ، ويقرأ
لتخذت عليه أجراً ، يقال تَخِذَ يتْخَذُ في اتَّخَذَ يَتخذُ ، وأصل تَخِذْ من أخَذْت
وأصل اتَخَذت ائْتَخذْت (1).
* * *
وقوله : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
(وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا).
قيل كان الكنز عِلْماً ، وقيل كان الكنزِ مالًا ، والمعروف في اللغة أن الكَنْزَ
إذَا أفْرِدَ فمعناه المالُ المدْفُونَ والمدَّخَرُ فإذا لم يكن المال قيل : عنده
عِلْمٍ وله كَنْزُ فَهْمٍ ، والكنز ههنا بالمال أشبَهُ ، لأن العلم لا يكاد يتعدم
إلا بمعلِّمٍ ، والمال لا يحتاج أن ينتفع فيه بغيره ، وجائز أن يكون الكنْزُ كان
مالاً مكتوباً فيه عِلم ، لأنه قد رويَ أنه كان لوحاً مِن ذَهَب عليه مكتوب :
" لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، فهذا مال وَعِلْم عظيم ، هو توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ وإعلام أن محمداً مبعوث.
وقوله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
(رَحْمَةً) منصوب على وجْهَيْن :
أحدهما قوله (فَأَرَاد ربُك) وأردْنَا مَا ذَكَرْنَا
رحمةً أي للرحمة ، أي فعلنا ذلك رَحْمةً كما تقول :
أنقَذْتكَ من الهلكة رحمة بك.
ويجوز أن يكون (رَحْمَةً) منصوباً على المصدر.
لأن معنى (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا)
رحمهما الله بذلك.
وجميع ما ذكر من قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا).
ومن قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) ، معناه رحمهما اللَّهُ رحمة.
وقوله : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).
يدل على أنه فعله بوحي الله عزَّ وجلَّ.
وقوله : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « لاتَّحّذْتَ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « لتَخِذْتَ » بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ . والباقون : : لاتَّخَذْتَ « بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ . واختُلِفَ : هل هما مِن الأَخْذ ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة ، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو :
3187- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ
أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع . والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/307)


كانت إليهود سألت عن قصة ذي القرنين على جنس الامتحان.
(قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا)
يقال إنه سمي ذا القرنين لأنه كانت ، له ضَفِيرتان ، وُيروَى عن علي عليه
السلام أنه قال سمي ذا القرنين لأنه ضَرَبَ على جانب رَأسه الأيمن ، وجانب
رأسه الأيسر ، أي ضرب على قرني رأسه.
ويجوز أن يكون على مذهب أهل اللغة أن يكون سُمِّيَ ذا القرنين لأنه بلغ قطري الدنيا - مشرقِ الشمسِ ومَغْرِبها
* * *
وقوله : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) [فَاتَّبَعَ] سَبَبًا (85)
ويقرأ (فَأَتْبَعَ) أي آتيناه من كل شيء ما يَبْلُغُ بِهِ فِي التمَكُّنِ أقْطَارَ
الأرْضِ.
(سَبَبًا) أي عِلْمأ يوصلهُ إلى حَيْثُ يريد ، كما سخر الله عزَّ وجل
لسليمان الريحَ.
ومعنى (فَأتبْعَ سَبَباً).
- واللَّه أعلم - أي فاتبع سبَبَاً من الأسباب التي أوتيَ.
* * *
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيةٍ)
ويُقْرأ (حَمِئَةٍ) بالهمز فَمَن قرأ حَمِئةٍ أراد في عين ذَاتِ حمأةٍ ، ويقال حَمأتُ
البئر إذَا أخرجتُ حَمْأتَها ، وأحْمأتها - إذا ألقيت فيها الحَمْأةَ ، وحمِئَتْ هي تحمأ فهي حمئة إدَا صارت فيها الحمأة.
ومن قرأ حَامِيَةً بغير همز أراد حارَّةً ، وقد تكون حارَّةً ذات حَمْأةٍ.
(وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا).
أي عند العين.
وقوله : (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).

(3/308)


أباحه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - هَذَيْن الحكمبن كما أباح محمداً - صلى الله عليه وسلم - الحكم بين أهْلِ الكتاب أو الإِعراضَ عنهم.
* * *
(قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا
(87)
أي فسوفْ نعذِّبُه بالقتل وعَذَاب اللَّهِ إيَّاهُ بالنار أنْكَرُ من عذاب القتل.
وقوله : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ [جَزَاءُ] الْحُسْنَى)
وتُقرأ (جَزَاءً الْحُسْنَى) ، المعنى فله الحسنى جزاءً ، وجزاء مصدر
موضوع في موضع الحال.
المعنى فله الحسنى مَجْزِيًّا بها جزاءً.
ومن قرأ (جَزَاءُ الْحُسْنَى) ، أضَافَ جزاء إلى الحسنى.
وقد قرئ بهما جميعاً (1).
(وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).
أي نقول له قولًا جميلاً
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
أي سببًا آخر مما يوصله إلى قُطْر من أقطار الأرض.
* * *
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
أي : لم نجعل لهم شيئاً يُظلهُمْ من سقف ولا لباس.
وقوله : (كَذَلِكَ) يجوز أن يكون وجدها تطلع على قوم كذلك القبيل
الذين كانوا عند مغرب الشمس ، وأن حكمهم حكم أولئك.
وقولها (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
أي سبباً ثالِثاً مما يبلُغُهُ قُطراً من أقطَارِ الأرْض.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { جَزَآءً الحسنى } : قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب « جزاءً » وتنوينِه . والباقون برفعِه مضافاً . فالنصبُ على المصدر المؤكِّد لمضمونِ الجملة ، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ ، أي : يَجْزِي جزاء . وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه . وقد يُعْترض على الأولِ : بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها ، فكذا لا يَتَوسَّط . وفيه نظرٌ يحتمل الجوازَ والمنعَ ، وهو إلى الجوازِ أقربُ.
الثالث : أنه في موضع الحالِ . والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء ، والخبرُ الجارُّ قبلَه . و « الحُسْنى » مضاف إليها . والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ . وقيل : الفَعْلَة الحسنى.
الرابع : نصبُه على التفسيرِ . قاله الفراء . يعني التمييزَ . وهو بعيدٌ.
وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإِضافةِ . وفيها تخريجان ، أحدُهما : أنَّ المبتدأَ محذوفٌ ، وهو العاملُ في « جزاءَ الحسنى » التقديرُ : فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى . والثاني : أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله :
3196- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
ذكره المهدويُّ.
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق « جزاءً » مرفوعاً منوناً على الابتداء . و « الحُسْنى » بدلٌ أو بيان ، أو منصوبةٌ بإضمار « أَعْني » ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/309)


(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا
(93)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السُّدَّيْنِ)
ويقرأ (بَيْنَ السَّدَّيْنِ). وقيل ما كان مسدوداً
خلقة فهو سُدٌّ ، وما كان من عمل الناس فهو سَدٌّ.
وقوله : (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا).
ويقرأ يُفقَهون ، فمعناه لا يكادون يُفْهِمُونَ.
* * *
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
وتقرأ بالهمز في يأجوج ومأجوج ، ويقرأ بغير همر ، وهما اسْمان
أعجَميًانِ لا ينصرفان لأنهما معرفة.
وقال بَعضُ أهل اللغة : من هَمَزَ كأنَّه يجعله من أجَّةِ الحرِّ ، ومن قوله
مِلْحٌ أجَاجٌ.
وأجَّةُ الحَر شدتُهُ وتَوَقُدُه.
ومن هذا قولهم أجَّجْتُ النَّارَ ويكون التقدير في يأجُوج يفعُول ، وفي مَأجُوج مفعول ، وجائز أن يكون ترك الهمز على هذا المعنى ، ويجوز أن يكون " مَاجوج " فاعول ، وكذلك ياجوج ، وهذا لو كان الاسمانِ عَرَبيينِ لكان هذا اشتقاقهما ، فأما الأعجمية فلا تشتق من العربية.
وقوله : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا).
وَتُقْرأ (خَرَاجاً) . فمن قرأ خَرْجاً ، فالخَرْجُ الفَيْءُ - ، والخَرَاجُ الضرِيبَة
وقيل الجزْيَةُ ، والخراج عند النحويين الاسم لما يُخْرَج من الفرائض في الأموال ، والخَرْجُ المصْدَرُ (1).
وقوله عزَّ وجلَّ : (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
أي تجعل بيننا وبين يأجُوج ومَاجُوجَ.
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
(95)
ويجوز . . ما مكَنَنِي بنونين ، أي الذي مكنني فيه رَبِّي خَيرٌ لي مما
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } : قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة ، والباقون بألفٍ صريحة . واخْتُلِف في ذلك فقيل : هما أعجميان . لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة . ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها ، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية . وقيل : بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما : فقيل : اشتقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها . وقيل : مِنَ الأَجَّة . وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ . وقيل : من الأجِّ ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ . ومنه قوله :
3197- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ
وقيل : من الأُجاجِ ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق . ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول . وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ . وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة ، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ . ولا ضَيْرَ في ذلك . ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين ، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ.
ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج ، أي : اضطرب ومنه المَوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل : مَوْجُوج . قاله أبو حاتم . وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ . وشذوذُه كشذوذِ « طائيّ » في النسب إلى طيِّئ . وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى القبيلة ، كما تقدَّم لك تحقيقهُ في سورة هود . ومثلُ هذا الخلافِ والتعليلِ جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام . والهمزةُ في يَأْجوج ومَأْجوج لغةُ بني أسد . وقرأ رؤبة وأبوه العجاج « آجوج ».
قوله : « خَراجاً » قرأ ابن عامر « خَرْجاً » هنا وفي المؤمنين بسكون الراء ، والأخَوان « خراجاً » « فَخَراج » في السورتين بالألف ، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة ، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو « فَخَراج » كقراءة الأخوين . فقيل : هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال . وقيل : الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإِتاوة كلَّ عام ، وبغير ألف بمعنى الجُعْل ، أي : نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك.
قال مكي رحمه الله : « والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه ، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام . وقيل : الخَرْج ما كان على الرؤوس ، والخراج ما كان على الأرض ، يقال : أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ ، وخراجَ أرضِك . قاله ابن الأعرابي . وقيل : الخَرْجُ أخصُّ ، والخَراجُ أعَمُّ . قاله ثعلب . وقيل : الخَرْجُ مصدرٌ ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى ، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/310)


يَجعَلونَ لي من الخراج.
فمن قرأ (مَكَني) أدغم النون في النون لاجتماع النونين.
ومن قرأ (مَكنَنِي) بنونَيْنِ أظهر النونين لأنهما مِنْ كلِمَتَيْنِ.
الأولى من فعل والثانية تدخل مع الاسم المضمر.
وقوله : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ).
أي بعمل تعملونه معي لا بمال
(أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)
والردم في اللغة أكثر مِنَ السد ، لأنَّ الردم ما جُعِلَ بعضه على بعْضٍ
يقال : ثوبٌ مُرَدَّمٌ ، إذا كان قد رُقِعَ رُقعة فوق رُقعَة.
* * *
وقوله : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
أي قطع الحديد ، وواحد الزبَرِ زُبَرَة ، وهى القطعة العظيمة.
وقوله : (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ).
وتقرأ الصُّدُفَيْنِ والصُّدْفَينِ ، وهُما نَاحِيتَا الجَبَلِ.
وقوله : (قَالَ انْفُخُوا).
وهو أن أخذ قِطعَ الحديد العِظَامِ وجعل بينها الحطب والفَحْمَ ووضع
عليها المنافيخ حتى إذا صارت كالنار ، وهو قوله : (حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَاراً).
والحديد إذَا أُحْمِيَ بالفحم والمِنْفَاخِ صارَ كالنَّارِ.
وقوله : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا).
المعنى : أعطوني قِطْراً وهو النحاس . فصب النحاس المُذَابَ على

(3/311)


الحديد الذي قد صار كالزيت فاختلط ولَصقَ بعْضُه ببعض حتى صار جبلاً
صَلْداً من حديد ونحاسٍ . ويقال إنه بناحية أرْمِينية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
أي ما قَدَرُوا أن يعلو عليه لارتفاعه وامْلِسَاسِه وما استطاعوا أنْ يَنْقُبُوه.
وقوله : (فما اسْطَاعُوا) (1) بغير تاء أصلها استطاعوا بالتاء ، ولكن التاء والطاء من مخرج واحد ، فحذفت التاء لاجْتِمَاعِهِمَا ويخف اللفظُ ، ومِنَ العَرب من
يقول : فما استاعوا بغير طَاء ، ولا تجوز القراءة بها.
ومنهم من يقول : فما أسْطَاعوا بقطع الألف ، المعنى فما أطاعوا ، فزادوا السين.
قال الخليل وسيبويه : زَادُوهُمَا عِوَضاً من ذهاب حركة الواو ، لأن الأصل في أطاع أطْوَعَ.
فأمَّا من قرأ فما اسْطَاعوا - بإدغام السين في الطاء - فلاحِنٌ مخطئٌ.
زعم ذلك النحويون ، الخليل ويونُس وسيبويه ، وجميع من قال بقولهم . وَحُجتُهُمْ فِي ذلك أن السين ساكنة فإذا أدغمت التاء صارت طاء ساكنة ، ولا يجمع بين ساكنين.
ومن قال : اطرح حركة التاء على السين فأقول : فما اسَطاعُوا فخطأ
أيضاً ، لأن سين استفعل لم تحركْ قط.
* * *
وقوله : (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
أي هذا التمكين الذي أدركتُ به السُّدَّ رحمةُ منْ ربي.
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ [دَكًّا] وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
وتقرأ (دَكاءَ) ، على فعلاء - يا هذا - والذكاء والذكاء ، كل ما انسبط من
الأرْض من مُرتَفع.
يعنى أنه إذا كان يومُ القيامَةِ ، أو في وقت خروجٍ يَأجْوج ومَأجُوجَ
صار هذا الجبل دَكًّا.
والدليل على أن هذا الجبل يصير دَكًّا قوله :
(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَمَا اسطاعوا } : قرأ حمزة بتشديد الطاء ، والباقون بتخفيفها . والوجهُ في الإِدغام كما قال أبو علي : « لمَّا لم يمكن إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك » - يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الساكن ، وإن لم يكن حرف لين . وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو . وقد أنشد سيبويه « ومَسْحِيِ » يعني في قول الشاعر :
3198- كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ . . . ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ
يريد « ومَسْحِه » فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً ، وهو عكسُ قاعدةِ الإِدغام في المتقاربين . وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة . قال الزجاج : « مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ » وقال أبو علي : « هي غيرُ جائزة ».
وقرأ الأعشى ، عن أبي بكر « اصْطاعوا » بإبدال السين صاداً . والأعمش « استطاعوا » كالثانية. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/312)


وقوله : (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
ومعنى يموجون في الشيء يخوضون فيه ويكثرون القول.
فجائز أن يكون يعنى ب " يومئذٍ " يوم القيامة ، ويكون الدليل على ذلك (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا).
ويجوز أن يكون (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي يوم انقضاء
أمر السَّدِّ.
وقوله (يَمُوجُ) ، ماجوا متعجبين مِنَ السَّدِّ.
ومعنى (نفِخَ فِي الصْورِ).
قال أهل اللغة : الصور جمع صورة.
والذي جاء في التفسير أن الصور قرن يَنْفُخ فيه إسرافيل - واللَّه أعلم - إلا إن حملته أنه عند ذلك النفِخْ يكون بعث العباد ونشرهم
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
تأويل عرضنا أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها ورأوها.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
جعل اللَّه عزَّ وجلَّ على أبصارهم غشاوة بكفرهم.
(وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا).
كانوا لعداوتَهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلى عليهم ، كما تقول للكاره لقولك ما تقدر أن تسمع كلامي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

(3/313)


تأويله : أفحسبوا أن ينفعهم اتخاذهم عِبَادِي أولياء.
وقرئت - وهي جَيِّدَةٌ - (أَفَحَسَبَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
تأويله أفيكْفيهم أن يتخذوا العبادَ - أولياء مِن دون اللَّه.
ثم بين عزَّ وجلَّ جزاءهم فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا).
يقال لكَل ما اتُّخِذَ ليمكث فِيه ، أعتَدْت لفلان كذا وكذا ، أي اتخَذْتُهُ عَتَاداً
له ، ونُزُلاً ، بمعْنَى مَنْزِلًا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
(بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا)
منصوب على التمييز لأنه إذْ قال : (بِالْأَخْسَرِينَ) ، دلَّ على أنه كان منهم
ما خسِروه ، فبين ذلك الخَسْرَانَ فِي أيِّ نوعٍ وَقَع فأعلم - جلَّ وعزَّ - أنه لا
ينفع عملٌ عُمل مع الكفر به شيئاً فقال :
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
كما قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
و (الذين) يصلح أنْ يكونَ جرًّا ورَفْعأ ، فالجرُّ نعت للأخسرين.
والرفع على الاستئناف ، والمعنى هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا.
(وَهُمْ يَحْسَبُوَن).
وتقرأ (يحْسِبُون)
(أنَّهمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
أي يظنون أنهم بصدهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
وقوله - عزَ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
اختلف الناس في تفسير الفردوس ، فقال قوم : الفردوسُ الأوْدِيةُ التي

(3/314)


تنبت ضروباً من النبت ، وقالوا : الفردوس البستان وقالوا : هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية ، والفِرْدَوْسُ أيضاً - بالسريانية ، كذا لفظة فردوس . ولم نجد في أشعار العرب إلا في بيت لحسان بن ثابت.
وإنَ ثواب الله كُل موحدٍ . . . جنانٌ من الفرْدَوْسِ فيها يخلَّدُ
وحقيقته أنه البُستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين لأنه عند
أهل كل لغة كذلك ، ولهذا قال حسان بن ثابت : " جِنان من الفردوس ".
وقولهم : إنه البستان يحقق هذا.
والجنة أيضاً في اللغة البُسْتَان ، إلا أن الجنة التِي يَدْخُلُهَا المؤمنون فيها
ما يكون في البساتين ، ويدل عليه قوله (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ).
وقوله : (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
منصوب على الحال.
(لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا).
أي لا يُريدُونَ عنها تَحَوُلاً ، يقال : قد حال في مكانه حِوَلاً ، كما قالوا
في المصادر صَغُرَ صِغَراً ، وعظُم عِظَماً ، وعادني حبها عِوَداً.
وقد قيل أيضاً : إنّ الحِوَالَ الحيلَةُ ، فيكون على هذا المعنى ، لا يحتالون منزلاً غيرها
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ :(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
(وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) .

(3/315)


(مَدَدًا) منصوب على التمييز ، تقول : لي ملءُ هذا عسلاً ، ومِثْلُ هذا
ذهباً ، أي مثله من الذهب.
وقد فسرنا نصب التمييز فيما سلف من الكتاب.
وقوله : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ).
فيها قولان : قال بعضهم معناه فمن كان يخاف لقاء رَبِّه.
ومثله : (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13).
قالوا : معناه مَا لكم لا تخافون للَّهِ عظمةً.
وقد قيل أيضاً فمن كان يرجو صلاح المنقلب عند ربِّه ، فإذَا رَجَاهُ خَافَ أيضاً عذاب رَبِّه.
(فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا).
وتجوز " فَلِيَعْمَلْ " بكسر اللام ، وهو الأصل ، ولكنه يَثْقلُ في اللفظ ، ولا
يكاد يقرأ به ، ولو ابتُدِئ بغير الفاء لكانت اللام مكسورة.
تقول : لِيَعْمَلْ زيد بخيرٍ ، فلما خالطتها الفاء ، وكان بعد اللام الياء ثقلت الكسرة مع الياء.
وهي وحدها ثقيلة ، ألا تراهم يقولون في فَخِذٍ فَخْذٍ .

(3/316)


سورة مريم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (كهيعص (1)
فيها في القراءة ثلاثة أوجه : فتح الهاء والياء ، وكسرهما.
وقرأ الحسن بضم الهاء كهُيعص ، وهي أقل اللغات.
فأمَّا الفتح فهو الأصل . تقول : هَا . با . تا . . . في حروف الهجاء ، ومن العرب من يقول ها يا . بالكسر.
ومنهم من ينحو نحو الضم فيقول هُا . يُا ، يُشِم الضمَّ.
وحكى الخليل وسيبويه أن من العَرب من يقول في الصلاة الصَّلُوة ، فينحو نحو الضم ، فأمَّا من روى ضمَّ الهاء مع الياء فشَاذ ، لأن إجماع الرواة عن الحسن ضم الهاء وحدها.
وفي الرواية ضم الياء قليل عنه.
واختلف في تفسير (كهيعص) فقال أكثر أهل اللغة إنها حروف التَّهَجِّي
تدل على الابتداء بالسورة نحو (الم ، والر).
وقيل إن تأويلها أنها حروف يَدُلُّ كُل وَاحِد منها على صفة من صفات اللَّه - عزَّ وجلَّ - فكاف يدل على كريم ، و " ها " يدل على هادٍ ، و " يا " من حكيم ، و " عين " يدل على عالم ، و " صَادْ " يَدُلُّ على صادق.
وهذا أحسن ما جاء في هذه الحروف ، وقد استقصينا ذلك
في أول سورة البقرة .

(3/317)


والعين قالوا يدل على عليم.
وروي أن (كهيعص) اسم من أسماء اللَّه تعالى.
وروى أن عَلِيًّا - (عليه السلام) أقسم بكهيعص ، أو قال : " يا كهيعص).
والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد ، لأن الداعي إذا عَلِمَ أن
الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات اللَّه - جلَّ وعزَّ - فدعا بها.
فكأنه قال : يا كافي يا هادي يا عَالِم يَا صَادِق ، فكأنه دعا بكهيعص لذكرها في القرآن وهو يدل على هذه الصفات ، فإذا أقسم فقال : وكهيعص ، فكأنه قال والكافي والهادي والعالم والحكيم والصادق.
وأسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجٍّ النَيَّةُ فيها الوقْفُ.
* * *
(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
(ذِكْرُ) مرتفع بالمضَمر ، المعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك عبده
بالرحمة ، لأن ذكر الرحمن إياه لا يكون إلا باللَّه - عزَّ وجلَّ -.
والمعنى ذكر ربك عبده بالرحمة.
و (زكريا) يقرأ على وجهين ، بالقصر والمد ، فأَعلم اللَّه
- جلَّ وعزَّ - على لسان نبيه عليه السلام وصيةَ زكريا ويحيى ليَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ أن محمداً - عليه السلام - قد أوحي إليه ، وأنزل عليه ذكر من مضى من الأنبياء وأنهم يجدون ذلك في كتُبِهِمْ على ما ذكر - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يتل كتاباً ولا خطَّه بيمينه ، وأنه لم يَعْلَم ذلك إلا من قبل الله تعالى وكان إخْبَارُهُ بهذا وما أشبهه على هذه الصفة دليلاً على نبوته - صلى الله عليه وسلم -.
وقال بعض أهل اللغة إنَّ قوله : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) يرتفع
بـ " كهيعص " وهذا محال لأنَّ " كهيعص " ليس هو فيما أنبأنا اللَّه - عزَّ وجل - به عن زكريا ، وقد بَيَّن في السورة ما فَعَله به وبشَّرَهُ به.
ولم يجئ في شيء من التفسير أن " كهيعص " هو قصة زكريا ولا يحيى ولا شيء منه ، وقد أجمع

(3/318)


القائل لهذا القول وغيره أن رَفْعهُ بالِإضمار هو الوجه.
(إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
دعا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - سِرا ، وبين ما الذي سأل الله عزَّ وجلَّ ، فقال :
(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
ومعنى (وَهَنَ) ضعف.
(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا).
قيل إن كان قد أتت له في ذَلك الوقتِ خَمسٌ وستون سَنَةً ، وقيل ستونَ
سنةً وقيل خمس وسبعون سنة.
و " شَيْباً " منصوب على التمييز
المعنى اشتعل الرأس من الشيب ، يقال للشيب إذا كثر جِدا : قد اشتعل رأس فلان.
(وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).
أي كنْتُ مستجاب الدعوة.
ويجوز أن يكون أراد (لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي من دعاك مخلصاً فقد وَحَّدك وعبدك ، فلم أكن بعبادتك شَقِيًّا.
* * *
وقوله : عزَّ وجلَّ : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
- بإسكان الياء من ورائي - معناه من بعدي ، والموالي واحدهم مولى.
وهم بنو العم وعصبة الرجل ، ومعناه الذين يَلُونَه في النَسَبِ كما أن معنى
القرابة الذين يقربون منه في النسب.
وقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا).
أي قد بلغت هذه السِّنَ وامْراتِي عاقر ، والعاقر من النساء التي بها علة
تمنع الْوَلَدَ ، فكذلك العاقِر من الرجال ، فليس يكون لي ولد إلا " وَلِيًّا " فهبه
لي ، فإنك على كل شيء قدير .

(3/319)


وقوله : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
ويقرأ بالجَزم (يَرِثْني ويرِثْ من آل يعقوب) على جواب الأمْرِ
ومن قرأ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) فعلى صفة الولي ، وقيل يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة.
وقال قوم لا يجوز أن يقول زكريا : إنه يخاف أن يورث المال لأن أمر الأنبياء
والصالحين أنهم لا يخافون أن يرثهم أقرباؤهم ما جعله الله لهم ، وجاء عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
" إنا معاشر الأنبياء لاَ نُورَث ما تركناه فهو صَدَقَة "
فقالوا معناه يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة.
وقوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).
وقوله أيضاً " وليًّا " يدل على أنه سأل ولداً دَيناً ، لأن غَيْرَ الدَّيِّنِ لا يكون
ولياً للنبي عليه السلام.
* * *
وقوله : (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
(7)
(إِنَّا نُبَشِّرُكَ). ونَبْشرُك
(بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا).
أي لم يسم أحد قبله بيحيى ، كذا قال ابن عباس ، وقيل سمي بيحيى
لأنه حَيى بالعلم وبالحكمة التي أوتيها ، وقيل لم نَجْعَلْ له من قبل سمياً ، أي
نظيراً ومِثْلاً.
كل ذلك قد جاء في التفسير.
* * *
وقوله : (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ [عُتِيًّا] (8)
وتقرأ (عِتِيًّا) ، وقد رُوِيتْ عُسِيًّا - بالسين - ولكن لا يجوز في القراءة لأنه
بخلاف المصحف ، وكل شيء انتهى فقد عتا يعتو عِتِيًّا وعُتُوًّا وعُسُوًّا ، وعُسِيًّا.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { عِتِيّاً } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مفعولٌ به ، أي : بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ ، فعلى هذا { مِنَ الكبر } يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب « بَلَغْتُ » ، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « عِتِيَّا » لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك . الثاني : أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل ، لأنَّ / بلوغَ الكِبرَ في معناه . الثالث : أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل « بَلَغْتُ » ، أي : عاتياً أو ذاعِتِيّ . الرابع : أنه تمييزٌ . وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف « مِنْ » مزيدةٌ ، ذكره أبو البقاء ، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ : بزنة فُعُوْل ، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو ، أي : يَبِس وصَلُب . قال الزمخشري : « وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال : عَتا العُوْدُ وجَسا ، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا » يريد بقوله : « أو بَلَغْتُ » أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو ، أي : فَسَدَ.
والأصل : عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين ، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى . وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا ، والجمعِ نحو : « عِصِيّ » إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه : « وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً » وقد يُعَلُّ كهذه الآية ، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ ، وقد يُصَحَّحُ نحو : « إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة » وقالوا : فُتِيَ وفُتُوّ.
وقرا الأخَوان « عِتِيَّا » و « صِلِيَّا » و « بِكِيَّا » و « جِثِيَّا » بكسر الفاء للإِتباع ، والباقون بالضمِّ على الأصل.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ « عَتِيَّا » و « صَلِيَّا » جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل.
وقرأ عبد الله ومجاهد « عُسِيَّا » بضم العين وكسر السينِ المهملة . وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/320)


فأحب أن يعلم من أيِّ جهة يكون له ولد ، ومثلُ امرأته لَا تَلِدُ ومِثْلُهُ لا
يُولَدُ له.
(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا
(9)
معناه - واللَّه أعلم . الأمر كما قيل لك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا).
معناه ولم تك شيئاً موجوداً ، أي أوجدتك بعد أن لَمْ تَكُنْ.
أي فخلق الولد لك كخلق آدم عليه السلام ، وخلقك من نُطْفة وعَلَقةٍ ومُضْغَةٍ ولَحْمٍ وعَظْمٍ.
* * *
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
أي عَلَامَةً أعلم بها وقوع ما بشرتُ به.
(قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا).
أي تمنع الكلام وأنت سَوِي ، فتعلَمَ بذلك أن اللَّه - جل وعلا - قد
وهب لك الولَدَ.
و " سَوِيًّا " منصوب على الحال.
* * *
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
(11)
قيل معنى أوْحى إليهم أوْمَأ إليهم ورَمَزَ ، وقيل كتب لهم في الأرض بيده.
و (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) - منصوبان على الوقت.
* * *
وقوله : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
المعنى : فَوَهَبْنَا لَه يحيى وقلنا له (يا يحيى خُذِ الكِتَابَ بقوَّةٍ) ، أي
بجِدٍ وعونٍ من اللَّه - جلَّ وعزَّ -.
(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)

(3/321)


أي وآتيناه حنَاناً ، والحنان العطف والرحمة.
قال الشاعر :
فقالت حَنَان ما أتى بك ههنا . . . أذو نسب أم أنت بِالحَيِّ عَارِفُ
أي أمرنا حنان ، أو عطف ورحمة :
وقال أيضاً :
أَبا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا . . . حَنانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بعضِ
المعنى وآتيناه حناناً من لدنا وزكاةً ، والزكاة التطهير.
* * *
(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
أي وجعلناه براً بوالديه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
(انْتَبَذَتْ) تَنَحَّتْ . ويقال نَبَذْتُ الشيء إذَا رَمَيْت به.
(مَكَانَاً شَرْقياً) أي نحو المشرق.
* * *
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
(17)
قيل إنها - قصدَتْ نَحو مطلَع الشمس ، لأنها أرَادَتِ الغسْلَ مِن الحيضِ.
(فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا).
يعنى به جِبرْيل - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل الروُحُ عيسى ، لأنه روح من اللَّه - عزَّ وجلَّ -
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) .

(3/322)


وقيل إن الروح دخل من في مَرْيَمَ.
ويدل على أنَّ جبريل عليه السلام هو الروح قوله : (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا).
* * *
(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
أكثر القراءة (لأهَبَ) ، ورُوَيتَ (لِيَهبَ لكَ) وكذلك قرأ أبو عمرو : لِنَهَبَ
لكِ كُلاماً زَكيا.
* * *
(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
تأويله إنى أَعُوذُ باللَّهِ مِنكَ ، فإن كنت تقياً فَستتعظُ بتعوذي باللَّهِ منك.
أما من قرأ (ليهبَ) بالياء فالمعنى أرْسَلَني ليهب.
ومن قرأ (لَأهَبَ) فهو على الحكاية وحمل الحكاية على المَعنى ، على تأويل قال أُرسلت إليك لأهب لك.
* * *
وقوله : (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
أي لم يَمسَسْني بشر على جهة تَزَويج - وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ، أي ولا قرِبْت على
غير حد التزويج.
* * *
(قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
(قَالَ كَذَلِكَ).
أي الأمر على ما وصفت لكِ.
(قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).
أي وكانَ أمراً سَابقاً في علم اللَّهِ - عز وجل - أنْ يقعَ.
* * *
وقوله : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
(انتَبَذَتْ به) تباعدت به.
وقَصِيًّا وقَاصِياً في مَعْنًى وَاحِدٍ ، معناه البُعْدُ .

(3/323)


وقوله : (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
معناه ألجأها ، وهو من جئت وأجاءني غيري : وفي معناه أَشَاءَنِي
غيري ، وفي أمثال العرب : شَرٌ أجاءَك إلى مُخّةِ عُرْقُوبٍ وبعضهم يقول :.
أشَاءَك.
قال زُهَيْر :
وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليْكُم . . . أَجاءَتْهُ المخافةُ والرَّجاء
واختلف في حمل عيسى عليه السلام ، فقيل إنها حَمَلَت بِه وولدته في
وقتها ، وقيل إنه ولد في ثمانية أشهر ، وتلك آية له لأنه لا يُعْرفُ أنه يعيش مولود وُلدَ لثمانية أشْهُر غيرُه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ) - يدل على مكْثِ
الحْملِ واللَّه أعلم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا).
معناه إني لَوْ خُيرْتُ قبلَ هَذِه الحالِ بين الموتِ أو الدفع إلى هذه الحال
لاخترت الموت ، وقد علمتْ - رضوان الله عليها - أنها لم يكن ينفعها أنْ
تتمنى الموت قبل تلك الحال.
وقوله : (وَكُنْتُ [نِسْيًا] مَنْسِيًّا).
ويقرأ (نَسْيًا) - بفتح النون - وقيل معنى " نَسْيًا " حَيْضَةً ملْقَاةٍ وقيل
نِسْيًا - بالكسر في معنى مَنْسِيةً لَا أعْرَف ، والنِسْى في كلام العَرَبِ الشيء
المطروح لا يؤبه له.
قال الشنفري :

(3/324)


كأَنَّ لها في الأَرْضِ نِسْياً تَقُصُّه على أَمِّها وإِنْ تُحَدِّثُكَ تَبْلِتِ
* * *
وقوله : (فَنَادَاهَا [مَنْ تَحْتَهَا] أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
وتقرأ (مِنْ تَحْتِهَا) ، وهى أكثر بالكسر في القراءة ، وَمَنْ قَرَأ (مَن تَحْتهَا) عَنَى
عيسى عليه السلام.
ويكون المعنى في مناداة عيسى لها أن يبين الله لها الآية
في عيسى ، وأنَّه أعلمها أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - سيجعل لها في النخلة آية . ومن قرأ (مِنْ تَحْتِهَا) عَنَى بهِ المَلَكَ.
(قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).
رُوِيَ عن الحَسنِ أنه قال يعنى عيسى ، وقال : كان واللَّه سَرِيًّا من
الرجال ، فعرف الحسنُ أن من العرب من يسمي النهر سرياً فرجع إلى هذا
القول.
ولا اختلاف بين أهل اللغة أنَّ السَّريَّ النهر بمنزلة الجدول.
قال لبيد :
فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ وصَدَّعا . . . مَسْجُورَةً مُتَجاوِراً قُلاَّمُها
وقال ابن عباس : السري النهر وأنْشَدَ.
سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَّ منه أَزْوَرا . . . إِذا يَعُبُّ في السَّرِيِّ هَرْهَرَا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
(25)
يروى أنه كان جِذْعاً من نخلةٍ لا رَأْسَ عَليه ، فجعل اللَّه - جلَّ وعزَّ - له
رأساً وأنبت فيه رُطَباً ، وكان ذلك في الشتاء.
فأمَّا نصب رُطَباً فقال محمد بن يزيد هو مفعول به ، المعنى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ رُطَبًا تَسَّاقط عليكِ .

(3/325)


ويجوز تَسَاقط عليك ، ويجوز يُسَاقِطْ عَلَيْكِ ، ويجوز نُسَاقط عَلَيْكِ . بالنون
ويجوز يَسَّاقَطْ باليَاءِ ، ويجوز يتساقط عليك . ويجوز تُساقطُ عَلَيْك
ونساقطُ . وَيسَّاقَطُ بالرفع . وُيروَى عن البَراءِ بن عَازِب.
فمنْ قرأ يساقَطُ عَلْيكِ فالمعنى يَتَسَاقطُ فأدغمت التاء في السِينِ ومن قرأ
تسَّاقَطْ ، فالمعنى تَتَساقَطُ أيضاً . فأدْغِمت الياء في السّين وأنِّثَ لأن لَفظَ النَخْلَةِ مُؤَنَثٌ . ومن قرأ تَسَاقَط بالتاء والتخفيف فإنه حذف التاء من - تتساقط لاجتماع التاءَيْن ، ومن قرأ يُسَاقِطْ : . ، إلى معنى يُسَاقِطُ الجذْعُ عَلَيْك . ومن قرأ نُسَاقِط بالنون فالمعنى إنا نحن نُسَاقِطُ عليك فنجعل لك بِذلك آيةً.
والنحويون يقولون إن رُطباً مَنْصوُبٌ على التمييز ، إذا قْلتَ يسًاقَطُ أو
يتساقط فالمعنى يتساقط الجذعُ رُطبأ ، ومن قرأ تَسَاقطُ فالمعنى تَتساقطُ النخلة
رُطباً (1).
* * *
وقوله : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
أي فكلي من الرطب ، واشربي من السَّرِيِّ ، (وَقَرِّي عَيْنًا) بعيسى.
يقال : قرِرْت به عيناً أقَرُّ بفتح القاف في المستقبل.
وقَرَرْتُ في المكان أقِر - بكسر القاف - في المستقبل.
و (عَيْنًا) منصوب على التمييز (2).
(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا).
بغير ألف في تَريِنَ ، ويجوز " تَرأيِنَّ " بألف ولم يقرأ بالألف أَحَدٌ وهي
جَيِّدَة بالغة لكنها لا يجوز في القراءة.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (إنني مَعَكُمَا أسَمَعَ وأرَى) ، ويجوز وأرْأي بالألف ، ولا تقرأ بها ، لفظُها أرْأى ، لأن
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ } : يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في « بِجَذْعِ » زائدةً كهي في قولِه تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقولِه : ]
3222- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَر
وأنشد الطبري :
3223- بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه . . . وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ
أي : هُزِّي جِذْعَ النخلةِ . ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً ، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه : وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة . ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع ، أي : انفُضِي الجِذْع . وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : « أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه :
3224- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي
قال الشيخ : » وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ ، لا يُقالُ : ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني ، أي : ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي ، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس ، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك ، ولا زيدٌ هَزَّ إليه ، ولذلك جَعَلَ النحويون « عن » و « على » اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس :
3225- دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه . . . ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ
وقول الآخر :
3226- هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ . . . بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها
وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله :
3227- غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها . . . تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ
وقولِ الآخر :
3228- فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ . . . مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وإمَّا « إلى » فحرفٌ بلا خلافٍ ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك « عَنْ » و « على » . ثم أجاب : بأنَّ « إليك » في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله ، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه : أَعْني إليك « . قال : » كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه : { لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] في أحد الأوجه «.
قلت : وفي ذلك جوابان آخران ، أحدهما : أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير ، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو : » دَعْ عنك « » وهَوِّنْ عليك « وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ . والثاني : أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره : هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك ، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك.
قوله : » تُساقِطْ « قرأ حمزة » تَسَاقَطْ « بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف . والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين ، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف.
فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص » تَتَساقط « بتاءين ، مضارعَ » تساقَطَ « فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو : » تَنَزَّلٌ « و » تَذَكَّرون « ، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن.
وقراءةُ حفص مضارع « ساقَطَ ».
وقرأ الأعمش والبراء بن عازب « يَسَّاقَطْ » كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ ، أدغم التاء في السين ، إذ الأصلُ : يتساقط فهو مضارع « اسَّاقط » وأصلُه يَتَساقط ، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك « ادَّارَأ » في تَدَارَأَ.
ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ : / وافقه مسروقٌ في الأولى ، وهي « تُسْقِط » بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط . والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت . الثالثة كذلك إلا أنه رفع « رُطَباً جَنِيَّاً » بالفاعلية.
وقُرِئَ « تَتَساقط » بتاءين مِنْ فوقُ ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة . وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف . فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة . ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ : إمَّا للنخلة ، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق ، وإمَّا للجِذْع . وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث ، فهو كقوله :
3229- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم
وكقراءة « تَلْتَقِطْه بعض السيارة » . ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل : للثمر المدلولِ عليه بالسياق.
وأمَّا نَصْبُ « رُطَباً » فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً ، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً ، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء إلى ما يليق به من القراءات . وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً : وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب « هُزِّيْ » وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً ، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
وقرأ طلحة بن سليمان « جَنِيَّاً » بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون.
والرُّطَبُ : اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ « تُخَم » فإنَّع لتُخَمة ، والفرق : أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا : هو الرُّطَبُ ، وتأنيثَ ذاك فقالوا : هي التُّخَم ، فذكَّروا « الرطب » باعتبار الجنس ، وأنَّثوا « التُّخَم » باعتبار الجمعية ، وهو فرقٌ لطيفٌ . ويُجْمَعُ على « أَرْطاب » شذوذاً كرُبَع وأَرْباع . والرُّطَب : ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه ، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ . وأَرْطَبَ النخلُ نحو : أَتْمَرَ وأَجْنَى.
والجَنِيُّ : ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء . وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل : بمعنى فاعِل : أي : طَرِيَّاً ، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً : المُجَتَنَى من العَسَلِ ، وأَجْنَى الشجرُ : أَدْرَك ثَمَرُه ، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها . واسْتُعير من ذلك « جَنَى فلانٌ جنايةً » كما استعير « اجْتَرَم جريمةً » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { وَقَرِّي عَيْناً } : « عَيْناً » نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل ، إذ الأصلُ : لِتَقَرَّ عينُك . والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ « قَرِّيْ » أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ ، بكسر العين في الماضي ، وفتحِها في المضارع.
وقُرِئ بكسرِ القاف ، وهي لغةُ نجدٍ يقولون : قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح العين في الماضي وكسرِها في المضارع ، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين ، والمفتوحَها في المكان . يقال : قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به ، وقد يُقال : قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر . وسيأتي ذلك في قولِه تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ].
وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان ، أحدُهما : أنَّه مأخوذٌ مِنَ « القُرّ » وهو البَرْدُ : وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً ، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه : « أَسْخَنَ اللهُ عينَه » ، وفي الدعاء له : « أقرَّ اللهُ عينَه . وما أَحْلى قولَ أبي تمام :
3230- فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ . . . وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
والثاني : أنه مأخوذٌ من الاستقرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/326)


القراءة سنة لا تخالف . والأجْودُ أرَى ، وكذلك تَرَيِن الأجود بغير همز ، والتاء علامة التأنيث ، والأصل تَرْآيِّن ، والياء حركت لالتقاء السَّاكنين . النون الأولى من النون الشديدة والياء.
وكذلك تقول للمرأة اخْشَيِنَّ زيداً (1).
* * *
(فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).
معنى (صوماً) صمتاً . يقال نَذَرتُ النًذْرَ أنذِرُهُ وَأنْذُرُه ، ونَذِرتُ بالقَوْم أنْذَرُ
إذا علمت بهم فاستعدَدْتَ لهم.
* * *
وقَوله : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا
(27)
أي شيئاً عظيماً ، يقال فلانٌ يَفْرِي الفَرِيَّ إذا كان يعمل عملًا يبالغ فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
اختلف في تفسير : " أُخْت هَارُونَ " في هذا الموضع.
رَوْينَا في التفسير أنَّ أهْلَ الكتاب قالوا : كيف تقولون أنتم : مَرَيَمُ أخت
هارون وبينهما ستَّمائةِ سنة ، فقيل ذلك لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنهم كانوا يُسَمون بأسْماء الأنبياء والصالحين ، أي فكان أخو مَرْيَمَ يسمَى هارون.
وقيل إنهم عَنوْا بأخت هارون في الصلاح والدين ، ويروى أن هارون هذا
الدَّيِّنَ كان رجلاً من قومها صالحاً ، وأنه حضر جنازَتَه أربعون ألفاً يسمى كل
واحد منهم هارون.
والذي في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيِّنٌ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } دخلت » إنْ « الشرطية على » ما « الزائدة للتوكيد ، فَأُدْغِمت فيها ، وكُتِبَتْ متصلةً . و » تَرَيْنَ « تقدَّم تصريفُه . والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية » تَرَئِنَّ « بهمزة مكسورةٍ بدلَ الياء ، وكذلك رُوي عنه » لَتَرَؤُنَّ « بإبدالِ الواوِ همزةُ . قال الزمخشري : » هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول : لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ « - يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين » . وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال : « هو لحنٌ عند أكثر النحويين ».
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة « تَرَيْنَ » بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة . قال ابن جني : « وهي شاذَّةٌ » . قلت : لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ ، وتُحذفَ نونُ الرفع . كقول الأَفْوه :
3231- إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به . . . ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً . وهذا نظيرُ قولِ الآخر :
3232- لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ . . . يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ
فلم يُعْمِلْ « لم » ، وأبقى نونَ الرفعِ.
و « من البشر » حالٌ من « أحداً » لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً . وقال أبو البقاء : « أو مفعول » يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله.
قوله : فَقُولِيْ « بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ ، تقديرُه : فإمَّا تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي . وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولَها { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } / كلامٌ ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ . وجوابُه ما تَقَدَّم : وقيل : المرادُ بقوله » فقُولي « إلى آخره ، أنه بالإِشارة . وليس بشيء . بل المعنى : فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/327)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
أي لما خاطبوها أشارت إليه ، بأنْ جَعَلُوا الكلامَ مَعَهُ ، ودَل على أنها
أشارت إليه في الكلام قولهم (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا).
وفي هذا ثلاثة أوجهٍ :
قال : أبو عبيدة إن معنى " كان " اللغو ، المعنى كيف
نكلم من في المهد صبياً ، لأن كل رجل قد كان في المهْدِ صَبِيًّا ، ولكن
المعنى كيف نكلم من في المهد صَبيًّا لا يَفهمُ مِثْلهُ ، ولا ينطق لسانه بالكلم.
وقال قوم إنَّ " كان " في معنى وقع وحَدَثَ.
المعنى على قول هؤلاء : كيف نكلم صَبِيًّا قد خلق في المهْدِ.
وأجود الأقوال أن يكون " مَن " في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى :
من يكن في المهد صَبِيًّا - ويكون (صَبِيًّا) حالاً - فكيف نكلمه.
كما تقول من كان لا يسمع ولا يعقل فكيف أخاطبه.
وروى أنَّ عيسى عليه السلام لما أومأت إليه اتكأ على يساره وأشار بسبَّابَتِه فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) أي معلمأ للخير.
(وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
ومعنى الزكاةِ هَهُنا الطهَارَةُ ، (مَا دُمْتُ حَيًّا) - دُمْتُ ، ودِمْتُ جميعاً.
(وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)

(3/328)


(وَبَرًّا) عطف على (مباركاً) ، المعنى وجعلني مباركاً وَبَرًّا بِوَالِدَتي.
* * *
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ) فيه أوجه ، فالسلام مصدر سلَّمْتُ سلاماً ، ومَعناهُ عموم
العافية والسلامة ، والسلام جمع سلامة ، والسلام اسم من أسماء الله جل
وعزَّ ، وسلام مما ابتُدئ به في النكرة ، لأنه اسم يكثر استعماله . تقول سلام
عليك والسلام عليك . وأسماء الأجناس يبتدأ بها ، لأن فائدة نكرتِها قريب من فائدة معرفتها . تقول : - لَبيْكَ وخَير بين يَدَيْكَ ، وإن شئت قلت : والخير بين يديك ، وتقول : السلام عليك أيها النبي ، وسلام عليك أيها النبي ، إلا أنه لمَّا جَرَى ذكر " سلام " قبل هذا الموضع بغير ألف ولام كان الأحسن أن يُرَدَّ ثانية بالألف واللام ، تقول : سلام عليك أيها النبي ، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين ، هذا قسمٌ حسن ، وإن شئت قلت سلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
(34)
أي ذلك الذي (قال إني عبد اللَّه آتاني الكتاب وجعلنى نبياً) عيسى ابن
مريم لا ما يقول النصارى من أنه ابن اللَّه وأنه إله - جل الله وعز.
وقوله - عزَّ وجلَّ : (قَوْلُ الْحَقِّ) (1).
بالرفع ، ويجوز (قَوْلَ الْحَقِّ) بالنصب ، فمن رفع فالمعنى هو قول الحق
ومن نصب فالمعنى أقول قولَ الحق الذي فيه يمترون أي يشكون.
* * *
(مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
(مِنْ وَلَدٍ) في موضع نصب ، والمعنى أن يتخذ وَلداً ، و (مِنْ) مؤكدة.
تدل على الواحد والجماعة لأن للقَائِلِ أنْ يَقُولَ : ما اتخَذْتُ فَرساً يريد
__________
(1) قال السَّمين :
قوله تعالى : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق } : يجوز أَنْ يكونَ « عيسى » خبراً ل « ذلك » ، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ . و « قولُ الحق » خبره . ويجوز أَنْ يكونَ « قولُ الحق » خبرَ مبتدأ مضمر ، أي : هو قولُ : و « ابن مريم » يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً.
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر « قولَ الحق » بالنصبِ والباقون بالرفع . فالرفعُ على ما تقدَّم . قال الزمخشري : « وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ ، أو بدلٌ » قال الشيخ : « وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ : وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ ».
والنصب : يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك : « هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ ، أي : أقولُ قولَ الحق ، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه ، أي : القول الحق ، كقولِه : { وَعْدَ الصدق } [ الاحقاف : 16 ] ، أي : الوعدَ الصدقَ . ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح ، أي : أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى ، و » الذي « نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى ، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ . وقيل : هو منصوبٌ بإضمار أعني . وقيل : هو منصوبٌ على الحالِ من » عيسى « . ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ : أنه صفةٌ لعيسى.
وقرأ الأعمشُ » قالُ « برفع اللام ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً . وقرأ الحسن » قُوْلُ « بضم القاف ورفع اللام ، وهي مصادر لقال . يقال : قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً ، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب . وقال أبو البقاء : » والقال : اسمٌ [ للمصدرِ ] مثل : القيل ، وحُكي « قُولُ الحق » بضمِّ القاف مثل « الرُّوْح » وهي لغةٌ فيه « . قلت : الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها ، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب.
وقرأ طلحةُ والأعمش » قالَ الحقُّ « جعل » قال « فعلاً ماضياً ، و » الحقُّ « فاعلٌ به ، والمرادُ به الباري تعالى . أي : قال اللهُ الحقُّ : إنَّ عيسى هو كلمةُ الله ، ويكونُ قولُه { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } خبراً لمبتدأ محذوف.
وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما » تَمْتَرون « بتاء الخطاب . والباقون بياءِ الغَيْبة . وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون : إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/329)


اتخذت أكثر من ذلك ، وله أن يقول ما اتخَذْتُ فرسين ولا أكثر يريد اتخذت
فرساً واحداً ، فإذا قال ما اتخذت من فرس فقد دل على نَفْي الواحد
والجَمِيعَ.
(سُبْحَانَهُ).
معناه تنزيهاً له من السوء.
* * *
وقوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
يعنى به يوم القِيَامة.
* * *
(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
المعنى مَا أسْمَعَهمْ وأبصَرَهمْ يوم القيامة لأنهم شَاهَدوا من البعث وأمْر
اللَّه عزَّ وجلَّ ما يسمع ويبصر بغير إعْمال فِكْرٍ وَتَرْوِيَةٍ.
وما يُدعَوْنَ إليه من طاعة اللَّه - جل جلاله - في الدنيا يحتاجون فيه إلى فكر ونظر فضلُّوا عن ذلك في الدنيا وآثروا اللهو والهوى ، فقال الله تعالى : (لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
(يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم القيامة ، روي في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهلُ الجنة في الجنة ، وأهْلُ النَّارِ في النار أُتيَ بالموتِ في صُورَة كَبْشٍ أملح فيعرض على أهل النار فيشرئبون إليه.
فيقال : أتعرفون هذا ، فيقولون : نعم ، فيقال :

(3/330)


هذا الموت فيذبح وينادى : يا أهلَ النَّارِ ، خُلودٌ لا موت بعده ، وكذلك ينادى يا أهلَ الجنَّةِ خُلودٌ لا موت بعده.
(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ).
أي هم في الدنيا في غفلة.
* * *
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
أي اذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قِصةَ إبْراهِيمَ وخَبَرهُ.
الصِّديقُ اسم للمبالغة في الصِّدْقِ.
ويقال لكل مَنْ صَدَّقَ بتوحيد اللَّه وأنبيائه وعمل بما يصدقُ به صِدِّيق ، ومن ذلك سمي أبو بكر الصِّديقَ.
* * *
وقوله : (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
الوقف عليه يا أبَه بالهاء ، والعرب تقول في النداء يا أبَةِ ، ويَا أمَّةِ ولا
تقول قال أبتي كذَا ولا قالت أمَّتِي كذا ، وزعم الخليل وسيبويه أنه بمنزلة
قولهم يا عمة ويا خالَة ، وأن أبَة للمذكر والمؤنث ، كأنك تقود للمذكر أبة
وللمؤنث . والدليل على أنَّ للأُمِّ حَظًّا في الأبُوةِ أنه يقال أبَوانِ ، قال اللَّه
عزَّ وجلَّ : (وَوَرِثَهُ أبَوَاهُ).
وزعم أنه بمنزلة قولهم رجل رَبْعة ، وغلام يَفَعَةِ.
وأن الهاء في أبَةِ ، عوض من ياء الِإضافة من يا أبي ومن يَا أُمِّي ولم
يقل يا أبتي ولا يا أُمَّتي ، ولذلك لم تقع الهاء في غير النداء ، لأن حذف الياء
يقع في النداء كثيراً ، تقول : يَا أبِ لا تفعل ، ولا تقل قال أبِ كذا وكذا تريد قال أبي.
والمؤنث قد يوصف بالمذكر كقولهم امرأة طالق وطاهر ، ويقال ثَلَاثةُ

(3/331)


أنْفسٍ ، والنفس أنثى سُمِّيَ بها المذَكر وهذا تفسير مستقصى وقريب.
* * *
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
فمن فتح حذف الألف التي أبْدِلَتْ مِنْ يَاءِ الِإضافة أرَادَ يَا أبَتَا فالألف
بدَل من ياء الِإضافة إلاَّ أن الواجب حذفها ، إذ كانت بدلاً من ياء تحذف.
وقوله : (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا).
يعني الصَنم.
وقوله : (إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ).
يدل أنه كان قَدْ أتَاهُ الوَحْيُ.
ومعنى : (صِرَاطًا سَوِيًّا).
أي طريقاً مستقيماً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
معنى عبادة الشيطان - واللَّه أعلم - طاعته فيما يسول من الكفْرِ
والمَعَاصِي.
* * *
وقوله : (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
(لَأَرْجُمَنَّكَ).
معناه لأشتمنَكَ ، يقال : فلان يَرْمي فلاناً ويرْجُمُ فلاَناً معناه يشتمه.
وكذلكْ قوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ) معناه يَشْتِمُونَهُنَّ ، وجائز أن يكون (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنك رَجْماً ، والذي عليه التفسير أن الرجم ههنا الشتم.
* * *
وقوله : (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)

(3/332)


(إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)
معناه لطيفاً ، يقال : قد تَحَفَّى فلانٌ بفُلَانٍ ، وحَفِي فُلَان بفُلانٍ حَفْوَهُ إذا
بَرهُ وألْطَفَهُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
أي أبقينا لهم ثناء حسناً ، وكذلك قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84).
* * *
وقوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
(51)
(مُخْلِصًا) و(مُخْلَصًا)
يقرآان جميعاً . والمخلَص - بفتح اللام الذي أخلصه اللَّه
جلَّ وعزَّ ، أي جعله مختاراً خالصاً من الدنَس.
والمخْلِصُ - بكسر اللام - الذي وَحَّدَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - وجَعَلَ نفسه خالصة في طاعة اللَّه غير دنِسَةٍ.
* * *
وقوله : (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
(وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا).
معناه مناجياً . وجاء في التفسير أن الله عزَّ وجلَّ قربه حتى سمع صريف
القلم الذي كتبتْ به التوْرَاةُ ، ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكونَ ، مثل : (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليماً) أي قربه في المنزلة حتى سمع مناجاة اللَّه - عزَّ وجلَّ - وهي كلامُ اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
هارون لا ينصرف في المعرفة لأنه اسم أعجمي وهو معرفة.
* * *
وقوله سبحانه : (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
أهله جميعُ أمته ، مَنْ كانت بينه وبينه قرابة أو من لم تكن ، وكذلك
أهل كُل نبي أُمَّتُهُ .

(3/333)


(وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا).
أصله مَرْضُوًّا ، وهو جائز في اللغة غير جائز في القرآن لأنه مخالف
للمصحف ، والخليل وسيبويه وجميع البصريين يقولون : فلان مَرْضُوُّ ومَرضِيٌّ
وأرض مَسْنُوة ومسنية إذا سقيت بالسواني أو بالمطر ، والأصل الواو إلا أنها
قلبت عند الخليل لأنها طرف قبلها واو ساكنة ليس بحاجز حصين ، وكأنها
مَفْعُل بضم العين ، ومفعُل من أدوات الواو يقلب إلى مَفْعِل ، لأن الواو لا
تكون طرفاً وقبلها متحرك في الأسماء ، وأما غير سيبويه والبصريين فلهم فيه
قولان :
قال بعضهم : لما كان الفعل منه رضيتُ فانتقل من الواو إلى الياء.
صار مَرْضِيا . وقيل إن بعض العرب يقول في تثنية رضىً رِضيَان ورِضَوَانِ.
فمن قال رضيانِ لم يكن من قوله إلا مرضيٌّ ، ومن قال رضوان في التثنية جاز
أن يقول فلان مَرْضوٌّ ومرضِيٌّ.
* * *
وقوله سبحانه : (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
جاء في التفسير أيضاً أنه رفع إلى السماء الرابعة ، وجاء في التفسير
أيضاً أنه سأل ملك الموت حتى سأل الله - جلَّ وعزَّ - أنْ رَفَعَهُ فأُدْخِلَ النارَ ثم أُخرج فأُدخل الجنة فقيل له في الخروج فقال : قد قال اللَّه عزْ وجلَّ : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) وقال في أهل الجنة : (وَمَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجين) فأقَرَّه
اللَّه عزَّ وجلَّ في الجنة.
وهذا الحِجَاج إنما هو في القرآن - واللَّه أعلم .

(3/334)


وجائز أن يكون قد أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - إدريس ورُوُدَ الخلق النَّارَ وأنهم
مُخَلَّدون في الجِنَان قبل إنْزَاله القرآن ، وجاء القرآن موافقاً ما عُلِّمَ إدْرِيسُ.
وجاء في التفسير أنه رُفِعَ كما رُفِعَ عيسى.
وجائز أن يكون - واللَّه أعلم - قوله : (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانَاً عَلِيًّا) أي في
النبوة والعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قد بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَه أن الأنْبِيَاءَ كانوا إذَا سَمِعُوا بآيات اللَّه - عزَّ وجلَّ -
سَجَدُوا وبَكَوْا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
و (بُكِيًّا) جمع باكٍ ، مثل شاهد وشُهود وقَاعِد وقُعُود.
و (سُجَّدًا) حال مُقَدَّرَة
المعنى : خَرُّوا مُقَدِّرينَ السجُودَ لأن الِإنسان في حال خرْورِهِ لا يكون سَاجِداً و (سُجَّدًا) منصوب على الحال.
ومن قال : (بُكِيًّا) ههنا مصدر فقد أخطأ لأن (سُجَّدًا) جمع سَاجد و (بُكِيًّا)عطف عليه ، ويقال بَكَى بُكَاءً وبُكِيًّا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
يقال في الرداءة خَلْف - بإسكان اللام - تقول خَلْفُ سوءٍ وفي
الصلاحِ خلَفُ صِدْقٍ - بفتح اللام - وقد يقال في الرداءة أيضاً خَلَف - بفتح اللام - وفي الصلاح بإسكان اللام ، والأجود القول الأول.
(أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ).
جاء في التفسير أنَّهمْ صَلُّوْهَا في غير وقتها ، وقيل أضَاعُوهَا وتَرَكُوَهَا ألبتَّة
وهذا هو الأشبه ، لأنه يدل على أنه يعْنَى بِهِ الكفَارُ.
ودليل ذلك قوله : (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ).
وقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)

(3/335)


أي فَسَوْفَ يلقون مُجازَاةَ الغَى كما قال عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) أي مجازاة الأثَام.
وجاء في التفسير أن ، (غيًّا) وادٍ في جهنم ، وقيل نهر في جهنم.
وهذا جائز أن يكون نهراً أعد للغاوين فسمي (غيًّا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
" مَنْ " في موضع نصب أي فسوفَ يلْقَوْنَ العذابَ إلا التائبين.
وجائز أن يكون نصباً استثناء من غير الأول ، ويكون المعنى لكن من تاب وآمن.
(فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).
ويقرأ - يُدْخَلُونَ الجنةَ.
* * *
وقوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
يجوز الرفع والنصب ، الرفع على معنى هي جنات عدن ، والنصب على
معنى يدخلون في جنات عَدْنٍ.
وعدن في معنى إقامة ، يقال : عَدَنَ بِالمَكانِ إذا أقام به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا).
ماتي : مفعول من الِإتيان ، لأن كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وكل ما
أتاك فقد أتيتَه ، يقال : وصلت إلى خير فلان ووصل إليَّ خير فلانٍ وأتيت
خير فلان وأتاني خير فلانٍ فهذا على معنى أتَيت خيرَ فلانٍ .

(3/336)


وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
اللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه ، و (سلاماً) اسم جامع للخير
مُتَضَمِّنٌ للسلامة ، فالمعنى أن أهل الجنة لا يسمعون إلا ما يُسَلِّمُهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).
قيل : ليس ثَمَّ بكرةٌ ولا عَشِيٌّ ، ولكنهم خوطِبوا بما يَعقِلونَ في الدنيا.
فالمعنى لهم رزقهم في مقدار ما بين الغداة والعشيِّ.
وقد جاء في التفسير أيضاً أن معناه : ولهم رزقهم فيها كل سَاعة.
وإذا قيل في مقدار الغداة والعَشِيِّ فالذي يقسم في ذلك الوقت يكون مقدار ما يريدون في كل ساعة إلى أن يأتي
الوقت الذي يتلوه.
* * *
وقوله تعالى : (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبطَأ عَنْهُ جبريلُ عليه السلام في الوحي ، فقال عليه السلام وقد أتاه جبريل : ما زُرْتَنَا حتى اشتقْت إليكَ ، فقال : (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ).
ما بين أيدينا امرُ الآخرة والثواث والعقاب ، وما خَلْفَنَا جَميعُ مَا مَضَى مِنْ
أمْرِ الدُّنْيا ، وما بَيْن - ذَلِكَ ما يكون منا من هذا الوقت إلى يوم القيامة وجاء في التفسير وما بين ذلك قيل ما بين النفختين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا).
أي قد علم اللَّه جلَّ وعلا ما كان وما يكون وما هو كائن ، حَافِظ لذلك
عز وجلَّ . لا ينسى منه شيئاً.
وجائز أن يكون واللَّه أعلم : مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ وَإن تأخر عنك الوحي .

(3/337)


وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
أي هو مالك لهما وعالم بهما وبما فيهما.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).
جاء في التفسير : هل تعلم له مِثْلاً ، وجاء أيضاً لم يسم بالرحمن إلا
اللَّه عزَّ وجلَّ . وتأويله - واللَّه أعلم - (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) يستحق أن يقال له خالقٌ وقادر وعالم بما كان وبما يكون ، فذلك ليس إلا من صفة الله تعالى.
* * *
وقوله : (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
يعنى بهذا الكافر الذي لا يؤمن بالغيب خاصة ، ومُتُّ ومِتُّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا
(67)
وُيقْرأ أو لا يذكر بالتخفيف والتثْقِيل.
(أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا).
أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن إعادة الخلق مثل ابتداء خَلقِهمْ ، وهذا كما قال :
(وَضَرَب لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الآية.
فكان الجواب (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
* * *
وقوله تعالى : (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
أي فوربك لنبعثنهم ولنحشرنهم مع الشياطين الذين أغوَوْهم.
(ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا).
و (جُثِيًّا). - بالضم والكسر جميعاً ، ومعنى جثيا على ركبهم ، لا يستطيعون
القيام مما هم فيه وجُثي جمع جَاثٍ وجُثى ، مثل قاعد وقعود وبارك وبروك .

(3/338)


والأصل ضم الجيم وجائز كسرها ، اتباعاً لكسرة اليَّاء.
و (جِثِيًّا). منصوب على الحال.
* * *
وقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا
(69)
وَ (عُتيا) - بألكسر والضَم ، ومعناه لننزعن مِنْ كل أمَّةٍ ومِنْ كُلً فرقةٍ الأعتى
فَالْأعْتَى منهم ، كأنَّهم يُبْدَأ بتعذيب أشدهم عُتِيا ثم الذي يليه.
فأما رفع (أَيُّهُمْ) فهو القراءة ، ويجوز (أَيَّهُمْ) بالنصب حكاها سيبويه ، وذكر سيبويه أنَّ هارون الأعوَرَ القارئ قرأ بها.
وفي رفعها ثلاثة أقوال :
قال سيبويه عن يونس إن قوله جلَّ وعزَّ (لَنَنْزِعَنَّ) معقلة لم تعمل شيئاً.
فكأنَّ قولَ يونس : (ثم لننزعن من كل شيعة) ثم استأنف فقال (أيهم أشد على
الرحمن عتياً).
وأما الخليل فَحكى عنه سيبويه أنه على معنى الذين يقال (أيهم أشد على
الرحمن عتياً) ، ومثله عنده قول الشاعر :
ولقد أَبِيتُ من الفَتاة بمَنْزِلِ . . . فأَبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم
المعنى فأبيتُ بمنزلة الذي يقال له لا هو حرجٌ ولا هو محرومٌ .

(3/339)


وقال سيبويه إن " أَيُّهُمْ " مَبْنية على الضم لأنها خالفت أخواتها ، واستعمل
معها حرف الابتداء ، تقول اضرب لأيُّهُم أفْضَل يريد أيهم هو أفضل ، فيحسُنُ الاستعمال ، كذلك يحذف هو ، ولا يَحْسُنُ . " اضْرِبْ من أفضلً " حتى تقول من هو أفضل ، ولا يحسن " كُلْ مَا أطْيَبُا حتى تقول : كل ما هو أطيب.
فلما خالفت من وما والذي - لأنك لا تقول أيضاً : " خُذِ الذي أفضَلُ " حتى تقول هو أفضل ، قال فلما خالفت هذا الخلاف بنيت على الضم في الإِضافة ، والنَّصْبُ حَسَن ، وإن كنت قد حذفت " هُوَ " لأن " هو " قد يجوز حذفها ، وقد قرئت (تَمَامًا عَلَى الَّذِي [أَحْسَنُ] وَتَفْصِيلًا)
على معنى الذي هو أحسن.
قال أبو إسحاق : والذي أعتقده أن القولَ في هذا قولُ الخليل ، وهو
موافق للتفسير ، لأن الخليل كان مذهبهُ أوْ تَأويله في قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) الذي مِنْ أجل عُتُوهِ يقال : أي هؤلاءِ أشَدُّ عِتِيًّا.
فيستعمل ذلك في الأشدِّ فالأشد ، واللَّه أعلم (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
وصُلِيَّا - بالضم والكسر - على ما فسرنا ، وصليا منصوب على الحال.
أي : أي ثم لنحن أعلم بالذين هم أشد على الرحمن عِتِيا فهم أولى
بها صِليًّا.
* * *
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
هذه آية كثير اختلاف التفسير فيها في التفسير فقال كثير من الناس إنَّ
الخلق جميعاً يَرِدُون النَّارَ فَينْجو المتَقِي وُيتْرَكُ الظالِمُ - وكلهم يَدْخُلُهَا ، " فقال بعضهم : قد علمنا الوُرودَ ولم نَعْلَمْ الصُّدُورَ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } : في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين ، وهو مذهب سيبويه : أن « أيُّهم » موصولةٌ بمعنى الذي ، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه ، لخروجِها عن النظائر ، و « أَشَدُّ » خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ صلةٌ ل « أيُّهم » ، و « أيُّهم » وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله « لَنَنْزِعَنَّ ».
ول « ايّ » أحوالٌ أربعةٌ ، أحدُها : تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها ، ومثلُه قولُ الشاعر :
3248- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ . . . فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ
بضم « أيُّهم » وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ « أيُّهم » هنا مبتدأٌ ، و « أشدُّ » خبرُه ، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير : لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم : أيُّهم أشدُّ . وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر :
3249- ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ . . . فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ
وقال تقديره : فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ : لا حَرِجٌ ولا محرومُ.
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل « نَنْزِعَنَّ » فهي في محلِّ نصب ، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال ، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب ، كما يَخُصُّه بها الجمهور.
وقال الزمخشري : « ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] ، أي : لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هم؟ فقيل : أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا » . فجعل « أيُّهم » موصولةً أيضاً ، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم الذين هم أشدُّ «.
قال الشيخ : وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه ، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه ، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين ».
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ { كُلِّ شِيعَةٍ } و « مِنْ » مزيدةٌ ، قال : وهما يجيزان زيادةَ « مِنْ » ، و « أيُّ » استفهامٍ « ، أي : للنزِعَنَّ كلَّ شيعة . وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ ، وهذا يؤدي إلى العمومِ ، إلا أَنْ تجعلَ » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى » لننزِعَنَّ « لننادِيَنَّ ، فعوملَ معامَلَته ، فلم يعمل في » أيّ « . قال المهدوي : » ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ ، فيعملُ في المعنى ، ولا يعملُ في اللفظِ «.
وقال المبرد : » أيُّهم « متعلِّقٌ ب » شيعةٍ « فلذلك ارتفع ، والمعنى : من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا ».
ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل « نَنْزِعَنَّ » محذوفاً . وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم . قال النحاس : « وهذا قولٌ حسنٌ ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا » . قلت : وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون ، وبيَّنه أبو البقاء ، لكنْ جَعَلَ « أيُّهم » فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ « شيعة » من معنى الفعلِ ، قال : « التقدير : لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم ، وهي على هذا بمعنى الذي ».
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ « أيُّهم » في الآية بمعنى الشرط . والتقدير : إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم ، أو لم يَشْتَدَّ ، كما تقول : ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ ، المعنى : إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا.
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش « أيُّهم » نصباً . قلت : فعلى هذه القراءة والتي قبلَها : ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها ، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه ، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها . قال النحاس : « ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه » قال : « وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : » ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين ، هذا أحدُهما « قال » وقد أعرب سيبويه « أيَّاً » وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ ، فكيف يبنيها مضافةً «؟ وقال الجرميُّ : » خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول : « لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ » بالضمِّ بل يَنْصِبُ «.
و { عَلَى الرحمن } متعلقٌ ب » أشدُّ « ، و » عِتِيَّاً « منصوبٌ على / التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ ، إذ التقديرُ : أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ ، التقدير : فَنُلْقِيهِ في العذابِ ، أو فنبدأ بعذابه . قال الزمخشري : » فإن قلتَ : بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه « . قلت : هما للبيان لا للصلةِ ، أو يتعلَّقان ب » أَفْعَل « ، أي : عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم : » هو أَشَدُّ على خَصْمه ، وهو أَوْلَى بكذا «.
قلت : يعني ب » على « قولَه » على الرحمن « ، وبالباء قولَه » بالذين هم « . وقوله » بالمصدر « يعني بهما » عِتيَّا « و » صِلِيَّاً « وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه.
وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ » عِتِيَّاً « و » صِلِيَّاً « في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال . وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...