Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 35. ومجلد 36. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

  مجلد 35. ومجلد 36. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

35.

  مجلد 35.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)  
 "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الاسم القبيح حوله إلى ما هو أحسن منه" وقد وصله الترمذي من وجه آخر عن هشام بذكر عائشة فيه. حديث سهل بن سعد. قوله: "أتي بالمنذر بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد" أبو أسيد بالتصغير صحابي مشهور، وله أحاديث في الصحيح، وتقدم ذكر ولده هذا في صلاة الجماعة في المغازي، وتقدمت روايته عن أبيه في كتاب الطلاق، وكان الصحابة إذا ولد لأحدهم الولد أتي به النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه ويبارك عليه، وقد تكرر ذلك في الأحاديث. قوله: "فوضعه على فخذه" يعني إكراما له. قوله: "فلها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء بين يديه" أي اشتغل، وكل ما شغلك عن شيء فقد ألهاك عن غيره. قال ابن التين: روي لهي بوزن علم وهي اللغة المشهرة، وبالفتح لغة طي. قوله: "فاستفاق النبي صلى الله عليه وسلم" أي انقضى ما كان مشتغلا به فأفاق من ذلك فلم ير الصبي فسأل عنه، يقال أفاق من نومه ومن مرضه واستفاق بمعني. قوله: "قلبناه" بفتح القاف وتشديد اللام بعدها موحدة ساكنة أي صرفناه إلى منزله، وذكر ابن التين أنه وقع في روايته أقلبناه بزيادة همزة أوله، قال والصواب حذفها وأثبتها غيره لغة. قوله: "ما اسمه؟ قال فلان" لم أقف على تعيينه، فكأنه كان سماه اسما ليس مستحسنا فسكت عن تعيينه. أو سماه فنسيه بعض الرواة. قوله: "ولكن اسمه المنذر " أي ليس هذا الاسم الذي سميته به الذي يليق به بل هو المنذر، قال الداودي: سماه المنذر تفاؤلا أن يكون له علم ينذر به. قلت: وتقدم في المغازي أنه سمي المنذر بالمنذر بن عمرو الساعدي الخزرجي وهو صحابي مشهور من رهط أبي أسيد. قوله: "عطاء بن أبي ميمونة" هو ابن هلال مولى أنس، وأبو رافع هو نفيع الصانع. قوله: "أن زينب كان اسمها برة" بفتح الموحدة وتشديد الراء، كذا في رواية محمد بن جعفر وهو غندر عن شعبة، ووافقه جماعة. وقال عمرو بن مرزوق عن شعبة بهذا السند عن أبي هريرة "كان اسم ميمونة برة" أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" عنه، والأول أكبر، وزينب هي بنت جحش أو بنت أبي سلمة، والأولى زوج النبي صلى الله عليه وسلم والثانية ربيبته، وكل منهما كان اسمها أولا برة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال ابن عبد البر، وقصة زينب بنت جحش أخرجها مسلم وأبو داود في أثناء حديث عن زينب بنت أم سلمة قال: "سميت برة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم فإن الله أعلم بأهل البر منكم. قالوا: ما نسميها؟ قال: سموها زينب" وفي بعض روايات مسلم: "وكان اسم زينب بنت جحش برة" وقد أخرج الدار قطني في "المؤتلف" بسند فيه ضعف "أن زينب بنت جحش قالت: يا رسول الله اسمي برة فلو غيرته، فإن البرة صغيرة، فقال لو كان مسلما(1) لسميته باسم من أسمائها، ولكن هو جحش فالجحش أكبر من البرة" وقد وقع مثل ذلك لجويرية بنت الحارث أم المؤمنين، فأخرج مسلم وأبو داود والمصنف في "الأدب المفرد" عن ابن عباس قال: "كان اسم جويرية بنت الحارث برة، فحول النبي صلى الله عليه وسلم اسمها فسماها جويرية، كره أن يقول خرج من عند برة". قوله: "فقيل تزكي نفسها" أي لأن لفظه: "برة" مشتقة من البر، وكذلك وقع في قصة جويرية "كره أن يقال خرج من عند برة" وقال في قصة زينب "الله أعلم بأهل البر منكم". قوله: "هشام" هو ابن يوسف، وعبد الحميد بن جبير بن شيبة أي ابن عثمان الحجبي. قوله: "فحدثني أن جده حزنا" هكذا أرسل سعيد الحديث لما حدث به عبد الحميد، ولما حدث به الزهري وصله عن
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: هكذا في جملة النسخ، وحرر

(10/576)


أبيه كما تقدم بيانه في الباب الذي قبله، وهذا على قاعدة الشافعي أن المرسل إذا جاء موصولا من وجه آخر تبين صحة مخرج المرسل، وقاعدة البخاري أن الاختلاف في الوصل والإرسال لا يقدح المرسل في الموصول إذا كان الواصل أحفظ من المرسل، كالذي هنا فإن الزهري أحفظ من عبد الحميد، قال الطبري لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم يقتضي التزكية له، ولا باسم معناه السب. قلت: الثالث أخص من الأول، قال: ولو كانت الأسماء إنما هي أعلام للأشخاص لا يقصد بها حقيقة الصفة، لكن وجه الكراهة أن يسمع سامع بالاسم فيظن أنه صفة للمسمى، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يحول الاسم إلى ما إذا دعي به صاحبه كان صدقا، قال: وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أسماء، وليس ما غير من ذلك على وجه المنع من التسمي بها بل على وجه الاختيار، قال: ومن ثم أجاز المسلمون أن يسمى الرجل القبيح بحسن والفاسد بصالح، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم حزنا لما امتنع من تحويل اسمه إلى سهل بذلك، ولو كان ذلك لازما لما أقره على قوله: "لا أغير اسما سمانيه أبي" انتهى ملخصا. وقد ورد الأمر بتحسين الأسماء، وذلك فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم" ورجاله ثقات، إلا أن في سنده انقطاعا بين عبد الله بن أبي زكريا راويه عن أبي الدرداء [وأبي الدرداء] فإنه لم يدركه، قال أبو داود: وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم العاص وعتلة بفتح المهملة والمثناة بعدها لام وشيطان وغراب وحباب بضم المهملة وتخفيف الموحدة وشهاب وحرب وغير ذلك قلت: والعاصي الذي ذكره هو مطيع بن الأسود العدوي والد عبد الله بن مطيع، ووقع مثله لعبد الله بن الحارث بن جزء وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر أخرجه البزار والطبراني من حديث عبد الله بن الحارث بسند حسن والأخبار في مثل ذلك كثيرة، وعتلة هو عتبة بن عبد السلمي، وشيطان هو عبد الله، وغراب هو مسلم أبو رايطة، وحباب هو عبد الله بن عبد الله بن أبي، وشهاب هو هشام بن عامر الأنصاري، وحرب هو الحسن بن علي سماه علي أولا حربا، وأسانيدها مبينة في كتابي في الصحابة.

(10/577)


109 - باب مَنْ سَمَّى بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَبَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَهُ
6194- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قُلْتُ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَاتَ صَغِيراً وَلَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَاشَ ابْنُهُ وَلَكِنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ".
6195- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعاً فِي الْجَنَّةِ" .
6196- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ" . وَرَوَاهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6197- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي

(10/577)


هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" .
6198- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى".
6199- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلاَقَةَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ: "انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب من سمى بأسماء الأنبياء" في هذه الترجمة حديثان صريحان: أحدهما أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم" ثانيهما أخرجه أبو داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي وهب الجشمي بضم الجيم وفتح المعجمة رفعه: "تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة" قال بعضهم: أما الأولان فلما تقدم في "باب أحب الأسماء إلى الله" وأما الآخران فلأن العبد في حرث الدنيا أو حرث الآخرة ولأنه لا يزال يهم بالشيء بعد الشيء، وأما الأخيران فلما في الحرب من المكاره ولما في مرة من المرارة. وكأن المؤلف رحمه الله لما لم يكونا على شرطه اكتفى بما استنبطه من أحاديث الباب وأشار بذلك إلى الرد على من كره ذلك، كما تقدم عن عمر أنه أراد أن يغير أسماء أولاد طلحة وكان سماهم بأسماء الأنبياء. وأخرج البخاري أيضا في "الأدب المفرد" في مثل ترجمة هذا الباب حديث يوسف بن عبد الله بن سلام قال: "سماني النبي صلى الله عليه وسلم يوسف" الحديث وسنده صحيح وأخرجه الترمذي في "الشمائل" وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء". ثم ذكر فيه أحد عشر حديثا موصولة ومعلقة: الأول حديث أنس: قوله: "وقال أنس: قبل النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم، يعني ابنه" ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، وهو في رواية النسفي أيضا، وهو طرف من حديث طويل تقدم موصولا في الجنائز. قوله: "حدثنا ابن نمير" هو محمد بن عبد الله بن نمير نسب لجده، ومحمد بن بشر هو العبدي، وإسماعيل هو ابن خالد، والإسناد كله كوفيون. قوله: "قلت لابن أبي أوفى" هو عبد الله الصحابي ابن الصحابي. قوله: "رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال مات صغيرا" تضمن كلامه جواب السؤال بالإشارة إليه وصرح بالزيادة عليه كأنه قال: نعم رأيته لكن مات صغيرا. ثم ذكر السبب في ذلك. وقد رواه إبراهيم بن حميد عن إسماعيل عن أبي خالد بلفظ: "قال نعم كان أشبه الناس به، مات وهو صغير" أخرجه ابن منده والإسماعيلي من طريق جرير عن إسماعيل "سألت ابن أبي أوفى عن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أي شيء كان حين مات؟ قال: كان صبيا". قوله: "ولو قضي أن يكون بعد محمد نبي عاش ابنه" إبراهيم "ولكن لا نبي بعده" هكذا جزم به عبد الله بن أبي أوفى. ومثل هذا لا يقال بالرأي، وقد توارد عليه جماعة: فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: "لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم

(10/578)


صلى عليه وقال: إن له مرضعا في الجنة، لو عاش لكان صديقا نبيا، ولأعتقت أخواله القبط" وروى أحمد وابن منده من طريق السدي "سألت أنسا كم بلغ إبراهيم؟ قال كان قد ملأ المهد، ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبقى، لأن نبيكم آخر الأنبياء" ولفظ أحمد "لو عاش إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان صديقا نبيا" ولم يذكر القصة فهذه عدة أحاديث صحيحة عن هؤلاء الصحابة أنهم أطلقوا ذلك، فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال: هو باطل، وجسارة في الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل. ويحتمل أن يكون استحضر ذلك عن الصحابة المذكورين، فرواه عن غيرهم ممن تأخر فقال ذلك، وقد استنكر قبله ابن عبد البر في "الاستيعاب" الحديث المذكور فقال هذا لا أدري ما هو، وقد ولد نوح من ليس بنبي، وكما يلد غير النبي نبيا فكذا يجوز عكسه، حتى نسب قائله إلى المجازفة والخوض في الأمور المغيبة بغير علم إلى غير ذلك، مع أن الذي نقل عن الصحابة المذكورين إنما أتوا فيه بقضية شرطية. حديث البراء "لما مات إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعا في الجنة" قال الخطابي: هو بضم الميم على أنه اسم فاعل من أرضع أي من يتم إرضاعه. وبفتحها أي أن له رضاعا في الجنة. وقال ابن التين في الصحاح: امرأة مرضع أي لها ولد ترضعه، فهي مرضعة بضم أوله، فإن وصفتها بإرضاعه قلت مرضعة يعني بفتح الميم، قال: والمعنى هنا يصح، ولكن لم يروه أحد بفتح الميم. قلت: وقع في رواية الإسماعيلي: "أن له مرضعا ترضعه في الجنة" والمعنى تكمل إرضاعه، لأنه لما مات كان ابن ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا على اختلاف الروايتين، وقيل إنما عاش سبعين يوما. حديث جابر "سموا باسمي" ذكره مختصرا عن آدم عن شعبة عن حصين، وقد تقدم شرحه قريبا، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة عن حصين بتمامه، قوله: "ورواه أنس" تقدم التنبيه عليه قريبا في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سموا باسمي". حديث أبي هريرة "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" ووقع في رواية المستملي والسرخسي هنا "بكنوتي" وقد تقدم توجيهه قريبا. قوله: "ومن رآني في المنام" الحديث هو حديث آخر جمعهما الراوي بهذا الإسناد، وسيأتي شرحه في كتاب التعبير. قوله: "ومن كذب علي متعمدا" الحديث هو حديث آخر تقدم شرحه في كتاب العلم. عن أبي موسى هو الأشعري قال: "ولد لي غلام". قوله: "وكان أكبر ولد أبي موسى" هذا يشعر بأن أبا موسى كني قبل أن يولد له، وإلا فلو كان الأمر على غير ذلك لكني بابنه إبراهيم المذكور، ولم ينقل أنه كان يكني أبا إبراهيم. حديث المغيرة "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم" كذا أورده مختصرا، وقد تقدم في الكسوف بهذا الإسناد مطولا من وجه آخر عن زياد بن علاقة مطولا أيضا وتقدم شرحه هناك. قوله: "رواه أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى ما أخرجه موصولا في الكسوف ومعلقا، لكن لم أر في شيء من طرق حديث أبي بكرة التصريح بأن ذلك كان يوم مات إبراهيم، إلا في رواية أسندها في "باب كسوف القمر" مع أن مجموع الأحاديث تدل على ذلك كما قاله البيهقي، قال ابن بطال: في هذه الأحاديث جواز التسمية بأسماء الأنبياء، وقد ثبت عن سعيد بن المسيب أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء" وإنما كره عمر ذلك، لئلا يسبب أحد المسمى بذلك فأراد تعظيم الاسم لئلا يبتذل في ذلك وهو قصد حسن، وذكر الطبري أن الحجة في ذلك حديث أنس "يسمونهم

(10/579)


محمدا ويلعنونهم" قال: وهو ضعيف، لأنه من رواية الحكم بن عطية عن ثابت عنه، وعلى تقدير ثبوته فلا حجة فيه للمنع، بل فيه النهي عن لعن من يسمى محمدا، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث في "باب سموا باسمي" قال ويقال إن طلحة قال للزبير: أسماء بني أسماء الأنبياء وأسماء بنيك أسماء الشهداء، فقال: أنا أرجو أن يكون بني شهداء، وأنت لا ترجو أن يكون بنوك أنبياء، فأشار إلى أن الذي فعله أولى من الذي فعله طلحة.

(10/580)


110 - باب تَسْمِيَةِ الْوَلِيدِ
6200- أخبرنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: "لما رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم أجعلها عليهم سنين كسني يوسف" .
قوله: "باب تسمية الوليد" ورد في كراهية هذا الاسم حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمي الرجل عبده أو ولده حربا أو مرة أو وليدا" الحديث وسنده ضعيف جدا، وورد فيه أيضا حديث آخر مرسل أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي في "الدلائل" من طريقه قال: "حدثنا محمد بن خالد بن العباس السكسكي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو عمرو الأوزاعي" وأخرجه البيهقي في "الدلائل" أيضا من رواية بشر بن بكر عن الأوزاعي، وأخرجه عبد الرزاق في الجزء الثاني من أماليه عن معمر كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "ولد لأخي أم سلمة ولد فسماه الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه" قال الوليد بن مسلم في روايته قال الأوزاعي: فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك. ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك وكثر فيهم القتل. وفي رواية بشر بن بكر من الزيادة "غيروا اسمه فسموه عبد الله" وبين في روايته أنه أخو أم سلمة لأمها، وهكذا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن إسماعيل بن أبي إسماعيل عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من رواية الحارث، وأخرجه أحمد عن أبي المغيرة عن إسماعيل بن عياش فزاد فيه: "قال حدثني الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر به" فزاد فيه عمر، فادعى ابن حبان أنه لا أصل له، فقال في كتاب "الضعفاء" في ترجمة إسماعيل بن عياش: هذا خبر باطل، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رواه عمر، ولا حدث به سعيد ولا الزهري ولا هو من حديث الأوزاعي. ثم أعله بإسماعيل بن عياش. واعتمد ابن الجوزي على كلام ابن حبان فأورد الحديث في "الموضوعات" فلم يصب، فإن إسماعيل لم ينفرد به، وعلى تقدير انفراده فإنما انفرد بزيادة عمر في الإسناد، وإلا فأصله كما ذكرت عند الوليد وغيره من أصحاب الأوزاعي عنه، وعند معمر وغيره من أصحاب الزهري، فإن كان سعيد بن المسيب تلقاه عن أم سلمة فهو على شرح الصحيح ويؤيد ذلك أن له شاهدا عن أم سلمة أخرجه إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء عن زينب بنت أم سلمة عن أمها قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه

(10/580)


الوليد، فقال: من هذا؟ قلت: الوليد. قال: قد اتخذتم الوليد حنانا، غيروا اسمه فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له الوليد" وقد أخرجه الحاكم من وجه آخر عن الوليد موصولا بذكر أبي هريرة فيه أخرجه من طريق نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم وقال في آخره: "قال الزهري إن استخلف الوليد بن يزيد وإلا فهو الوليد بن عبد الملك". قلت: وعندي أن ذكر أبي هريرة فيه من أوهام نعيم بن حماد والله أعلم. ولما لم يكن هذا الحديث المذكور على شرط البخاري أومأ إليه كعادته وأورد فيه الحديث الدال على الجواز، فإنه لو كان مكروها لغيره النبي صلى الله عليه وسلم كعادته، فإن في بعض طرق الحديث المذكور الدلالة على أن الوليد بن الوليد المذكور قد قدم بعد ذلك المدينة مهاجرا كما مضى في المغازي ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم غير اسمه، وأما ما تقدم أنه أمر بتغيير اسم الوليد فذلك اسم ولد المذكور فغيره فسماه عبد الله. وأخرج الطبراني في ترجمة الوليد بن الوليد بن المغيرة من طريق إسماعيل بن أيوب المخزومي في قصة الوليد بن الوليد بعد أن جاء المدينة مهاجرا؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة بعد موته وهي تقول: أبك الوليد بن الوليد أبا الوليد بن المغيرة فقال: " إن كدتم لتتخذون الوليد حنانا فسماه عبد الله " ووصله ابن منده من وجه واه إلى أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة عن أبيه عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ومن شواهد الحديث ما أخرجه الطبراني أيضا من حديث معاذ بن جبل قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر حديثا فيه قال: "الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام، يبوء بدمه رجل من أهل بيته" وأسكن سنده ضعيف جدا.

(10/581)


111 - باب مَنْ دَعَا صَاحِبَهُ فَنَقَصَ مِنْ اسْمِهِ حَرْفاً
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا هِرٍّ"
6201- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام؟ قلت وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا نرى" .
6202- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي الثَّقَلِ وَأَنْجَشَةُ غُلاَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسُوقُ بِهِنَّ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنْجَشُ رُوَيْدَكَ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ" .
قوله: "باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا" كذا اقتصر على حرف، وهو مطابق لحديث عائشة في "عائش" ولحديث أنس في "أنجش". وأما حديث أبي هريرة فنازع ابن بطال في مطابقته فقال: ليس من الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير، وذلك أنه كان كناه أبا هريرة وهريرة تصغير هرة فخاطبه باسمها مذكرا، فهو نقصان في اللفظ وزيادة في المعنى. قلت: فهو نقص في الجملة، لكن كون النقص منه حرفا فيه نظر، وكأنه لحظ الاسم قبل التصغير وهي هرة فإذا حذف الياء الأخيرة صدق أنه نقص من

(10/581)


الاسم حرفا، وقد ترجم في "الأدب المفرد" مثله، لكن قال: "شيئا" بدل "حرفا" وأورد فيه حديث عائشة "رأيت عثمان والنبي صلى الله عليه وسلم يضرب كتفه يقول: أكنت عثم" وجبريل يوحي إليه. قوله: "وقال أبو حازم عن أبي هريرة: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر" بتشديد الراء ويجوز تخفيفها، وهذا طرف من حديث وصله المصنف رحمه الله في الأطعمة أوله "أصابني جهد شديد - وفيه - فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي فقال: يا أبا هر" ويأتي في الرقاق حديث أوله "والذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع" وفيه مثله. قوله: "يا أنجش رويدك" تقدم شرحه في "باب ما يجوز من الشعر" وأكثر ما وقع في الروايات بغير ترخيم، ويجوز في الشين الضم والفتح كما في الذي قبله.

(10/582)


باب الكنية للصبي قبل أن يولد وقبل أن يولد للرجل
...
112 - باب الْكُنْيَةِ لِلصَّبِيِّ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِلرَّجُلِ
6203- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيماً وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ" نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا
قوله: "باب الكنية للصبي، وقبل أن يولد للرجل" في رواية الكشميهني: "يلد الرجل" ذكر فيه قصة أبي عمير وهو مطابق لأحد ركني الترجمة، والركن الثاني مأخوذ من الإلحاق بل بطريق الأولى، وأشار بذلك إلى الرد على من منع تكنية من لم يولد له مستندا إلى أنه خلاف الواقع، فقد أخرج ابن ماجه وأحمد والطحاوي وصححه الحاكم من حديث صهيب "أن عمر قال له: ما لك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كناني" وأخرج سعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو "قلت لإبراهيم إني أكنى أبا النضر وليس لي ولد، وأسمع الناس يقولون: من اكتنى وليس له ولد فهو أبو جعر"، فقال إبراهيم: كان علقمة يكنى أبا شبل وكان عقيما لا يولد له وقوله جعر بفتح الجيم وسكون المهملة، وشبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة. وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" عن علقمة قال: كناني عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي. وقد كان ذلك مستعملا عند العرب، قال الشاعر: لها كنية عمرو وليس لها عمرو. وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: كان رجال من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم. وأخرج المصنف في "باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم" من كتاب الجنائز عن هلال الوزان قال: كناني عروة قبل أن يولد لي. قلت: وكنية هلال المذكور أبو عمرو ويقال أبو أمية ويقال غير ذلك. وأخرج الطبراني عن علقمة عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له" وسنده صحيح. قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب. وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قصد التعريف. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، وأبو التياح بمثناة فوقانية ثم تحتانية ثقيلة

(10/582)


مفتوحتين ثم مهملة هو يزيد بن حميد، والإسناد كله بصريون، وقد تقدم من رواية شعبة عن أبي التياح في "باب الانبساط إلى الناس" وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة هكذا، ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة عن أنس، ومن وجه ثالث عن شعبة عن محمد بن قيس عن حميد عن أنس والمشهور الأول، ويحتمل أن يكون لشعبة فيه طرق. قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا" هذا قاله أنس توطئة لما يريد من قصة الصبي، وأول حديث شعبة عن أنس قال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا" ولأحمد من طريق المثنى بن سعيد عن أبي التياح عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أم سليم" وفي رواية محمد بن قيس المذكور "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا أهل البيت" يعني لبيت أبي طلحة وأم سليم، ولأبي يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشانا ويخالطنا" وللنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي أبا طلحة كثيرا" ولأبي يعلى من طريق خالد بن عبد الله عن حميد "كان يأتي أم سليم وينام على فراشها، وكان إذا مشى يتوكأ" ولابن سعد وسعيد بن منصور عن ربعي بن عبد الله بن الجارود عن أنس "كان يزور أم سليم فتتحفه بالشيء تصنعه له". قوله: "وكان لي أخ يقال له أبو عمير" هو بالتصغير. وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند أحمد "كان لي أخ صغير" وهو أخو أنس بن مالك من أمه، ففي رواية المثنى بن سعيد المذكورة "وكان لها أي أم سليم ابن صغير" وفي رواية حميد، عند أحمد "وكان لها من أبي طلحة ابن يكنى أبا عمير" وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد عند ابن أبي عمر "كان بني لأبي طلحة" وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عند ابن سعد "أن أبا طلحة كان له ابن قال أحسبه فطيما" في بعض النسخ "فطيم" بغير ألف وهو محمول على طريقة من يكتب المنصوب المنون بلا ألف والأصل فطيم لأنه صفة أخ وهو مرفوع، لكن تخلل بين الصفة والموصوف "أحسبه"، وقد وقع عند أحمد من طريق المثنى بن سعيد مثل ما في الأصل فطيم بمعنى مفطوم أي انتهى إرضاعه. قوله: "وكان" أي النبي صلى الله عليه وسلم "إذا جاء" زاد مروان بن معاوية في روايته: "إذا جاء لأم سليم يمازحه" ولأحمد في روايته عند حميد مثله، وفي أخرى "يضاحكه" وفي رواية محمد بن قيس يهازله. وفي رواية المثنى بن أبي عوانة "يفاكهه". قوله: "يا أبا عمير" في رواية ربعي بن عبد الله "فزارنا ذات يوم فقال: يا أم سليم ما شأني أرى أبا عمير ابنك خائر النفس " بمعجمة ومثلثة أي ثقيل النفس غير نشيط. وفي رواية مروان بن معاوية وإسماعيل بن جعفر كلاهما عن حميد "فجاء يوما وقد مات نغيره" زاد مروان "الذي كان يلعب به" زاد إسماعيل "فوجده حزينا، فسأل عنه فأخبرته فقال: يا أيا عمير" وساقه أحمد عن يزيد بن هارون عن حميد بتمامه. وفي رواية حماد بن سلمة المشار إليها "فقال: ما شأن أبي عمير حزينا" وفي رواية ربعي بن عبد الله "فجعل يمسح رأسه ويقول" في رواية عمارة بن زاذان "فكان يستقبله ويقول". قوله: "ما فعل النغير" بنون ومعجمة وراء مصغر، وكرر ذلك في رواية حماد بن سلمة. قوله: "نغير كان يلعب به" وهو طير صغير واحد نغرة وجمعه نغران، قال الخطابي طوير له صوت، وفيه نظر فإنه ورد في بعض طرقه أنه الصعو بمهملتين بوزن العفو كما في رواية ربعي "فقالت أم سليم ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال أي أبا عمير مات النغير" فدل على أنهما شيء واحد والصعو لا يوصف بحسن الصوت، قال الشاعر:
كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم
قال عياض: النغير طائر معروف يشبه العصفور، وقيل هي فرخ العصافير، وقيل هي نوع من الحمر بضم

(10/583)


المهملة وتشديد الميم ثم راء، قال: والراجح أن النغير طائر أحمر المنقار. قلت: هذا الذي جزم به الجوهري. وقال صاحب "العين والمحكم": الصعو صغير المنقار أحمر الرأس. قوله: "فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا الخ" تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصلاة، وتقدمت الإشارة إليه قريبا أيضا. وفي هذا الحديث عدة فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد، بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعت في هذا الموضع طرقه وتتبعت ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة. وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك بحديث أبي عمير هذا قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجها. ثم ساقها مبسوطة، فلخصتها مستوفيا مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه فقال: فيه استحباب التأني في المشي، وزيارة الإخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة، وتخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله: "زر غبا تزدد حبا" مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر. وفيه مشروعية المصافحة لقول أنس فيه: "ما مسست كفا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأن الذي مضى في صفته صلى الله عليه وسلم أنه "كان شثن الكفين" خاص بعبالة الجسم لا بخشونة اللمس. وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزور ولا سيما إن كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصلاة على الحصير، وترك التقزز لأنه علم أن في البيت صغيرا وصلى مع ذلك في البيت وجلس فيه. وفيه أن الأشياء على يقين الطهارة لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف. وفيه أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافا لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها. وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها. وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه. وفيه ترك التكبر والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر أو في البيت فيمزح، وأن الذي ورد في صفة المنافق أن سره يخالف علانيته ليس على عمومه. وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه من حزن أو غيره. وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين فسأل أمه عن حزنه. وفيه التلطف بالصديق صغيرا كان أو كبيرا، والسؤال عن حاله، وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبي محمول على ما إذا بكى عن سبب عامدا ومن أذى بغير حق. وفيه قبول خبر الواحد لأن الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك. وفيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم. وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافا لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنه يجب عليه الإرسال. وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب خلافا

(10/584)


لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم، قال: والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره. وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم. وفيه جواز قيلولة الشخص في بيت غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجته، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته ولو كانت امرأة، وجواز دخول الرجل بيت المرأة وزوجها غائب ولو لم يكن محرما إذا انتفت الفتنة. وفيه إكرام الزائر وأن التنعم الخفيف لا ينافي السنة، وأن تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب. وفيه أن الكبير إذا زار قوما واسى بينهم، فإنه صافح أنسا، ومازح أبا عمير، ونام على فراش أم سليم، وصلى بهم في بيتهم حتى نالوا كلهم من بركته، انتهى ما لخصته من كلامه فيما استنبط من فوائد حديث أنس في قصة أبي عمير. ثم ذكر فصلا في فائدة تتبع طرق الحديث، فمن ذلك الخروج من خلاف من شرط في قبول الخبر أن تتعدد طرقه، فقيل لاثنين وقيل لثلاثة وقيل لأربعة وقيل حتى يستحق اسم الشهرة، فكان في جميع الطرق ما يحصل المقصود لكل أحد غالبا، وفي جميع الطرق أيضا، ومعرفة من رواها، وكميتها العلم بمراتب الرواة في الكثرة والقلة. وفيها الاطلاع على علة الخبر بانكشاف غلط الغالط وبيان تدليس المدلس وتوصيل المعنعن. ثم قال: وفيما يسره الله تعالى من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد؛ ونفضل بعضها على بعض في الأكل هذا آخر كلامه ملخصا. وقد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عمير بخصوصها من القدماء أبو حاتم الرازي أحد أئمة الحديث وشيوخ أصحاب السنن، ثم تلاه الترمذي في "الشمائل" ثم تلاه الخطابي، وجميع ما ذكروه يقرب من عشرة فوائد فقط، وقد ساق شيخنا في "شرح الترمذي" ما ذكره ابن القاص بتمامه ثم قال: ومن هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفي، ومنها المتعسف. قال: والفوائد التي ذكرها آخرا وأكمل بها الستين هي من فائدة جمع طرق الحديث لا من خصوص هذا الحديث. وقد بقي من فوائد هذا الحديث أن بعض المالكية والخطابي من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاص أنه صيد في الحل ثم أدخل الحرم فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في "المدونة" ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده. وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعكسه بعض الحنفية فقال قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعقب. ما أجاب به ابن القاص من مخاطبة من لا يميز التحقيق فيه جواز مواجهته بالخطاب إذا فهم الخطاب وكان في ذلك فائدة ولو بالتأنيس له، وكذا في تعليمه الحكم الشرعي عند قصد تمرينه عليه من الصغر كما في قصة الحسن بن علي لما وضع التمرة في فيه قال له "كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" كما تقدم بسطه في موضعه، ويجوز أيضا مطلقا إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل، وكثيرا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلا إذا كان ظاهر الوعك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله أو حامله. ذكر ابن بطال من فوائد هذا الحديث أيضا استحباب النضح فيما لم يتيقن طهارته. وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها، وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب، لأن الصبي لم يكن أبا وقد دعي أبا عمير. وفيه جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفا، وأن ذلك لا يمتنع من النبي كما امتنع منه إنشاء الشعر. وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف

(10/585)


أنه يعجبه من مأكول أو غيره. وفيه جواز الرواية بالمعنى، لأن القصة واحدة وقد جاءت بألفاظ مختلفة. وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث، وجواز الإتيان به تارة مطولا وتارة ملخصا، وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس ويحتمل أن يكون ممن بعده، والذي يظهر أن بعض ذلك منه والكثير منه ممن بعده، وذلك يظهر من اتحاد المخارج واختلافها. وفيه مسح رأس الصغير للملاطفة، وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإيذاء، وفيه جواز السؤال عما السائل به عالم لقوله: "ما فعل النغير؟" بعد علمه بأنه مات. وفيه إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم، لأن جميع ما ذكر من صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم سليم وذويها كان غالبا بواسطة خدمة أنس له. وقد نوزع ابن القاص في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير، فقال أبو عبد الملك: يجوز أن يكون ذلك منسوخا بالنهي عن تعذيب الحيوان. وقال القرطبي: الحق أن لا نسخ، بل الذي رخص فيه للصبي إمساك الطير ليلتهي به، وأما تمكينه من تعذيبه ولا سيما حتى يموت فلم يبح قط. ومن الفوائد التي لم يذكرها ابن القاص ولا غيره في قصة أبي عمير أن عند أحمد في آخر رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس "فمرض الصبي فهلك" فذكر الحديث في قصة موته وما وقع لأم سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة حتى نام معها، ثم أخبرته لما أصبح فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا لهم فحملت ثم وضعت غلاما، فأحضره أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله، وقد تقدم ذلك مستوفى في كتاب الجنائز، وتأتي الإشارة إلى بعضه في "باب المعاريض" قريبا. وقد جزم الدمياطي في "أنساب الخزرج" بأن أبا عمير مات صغيرا وقال ابن الأثير في ترجمته في الصحابة: لعله الغلام الذي جرى لأم سليم وأبي طلحة في أمره ما جرى، وكأنه لم يستحضر رواية عمارة بن زاذان المصرحة بذلك فذكره احتمالا، ولم أر عند من ذكر أبا عمير في الصحابة له غير قصة النغير، ولا ذكروا له اسما، بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته، فعلى هذا يكون ذلك من فوائد هذا الحديث، وهو جعل الاسم المصدر بأب أو أم اسما علما من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعي بن عبد الله "يكنى أبا عمير" أن له اسما غير كنيته. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية هشيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له حديثا، وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس وذكروا أن اسمه عبد الله كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره، فلعل أنسا مسماه باسم أخيه لأمه وكناه بكنيته، ويكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفا من أبي عمير باسم أبي عمير لكنه لم يكنه بكنيته، والله أعلم. ثم وجدت في كتاب النساء لأبي الفرج بن الجوزي قد أخرج في أواخره في ترجمة أم سليم من طريق محمد بن عمرو وهو أبو سهل البصري وفيه مقال عن حفص بن عبيد الله عن أنس أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له منها ابن يقال له حفص غلام قد ترعرع فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في موت الغلام ونومها مع أبي طلحة وقولها "أرأيت لو أن رجلا أعارك عارية الخ" وإعلامهما النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ودعائه لهما وولادتهما وإرسالها الولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه. وفي القصة مخالفة لما في الصحيح: منها أن الغلام كان صحيحا فمات بغتة، ومنها أنه ترعرع، والباقي بمعناه. فعرف بهذا أن اسم أبي عمير حفص، وهو وارد على من صنف في الصحابة وفي المبهمات، والله أعلم. ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" عن أبي حاتم الرازي أنه قال: حفظ الله أخانا صالح بن محمد - يعني الحافظ الملقب جزرة - فإنه لا يزال يبسطنا غائبا وحاضرا، كتب إلي أنه

(10/586)


لما مات الذهلي - يعني بنيسابور - أجلسوا شيخا لهم يقال له محمش فأملى عليهم حديث أنس هذا فقال: يا أبا عمير ما فعل البعير؟ قاله بفتح عين عمير بوزن عظيم وقال بموحدة مفتوحة بدل النون وأهمل العين بوزن الأول فصحف الاسمين معا. قلت: ومحمش هذا لقب وهو بفتح الميم الأولى وكسر الثانية بينهما حاء مهملة ساكنة وآخره معجمة، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوري السلمي ذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عن يزيد بن هارون وغيره وكانت فيه دعابة

(10/587)


113 - باب التَّكَنِّي بِأَبِي تُرَابٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى
6204- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لاَبُو تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضَبَ يَوْماً فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ فَقَالَ هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَلاَ ظَهْرُهُ تُرَاباً فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: "اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ" .
قوله: "باب التكني بأبي تراب وإن كانت له كنية أخرى" وذكر فيه قصة علي بن أبي طالب في ذلك، وقد تقدمت بأتم من هذا السياق في مناقبه، وفيه بيان الاختلاف في سبب ذلك وأن الجمع بينهما ممتنع، ثم ظهر لي إمكان الجمع وقد ذكرته في بابه من كتاب الاستئذان، وقد ثبت في حديث عبد المطلب بن ربيعة عند مسلم في قصة طويلة أن عليا رضي الله عنه قال: أنا أبو حسن. قوله في السند "سليمان" هو ابن بلال، وقوله: "عن سهل بن سعد" في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد شيخ البخاري فيه بهذا السند "سمعت سهل بن سعد" وقوله وما سماه أبو تراب إلا النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن التين: صوابه أبا تراب. قلت: وليس الذي وقع في الأصل خطأ بل هو موجه على الحكاية، أو على جعل الكنية اسما. وقد وقع في بعض النسخ "أبا تراب" ونبه على اختلاف الروايات في ذلك الإسماعيلي. ووقع في رواية أبي بكر المشار إليها آنفا بالنصب أيضا. وقوله: "إن كانت لأحب أسمائه إليه" فيه إطلاق الاسم على الكنية، وأنث "كانت" باعتبار الكنية. قال الكرماني: أن مخففة من الثقيلة وكانت زائدة، وأحب منصوب على أنه اسم أن، وهي وإن خففت لكن لا يوجب تخفيفها إلغاءها. قلت: ولم يتعين ما قال، بل كانت على حالها. وأشار سهل بذلك إلى انقضاء محبته بموته، وسهل إنما حدث بذلك بعد موت علي بدهر. وقال ابن التين: وأنث كانت على تأنيث الأسماء مثل "وجاءت كل نفس" ومثل "كما شرقت صدر القناة" كذا قال، وما تقدم أولى. وقوله: "وأن كان ليفرح أن ندعوها" بنون مفتوحة ودال ساكنة والواو محركة بمعنى نذكرها كذا للنسفي، ولأبي ذر عن المستملي والسرخسي ووقع في روايتنا من طريق أبي الوقت "أن يدعاها" وهو بتحتانية أوله مضمومة، ولسائر الرواة "يدعى بها" بضم أوله أي ينادى بها وهي رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن شيخه المذكور هنا بهذا الإسناد، وكذا لأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة المذكورة. وفي رواية عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد "أن يدعوه بها"

(10/587)


وقوله: "فاضطجع إلى الجدار في المسجد" في رواية الكشميهني: "إلى جدار المسجد" وعنه "في" بدل "إلى" وفي رواية النسفي "إلى الجدار إلى المسجد" وقد تقدم في أبواب المساجد بلفظ: "فإذا هو راقد في المسجد" وهو يقوي رواية الأكثر هنا. وقوله: "يتبعه" بتشديد المثناة والعين مهملة، وللكشميهني: "يبتغيه" بتقديم الموحدة ثم مثناة والغين معجمة بعدها تحتانية. ويستفاد من الحديث جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظ مدح، وأن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه، وهو كما كان أهل الشام ينتقصون ابن الزبير بزعمهم حيث يقولون له: ابن ذات النطاقين، فيقول: "تلك شكاة ظاهر عنك عارها" قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو علي ليترضاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم، لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك.
" تنبيه ": أخرج ابن إسحاق والحاكم من طريقه من حديث عمار أنه "كان هو وعلي في غزوة العشيرة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عليا نائما وقد علاه تراب فأيقظه وقال له: "مالك أبا تراب، ثم قال: ألا أحدثك بأشقى الناس" الحديث. وغزوة العشيرة كانت في أثناء السنة الثانية قبل وقعة بدر، وذلك قبل أن يتزوج علي فاطمة، فإن كان محفوظا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم في حق علي، والله أعلم. وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: "حدثني بعض أهل العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها، بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول: مالك يا أبا تراب؟" فهذا سبب آخر يقوي التعدد، والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم.

(10/588)


114 - باب أَبْغَضِ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ
6205- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْنَى الأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ" .
[الحديث 6205 – طرفه في: 6206]
6206- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً قَالَ: "أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ" وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ "أَخْنَعُ الأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأَمْلاَكِ" قَالَ سُفْيَانُ يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ
قوله: "باب أبغض الأسماء إلى الله عز وجل" كذا ترجم بلفظ: "أبغض" وهو بالمعنى، وقد ورد بلفظ:

(10/588)


"أخبث" بمعجمة وموحدة ثم مثلثة، وبلفظ: "أغيظ" وهما عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة، ولابن أبي شيبة عن مجاهد بلفظ: "أكره الأسماء" ونقل ابن التين عن الداودي قال: ورد في بعض الأحاديث "أبغض الأسماء إلى الله خالد ومالك" قال: وما أراه محفوظا لأن في الصحابة من تسمى بهما، قال: وفي القرآن تسمية خازن النار مالكا قال: والعباد وإن كانوا يموتون فإن الأرواح لا تفنى، انتهى كلامه. فأما الحديث الذي أشار إليه فما وقفت عليه بعد البحث، ثم رأيت في ترجمة إبراهيم بن الفضل المدني أحد الضعفاء من مناكيره عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه: " أحب الأسماء إلى الله ما سمي به، وأصدقها الحارث وهمام، وأكذب الأسماء خالد ومالك، وأبغضها إلى الله ما سمي لغيره: "فلم يضبط الداودي لفظ المتن، أو هو متن آخر اطلع عليه. وأما استدلاله على ضعفه بما ذكر من تسمية بعض الصحابة وبعض الملائكة فليس بواضح، لاحتمال اختصاص المنع بمن لا يملك شيئا. وأما احتجاجه لجواز التسمية لخالد بما ذكر من أن الأرواح لا تفنى فعلى تقدير التسليم فليس بواضح أيضا، لأن الله سبحانه وتعالى قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} والخلد البقاء الدائم بغير موت، فلا يلزم من كون الأرواح لا تفنى أن يقال صاحب تلك الروح خالد. قوله: "أخنى" كذا في رواية شعيب بن أبي حمزة للأكثر، من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور وهو الفحش في القول، ويحتمل أن يكون من قولهم أخنى عليه الدهر أي أهلكه، ووقع عند المستملي: "أخنع" بعين مهملة وهو المشهور في رواية سفيان بن عيينة وهو من الخنوع وهو الذل، وقد فسره بذلك الحميدي شيخ البخاري عقب روايته له عن سفيان قال: "أخنع أذل" وأخرج مسلم عن أحمد بن حنبل قال: سألت أبا عمرو الشيباني يعني إسحاق اللغوي عن أخنع فقال: أوضع، قال عياض: معناه أنه أشد الأسماء صغارا. وبنحو ذلك فسره أبو عبيد. والخانع الذليل وخنع الرجل ذل، قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا، وقد فسر الخليل أخنع بأفجر فقال: الخنع الفجور، يقال أخنع الرجل إلى المرأة إذا دعاها للفجور. قلت: وهو قريب من معنى الخنا وهو الفحش. ووقع عند الترمذي في آخر الحديث: "أخنع أقبح" وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ: "أنخع" بتقديم النون على المعجمة وهو بمعنى أهلك لأن النخع الذبح والقتل الشديد، وتقدم أن في رواية همام "أغيظ" بغين وظاء معجمتين، ويؤيده "اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك" أخرجه الطبراني. ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن في بعض الروايات " أفحش الأسماء" ولم أرها، وإنما ذكر ذلك بعض الشراح في تفسير أخنى وقوله: "أخنع اسم عند الله . وقال سفيان غير مرة أخنع الأسماء" أي قال ذلك أكثر من مرة، وهذا اللفظ يستعمل كثيرا في إرادة الكثرة وسأذكر توجيه الروايتين. قوله: "عن أبي الزناد" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا أبو الزناد" وهي عند أبي عوانة في صحيحه أيضا من طريقه. قوله: "رواية" كذا في رواية علي هنا. وفي رواية أحمد عن سفيان "يبلغ به" أخرجها مسلم وأبو داود، وعند الترمذي عن محمد بن ميمون عن سفيان مثله، وكلاهما كناية عن الرفع بمعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع التصريح بذلك في رواية الحميدي. قوله: "عند الله" زاد أبو داود والترمذي في روايتهما: "يوم القيامة" وهذه الزيادة ثابتة هنا في رواية شعيب إلي قبل هذه. قوله: "تسمى" أي سمى نفسه أو سمي بذلك فرضي به واستمر عليه. قوله: "بملك الأملاك" بكسر اللام من ملك، والأملاك جمع ملك بالكسر وبالفتح وجمع مليك. قوله: "قال سفيان يقول غيره" أي غير أبي الزناد. قوله: "تفسيره شاهان شاه" هكذا ثبت لفظ

(10/589)


تفسيره في رواية الكشميهني؛ ووقع عند أحمد عن سفيان قال سفيان: "مثل شاهان شاه" فلعل سفيان قاله مرة نقلا ومرة من قبل نفسه، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن الصباح عن سفيان مثله وزاد مثل ذلك الصين، وشاهان شاه بسكون النون وبهاء في آخره وقد تنون وليست هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلا. وقد تعجب بعض الشراح من تفسير سفيان بن عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية وأنكر ذلك آخرون، وهو غفلة منهم عن مراده وذلك أن لفظ شاهان شاه كان قد كثر التسمية به في ذلك العصر فنبه على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم، ويؤيد ذلك أنه وقع عند الترمذي "مثل شاهان شاه" وقوله شاهان شاه هو المشهور في روايات هذا الحديث، وحكى عياض عن بعض الروايات "شاه شاه" بالتنوين بغير إشباع في الأولى والأصل هو الأولى، وهذه الرواية تخفيف منها، وزعم بعضهم أن الصواب شاه شاهان وليس كذلك لأن قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف، فإذا أرادوا قاضي القضاة بلسانهم قالوا موبذان موبذ، فموبذ هو القاضي وموبذان جمعه فكذا شاه هو الملك وشاهان هو الملوك، قال عياض: استدل به بعضهم على أن الاسم غير المسمى، ولا حجة فيه بل المراد من الاسم صاحب الاسم، يدل عليه رواية: "همام أغيظ رجل" فكأنه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويؤيده قوله: "تسمى" فالتقدير أن أخنع اسم رجل تسمى بدليل الرواية الأخرى "وأن أخنع الأسماء" واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد، ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء، وقيل يلتحق به أيضا من تسمى بشيء من أسماء الله الخاصة به كالرحمن والقدوس والجبار. وهل يلتحق به من تسمى قاضي القضاة أو حاكم الحكام؟ اختلف العلماء في ذلك فقال الزمخشري في قوله تعالى: {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} : أي أعدل الحكام وأعلمهم، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، قال: ورب غريق في الجهل والجور من مقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر، وتعقبه ابن المنير بحديث: "أقضاكم علي" قال: فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض يكون أعدل القضاة أو أعلمهم في زمانه أقضى القضاة، أو يريد إقليمه أو بلده. ثم تكلم في الفرق بين قاضي القضاة وأقضى القضاة، وفي اصطلاحهم على أن الأول فوق الثاني وليس من غرضنا هنا. وقد تعقب كلام ابن المنير علم الدين العراقي فصوب ما ذكره الزمخشري من المنع ورد ما احتج به من قضية علي بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لإطلاق التفضيل بالألف واللام، قال ولا يخفى ما في إطلاق ذلك من الجراءة وسوء الأدب، ولا عبرة بقول من ولي القضاء فنعت بذلك فلذ في سمعه فاحتال في الجواز فإن الحق أحق أن يتبع، انتهى كلامه. ومن النوادر أن القاضي عز الدين ابن جماعة قال إنه رأى أباه في المنام فسأله عن حاله فقال: ما كان علي أضر من هذا الاسم، فأمر الموقعين أن لا يكتبوا له في السجلات قاضي القضاة بل قاضي المسلمين، وفهم من قول أبيه أنه أشار إلى هذه التسمية مع احتمال أنه أشار إلى الوظيفة، بل هو الذي يترجح عندي، فإن التسمية بقاضي القضاة وجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك مع أن الماوردي كان يقال له أقضى القضاة، وكأن وجه التفرقة بينهما الوقوف مع الخبر وظهور إرادة العهد الزماني في القضاة. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: يلتحق بملك الأملاك

(10/590)


قاضي القضاة وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة، وقد سلم أهل المغرب من ذلك فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة، قال: وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا، سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها، سواء كان محقا في ذلك أم مبطلا، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا.

(10/591)


115 - باب كُنْيَةِ الْمُشْرِكِ.
وَقَالَ مِسْوَرٌ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ".
6207- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَا حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ ابْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقّاً فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا" فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْآيَةَ وَقَالَ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْراً فَقَتَلَ اللَّهُ بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ مَعَهُمْ أُسَارَى مِنْ صَنَادِيدِ

(10/591)


الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا".
6208- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ لَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ".
قوله: "باب كنية المشرك" أي هل يحوز ابتداء، وهل إذا كانت له كنية تجوز مخاطبته أو ذكره بها؟ وأحاديث الباب مطابقة لهذا الأخير، ويلتحق به الثاني في الحكم. قوله: "وقال مسور" هو ابن مخرمة الزهري كذا للجميع إلا النسفي فسقط هذا التعليق من روايته، ووقع في "مستخرج أبي نعيم" وقال المسور وهو الأشهر. قوله: "إلا أن يريد ابن أبي طالب" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في باب فرض الخمس. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وهو معطوف على السند الذي قبله وساق المتن على لفظه، وسليمان هو ابن بلال وقوله: "عن عروة" في رواية شعيب "أخبرنا عروة بن الزبير" وتقدم سياق لفظ شعيب في تفسير آل عمران مع شرح الحديث، والغرض منه قوله: "ألم تسمع ما قال أبو حباب؟" بضم المهملة وتخفيف الموحدة وآخره موحدة وهي كنية عبد الله بن أبي، وكان حينئذ لم يظهر الإسلام كما هو بين من سياق الحديث، وظاهر في آخره. قوله فيه "أبو حباب" قال ومحل ذلك إذا وجد فيه الشرط، وهو أن لا يعرف إلا بكنيته أو خيف من ذكر اسمه فتنة، ثم قال: وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فسماه باسمه ولم يكنه ولا لقبه بلقبه وهو قيصر، وقد أمرنا بالإغلاظ عليهم فلا نكنيهم ولا نلين لهم قولا، وقد تعقب كلامه بأنه لا حصر فيما ذكر بل قصة عبد الله بن أبي في ذكره بكنيته دون اسمه وهو باسمه أشهر ليس لخوف الفتنة، فإن الذي ذكر بذلك عنده كان قويا في الإسلام فلا يخشى معه أن لو ذكر عبد الله باسمه أن يجر بذلك فتنة، وإنما هو محمول على التألف كما جزم به ابن بطال فقال: فيه جواز تكنية المشركين على وجه التألف إما رجاء إسلامهم أو لتحصيل منفعة منهم، وأما تكنية أبي طالب فالظاهر أنه من القبيل الأول وهو اشتهاره بكنيته دون اسمه، وأما تكنية أبي لهب فقد أشار النووي في شرحه إلى احتمال رابع وهو اجتناب نسبته إلى عبودية الصنم لأنه كان اسمه عبد العزى، وهذا سبق إليه ثعلب ونقله عنه ابن بطال. وقال غيره: إنما ذكر بكنيته دون اسمه للإشارة إلى أنه {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} قيل وإن تكنيته بذلك من جهة التجنيس لأن ذلك من جملة البلاغة أو المجازاة، أشير إلى أن الذي نفخر به في الدنيا من الجمال والولد كان سببا في خزيه وعقابه. وحكى ابن بطال عن أبي عبد الله بن أبي زمنين أنه قال: كان اسم أبي لهب عبد العزى وكنيته أبو

(10/592)


عتبة، وأما أبو لهب فلقب لقب به لأن وجهه كان يتلألأ ويلتهب جمالا، قال فهو لقب وليس بكنية، وتعقب بأن ذلك يقوي الإشكال الأول لأن اللقب إذا لم يكن على وجه الذم للكافر لم يصلح من المسلم، وأما قول الزمخشري: هذه التكنية ليست للإكرام بل للإهانة إذ هي كناية عن الجهنمي إذ معناه تبت يدا الجهنمي، فهو متعقب لأن الكنية لا نظر فيها إلى مدلول اللفظ، بل الاسم إذا صدر بأم أو أب فهو كنية، سلمنا لكن اللهب لا يختص بجهنم وإنما المعتمد ما قاله غيره أن النكتة في ذكره بكنيته أنه لما علم الله تعالى أن مآله إلى النار ذات اللهب ووافقت كنيته حاله حسن أن يذكر بها، وأما ما استشهد به النووي من الكتاب إلى هرقل فقد وقع في نفس الكتاب ذكره بعظيم الروم، وهو مشعر بالتعظيم، واللقب لغير العرب كالكنى للعرب، وقد قال النووي في موضع آخر: فرع إذا كتاب إلى مشرك كتابا وكتب فيه سلاما أو نحوه فينبغي أن يكتب كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فذكر الكتاب وفيه: "عظيم الروم" وهذا ظاهره التناقض، وقد جمع أبي رحمه الله في نكت له على "الأذكار" بأن قوله عظيم الروم صفة لازمة لهرقل فاكتفى به صلى الله عليه وسلم عن قوله ملك الروم فإنه لو كتبها لأمكن هرقل أن يتمسك بها في أنه أقره على المملكة. قال: ولا يرد مثل ذلك في قوله تعالى حكاية عن صاحب مصر "وقال الملك" لأنه حكاية عن أمر مضى وانقضى، بخلاف هرقل انتهى. وينبغي أن يضم إليه أن ذكر عظيم الروم والعدول عن ملك الروم حيث كان لا بد له من صفة تميزه عند الاقتصار على اسمه، لأن من يتسمى بهرقل كثير، فقيل عظيم الروم ليميز عمن يتسمى بهرقل، فعلى هذا فلا يحتج به على جواز الكتابة لكل ملك مشرك بلفظ عظيم قومه إلا إن احتيج إلى مثل ذلك للتمييز، وعلى عموم ما تقدم من التألف أو من خشية الفتنة يجوز ذلك بلا تقييد والله أعلم. وإذا ذكر قيصر وأنه لقب لكل من ملك الروم فقد شاركه في ذلك جماعة من الملوك ككسرى لملك الفرس، وخاقان لملك الترك، والنجاشي لملك الحبشة، وتبع لملك اليمن، وبطليوس لملك اليونان، والقطنون لملك اليهود وهذا في القديم ثم صار يقال له رأس الجالوت، ونمرود لملك الصابئة، ودهمي لملك الهند، وقور لملك السند، ويعبور لملك الصين، وذو يزن وغيره من الأذواء لملك حمير، وهياج لملك الزنج، وزنبيل لملك الخزر، وشاه أرمن لملك أخلاط، وكابل لملك النوبة، والأفشين لملك فرغانة وأسروسنة، وفرعون لملك مصر، والعزيز لمن ضم إليها الإسكندرية، وجالوت لملك العمالقة ثم البربر، والنعمان لملك الغرب من قبل الفرس، نقل أكثر هذا الفصل من السيرة لمغلطاي وفي بعضه نظر.

(10/593)


116 - باب الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ
وَقَالَ إِسْحَاقُ: سَمِعْتُ أَنَساً مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ كَيْفَ الْغُلاَمُ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ هَدَأَ نَفَسُهُ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ
6209- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَحَدَا الْحَادِي. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارْفُقْ يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ" .
6210- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن ثابت عن أنس وأيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رويدك

(10/593)


يا أنجشة سوقك بالقوارير" قال أبو قلابة يعني النساء".
6211- حدثنا إسحاق أخبرنا حبان حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير" . قال قتادة: يعني ضعفة النساء.
6212- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة قال حدثني قتادة عن أنس بن مالك قال: "كان بالمدينة فزع فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة فقال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرا" .
قوله: "باب" بالتنوين "المعاريض" وقع عند ابن التين المعارض بغير ياء وصوابه بإثبات الياء قال: وثبت كذلك في رواية أبي ذر وهو من التعريض خلاف التصريح. قوله: "مندوحة" بوزن مفعولة بنون ومهملة أي فسحة ومتسع، ندحت الشيء وسعته وانتدح فلان بكذا اتسع وانتدحت الغنم في مرابضها إذا اتسعت من البطنة، والمعنى أن في المعاريض ما يغني عن الكذب. وهذا الترجمة لفظ حديث أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعرا وقال: إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب. وأخرجه الطبري في "التهذيب" والطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات. وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ووهاه، وأخرجه أبو بكر بن كامل في فوائده والبيهقي في الشعب من طريقه كذلك، وأخرجه ابن عدي أيضا من حديث علي مرفوعا بسند واه أيضا، وللمصنف في "الأدب المفرد" من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال: أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب؟ والمعاريض والمعارض بإثبات الياء أو بحذفها من التعريض بالقول، قال الجوهري: هو خلاف التصريح، وهو التورية بالشيء عن الشيء. وقال الراغب: التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب، أو باطن وظاهر. قلت: والأولى أن يقال: كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه. ومما يكثر السؤال عنه الفرق بين التعريض والكناية وللشيخ تقي الدين السبكي جزء جمعه في ذلك. قوله: "وقال إسحاق" هو ابن أبي طلحة التابعي المشهور، وهذا التعليق سقط من رواية النسفي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه المصنف في الجنائز، وشاهد الترجمة منه قول أم سليم "هدأ نفسه؛ وأرجو أن قد استراح" فإن أبا طلحة فهم من ذلك أن الصبي المريض تعافى، لأن قولها "هدأ" مهموز بوزن سكن ومعناه، والنفس بفتح الفاء مشعر بالنوم، والعليل إذا نام أشعر بزوال مرضه أو خفته، وأرادت هي أنه انقطع بالكلية بالموت، وذلك قولها "وأرجو أنه استراح" فهم منه أنه استراح من المرض بالعافية، ومرادها أنه استراح من نكد الدنيا وألم المرض، فهي صادقة باعتبار مرادها، وخبرها بذلك غير مطابق للأمر الذي فهمه أبو طلحة، فمن ثم قال الراوي "وظن أنها صادقة" أي باعتبار ما فهم هو. حديث أنس في قصة أنجشة وقد تقدم شرحه في "باب ما يجوز من الشعر" والمراد منه قوله: "رفقا بالقوارير" فأنه كنى بذلك عن النساء كما تقدم تقريره هناك، وحديث أنس في فرس أبي طلحة والمراد منه "إنا وجدناه لبحرا" أي لسرعة جريه، وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد، وكأنه استشهد بحديثي

(10/594)


أنس لجواز التعريض، والجامع بين التعريض وبين ما دل عليه اللفظ في غير ما وضع له لمعنى جامع بينهما.
قال ابن المنير: حديث القوارير والفرس ليسا من المعاريض بل من المجاز، فكأنه لما رأى ذلك جائزا قال: فالمعاريض التي هي حقيقة أولى بالجواز. قال ابن بطال: شبه جري الفرس بالبحر إشارة إلى أنه لا ينقطع، يعني ثم أطلق صفة الجري على نفس الفرس مجازا، قال: وهذا أصل في جواز استعمال المعاريض، ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم أو يحصل الحق، وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز. وأخرج الطبري من طريق محمد بن سيرين قال: "كان رجل من باهلة عيونا - أي كثير الإصابة بالعين - فرأى بغلة لشريح فأعجب بها، فخشي شريح عليها فقال: إنها إذا ربضت لا تقوم حتى تقام، فقال: أف أف، فسلمت منه" وإنما أراد شريح بقوله: "حتى تقام" أي حتى يقيمها الله تعالى.

(10/595)


باب قول الرجل للشيء "ليس بشيء" وهو ينوي ليس بحق
...
117 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلشَّيْءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ يَنْوِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قال النبي صلى الله عليه وسلم للْقَبْرَيْنِ: " يُعَذَّبَانِ بِلاَ كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ" .
6213- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَاناً بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقّاً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ" .
قوله: "باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحق" ذكر فيه حديثين: الأول: قوله: "وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم للقبرين: "يعذبان بلا كبير، وأنه لكبير" وهذا طرف من حديث تقدم في كتاب الطهارة، وتقدم شرحه أيضا، وتقدم أيضا في "باب النميمة من الكبائر" من كتاب الأدب بلفظ: "وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير". حديث عائشة في الكهان ليسوا بشيء، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الطب، قال الخطابي: معني قوله: "ليسوا بشيء" فيما يتعاطونه من علم الغيب، أي ليس قولهم بشيء صحيح يعتمد كما يعتمد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخبر عن الوحي، وهو كما يقال لمن عمل عملا غير متقن أو قال قولا غير سديد: ما عملت أو ما قلت شيئا. قال ابن بطال نحوه وزاد: إنهم يريدون بذلك المبالغة في النفي، وليس ذلك كذبا. وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} والمراد بالذكر هنا القدر والشرف أي كان موجودا، ولكن لم يكن له قدر يذكر به، إما وهو مصور من طين على قول من مال المراد به آدم أو في بطن أمه على قول من قال إن المراد به الجنس.

(10/595)


118 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ: "رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ".
6214- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ

(10/595)


119 - باب نَكْتِ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ.
6216- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَفْتِحُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَذَهَبْتُ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا عُمَرُ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ أَوْ تَكُونُ فَذَهَبْتُ فَإِذَا عُثْمَانُ فَقُمْتُ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ" .
قوله: "باب من نكت العود في الماء والطين" النكت بالنون والمثناة الضرب المؤثر. حديث أبي موسى في قصة القف وقد تقدم شرحه في المناقب وهو ظاهر فيما ترجم له، وأورده هنا بلفظ عود يضرب به بين الماء والطين. وفي رواية الكشميهني في الماء والطين وأورده بلفظ: "ينكت" في مناقب أبي بكر الصديق، وعثمان بن غياث المذكور في السند بكسر الغين المعجمة ثم تحتانية خفيفة وآخره مثلثة، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض النسخ يحيى بن عثمان وهو غلط، قال ابن بطال: من عادة العرب إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام وغيره وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم، وفي استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له الحجة البالغة، وكأن المراد بالعود هنا المخصرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليها وليس مصرحا به في هذا الحديث. قلت: وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من العبث المذموم لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء ثم لا يستعمله فيما لا يضر تأثيره فيه، بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناء الذي فيها(1)...... فسادا، فذاك هو العبث المذموم.
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: انظر ما مرجع الضمير وتأمل، ولذا وجد بياض في بعض النسخ بين قوله فيها وقوله بعده فسادا.

(10/597)


120 - باب الرَّجُلِ يَنْكُتُ الشَّيْءَ بِيَدِهِ فِي الأَرْضِ
6217- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ الأَرْضَ بِعُودٍ فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالُوا أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ".
قوله: "باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض" ذكر فيه حديث علي بن أبي طالب "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وسيأتي شرحه في كتاب القدر، ومضى الحديث بأتم من هذا السياق في تفسير سورة والليل، والغرض منه قوله: "ينكت في الأرض بعود". حديث علي بن أبي طالب " اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وسيأتي شرحه في كتاب القدر، ومضى الحديث بأتم من هذا السياق في تفسير سورة والليل، والغرض منه قوله: "ينكت في الأرض بعود" وقوله في السند "شعبة عن سليمان" هو الأعمش ومنصور هو

(10/597)


ابن المعتمر، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه فقال: "عن الأعمش" وذهل الكرماني حيث زعم أن سليمان هو التيمي.

(10/598)


3 - باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ
6218- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ" وَقَالَ ابْنُ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ لاَ قُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ" .
6219- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً مِنْ الْعِشَاءِ ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ مَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ الَّذِي عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا رَجُلاَنِ مِنْ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَفَذَا فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا مَا قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا" .
قوله: "باب التكبير والتسبيح عند التعجب" قال ابن بطال: التسبيح والتكبير معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله تعالى، وهذا توجيه حيد، كأن البخاري رمز إلى الرد على من منع من ذلك. وذكر المصنف فيه حديث صفية بنت حيي في قصة الرجلين اللذين قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله" أورده من طريق شعيب بن أبي حمزة ومن طريق ابن أبي عتيق، وساقه على لفظ ابن أبي عتيق، وقد تقدم شرحه في الاعتكاف، وقوله: "العشر الغوابر" بالغين المعجمة ثم الموحدة المراد بها هنا البواقي، وقد تطلق أيضا على المواضي وهو من الأضداد، وهو مطابق لما ترجم له لأن الظاهر أن مرادهما بقولهما "سبحان الله" التعجب من القول المذكور بقرينة قوله: "وكبر عليهما" أي عظم وشق. وقوله: "يقذف في قلوبكما" كذا هنا بحذف المفعول، وقد سبق في الاعتكاف بلفظ: "في قلوبكما شرا" وحديث أم سلمة "استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أنزل من الفتن" وقد تقدم بعض شرحه في العلم. وتأتي بقيته في الفتن، وقوله من الخزائن قيل عبر بها عن الرحمة كقوله: "خزائن رحمة ربي" كما عبر بالفتن عن العذاب لأنها أسباب مؤدية إليه، أن المراد بالخزائن إعلامه بما سيفتح على أمته من الأموال بالغنائم من البلاد التي يفتحونها

(10/598)


وأن الفتن تنشأ عن ذلك، فهو من جملة ما أخبر به مما وقع قبل وقوعه. وقد تعرض له البيهقي في "دلائل النبوة". قوله: "وقال ابن أبي ثور" هو عبيد الله بن عبد الله فذكر حديث عمر حيث قال: "أطلقت نساءك؟ قال: لا، قلت: الله أكبر" وهو طرف من حديث طويل تقدم موصولا في كتاب العلم، وتقدم شرحه في كتاب النكاح، وقد وردت عدة أحاديث صحيحة في قول "سبحان الله" عند التعجب كحديث أبي هريرة "لقيني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب" وفيه فقال: "سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس" متفق عليه. وحديث عائشة "أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض" وفيه: "قال تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله" الحديث متفق عليه. وعند مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي نذرت أن تنحر ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سبحان الله بئسما جزيتها" وكلاهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين أيضا من قول جماعة من الصحابة كحديث عبد الله بن سلام لما قيل له إنك من أهل الجنة قال: سبحان الله. ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم.
" تنبيه ": وقع في حديث صفية في رواية غير أبي ذر مؤخرا آخر هذا الباب والخطب فيه سهل، ووقع في شرح ابن بطال إيراد حديث صفية المذكور عقب حديث علي في الباب الذي قبله متصلا به، ثم استشكل مطابقته للترجمة وقال: سألت المهلب عنه فقال إنما أورده لحديث علي حيث قال فيه: "ليس منكم أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار" فقواه بحديث أم سلمة، أشار إلى أن أقوى أسباب النار الفتن والعصبية فيها والتقاتل على المال وما يفتح من الخزائن. اهـ. ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على وفق ما نقل ابن بطال، وإنما وقع حديث أم سلمة في باب التسبيح والتكبير للتعجب وهو ظاهر فيما ترجم له مستغن عن التكلف، والجواب المذكور لا يفيد مطابقة الحديث للترجمة، وإنما هو مطابق لحديث الترجمة فيما لا يتعلق بالترجمة.

(10/599)


122 - باب النَّهْيِ عَنْ الْخَذْفِ
6220- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ صُهْبَانَ الأَزْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ إِنَّهُ لاَ يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَلاَ يَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ" .
قوله: "باب النهي عن الخذف" بفتح المعجمة وسكون الدال المهملة بعدها فاء، تقدم بيانه وشرح الحديث في كتاب الصيد والذبائح.

(10/599)


123 - باب الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ
6221- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَهَذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ".
[الحديث 6221 – طرفه في: 6225]

(10/599)


124 - باب تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ. فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ
6222- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَرَدِّ السَّلاَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالسُّنْدُسِ وَالْمَيَاثِرِ" .
قوله: "باب تشميت العاطس إذا حمد الله" أي مشروعية التشميت بالشرط المذكور ولم يعين الحكم، وقد ثبت الأمر بذلك كما في حديث الباب، قال ابن دقيق العيد: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة الذي في الباب الذي يليه "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "حق المسلم على المسلم ست" فذكر فيها "وإذا عطس فحمد الله فشمته" وللبخاري من وجه آخر عن أبي هريرة "خمس تجب للمسلم على المسلم" فذكر منها التشميت، وهو عند مسلم أيضا. وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد الله، وليقل من عنده: يرحمك الله" ونحوه عند الطبراني من حديث أبي مالك، وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية. وقال به جمهور أهل الظاهر. وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا إنه فرض عين، وقواه ابن القيم في حواشي السنن فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ: "الحق" الدال عليه، وبلفظ: "على" الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء. وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشيد وأبو بكر بن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض، وأما من قال إنه فرض على مبهم فإنه ينافي كونه فرض عين. قوله: "فيه أبو هريرة" يحتمل أن يريد به حديث أبي هريرة المذكور في الباب الذي بعده، ويحتمل أن يريد به حديث أبي هريرة الذي أوله "حق المسلم على المسلم ست" وقد أشرت إليه قبل وأن مسلما أخرجه. حديث البراء "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس" الحديث، وقد تقدم شرح معظمه في كتاب اللباس. قال ابن بطال: ليس في حديث البراء التفصيل الذي في الترجمة، وإنما ظاهره أن كل عاطس يشمت على التعميم، قال: وإنما التفصيل في حديث أبي هريرة الآتي قال: وكان ينبغي له أن يذكره بلفظه في هذا الباب ويذكر بعده حديث البراء ليدل على أن حديث البراء وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص ببعض العاطسين وهم الحامدون، قال: وهذا من الأبواب التي أعجلته المنية عن تهذيبها. كذا قال. والواقع أن هذا الصنيع لا يختصن بهذه الترجمة بل قد أكمل منه البخاري في الصحيح، فطالما ترجم بالتقييد

(10/603)


والتخصيص كما في حديث الباب من إطلاق أو تعميم، ويكتفي من دليل التقييد والتخصيص بالإشارة إما لما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده أو في حديث آخر كما صنع في هذا الباب، فإنه أشار بقوله: "فيه أبو هريرة" إلى ما ورد في حديثه من تقييد الأمر بتشميت العاطس، بما إذا حمد، وهذا أدق التصرفين، ودل إكثاره من ذلك على أنه عن عمد منه لا أنه مات قبل تهذيبه، بل عد العلماء ذلك من دقيق فهمه وحسن تصرفه، في إيثار الأخفى عل الأجلى شحذا للذهن وبعثا للطالب على تتبع طرق الحديث، إلى غير ذلك من الفوائد. وقد خص من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعة: الأول من لم يحمد كما تقدم، وسيأتي في باب مفرد. الثاني الكافر فقد أخرج أبو داود وصححه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعري قال: "كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم" قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة إن التشميت الدعاء بالخير دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت، وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا قال: ولعل من خص التشميت بالدعاء بالرحمة بناه على الغالب لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة. قلت: وهذا البحث أنشأه من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع فحديث أبي موسى دال على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت، لكن لهم تشميت مخصوص وهو الدعاء لهم بالهداية وإصلاح البال وهو الشأن ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين فإنهم أهل الدعاء بالرحمة بخلاف الكفار. الثالث المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث فإن ظاهر الأمر بالتشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر لكن أخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: "يشمته واحدة وثنتين وثلاثا، وما كان بعد ذلك فهو زكام" هكذا أخرجه موقوفا من رواية سفيان بن عيينة عنه، وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطان عن ابن عجلان كذلك ولفظه: "شمت أخاك" وأخرجه من رواية الليث عن ابن عجلان وقال فيه: "لا أعلمه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" قال أبو داود: ورفعه موسى بن قيس عن ابن عجلان أيضا. وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "إن عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فقل إنك مضنوك" قال ابن أبي بكر: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، وهذا مرسل جيد، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: "فشمته ثلاثا، فما كان بعد ذلك فهو زكام" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن العاص " شمتوه ثلاثا، فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه " موقوف أيضا، ومن طريق عبد الله بن الزبير: إن رجلا عطس عنده فشمته ثم عطس فقال له في الرابعة أنت مضنوك، موقوف أيضا. ومن طريق عبد الله بن عمر مثله لكن قال: "في الثالثة"، ومن طريق علي بن أبي طالب "شمته ما بينك وبينه ثلاث، فإن زاد فهو ريح" وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة يشمت العاطس إذا تتابع عليه العطاس ثلاثا، قال النووي في "الأذكار" إذا تكرر العطاس متتابعا فالسنة أن يشمته لكل مرة إلى أن يبلغ ثلاث مرات، رويناه في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع أنه " سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس عنده رجل فقال له يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم" هذا لفظ رواية مسلم، وأما أبو داود والترمذي فقالا قال سلمة "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثم عطس الثانية أو الثالثة فقال رسول الله: يرحمك الله، هذا رجل مزكوم" اهـ كلامه ونقلت من نسخة عليها خطه بالسماع عليه، والذي نسبه إلى أبي داود والترمذي من إعادة قوله صلى الله عليه وسلم للعاطس يرحمك الله

(10/604)


ليس في شيء من نسخها كما سأبينه، فقد أخرجه أيضا أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد وابن أبي شيبة وابن السني وأبو نعيم أيضا في "عمل اليوم والليلة" وابن حبان في صحيحه والبيهقي في "الشعب" كلهم من رواية عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم وألفاظهم متفاوتة، وليس عند أحد منهم إعادة يرحمك الله في الحديث، وكذلك ما نسبه إلى أبي داود والترمذي أن عندهما "ثم عطس الثانية أو الثالثة" فيه نظر، فإن لفظ أبي داود "أن رجلا عطس" والباقي مثل سياق مسلم سواء إلا أنه لم يقل أخرى، ولفظ الترمذي مثل ما ذكره النووي إلى قوله: "ثم عطس" فإنه ذكره بعده مثل أبي داود سواء، وهذه رواية ابن المبارك عنده وأخرجه من رواية يحيى القطان فأحال به على رواية ابن المبارك فقال نحوه إلا أنه قال له في الثانية أنت مزكوم. وفي رواية شعبة قال يحيى القطان. وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي "قال له في الثالثة أنت مزكوم" وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن عمار وأكثر الروايات المذكورة ليس فيها تعرض للثالثة، ورجح الترمذي من قال: "في الثالثة" على رواية من قال: "في الثانية" وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطان يوافق ما ذكره النووي، وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في مصنفه وابن عبد البر من طريقه قال حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا عكرمة فذكره بلفظ: "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمته، ثم عطس فشمته، ثم عطس فقال له في الثالثة: أنت مزكوم" هكذا رأيت فيه: "ثم عطس فشمته" وقد أخرجه الإمام أحد عن يحيى القطان ولفظه: "ثم عطس الثانية والثالثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم" وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث لكن الأكثر على ترك ذكر التشميت بعد الأولى، وأخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن عكرمة بلفظ آخر قال: "يشمت العاطس ثلاثا؛ فما زاد فهو مزكوم" وجعل الحديث كله من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وأفاد تكرير التشميت، وهي رواية شاذة لمخالفة جميع أصحاب عكرمة في سياقه، ولعل ذلك من عكرمة المذكور لما حدث به وكيعا فإن في حفظه مقالا، فإن كانت محفوظة فهو شاهد قوي لحديث أبو هريرة، ويستفاد منه مشروعية تشميت العاطس ما لم يزد على ثلاث إذا حمد الله سواء تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه ثم كرر الحمد بعدد العطاس فهل يشمت بعدد الحمد؟ فيه نظر. وظاهر الخبر نعم. وقد أخرج أبو يعلى وابن السني من وجه آخر عن أبي هريرة النهي عن التشميت بعد ثلاث، ولفظه: "إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم، ولا يشمته بعد ثلاث" قال النووي: فيه رجل لم أتحقق حاله، وباقي إسناده صحيح، قلت: الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحراني، والحديث عندهما من رواية محمد بن سليمان عن أبيه، ومحمد موثق وأبوه يقال له الحراني ضعيف، قال فيه النسائي: ليس بثقة ولا مأمون. قال النووي: وأما الذي رويناه في سنن أبي داود والترمذي عن عبيد بن رفاعة الصحابي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يشمت العاطس ثلاثا فإن زاد فإن شئت فشمته وإن شئت فلا " فهو حديث ضعيف قال فيه الترمذي: هذا الحديث غريب، وإسناده مجهول. قلت: إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد، إذا لا يلزم من الغرابة الضعف، وأما وصف الترمذي إسناده بكونه مجهولا فلم يرد جميع رجال الإسناد فإن معظمهم موثقون، وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم، وذلك أن أبا داود والترمذي أخرجاه معا من طريق عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن، ثم اختلفا: فأما رواية أبي داود ففيها عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه حميدة – أو

(10/605)


عبيدة - بنت عبيد بن رفاعة عن أبيها، وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل كما سأبين وعبد السلام بن حرب من رجال الصحيح، ويزيد هو أبو خالد الدالاني وهو صدوق في حفظه شيء، ويحيى بن إسحاق وثقه يحيى بن معين وأمه حميدة روى عنها أيضا زوجها إسحاق بن أبي طلحة، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين، وأبوها عبيد بن رفاعة ذكروه في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية، قاله ابن السكن، قال: ولم يصح سماعه. وقال البغوي: روايته مرسلة وحديثه عن أبيه عند الترمذي والنسائي وغيرهما، وأما رواية الترمذي ففيها عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه عن أبيها كذا سماه عمر ولم يسم أمه ولا أباها، وكأنه لم يمعن النظر فين ثم قال إنه إسناد مجهول وقد تبين أنه ليس بمجهول، وأن الصواب يحيى بن إسحاق لا عمر، فقد أخرجه الحسن بن سفيان وابن السني وأبو نعيم وغيرهم من طريق عبد السلام بن حرب فقالوا يحيى بن إسحاق. وقالوا: حميدة بغير شك وهو المعتمد. وقال ابن العربي هذا الحديث وإن كان فيه مجهول لكن يستحب العمل به لأنه دعاء بخير وصلة وتودد للجليس، فالأولى العمل به والله أعلم. وقال ابن عبد البر: دل حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمت ثلاثا ويقال أنت مزكوم بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها فالعمل بها أولى. ثم حكى النووي عن ابن العربي أن العلماء اختلفوا هل يقول لمن تتابع عطاسه أنت مزكوم في الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ على أقوال، والصحيح في الثالثة قال: ومعناه إنك لست ممن يشمت بعدها لأن الذي بك مرض وليس من العطاس المحمود الناشئ عن خفة البدن كما سيأتي تقريره في الباب الذي يليه، قال: فإن قيل فإذا كان مرضا فينبغي أن يشمت بطريق الأولى لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره، قلنا نعم لكن يدعى له بدعاء يلائمه لا بالدعاء المشروع للعاطس بل من جنس دعاء المسلم للمسلم بالعافية، وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يعرف أنه مزكوم فيدعو له بالشفاء، قال: وتقريره أن العموم يقتضي التكرار إلا في موضع العلة وهو الزكام، قال وعند هذا يسقط الأمر بالتشميت عند العلم بالزكام لأن التعليل به يقتضي أن لا يشمت من علم أن به زكاما أصلا، وتعقبه بأن المذكور هو العلة دون التعليل وليس المعلل هو مطلق الترك ليعم الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو الترك بعد التكرير، فكأنه قيل لا يلزم تكرر التشميت لأنه مزكوم، قال ويتأيد بمناسبة المشقة الناشئة عن التكرار. الرابع ممن يخص من عموم العاطسين من يكره التشميت، قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالا للتشميت أن يؤهل له من يكرهه فإن قيل: كيف يترك السنة لذلك؟ قلنا: هي سنة لمن أحبها، فأما من كرهها ورغب عنها فلا. قال: ويطرد ذلك في السلام والعيادة. قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررا، فأما غيره فيشمت امتثالا للأمر ومناقضة للمتكبر في مراده وكسرا لسورته في ذلك، وهو أولى من إجلال التشميت. قلت: ويؤيده أن لفظ التشميت دعاء بالرحمة فهو يناسب المسلم كائنا من كان والله أعلم. الخامس قال ابن دقيق العيد يستثنى أيضا من عطس والإمام يخطب، فإنه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والراجح الإنصات لإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب ولا سيما إن قيل بتحريم الكلام والإمام يخطب، وعلى هذا فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب أو يشرع له التشميت بالإشارة؟ فلو كان العاطس الخطيب فحمد واستمر في خطبته فالحكم كذلك وإن حمد فوقف قليلا ليشمت فلا يمتنع أن يشرع تشميته. السادس ممن يمكن أن يستثنى من كان عند عطاسه في حالة

(10/606)


يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماعة فيؤخر ثم يحمد الله فيشمت، فلو خالف فحمد في تلك الحالة هل يستحق التشميت؟ فيه نظر.

(10/607)


125 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّثَاؤُبِ
6223- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا قَالَ هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" .
قوله: "باب ما يستحب من العطاس، وما يكره من التثاؤب" قال الخطابي: معنى المحبة والكراهة فيهما منصرف إلى سببهما، وذلك أن العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسام وعدم الغاية في الشبع وهو بخلاف التثاؤب فإنه يكون من علة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئا عن كثرة الأكل والتخليط فيه، والأول يستدعي النشاط للعبادة والثاني على عكسه. قوله: "سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة" هكذا قال آدم بن أبي أياس عن ابن أبي ذئب، وتابعه عاصم بن علي كما سيأتي بعد باب، والحجاج بن محمد عند النسائي وأبو داود الطيالسي ويزيد بن هارون عند الترمذي وابن أبي فديك عند الإسماعيلي وأبو عامر العقدي عند الحاكم كلهم عن ابن أبي ذئب، وخالفهم القاسم بن يزيد عند النسائي فلم يقل فيه: "عن أبيه " وكذا ذكره أبو نعيم من طريق الطيالسي. وكذلك أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يقل "عن أبيه" ورجح الترمذي رواية من قال عن أبيه وهو المعتمد. قوله: "إن الله يحب العطاس " يعني الذي لا ينشأ عن زكام، لأنه المأمور فيه بالتحميد والتشميت، ويحتمل التعميم في نوعي العطاس والتفصيل في التشميت خاصة، وقد ورد ما يخص بعض أحوال العاطسين، فأخرج الترمذي من طريق أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه قال: "العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان" وسنده ضعيف، وله شاهد عن ابن مسعود في الطبراني لكن لم يذكر النعاس، وهو موقوف وسنده ضعيف أيضا. قال شيخنا في "شرح الترمذي" لا يعارض هذا حديث الباب في محبة العطاس وكراهة التثاؤب لكونه بحال الصلاة فقد بتسبب الشيطان في حصول العطاس للمصلي ليشغله عن صلاته، وقد يقال إن العطاس إنما لم يوصف بكونه مكروها في الصلاة لأنه لا يمكن رده بخلاف التثاؤب، ولذلك جاء في التثاؤب كما سيأتي بعد "فليرده ما استطاع" ولم يأت ذلك في العطاس. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة "إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة" وهذا يعارض حديث جد عدي وفي سنده ضعف أيضا وهو موقوف والله أعلم. ومما يستحب للعاطس أن لا يبالغ في إخراج العطسة فقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "سبع من الشيطان" فذكر منها شدة العطاس. قوله: "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" استدل به على استحباب مبادرة العاطس بالتحميد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه ينبغي أن يتأنى في حقه حتى يسكن ولا يعاجله بالتشميت، قال: وهذا فيه غفلة عن شرط

(10/607)


التشميت وهو توقفه على حمد العاطس. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن مكحول الأزدي "كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر يرحمك الله إن كنت حمدت الله" واستدل به على أن التشميت إنما يشرع لمن سمع العاطس وسمع حمده، فلو سمع من يشمت غيره ولم يسمع هو عطاسه ولا حمده هل يشرع له تشميته؟ سيأتي قريبا. قوله: "وأما التثاؤب" سيأتي شرحه بعد بابين.

(10/608)


126 - باب إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ
6224- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ" .
قوله: "باب إذا عطس كيف يشمت؟" بضم أوله وتشديد الميم المفتوحة. قوله: "عن أبي صالح" هو السمان، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري، وهو من رواية تابعي عن تابعي. قوله: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله" كذا في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه النسائي من طريق يحيى بن حسان، والإسماعيلي من طريق بشر بن المفضل وأبي النضر، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق عاصم بن علي، وفي "عمل يوم وليلة" من طريق عبد الله بن صالح كلهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن عبد العزيز المذكور به بلفظ: "فليقل الحمد لله على كل حال". قلت: ولم أر هذه الزيادة من هذا الوجه في غير هذه الرواية، وقد تقدم ما يتعلق بحكمها. واستدل بأمر العاطس بحمد الله أنه يشرع حتى للمصلي، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث رفاعة بن رافع في "باب الحمد للعاطس" وبذلك قال الجمهور من الصحابة والأئمة بعدهم، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، ونقل الترمذي عن بعض التابعين أن ذلك يشرع في النافلة لا في الفريضة، ويحمد مع ذلك في نفسه. وجوز شيخنا في "شرح الترمذي" أن يكون مراده أنه يسر به ولا يجهر به، وهو متعقب مع ذلك بحديث رفاعة بن رافع فإنه جهر بذلك ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه. نعم يفرق بين أن يكون في قراءة الفاتحة أو غيرها من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها، وجزم ابن العربي من المالكية بأن العاطس في الصلاة يحمد في نفسه، ونقل عن سحنون أنه لا يحمد حتى يفرغ وتعقبه بأنه غلو. قوله: "وليقل له أخوه أو صاحبه" هو شك من الراوي وكذا وقع للأكثر من رواية عاصم بن علي "فليقل له أخوه" ولم يشك والمراد بالأخوة أخوة الإسلام. قوله: "يرحمك الله" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون دعاء بالرحمة، ويحتمل أن يكون إخبارا على طريق البشارة كما قال في الحديث الآخر "طهور إن شاء الله" أي هي طهر لك؛ فكأن المشمت بشر العاطس بحصول الرحمة له في المستقبل بسبب حصولها له في الحال لكونها دفعت ما يضره، قال: وهذا ينبني على قاعدة، وهي أن اللفظ إذا أريد به معناه لم ينصرف لغيره، وإن أريد به معنى يحتمله انصرف إليه، وإن أطلق انصرف إلى الغالب، وإن لم يستحضر القائل المعنى الغالب. وقال ابن بطال: ذهب إلى هذا قوم فقالوا: يقول له يرحمك الله يخصه بالدعاء وحده وقد أخرج البيهقي في "الشعب" وصححه ابن حبان من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة رفعه: "لما خلق الله آدم عطس،

(10/608)


فألهمه ربه أن قال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك الله" وأخرج الطبري عن ابن مسعود قال: "يقول يرحمنا الله وإياكم" وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أبي جمرة بالجيم "سمعت ابن عباس إذا شمت يقول: عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله" وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه "كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم ويغفر الله لنا ولكم" قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة، وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا فخلاف السنة، وبلغني عن بعض الفضلاء أنه شمت رئيسا فقال له يرحمك الله يا سيدنا فجمع الأمرين وهو حسن. قوله: "فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم" مقتضاه أنه لا يشرع ذلك إلا لمن شمت وهو واضح، وأن هذا اللفظ هو جواب التشميت، وهذا مختلف فيه قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى هذا وذهب الكوفيون إلى أنه يقول يغفر الله لنا ولكم، وأخرجه الطبري عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما. قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والطبراني من حديث ابن مسعود وهو في حديث سالم بن عبيد المشار إليه قبل ففيه: "وليقل يغفر الله لنا ولكم" قلت: وقد وافق حديث أبي هريرة في ذلك حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى وحديث أبي مالك الأشعري عند الطبراني أيضا وحديث ابن عمر عند البزار وحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند البيهقي في "الشعب". وقال ابن بطال: ذهب مالك والشافعي إلى أنه يتخير بين اللفظين. وقال أبو الوليد بن رشد: الثاني أولى، لأن المكلف يحتاج إلى طلب المغفرة، والجمع بينهما أحسن إلا للذمي، وذكر الطبري أن الذين منعوا من جواب التشميت بقول "يهديكم الله ويصلح بالكم" احتجوا بأنه تشميت اليهود كما تقدمت الإشارة إليه من تخريج أبي داود من حديث أبي موسى، قال: ولا حجة فيه إذ لا تضاد بين خبر أبي موسى وخبر أبي هريرة - يعني حديث الباب - لأن حديث أبي هريرة في جواب التشميت وحديث أبي موسى في التشميت نفسه، وأما ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن ابن عمر قال: اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النبي صلى الله عليه وسلم فشمته الفريقان جميعا فقال للمسلمين: يغفر الله لكم ويرحمنا وإياكم. وقال لليهود: يهديكم الله ويصلح بالكم. فقال: تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف. واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج لأنهم لا يرون الاستغفار للمسلمين، وهذا منقول عن إبراهيم النخعي، وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالأمر به، قال البخاري بعد تخريجه في "الأدب المفرد": وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب. وقال الطبري: هو من أثبت الأخبار. وقال البيهقي: هو أصح شيء ورد في هذا الباب. وقد أخذ به الطحاوي من الحنفية واحتج له بقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} قال: والذي يجيب بقوله: "غفر الله لنا ولكم" لا يزيد المشمت على معنى قوله يرحمك الله، لأن المغفرة ستر الذنب والرحمة ترك المعاقبة عليه، بخلافه دعائه له بالهداية والإصلاح فإن معناه أن يكون سالما من مواقعة الذنب صالح الحال، فهو فوق الأول فيكون أولى، واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين فيكون أجمع للخير ويخرج من الخلاف، ورجحه ابن دقيق العيد. وقد أخرج مالك في "الموطأ" عن نافع عن ابن عمر أنه "كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله قال: يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم" قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دليل على عظيم نعمة الله على العاطس؛ يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده، فإنه أذهب عنه الضرر

(10/609)


بنعمة العطاس ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحسانا، وفي هذا لمن رآه بقلب له بصيرة زيادة قوة في إيمانه حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة، ويداخله من حب الله الذي أنعم عليه بذلك ما لم يكن في باله، ومن حب الرسول الذي جاءت معرفة هذا الخير على يده والعلم الذي جاءت به سنته ما لا يقدر قدره. قال: وفي زيادة ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه من الأعمال ولله الحمد كثيرا. وقال الحليمي: أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورا وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس: يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك لتدوم لك السلامة. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله: "غفر الله لنا ولكم". قوله: "بالكم شأنكم" قال أبو عبيدة في معنى قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي شأنهم.

(10/610)


127 - باب لاَ يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ إِذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ
6225- حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة حدثنا سليمان التيمي قال سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: "عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الرجل يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني قال إن هذا حمد الله ولم تحمد الله" .
قوله: "باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله" أورد فيه حديث أنس الماضي في "باب الحمد للعاطس" وكأنه أشار إلى أن الحكم عام وليس مخصوصا بالرجل الذي وقع له ذلك وإن كانت واقعة حال لا عموم فيها، لكن ورد الأمر بذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه" قال النووي: مقتضى هذا الحديث أن من لم يحمد الله لم يشمت. قلت: هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟ الجمهور على الثاني، قال: وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه، ويؤخذ منه أنه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يشمت. وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال: "عطس رجل فقال السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك وعلى أمك. وقال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله" واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد بل سمع من شمت ذلك العاطس فإنه يشرع له التشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد. وقال النووي: المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره، وحكى ابن العربي اختلافا فيه ورجح أنه يشمته. قلت: وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد من علم أن الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده لأنه لا يعلم هل حمد أو لا، فإن عطس وحمد ولم يشمته أحد فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه. وقد أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن إن كان في سفينة فسمع عاطسا على الشط حمد فاكترى قاربا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع، فسئل عن ذلك فقال: لعله يكون مجاب الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول: يا أهل

(10/610)


السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم. قال النووي: ويستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته، وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف. وزعم ابن العربي أنه جهل من فاعله، قال: وأخطأ فيما زعم بل الصواب استحبابه. قلت: احتج ابن العربي لقوله بأنه إذا نبهه ألزم نفسه ما لم يلزمها، قال: فلو جمع بينهما فقال الحمد لله يرحمك الله جمع جهالتين: ما ذكرناه أولا وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس. وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم - وحكى غيره أنه الأوزاعي - أن رجلا عطس عنده فلم يحمد فقال له: كيف يقول من عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله. قلت: وكأن ابن العربي أخذ بظاهر حديث الباب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الذي عطس فلم يحمد لكن تقدم في "باب الحمد للعاطس" احتمال أنه لم يكن مسلما، فلعل ترك ذلك لذلك، لكن يحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته، ثم عرفه الحكم وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت. وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعري ففعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، شمت من حمد ولم يشمت من لم يحمد، كما ساق حديثه مسلم.

(10/611)


باب إذا تثاءب وضع يده على فمه
...
128 - باب إِذَا تَثَاءَبَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ
6226- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" .
قوله: "باب إذا تثاؤب" كذا للأكثر، وللمستملي: "تثاءب" بهمزة بدل الواو، قال شيخنا في "شرح الترمذي" وقع في رواية المحبوبي عند الترمذي بالواو. وفي رواية السنجي بالهمز، ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد عند أبي داود، وأما عند مسلم فبالواو، قال: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز. وقد أنكر الجوهري كونه بالواو وقال: تقول تثاءبت على وزن تفاعلت ولا تقل تثاوبت، قال: والتثاؤب أيضا مهموز، وقد يقلبون الهمزة المضمومة واوا والاسم الثؤباء بضم ثم همز على وزن الخيلاء، وجزم ابن دريد وثابت بن قاسم في "الدلائل" بأن الذي بغير واو بوزن تيممت فقال ثابت: لا يقال تثاؤب بالمد مخففا بل يقال تثأب بالتشديد. وقال ابن دريد: أصله من ثئب فهو مثئوب إذا استرخى وكسل. وقال غير واحد: إنهما لغتان. وبالهمز والمد أشهر. قوله: "فليضع يده على فيه " أورد فيه حديث أبي هريرة بلفظ فليرده ما استطاع. قال الكرماني: عموم الأمر بالرد يتناول وضع اليد على الفم فيطابق الترجمة من هذه الحيثية. قلت: وقد ورد في بعض طرقه صريحا أخرجه مسلم وأبو داود من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه " ولفظ الترمذي مثل لفظ الترجمة. قوله: "إن الله يحب العطاس" تقدم شرحه قريبا. قوله: "وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان" قال

(10/611)


ابن بطال إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة، أي أن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبا لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك منه. لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب. وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك لأنه واسطته، قال: والتثاؤب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ عنه النشاط وذلك بواسطة الملك. وقال النووي: أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل. قوله: " فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع" أي يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه لأن الذي وقع لا يرد حقيقة، وقيل معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب، وجوز الكرماني أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع. قوله: " فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان " في رواية ابن عجلان " فإذا قال آه ضحك منه الشيطان" وفي حديث أبي سعيد "فإن الشيطان يدخل" وفي لفظ له "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل" هكذا قيده بحالة الصلاة، وكذا أخرجه الترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "التثاؤب في الصلاة من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع" وللترمذي والنسائي من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه، ورواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه" قال شيخنا في شرح الترمذي: أكثر روايات الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة فيحتمل أن يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، ويحتمل أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة. وقد قال بعضهم: إن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، ويؤيد كراهته مطلقا كونه من الشيطان، وبذلك صرح النووي، قال ابن العربي: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة. وأما قوله في رواية أبي سعيد في ابن ماجه: "ولا يعوي" فإنه بالعين المهملة، شبه التثاؤب الذي يسترسل معه بعواء الكلب تنفيرا عنه واستقباحا له فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه ويعوي، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب شابهه. ومن هنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه، لأنه صيره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة. وأما قوله في رواية مسلم: "فإن الشيطان يدخل" فيحتمل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكر الله تعالى، والمتثائب في تلك الحالة غير ذاكر فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة. ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه، لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكنا منه. وأما الأمر بوضع اليد على الفم فيتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب فيغطى بالكف ونحوه وما إذا كان منطبقا حفظا له عن الانفتاح بسبب ذلك. وفي معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه مما يحصل ذلك المقصود، وإنما تتعين اليد إذا لم يرتد التثاؤب بدونها، ولا فرق في هذا الأمر بين المصلي وغيره، بل يتأكد في حال الصلاة كما تقدم ويستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه. ومما يؤمر به المتثائب إذا كان في الصلاة أن يمسك عن القراءة حني يذهب عنه لئلا يتغير نظم قراءته، وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والتابعين

(10/612)


المشهورين، ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في "التاريخ" من مرسل يزيد بن الأصم قال: "ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط" وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال: "ما تثاءب نبي قط" ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق. ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان. ووقع في "الشفاء لابن سبع" أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى، لأنه من الشيطان، والله أعلم.
" خاتمة ": اشتمل كتاب الأدب من الأحاديث المرفوعة على مائتين وستة وخمسين حديثا، المعلق منها خمسة وسبعون والبقية موصولة. المكرر منها فيه وفيما مضى مائتا حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الله بن عمرو في عقوق الوالدين، وحديث أبي هريرة " من سره أن يبسط له في رزقه" ، وحديث: " الرحم شجنة" ، وحديث ابن عمرو "ليس الواصل بالمكافئ"، وحديث أبي هريرة "قام أعرابي فقال اللهم ارحمنا"، وحديث أبي شريح "من لا يأمن جاره" وحديث جابر "كل معروف صدقة" ، وحديث أنس "لم يكن فاحشا"، وحديث عائشة "ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا"، وحديث أنس "إن كانت الأمة" وحديث حذيفة "أن أشبه الناس دلا وسمتا"، وحديث ابن مسعود " إن أحسن الحديث كتاب الله" وحديث أبي هريرة " إذا قال الرجل يا كافر "، وحديث ابن عمر فيه، وحديث أبي هريرة "لا تغضب"، وحديث ابن عمر " لأن يمتلئ" وحديث ابن عباس في ابن صياد، وحديث سعيد بن المسيب عن أبيه في اسم الحزن، وحديث ابن أبي أوفى في إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أحد عشر أثرا بعضها موصول وبعضها معلق. والله أعلم بالصواب.
تم الجزء العاشر. ويليه الحادي عشر، أوله: كتاب الاستئذان

(10/613)


المجلد الحادي عشر
كتاب الإستئذان
باب بدء السلام
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المجلد الحادي عشر
79 - كِتَاب الِاسْتِئْذَانِ
3 - بَاب بَدْءِ السَّلاَمِ
6227- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ"
قوله: "كتاب الاستئذان - باب بدء السلام" الاستئذان طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن: وبدء بفتح أوله والهمز بمعنى الابتداء أي أول ما وقع السلام، وإنما ترجم للسلام مع الاستئذان للإشارة إلى أنه لا يؤمن لمن لم يسلم. وقد أخرج أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش "حدثني رجل أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال لخادمه: اخرج لهذا فعلمه "فقال: قل السلام عليكم أأدخل" الحديث وصححه الدار قطني. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق زيد بن أسلم "بعثني أبي إلى ابن عمر فقلت: أألج؟ فقال: لا تقل كذا، ولكن قل: السلام عليكم، فإذا رد عليك فادخل". ومن طريق ابن أبي بريدة "استأذن رجل على رجل من الصحابة ثلاث مرات يقول أأدخل؟ وهو ينظر إليه لا يأذن له فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قال: نعم، ثم قال: لو أقمت إلى الليل". وسيأتي مزيد لذلك في الباب الذي يليه. قوله: "حدثنا يحيى بن جعفر" هو البيكندي. قوله: "خلق الله آدم على صورته" تقدم بيانه في بدء الخلق، واختلف إلى ماذا يعود الضمير؟ فقيل: إلى آدم أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط وإلى أن مات، دفعا لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى، أو ابتدأ خلقه كما وجد لم ينتقل في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة. وقيل للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة. وقيل للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره، وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعل نفسه، وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية وأن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال له إن الله خلق آدم على صورته، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب العتق، وقيل الضمير لله وتمسك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه: "على صورة الرحمن" والمراد بالصورة الصفة، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء. قوله: "اذهب فسلم على أولئك" فيه إشعار بأنهم كانوا على بعد، واستدل به على إيجاب ابتداء السلام.

(11/3)


لورود الأمر به، وهو بعيد بل ضعيف لأنها واقعة حال لا عموم لها، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الابتداء بالسلام سنة، ولكن في كلام المازري ما يقتضي إثبات خلاف في ذلك، كذا زعم بعض من أدركناه وقد راجعت كلام المازري وليس فيه ذلك فإنه قال: ابتداء السلام سنة ورده واجب. هذا هو المشهور عند أصحابنا، وهو من عبادات الكفاية، فأشار بقوله المشهور إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية؟ وقد صرح بعد ذلك بخلاف أبي يوسف كما سأذكره بعد، نعم وقع في كلام القاضي عبد الوهاب فيما نقله عنه عياض قال: لا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض على الكفاية فإن سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، قال عياض: معنى قوله فرض على الكفاية مع نقل الإجماع على أنه سنة أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية. قوله: "نفر من الملائكة" بالخفض في الرواية، ويجوز الرفع والنصب، ولم أقف على تعيينهم. قوله: "فاستمع" في رواية الكشميهني: "فاسمع". قوله: "ما يحيونك" كذا للأكثر بالمهملة من التحية، وكذا تقدم في خلق آدم عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق، وكذا عند أحمد ومسلم عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق. وفي رواية أبي ذر هنا بكسر الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة من الجواب، وكذا هو في "الأدب المفرد" للمصنف عن عبد الله بن محمد بالسند المذكور. قوله: "فإنها" أي الكلمات التي يحيون بها أو يجيبون. قوله: "تحيتك وتحية ذريتك" أي من جهة الشرع، أو المراد بالذرية بعضهم وهم المسلمون. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة مرفوعا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين" وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم. وفي حديث أبي ذر الطويل في قصة إسلامه قال: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث وفيه: "فكنت أول من حياه بتحية الإسلام فقال: وعليك ورحمة الله" أخرجه مسلم. وأخرج الطبراني والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي أمامة رفعه: "جعل الله السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا" وعند أبي داود من حديث عمران بن حصين "كنا نقول في الجاهلية: أنعم بك عينا، وأنعم صباحا" فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك ورجاله ثقات، لكنه منقطع. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: "كانوا في الجاهلية يقولون: حييت مساء، حييت صباحا، فغير الله ذلك بالسلام". قوله: "فقال السلام عليكم" قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الله علمه كيفية ذلك تنصيصا، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله له "فسلم" قلت: ويحتمل أن يكون ألهمه ذلك، ويؤيده ما تقدم في "باب حمد العاطس" في الحديث الذي أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "أن آدم لما خلقه الله عطس فألهمه الله أن قال الحمد لله" الحديث فلعله ألهمه أيضا صفة السلام. واستدل به على أن هذه الصيغة هي المشروعة لابتداء السلام لقوله: "فهي تحيتك وتحية ذريتك" وهذا فيما لو سلم على جماعة، فلو سلم على واحد فسيأتي حكمه بعد أبواب، ولو حذف اللام فقال: "سلام عليكم" أجزأ، قال الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} وقال تعالى: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} إلى غير ذلك، لكن باللام أولى لأنها للتفخيم والتكثير، وثبت في حديث التشهد "السلام عليك أيها النبي" قال عياض: ويكره أن يقول في الابتداء: عليك السلام. وقال النووي في "الأذكار": إذا قال المبتدئ وعليكم السلام لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، لأن هذه الصيغة لا تصلح للابتداء قاله المتولي، فلو قاله بغير واو فهو سلام،

(11/4)


قطع بذلك الواحدي، وهو ظاهر.قال النووي: ويحتمل أن لا يجزئ كما قيل به في التحلل من الصلاة، ويحتمل أن لا يعد سلاما ولا يستحق جوابا لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي وصححه وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جري بالجيم والراء مصغر الهجيمي بالجيم مصغرا قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى " قال ويحتمل أن يكون ورد لبيان الأكمل، وقد قال الغزالي في "الإحياء": يكره للمبتدئ أن يقول عليكم السلام، قال النووي: والمختار لا يكره، ويجب الجواب لأنه سلام. قلت: وقوله بالأسانيد الصحيحة يوهم أن له طرقا إلى الصحابي المذكور، وليس كذلك فإنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي جري، ومع ذلك فمداره عند جميع من أخرجه على أبي تميمة الهجيمي راوية عن أبي جري، وقد أخرجه أحمد أيضا والنسائي وصححه الحاكم، وقد اعترض هو ما دل عليه الحديث بما أخرجه مسلم من حديث عائشة في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، الحديث. وفيه: "قلت: كيف أقول؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين ". قلت: وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أتى البقيع "السلام على أهل الديار من المؤمنين" الحديث. قال الخطابي: فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم: "عليك سلام الله قيس بن عاصم". قلت: ليس هذا من شعر أهل الجاهلية، فإن قيس بن عاصم صحابي مشهور عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمرثية المذكورة لمسلم معروف قالها لما مات قيس، ومثله ما أخرج ابن سعد وغيره أن الجن رثوا عمر بن الخطاب بأبيات منها:
عليك السلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
وقال ابن العربي في السلام على أهل البقيع: لا يعارض النهي في حديث أبي جري لاحتمال أن يكون الله أحياهم لنبيه صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم سلام الأحياء، كذا قال، ويرده حديث عائشة المذكور قال: ويحتمل أن يكون النهي مخصوصا بمن يرى أنها تحية الموتى وبمن يتطير بها من الأحياء فإنها كانت عادة أهل الجاهلية وجاء الإسلام بخلاف ذلك، قال عياض وتبعه ابن القيم في "الهدى" فنقح كلامه فقال: كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في الابتداء السلام عليكم، ويكره أن يقول عليكم السلام، فذكر حديث أبي جري وصححه ثم قال: أشكل هذا على طائفة وظنوه معارضا لحديث عائشة وأبي هريرة وليس كذلك، وإنما معنى قوله: " عليك السلام تحية الموتى " إخبار عن الواقع لا عن الشرع، أي أن الشعراء ونحوهم يحيون الموتى به واستشهد بالبيت المتقدم وفيه ما فيه، قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيى بتحية الأموات. وقال عياض أيضا: كانت عادة العرب في تحية الموتى تأخير الاسم، كقولهم عليه لعنة الله وغضبه عند الذم، وكقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ، وتعقب بأن النص في الملاعنة ورد بتقديم اللعنة والغضب على الاسم. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون حديث عائشة لمن زار المقبرة فسلم على جميع من بها، وحديث أبي جري إثباتا ونفيا في السلام على الشخص الواحد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال عليكم السلام لم يجز، لأنها صيغة جواب، قال: والأولى الإجزاء لحصول مسمى السلام، ولأنهم قالوا: إن المصلي ينوي بإحدى التسليمتين الرد على من حضر، وهي بصيغة الابتداء. ثم حكى عن أبي الوليد بن رشد أنه يجوز الابتداء بلفظ الرد وعكسه، وسيأتي مزيد لذلك في "باب من رد فقال عليك السلام ".

(11/5)


إن شاء الله تعالى. قوله: "فقالوا السلام عليك ورحمة الله" كذا للأكثر في البخاري هنا، وكذا للجميع في بدء الخلق، ولأحمد ومسلم من هذا الوجه من رواية عبد الرزاق، ووقع هنا للكشميهني فقالوا وعليك السلام ورحمة الله، وعليها شرح الخطابي، واستدل برواية الأكثر لمن يقول يجزئ في الرد أن يقع باللفظ الذي يبتدأ به كما تقدم، قيل ويكفي أيضا الرد بلفظ الإفراد، وسيأتي البحث في ذلك "باب من رد فقال عليك السلام". قوله: "فزادوه ورحمة الله" فيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء، وهو مستحب بالاتفاق لوقوع التحية في ذلك في قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فلو زاد المبتدئ "ورحمة الله" استحب أن يزاد: "وبركاته" فلو زاد: "وبركاته" فهل تشرع الزيادة في الرد؟ وكذا لو زاد المبتدئ على "وبركاته" هل يشرع له ذلك؟ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال: "انتهى السلام إلى البركة" وأخرج البيهقي في "الشعب" من طريق عبد الله بن بابه1 قال: "جاء رجل إلى ابن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: حسبك إلى وبركاته" انتهى إلى "وبركاته" ومن طريق زهرة بن معبد قال: "قال عمر: انتهى السلام إلى وبركاته" ورجاله ثقات. وجاء عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضا في "الموطأ" عنه أنه زاد في الجواب "والغاديات والرائحات" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عمرو بن شعيب عن سالم مولى ابن عمر قال: "كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة فقلت: السلام عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. ثم أتيته فزدت "وبركاته" فرد وزاد: "وطيب صلواته" ومن طريق زيد بن ثابت أنه كتب إلى معاوية "السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ومغفرته وطيب صلواته" ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بسند قوي عن عمران بن حصين قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه وقال: عشر. ثم جاء آخر، فقال السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال: عشرون. ثم جاء آخر فزاد وبركاته، فرد وقال: ثلاثون" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان وقال: "ثلاثون حسنة" وكذا فيما قبلها، صرح بالمعدود. وعند أبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث على أنه هو الذي وقع له مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وأخرج الطبراني من حديث سهل بن حنيف بسند ضعيف رفعه: "من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، ومن زاد وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة". وأخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه بسند ضعيف نحو حديث عمران وزاد في آخره: "ثم جاء آخر فزاد ومغفرته، فقال أربعون. وقال: هكذا تكون الفضائل" وأخرج ابن السني في كتابه بسند واه من حديث أنس قال: "كان رجل يمر فيقول السلام عليك يا رسول الله فيقول له وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه" وأخرج البيهقي في "الشعب" بسند ضعيف أيضا من حديث زيد بن أرقم "كنا إذا سلم علينا النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته" وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على وبركاته. واتفق العلماء على أن الرد واجب على الكفاية، وجاء عن أبي يوسف أنه قال: يجب الرد على كل فرد فرد، واحتج له بحديث الباب لأن فيه: "فقالوا السلام عليك" وتعقب
ـــــــ
1 قال مصحح طبعة بولاق: لعله محرف عن "بابه" كما تقدم غير مرة

(11/6)


بجواز أن يكون نسب إليهم والمتكلم به بعضهم، واحتج له أيضا بالاتفاق على أن من سلم على جماعة فرد عليه واحد من غيرهم لا يجزئ عنهم، وتعقب بظهور الفرق. واحتج للجمهور بحديث علي رفعه: "يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم" أخرجه أبو داود والبزار، وفي سنده ضعف لكن له شاهد من حديث الحسن ابن علي عند الطبراني وفي سنده مقال، وآخر مرسل في "الموطأ" عن زيد بن أسلم. واحتج ابن بطال بالاتفاق على أن المبتدئ لا يشترط في حقه تكرير السلام بعدد من يسلم عليهم كما في حديث الباب من سلام آدم وفي غيره من الأحاديث، قال: فكذلك لا يجب الرد على كل فرد فرد إذا سلم الواحد عليهم. واحتج الماوردي بصحة الصلاة الواحدة على العدد من الجنائز. وقال الحليمي: إنما كان الرد واجبا لأن السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه فإنه يتوهم منه الشر، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه. انتهى كلامه. وسيأتي بيان معاني لفظ السلام في "باب السلام اسم من أسماء الله تعالى" ويؤخذ من كلامه موافقة القاضي حسين حيث قال: لا يجب رد السلام على من سلم عند قيامه من المجلس إذا كان سلم حين دخل، ووافقه المتولي، وخالفه المستظهري فقال: السلام سنة عند الانصراف فيكون الجواب واجبا، قال النووي: هذا هو الصواب، كذا قال. قوله: "فكل من يدخل الجنة" كذا للأكثر هنا وللجميع في بدء الخلق، ووقع هنا لأبي ذر "فكل من يدخل يعني الجنة" وكأن لفظ الجنة سقط من روايته فزاد فيه يعني. قوله: "على صورة آدم" تقدم شرح ذلك في بدء الخلق، قال المهلب: في هذا الحديث أن الملائكة يتكلمون بالعربية ويتحيون بتحية الإسلام. قلت: وفي الأول نظر لاحتمال أن يكون في الأزل بغير اللسان العربي، ثم لما حكى للعرب ترجم بلسانهم، ومن المعلوم أن من ذكرت قصصهم في القرآن من غير العرب نقل كلامهم بالعربي فلم يتعين أنهم تكلموا بما نقل عنهم بالعربي، بل الظاهر أن كلامهم ترجم بالعربي. وفيه الأمر بتعلم العلم من أهله والأخذ بنزول مع إمكان العلو، والاكتفاء في الخبر مع إمكان القطع بما دونه. وفيه أن المدة التي بين آدم والبعثة المحمدية فوق ما نقل عن الإخباريين من أهل الكتاب وغيرهم بكثير، وقد تقدم بيان ذلك ووجه الاحتجاج به في بدء الخلق.

(11/7)


باب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ...}
...
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ قَالَ اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} : وَقَالَ قَتَادَةُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُمْ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} خَائِنَةَ الأَعْيُنِ مِنْ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ لاَ يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِي.

(11/7)


الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ"
6228- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ"
6229- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا فَقَالَ إِذْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ"
قوله: "باب قول الله تعالى" في رواية أبي ذر "قوله تعالى". "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم" إلى قوله تعالى: {وَمَا تَكْتُمُونَ} ، وساق في رواية كريمة والأصيلي الآيات الثلاث، والمراد بالاستئناس في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الاستئذان بتنحنح ونحوه عند الجمهور. وأخرج الطبري من طريق مجاهد "حتى تستأنسوا تتنحنحوا أو تتنخموا" ومن طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود "كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس يتكلم ويرفع صوته" وأخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف من حديث أبي أيوب قال: "قلت يا رسول الله هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت" وأخرج الطبري من طريق قتادة قال: الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا، فالأولى ليسمع، والثانية ليتأهبوا له، والثالثة إن شاءوا أذنوا له وإن شاءوا ردوا. والاستئناس في اللغة طلب الإيناس وهو من الأنس بالضم ضد الوحشة، وقد تقدم في أواخر النكاح في حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وفيه: "فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. قال فجلس" وقال البيهقي: معنى تستأنسوا تستبصروا ليكون الدخول على بصيرة، فلا يصادف حالة يكره صاحب المنزل أن يطلعوا عليها. وأخرج من طريق الفراء قال: الاستئناس في كلام العرب معناه انظروا من في الدار. وعن الحليمي: معناه حتى تستأنسوا بأن تسلموا. وحكى الطحاوي أن الاستئناس في لغة اليمن الاستئذان وجاء عن ابن عباس إنكار ذلك، فأخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح أن ابن عباس "كان يقرأ حتى تستأذنوا" ويقول: أخطأ الكاتب. وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب، ومن طريق مغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: في مصحف ابن مسعود "حتى تستأذنوا" وأخرج سعيد ابن منصور من

(11/8)


طريق مغيرة عن إبراهيم في مصحف عبد الله "حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا" وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في "أحكام القرآن" عن ابن عباس واستشكله، وكذا طعن في صحته جماعة ممن بعده، وأجيب بأن ابن عباس بناها على قراءته التي تلقاها عن أبي بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم الخروج عما يوافقه، وكان قراءة أبي من الأحرف التي تركت للقراءة بها كما تقدم تقريره في فضائل القرآن. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الأولى ثم نسخت تلاوته، يعني ولم يطلع ابن عباس على ذلك. قوله: "وقال سعيد بن أبي الحسن" هو البصري أخو الحسن. قوله: "للحسن" أي لأخيه. قوله: "إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، قال: اصرف بصرك عنهن، يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال قتادة: عما لا يحل لهم" كذا وقع في رواية الكشميهني: ووقع في رواية غيره بعد قوله: "اصرف بصرك" وقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلخ، فعلى رواية الكشميهني يكون الحسن استدل بالآية. وأورد المصنف أثر قتادة تفسيرا لها، وعلى رواية الأكثر تكون ترجمة مستأنفة، والنكتة في ذكرها في هذا الباب على الحالين للإشارة إلى أن أصل مشروعية الاستئذان للاحتراز من وقوع النظر إلى ما لا يريد صاحب المنزل النظر إليه لو دخل بغير إذن، وأعظم ذلك النظر إلى النساء الأجنبيات، وأثر قتادة عند ابن أبي حاتم وصله من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد بن أبي عروبة عنه في قوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال: عما لا يحل لهم. قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} كذا للأكثر تخلل أثر قتادة بين الآيتين، وسقط جميع ذلك من رواية النسفي فقال بعد قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآيتين وقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. قوله: "خائنة الأعين من النظر إلى ما نهى عنه" كذا للأكثر بضم نون "نهى" على البناء للمجهول. وفي رواية كريمة: "إلى ما نهى الله عنه" وسقط لفظ: "من" من رواية أبي ذر، وعند ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} قال هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمر به أو يدخل بيتا هي فيه فإذا فطن له غض بصره، وقد علم الله تعالى أنه يود لو اطلع على فرجها وإن قدر عليها لو زنى بها، ومن طريق مجاهد وقتادة نحوه، وكأنهم أرادوا أن هذا من جملة خائنة الأعين. وقال الكرماني. معنى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} أن الله يعلم النظرة المسترقة إلى ما لا يحل، وأما خائنة الأعين التي ذكرت في الخصائص النبوية فهي الإشارة بالعين إلى أمر مباح لكن على خلاف ما يظهر منه بالقول. قلت: وكذا السكوت المشعر بالتقرير فإنه يقوم مقام القول. وبيان ذلك في حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: "لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، فذكر منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، إلى أن قال: "فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى أوقفه فقال: يا رسول الله بايعه، فأعرض عنه، ثم بايعه بعد الثلاث مرات، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عنه فيقتله: فقالوا: هلا أومأت قال. إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" أخرجه الحاكم من هذا الوجه، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" من مرسل سعيد بن المسيب أخصر منه وزاد فيه: "وكان رجل من الأنصار نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله"، فذكر بقية الحديث نحو حديث ابن عباس. وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن يربوع. وله طرق أخرى يشد بعضها.

(11/9)


بعضا. قوله: "وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه وإن كانت صغيرة" كذا للأكثر.وفي رواية الكشميهني: "في النظر إلى ما لا يحل من النساء لا يصلح إلخ" وقال: "النظر إليهن" وسقط هذا الأثر والذي بعده من رواية النسفي. قوله: "وكره عطاء النظر إلى الجواري التي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري" وصله ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي قال: "سئل عطاء بن أبي رباح عن الجواري التي يبعن بمكة، فكره النظر إليهن، إلا لمن يريد أن يشتري" ووصله الفاكهي في "كتاب مكة" من وجهين عن الأوزاعي وزاد: "اللاتي يطاف بهن حول البيت" قال الفاكهي "زعموا أنهم كانوا يلبسون الجارية ويطوفون بها مسفرة حول البيت ليشهروا أمرها ويرغبوا الناس في شرائها. قوله: "أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل" هو ابن عباس، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، قال ابن بطال: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع، قال: ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه، قال: وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل، قال: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء، وأن قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} على الوجوب في غير الوجه. قلت: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة، و قوله: "عجز راحلته" بفتح العين المهملة وضم الجيم بعدها زاي أي مؤخرها، و قوله: "وضيئا" أي لحسن وجهه ونظافة صورته، وقوله: "فأخلف يده" أي أدارها من خلفه، و قوله: "بذقن الفضل" بفتح الذال المعجمة والقاف بعدها نون، قال ابن التين: أخذ منه بعضهم أن الفضل كان حينئذ أمرد، وليس بصحيح، لأن في الرواية الأخرى "وكان الفضل رجلا وضيئا". فإن قيل سماه رجلا باعتبار ما آل إليه أمره قلنا. بل الظاهر أنه وصف حالته حينئذ، ويقويه أن ذلك كان في حجة الوداع والفضل كان أكبر من أخيه عبد الله وقد كان عبد الله حينئذ راهق الاحتلام قلت: وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يزوج الفضل لما سأله أن يستعمله على الصدقة ليصيب ما يتزوج به، فهذا يدل على بلوغه قبل ذلك الوقت ولكن لا يلزم منه أن تكون نبتت لحيته كما لا يلزم من كونه لا لحية له أن يكون صبيا. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وزهير هو ابن محمد التميمي، وزيد ابن أسلم هو مولى ابن عمر، وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي عامر، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي عامر كذلك، وأخرجه أحمد وعبد بن حميد جميعا عن أبي عامر العقدي عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، فكأن لأبي عامر فيه شيخين، وهو عند أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن زهير به، وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن زهير، وقد مضى في المظالم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم. قوله: "إياكم" هو للتحذير. قوله: "والجلوس" بالنصب وقوله بالطرقات في رواية الكشميهني: "في الطرقات" وفي رواية حفص بن ميسرة "على الطرقات" وهي جمع الطرق بضمتين وطرق جمع طريق. وفي حديث أبي طلحة عند مسلم: "كنا قعودا بالأفنية" جمع فناء بكسر الفاء ونون ومد وهو المكان المتسع أمام الدار "فجاء رسول الله.

(11/10)


صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لكم ولمجالس الصعدات" بضم الصاد والعين المهملتين جمع صعيد وهو المكان الواسع وتقدم بيانه في كتاب المظالم، ومثله لابن حبان من حديث أبي هريرة، زاد سعيد بن منصور من مرسل يحيى بن يعمر "فإنها سبيل من سبيل الشيطان أو النار". قوله: "فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها" قال عياض: فيه دليل على أن أمره لهم لم يكن للوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، وقد يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب. قلت: ويحتمل أن يكونوا رجوا وقوع النسخ تخفيفا لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر "فظن القوم أنها عزمة" ووقع في حديث أبي طلحة "فقالوا إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتحدث ونتذاكر". قوله: "فإذا أبيتم" في رواية الكشميهني: "إذا أبيتم" بحذف الفاء. قوله: "إلا المجلس" كذا للجميع هنا بلفظ: "إلا" بالتشديد، وتقدم في أواخر المظالم بلفظ فإذا أتيتم إلى المجالس بالمثناة بدل الموحدة في أتيتم وبتخفيف اللام من إلى، وذكر عياض أنه للجميع هناك هكذا، وقد بينت هناك أنه للكشميهني هناك كالذي هنا، ووقع في حديث أبي طلحة "إما لا" بكسر الهمزة "ولا" نافية وهي ممالة في الرواية، ويجوز ترك الإمالة. ومعناه إلا تتركوا ذلك فافعلوا كذا. وقال ابن الأنباري افعل كذا إن كنت لا تفعل كذا، ودخلت "ما" صلة. وفي حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط "فإن أبيتم إلا أن تفعلوا" وفي مرسل يحيى بن يعمر "فإن كنتم لا بد فاعلين". قوله: "فأعطوا الطريق حقه" في رواية حفص بن ميسرة "حقها" والطريق يذكر ويؤنث، وفي حديث أبي شريح عند أحمد "فمن جلس منكم على الصعيد فليعطه حقه". قوله: "قالوا وما حق الطريق"؟ في حديث أبي شريح "قلنا: يا رسول الله وما حقه "؟. قوله: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" في حديث أبي طلحة الأولى والثانية وزاد: "وحسن الكلام" وفي حديث أبي هريرة الأولى والثالثة وزاد: "وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد" وفي حديث عمر عند أبي داود وكذا في مرسل يحيى بن يعمر من الزيادة وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال، وهو عند البزار بلفظ وإرشاد الضال، وفي حديث البراء عند أحمد والترمذي "اهدوا السبيل وأعينوا المظلوم وأفشوا السلام" وفي حديث ابن عباس عند البزار من الزيادة "وأعينوا على الحمولة". وفي حديث سهل بن حنيف عند الطبراني من الزيادة "ذكر الله كثيرا" وفي حديث وحشي بن حرب عند الطبراني من الزيادة "واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم" ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبا وقد نظمتها في ثلاثة أبيات وهي:
جمعت آداب من رام الجلوس على الطر ... يق من قول خير الخلق إنسانا
أفش السلام وأحسن في الكلام ... وشمت عاطسا وسلاما رد إحسانا
في الحمل عاون ومظلوما أعن وأغث ... لهفان اهد سبيلا واهد حيرانا
بالعرف مر وانه عن نكر وكف أذى ... وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا
وقد اشتملت على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق من التعرض للفتن بخطور النساء الشواب وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك، إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن، ومن التعرض لحقوق الله .

(11/11)


وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته وحيث لا ينفرد أو يشتغل بما يلزمه، ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار، ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسما للمادة، فلما ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة، ولكل من الآداب المذكورة شواهد في أحاديث أخرى: فأما إفشاء السلام فسيأتي في باب مفرد، وأما إحسان الكلام فقال عياض فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى قلت: وله شواهد من حديث أبي شريح هانئ رفعه: "من موجبات الجنة إطعام الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام" ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "في الجنة غرف لمن أطاب الكلام" الحديث، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رفعه: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". وأما تشميت العاطس فمضى مبسوطا في أواخر كتاب الأدب، وأما رد السلام فسيأتي أيضا قريبا، وأما المعاونة على الحمل فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رفعه: "كل سلامي من الناس عليه صدقة" الحديث، وفيه: "ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها ويرفع له عليها متاعه صدقة" وأما إعانة المظلوم فتقدم في حديث البراء قريبا، وله شاهد آخر تقدم في كتاب المظالم، وأما إغاثة الملهوف فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي موسى فيه: "ويعين ذا الحاجة الملهوف" وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: "وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث" وأخرج المرهبي في العلم من حديث أنس رفعه في حديث: "والله يحب إغاثة اللهفان" وسنده ضعيف جدا، لكن له شاهد من حديث ابن عباس أصلح منه "والله يحب إغاثة اللهفان" وأما إرشاد السبيل فروى الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعا: "وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة" وللبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه من حديث البراء رفعه: "من منح منيحة أو هدى زقاقا كان له عدل عتق نسمة" وهدى بفتح الهاء وتشديد المهملة، والزقاق بضم الزاي وتخفيف القاف وآخره قاف معروف، والمراد من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: "ويسمع الأصم ويهدي الأعمى ويدل المستدل على حاجته" وأما هداية الحيران فله شاهد في الذي قبله، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة منها في حديث أبي ذر المذكور قريبا وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر صدقة" وأما كف الأذى فالمراد به كف الأذى عن المارة بأن لا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق أو على باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه أو حيث يكشف عياله أو ما يريد التستر به من حاله قاله عياض، قال: ويحتمل أن يكون المراد كف أذى الناس بعضهم عن بعض انتهى. وقد وقع في الصحيح من حديث أبي ذر رفعه: "فكف عن الشر فإنها لك الصدقة" وهو يؤيد الأول، وأما غض البصر فهو المقصود من حديث الباب، وأما كثرة ذكر الله ففيه عدة أحاديث يأتي بعضها في الدعوات.

(11/12)


3 - باب السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

(11/12)


6230- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ السَّلاَمُ عَلَى مِيكَائِيلَ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنْ الْكَلاَمِ مَا شَاءَ"
قوله: "باب السلام اسم من أسماء الله تعالى" هذه الترجمة لفظ بعض حديث مرفوع له طرق ليس منها شيء على شرط المصنف في الصحيح، فاستعمله في الترجمة وأورد ما يؤدي معناه على شرطه وهو حديث التشهد لقوله فيه: "فإن الله هو السلام" وكذا ثبت في القرآن في أسماء الله "السلام المؤمن المهيمن" ومعنى السلام السالم من النقائص، وقيل المسلم لعباده، وقيل المسلم على أوليائه. وأما لفظ الترجمة فأخرجه في "الأدب المفرد" من حديث أنس بسند حسن وزاد: "وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم" وأخرجه البزار والطبراني من حديث ابن مسعود موقوفا ومرفوعا، وطريق الموقوف أقوى. وأخرجه البيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة مرفوعا بسند ضعيف وألفاظهم سواء. وأخرج البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس موقوفا "السلام اسم الله وهو تحية أهل الجنة" وشاهده حديث المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى توضأ وقال: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، ويحتمل أن يكون أراد ما في رد السلام من ذكر اسم الله صريحا في قوله: "ورحمة الله". وقد اختلف في معنى السلام: فنقل عياض أن معناه اسم الله أي كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال الله معك ومصاحبك. وقيل: معناه إن الله مطلع عليك فيما تفعل. وقيل: معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها. وقيل: معناه السلامة كما قال تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وكما قال الشاعر:
تحيى بالسلامة أم عمرو ... وهل لي بعد قومي من سلام
فكأن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه وأن لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": السلام يطلق بإزاء معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله. قال وقد يأتي بمعنى التحية محضا. وقد يأتي بمعنى السلامة محضا، وقد يأتي مترددا بين المعنيين كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} فإنه يحتمل التحية والسلامة، وقوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}. قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} لم يقع في رواية أبي ذر {أَوْ رُدُّوهَا} ومناسبة ذكر هذه الآية في هذه الترجمة للإشارة إلى أن عموم الأمر بالتحية مخصوص بلفظ السلام كما دلت عليه الأحاديث المشار إليها في الباب الأول. واتفق العلماء على ذلك إلا ما حكاه ابن التين عن ابن خويز منداد عن مالك أن المراد بالتحية في الآية الهدية لكن حكى القرطبي عن ابن خويز منداد أنه ذكره احتمالا، وادعى أنه قول الحنفية فإنهم احتجوا بذلك بأن

(11/13)


السلام لا يمكن رده بعينه بخلاف الهدية فإن الذي يهدى له إن أمكنه أن يهدي أحسن منها فعل وإلا ردها بعينها. وتعقب بأن المراد بالرد رد المثل لا رد العين، وذلك سائغ كثير. ونقل القرطبي أيضا عن ابن القاسم وابن وهب عن مالك أن المراد بالتحية في الآية تشميت العاطس والرد على المشمت، قال: وليس في السياق دلالة على ذلك، ولكن حكم التشميت والرد مأخوذ من حكم السلام والرد عند الجمهور، ولعل هذا هو الذي نحا إليه مالك. حديث ابن مسعود في التشهد، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصلاة، والغرض منه قوله فيه: "إن الله هو السلام" وهو مطابق لما ترجم له. واتفقوا على أن من سلم لم يجزئ في جوابه إلا السلام، ولا يجزئ في جوابه صبحت بالخير أو بالسعادة ونحو ذلك. واختلف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام هل يجب جوابه، أم لا؟ وأقل ما يحصل به وجوب الرد أن يسمع المبتدئ. وحينئذ يستحق الجواب، ولا يكفي الرد بالإشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه الترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم الإشارة بالإصبع، وتسليم النصارى بالأكف" قال الترمذي: غريب.قلت: وفي سنده ضعف، لكن أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرءوس والأكف والإشارة" قال النووي: لا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد "مر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم" فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ: "فسلم علينا" انتهى. والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حسا وشرعا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم، ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي هل يستحق الجواب؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها يجب لمن يحسن بالعربية. وقال ابن دقيق العيد: الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب وليس بمكروه إلا إن قصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم من أجل أكابر أهل الدنيا، ويجب الرد على الفور، فلو أخر ثم استدرك فرد لم يعد جوابا قاله القاضي حسين وجماعة، وكأن محله إذا لم يكن عذر. ويجب رد جواب السلام في الكتاب ومع الرسول، ولو سلم الصبي على بالغ وجب عليه الرد، ولو سلم على جماعة فيهم صبي فأجاب أجزأ عنهم في وجه.

(11/14)


4 - باب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ
6231- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
[الحديث 6231- أطرافه في 6232، 6233، 6234]
قوله: "باب تسليم القليل على الكثير" هو أمر نسبي يشمل الواحد بالنسبة للاثنين فصاعدا والاثنين بالنسبة للثلاثة فصاعدا وما فوق ذلك. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "يسلم" كذا للجميع بصيغة الخبر وهو بمعنى الأمر، وقد ورد صريحا في رواية عبد الرزاق عن معمر عند أحمد بلفظ: "ليسلم" ويأتي شرحه فيما بعده، قال الماوردي: لو دخل شخص مجلسا فإن كان الجمع قليلا يعمهم سلام واحد فسلم كفاه، فإن زاد فخصص بعضهم

(11/14)


فلا بأس، ويكفي أن يرد منهم واحد، فإن زاد فلا بأس، وإن كانوا كثيرا بحيث لا ينتشر فيهم فيبتدئ أول دخوله إذا شاهدهم، وتتأدى سنة السلام في حق جميع من يسمعه، ويجب على من سمعه الرد على الكفاية. وإذا جلس سقط عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وهل يستحب أن يسلم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه؟ وجهان: أحدهما إن عاد فلا بأس، وإلا فقد سقطت عنه سنة السلام لأنهم جمع واحد، وعلى هذا يسقط فرض الرد بفعل بعضهم، والثاني أن سنة السلام باقية في حق من لم يبلغهم سلامه المتقدم فلا يسقط فرض الرد من الأوائل عن الأواخر.

(11/15)


5 - باب تَسْلِيمِ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي
6232- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
قوله: "باب يسلم الراكب على الماشي" في رواية الكشميهني: "تسليم" على وفق الترجمة التي قبلها. قوله: "مخلد" هو ابن يزيد. قوله: "زياد" هو ابن سعد الخراساني نزيل مكة، وقد وقع في رواية الإسماعيلي هنا "زياد بن سعد". قوله: "أنه سمع ثابتا مولى ابن يزيد" في رواية غير أبي ذر "عبد الرحمن بن زيد" ووقع في رواية روح التي بعدها "أن ثابتا أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد" وزيد المذكور هو ابن الخطاب أخو عمر بن الخطاب ولذلك نسبوا ثابتا عدويا، وحكى أبو علي الجياني أن في رواية الأصيلي عن الجرجاني "عبد الرحمن بن يزيد" بزيادة ياء في أوله وهو وهم، وثابت هو ابن الأحنف وقيل ابن عياض بن الأحنف وقيل إن الأحنف لقب عياض، وليس لثابت في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في المصراة من كتاب البيوع. قوله: "يسلم الراكب على الماشي" كذا ثبت في هذه الرواية، ولم يذكر ذلك في رواية همام كما ذكر في رواية همام الصغير على الكبير ولم يذكر في هذه، فكأن كلا منهما حفظ ما لم يحفظ الآخر، وقد وافق هماما عطاء بن يسار كما سيأتي بعده، واجتمع من ذلك أربعة أشياء وقد اجتمعت في رواية الحسن عن أبي هريرة عند الترمذي وقال: روي من غير وجه عن أبي هريرة، ثم حكى قول أيوب وغيره أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.

(11/15)


6 - باب تَسْلِيمِ الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ
6233- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح بن عبادة حدثنا بن جريج قال أخبرني زياد أن ثابتا أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ثم يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير"
قوله: "باب يسلم الماشي على القاعد" ذكر فيه الحديث الذي قبله من وجه آخر عن ابن جريج؛ وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة بعدها لام بزيادة أخرجه عبد الرزاق وأحمد بسند

(11/15)


7 - باب تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ
6234- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
قوله: "باب يسلم الصغير على الكبير" وقال إبراهيم هو ابن طهمان: وثبت كذلك في رواية أبي ذر. وقد وصله البخاري في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا أحمد بن أبي عمرو حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان به سواء" وأبو عمرو هو حفص بن عبد الله بن راشد السلمي قاضي نيسابور، ووصله أيضا أبو نعيم من طريق عبد الله بن العباس، والبيهقي من طريق أبي حامد بن الشرفي كلاهما عن أحمد بن حفص به، وأما قول الكرماني: عبر البخاري بقوله: "وقال إبراهيم" لأنه سمع منه في مقام المذاكرة فغلط عجيب، فإن البخاري لم يدرك إبراهيم بن طهمان فضلا عن أن يسمع منه، فإنه مات قبل مولد البخاري بست وعشرين سنة، وقد ظهر بروايته في الأدب أن بينهما في هذا الحديث رجلين. قوله: "والمار على القاعد" هو كذا في رواية همام، وهو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ: "الماشي" لأنه أعم من أن يكون المار ماشيا أو راكبا، وقد اجتمعا في حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه والنسائي وصحيح ابن حبان بلفظ: "يسلم الفارس على الماشي والماشي على القائم" وإذا حمل القائم على المستقر كان أعم من أن يكون جالسا أو واقفا أو متكئا أو مضطجعا، وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعددت الصور، وتبقى صورة لم تقع منصوصة وهي ما إذا تلاقى ماران راكبان أو ماشيان وقد تكلم عليها المازري فقال: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرا في الدين إجلالا لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الحس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكب الفرس، أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدرا في الدين فيبتدؤه الذي دونه، هذا الثاني أظهر كما لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدرا من جهة الدنيا، إلا أن يكون سلطانا يخشى منه، وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام كما تقدم في حديث المتهاجرين في أبواب الأدب. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح من حديث جابر قال: "الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل" ذكره عقب رواية ابن جريج عن زياد بن سعد عن ثابت عن أبي هريرة بسنده المذكور عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وصرح فيه بالسماع. وأخرج أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما والبزار من وجه آخر عن ابن جريج الحديث بتمامه مرفوعا بالزيادة. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن الأغر المزني "قال لي أبو بكر لا يسبقك أحد إلى السلام" والترمذي من حديث أبي أمامة رفعه: "إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام" وقال: حسن. وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء "قلنا: يا رسول الله إنا نلتقي فأينا يبدأ بالسلام؟ قال: أطوعكم لله". قوله: "والقليل على الكثير" تقدم تقريره، لكن لو عكس الأمر فمر جمع كثير على جمع قليل، وكذا لو مر الصغير على الكبير، لم أر فيهما نصا. واعتبر النووي المرور فقال الوارد يبدأ سواء كان صغيرا أم كبيرا قليلا أم كثيرا،

(11/16)


ويوافقه قول المهلب: إن المار في حكم الداخل، وذكر الماوردي أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض، لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله ولخرج به عن العرف قلت: ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن الطفيل بن أبي ابن كعب قال: "كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق فلا يمر على بياع ولا أحد إلا سلم عليه. فقلت: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع؟ قال: إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا" لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر، والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام. وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء، فقال ابن بطال عن المهلب: تسليم الصغير لأجل حق الكبير لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع. وقال ابن العربي: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل. وقال المازري: أما أمر الراكب فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر ولا سيما إذا كان راكبا، فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا فصار للقاعد مزية فأمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة، بخلاف المار فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له، ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم وكأنه لمراعاة السن فإنه معتبر في أمور كثيرة في الشرع، فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلا فيه نظر، ولم أر فيه نقلا. والذي يظهر اعتبار السن لأنه الظاهر، كما تقدم الحقيقة على المجاز. ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير. وقال المازري وغيره: هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب، ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة، إلا إن بادر فيكون تاركا للمستحب أيضا. وقال المتولي: لو خالف الراكب أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال: والوارد يبدأ بكل حال. وقال الكرماني: لو جاء أن الكبير يبدأ الصغير والكثير يبدأ القليل لكان مناسبا، لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير والقليل من الكثير، فإذا بدأ الكبير والكثير أمن منه الصغير والقليل، لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضا اعتبر جانب التواضع كما تقدم، وحيث لا يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاقه التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعا إلى ما هو الأصل، فلو كان المشاة كثيرا والقعود قليلا تعارضا ويكون الحكم حكم اثنين تلاقيا معا فأيهما بدأ فهو أفضل، ويحتمل ترجيح جانب الماشي كما تقدم، والله أعلم.

(11/17)


8 - باب إِفْشَاءِ السَّلاَمِ

(11/17)


6235- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ "الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَصْرِ الضَّعِيفِ وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ"
قوله: "باب إفشاء السلام" كذا للنسفي وأبي الوقت, وسقط لفظ "باب" للباقين. الإفشاء الإظهار, والمراد نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عمر "إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله" قال النووي: أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه, فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة. ويستحب أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق أنه سمعه, فإن شك استظهر. ويستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام فالسنة فيه ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان" ونقل النووي عن المتولي أنه قال: "يكره إذا لقي جماعة أن يخص بعضهم بالسلام. لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة, وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام". قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، والشيباني هو أبو إسحاق، وأشعث هو ابن أبي الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة فيه وفي أبيه، واسم أبيه سليم بن أسود. قوله: "عن معاوية بن قرة" كذا للأكثر وخالفهم جعفر بن عوف فقال عن الشيباني عن أشعث عن سويد ابن غفلة عن البراء وهي رواية شاذة أخرجها الإسماعيلي. قوله: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض الحديث" تقدم في اللباس أنه ذكر في عدة مواضع لم يسقه بتمامه في أكثرها، وهذا الموضع مما ذكر فيه سبعا مأمورات وسبعا منهيات، والمراد منه هنا إفشاء السلام، وتقدم شرح عيادة المريض في الطب واتباع الجنائز فيه وعون المظلوم في كتاب المظالم وتشميت العاطس في أواخر الأدب وسيأتي إبرار القسم في كتاب الأيمان والنذور، وسبق شرح المناهي في الأشربة وفي اللباس، وأما نصر الضعيف المذكور هنا فسبق حكمه في كتاب المظالم، ولم يقع في أكثر الروايات في حديث البراء هذا، وإنما وقع بدله إجابة الداعي، وقد تقدم شرحه في كتاب الوليمة من كتاب النكاح. قال الكرماني: نصر الضعيف من جملة إجابة الداعي لأنه قد يكون ضعيفا وإجابته نصره، أو أن لا مفهوم للعدد المذكور وهو السبع فتكون المأمورات ثمانية، كذا قال؛ والذي يظهر لي أن إجابة الداعي سقطت من هذه الرواية، وأن نصر الضعيف المراد به عون المظلوم الذي ذكر في غير هذه الطريق، ويؤيد هذا الاحتمال أن البخاري حذف بعض المأمورات من غالب المواضع التي أورد الحديث فيها اختصارا. قوله: "وإفشاء السلام" تقدم في الجنائز بلفظ ورد السلام، ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء بلفظ آخر وهو عند المصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه رفعه: "أفشوا السلام تسلموا" وله شاهد من حديث أبي الدرداء مثله عند الطبراني، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما تحابون به؟ أفشوا السلام بينكم" قال ابن العربي: فيه أن من فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين، وكان ذلك لما فيه من ائتلاف الكلمة لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء

(11/18)


الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النفور إلى الإقبال على قائلها. وعن عبد الله بن سلام رفعه: "أطعموا الطعام وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وصححه الترمذي والحاكم، وللأولين وصححه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنان" والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة منها عند البزار من حديث الزبير وعند أحمد من حديث عبد الله بن الزبير وعند الطبراني من حديث ابن مسعود وأبي موسى وغيرهم، ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رفعه: "إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قال: "إن كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أسلم ويسلم علي" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق الطفيل بن أبي بن كعب عن ابن عمر نحوه لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري فاكتفى بما ذكره من حديث البراء، واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سرا بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه. وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف" ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم رد السلام وهو يصلي إشارة، منها حديث أبي سعيد "أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فرد عليه إشارة" ومن حديث ابن مسعود نحوه، وكذا من كان بعيدا بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: "يكره السلام باليد ولا يكره بالرأس" وقال ابن دقيق العيد: استدل بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، وفيه نظر إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين وهو أن يجب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه لما في ذلك من الحرج والمشقة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، قال: وإذا سقط على هذه الصورة لم يسقط الاستحباب لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن انتهى. وهذا البحث ظاهر في حق من قال إن ابتداء السلام فرض عين، وأما من قال فرض كفاية فلا يرد عليه إذا قلنا إن فرض الكفاية ليس واجبا على واحد بعينه، قال ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسلام كالكافر قلت: ويدل عليه قوله في الحديث المذكور قبل "إذا فعلتموه تحاببتم" والمسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبته ومواددته. وسيأتي البحث في ذلك في "باب التسليم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين"، وقد اختلف أيضا في مشروعية السلام على الفاسق وعلى الصبي، وفي سلام الرجل على المرأة وعكسه، وإذا جمع المجلس كافرا ومسلما هل يشرع السلام مراعاة لحق المسلمين؟ أو يسقط من أجل الكافر؟ وقد ترجم المصنف لذلك كله. وقال النووي يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلا بأكل أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء أو الحمام أو نائما أو ناعسا أو مصليا أو مؤذنا ما دام متلبسا بشيء مما ذكر، فلو لم تكن اللقمة في فم الآكل مثلا شرع السلام عليه، ويشرع في حق المتبايعين وسائر المعاملات، واحتج له ابن دقيق العيد بأن الناس غالبا يكونون في أشغالهم فلو روعي ذلك لم يحصل امتثال الإفشاء. وقال ابن دقيق العيد: احتج من منع السلام على من في الحمام بأنه بيت الشيطان وليس موضع التحية لاشتغال من فيه بالتنظيف، قال وليس هذا المعنى بالقوي في

(11/19)


الكراهة، بل يدل على عدم الاستحباب. قلت: وقد تقدم في كتاب الطهارة من البخاري "إن كان عليهم إزار فيسلم وإلا فلا" وتقدم البحث فيه هناك. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره فسلمت عليه" الحديث. قال النووي: وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عند من قال الإنصات واجب، ويجب عند من قال إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ. قال النووي: وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد، ثم قال: وأما من كان مشتغلا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه لأنه يتنكد به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل. وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن قطعه التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظا أن لو سلم عليه، قال: ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام إن كان مشتغلا بالبول ونحوه فيكره "وإن كان آكلا ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصليا لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح، فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب، وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا لأنه قدر يسير لا يبطل الموالاة. وقد تعقب والدي رحمه الله في نكته على الأذكار ما قاله الشيخ في القارئ لكونه يأتي في حقه نظير ما أبداه هو في الداعي، لأن القارئ قد يستغرق فكره في تدبر معاني ما يقرؤه، ثم اعتذر عنه بأن الداعي يكون مهتما بطلب حاجته فيغلب عليه التوجه طبعا، والقارئ إنما يطلب منه التوجه شرعا فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنه يوفق للحاجة العلية فهو على ندور انتهى. ولا يخفى أن التعليل الذي ذكره الشيخ من تنكد الداعي يأتي نظيره في القارئ، وما ذكره الشيخ في بطلان الصلاة إذا رد السلام بالخطاب ليس متفقا عليه، فعن الشافعي نص في أنه لا تبطل لأنه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدعاء، وإذا عذرنا الداعي والقارئ بعدم الرد فرد بعد الفراغ كان مستحبا. وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظاره الصلاة لا يشرع السلام عليهم، وإن سلم عليهم لم يجب الجواب، قال وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد. وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب الرد عليه، كذا قال. وهذا الأخير لا يوافق عليه. ويدخل في عموم إفشاء السلام، السلام على النفس لمن دخل مكانا ليس فيه أحد، لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر "فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وأخرج الطبري عن ابن عباس ومن طريق كل من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه، ويدخل فيه من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه فإنه يشرع له السلام ولا يتركه لهذا الظن لأنه قد يخطئ، قال النووي: وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببا لتأثيم الآخر فهو غباوة، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات. قال: وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة رد السلام واجب، فينبغي أن ترد ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك لأنه حق آدمي، ورجح ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" المقالة التي زيفها

(11/20)


النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه، ولا سيما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره.

(11/21)


9 - باب السَّلاَمِ لِلْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرِفَةِ
6236- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ :" تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ"
6237- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
قوله: "باب السلام للمعرفة وغير المعرفة" أي من يعرفه المسلم ومن لا يعرفه، أي لا يخص بالسلام من يعرفه دون من لا يعرفه. وصدر الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن مسعود أنه "مر برجل فقال السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فرد عليه ثم قال: إنه سيأتي على الناس زمان يكون السلام فيه للمعرفة" وأخرجه الطحاوي والطبراني والبيهقي في "الشعب" من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا ولفظه: "إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد لا يصلي فيه، وأن لا يسلم إلا على من يعرفه" ولفظ الطحاوي "إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة". حديث عبد الله بن عمر، قوله: "حدثني يزيد" هو ابن أبي حبيب كما ذكر في رواية قتيبة عن الليث في كتاب الإيمان. قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة وآخره دال مهملة والإسناد كله بصريون، وقد تقدم شرح الحديث في أوائل كتاب الإيمان، قال النووي معنى قوله: "على من عرفت ومن لم تعرف" تسلم على من لقيته ولا تخص ذلك بمن تعرف، وفي ذلك إخلاص العمل لله واستعمال التواضع وإفشاء السلام الذي هو شعار هذه الأمة قلت: وفيه من الفوائد أنه لو ترك السلام على من لم يعرف احتمل أن يظهر أنه من معارفه، فقد يوقعه في الاستيحاش منه، قال: وهذا العموم مخصوص بالمسلم، فلا يبتدئ السلام على كافر. قلت: قد تمسك به من أجاز ابتداء الكافر بالسلام، ولا حجة فيه لأن الأصل مشروعية السلام للمسلم فيحمل قوله: "من عرفت عليه" وأما "من لم تعرف" فلا دلالة فيه، بل إن عرف أنه مسلم فذاك وإلا فلو سلم احتياطا لم يمتنع حتى يعرف أنه كافر. وقال ابن بطال في مشروعية السلام على غير المعرفة استفتاح للمخاطبة للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش، ويشبه صدود المتهاجرين المنهي عنه. وأورد الطحاوي في "المشكل" حديث أبي ذر في قصة إسلامه وفيه: "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وقد صلى هو وصاحبه- فكنت أول من حياه بتحية الإسلام" قال الطحاوي وهذا لا ينافي حديث ابن مسعود في ذم السلام للمعرفة، لاحتمال أن يكون أبو ذر سلم على أبي بكر قبل

(11/21)


ذلك، أو لأن حاجته كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر.قلت: والاحتمال الثاني لا يكفي في تخصيص السلام، وأقرب منه أن يكون ذلك قبل تقرير الشرع بتعميم السلام، وقد ساق مسلم قصة إسلام أبي ذر بطولها ولفظه: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى فلما قضى صلاته قال أبو ذر: فكنت أول من حياه بتحية السلام فقال: وعليك ورحمة الله" الحديث وفي لفظ قال: "وصلى ركعتين خلف المقام فأتيته فإني لأول الناس حياه بتحية الإسلام فقال: وعليك السلام. من أنت"؟ وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو بكر توجه بعد الطواف إلى منزله ودخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فدخل عليه أبو ذر وهو وحده، ويزيده ما أخرجه مسلم، وقد تقدم للبخاري أيضا في المبعث من وجه آخر عن أبي ذر في قصة إسلامه أنه قام يلتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه ويكره أن يسأل عنه فرآه علي فعرفه أنه غريب، فاستتبعه حتى دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. حديث أبي أيوب "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه" الحديث تقدم شرحه في كتاب الأدب مستوفى، وهو متعلق بالركن الأول من الترجمة.

(11/22)


10 - باب آيَةِ الْحِجَابِ
6238- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا حَيَاتَهُ وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ وَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَيْ يَخْرُجُوا فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ ظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَظَنَّ أَنْ قَدْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا فَأُنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا
6239- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ دَخَلَ الْقَوْمُ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنْ الْقَوْمِ وَقَعَدَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ

(11/22)


قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ حِينَ قَامَ وَخَرَجَ وَفِيهِ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا"
6240- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْجُبْ نِسَاءَكَ قَالَتْ فَلَمْ يَفْعَلْ وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجْنَ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ عَرَفْتُكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الْحِجَابِ"
قوله: "باب آية الحجاب" أي الآية التي نزلت في أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب من الرجال. حديث أنس من وجهين عنه. وتقدم شرحه مستوفي في سورة الأحزاب، قوله في أول الطريق "عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك أنه قال كان" قال الكرماني فيه التفات أو تجريد، و قوله: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرا حياته" أي بقية حياته إلى أن مات، و قوله: "وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب" أي بسبب نزوله، وإطلاق مثل ذلك جائز للإعلام لا للإعجاب. و قوله: "وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه" فيه إشارة إلى اختصاصه بمعرفته، لأن أبي بن كعب أكبر منه علما وسنا وقدرا. وقوله في آخره: "فأنزل الله تعالى: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية" كذا اتفق عليه الرواة عن معتمر بن سليمان وخالفهم عمرو بن علي الفلاس عن معتمر فقال: "فأنزلت: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أخرجه الإسماعيلي وأشار إلى شذوذه فقال: "جاء بآية غير الآية التي ذكرها الجماعة". وقوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي، و قوله: "قال أبي" بفتح الهمزة وكسر الموحدة مخففا والقائل هو معتمر، ووقع في الرواية المتقدمة في سورة الأحزاب "سمعت أبي". قوله: "حدثنا أبو مجلز عن أنس" قد تقدم في "باب الحمد للعاطس" لسليمان التيمي حديث عن أنس بلا واسطة، وقد سمع من أنس عدة أحاديث، وروى عن أصحابه عنه عدة أحاديث، وفيه دلالة على أنه لم يدلس. قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "فيه" أي في حديث أنس هذا. قوله: "من الفقه أنه لم يستأذنهم حين قام وخرج، وفيه أنه تهيأ للقيام وهو يريد أن يقوموا" ثبت هذا كله للمستملي وحده هنا وسقط للباقين، وهو أولى فإنه أفرد لذلك ترجمة كما سيأتي بعد اثنين وعشرين بابا. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "أخبرنا يعقوب بن إبراهيم" أي ابن سعد الزهري. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان وقد سمع إبراهيم بن سعد الكثير من ابن شهاب ربما أدخل بينه وبينه واسطة كهذا. قوله: "كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك" تقدم شرحه مستوفي في كتاب الطهارة، وقوله في آخره: "قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب" فأنزل الله عز وجل الحجاب، ويجمع بينه وبين حديث أنس في نزول الحجاب بسبب قصة زينب أن عمر حرص على ذلك حتى قال لسودة ما قال، فاتفقت القصة للذين قعدوا في البيت في زواج زينب فنزلت الآية، فكان كل من الأمرين سببا لنزولها، وقد تقدم تقرير ذلك بزيادة فيه في تفسير سورة الأحزاب، وقد سبق إلى الجمع بذلك القرطبي: فقال: يحمل على أن عمر تكرر منه هذا القول قبل الحجاب

(11/23)


وبعده، ويحتمل أن بعض الرواة ضم قصة إلى أخرى. قال والأول أولى فإن عمر قامت عنده أنفة من أن يطلع أحد على حرم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يحجبهن، فلما نزل الحجاب كان قصده أن لا يخرجن أصلا فكان في ذلك مشقة فأذن لهن أن يخرجن لحاجتهن التي لا بد منها. قال عياض: خص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بستر الوجه والكفين، واختلف في ندبه في حق غيرهن، قالوا: فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، قال: ولا يجوز إبراز أشخاصهن وإن كن مستترات إلا فيما دعت الضرورة إليه من الخروج إلى البراز، وقد كن إذا حدثن جلسن للناس من وراء الحجاب وإذا خرجن لحاجة حجبن وسترن انتهى. وفي دعوى وجوب حجب أشخاصهن مطلقا إلا في حاجة البراز نظر، فقد كن يسافرن للحج وغيره ومن ضرورة ذلك الطواف والسعي وفيه بروز أشخاصهن، بل وفي حالة الركوب والنزول لا بد من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره. "تنبيه": حكى ابن التين عن الداودي أن قصة سودة هذه لا تدخل في باب الحجاب وإنما هي في لباس الجلابيب، وتعقب بأن إرخاء الجلابيب هو الستر عن نظر الغير إليهن وهو من جملة الحجاب.

(11/24)


11 - باب الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ
6241- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَا هُنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ :"لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ".
6242- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ
[الحديث 6242- طرفاه في 6889، 6900]
قوله: "باب الاستئذان من أجل البصر" أي شرع من أجله، لأن المستأذن لو دخل بغير إذن لرأى بعض ما يكره من يدخل إليه أن يطلع عليه، وقد ورد التصريح بذلك فيما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث ثوبان رفعه: "لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن فإن فعل فقد دخل" أي صار في حكم الداخل، وللأولين من حديث أبي هريرة بسند حسن رفعه: "إذا دخل البصر فلا إذن" وأخرج البخاري أيضا عن عمر من قوله: "من ملأ عينه من قاع بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق". قوله: "سفيان" قال الزهري كانت عادة سفيان كثيرا حذف الصيغة فيقول فلان عن فلان، لا يقول حدثنا ولا أخبرنا ولا عن، وقوله: "حفظته كما أنك هاهنا" هو قول سفيان وليس في ذلك تصريح بأنه سمعه من الزهري، لكن قد أخرج مسلم والترمذي الحديث المذكور من طرق عن سفيان فقالوا "عن الزهري" ورواه الحميدي وابن أبي عمر في مسنديهما عن سفيان فقالا "حدثنا الزهري" أخرجه أبو نعيم من طريق الحميدي والإسماعيلي من طريق ابن أبي

(11/24)


عمر، وقوله: "كما أنك هاهنا" أي حفظته حفظا كالمحسوس لا شك فيه. قوله: "عن سهل" في رواية الحميدي "سمعت سهل بن سعد" ويأتي في الديات من رواية الليث عن الزهري أن سهلا أخبره، وقد تقدم بعض هذا في كتاب اللباس ووعدت بشرحه في الديات، وقوله في هذه الرواية: "من جحر في حجر" الأول بضم الجيم وسكون المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط، وأصلها مكامن الوحش، والثاني بضم المهملة وفتح الجيم جمع حجرة وهي ناحية البيت. ووقع في رواية الكشميهني: "حجرة" بالإفراد. وقوله: "مدري يحك به" في رواية الكشميهني: "بها" والمدري تذكر وتؤنث. وقوله: "لو أعلم أنك تنتظر" كذا للأكثر بوزن تفتعل، وللكشميهني: "تنظر". و قوله: "من أجل البصر" وقع فيه عند أبي داود بسبب آخر من حديث سعد، كذا عنده مبهم، وهو عند الطبراني عن سعد بن عبادة "جاء رجل فقام على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن مستقبل الباب، فقال له: هكذا عنك، فإنما الاستئذان من أجل النظر" وأخرج أبو داود بسند قوي من حديث ابن عباس "كان الناس ليس لبيوتهم ستور فأمرهم الله بالاستئذان، ثم جاء الله بالخير فلم أر أحدا يعمل بذلك" قال ابن عبد البر: أظنهم اكتفوا بقرع الباب. وله من حديث عبد الله بن بسر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، وذلك أن الدور لم يكن عليها ستور" وقوله في حديث أنس "بمشقص أو مشاقص" بشين معجمة وقاف وصاد مهملة وهو شك من الراوي هل قاله شيخه بالإفراد أو بالجمع، والمشقص بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض. و قوله: "يختل" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر المثناة أي يطعنه وهو غافل، وسيأتي حكم من أصيبت عينه أو غيرها بسبب ذلك في كتاب الديات وهو مخصوص بمن تعمد النظر، وأما من وقع ذلك منه عن غير قصد فلا حرج عليه، ففي صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك" وقال لعلي "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الثانية" واستدل بقوله: "من أجل البصر" على مشروعية القياس والعلل، فإنه دل على أن التحريم والتحليل يتعلق بأشياء متى وجدت في شيء وجب الحكم عليه، فمن أوجب الاستئذان بهذا الحديث وأعرض عن المعنى الذي لأجله شرع لم يعمل بمقتضى الحديث، واستدل به على أن المرء لا يحتاج في دخول منزله إلى الاستئذان لفقد العلة التي شرع لأجلها الاستئذان، نعم لو احتمل أن يتجدد فيه ما يحتاج معه إليه شرع له، ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم لئلا تكون منكشفة العورة، وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن نافع "كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن" ومن طريق علقمة "جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها" ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغر "سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره" ومن طريق موسى بن طلحة "دخلت مع أبي على أمي فدخل واتبعته فدفع في صدري وقال: تدخل بغير إذن "؟ ومن طريق عطاء "سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم. قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة "؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة. وذكر الأصوليون هذا الحديث مثالا للتنصيص على العلة التي هي أحد أركان القياس.

(11/25)


12 - باب زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ

(11/25)


6343- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ح حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ"
[الحديث 6243- طرفه في 6612]
قوله: "باب زنا الجوارح دون الفرج" أي أن الزنا لا يختص إطلاقه بالفرج، بل يطلق على ما دون الفرج من نظر وغيره. وفيه إشارة إلى حكمة النهي عن رؤية ما في البيت بغير استئذان لتظهر مناسبته الذي قبله. قوله: "عن ابن طاوس" هو عبد الله، وفي مسند الحميدي عن سفيان "حدثنا عبد الله بن طاوس" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "لم أر شيئا أشبه باللمم من قول أبي هريرة" هكذا اقتصر البخاري على هذا القدر من طريق سفيان ثم عطف عليه رواية معمر عن ابن طاوس فساقه مرفوعا بتمامه، وكذا صنع الإسماعيلي فأخرجه من طريق ابن أبي عمر عن سفيان ثم عطف عليه رواية معمر، وهذا يوهم أن سياقهما سواء، وليس كذلك فقد أخرجه أبو نعيم من رواية بشر بن موسى عن الحميدي ولفظه: "سئل ابن عباس عن اللمم فقال: لم أر شيئا أشبه به من قول أبي هريرة: كتب على ابن آدم حظه من الزنا" وساق الحديث موقوفا، فعرف من هذا أن رواية سفيان موقوفة ورواية معمر مرفوعة، ومحمود شيخه فيه هو ابن غيلان، وقد أفرده عنه في كتاب القدر وعلقه فيه لورقاء عن ابن طاوس فلم يذكر فيه ابن عباس بين طاوس وأبي هريرة، فكأن طاوسا سمعه من أبي هريرة بعد ذكر ابن عباس له ذلك، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي، ولذلك قال: "والفرج يصدق ذلك ويكذبه" قال ابن بطال: استدل أشهب بقوله: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" على أن القاذف إذا قال زنت يدك لا يحد، وخالفه ابن القاسم فقال يحد، وهو قول للشافعي وخالفه بعض أصحابه، واحتج للشافعي فيما ذكر الخطابي بأن الأفعال تضاف للأيدي لقوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وليس المراد في الآيتين جناية الأيدي فقط بل جميع الجنايات اتفاقا فكأنه إذا قال زنت يدك وصف ذاته بالزنا لأن الزنا لا يتبعض ا ه. وفي التعليل الأخير نظر، والمشهور عند الشافعية أنه ليس صريحا.

(11/26)


باب التسليم و الا ستئذان ثلاثا
...
13 - باب التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِئْذَانِ ثَلاَثًا
6244- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا"
6245- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي

(11/26)


سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ" فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا"
قوله: "باب التسليم والاستئذان ثلاثا" أي سواء اجتمعا أو انفردا، وحديث أنس شاهد للأول وحديث أبي موسى شاهد للثاني، وقد ورد في بعض طرقه الجمع بينهما، واختلف هل السلام شرط في الاستئذان أو لا؟ فقال المازري: صلاة الاستئذان أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ ثم هو بالخيار أن يسمي نفسه أو يقتصر على التسليم، كذا قال، وسيأتي ما يعكر عليه في "باب إذا قال من ذا؟ فقال: أنا". قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث وعبد الله بن المثنى أي ابن عبد الله ابن أنس تقدم القول فيه في "باب من أعاد الحديث ثلاثا" في كتاب العلم، وقدم هنا السلام على الكلام وهناك بالعكس، وتقدم شرحه، وقول الإسماعيلي: إن السلام إنما يشرع تكراره إذا اقترن بالاستئذان، والتعقب عليه، وأن السلام وحده قد يشرع تكراره إذا كان الجمع كثيرا ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب، وبهذا جزم النووي في معنى حديث أنس، وكذا لو سلم وظن أنه لم يسمع فتسن الإعادة فيعيد مرة ثانية وثالثة ولا يزيد على الثالثة. وقال ابن بطال: هذه الصيغة تقتضي العموم ولكن المراد الخصوص وهو غالب أحواله، كذا قال، وقد تقدم من كلام الكرماني مثله وفيه نظر، و "كان" بمجردها لا تقتضي مداومة ولا تكثيرا، لكن ذكر الفعل المضارع بعدها يشعر بالتكرار. واختلف فيمن سلم ثلاثا فظن أنه لم يسمع، فعن مالك له أن يزيد حتى يتحقق، وذهب الجمهور وبعض المالكية إلى أنه لا يزيد اتباعا لظاهر الخبر. وقال المازري: اختلفوا فيما إذا ظن أنه لم يسمع هل يزيد على الثلاث؟ فقيل: لا، وقيل: نعم. وقيل: إذا كان الاستئذان بلفظ السلام لم يزد وإن كان بغير لفظ السلام زاد. قوله: "حدثنا يزيد بن خصيفة" بخاء معجمة وصاد مهملة وفاء مصغر، ووقع لمسلم عن عمرو الناقد "حدثنا سفيان حدثني والله يزيد بن خصيفة" وشيخه بسر بضم الموحدة وسكون المهملة، وقد صرح بسماعه من أبي سعيد في الرواية الثانية المعلقة. قوله: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار" في رواية مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان بسنده هذا إلى أبي سعيد قال: "كنت جالسا بالمدينة" وفي رواية الحميدي عن سفيان "إني لفي حلقة فيها أبي بن كعب" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور" في رواية عمرو الناقد "فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا" وزاد: "قلنا ما شأنك؟ فقال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه". قوله: "فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت" في رواية مسلم: "فسلمت على بابه ثلاثا فلم يردوا علي فرجعت" وتقدم في البيوع من طريق عبيد بن عمير "أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب فلم

(11/27)


يؤذن له وكأنه كان مشغولا، فرجع أبو موسى، ففزع عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له. قيل إنه رجع" وفي رواية بكير بن الأشج عن بسر عند مسلم: "استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئت اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت، قال قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال استأذنت كما سمعت" وله من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد "أن أبا موسى أتى باب عمر فاستأذن، فقال عمر واحدة ثم استأذن فقال عمر ثنتان ثم استأذن فقال عمر ثلاث ثم انصرف فاتبعه فرده" وله من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة "جاء أبو موسى إلى عمر فقال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف. فقال: ردوه علي" وظاهر هذين السياقين التغاير، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال. وقد وقع في رواية لمالك في الموطأ "فأرسل في أثره" ويجمع بينهما بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه فأرسل إليه فلم يجده الرسول في ذلك الوقت وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني. قوله: "فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي" في رواية عبيد بن حنين عن أبي موسى عند البخاري في الأدب المفرد "فقال: يا عبد الله اشتد عليك أن تحتبس على بابي؟ أعلم أن الناس كذلك يشتد عليهم أن يحتبسوا على بابك، فقلت بل استأذنت إلخ" وفي هذه الزيادة دلالة على أن عمر أراد تأديبه لما بلغه أنه قد يحتبس على الناس في حال إمرته، وقد كان عمر استخلفه على الكوفة، مع ما كان عمر فيه من الشغل. قوله: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" وقع في رواية عبيد بن عمير "كنا نؤمر بذلك" وفي رواية عبيد بن حنين عن أبي موسى "فقال عمر ممن سمعت هذا؟ قلت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي نضرة "إن هذا شيء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال والله لتقيمن عليه بينة" زاد مسلم: "وإلا أوجعتك". وفي رواية بكير بن الأشج "فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا" وفي رواية عبيد بن عمير لتأتيني على ذلك بالبينة. وفي رواية أبي نضرة "وإلا جعلتك عظة". قوله: "أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبيد بن عمير "فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم" وفي رواية أبي نضرة فقال: "ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الاستئذان ثلاث؟ قال فجعلوا يضحكون، فقلت أتاكم أخوكم وقد أفزع فتضحكون. قوله: "فقال أبي" هو ابن كعب وهو في رواية مسلم كذلك. قوله: "لا يقوم معي إلا أصغر القوم" في رواية بكير بن الأشج "فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا، قم يا أبا سعيد". قوله: "فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك" في رواية مسلم: "فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت" وفي رواية أبي نضرة "فقال أبو سعيد: انطلق، وأنا شريكك في هذه العقوبة" وفي رواية بكير ابن الأشج "فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا" واتفق الرواة على أن الذي شهد لأبي موسى عند عمر أبو سعيد، إلا ما عند البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عبيد ابن حنين فإن فيه: "فقام معي أبو سعيد الخدري أو أبو مسعود إلى عمر" هكذا بالشك. وفي رواية لمسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة في هذه القصة "فقال عمر إن وجد بينه تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلن تجدوه، فلما أن جاء بالعشي وجده قال: يا أبا موسى ما تقول، أقد وجدت؟ قال: نعم أبي بن كعب، قال: عدل. قال: يا أبا الطفيل - وفي لفظ له يا أبا المنذر - ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك

(11/28)


يا ابن الخطاب، فلا تكون عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله، أنا سمعت شيئا فأحببت أن أثبت" هكذا وقع في هذه الطريق، وطلحة بن يحيى فيه ضعف، ورواية الأكثر أولى أن تكون محفوظة، ويمكن الجمع بأن أبي بن كعب جاء بعد أن شهد أبو سعيد. وفي رواية عبيد بن حنين التي أشرت إليها في "الأدب المفرد" زيادة مفيدة وهي أن أبا سعيد أو أبا مسعود قال لعمر "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يريد سعد بن عبادة حتى أتاه فسلم فلم يؤذن له ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ثم سلم الثالثة فلم يؤذن له فقال: قضينا ما علينا ثم رجع، فأذن له سعد" الحديث، فثبت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله. وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد ابن عبادة مطولة بمعناه، وأحمد من طريق ثابت عن أنس أو غيره كذا فيه، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد، واتفق الرواة على أن أبا سعيد حدث بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحكى قصة أبي موسى عنه إلا ما أخرجه مالك في الموطأ عن الثقة عن بكير بن الأشج عن بسر عن أبي سعيد عن أبي موسى بالحديث مختصرا دون القصة، وقد أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن بكير بطوله وصرح في روايته بسماع أبي سعيد له من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا وقع في رواية أخرى عنده "فقال أبو موسى إن كان سمع ذلك منكم أحد فليقم معي، فقالوا لأبي سعيد قم معه" وأغرب الداودي فقال: روى أبو سعيد حديث الاستئذان عن أبي موسى وهو يشهد له عند عمر فأدى إلى عمر ما قال أهل المجلس، وكأنه نسي أسماءهم بعد ذلك فحدث به عن أبي موسى وحده لكونه صاحب القصة. وتعقبه ابن التين بأنه مخالف لما في رواية الصحيح لأنه قال: "فأخبرت عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله". قلت: وليس ذلك صريحا في رد ما قال الداودي. وإنما المعتمد في التصريح بذلك رواية عمرو بن الحارث وهي من الوجه الذي أخرجه منه مالك، والتحقيق أن أبا سعيد حكى قصة أبي موسى عنه بعد وقوعها بدهر طويل، لأن الذين رووها عنه لم يدركوها، ومن جملة قصة أبي موسى الحديث المذكور، فكأن الراوي لما اختصرها واقتصر على المرفوع خرج منها أن أبا سعيد ذكر الحديث المذكور عن أبي موسى وغفل عما في آخرها من رواية أبي سعيد المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، وهذا من آفات الاختصار، فينبغي لمن اقتصر على بعض الحديث أن يتفقد مثل هذا وإلا وقع في الخطأ وهو كحذف ما للمتن به تعلق، وتختلف الدلالة بحذفه؛ وقد اشتد إنكار ابن عبد البر على من زعم أن هذا الحديث إنما رواه أبو سعيد عن أبي موسى وقال إن الذي وقع في الموطأ لهما هو من النقلة لاختلاط الحديث عليهم. وقال في موضع آخر: ليس المراد أن أبا سعيد روى هذا الحديث عن أبي موسى، وإنما المراد عن أبي سعيد أن قصة أبي موسى والله أعلم. وممن وافق أبا موسى على رواية الحديث المرفوع جندب بن عبد الله أخرجه الطبراني عنه بلفظ: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع". قوله: "وقال ابن المبارك" هو عبد الله، وابن عيينة هو سفيان المذكور في الإسناد الأول، وأراد بهذا التعليق بيان سماع بسر له من أبي سعيد، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الحسن بن سفيان حدثنا حبان ابن موسى حدثنا عبد الله بن المبارك، وكذا وقع التصريح به عند مسلم عن عمرو الناقد، وأخرجه الحميدي عن سفيان. حدثنا يزيد بن خصيفة سمعت بسر بن سعيد يقول حدثني أبو سعيد" وقد استشكل ابن العربي إنكار عمر على أبي موسى حديثه المذكور مع كونه وقع له مثل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ابن عباس الطويل في هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في المشربة، فإن فيه أن عمر استأذن مرة بعد مرة فلما لم يؤذن له في الثالثة رجع حتى جاءه الإذن

(11/29)


وذلك بين في سياق البخاري، قال: والجواب عن ذلك أنه لم يقض فيه بعلمه، أو لعله نسى ما كان وقع له. ويؤيده قوله: "شغلني الصفق بالأسواق". قلت: والصورة التي وقعت لعمر ليست مطابقة لما رواه أبو موسى، بل استأذن في كل مرة فلم يؤذن له فرجع فلما رجع في الثالثة استدعى فأذن له، ولفظ البخاري الذي أحال عليه ظاهر فيما قلته، وقد استوفيت طرقه عند شرح الحديث في أواخر النكاح، وليس فيه ما ادعاه. وتعلق بقصة عمر من زعم أنه كان لا يقبل خبر الواحد، ولا حجة فيه لأنه قبل خبر أبي سعيد المطابق لحديث أبي موسى ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد، واستدل به من ادعى أن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره كما في الشهادة، قال ابن بطال: وهو خطأ من قائله وجهل بمذهب عمر، فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى "أما إني لم أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلت: وهذه الزيادة في الموطأ عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أن أبا موسى...فذكر القصة وفي آخره: "فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية عبيد بن حنين التي أشرت إليها آنفا "فقال عمر لأبي موسى والله إن كنت لأمينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحببت أن أستثبت" ونحوه في رواية أبي بردة حين قال أبي بن كعب لعمر "لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحان الله، إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت" قال ابن بطال: فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره، وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها وأخذ الجزية من المجوس إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك. وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة طلبا للمخرج مما يدخل فيه، فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج. وادعى بعضهم أن عمر لم يعرف أبا موسى، قال ابن عبد البر: وهو قول خرج بغير رؤية من قائله ولا تدبر، فإن منزلة أبي موسى عند عمر مشهورة. وقال ابن العربي: اختلف في طلب عمر من أبي موسى البينة على عشرة أقوال فذكرها، وغالبها متداخل، ولا تزيد على ما قدمته. واستدل بالخبر المرفوع على أنه لا تجوز الزيادة في الاستئذان على الثلاث، قال ابن عبد البر: فذهب أكثر أهل العلم إلى ذلك وقال بعضهم: إذا لم يسمع فلا بأس أن يزيد. وروى سحنون عن ابن وهب عن مالك: لا أحب أن يزيد على الثلاث إلا من علم أنه لم يسمع. قلت: وهذا هو الأصح عند الشافعية. قال ابن عبد البر: وقيل تجوز الزيادة مطلقا بناء على أن الأمر بالرجوع بعد الثلاث للإباحة والتخفيف عن المستأذن، فمن استأذن أكثر فلا حرج عليه قال: الاستئذان أن يقول السلام عليكم أأدخل؟ كذا قال، ولا يتعين هذا اللفظ. وحكى ابن العربي إن كان بلفظ الاستئذان لا يعيد وإن كان بلفظ آخر أعاد، قال: والأصح لا يعيد، وقد تقدم ما حكاه المازري في ذلك. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي العالية قال: أتيت أبا سعيد فسلمت فلم يؤذن لي ثم سلمت فلم يؤذن لي فتنحيت ناحية فخرج علي غلام فقال: ادخل، فدخلت فقال لي أبو سعيد: أما إنك لو زدت -يعني على الثلاث- لم يؤذن لك. واختلف في حكمة الثلاث فروى ابن أبي شيبة من قول علي بن أبي طالب: الأولى إعلام، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة إما أن يؤذن له وإما أن يرد. قلت: ويؤخذ من صنيع أبي موسى حيث ذكر اسمه أولا وكنيته ثانيا ونسبته ثالثا أن الأولى هي الأصل والثانية إذا جوز أن يكون التبس على من استأذن عليه والثالثة إذا

(11/30)


غلب على ظنه أنه عرفه، قال ابن عبد البر: وذهب بعضهم إلى أن أصل الثلاث في الاستئذان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} قال: وهذا غير معروف في تفسيرها. وإنما أطبق الجمهور على أن المراد بالمرات الثلاث الأوقات. قلت: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حبان قال: "بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا طعاما، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا، إنه ليدخل على المرأة وزوجها غلامهما وهما في ثوب واحد بغير إذن، فنزلت" وأخرج أبو داود وابن أبي حاتم بسند قوي من حديث ابن عباس أنه سئل عن الاستئذان في العورات الثلاث فقال: إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده وهو على أهله فأمروا أن يستأذنوا في العورات الثلاث. ثم بسط الله الرزق فاتخذوا الستور والحجال فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم الله به مما أمروا به. ومن وجه آخر صحيح عن ابن عباس: لم يعمل بها أكثر الناس، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن علي. وفي الحديث أيضا أن لصاحب المنزل إذا سمع الاستئذان أن لا يأذن سواء سلم مرة أم مرتين أم ثلاثا إذا كان في شغل له ديني أو دنيوي يتعذر بترك الإذن معه للمستأذن. وفيه أن العالم المتبحر قد يخفى عليه من العلم ما يعلمه من هو دونه ولا يقدح ذلك في وصفه بالعلم والتبحر فيه. قال ابن بطال: وإذا جاز ذلك على عمر فما ظنك بمن هو دونه. وفيه أن لمن تحقق براءة الشخص مما يخشى منه وأنه لا يناله بسبب ذلك مكروه أن يمازحه ولو كان قبل إعلامه بما يطمئن به خاطره مما هو فيه، لكن بشرط أن لا يطول الفصل لئلا يكون سببا في إدامة تأذي المسلمين بالهم الذي وقع له كما وقع للأنصار مع أبي موسى، وأما إنكار أبي سعيد عليهم فإنه اختار الأولى وهو المبادرة إلى إزالة ما وقع فيه قبل التشاغل بالممازحة.

(11/31)


14 - باب إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ
قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هُوَ إِذْنُهُ"
6246- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ و حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا"
قوله: "باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن"؟ يعني أو يكتفي بقرينة الطلب. قوله: "وقال سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هو إذنه" كذا للأكثر ووقع للكشميهني: "وقال شعبة" والأول هو المحفوظ. وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" وأبو داود من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة وأخرجه البيهقي من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن ابن أبي عروبة، ولفظ البخاري "إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فهو إذنه" ولفظ أبي داود مثله وزاد: "إلى طعام" قال أبو داود لم يسمع قتادة من أبي رافع، كذا في اللؤلؤي عن أبي داود ولفظه في رواية أبي الحسن بن العبد يقال لم يسمع قتادة من أبي رافع شيئا. كذا قال، وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أبا

(11/31)


رافع حدثه، وللحديث مع ذلك متابع أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود قال: "إذا دعي الرجل فهو إذنه" وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا.
واعتمد المنذري على كلام أبي داود فقال: أخرجه البخاري تعليقا لأجل الانقطاع، كذا قال، ولو كان عنده منقطعا لعلقه بصيغة التمريض كما هو الأغلب من صنيعه، وهو غالبا يجزم إذا صح السند إلى من علق عنه كما قال في الزكاة "وقال طاوس قال معاذ" فذكر أثرا وطاوس لم يدرك معاذا. وكذا إذا كان فوق من علق عنه من ليس على شرطه كما قال في الطهارة "وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده" وحيث وقع فيما طواه من ليس على شرطه مرضه كما قال في النكاح "ويذكر عن معاوية بن حيدة"، فذكر حديثا، ومعاوية هو جد بهز بن حكيم، وقد أوضحت ذلك في المقدمة. ثم أورد المصنف طرفا من حديث مجاهد عن أبي هريرة قال: "دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح فقال: أبا هر، الحق أهل الصفة فادعهم إلي. قال: فأتيهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فدخلوا" أقتصر منه على هذا القدر لأنه الذي أحتاج إليه هنا، وساقه في الرقاق بتمامه كما سيأتي، وظاهره يعارض الحديث الأول ومن ثم لم يجزم بالحكم. وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين: إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن. وقال ابن التين: لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله، والثاني بخلافه. قال: والاستئذان على كل حال أحوط. وقال غيره: إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول, ويكفيه سلام الملاقاة، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان. وبهذا جمع الطحاوي، واحتج بقوله في الحديث الثاني "فأقبلوا فاستأذنوا" فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم وإلا لقال فأقبلنا، كذا قال.

(11/32)


15 - باب التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبْيَانِ
6247- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ"
قوله: "باب التسليم على الصبيان" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر وكأنه ترجم بذلك للرد على من قال لا يشرع لأن الرد فرض وليس الصبي من أهل الفرض. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أشعث قال: كان الحسن لا يرى التسليم على الصبيان، وعن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولا يسمعهم. قوله: "عن سيار" بفتح المهملة وتشديد التحتانية هو أبو الحكم مشهور باسمه وكنيته معا فيجيء غالبا هكذا عن سيار أبي الحكم، وهو عنزي بفتح المهملة والنون بعدها زاي واسطي من طبقة الأعمش، وتقدمت وفاته على وفاة شيخه ثابت البناني بسنة وقيل أكثر، وليس له في الصحيحين عن ثابت إلا هذا الحديث. وقال البزار: لم يسند سيار عن ثابت غيره. قلت: ورواية شعبة عنه من رواية الأقران، وقد حدث شعبة عن ثابت نفسه بعدة أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه فأدخل بينهما واسطة. وقد روى شعبة أيضا عن آخر اسمه سيار وهو ابن سلامة أبو المنهال وليس هو المراد هنا، ولم نقف له على رواية عن ثابت. وأخرج النسائي حديث الباب من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت

(11/32)


بأتم من سياقه ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار فيسلم على صبيانهما ويمسح على رءوسهم ويدعو لهم" وهو مشعر بوقوع ذلك منه غير مرة، بخلاف سياق الباب حيث قال: "مر على صبيان فسلم عليهم" فإنها تدل على أنها واقعة حال، ولم أقف على أسماء الصبيان المذكورين، وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت بلفظ: "غلمان" بدل صبيان، ووقع لابن السني وأبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من طريق عثمان بن مطر عن ثابت بلفظ: "فقال السلام عليكم يا صبيان" وعثمان واه. ولأبي داود من طريق حميد عن أنس "انتهى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا، فأرسلني برسالة" الحديث، وسيأتي في "باب حفظ السر" وللبخاري في "الأدب المفرد" نحوه من هذا الوجه ولفظه: "ونحن صبيان فسلم علينا، وأرسلني في حاجة، وجلس في الطريق ينتظرني حتى رجعت" قال ابن بطال: في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة. وفيه طرح الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع ولين الجانب. قال أبو سعيد المتولي في "التتمة" من سلم على صبي لم يجب عليه الرد لأن الصبي ليس من أهل الفرض، وينبغي لوليه أن يأمره بالرد ليتمرن على ذلك، ولو سلم على جمع فيهم صبي فرد الصبي دونهم لم يسقط عنهم الفرض، وكذا قال شيخه القاضي حسين، ورده المستظهري. وقال النووي: الأصح لا يجزئ، ولو ابتدأ الصبي بالسلام وجب على البالغ الرد على الصحيح. قلت: ويستثنى من السلام على الصبي ما لو كان وضيئا وخشي من السلام عليه الافتتان فلا يشرع ولا سيما إن كان مراهقا منفردا.

(11/33)


باب تسليم الرجال على النساء , و النساء على الرجال
...
16 - باب تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ
6248- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ "كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قُلْتُ وَلِمَ قَالَ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
6249- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ قَالَتْ قُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَرَى مَا لاَ نَرَى تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَقَالَ يُونُسُ وَالنُّعْمَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ "وَبَرَكَاتُهُ"
قوله: "باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال" أشار بهذه الترجمة إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال. وهو مقطوع أو معضل. والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة. وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما. وورد فيه حديث ليس على شرطه، وهو حديث أسماء بنت يزيد "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا" حسنه الترمذي وليس على شرط البخاري فاكتفى بما هو على شرطه. وله شاهد من حديث جابر عند أحمد. وقال الحليمي: كان

(11/33)


النبي صلى الله عليه وسلم للعصمة مأمونا من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم وإلا فالصمت أسلم. وأخرج أبو نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث واثلة مرفوعا: "يسلم الرجال على النساء ولا تسلم النساء على الرجال" وسنده واه ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفا عليه وسنده جيد، وثبت في مسلم حديث أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه". قوله: "ابن أبي حازم" هو عبد العزيز، واسم أبي حازم سلمة بن دينار. قوله: "كنا نفرح يوم الجمعة" في رواية الكشميهني بيوم بزيادة موحدة في أوله، وتقدم في الجمعة من وجه آخر عن أبي حازم بلفظ: "كنا نتمنى يوم الجمعة" وذكر سبب الحديث ثم قال في آخره: "كنا نفرح بذلك". قوله: "قلت لسهل ولم"؟ بكسر اللام للاستفهام، والقائل هو أبو حازم راوي الحديث والمجيب هو سهل. قوله: "كانت لنا عجوز" في الجمعة "امرأة" ولم أقف على اسمها. قوله: "ترسل إلى بضاعة" بضم الموحدة على المشهور وحكى كسرها وبتخفيف المعجمة وبالعين المهملة وذكره بعضهم بالصاد المهملة. قوله: "قال ابن مسلمة نخل بالمدينة" القائل هو عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري فيه وهو القعنبي، وفسر بضاعة بأنها نخل بالمدينة، والمراد بالنخل البستان، ولذلك كان يؤتي منها بالسلق، وقد تقدم في كتاب الجمعة أنه كانت مزرعة للمرأة المذكورة، وفسرها غيره بأنها دور بني ساعدة، وبها بئر مشهورة وبها مال من أموال المدينة، كذا قال عياض ومراده بالمال البستان وقال الإسماعيلي: في هذا الحديث بيان أن بئر بضاعة بئر بستان، فيدل على أن قول أبي سعيد في حديثه يعني الذي أخرجه أصحاب السنن أنها كانت تطرح فيها خرق الحيض وغيرها أنها كانت تطرح في البستان فيجريها المطر ونحوه إلى البئر. قلت: وذكر أبو داود "السنن" أنه رأى بئر بضاعة وزرعها ورأى ماءها وبسط ذلك في كتاب الطهارة من سننه، وادعى الطحاوي أنها كانت سيحا وروى ذلك عن الواقدي، وليس هذا موضع استيعاب ذلك. قوله: "في قدر" في رواية الكشميهني في القدر "وتكركر" أي تطحن كما تقدم في الجمعة، قال الخطابي: الكركرة الطحن والجش. وأصله الكر، وضوعف لتكرار عود الرحى في الطحن مرة أخرى، وقد تكون الكركرة بمعنى الصوت كالجرجرة، والكركرة أيضا شدة الصوت للضحك حتى يفحش وهو فوق القرقرة. قوله: "حبات من شعير" بين في الرواية التي في الجمعة أنها قبضة، وقد تقدمت بقية شرحه هناك. قوله: "ابن مقاتل" هو محمد وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام" تقدم شرحه في المناقب، وحكى ابن التين أن الداودي اعترض فقال: لا يقال للملائكة رجال، ولكن الله ذكرهم بالتذكير. والجواب أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على صورة الرجل، كما تقدم في بدء الوحي وقال ابن بطال عن المهلب: سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سدا للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقا. وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، قالوا ويستثنى المحرم فيجوز لها السلام على محرمها. قال المهلب: وحجة مالك حديث سهل في الباب، فإن الرجال الذين كانوا يزورونها وتطعمهم لم يكونوا من محارمها انتهى. وقال المتولي: إن كان للرجل زوجة أو محرم أو أمة فكالرجل مع الرجل، وإن كانت أجنبية نظر: إن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يشرع السلام لا ابتداء ولا جوابا، فلو ابتدأ أحدهما كره للآخر الرد، وإن كانت عجوزا لا يفتتن بها جاز. وحاصل الفرق بين هذا وبين المالكية التفصيل في الشابة بين الجمال وعدمه، فإن الجمال مظنة الافتتان,

(11/34)


بخلاف مطلق الشابة. فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة. قوله: "تابعه شعيب. وقال يونس والنعمان عن الزهري: وبركاته" أما متابعة شعيب فوصلها المؤلف في الرقاق، وأما زيادة يونس وهو ابن يزيد فتقدم في الحديث بتمامه موصولا في كتاب المناقب، وأما متابعة النعمان وهو ابن رشد فوصلها الطبراني في الكبير، ووقعت لنا بعلو في "جزء هلال الحفار" قال الإسماعيلي: قد أخرجنا فيه من حديث ابن المبارك "وبركاته" وكان ساقه من طريق أبي إبراهيم البناني ومن طريق حبان بن موسى كلاهما عن ابن المبارك وكذا قال عقيل وعبيد الله بن أبي زياد عن الزهري.

(11/35)


17 - باب إِذَا قَالَ مَنْ ذَا فَقَالَ أَنَا
6250- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ "قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ ذَا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ أَنَا أَنَا كَأَنَّهُ كَرِهَهَا"
قوله: "باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، وكأنه لم يجزم بالحكم لأن الخبر ليس صريحا في الكراهة. قوله: "عن محمد بن المنكدر" في رواية الإسماعيلي: "عن أحمد بن محمد بن منصور وغيره عن علي بن الجعد شيخ البخاري فيه عن شعبة أخبرني محمد بن المنكدر عن جابر". قوله: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي" تقدم بيانه في كتاب البيوع من وجه آخر مطولا. قوله: "فدققت" بقافين للأكثر، وللمستملي والسرخسي "فدفعت" بفاء وعين مهملة. وفي رواية الإسماعيلي: "فضربت الباب" وهي تؤيد رواية فدققت بالقافين، وله من وجه آخر وهي عند مسلم: "استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم" ولمسلم في أخرى "دعوت النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقلت: أنا. فقال: أنا أنا. كأنه كرهها" وفي رواية لمسلم: "فخرج وهو يقول أنا أنا" وفي أخرى "كأنه كره ذلك" ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة "كره ذلك" بالجزم. قال المهلب: إنما كره قول أنا لأنه ليس فيه بيان إلا أن كان المستأذن ممن يعرف المستأذن عليه صوته ولا يلتبس بغيره، والغالب الالتباس. وقيل إنما كره ذلك لأن جابرا لم يستأذن بلفظ السلام، وفيه نظر لأنه ليس في سياق حديث جابر أنه طلب الدخول، وإنما جاء في حاجته فدق الباب ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئه، فلذلك خرج له. وقال الداودي إنما كرهه لأنه أجابه بغير ما سأله عنه، لأنه لما ضرب الباب عرف أن ثم ضاربا، فلما قال أنا كأنه أعلمه أن ثم ضاربا فلم يزده على ما عرف من ضرب الباب، قال: وكان هذا قبل نزول آية الاستئذان. قلت: وفيه نظر لأنه لا تنافي بين القصة وبين ما دلت عليه الآية، ولعله رأى أن الاستئذان ينوب عن ضرب الباب وفيه نظر لأن الداخل قد يكون لا يسمع الصوت بمجرده فيحتاج إلى ضرب الباب ليبلغه صوت الدق فيقرب أو يخرج فيستأذن عليه حينئذ، وكلامه الأول سبقه إليه الخطابي فقال: قوله: "أنا" لا يتضمن الجواب ولا يفيد العلم بما استعمله وكان حق الجواب أن يقول أنا جابر ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه. وقد أخرج المصنف في "الأدب المفرد" وصححه الحاكم من حديث بريدة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ. قال فجئت فقال: من هذا؟ قلت: أنا بريدة" وتقدم حديث أم هانئ "جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أنا أم هانئ" الحديث في صلاة الضحى، قال

(11/35)


النووي: إذا لم يقع التعريف إلا بأن يكني المرء نفسه لم يكره ذلك، وكذا لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان أو القارئ فلان أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا بذلك.وذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول "أنا" أن فيها نوعا من الكبر، كأن قائلها يقول أنا الذي لا أحتاج أذكر اسمي ولا نسبي.
وتعقبه مغلطاي بأن هذا لا يتأتى في حق جابر في مثل هذا المقام. وأجيب بأنه ولو كان كذلك فلا يمنع من تعليمه ذلك لئلا يستمر عليه ويعتاده والله أعلم. قال ابن العربي: في حديث جابر مشروعية دق الباب، ولم يقع في الحديث بيان هل كان بآلة أو بغير آلة. قلت: وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس "أن أبواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير" وأخرجه الحاكم في "علوم الحديث" من حديث المغيرة بن شعبة، وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حسن لمن قرب محله من بابه، أما من بعد عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه.وذكر السهيلي أن السبب في قرعهم بابه بالأظافير أن بابه لم يكن فيه حلق فلأجل ذلك فعلوه، والذي يظهر أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك توقيرا وإجلالا وأدبا.

(11/36)


باب من رد فقال : عليك السلام . وقالت عائشة : وعلية السلام وحمة الله وبركاته.....
...
18 - باب مَنْ رَدَّ فَقَالَ عَلَيْكَ السَّلاَمُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَدَّ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى آدَمَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" .
6251- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ :" إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الأَخِيرِ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا" .
6252- حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا"
قوله: "باب من رد فقال: عليك السلام" يحتمل أن يكون أشار إلى من قال: لا يقدم على لفظ السلام شيء، بل يقول في الابتداء والرد: السلام عليك، أو من قال لا يقتصر على الإفراد بل يأتي بصيغة الجمع، أو من قال لا يحذف الواو بل يجيب بواو العطف فيقول: "وعليك السلام"، أو من قال يكفي في الجواب أن يقتصر على "عليك" بغير لفظ السلام، أو من قال لا يقتصر على "عليك السلام" بل يزيد "ورحمة الله". وهذه خمسة

(11/36)


مواضع جاءت فيها آثار تدل عليها، فأما الأول فيؤخذ من الحديث الماضي "أن السلام اسم الله" فينبغي أن لا يقدم على اسم الله شيء، نبه عليه ابن دقيق العيد، ونقل عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال: "عليك السلام" لم يجزئ. وذكر النووي عن المتولي أن من قال في الابتداء "وعليكم السلام" لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، وتعقبه بالرد فإنه يشرع بتقديم لفظ عليكم، قال النووي فلو أسقط الواو فقال عليكم السلام قال الواحدي فهو سلام، ويستحق الجواب، وإن كان قلب اللفظ المعتاد. هكذا جعل النووي الخلاف في إسقاط الواو وإثباتها، والمتبادر أن الخلاف في تقديم عليكم على السلام كما يشعر به كلام الواحدي. قال النووي: ويحتمل وجهين كالوجهين في التحلل بلفظ عليكم السلام، والأصح الحصول. ثم ذكر حديث أبي جري وقد تقدم الكلام عليه في الباب الأول، وأما الثاني فأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق معاوية بن قرة قال: قال لي أبي قرة بن إياس المزني الصحابي: إذا مر بك الرجل فقال السلام عليكم، فلا تقل وعليك السلام فتخصه وحده، فإنه ليس وحده. وسنده صحيح. ومن فروع هذه المسألة لو وقع الابتداء بصيغة الجمع فإنه لا يكفي الرد بصيغة الإفراد، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم فلا يكون امتثل الرد بالمثل فضلا عن الأحسن، نبه عليه ابن دقيق العيد. وأما الثالث فقال النووي: اتفق أصحابنا أن المجيب لو قال: "عليك" بغير واو لم يجزئ، وإن قال بالواو فوجهان. وأما الرابع فأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان إذا سلم عليه يقول: "وعليك ورحمة الله" وقد ورد مثل ذلك في أحاديث مرفوعة سأذكرها في "باب كيف الرد على أهل الذمة". وأما الخامس فتقدم الكلام عليه في الباب الأول. قوله: "وقالت عائشة: وعليه السلام ووحمة الله وبركاته" هذا طرف من حديث تقدم ذكره قريبا في "باب تسليم الرجال والنساء" وفيه بيان من زاد فيه: "وبركاته". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: رد الملائكة على آدم السلام عليك ورحمة الله" هذا طرف من الحديث الآخر الذي تقدم في أول كتاب الاستئذان، وجزم المصنف بهذا اللفظ مما يقوي رواية الأكثر بخلاف رواية الكشميهني. قوله: "عبيد الله" هو ابن عمر بن حفص العمري. قوله: "عن أبي هريرة" قد قال فيه بعض الرواة "عن أبيه عن أبي هريرة" وهي رواية يحيى القطان المذكورة في آخر الباب، وبينت في كتاب الصلاة أي الروايتين أرجح. قوله: "أن رجلا دخل المسجد" الحديث في قصة المسيء صلاته، والغرض منه قوله فيه: "ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: وعليك السلام، ارجع" وتقدم في الصلاة بلفظ: "فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أخرى "فقال وعليك" وسقط ذلك أصلا من الرواية الآتية في الأيمان والنذور، وقد تقدم ما فيه مع بقية شرحه مستوفى في "باب أمر الذي لا يتم ركوعه بالإعادة" من كتاب الصلاة. قوله: "وقال أبو أسامة في الأخير: حتى تستوي قائما" وصل المصنف رواية أبي أسامة هذه في كتاب الأيمان والنذور كما سيأتي، وقد بينت في صفة الصلاة النكتة في اقتصار البخاري على هذه اللفظة من هذا الحديث. وحاصله أنه وقع هنا في الأخير "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" فأراد البخاري أن يبين أن راويها خولف فذكر رواية أبي أسامة مشيرا إلى ترجيحها. وأجاب الداودي عن أصل الإشكال بأن الجالس قد يسمى قائما لقوله تعالى: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً}. وتعقبه ابن التين بأن التعليم إنما وقع لبيان ركعة واحدة والذي يليها هو القيام، يعني فيكون قوله حتى تستوي قائما هو المعتمد، وفيه نظر لأن الداودي عرف ذلك وجعل القيام محمولا على الجلوس واستدل بالآية، والإشكال إنما وقع في قوله في الرواية الأخرى "حتى تطمئن جالسا"

(11/37)


وجلسة الاستراحة على تقدير أن تكون مرادة لا تشرع الطمأنينة فيها، فلذلك احتاج الداودي إلى تأويله، لكن الشاهد الذي أتى به عكس المراد، والمحتاج إليه هنا أن يأتي بشاهد يدل على أن القيام قد يسمى جلوسا، وفي الجملة المعتمد للترجيح كما أشار إليه البخاري وصرح به البيهقي، وجوز بعضهم أن يكون المراد به التشهد والله أعلم. قوله في الطريق الأخيرة "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث، وساقه في كتاب الصلاة بتمامه.

(11/38)


19 - باب إِذَا قَالَ فُلاَنٌ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ
6253- حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا قال سمعت عامرا يقول حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن "أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ثم إن جبريل يقرئك السلام قالت وعليه السلام ورحمة الله"
قوله: "باب إذا قال فلان يقرئك السلام" في رواية الكشميهني: "يقرأ عليك السلام" وهو لفظ حديث الباب وقد تقدم شرحه في مناقب عائشة؛ وتقدم شرح هذه اللفظة وهي "اقرأ السلام" في كتاب الإيمان، قال النووي: في هذا الحديث مشروعية إرسال السلام، ويجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة، وتعقب بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة وإلا فوديعة والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء. قال: وفيه إذا أتاه شخص بسلام من شخص أو في ورقة وجب الرد على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ كما أخرج النسائي عن رجل من بني تميم أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سلام أبيه، فقال له "وعليك وعلى أبيك السلام" وقد تقدم في المناقب أن خديجة لما بلغها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل سلام الله عليها قالت: "إن الله هو السلام ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام" ولم أر في شيء من طرق حديث عائشة أنها ردت على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه غير واجب، وقد ورد بلفظ الترجمة حديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم من حديث أنس "أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله إني أريد الجهاد، فقال ائت فلانا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: ادفع إلي ما تجهزت به".

(11/38)


20 - باب التَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
6254- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال أخبرني أسامة بن زيد ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج وذلك قبل وقعة بدر حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي كلاهما بردائه ثم قال لا تغبروا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن

(11/38)


21 - باب مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَلَمْ يَرُدَّ سَلاَمَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِي؟ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ
6255- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِنَا وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً وَآذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ"
قوله: "باب من لم يسلم على من اقترف ذنبا، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي"؟ أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع. قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي، وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال الله رقيب عليكم. وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة كما تقدم في الباب قبله. وقال ابن وهب يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافرا، واحتج بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وتعقب بأن الدليل أعم من الدعوى. وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، وحكى ابن رشد قال قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء. قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم. وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضا فقيل: يستبرأ حاله سنة وقيل ستة أشهر وقيل خمسين يوما كما في قصة كعب، وقيل ليس لذلك حد محدود بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مدعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني. وقد اعترض الداودي على من حده بخمسين ليلة أخذا من قصة كعب فقال: لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخر كلامهم إلى أن أذن الله فيه؛ يعني فتكون واقعة.

(11/40)


حال لا عموم فيها. وقال النووي: وأما المبتدع ومن اقترف ذنبا عظيما ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك انتهى. والتقييد بمن لم يتب جيد لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكنا، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم والإقلاع وأمارة صدق ذلك. قوله: "اقترف" أي اكتسب وهو تفسير الأكثر. وقال أبو عبيدة الاقتراف التهمة. قوله: "وقال عبد الله بن عمرو: لا تسلموا على شربة الخمر" بفتح الشين المعجمة والراء بعدها موحدة جمع شارب، قال ابن التين: لم يجمعه اللغويون كذلك وإنما قالوا شارب وشرب مثل صاحب وصحب انتهى. وقد قالوا فسقة وكذبة في جمع فاسق وكاذب، وهذا الأثر وصله البخاري في "الأدب المفرد" من طريق حبان بن أبي جبلة بفتح الجيم والموحدة عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: "لا تسلموا على شراب الخمر" وبه إليه قال: "لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا" وأخرج الطبري عن علي موقوفا نحوه، وفي بعض النسخ من الصحيح "وقال عبد الله بن عمر" بضم العين وكذا ذكره الإسماعيلي. وأخرج سعيد بن منصور بسند ضعيف عن ابن عمر "لا تسلموا على من شرب الخمر ولا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا" وأخرجه ابن عدي بسند أضعف منه عن ابن عمر مرفوعا. قوله: "حدثنا ابن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير، وذكر قطعا يسيرة من حديث كعب بن مالك في قصة توبته في غزوة تبوك، وقد ساقه في المغازي بطوله عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد. وقوله: "وآتى" هو بمد الهمزة فعل مضارع من الإتيان، وبين قوله: "عن كلامنا" وبين هذه الجملة كلام كثير آخره: "فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد" وفي الحديث أيضا قصته مع أبي قتادة وتسوره عليه الحائط وامتناع أبي قتادة من رد السلام عليه ومن جوابه له عما سأله عنه. واقتصر البخاري على القدر الذي ذكره لحاجته إليه هنا، وفيه ما ترجم به من ترك السلام تأديبا وترك الرد أيضا، وهو مما يخص به عموم الأمر بإفشاء السلام عند الجمهور، وعكس ذلك أبو أمامة فأخرج الطبري بسند جيد عنه أنه كان لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له، فقال: إنا أمرنا بإفشاء السلام، وكأنه لم يطلع على دليل الخصوص. واستثنى ابن مسعود ما إذا احتاج لذلك المسلم لضرورة دينية أو دنيوية كقضاء حق المرافقة، فأخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال: "كنت ردفا لابن مسعود، فصحبنا دهقان، فلما انشعبت له الطريق أخذ فيها، فأتبعه عبد الله بصره فقال: السلام عليكم. فقلت: ألست تكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم ولكن حق الصحبة. وبه قال الطبري حمل عليه سلام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مجلس فيه أخلاط من المسلمين والكفار، وقد تقدم الجواب عنه في الباب الذي قبله.

(11/41)


باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام ؟
...
22 - باب كَيْفَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ السَّلاَمُ
6356- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ

(11/41)


مَا قَالُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ "
6257- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْ وَعَلَيْكَ "
[الحديث 6257- طرفه في: 6928]
6258- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ"
[الحديث 6258- طرفه في: 6926]
قوله: "باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام"؟ في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا منع من رد السلام على أهل الذمة فلذلك ترجم بالكيفية، ويؤيده قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فإنه يدل على أن الرد يكون وفق الابتداء إن لم يكن أحسن منه كما تقدم تقريره، ودل الحديث على التفرقة في الرد على المسلم والكافر، قال ابن بطال: قال قوم رد السلام على أهل الذمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس أنه قال: "من سلم عليك فرد عليه ولو كان مجوسيا" وبه قال الشعبي وقتادة، ومنع من ذلك مالك والجمهور. وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين فلا يرد السلام على الكافر مطلقا، فإن أراد منع الرد بالسلام وإلا فأحاديث الباب ترد عليه. قوله: "أن عائشة قالت" كذا قال صالح بن كيسان مثله كما تقدم في الأدب. وقال سفيان عن الزهري عن عروة "عن عائشة قالت" وسيأتي في استتابة المرتدين. قوله: "دخل رهط من اليهود" لم أعرف أسماءهم، لكن أخرج الطبراني بسند ضعيف عن زيد بن أرقم قال: "بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من اليهود يقال له ثعلبة بن الحارث فقال: السام عليك يا محمد. فقال: وعليكم. فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أحد الرهط المذكورين، وكان هو الذي باشر الكلام عنهم كما جرت العادة من نسبة القول إلى جماعة والمباشر له واحد منهم، لأن اجتماعهم ورضاهم به في قوة من شاركه في النطق. قوله: "فقالوا السام عليك" كذا في الأصول بألف ساكنة، وسيأتي في الكلام على الحديث الثاني أنه جاء بالهمز، وقد تقدم تفسير السوم بالموت في كتاب الطب، وقيل هو الموت العاجل. قوله: "ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة" في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة كما تقدم في أوائل الأدب "فقالت عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم" ولمسلم من طريق أخرى عنها "بل عليكم السام والذام" بالذال المعجمة وهو لغة في الذم ضد المدح يقال ذم بالتشديد وذام بالتخفيف وذيم بتحتانية ساكنة. وقال عياض: لم يختلف الرواة أن الذام في هذا الحديث بالمعجمة، ولو روى بالمهملة من الدوام لكان له وجه ولكن كان يحتاج لحذف الواو ليصير صفة للسام، وقد حكى ابن الأعرابي الدام لغة في الدائم، قال ابن بطال: فسر أبو عبيد السام بالموت وذكر الخطابي أن قتادة تأوله على خلاف ذلك، ففي رواية عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان قتادة يقول تفسير السام عليكم تسامون دينكم وهو -يعني السام- مصدر سئمه سآمة وسآما مثل رضعه رضاعة ورضاعا. قال ابن بطال: ووجدت هذا الذي فسره قتادة مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه بقي بن مخلد في تفسيره من

(11/42)


طريق سعيد عن قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس مع أصحابه إذ أتى يهودي فسلم عليه فردوا عليه فقال: هل تدرون ما قال؟ سلم يا رسول الله، قال: قال سام عليكم" أي تسامون دينكم. قلت: يحتمل أن يكون قوله أي تسامون دينكم تفسير قتادة كما بينته رواية عبد الوارث التي ذكرها الخطابي، وقد أخرج البزار وابن حبان في صحيحه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس "مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسلم عليهم فرد عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدرون ما قال؟ قالوا نعم سلم علينا. قال فإنه قال السام عليكم" أي تسامون دينكم، ردوه علي، فردوه فقال كيف قلت قال السام عليكم. فقال إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليكم ما قلتم" لفظ البزار وفي رواية ابن حبان: "أن يهوديا سلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون" والباقي نحوه ولم يذكر قوله: "ردوه إلخ" وقال في آخره: "فإذا سلم عليكم رجل من أهل الكتاب فقولوا وعليك". قوله: "واللعنة" يحتمل أن تكون عائشة فهمت كلامهم بفطنتها فأنكرت عليهم وظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنهم تلفظوا بلفظ السلام فبالغت في الإنكار عليهم، ويحتمل أن يكون سبق لها سماع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديثي ابن عمر وأنس في الباب، وإنما أطلقت عليهم اللعنة إما لأنها كانت ترى جواز لعن الكافر المعين باعتبار الحالة الراهنة لا سيما إذا صدر منه ما يقتضي التأديب، وإما لأنها تقدم لها علم بأن المذكورين يموتون على الكفر فأطلقت اللعن ولم تقيده بالموت، والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب، وقد تقدم في أوائل الأدب في "باب الرفق" ما يتعلق بذلك، وسيأتي الكلام على جواز لعن المشرك المعين الحي في "باب الدعاء على المشركين" من كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله: "مهلا يا عائشة" تقدم بشرحه في "باب الرفق" من كتاب الأدب. قوله: "فقد قلت عليكم" وكذا في رواية معمر وشعيب عن الزهري عند مسلم بحذف الواو، وعنده في رواية سفيان، وعند النسائي من رواية أخرى عن الزهري بإثبات الواو. قال المهلب: في هذا الحديث جواز انخداع الكبير للمكايد ومعارضته من حيث لا يشعر إذا رجي رجوعه. قلت: في تقييده بذلك نظر، لأن اليهود حينئذ كانوا أهل عهد، فالذي يظهر أن ذلك كان لمصلحة التآلف. قوله: "عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر" يأتي في استتابة المرتدين من وجه آخر بلفظ: "حدثني عبد الله ابن دينار سمعت ابن عمر". قوله: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك، فقل: وعليك" هكذا هو في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه في "الأدب المفرد" عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، والذي عند جميع رواة الموطأ بلفظ: "فقل عليك" ليس فيه الواو، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن بكير، ومن طريق عبد الله بن نافع كلاهما عن مالك بإثبات الواو، وفيه نظر فإنه في الموطأ عن يحيى بن بكير بغير واو، ومقتضى كلام ابن عبد البر أن رواية عبد الله بن نافع بغير واو لأنه قال: لم يدخل من رواة الموطأ عن مالك الواو. قلت: لكن وقع عند الدار قطني في "الموطآت" من طريق روح بن عبادة عن مالك بلفظ: "فقل وعليكم" بالواو وبصيغة الجمع، قال الدار قطني: القول الأول أصح يعني عن مالك. قلت: أخرجه الإسماعيلي من طريق روح ومعن وقتيبة ثلاثتهم عن مالك بغير واو وبالإفراد كرواية الجماعة، وأخرجه البخاري في استتابة المرتدين من طريق يحيى القطان عن مالك والثوري جميعا عن عبد الله بن دينار بلفظ: "قل عليك" بغير واو، لكن وقع في رواية السرخسي وحده "فقل عليكم" بصيغة الجمع بغير واو أيضا، وأخرجه مسلم والنسائي من

(11/43)


طريق عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري وحده بلفظ: "فقولوا وعليكم" بإثبات الواو بصيغة الجمع، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار بغير واو، وفي نسخة صحيحة من مسلم بإثبات الواو، وأخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن ابن دينار بلفظ: "إذا سلم عليكم اليهودي والنصراني فإنما يقول السام عليكم فقل: عليكم" بغير واو وبصيغة الجمع. وأخرجه أبو داود من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار مثل ابن مهدي عن الثوري. وقال بعده وكذا رواه مالك والثوري عن عبد الله بن دينار قال فيه: "وعليكم" قال المنذري في الحاشية: حديث مالك أخرجه البخاري وحديث الثوري أخرجه البخاري ومسلم وهذا يدل على أن رواية مالك عندهما بالواو، فأما أبو داود فلعله حمل رواية مالك على رواية الثوري أو اعتمد رواية روح بن عبادة عن مالك، وأما المنذري فتجوز في عزوه للبخاري لأنه عنده بصيغة الإفراد، ولحديث ابن عمر هذا سبب أذكره في الذي بعده. الحديث أورده من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس حدثنا أنس بن مالك يعني جده بلفظ: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" كذا رواه مختصرا، ورواه قتادة عن أنس أتم منه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق شعبة عنه بلفظ: "إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال قولوا: وعليكم" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق همام عن قتادة بلفظ: "مر يهودي فقال السام عليكم، فرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال قال السام عليكم، فأخذ اليهودي فاعترف فقال: ردوا عليه" وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق شيبان نحو رواية همام وقال في آخره: "ردوه. فردوه، فقال: أقلت: السام عليكم؟ قال: نعم، فقال عند ذلك: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" وتقدم في الكلام على حديث عائشة من وجه آخر عن قتادة بزيادة فيه، وسيأتي في استتابة المرتدين من طريق هشام بن زيد بن أنس "سمعت أنس بن مالك يقول: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك. ثم قال: أتدرون ماذا يقول؟ قال: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا نقتله، قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وفي رواية الطيالسي أن القائل ألا نقتله عمر. والجمع بين هذه الروايات أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأتمها سياقا رواية هشام بن زيد هذه، وكأن بعض الصحابة لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود تقول ذلك سألوا حينئذ عن كيفية الرد عليهم كما رواه شعبة عن قتادة، ولم يقع هذا السؤال في رواية هشام بن زيد، ولم تختلف الرواة عن أنس في لفظ الجواب وهو "وعليكم" بالواو وبصيغة الجمع. قال أبو داود في السنن وكذا رواية عائشة وأبي عبد الرحمن الجهني وأبي بصرة. قال المنذري: أما حديث عائشة فمتفق عليه. قلت: هو أول أحاديث الباب قال: وأما حديث أبي عبد الرحمن فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أبي بصرة فأخرجه النسائي. قلت: ما حديث واحد اختلف فيه على يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير، فقال عبد الحميد بن جعفر: عن أبي بصرة، أخرجه النسائي والطحاوي. وقال ابن إسحاق: عن أبي عبد الرحمن، أخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي أيضا. وقد قال بعض أصحاب ابن إسحاق عنه مثل ما قال عبد الحميد أخرجه الطحاوي، والمحفوظ قول الجماعة، ولفظ النسائي: "فإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم" وقد اختلف العلماء في إثبات الواو وإسقاطها في الرد على أهل الكتاب لاختلافهم في أي الروايتين أرجح. فذكر ابن عبد البر عن ابن حبيب لا يقولها بالواو لأن فيها تشريكا، وبسط ذلك أن الواو في مثل هذا التركيب يقتضي تقرير الجملة الأولى

(11/44)


وزيادة الثانية عليها كمن قال زيد كاتب فقلت وشاعر فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد، قال وخالفه جمهور المالكية. وقال بعض شيوخهم: يقول عليكم السلام بكسر السين يعني الحجارة، ووهاه ابن عبد البر بأنه لم يشرع لنا سب أهل الذمة. ويؤيد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة لما سبتهم. وذكر ابن عبد البر عن ابن طاوس قال: يقول علاكم السلام، بالألف أي ارتفع. وتعقبه. وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم "عليكم السلام" كما يرد على المسلم، واحتج بعضهم بقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} وحكاه الماوردي وجها عن بعض الشافعية لكن لا يقول ورحمة الله، وقيل يجوز مطلقا، وعن ابن عباس وعلقمة يجوز ذلك عند الضرورة، وعن الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا. وعن طائفة من العلماء: لا يرد عليهم السلام أصلا. وعن بعضهم التفرقة بين أهل الذمة وأهل الحرب. والراجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث ولكنه مختص بأهل الكتاب. وقد أخرج أحمد بسند جيد عن حميد بن زادويه وهو غير حميد الطويل في الأصح عن أنس "أمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على: وعليكم" ونقل ابن بطال عن الخطابي نحو ما قال ابن حبيب فقال، رواية من روى عليكم بغير واو أحسن من الرواية بالواو لأن معناه رددت ما قلتموه عليكم، وبالواو يصير المعنى علي وعليكم لأن الواو حرف التشريك انتهى. وكأنه نقله من "معالم السنن للخطابي" فإنه قال فيه هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه بحذفها يصير قولهم بعينه مردودا عليهم، وبالواو يقع الاشتراك والدخول فيما قالوه انتهى. وقد رجع الخطابي عن ذلك فقال في الإعلام من شرح البخاري لما تكلم على حديث عائشة المذكور في كتاب الأدب من طريق ابن أبي مليكة عنها نحو حديث الباب وزاد في آخره: "أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في" قال الخطابي ما ملخصه: إن الداعي إذا دعا بشيء ظلما فإن الله لا يستجيب له ولا يجد دعاؤه محلا في المدعو عليه انتهى. وله شاهد من حديث جابر قال: "سلم ناس من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم. قال وعليكم. قالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى قد رددت عليهم فنجاب عليهم ولا يجابون فينا" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد" من طريق ابن جريج أخبرني أنه سمع جابرا. وقد غفل عن هذه المراجعة من عائشة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لها من أنكر الرواية بالواو، وقد تجاسر بعض من أدركناه فقال في الكلام على حديث أنس في هذا الباب: الرواية الصحيحة عن مالك بغير واو، وكذا رواه ابن عيينة وهي أصوب من التي بالواو، لأنه بحذفها يرجع الكلام عليهم وبإثباتها يقع الاشتراك انتهى. وما أفهمه من تضعيف الرواية بالواو وتخطئتها من حيث المعنى مردود عليه بما تقدم. وقال النووي: الصواب أن حذف الواو وإثباتها ثابتان جائزان وبإثباتها أجود ولا مفسدة فيه وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما أنهم قالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم. وقال البيضاوي: في العطف شيء مقدر، والتقدير وأقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون، وليس هو عطفا على "عليكم" في كلامهم. وقال القرطبي: قيل الواو للاستئناف وقيل زائدة، وأولى الأجوبة أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا. وحكى ابن دقيق العيد عن ابن رشد تفصيلا يجمع الروايتين إثبات الواو وحذفها فقال: من تحقق أنه قال السام أو السلام بكسر السين فليرد عليه بحذف الواو

(11/45)


ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو. فيجتمع من مجموع كلام العلماء في ذلك ستة أقوال. وقال النووي تبعا لعياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو ومن فسرها بالسآمة فإسقاطها هو الوجه. قلت: بل الرواية بإثبات الواو ثابتة وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة. واستدل بقوله: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب" بأنه لا يشرع للمسلم ابتداء الكافر بالسلام حكاه الباجي عن عبد الوهاب، قال الباجي: لأنه بين حكم الرد ولم يذكر حكم الابتداء، كذا قال، ونقل ابن العربي عن مالك: لو ابتدأ شخصا بالسلام وهو يظنه مسلما فبان كافرا كان ابن عمر يسترد منه سلامه. وقال مالك: لا. قال ابن العربي: لأن الاسترداد حينئذ لا فائدة له لأنه لم يحصل له منه شيء لكونه قصد السلام على المسلم. وقال غيره له فائدة وهو إعلام الكافر بأنه ليس أهلا للابتداء بالسلام. قلت: ويتأكد إذا كان هناك من يخشى إنكاره لذلك أو اقتداؤه به إذا كان الذي سلم ممن يقتدي به. واستدل به على أن هذا الرد خاص بالكفار فلا يجزئ في الرد على المسلم، وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ وإلا فلا. وقال ابن دقيق العيد التحقيق أنه كاف في حصول معنى السلام لا في امتثال الأمر في قوله :{فحيوا بأحسن منها أو ردوها} وكأنه أراد الذي بغير واو، وأما الذي بالواو فقد ورد في عدة أحاديث: منها في الطبراني عن ابن عباس "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلام عليكم فقال وعليك ورحمة الله" وله في الأوسط عن سلمان "أتى رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك". قلت: لكن لما اشتهرت هذه الصيغة للرد على غير المسلم ينبغي ترك جواب المسلم بها وإن كانت مجزئة في أصل الرد، والله أعلم.

(11/46)


23 - باب مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ
6259- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ حَدَّثَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَكُلُّنَا فَارِسٌ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَأَنَخْنَا بِهَا فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا قَالَ صَاحِبَايَ مَا نَرَى كِتَابًا قَالَ قُلْتُ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لاَجَرِّدَنَّكِ قَالَ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ قَالَ فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ مَا بِي إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا غَيَّرْتُ وَلاَ بَدَّلْتُ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ قَالَ صَدَقَ فَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا قَالَ فَقَالَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ فَقَالَ يَا عُمَرُ

(11/46)


وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"
قوله: "باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره" كأنه يشير إلى أن الأثر الوارد في النهي عن النظر في كتاب الغير يخص منه ما يتعين طريقا إلى دفع مفسدة هي أكثر من مفسدة النظر، والأثر المذكور أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ: "من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار" وسنده ضعيف. حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الممتحنة. ويوسف بن بهلول شيخه فيه بضم الموحدة وسكون الهاء شيخ كوفي أصله من الأنبار، ولم يرو عنه من الستة إلا البخاري، وما له في الصحيح إلا هذا الحديث، وقد أورده من طرق أخرى في المغازي والتفسير، منها في المغازي عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الله بن إدريس بالسند المذكور هنا، وبقية رجال الإسناد كلهم كوفيون أيضا. قال ابن التين: معنى بهلول الضحاك وسمى به ولا يفتح أوله لأنه ليس في الكلام فعلول بالفتح. وقال المهلب: في حديث على هتك ستر الذنب، وكشف المرأة العاصية، وما روي أنه لا يجوز النظر في كتاب أحد إلا بإذنه إنما هو في حق من لم يكن متهما على المسلمين، وأما من كان متهما فلا حرمة له. وفيه أنه يجوز النظر إلى عورة المرأة للضرورة التي لا يجد بدا من النظر إليها. وقال ابن التين: قول عمر دعني أضرب عنقه مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا له إلا خيرا يحمل على أنه لم يسمع ذلك أو كان قوله قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ويحتمل أن يكون عمر لشدته في أمر الله حمل النهي على ظاهره من منع القول السيئ له ولم ير ذلك مانعا من إقامة ما وجب عليه من العقوبة للذنب الذي ارتكبه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه صادق في اعتذاره، وأن الله عفا عنه.

(11/47)


24 - باب كَيْفَ يُكْتَبُ الْكِتَابُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ
6260- حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة "أن ابن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في نفر من قريش وكانوا تجارا بالشام فأتوه فذكر الحديث قال ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد.."
قوله: "باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب" ذكر فيه طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وهو واضح فيما ترجم له. قال ابن بطال: فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه. قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قلت: في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيد مثل ما في الخبر: السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك. وقد تقدم نقل الخلاف في ذلك في أوائل كتاب الاستئذان.

(11/47)


25 - باب بِمَنْ يُبْدَأُ فِي الْكِتَابِ
6261- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَجَرَ خَشَبَةً فَجَعَلَ الْمَالَ فِي جَوْفِهَا وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً مِنْ فُلاَنٍ إِلَى فُلاَنٍ"
قوله: "باب بمن يبدأ في الكتاب" أي بنفسه أو بالمكتوب إليه؟ ذكر فيه طرفا من حديث الرجل من بني إسرائيل الذي اقترض ألف دينار، وكأنه لما لم يجد فيه حديثا على شرطه مرفوعا اقتصر على هذا، وهو على قاعدته في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذا وردت حكايته في شرعنا ولم ينكر، ولا سيما إذا سيق مساق المدح لفاعله، والحجة فيه كون الذي عليه الدين كتب في الصحيفة من فلان إلى فلان وكان يمكنه أن يحتج بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل المشار إليه قريبا لكن قد يكون تركه لأن بداءة الكبير بنفسه إلى الصغير والعظيم إلى الحقير هو الأصل، وإنما يقع التردد فيما هو بالعكس أو المساوي. وقد أورد في "الأدب المفرد" من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن كبراء آل زيد بن ثابت هذه الرسالة لعبد الله معاوية أمير المؤمنين لزيد بن ثابت سلام عليك "وأورد عن ابن عمر نحو ذلك، وعند أبي داود من طريق ابن سيرين عن أبي العلاء بن الحضرمي عن العلاء أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب "قرأت كتابا من العلاء بن الحضرمي إلى محمد رسول الله وعن نافع كان ابن عمر يأمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا بأنفسهم. وعن نافع كان عمال عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. قال المهلب: السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه. وعن معمر عن أيوب أنه كان ربما بدأ باسم الرجل قبله إذا كتب إليه. وسئل مالك عنه فقال: لا بأس به وقال. هو كما لو أوسع له في المجلس. فقيل له إن أهل العراق يقولون لا تبدأ بأحد قبلك ولو كان أباك أو أمك أو أكبر منك، فعاب ذلك عليهم. قلت: والمنقول عن ابن عمر كان في أغلب أحواله، وإلا فقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن نافع كانت لابن عمر حاجة إلى معاوية فأراد أن يبدأ بنفسه فلم يزالوا به حتى كتب، بسم الله الرحمن الرحيم إلى معاوية. وفي رواية زيادة أما بعد، بعد البسملة وأخرج فيه أيضا من رواية عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك يبايعه "بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر سلام عليك إلخ" وقد ذكر في كتاب الاعتصام طرفا منه، ويأتي التنبيه عليه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال الليث" تقدم في الكفالة بيان من وصله. قوله: "أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل أخذ خشبة" كذا أورده مختصرا، وأورده في الكفالة وغيرها مطولا قوله: "وقال عمر بن أبي سلمة" أي ابن عبد الرحمن بن عوف" وعمر هذا مدني قدم واسط، وهو صدوق فيه ضعف، وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عمر" فذكر مثل اللفظ المعلق هنا. وقد رويناه في الجزء الثالث من "حديث أبي طاهر المخلص" مطولا فقال: "حدثنا البغوي حدثنا أحمد بن منصور

(11/48)


حدثنا موسى" وقد ذكرت فوائده عند شرحه من كتاب الكفالة. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الكشميهني: "سمع أبا هريرة" وكذا للنسفي والأصيلي وكريمة. قوله: "نجر" كذا للأكثر بالجيم وللكشميهني بالقاف، قال ابن التين: قيل في قصة صاحب الخشبة إثبات كرامات الأولياء، وجمهور الأشعرية على إثباتها، وأنكرها الإمام أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية والشيخان أبو محمد بن أبي زيد وأبو الحسن القابسي من المالكية. قلت: أما الشيرازي فلا يحفظ عنه ذلك. وإنما نقل ذلك عن أبي إسحاق الإسفرايني، وأما الآخران فإنما أنكرا ما وقع معجزة مستقلة لنبي من الأنبياء كإيجاد ولد عن غير والد والإسراء إلى السماوات السبع بالجسد في اليقظة، وقد صرح إمام الصوفية أبو القاسم القشيري في رسالته بذلك، وبسط هذا يليق بموضع آخر، وعسى أن يتيسر ذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(11/49)


26 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ
6262- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَقَالَ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ خَيْرِكُمْ فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِلَى حُكْمِكَ"
قوله: "عن سعد بن إبراهيم عن أبي أمامة بن سهل" تقدم بيان الاختلاف في ذلك في غزوة بني قريظة من كتاب المغازي مع شرح الحديث، ومما لم يذكر هناك أن الدار قطني حكى في "العلل" أن أبا معاوية رواه عن عياض بن عبد الرحمن عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده، والمحفوظ عن سعد عن أبي أمامة عن أبي سعيد. قوله: "على حكم سعد" هو ابن معاذ كما وقع التصريح به فيما تقدم. قوله في آخره "قال أبو عبد الله" هو البخاري "أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد" يعني شيخه في هذا الحديث بسنده هذا "من قول أبي سعيد إلى حكمك" يعني من أول الحديث إلى قوله فيه: "على حكمك" وصاحب البخاري في هذا الحديث يحتمل أن يكون محمد بن سعد كاتب الواقدي فإنه أخرجه في الطبقات عن أبي الوليد بهذا السند، أو ابن الضريس فقد أخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق محمد بن أيوب الرازي عن أبي الوليد، وشرحه الكرماني على وجه آخر فقال، قوله: "إلى حكمك" أي قال البخاري سمعت أنا من أبي الوليد بلفظ: "على حكمك" وبعض أصحابي نقلوا لي عنه بلفظ: "إلى" بصيغة الانتهاء بدل حرف الاستعلاء. كذا قال، قال ابن بطال، في هذا الحديث أمر الإمام الأعظم بإكرام الكبير من المسلمين، ومشروعية إكرام أهل الفضل في مجلس الإمام الأعظم والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافة بالقيام إلى الكبير منهم. وقد منع من ذلك قوم واحتجوا بحديث أبي أمامة قال: "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض"

(11/49)


وأجاب عنه الطبري بأنه حديث ضعيف مضطرب السند فيه من لا يعرف، واحتجوا أيضا بحديث عبد الله بن بريدة أن أباه دخل على معاوية فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما وجبت له النار" وأجاب عنه الطبري بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك، لا نهي من يقوم له إكراما له. وأجاب عنه ابن قتيبة بأن معناه من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدي ملوك الأعاجم، وليس المراد به نهي الرجل عن القيام لأخيه إذا سلم عليه. واحتج ابن بطال للجواز بما أخرجه النسائي من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت رحب بها ثم قام فقبلها ثم أخذ بيدها حتى يجلسها في مكانه. قلت: وحديث عائشة هذا أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان والحاكم وأصله في الصحيح كما مضى في المناقب وفي الوفاة النبوية لكن ليس فيه ذكر القيام. وترجم له أبو داود "باب القيام" وأورد معه فيه حديث أبي سعيد، وكذا صنع البخاري في "الأدب المفرد" وزاد معهما حديث كعب بن مالك في قصة توبته وفيه: "فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول" وقد أشار إليه في الباب الذي يليه، وحديث أبي أمامة المبدأ به أخرجه أبو داود وابن ماجه، وحديث ابن بريدة أخرجه الحاكم من رواية حسين المعلم عن عبد الله ابن بريدة عن معاوية فذكره وفيه: "ما من رجل يكون على الناس فيقوم على رأسه الرجال يحب أن يكثر عنده الخصوم فيدخل الجنة" وله طريق أخرى عن معاوية أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والمصنف في "الأدب المفرد" من طريق أبي مجلز قال: "خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" هذا لفظ أبي داود؛ وأخرجه أحمد من رواية حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز وأحمد عن إسماعيل بن علية عن حبيب مثله وقال: "العباد" بدل "الرجال" ومن رواية شعبة عن حبيب مثله وزاد فيه: "ولم يقم ابن الزبير وكان أرزنهما، قال: فقال مه" فذكر الحديث وقال فيه: "من أحب أن يتمثل له عباد الله قياما" وأخرجه أيضا عن مروان بن معاوية عن حبيب بلفظ: "خرج معاوية فقاموا له" وباقيه كلفظ حماد. وأما الترمذي فإنه أخرجه من رواية سفيان الثوري عن حبيب، ولفظه: "خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال اجلسا" فذكر مثل لفظ حماد، وسفيان وإن كان من رجال الحفظ إلا أن العدد الكثير وفيهم مثل شعبة أولى بأن تكون روايتهم محفوظة من الواحد، وقد اتفقوا على أن ابن الزبير لم يقم، وأما إبدال ابن عامر بابن صفوان فسهل لاحتمال الجمع بأن يكونا معا وقع لهما ذلك، ويؤيده الإتيان فيه بصيغة الجمع وفي رواية مروان بن معاوية المذكور، وقد أشار البخاري في "الأدب المفرد" إلى الجمع المنقول عن ابن قتيبة فترجم أولا "باب قيام الرجل لأخيه" وأورد الأحاديث الثلاثة التي أشرت إليها، ثم ترجم "باب قيام الرجل للرجل القاعد" و "باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس" وأورد فيهما، حديث جابر "اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال" إن كدتم لتفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، وترجم البخاري أيضا قيام الرجل للرجل تعظيما، وأورد فيه حديث معاوية من طريق أبي مجلز، ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه، فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه

(11/50)


وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا فعل الجبابرة وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. وقال الخطابي في حديث الباب: "جواز إطلاق السيد" على الخير الفاضل، وفيه أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات. ومعنى حديث: "من أحب أن يقام له" أي بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة، ورجح المنذري ما تقدم من الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس، وقد رد ابن القيم في "حاشية السنن" على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما، ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل، قال: والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه. قلت: وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أنس قال: "إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود" ثم حكى المنذري قول الطبري، وأنه قصر النهي على من سره القيام له لما في ذلك من محبة التعاظم ورؤية منزلة نفسه، وسيأتي ترجيح النووي لهذا القول، ثم نقل المنذري عن بعض من منع ذلك مطلقا أنه رد الحجة بقصة سعد بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالقيام لسعد لينزلوه عن الحمار لكونه كان مريضا، قال: وفي ذلك نظر. قلت: كأنه لم يقف على مستند هذا القائل، وقد وقع في مسند عائشة عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا وفيه: "قال أبو سعيد فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه" وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب القيام ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا، وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله بن الحاج فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار، فإن الأصل في أفعال القرب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو صلى الله عليه وسلم أول من فعله وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات، ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها فلذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين مع أن المراد بعض الأنصار لا كلهم وهم الأوس منهم لأن سعد بن معاذ كان سيدهم دون الخزرج، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة فليس هو المتنازع فيه، بل لأنه غائب قدم والقيام للغائب إذا قدم مشروع قال: ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة من تحكيمه والرضا بما يحكم به، والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضا. ثم نقل عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه: الأول محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه، والثاني مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. والثالث جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له

(11/51)


نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها. وقال التوربشتي في "شرح المصابيح" معنى قوله: "قوموا إلى سيدكم" أي إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم. وتعقبه الطيبي بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتل به من الفرق بين إلى واللام ضعيف لأن إلى في هذا المقام أفخم من اللام كأنه قيل قوموا وامشوا إليه تلقيا وإكراما، وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية، فإن قوله سيدكم علة للقيام له، وذلك لكونه شريفا علي القدر. وقال البيهقي: القيام على وجه البر والإكرام جائز كقيام الأنصار لسعد وطلحة لكعب، ولا ينبغي لمن يقام له أن يعتقد استحقاقه لذلك حتى إن ترك القيام له حنق عليه أو عاتبه أو شكاه قال أبو عبد الله وضابط ذلك أن كل أمر ندب الشرع المكلف بالمشي إليه فتأخر حتى قدم المأمور لأجله فالقيام إليه يكون عوضا عن المشي الذي فات، واحتج النووي أيضا بقيام طلحة لكعب بن مالك. وأجاب ابن الحاج بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته ولذلك لم يحتج به البخاري للقيام، وإنما أورده في المصافحة، ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به، فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضر، وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف. والتفاوت في المودة يقع بسبب التفاوت في الحقوق وهو أمر معهود. قلت: ويحتمل أن يكون من كان لكعب عنده من المودة مثل ما عند طلحة لم يطلع على وقوع الرضا عن كعب واطلع عليه طلحة، لأن ذلك عقب منع الناس من كلامه مطلقا، وفي قول كعب "لم يقم إلي من المهاجرين غيره: "إشارة إلى أنه قام إليه غيره من الأنصار ثم قال ابن الحاج: وإذا حمل فعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون من حضر من المهاجرين قد ترك المندوب، ولا يظن بهم ذلك. واحتج النووي بحديث عائشة المتقدم في حق فاطمة. وأجاب عنه ابن الحاج باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه إكراما لها لا على وجه القيام المنازع فيه، ولا سيما ما عرف من ضيق بيوتهم وقلة الفرش فيها، فكانت إرادة إجلاسه لها في موضعه مستلزمة لقيامه. وأمعن في بسط ذلك. واحتج النووي أيضا بما أخرجه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فجلس عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام فأجلسه بين يديه. واعترضه ابن الحاج بأن هذا القيام لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ، وإنما قام للأخ إما لأن يوسع له في الرداء أو في المجلس. واحتج النووي أيضا بما أخرجه مالك في قصة عكرمة بن أبي جهل أنه لما فر إلى اليمن يوم الفتح ورحلت امرأته إليه حتى أعادته إلى مكة مسلما فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء، وبقيام النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم جعفر من الحبشة فقال: ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر، وبحديث عائشة "قدم زيد بن حارثة المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فقرع الباب فقام إليه فأعتنقه وقبله" وأجاب ابن الحاج بأنها ليست من محل النزاع كما تقدم. واحتج أيضا بما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل". وأجاب ابن الحاج بأن قيامهم كان لضرورة الفراغ ليتوجهوا إلى أشغالهم، ولأن بيته كان بابه في المسجد والمسجد لم يكن واسعا إذ ذاك فلا يتأتى أن يستووا قياما إلا وهو قد دخل. كذا قال. والذي يظهر لي في الجواب أن يقال: لعل سبب تأخيرهم حتى يدخل لما يحتمل عندهم من أمر يحدث له حتى لا يحتاج إذا تفرقوا أن يتكلف استدعاءهم. ثم

(11/52)


راجعت سنن أبي داود فوجدت في آخر الحديث ما يؤيد ما قلته، وهو قصة الأعرابي الذي جبذ رداءه صلى الله عليه وسلم فدعا رجلا فأمره أن يحمل له على بعيره تمرا وشعيرا، وفي آخره: "ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا رحمكم الله تعالى" ثم احتج النووي بعمومات تنزيل الناس منازلهم وإكرام ذي الشيبة وتوقير الكبير. واعترضه ابن الحاج بما حاصله أن القيام على سبيل الإكرام داخل في العمومات المذكورة، لكن محل النزاع قد ثبت النهي عنه فيخص من العمومات. واستدل النووي أيضا بقيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف واعترضه ابن الحاج بأنه كان بسبب الذب عنه في تلك الحالة من أذى من يقرب منه من المشركين، فليس هو من محل النزاع. ثم ذكر النووي حديث معاوية وحديث أبي أمامة المتقدمين، وقدم قبل ذلك ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك" قال الترمذي حسن صحيح غريب، وترجم له "باب كراهية قيام الرجل للرجل" وترجم لحديث معاوية "باب كراهية القيام للناس" قال النووي: وحديث أنس أقرب ما يحتج به، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أنه خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه فكره قيامهم له لهذا المعنى كما قال: "لا تطروني" ولم يكره قيام بعضهم لبعض، فإنه قد قام لبعضهم وقاموا لغيره بحضرته فلم ينكر عليهم بل أقره وأمر به. ثانيهما أنه كان بينه وبين أصحابه من الأنس وكمال الود والصفاء ما لا يحتمل زيادة بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، وإن فرض للإنسان صاحب بهذه الحالة لم يحتج إلى القيام. واعترض ابن الحاج بأنه لا يتم الجواب الأول إلا لو سلم أن الصحابة لم يكونوا يقومون لأحد أصلا، فإذا خصوه بالقيام له دخل في الإطراء، لكنه قرر أنهم يفعلون ذلك لغيره فكيف يسوغ لهم أن يفعلوا مع غيره ما لا يؤمن معه الإطراء ويتركوه في حقه؟ فإن كان فعلهم ذلك للإكرام فهو أولى بالإكرام لأن المنصوص على الأمر بتوقيره فوق غيره، فالظاهر أن قيامهم لغيره إنما كان لضرورة قدوم أو تهنئة أو نحو ذلك من الأسباب المتقدمة لا على صورة محل النزاع، وأن كراهته لذلك إنما هي في صورة محل النزاع أو للمعنى المذموم في حديث معاوية. قال: والجواب عن الثاني أنه لو عكس فقال: إن كان الصاحب لم تتأكد صحبته له ولا عرف قدره فهو معذور بترك القيام بخلاف من تأكدت صحبته له وعظمت منزلته منه وعرف مقداره لكان متجها فإنه يتأكد في حقه مزيد البر والإكرام والتوقير أكثر من غيره، قال: ويلزم على قوله أن من كان أحق به وأقرب منه منزلة كان أقل توقيرا له ممن بعد لأجل الأنس وكمال الود، والواقع في صحيح الأخبار خلاف ذلك كما وقع في قصة السهو وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وقد كلمه ذو اليدين مع بعد منزلته منه بالنسبة إلى أبي بكر وعمر، قال: ويلزم على هذا أن خواص العالم والكبير والرئيس لا يعظمونه ولا يوقرونه لا بالقيام ولا بغيره؛ بخلاف من بعد منه، وهذا خلاف ما عليه عمل السلف والخلف انتهى كلامه. وقال النووي في الجواب عن حديث معاوية: إن الأصح والأولى، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه، أن معناه زجر المكلف أن يجب قيام الناس له. قال: وليس فيه تعرض للقيام بمنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. قال: والمنهي عنه محبة القيام، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم سواء قاموا أو لم يقوموا. قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام. فإن قيل: فالقيام سبب للوقوع في المنهي عنه، قلنا: هذا فاسد، لأنا قدمنا أن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة خاصة انتهى ملخصا. ولا يخفى ما فيه. واعترضه ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك

(11/53)


من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام الموقع للذي يقام له في المحذور، فصوب فعل من امتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك، وكذا قال ابن القيم في حواشي السنن: في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته، لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له. ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره كأهل الدين والخير والعلم. أو يجوز كالمستورين، وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم أو يكره كمن لا يتصف بالعدالة وله جاه، فلولا اعتياد القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يحرم إكرامه أو يكره، بل جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر. وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المجذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس، وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به. قلت: ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم. وقد قال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره. وهذا تفصيل حسن. قال ابن التين: قوله في هذه الرواية: "حكمت فيهم بحكم الملك" ضبطناه في رواية القابسي بفتح اللام أي جبريل فيما أخبر به عن الله. وفي رواية الأصيلي بكسر اللام أي بحكم الله أي صادفت حكم الله.

(11/54)


27 - باب الْمُصَافَحَةِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي
6263-حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ "عَنْ قَتَادَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَعَمْ"
6264- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"
قوله: "باب المصافحة" هي مفاعلة من الصفحة والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد، وقد أخرج الترمذي بسند ضعيف من حديث أبي أمامة رفعه: "تمام تحيتكم بينكم المصافحة" وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" وأبو داود بسند صحيح من طريق حميد عن أنس رفعه: "قد أقبل أهل اليمن وهم أول من حيانا بالمصافحة" وفي "جامع ابن وهب" من هذا الوجه "وكانوا أول من أظهر المصافحة". قوله: "وقال ابن مسعود: علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفى بين كفيه" سقط هذا التعليق من رواية أبي ذر وحده وثبت للباقين، وسيأتي موصولا في الباب الذي بعده. قوله: "وقال كعب بن مالك دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى طلحة بن عبيد الله

(11/54)


يهرول حتى صافحني وهنأني" هو طرف من قصة كعب بن مالك الطويل في غزوة تبوك في قصة توبته، وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله، وجاء ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر كما سيأتي في أثناء "باب المعانقة". قوله: "عن قتادة قلت لأنس بن مالك: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" زاد الإسماعيلي في روايته عن همام "قال قتادة وكان الحسن يعني البصري يصافح" وجاء من وجه آخر عن أنس "قيل يا رسول الله الرجل يلقي أخاه أينحني له؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم" أخرجه الترمذي وقال حسن. قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته. وقال النووي: المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي. وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن البراء رفعه: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا" وزاد فيه ابن السني "وتكاشرا بود ونصيحة" وفي رواية لأبي داود، وحمدا الله واستغفراه، وأخرجه أبو بكر الروياني في مسنده من وجه آخر عن البراء "لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحني، فقلت: يا رسول الله كنت أحسب أن هذا من زي العجم، فقال: نحن أحق بالمصافحة" فذكر نحو سياق الخبر الأول. وفي مرسل عطاء الخراساني في الموطأ "تصافحوا يذهب الغل" ولم نقف علنه موصولا، واقتصر ابن عبد البر على شواهده من حديث البراء وغيره، قال النووي: وأما تخصيص المصافحة بما بعد صلاتي الصبح والعصر فقد مثل ابن عبد السلام في "القواعد" البدعة المباحة منها. قال النووي: وأصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السنة. قلت: للنظر فيه مجال، فإن أصل صلاة النافلة سنة مرغب فيها، ومع ذلك فقد كره المحققون تخصيص وقت بها دون وقت، ومنهم من أطلق تحريم مثل ذلك كصلاة الرغائب التي لا أصل لها، ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن. قوله: "أخبرني حيوة" بفتح المهملة والواو بينهما تحتانية ساكنة وآخرها هاء تأنيث هو ابن شريح المصري. قوله: "سمع جده عبد الله بن هشام" أي ابن زهرة بن عثمان من بني تميم بن مرة. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب" كذا اختصره، وكذا أورده في مناقب عمر بن الخطاب، وساقه بتمامه في الأيمان والنذور، وسيأتي البحث فيه هناك. وأغفل المزي ذكره هنا. ولم يقع في رواية النسفي أيضا. وذكره الإسماعيلي هنا من رواية رشدين بن سعد وابن لهيعة جميعا عن زهرة بن معبد بتمامه، وأسقطه من كتاب الأيمان والنذور. وابن لهيعة ورشدين لميسا من شرط الصحيح، ولم يقع لأبي نعيم أيضا من طريق ابن وهب عن حيوة، فأخرجه في الأيمان والنذور بتمامه من طريق البخاري. وأخرج القدر المختصر هنا من رواية أبي زرعة وهب الله بن راشد عن زهرة بن معبد، ووهب الله هذا مختلف فيه، وليس من رجال الصحيح، ووجه إدخال هذا الحديث في المصافحة أن الأخذ باليد يستلزم التقاء صفحة اليد بصفحة اليد غالبا ومن ثم أفردها بترجمة تلي هذه لجواز وقوع الأخذ باليد من غير حصول المصافحة، قال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ، وعلى جوازه جماعة العلماء سلفا وحلفا، والله أعلم.

(11/55)


28 - باب الأَخْذِ بِالْيَد وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ

(11/55)


6265- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا السَّلاَمُ يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب الأخذ باليد" كذا في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي، وللباقين "باليدين" وفي نسخة "باليمين" وهو غلط.وسقطت هذه الترجمة وأثرها وحديثها من رواية النسفي.قوله: "وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه" وصله غنجار في "تاريخ بخاري" من طريق إسحاق بن أحمد بن خلف قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول سمع أبي من مالك، ورأى حماد بن زيد يصافح ابن المبارك بكلتا يديه. وذكر البخاري في "التاريخ" في ترجمة أبيه نحوه وقال في ترجمة عبد الله بن سلمة المرادي حدثني أصحابنا يحيى وغيره عن أبي إسماعيل بن إبراهيم قال: رأيت حماد بن زيد وجاءه ابن المبارك بمكة فصافحه بكلتا يديه، ويحيى المذكور هو ابن جعفر البيكندي، وقد أخرج الترمذي من حديث ابن مسعود رفعه: "من تمام التحية الأخذ باليد" وفي سنده ضعف، وحكى الترمذي عن البخاري أنه رجح أنه موقوف على عبد الرحمن بن يزيد النخعي أحد التابعين. وأخرج ابن المبارك في "كتاب البر والصلة" من حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل لا ينزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرفه". قوله: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى بين كفيه التشهد" كذا عنده بتأخير المفعول عن الجملة الحالية. وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة الآتي التنبيه عليها بتقديم المفعول وهو لفظ التشهد. قوله في آخره "وهو بين ظهرانينا" بفتح النون وسكون التحتانية ثم نون أصله ظهرنا والتثنية باعتبار المتقدم عنه والمتأخر أي كائن بيننا والألف والنون زيادة للتأكيد ولا يجوز كسر النون الأولى قاله الجوهري وغيره. قوله: "فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا جاء في هذه الرواية، وقد تقدم الكلام على حديث التشهد هذا في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة من رواية شقيق بن سلمة عن ابن مسعود وليست فيه هذه الزيادة، وتقدم شرحه مستوفى وأما هذه الزيادة فظاهرها أنهم كانوا يقولون "السلام عليك أيها النبي" بكاف الخطاب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تركوا الخطاب وذكروه بلفظ الغيبة فصاروا يقولون "السلام على النبي" وأما قوله في آخره: "يعني على النبي" فالقائل "يعني" هو البخاري، وإلا فقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده ومصنفه عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال في آخره: "فلما قبض صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على النبي" وهكذا أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق أبي بكر، وقد أشبعت القول في هذا عند شرح الحديث المذكور، قال ابن بطال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا في تقبيل اليد فأنكره مالك وأنكر ما روى فيه، وأجازه آخرون واحتجوا بما روى عن عمر أنهم "لما رجعوا من الغزو حيث فروا قالوا نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العكارون أنا فئة المؤمنين، قال فقبلنا يده" قال: "وقبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله

(11/56)


عليهم" ذكره الأبهري، وقبل أبو عبيدة يد عمر حين قدم، وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه، قال الأبهري: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإن ذلك جائز. قال ابن بطال: وذكر الترمذي من حديث صفوان بن عسال "أن يهوديين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات" الحديث وفي آخره: "فقبلا يده ورجله" قال الترمذي حسن صحيح قلت: حديث ابن عمر أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود، وحديث أبي لبابة أخرجه البيهقي في "الدلائل" وابن المقري، وحديث كعب وصاحبيه أخرجه ابن المقري، وحديث أبي عبيدة أخرجه سفيان في جامعه، وحديث ابن عباس أخرجه الطبري وابن المقري، وحديث صفوان أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه الحاكم. وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءا في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثارا، فمن جيدها حديث الزارع العبدي وكان في وقد عبد القيس قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله" أخرجه أبو داود، ومن حديث مزيدة العصري مثله، ومن حديث أسامة بن شريك قال: "قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده" وسنده قوي ومن حديث جابر "أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده" ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة فقال: "يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من رواية عبد الرحمن بن رزين قال: "أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفا له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها" وعن ثابت أنه قبل يد أنس. وأخرج أيضا أن عليا قبل يد العباس ورجله، وأخرجه ابن المقري؛ وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال: قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فناولنيها فقبلتها. قال النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب، فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز.

(11/57)


29 - باب الْمُعَانَقَةِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ
6266- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَلِيًّا يَعْنِي ابْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ أَلاَ تَرَاهُ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ الثَّلاَثِ عَبْدُ الْعَصَا وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ وَإِنِّي لاَعْرِفُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الأَمْرُ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا قَالَ عَلِيٌّ وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا

(11/57)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمْنَعُنَا لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا وَإِنِّي لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا"
قوله: "باب المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت" كذا للأكثر، وسقط لفظ: "المعانقة" وواو العطف من رواية النسفي ومن رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي وضرب عليها الدمياطي في أصله. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه كما بينته في الوفاة النبوية. وقال الكرماني لعله ابن منصور لأنه روى عن بشر بن شعيب في "باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم".قلت: وهو استدلال على الشيء بنفسه لأن الحديث المذكور هناك وهنا واحد والصيغة في الموضعين واحدة فكان حقه إن قام الدليل عنده على أن المراد بإسحاق هناك ابن منصور أن يقول هنا كما تقدم بيانه في الوفاة النبوية. قوله: "وحدثنا أحمد بن صالح" هو إسناد آخر إلى الزهري يرد على من ظن انفراد شعيب به، وقد بينت هناك أن الإسماعيلي أخرجه أيضا من رواية صالح بن كيسان، ولم أستحضر حينئذ رواية يونس هذه، فهم على هذا ثلاثة من حفاظ أصحاب الزهري رووه عنه، وسياق المصنف على لفظ أحمد بن صالح هذا، وسياقه هناك على لفظ شعيب، والمعنى متقارب وقد ذكرت شرحه هناك. قال ابن بطال عن المهلب: ترجم للمعانقة ولم يذكرها في الباب، وإنما أراد أن يدخل فيه معانقة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن الحديث الذي تقدم ذكره في "باب ما ذكر من الأسواق" في كتاب البيوع فلم يجد له سندا غير السند الأول فمات قبل أن يكتب فيه شيئا فبقي الباب فارغا من ذكر المعانقة، وكان بعده "باب قول الرجل كيف أصبحت" وفيه حديث علي، فلما وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنهما واحدة إذ لم يجد بينهما حديثا. وفي الكتاب مواضع من الأبواب فارغة لم يدرك أن يتمها بالأحاديث، منها في كتاب الجهاد انتهى، وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أنه أراد ما أخرجه في "الأدب المفرد" فإنه ترجم فيه: "باب المعانقة" وأورد فيه حديث جابر أنه بلغه حديث عن رجل من الصحابة قال: "فابتعت بعيرا فشددت إليه رحلي شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فبعثت إليه فخرج، فاعتنقني واعتنقته" الحديث فهذا أولى بمراده. وقد ذكر طرفا منه في كتاب العلم معلقا فقال: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر في حديث واحد" وتقدم الكلام على سنده هناك. وأما جزمه بأنه لم يجد لحديث أبي هريرة سندا آخر ففيه نظر لأنه أورده في كتاب اللباس بسند آخر وعلقه في مناقب الحسن فقال: وقال نافع بن جبير عن أبي هريرة، فذكر طرفا منه، فلو كان أراد ذكره لعلق منه موضع حاجته أيضا بحذف أكثر السند أو بعضه كأن يقول: وقال أبو هريرة، أو قال عبيد الله بن أبي يزيد عن نافع بن جبير عن أبي هريرة، وأما قوله إنهما ترجمتان خلت الأولى عن الحديث فضمهما الناسخ فإنه محتمل - ولكن في الجزم به نظر. وقد ذكرت في المقدمة عن أبي ذر راوي الكتاب ما يؤيد ما ذكره من أن بعض من سمع الكتاب كان يضم بعض التراجم إلى بعض ويسد البياض وهي قاعدة يفزع إليها عند العجز عن تطبيق الحديث على الترجمة، ويؤيده إسقاط لفظ المعانقة من رواية من ذكرنا، وقد ترجم في الأدب "باب كيف أصبحت" وأورد فيه حديث ابن عباس المذكور وأفرد باب المعانقة عن هذا الباب وأورد فيه حديث جابر كما ذكرت، وقوى ابن التين ما قال ابن بطال بأنه وقع عنده في رواية: "باب المعانقة" قول الرجل كيف أصبحت بغير واو فدل على أنهما ترجمتان. وقد أخذ ابن جماعة كلام ابن بطال جازما به واختصره وزاد عليه فقال: ترجم بالمعانقة ولم يذكرها وإنما ذكرها في كتاب البيوع، وكأنه ترجم ولم

(11/58)


يتفق له حديث يوافقه في المعنى ولا طريق آخر لسند معانقة الحسن، ولم ير أن يرويه بذلك السند لأنه ليس من عادته إعادة السند الواحد، أو لعله أخذ المعانقة من عادتهم عند قولهم كيف أصبحت فاكتفى بكيف أصبحت لاقتران المعانقة به عادة. قلت: وقد قدمت الجواب عن الاحتمالين الأولين، وأما الاحتمال الأخير فدعوى العادة تحتاج إلى دليل وقد أورد البخاري في "الأدب المفرد" في "باب كيف أصبحت" حديث محمود بن لبيد "أن سعد بن معاذ لما أصيب أكحله كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: كيف أصبحت" الحديث، وليس فيه للمعانقة ذكر، وكذلك أخرج النسائي من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: "دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أصبحت؟ فقال: صالح من رجل لم يصبح صائما" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن أبي عمر نحوه. وأخرج البخاري أيضا في "الأدب المفرد" من حديث جابر قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت؟ قال بخير" الحديث. ومن حديث مهاجر الصائغ "كنت أجلس إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا قيل له كيف أصبحت؟ قال: لا نشرك بالله" ومن طريق أبي الطفيل قال: "قال رجل لحذيفة: كيف أصبحت، أو كيف أمسيت يا أبا عبد الله؟ قال: أحمد الله" ومن طريق أنس أنه "سمع عمر سلم عليه رجل فرد ثم قال له: كيف أنت؟ قال أحمد الله. قال هذا الذي أردت منك" وأخرج الطبراني في "الأوسط" نحو هذا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، فهذه عدة أخبار لم تقترن فيها المعانقة بقول كيف أصبحت ونحوها بل ولم يقع في حديث الباب أن اثنين تلاقيا فقال أحدهما للآخر كيف أصبحت حتى يستقيم الحمل على العادة في المعانقة حينئذ، وإنما فيه أن من حضر باب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا خروج علي من عند النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن حاله في مرضه فأخبرهم، فالراجح أن ترجمة المعانقة كانت خالية من الحديث كما تقدم، وقد ورد في المعانقة أيضا حديث أبي ذر أخرجه أحمد وأبو داود من طريق رجل من عنزة لم يسم قال: "قلت لأبي ذر هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه. قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلي ذات يوم فلم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني، فكانت أجود وأجود" ورجاله ثقات، إلا هذا الرجل المبهم. وأخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس "كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا" وله في الكبير "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتى يسلم عليهم" قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة. ثم ساق قصتهما في ذلك من طريق سعيد بن إسحاق وهو مجهول عن علي بن يونس الليثي المدني وهو كذلك، وأخرجها ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه من وجه آخر عن علي بن يونس قال: استأذن سفيان بن عيينة على مالك فأذن له فقال: السلام عليكم فردوا عليه، ثم قال: السلام خاص وعام، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته. ثم قال: لولا أنها بدعة لعانقتك. قال قد عانق من هو خير منك قال جعفر؟ قال: نعم.قال: ذاك خاص قال: ما عمه يعمنا. ثم ساق سفيان الحديث عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "لما قدم جعفر من الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث. قال الذهبي في "الميزان ": هذه الحكاية باطلة، وإسنادها مظلم. قلت: والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد، فأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن الأجلح عن الشعبي "أن جعفرا لما قدم تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل جعفرا بين عيينة" وأخرج البغوي في "معجم الصحابة" من حديث عائشة "لما قدم جعفر استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه" وسنده

(11/59)


موصول لكن في سنده محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو ضعيف. وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه فاعتنقه وقبله" قال الترمذي: حديث حسن. وأخرج قاسم بن أصبغ" عن أبي الهيثم بن التيهان أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه فاعتنقه وقبله" وسنده ضعيف. قال المهلب: في أخذ العباس بيد علي جواز المصافحة والسؤال عن حال العليل كيف أصبح، وفيه جواز اليمين على غلبة الظن، وفيه أن الخلافة لم تذكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أصلا لأن العباس حلف أنه يصير مأمورا لا آمرا لما كان يعرف من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بها إلى غيره، وفي سكوت علي دليل على علم علي بما قال العباس، قال: وأما قول علي لو صرح النبي صلى الله عليه وسلم بصرفها عن بني عبد المطلب لم يمكنهم أحد بعده منها فليس كما ظن، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" وقيل له لو أمرت عمر فامتنع ثم لم يمنع ذلك عمر من ولايتها بعد ذلك. قلت: وهو كلام من لم يفهم مراد علي. وقد قدمت في شرح الحديث في الوفاة النبوية بيان مراده، وحاصله أنه إنما خشي أن يكون منع النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الخلافة حجة قاطعة بمنعهم منها على الاستمرار تمسكا بالمنع الأول لو رده بمنع الخلافة نصا، وأما منع الصلاة فليس فيه نص على منع الخلافة وإن كان في التنصيص على إمامة أبي بكر في مرضه إشارة إلى أنه أحق بالخلافة فهو بطريق الاستنباط لا النص، ولولا قرينة كونه في مرض الموت ما قوى، وإلا فقد استناب في الصلاة قبل ذلك غيره في أسفاره والله أعلم. وأما ما استنبطه أولا ففيه نظر، لأن مستند العباس في ذلك الفراسة وقرائن الأحوال، ولم ينحصر ذلك في أن معه من النبي صلى الله عليه وسلم النص على منع علي من الخلافة، وهذا بين من سياق القصة، وقد قدمت هناك أن في بعض طرق هذا الحديث أن العباس قال لعلي بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط يدك أبايعك فيبايعك الناس فلم يفعل، فهذا دال على أن العباس لم يكن عنده في ذلك نص والله أعلم. وقول العباس في هذه الرواية لعلي "ألا تراه: أنت والله بعد ثلاث إلخ" قال ابن التين: الضمير في تراه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن الأظهر أنه ضمير الشأن وليست الرؤية هنا الروية البصرية، وقد وقع في سائر الروايات "ألا ترى" بغير ضمير. وقوله: "لو لم تكن الخلافة فينا آمرناه" قال ابن التين: فهو بمد الهمزة أي شاورناه، قال وقرأناه بالقصر من الأمر. قلت: وهو المشهور. والمراد سألناه، لأن صيغة الطلب كصيغة الأمر، ولعله أراد أنه يؤكد عليه في السؤال حتى يصير كأنه آمر له بذلك. وقال الكرماني: فيه دلالة على أن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء. وحكى ابن التين عن الداودي أن أول ما استعمل الناس "كيف أصبحت" في زمن طاعون عمواس، وتعقبه بأن العرب كانت تقوله قبل الإسلام. وبأن المسلمين قالوه في هذا الحديث. قلت: والجواب حمل الأولية على ما وقع في الإسلام، لأن الإسلام جاء بمشروعية السلام للمتلاقيين، ثم حدث السؤال عن الحال، وقل من صار يجمع بينهما، والسنة البداءة بالسلام، وكأن السبب فيه ما وقع من الطاعون فكانت الداعية متوفرة على سؤال الشخص من صديقه عن حاله فيه ثم كثر ذلك حتى اكتفوا به عن السلام، ويمكن الفرق بين سؤال الشخص عمن عنده ممن عرف أنه متوجع وبين سؤال من حاله يحتمل الحدوث.

(11/60)


باب من أجاب بلبيك و سعديك
...
30 - باب مَنْ أَجَابَ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
6267- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن قتادة عن أنس "عن معاذ قال أنا رديف النبي

(11/60)


صلى الله عليه وسلم فقال:" يا معاذ قلت لبيك وسعديك قال مثله ثلاثا هل تدري ما حق الله على العباد قلت لا قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة فقال يا معاذ قلت لبيك وسعديك قال هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم حدثنا هدبة حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس عن معاذ.. بهذا"
6268- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا زيد بن وهب "حدثنا والله أبو ذر بالربذة قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء استقبلنا أحد فقال يا أبا ذر ما أحب أن أحدا لي ذهبا يأتي علي ليلة أو ثلاث عندي منه دينار إلا أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وأرانا بيده ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك يا رسول الله قال الأكثرون هم الأقلون إلا من قال هكذا وهكذا ثم قال لي مكانك لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع فانطلق حتى غاب عني فسمعت صوتا فخشيت أن يكون عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأردت أن أذهب ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبرح فمكثت قلت يا رسول الله سمعت صوتا خشيت أن يكون عرض لك ثم ذكرت قولك فقمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك جبريل أتاني فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت لزيد إنه بلغني أنه أبو الدرداء فقال أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة قال الأعمش وحدثني أبو صالح عن أبي الدرداء نحوه وقال أبو شهاب عن الأعمش يمكث عندي فوق ثلاث"
قوله: "باب من أجاب بلبيك وسعديك" ذكر فيه حديث أنس عن معاذ قال: "أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ، قلت: لبيك وسعديك" وقد تقدم شرح هاتين الكلمتين في كتاب الحج وتقدم شرح بعض حديث معاذ في كتاب العلم وفي الجهاد ويأتي مستوفى في كتاب الرقاق، وكذلك حديث أبي ذر المذكور في الباب بعده وقوله فيه: "قلت لزيد" أي ابن وهب، والقائل هو الأعمش وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد بين في الرواية التي تليها أن الأعمش رواه عن أبي صالح عن أبي الدرداء، وقوله: "وقال أبو شهاب عن الأعمش" يعني عن زيد بن وهب عن أبي ذر كما تقدم موصولا في كتاب الاستقراض، والمراد أنه أتى بقوله: "يمكث عندي فوق ثلاث" بدل قوله في رواية هذا الباب: "تأتي على ليلة أو ثلاث عندي منه دينار" وبقية سياق الحديث سواء إلا الكلام الأخير في سؤال الأعمش زيد بن وهب إلى آخره، وقوله: "أرصده" بضم أوله، وقوله: "فقمت" أي أقمت في موضعي وهو كقوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} وقد ورد ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم فأخرج النسائي وصححه ابن حبان من حديث محمد بن حاطب قال: "انطلقت بي أمي إلى رجل جالس فقالت له: يا رسول الله قال: لبيك وسعديك"

(11/61)


قلت: وأمه هي أم جميل بالجيم بنت المحلل بمهملة ولامين الأولى ثقيلة.

(11/62)


باب لايقيم الرجل للرجل من مجلسه
...
31 - باب لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ
6269- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ"
قوله: "باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه" هكذا ترجم بلفظ الخبر وهو خبر معناه النهي، وقد رواه ابن وهب بلفظ النهي "لا يقم" وكذا رواه ابن الحسن، ورواه القاسم بن يزيد وطاهر بن مدرار بلفظ: "لا يقيمن" وكذا وقع في رواية الليث عند مسلم بلفظ النهي الموكد، وكذا عنده من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس" وهذا الحديث ليس في الموطأ إلا عند ابن وهب ومحمد بن الحسن، وقد أخرجه الدار قطني من رواية إسماعيل وابن وهب وابن الحسن والوليد بن مسلم والقاسم بن يزيد وطاهر بن مدرار كلهم عن مالك، وأخرجه الإسماعيلي من رواية القاسم بن يزيد الجرمي وعبد الله بن وهب جميعا عن مالك؛ وضاق على أبي نعيم فأخرجه من طريق البخاري نفسه، وقد تقدم في كتاب الجمعة من رواية ابن جريج عن نافع، ويأتي في الباب الذي يليه من رواية عبد الله بن عمر العمري عن نافع وسياقه أتم ويأتي شرحه فيه.

(11/62)


باب { إذا قيل تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم....}
...
32 - باب {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشِزُوا فَانْشِزُوا} الْآيَةَ
6270- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ"
قوله: "باب إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا" كذا لأبي ذر، وزاد غيره { وإذا قيل انشزوا فانشزوا} الآية. اختلف في معنى الآية فقيل إن ذلك خاص بمجلس النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن بطال قال بعضهم: هو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة عن مجاهد وقتادة قلت: لفظ الطبري عن قتادة "كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأوه مقبلا ضيقوا مجلسهم، فأمرهم الله تعالى أن يوسع بعضهم لبعض". قلت: لا يلزم من كون الآية نزلت في ذلك الاختصاص. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان بفتح المهملة والتحتانية الثقيلة قال: "نزلت يوم الجمعة أقبل جماعة من المهاجرين والأنصار من أهل بدر فلم يجدوا مكانا، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم ناسا ممن تأخر إسلامه فأجلسهم في أماكنهم، فشق ذلك عليهم، وتكلم المنافقون في ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا}" وعن الحسن البصري: المراد بذلك مجلس القتال، قال: ومعنى قوله: {انْشُزُوا} انهضوا للقتال.وذهب الجمهور إلى أنها عامة في كل مجلس من مجالس الخير، وقوله: {فَافْسَحُوا

(11/62)


33 - باب مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ
6271- حدثنا الحسن بن عمر حدثنا معتمر سمعت أبي يذكر عن أبي مجلز "عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون قال فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام معه من الناس وبقى ثلاثة وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا قال فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ -إلى قوله- إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً}

(11/64)


قوله: "باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه، أو تهيأ للقيام ليقوم الناس" ذكر فيه حديث أنس في قصة زواج زينب بنت جحش ونزول آية الحجاب، وفيه: "فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة الأحزاب. قال ابن بطال: فيه أنه لا ينبغي لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بإذنه، وأن المأذون له لا يطيل الجلوس بعد تمام ما أذن له فيه لئلا يؤذي أصحاب المنزل ويمنعهم من التصرف في حوائجهم. وفيه أن من فعل ذلك حتى تضرر به صاحب المنزل أن لصاحب المنزل أن يظهر التثاقل به وأن يقوم بغير إذن حتى يتفطن له، وأن صاحب المنزل إذا خرج من منزله لم يكن للمأذون له في الدخول أن يقيم إلا بإذن جديد، والله أعلم.

(11/65)


34 - باب الِاحْتِبَاءِ بِالْيَدِ وَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ
6272- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ "ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا..."
قوله: "باب الاحتباء باليد وهو" وقع في رواية الكشميهني: "وهي" "القرفصاء" بضم القاف والفاء بينهما راء ساكنة ثم صاد مهملة ومد. وقال الفراء: إن ضممت القاف والفاء مددت وإن كسرت قصرت، والذي فسر به البخاري الاحتباء أخذه من كلام أبي عبيدة فإنه قال: القرفصاء جلسة المحتبى، ويدير ذراعيه ويديه على ساقيه. وقال عياض: قيل هي الاحتباء، وقيل جلسة الرجل المستوفز، وقيل جلسة الرجل على أليتيه. قال: وحديث قيلة يدل عليه لأن فيه: "وبيده عسيب نخلة" فدل على أنه لم يحتب بيديه. قلت: ولا دلالة فيه على نفي الاحتباء فإنه تارة يكون باليدين وتارة بثوب، فلعله في الوقت الذي رأته قيلة كان محتبيا بثوبه، وقد قال ابن فارس وغيره: الاحتباء أن يجمع ثوبه ظهره وركبتيه. قلت: وحديث قيلة وهي بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها لام أخرجه أبو داود والترمذي في "الشمائل" والطبراني وطوله بسند لا بأس به أنها قالت. فذكر الحديث وفيه: "قالت فجاء رجل قال السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه أسمال مليتين قد كانتا بزعفران فنفضتا، وبيده عسيب نخلة مقشرة قاعدا القرفصاء. قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال له جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال ولم ينظر إلي: يا مسكينة عليك السكينة، فذهب عني ما أجد من الرعب" الحديث. وقوله فيه: "وعليه أسمال" بمهملة جمع سمل بفتحتين وهو الثوب البالي و "مليتين" بالتصغير تثنية ملاءة وهي الرداء. وقيل القرفصاء الاعتماد على عقبيه ومس أليتيه بالأرض، والذي يتحرر من هذا كله أن الاحتباء قد يكون بصورة القرفصاء، لا أن كل احتباء قرفصاء والله أعلم. قوله: "حدثني محمد بن أبي غالب" هو القومسي بضم القاف وسكون الواو وبالسين المهملة، نزل بغداد، وهو من صغار شيوخ البخاري ومات قبله بست سنين، وليس له عنده سوى هذا الحديث وحديث آخر في كتاب التوحيد. ولهم شيخ آخر يقال له محمد بن أبي غالب الواسطي نزيل بغداد، قال أبو نصر الكلاباذي سمع من هشيم ومات قبل القومسي بست وعشرين سنة. قوله: "محمد بن فليح عن أبيه" هو فليح بن سليمان المدني، وقد نزل البخاري في حديثه هذا درجتين لأنه سمع الكثير من أصحاب فليح مثل يحيى بن صالح ونزل في حديث إبراهيم بن المنذر درجة

(11/65)


لأنه سمع منه الكثير وأخرج عنه بغير واسطة. قوله: "بفناء الكعبة" بكسر الفاء ثم نون ثم مد أي جانبها من قبل الباب. قوله: "محتبيا بيده هكذا" كذا وقع عنده مختصرا، ورويناه في الجزء السادس من "فوائد أبي محمد بن صاعد" عن محمود بن خالد عن أبي غزية وهو بفتح المعجمة وكسر الزاي وتشديد التحتانية وهو محمد بن موسى الأنصاري القاضي عن فليح نحوه وزاد: "فأرانا فليح موضع يمينه على يساره موضع الرسغ" وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي موسى محمد بن المثنى عن أبي غزية بسند آخر قال: "حدثنا إبراهيم بن سعد عن عمر بن محمد بن زيد عن نافع" فذكر نحو حديث الباب دون كلام فليح، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن أبي غزية عن فليح ولم يذكر كلام فليح أيضا، والذي يظهر أن لأبي غزية فيه شيخين، وأبو غزية ضعفه ابن معين وغيره، ووقع عند أبي داود من حديث أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيديه" زاد البزار "ونصب ركبتيه" وأخرج البزار أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: "جلس عند الكعبة فضم رجليه فأقامهما واحتبى بيديه" ويستثنى من الاحتباء باليدين ما إذا كان في المسجد ينتظر الصلاة فاحتبى بيديه فينبغي أن يمسك إحداهما بالأخرى كما وقعت الإشارة إليه في هذا الحديث من وضع إحداهما على رسغ الأخرى، ولا يشبك بين أصابعه في هذه الحالة، فقد ورد النهي عن ذلك عند أحمد من حديث أبي سعيد بسند لا بأس به والله أعلم. وتقدمت مباحث التشبيك في المسجد في أبواب المساجد من كتاب الصلاة. وقال ابن بطال: لا يجوز للمحتبى أن يصنع بيديه شيئا ويتحرك لصلاة أو غيرها لأن عورته تبدو إلا إذ كان عليه ثوب يستر عورته فيجوز، وهذا بناء على أن الاحتباء قد يكون باليدين فقط وهو المعتمد، وفرق الداودي فيما حكاه عنه ابن التين بين الاحتباء والقرفصاء فقال: الاحتباء أن يقيم رجليه ويفرج بين ركبيته ويدير عليه ثوبا ويعقده، فإن كان عليه قميص أو غيره فلا ينهى عنه، وإن لم يكن عليه شيء فهو القرفصاء. كذا قال والمعتمد ما تقدم.

(11/66)


باب من اتكأ بين أصحابه
...
35 - باب مَنْ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ
قَالَ خَبَّابٌ "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً قُلْتُ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ"
6273-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ "عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ"
6274- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ مِثْلَهُ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ"
قوله: "باب من اتكأ بين يدي أصحابه" قيل: الاتكاء الاضطجاع، وقد مضى في حديث عمر في كتاب الطلاق "وهو متكئ على سرير" أي مضطجع، بدليل قوله: "قد أثر السرير في جنبه" كذا قال عياض، وفيه نظر لأنه يصح مع عدم تمام الاضطجاع، وقد قال الخطابي: كل معتمد على شيء متمكن منه فهو متكئ، وإيراد البخاري حديث خباب المعلق يشير به إلى أن الاضطجاع اتكاء وزيادة. وأخرج الدارمي والترمذي وصححه هو

(11/66)


وأبو عوانة وابن حبان عن جابر بن سمرة "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئا على وسادة" ونقل ابن العربي عن بعض الأطباء أنه كره الاتكاء، وتعقبه بأن فيه راحة كالاستناد والاحتباء. قوله: "وقال خباب" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة وآخره موحدة أيضا هو ابن الأرت الصحابي، وهذا القدر المعلق طرف من حديث له تقدم موصولا في علامات النبوة. حديث أبي بكرة في أكبر الكبائر وأورده من طريقين لقوله فيه: "وكان متكئا فجلس" وقد تقدمت الإشارة إليه في أوائل كتاب الأدب، وورد في مثل ذلك حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة لما قال: "أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ذلك الأبيض المتكئ" قال المهلب: يجوز للعالم والمفتي والإمام الاتكاء في مجلسه بحضرة الناس لألم يجده في بعض أعضائه أو لراحة يرتفق بذلك ولا يكون ذلك في عامة جلوسه.

(11/67)


36 - باب مَنْ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ لِحَاجَةٍ أَوْ قَصْدٍ
6275- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ"
قوله: "باب من أسرع في مشيه لحاجة" أي لسبب من الأسباب، وقوله: "أو قصد" أي لأجل قصد شيء معروف، والقصد هنا بمعنى المقصود، أي أسرع لأمر المقصود. حديث عقبة بن الحارث، قال ابن بطال: فيه جواز إسراع الإمام في حاجته، وقد جاء أن إسراعه عليه الصلاة والسلام في دخوله إنما كان لأجل صدقة أحب أن يفرقها في وقته. قلت: وهذا الذي أشار إليه متصل في حديث عقبة بن الحارث المذكور كما تقدم واضحا في كتاب الزكاة، فإنه أخرجه هناك بالإسناد الذي ذكره هنا تاما، وتقدم أيضا في صلاة الجماعة. وقال في الترجمة "لحاجة أو قصد" لأن الظاهر من السياق أنه كان لتلك الحاجة الخاصة فيشعر بأن مشيه لغير الحاجة كان على هينته، ومن ثم تعجبوا من إسراعه، فدل على أنه وقع على غير عادته. فحاصل الترجمة أن الإسراع في المشي إن كان لحاجة لم يكن به بأس، وإن كان عمدا لغير حاجة فلا. وقد أخرج ابن المبارك في كتاب الاستئذان بسند مرسل أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشية السوقي لا العاجز ولا الكسلان. وأخرج أيضا: "كان ابن عمر يسرع في المشي ويقول هو أبعد من الزهو، وأسرع في الحاجة". قال غيره: وفيه اشتغال عن النظر إلى ما لا ينبغي التشاغل به. وقال ابن العربي: المشي على قدر الحاجة هو السنة إسراعا وبطئا، لا التصنيع فيه ولا التهور.

(11/67)


37 - باب السَّرِيرِ
6276- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلاَلًا"
قوله: "باب السرير" بمهملات وزن عظيم معروف. ذكر الراغب أنه مأخوذ من السرور لأنه في الغالب لأولى

(11/67)


38 - باب مَنْ أُلْقِيَ لَهُ وِسَادَةٌ
6277- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقَالَ لِي " أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خَمْسًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ سَبْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تِسْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِحْدَى عَشْرَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ شَطْرَ الدَّهْرِ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ"
6278- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّأْمَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ "ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَلِيسًا فَقَعَدَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي كَانَ لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ يَعْنِي حُذَيْفَةَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ كَانَ فِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَمَّارًا أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ كَيْفَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ { وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} فَقَالَ مَا زَالَ هَؤُلاَءِ حَتَّى كَادُوا يُشَكِّكُونِي وَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب من ألقي له وسادة" ألقى بضم أوله على البناء للمجهول، وذكره لأن التأنيث ليس حقيقيا. ويقال وسادة ووساد وهي بكسر الواو وتقولها هذيل بالهمز بدل الواو ما يوضع عليه الرأس وقد يتكأ عليه وهو المراد هنا. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن شاهين الواسطي؛ وخالد شيخه هو ابن عبد الله الطحان، وقوله: "وحدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وعمرو بن عون من شيوخ البخاري وقد أخرج عنه في الصلاة وغيرها.

(11/68)


بغير واسطة، وشيخه هو الطحان المذكور، وشيخه خالد هو ابن مهران الحذاء، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد الثاني درجة، وقد تقدم هذا الحديث عن إسحاق بن شاهين بهذا الإسناد في كتاب الصلاة، وتقدمت مباحث المتن في الصيام، وساقه المصنف هنا على لفظ عمرو بن عون، وهذا هو السر في إيراده له من هذا الوجه النازل حتى لا تتمحض إعادته بسند واحد على صفة واحدة، وقد أطرد له هذا الصنيع إلا في مواضع يسيرة إما ذهولا وإما لضيق المخرج. قوله: "أخبرني أبو المليح" بوزن عظيم اسمه عامر وقيل زيد بن أسامة الهذلي. قوله: "دخلت مع أبيك زيد" هذا الخطاب لأبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد، ولم أر لزيد ذكرا إلا في هذا الخبر، وهو ابن عمرو وقيل ابن عامر بن ناتل بنون ومثناة ابن مالك بن عبيد الجرمي. قوله: "فألقيت له وسادة" قال المهلب فيه إكرام الكبير، وجواز زيارة الكبير تلميذه وتعليمه في منزله ما يحتاج إليه في دينه، وإيثار التواضع وحمل النفس عليه، وجواز رد الكرامة حيث لا يتأذى بذلك من تردد عليه. قوله: "حدثنا يحيى بن جعفر" هو البيكندي، ويزيد هو ابن هارون، ومغيرة هو ابن مقسم، وإبراهيم هو النخعي، وقد تقدم الحديث في مناقب عمار مشروحا، وقوله فيه: "ارزقني جليسا" في رواية سليمان بن حرب عن شعبة في مناقب عمار "جليسا صالحا" وكذا في معظم الروايات وقوله: "أو ليس فيكم صاحب السواك والوساد" في رواية الكشميهني: "الوسادة" يعني أن ابن مسعود كان يتولى أمر سواك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووساده، ويتعاهد خدمته في ذلك بالإصلاح وغيره، وقد تقدم في المناقب بزيادة "والمطهرة" وتقدم الرد على الداودي في زعمه أن المراد أن ابن مسعود لم يكن في ملكه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الأشياء الثلاثة، وقد قال ابن التين هنا: المراد أنه لم يكن له سواهما جهازا وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه إياهما، وليس ذلك مراد أبي الدرداء، بل السياق يرشد إلى أنه أراد وصف كل واحد من الصحابة بما كان اختص به من الفضل دون غيره من الصحابة، وقضية ما قاله الداودي هناك وابن التين هنا أن يكون وصفه بالتقلل، وتلك صفة كانت لغالب من كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضلاء الصحابة والله أعلم. وقوله فيه: "أليس فيكم أو كان فيكم" هو شك من شعبة، وقد رواه إسرائيل عن مغيرة. بلفظ: "وفيكم" وهي في مناقب عمار، ورواه أبو عوانة عن مغيرة بلفظ: "أو لم يكن فيكم" وهي في مناقب ابن مسعود. قوله: "الذي أجاره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان يعني عمارا" في رواية إسرائيل "الذي أجاره الله من الشيطان" يعني على لسان رسوله. وفي رواية أبي عوانة "ألم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان" وقد تقدم بيان المراد بذلك في المناقب، ويحتمل أن يكون أشير بذلك إلى ما جاء عن عمار أن كان ثابتا، فإن الطبراني أخرج من طريق الحسن البصري قال: كان عمار يقول قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس، أرسلني إلى بئر بدر فلقيت الشيطان في صورة إنسي فصارعني فصرعته الحديث. وفي سنده الحكم بن عطية مختلف فيه، والحسن لم يسمع من عمار.

(11/69)


39 - باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
6279- حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن أبي حازم "عن سهل بن سعد قال: كنا نقيل ونتغدى بعد الجمعة"
قوله: "باب القائلة بعد الجمعة" أي بعد صلاة الجمعة، وهي النوم في وسط النهار عند الزوال وما قاربه من قبل

(11/69)


أو بعد، قيل لها قائلة لأنها يحصل فيها ذلك، وهي فاعلة بمعنى مفعولة مثل {عيشة راضية} ويقال لها أيضا القيلولة. وأخرج ابن ماجه وابن خزيمة من حديث ابن عباس رفعه استعينوا على صيام النهار بالسحور، وعلى قيام الليل بالقيلولة وفي سنده زمعة بن صالح وفيه ضعف، وقد تقدم شرح حديث سهل المذكور في الباب في أواخر كتاب الجمعة، وفيه إشارة إلى أنهم كانت عادتهم ذلك في كل يوم، وورود الأمر بها في الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس رفعه قال: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" وفي سنده كثير بن مروان وهو متروك. وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه من حديث خوات بن جبير رضي الله عنه موقوفا قال: "نوم أول النهار حرق، وأوسطه خلق، وآخره حمق" وسنده صحيح.

(11/70)


40 - باب الْقَائِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ
6180- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِيَ بِهَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ فَقَالَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِإِنْسَانٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ"
قوله: "باب القائلة في المسجد" ذكر فيه حديث علي في سبب تكنيته أبا تراب، وقد تقدم في أواخر كتاب الأدب، والغرض منه قول فاطمة عليها السلام "فغاضبني فخرج فلم يقل عندي" وهو بفتح أوله وكسر القاف. قوله: "هو في المسجد راقد" قال المهلب: فيه جواز النوم في المسجد من غير ضرورة إلى ذلك، وعكسه غيره وهو الذي يظهر من سياق القصة.

(11/70)


41 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ
6281- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ قَالَ فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ قَالَ فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ قَالَ فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ"
6282-6283- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ

(11/70)


42 - باب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ
6284- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ"
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قوله: "باب الجلوس كيف ما تيسر" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر. حديث أبي سعيد في النهي عن لبستين وبيعتين، وقد تقدم شرحه في ستر العورة من كتاب الصلاة وفي كتاب البيوع، قال المهلب: هذه الترجمة قائمة من دليل الحديث، وذلك أنه نهى عن حالتين ففهم منه إباحة غيرهما مما تيسر من الهيئات والملابس إذا ستر العورة. قلت: والذي يظهر لي أن المناسبة تؤخذ من جهة العدول عن النهي عن هيئة الجلوس إلى النهي عن لبستين يستلزم كل منهما انكشاف العورة، فلو كانت الجلسة مكروهة لذاتها لم يتعرض لذكر اللبس، فدل على أن النهي عن جلسة تفضي إلى كشف العورة وما لا يفضي إلى كشف العورة يباح في كل صورة، ثم ادعى المهلب أن النهي عن هاتين اللبستين خاص بحالة الصلاة لكونهما لا يستران العورة في الخفض والرفع، وأما الجالس في غير الصلاة فإنه لا يصنع شيئا ولا يتصرف بيديه فلا تنكشف عورته فلا حرج عليه، قال: وقد سبق في باب الاحتباء أنه صلى الله عليه وسلم احتبى. قلت: وغفل رحمه الله عما وقع من التقييد في نفس الخبر، فإن فيه: "والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء" وتقدم في "باب اشتمال الصماء" من كتاب اللباس وفيه: "والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه" وستر العورة مطلوب في كل حالة وإن تأكد في حالة الصلاة لكونها قد تبطل بتركه، ونقل ابن بطال عن ابن طاوس أنه كان يكره التربع ويقول هي جلسة مملكة، وتعقب بما أخرجه مسلم والثلاثة من حديث جابر بن سمرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس" ويمكن الجمع. قوله: "تابعه معمر ومحمد بن أبي حفص وعبد الله بن بديل عن الزهري" أما متابعة معمر فوصلها المؤلف في البيوع، وأما متابعة محمد بن أبي حفص فهي عند أبي أحمد بن عدي في نسخة أحمد بن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن أبي حفص، وأما متابعة عبد الله بن بديل فأظنها في "الزهريات" جمع الذهلي، والله أعلم.

(11/79)


43 - باب مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ
6285-6286- حدثنا موسى عن أبي عوانة حدثنا فراس عن عامر عن مسروق "حدثتني عائشة أم المؤمنين قالت إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعا لم تغادر منا واحدة فأقبلت فاطمة عليها السلام

(11/79)


44 - باب الِاسْتِلْقَاءِ
6287- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا الزهري قال أخبرني عباد بن تميم عن عمه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى"

(11/80)


قوله: "باب الاستلقاء" هو الاضطجاع على القفا سواء كان معه نوم أم لا. وقد تقدمت هذه الترجمة وحديثها في آخر كتاب اللباس قبيل كتاب الأدب، وتقدم بيان الحكم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وذكرت هناك قول من زعم أن النهي عن ذلك منسوخ وأن الجمع أولى، وأن محل النهي حيث تبدو العورة والجواز حيث لا تبدو، وهو جواب الخطابي ومن تبعه. ونقلت قول من ضعف الحديث الوارد في ذلك وزعم أنه لم يخرج في الصحيح، وأوردت عليه بأنه غفل عما في كتاب اللباس من الصحيح والمراد بذلك صحيح مسلم، وسبق القلم هناك فكتبت صحيح البخاري وقد أصلحته في أصلي، ولحديث عبد الله بن زيد في الباب شاهد من حديث أبي هريرة صححه ابن حبان.

(11/81)


باب لايتناجى اثنان دون الثالث
...
45 - باب لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى -إلى قوله- وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ -إلى قوْله- وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
6288- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةٌ فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ"
قوله: "باب لا يتناجى اثنان دون الثالث" أي لا يتحدثان سرا، وسقط لفظ باب من رواية أبي ذر. قوله: "وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا} - إلى قوله: {الْمُؤْمِنُونَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين بتمامهما، وأشار بإيراد هاتين الآيتين إلى أن التناجي الجائز المأخوذ من مفهوم الحديث مقيد بأن لا يكون في الإثم والعدوان. قوله: "وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً - إلى قوله: بِمَا تَعْمَلُونَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين أيضا. وزعم ابن التين أنه وقع عنده {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} قال: والتلاوة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ}. قلت: ولم أقف في شيء من نسخ الصحيح على ما ذكره ابن التين. وقوله تعالى: {قَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أخرج الترمذي عن علي أنها منسوخة. وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن عاصم الأحول قال: لما نزلت كان لا يناجي النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا تصدق، فكان أول من ناجاه على بن أبي طالب فتصدق بدينار، ونزلت الرخصة {إِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية. وهذا مرسل رجاله ثقات. وجاء مرفوعا على غير هذا السياق عن علي أخرجه الترمذي وابن حبان وصححه وابن مردويه من طريق علي بن علقمة عنه قال: "لما نزلت هذه الآية قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: في نصف دينار، قلت: لا يطيقونه. قال فكم؟ قلت: شعيرة قال: إنك لزهيد. قال: فنزلت أأشفقتم الآية، قال علي: فبي خفف عن هذه الأمة" وأخرج ابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص له شاهدا. قوله: "عن نافع" كذا أورده هنا عن مالك عن نافع؛ ولمالك فيه شيخ آخر عن ابن عمر، وفيه قصة سأذكرها بعد باب إن شاء الله تعالى. قوله: "إذا كانوا ثلاثة" كذا للأكثر بنصب ثلاثة على.

(11/81)


أنه الخبر، ووقع في رواية لمسلم: "إذا كان ثلاثة" بالرفع على أن كان تامة. قوله: "فلا يتناجى اثنان دون الثالث" كذا للأكثر بألف مقصورة ثابتة في الخط صورة ياء وتسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر ومعناه النهي. وفي بعض النسخ بجيم فقط بلفظ النهي وبمعناه، زاد أيوب عن نافع كما سيأتي بعد باب "فإن ذلك يحزنه" وبهذه الزيادة تظهر مناسبة الحديث للآية الأولى من قوله: "ليحزن الذين آمنوا" وسيأتي بسطه بعد أبواب.

(11/82)


46 - باب حِفْظِ السِّرِّ
6289- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرًّا فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ"
قوله: "باب حفظ السر" أي ترك إفشائه. قوله: "معتمر بن سليمان" هو التيمي. قوله: "أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم سرا" في رواية ثابت عن أنس عند مسلم أثناء حديث: "فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت ما حبسك" ولأحمد وابن سعد من طريق حميد عن أنس فأرسلني في رسالة فقالت أم سليم ما حبسك. قوله: "فما أخبرت به أحدا بعده ولقد سألتني أم سليم" في رواية ثابت فقالت: "ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا" وفي رواية حميد عن أنس "فقالت احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ثابت "والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت". قال بعض العلماء: كأن هذا السر يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه. وقال ابن بطال: الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة قلت: الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك. ومن الأحاديث الواردة في حفظ السر حديث أنس "احفظ سري تكن مؤمنا" أخرجه أبو يعلى والخرائطي، وفيه على ابن زيد وهو صدوق كثير الأوهام، وقد أخرج أصله الترمذي وحسنه؛ ولكن لم يسق هذا المتن بل ذكر بعض الحديث ثم قال: وفي الحديث طول. وحديث: "إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره" أخرجه عبد الرزاق من مرسل أبي بكر بن حزم. وأخرج القضاعي في "مسند الشهاب" من حديث علي مرفوعا: "المجالس بالأمانة" وسنده ضعيف. ولأبي داود من حديث جابر مثله وزاد: "إلا ثلاثة مجالس: ما سفك فيه دم حرام، أو فرج حرم أو اقتطع فيه مال بغير حق" وحديث جابر رفعه: "إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة" أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي، وله شاهد من حديث أنس عند أبي يعلى.

(11/82)


47 - باب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ
6290- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال النبي

(11/82)


48 - باب طُولِ النَّجْوَى
وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ
6292- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى"
قوله: "باب طول النجوى {وإذ هم نجوى} مصدر من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون" هذا التفسير في رواية المستملى وحده، وقد تقدم بيانه في تفسير الآية في سورة "سبحان"، وتقدم منه أيضا في تفسير سورة يوسف في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيّاً}. حديث أنس "أقيمت الصلاة ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث وعبد العزيز راويه عن أنس هو ابن صهيب، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في "باب الإمام تعرض له الحاجة" وهو قبيل صلاة الجماعة. قوله: "حتى نام أصحابه" تقدم هناك بلفظ: "حتى نام بعض القوم" فيحمل الإطلاق في حديث الباب على ذلك.

(11/85)


باب لاتترك النار فى البيت عند النوم
...
49 - باب لاَ تُتْرَكُ النَّارُ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ
6293- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ"
6294- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ"
6295- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ"
قوله: "باب لا تترك النار في البيت عند النوم" بضم أول "تترك" ومثناة فوقانية على البناء للمجهول وبفتحة ومثناة تحتانية بصيغة النهي المفرد. ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول حديث ابن عمر في النهي عن ذلك. الثاني حديث أبي موسى وفيه بيان حكمة النهي وهي خشية الاحتراق. الثالث حديث جابر وفيه بيان علة الخشية المذكورة. فأما حديث ابن عمر فقوله في السند "ابن عيينة عن الزهري" وقع في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري ".

(11/85)


باب غلق الابواب بلليل
...
50 - باب غلقِ الأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ
6296- حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ"
قوله: "باب غلق الأبواب بالليل" في رواية الأصيلي والجرجاني وكذا لكريمة عن الكشميهني: "إغلاق" وهو الفصيح. وقال عياض هو الصواب. قلت: لكن الأول ثبت في لغة نادرة. قوله: "همام" هو ابن يحيى، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "أطفئوا المصابيح بالليل" تقدم شرحه في الذي قبله. قوله: "وأغلقوا الأبواب" في رواية المستملي والسرخسي "وغلقوا" بتشديد اللام، وتقدم في الباب الذي قبله بلفظ: "أجيفوا" بالجيم والفاء وهي بمعنى أغلقوا وتقدم شرحها في "باب ذكر الجن" وكذا بقية الحديث. قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا" فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيها على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال: واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فردا بعينه، وقوله في هذه الرواية: "وخمروا الطعام والشراب" قال همام: وأحسبه قال: "ولو بعود يعرضه" وهو بضم الراء بعدها ضاد معجمة، وقد تقدم الجزم بذلك عن عطاء في رواية ابن جريج في الباب المذكور، ولفظه: "وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه" وزاد في كل من الأوامر المذكورة "واذكر اسم الله تعالى" وتقدم في "باب شرب اللبن" من كتاب الأشربة بيان الحكمة في ذلك، وقد حمله ابن بطال على عمومه وأشار إلى استشكاله فقال: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لم يعط قوة على شيء من ذلك، وإن كان أعطى ما هو أعظم منه وهو ولوجه في الأماكن التي لا يقدر الآدمي أن يلج فيها. قلت: والزيادة التي أشرت إليها قبل ترفع الإشكال، وهو أن ذكر اسم الله يحول بينه وبين فعل هذه الأشياء.ومقتضاه أنه يتمكن من كل ذلك إذا لم يذكر اسم الله، ويؤيده ما أخرجه مسلم والأربعة عن جابر رفعه: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم" وقد تردد ابن دقيق العيد في ذلك فقال في شرح الإمام: يحتمل أن يؤخذ قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا" على عمومه،

(11/87)


ويحتمل أن يخص بما ذكر اسم الله عليه، ويحتمل أن يكون المنع لأمر يتعلق بجسمه، ويحتمل أن يكون لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه، قال: والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج، فأما الشيطان الذي كان داخلا فلا يدل الخبر على خروجه، قال: فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه. واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب مجازا.

(11/88)


51 - باب الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَنَتْفِ الإِبْطِ
6297- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ"
6298- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَقَالَ بِالْقَدُّومِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ"
6299- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ قَالَ وَكَانُوا لاَ يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ "
6300- وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا خَتِينٌ"
قوله: "باب الختان بعد الكبر" بكسر الكاف وفتح الموحدة. قال الكرماني: وجه مناسبة هذه الترجمة بكتاب الاستئذان أن الختان يستدعي الاجتماع في المنازل غالبا. قوله: "الفطرة خمس" تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس، وكذلك حكم الختان. واستدل ابن بطال على عدم وجوبه بأن سلمان لما أسلم لم يؤمر بالاختتان، وتعقب باحتمال أن يكون ترك لعذر أو لأن قصته كانت قبل إيجاب الختان أو لأنه كان مختتنا. ثم لا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقد ثبت الأمر لغيره بذلك. قوله: "اختتن إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين سنة" تقدم بيان ذلك والاختلاف في سنة حين اختتن وبيان قدر عمره في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام، وذكرت هناك أنه وقع في الموطأ من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة موقوفا على أبي هريرة أن إبراهيم أول من اختتن وهو ابن عشرين ومائة، واختتن بالقدوم، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، ورويناه.

(11/88)


في "فوائد ابن السماك" من طريق أبي أويس عن أبي الزناد بهذا السند مرفوعا، وأبو أويس فيه لين، وأكثر الروايات على ما وقع في حديث الباب أنه عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وقد حاول الكمال بن طلحة في جزء له في الختان الجمع بين الروايتين فقال: نقل في الحديث الصحيح أنه اختتن لثمانين. وفي رواية أخرى صحيحة أنه اختتن لمائة وعشرين، والجمع بينهما أن إبراهيم عاش مائتي سنة منها ثمانين سنة غير مختون ومنها مائة وعشرين وهو مختون، فمعنى الحديث الأول اختتن لثمانين مضت من عمره، والثاني لمائة وعشرين بقيت من عمره. وتعقبه الكمال بن العديم في جزء سماه "الملحة في الرد على ابن طلحة" بأن في كلامه وهما من أوجه: أحدها تصحيحه لرواية مائة وعشرين وليست بصحيحة، ثم أوردها من رواية الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعة وتعقبه بتدليس الوليد، ثم أورده من "فوائد ابن المقري" من رواية جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد به موقوفا، ومن رواية علي بن مسهر وعكرمة بن إبراهيم كلاهما عن يحيى بن سعيد كذلك. ثانيها قوله في كل منهما لثمانين لمائة وعشرين، ولم يرد في طريق من الطرق باللام وإنما ورد بلفظ اختتن وهو ابن ثمانين وفي الأخرى وهو ابن مائة وعشرين، وورد الأول أيضا بلفظ: "على رأس ثمانين" ونحو ذلك. ثالثها أنه صرح في أكثر الروايات أنه عاش بعد ذلك ثمانين سنة، فلا يوافق الجمع المذكور أن المائة وعشرين هي التي بقيت من عمره. ورابعها أن العرب لا تزال تقول خلون إلى النصف فإذا تجاوزت النصف قالوا بقين، والذي جمع به ابن طلحة يقع بالعكس، ويلزم أن يقول فيما إذا مضى من الشهر عشرة أيام لعشرين بقين وهذا لا يعرف في استعمالهم. ثم ذكر الاختلاف في سن إبراهيم وجزم بأنه لا يثبت منها شيء. منها قول هشام بن الكلبي عن أبيه قال: دعا إبراهيم الناس إلى الحج ثم رجع إلى الشام فمات به وهو ابن مائتي سنة. وذكر أبو حذيفة البخاري أحد الضعفاء في "المبتدأ" بسند له ضعيف أن إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا من مرسل عبيد بن عمير في وفاة إبراهيم وقصته مع ملك الموت ودخوله عليه في صورة شيخ فأضافه، فجعل يضع اللقمة في فيه فتتناثر ولا تثبت في فيه، فقال له: كم أتى عليك؟ قال: مائة وإحدى وستون سنة. فقال إبراهيم في نفسه وهو يومئذ ابن ستين ومائة: ما بقي أن أصير هكذا إلا سنة واحدة فكره الحياة، فقبض ملك الموت حينئذ روحه برضاه. فهذه ثلاثة أقوال مختلفة يتعسر الجمع بينها، لكن أرجحها الرواية الثالثة. وخطر لي بعد أنه يجوز الجمع بأن يكون المراد بقوله: "وهو ابن ثمانين" أنه من وقت فارق قومه وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى "وهو ابن مائة وعشرين" أي من مولده، أو أن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها إلا عشرين أو بالعكس، والله أعلم. قال المهلب: ليس اختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين مما يوجب علينا مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن وقت أوحى الله إليه بذلك وأمره به، قال: والنظر يقتضي أنه لا ينبغي الاختتان إلا قرب وقت الحاجة إليه لاستعمال العضو في الجماع، كما وقع لابن عباس حيث قال: "كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" ثم قال: والاختتان في الصغر لتسهيل الأمر على الصغير لضعف عضوه وقلة فهمه. قلت: يستدل بقصة إبراهيم عليه السلام لمشروعية الختان حتى لو أخر لمانع حتى بلغ السن المذكور لم يسقط طلبه، وإلى ذلك أشار البخاري بالترجمة، وليس المراد أن الختان يشرع تأخيره إلى الكبر حتى يحتاج إلى الاعتذار عنه. وأما التعليل الذي ذكره من طريق النظر ففيه نظر، فإن حكمة الختان لم تنحصر في تكميل ما يتعلق بالجماع بل

(11/89)


ولما يخشى من انحباس بقية البول في الغرلة ولا سيما للمستجمر فلا يؤمن أن يسيل فينجس الثوب أو البدن، فكانت المبادرة لقطعها عند بلوغ السن الذي يؤمر به الصبي بالصلاة أليق الأوقات، وقد بينت الاختلاف في الوقت الذي يشرع فيه فيما مضى. قوله: "واختتن بالقدوم مخففة" ثم أشار إليه من طريق أخرى مشددة وزاد: "وهو موضع" وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، وأشرت إليه أيضا في أثناء اللباس. وقال المهلب: القدوم بالتخفيف الآلة كقول الشاعر على خطوب مثل نحت القدوم وبالتشديد الموضع، قال: وقد يتفق لإبراهيم عليه السلام الأمران يعني أنه اختتن بالآلة وفي الموضع. قلت: وقد قدمت الراجح من ذلك هناك، وفي المتفق للجوزقي بسند صحيح عن عبد الرزاق قال: القدوم القرية. وأخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن عبيد الله بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "اختتن إبراهيم بالقدوم" فقلت ليحيى: ما القدوم؟ قال الفأس. قال الكمال بن العديم في الكتاب المذكور. الأكثر على أن القدوم الذي اختتن به إبراهيم هو الآلة، يقال بالتشديد والتخفيف والأفصح التخفيف، ووقع في روايتي البخاري بالوجهين، وجزم النضر بن شميل أنه اختتن بالآلة المذكورة، فقيل له: يقولون قدوم قرية بالشام، فلم يعرفه وثبت على الأول. وفي صحاح الجوهري: القدوم الآلة والموضع بالتخفيف معا. وأنكر ابن السكيت التشديد مطلقا. ووقع في متفق البلدان للحازمي: قدوم قرية كانت عند حلب وكانت مجلس إبراهيم. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم" هو البغدادي المعروف بصاعقة، وشيخه عباد بن موسى هو الختلي بضم المعجمة وتشديد المثناة الفوقانية وفتحها بعدها لام من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجة بالنسبة لإسماعيل بن جعفر فإنه أخرج الكثير عن إسماعيل بن جعفر بواسطة واحدة كقتيبة وعلي بن حجر، ونزل فيه درجتين بالنسبة لإسرائيل فإنه أخرج عنه بواسطة واحدة كعبد الله بن موسى ومحمد بن سابق. قوله: "أنا مختون" أي وقع له الختان، يقال صبي مختون ومختتن وختين بمعنى. قوله: "وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" أي حتى يبلغ الحلم، قال الإسماعيلي: لا أدري من القائل "وكانوا يختنون" أهو أبو إسحاق أو إسرائيل أو من دونه، وقد قال أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر" وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وأنا قد ناهزت الاحتلام" قال: والأحاديث عن ابن عباس في هذا مضطربة. قلت: وفي كلامه نظر، أما أولا فلأن الأصل أن الذي يثبت في الحديث معطوفا على ما قبله فهو مضاف إلى من نقل عنه الكلام السابق حتى يثبت أنه من كلام غيره. ولا يثبت الإدراج بالاحتمال. وأما ثانيا فدعوى الاضطراب مردودة مع إمكان الجمع أو الترجيح، فإن المحفوظ الصحيح أنه ولد بالشعب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير وصححه ابن عبد البر وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: "ولدت وبنو هاشم في الشعب" وهذا لا ينافي قوله: "ناهزت الاحتلام" أي قاربته ولا قوله: "وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع، وأما قوله: "وأنا ابن عشر" فمحمول على إلغاء الكسر، وروى أحمد من طريق أخرى عن ابن عباس أنه كان حينئذ ابن خمس عشرة، ويمكن رده إلى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء وولد في أثناء السنة فجبر الكسرين بأن يكون ولد مثلا في شوال فله من السنة الأولى ثلاثة.

(11/90)


أشهر فأطلق عليها سنة وقبض النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال ثلاث عشرة ألغى الكسرين ومن قال خمس عشرة جبرهما والله أعلم. قوله: "وقال ابن إدريس" هو عبد الله وأبوه هو ابن يزيد الأودي، وشيخه أبو إسحاق هو السبيعي. قوله: "قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ختين" أي مختون كقتيل ومقتول، وهذا الطريق وصله الإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس.

(11/91)


52 - باب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
6301- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ"
قوله: "باب كل لهو باطل إذا شغله" أي شغل اللاهي به "عن طاعة الله" أي كمن النهي بشيء من الأشياء مطلقا سواء كان مأذونا في فعله أو منهيا عنه كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكر في معاني القرآن مثلا حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدا فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها، وأول هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه: "كل ما يلهو به المرء المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله" الحديث. وكأنه لما لم يكن على شرط المصنف استعمله لفظ ترجمة، واستنبط من المعنى ما قيد به الحكم المذكور. وإنما أطلق على الرمي أنه لهو لإمالة الرغبات إلى تعليمه لما فيه من صورة اللهو لكن المقصود من تعلمه الإعانة على الجهاد، وتأديب الفرس إشارة إلى المسابقة عليها، وملاعبة الأهل للتأنيس ونحوه، وإنما أطلق على ما عداها البطلان من طريق المقابلة لا أن جميعها من الباطل المحرم. قوله: "ومن قال لصاحبه تعال أقامرك" أي ما يكون حكمه. قوله: "وقوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية" كذا في رواية أبي ذر والأكثر؛ وفي رواية الأصيلي وكريمة "ليضل عن سبيل الله" الآية. وذكر ابن بطال أن البخاري استنبط تقييد اللهو في الترجمة من مفهوم قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن مفهومه أنه إذا اشتراه لا ليضل لا يكون مذموما، وكذا مفهوم الترجمة أنه إذا لم يشغله اللهو عن طاعة الله لا يكون باطلا. لكن عموم هذا المفهوم يخص بالمنطوق، فكل شيء نص على تحريمه مما يلهي يكون باطلا سواء شغل أو لم يشغل، وكأنه رمز إلى ضعف ما ورد في تفسير اللهو في هذه الآية بالغناء. وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رفعه: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن" الحديث، وفيه: "وفيهن أنزل الله {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية، وسنده ضعيف. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود موقوفا أنه فسر اللهو في هذه الآية بالغناء، وفي سنده ضعف أيضا. حديث أبي هريرة وفيه: "ومن قال لصاحبه تعال أقامرك" الحديث. وأشار بذلك إلى أن القمار من جملة اللهو، ومن دعا إليه دعا إلى المعصية، فلذلك أمر بالتصدق ليكفر عنه تلك المعصية، لأن من دعا إلى معصية وقع بدعائه إليها في

(11/91)


معصية. وقال الكرماني: وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة والترجمة بالاستئذان أن الداعي إلى القمار لا ينبغي أن يؤذن له في دخول المنزل، ثم لكونه يتضمن اجتماع الناس، ومناسبة بقية حديث الباب للترجمة أن الحلف باللات لهو يشغل عن الحق بالخلق فهو باطل انتهى. ويحتمل أن يكون لما قدم ترجمة ترك السلام على من اقترف ذنبا أشار إلى ترك الإذن لمن يشتغل باللهو عن الطاعة، وقد تقدم شرح حديث الباب في تفسير سورة والنجم، قال مسلم في صحيحه. بعد أن أخرج هذا الحديث: هذا الحرف "تعال أقامرك" لا يرويه أحد إلا الزهري، وللزهري نحو تسعين حرفا لا يشاركه فيها غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد. قلت: وإنما قيد التفرد بقوله: "تعال أقامرك" لأن لبقية الحديث شاهدا من حديث سعد بن أبي وقاص يستفاد منه سبب حديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند قوي قال: "كنا حديثي عهد الجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك وتعوذ بالله ثم لا تعد" فيمكن أن يكون المراد بقوله في حديث أبي هريرة "فليقل لا إله إلا الله" إلى آخر الذكر المذكور إلى قوله: "قدير" ويحتمل الاكتفاء بلا إله إلا الله لأنها كلمة التوحيد، والزيادة المذكورة في حديث سعد تأكيد.

(11/92)


باب ماجاء في البناء
...
53 - باب مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ
6302- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَيْتُ بِيَدِي بَيْتًا يُكِنُّنِي مِنْ الْمَطَرِ وَيُظِلُّنِي مِنْ الشَّمْسِ مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ"
6303- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو "قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَلاَ غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُفْيَانُ فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ بَنَى قَالَ سُفْيَانُ قُلْتُ فَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ"
قوله: "باب ما جاء في البناء" أي من منع وإباحة. والبناء أعم من أن يكون بطين أو مدر أو بخشب أو من قصب أو من شعر. قوله: "قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان" كذا للأكثر بضم الراء وبهاء تأنيث في آخره. وفي رواية الكشميهني: "رعاء" بكسر الراء وبالهمز مع المد، وقد تقدم هذا الحديث موصولا مطولا مع شرحه في كتاب الإيمان، وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان، وفي الاستدلال بذلك نظر، وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة ابن عامر "إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا فاسق إلى أين؟" وفي سنده ضعف مع كونه موقوفا. وفي ذم البناء مطلقا حديث خباب رفعه قال: "يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب" أو قال: "البناء" أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدا عن أنس بلفظ: "إلا البناء فلا خير فيه" وللطبراني من حديث جابر رفعه: "إذا أراد الله

(11/92)


بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني" ومعنى "خضر" بمعجمتين حسن، وزنا ومعنى. وله شاهد في "الأوسط" من حديث أبي بشر الأنصاري بلفظ: "إذا أراد الله بعبد سوءا أنفق ماله في البنيان" وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا فقال: الأمر أعجل من ذلك" وصححه الترمذي وابن حبان، وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر، وقد أخرج أبو داود أيضا من حديث أنس رفعه: "أما أن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا" أي إلا ما لا بد منه، ورواته موثقون إلا الراوي عن أنس وهو أبو طلحة الأسدي فليس بمعروف، وله شاهد عن واثلة عند الطبراني. قوله: "حدثنا إسحاق هو ابن سعيد" كذا في الأصل وسعيد المذكور هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، ونسب كذلك عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق وإسحاق بن سعيد يقال له السعيدي سكن مكة. وقد روي هذا الحديث عن والده وهو المراد بقوله: "عن سعيد". قوله: "رأيتني" بضم المثناة كأنه استحضر الحالة المذكورة فصار لشدة علمه بها كأنه يرى نفسه يفعل ما ذكر. قوله: "مع النبي صلى الله عليه وسلم" أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "يكنني" بضم أوله وكسر الكاف وتشديد النون من أكن إذا وقى، وجاء بفتح أوله من كن. وقال أبو زيد الأنصاري: كننته وأكننته بمعنى أي سترته وأسررته. وقال الكسائي كننته صنته وأكننته أسررته. قوله: "ما أعانني عليه أحد من خلق الله" هو تأكيد لقوله: "بنيت بيدي" وإشارة إلى خفة مؤنته. ووقع في رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم عن إسحاق بن سعيد السعيدي بهذا السند عند الإسماعيلي وأبي نعيم في المستخرجين "بيتا من شعر"، واعترض الإسماعيلي على البخاري بهذه الزيادة فقال أدخل هذا الحديث في البناء بالطين والمدر والخبر إنما هو في بيت الشعر، وأجيب بأن راوي الزيادة ضعيف عندهم، وعلى تقدير ثبوتها فليس في الترجمة تقييد بالطين والمدر. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار. قوله: "لبنة" بفتح اللام وكسر الموحدة مثل كلمة، ويجوز كسر أوله وسكون الموحدة. قوله: "ولا غرست نخلة" قال الداودي: ليس الغرس كالبناء، لأن من غرس ونيته طلب الكفاف أو لفضل ما ينال منه ففي ذلك الفضل لا الإثم. قلت: لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه التفصيل، وليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به الأجر مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني فإنه يحصل للباني به الثواب، والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله: "فذكرته لبعض أهله" لم أقف على تسميته، والقائل هو سفيان. قوله: "قال والله لقد بنى" زاد الكشميهني في روايته: "بيتا". قوله: "قال سفيان قلت فلعله قال قبل" أي قال ما وضعت لبنة إلخ قيل أن يبنى الذي ذكرت، وهذا اعتذار حسن من سفيان راوي الحديث، ويحتمل أن يكون ابن عمر نفى أن يكون بنى بيده بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، والذي أثبته بعض أهله كان بنى بأمره فنسبه إلى فعله مجازا، ويحتمل أن يكون بناؤه بيتا من قصب أو شعر، ويحتمل أن يكون الذي نفاه ابن عمر ما زاد على حاجته، والذي أثبته بعض أهله بناء بيت لا بد له منه أو إصلاح ما وهي من بيته، قال ابن بطال: يؤخذ من جواب سفيان أن العالم إذا جاء عنه قولان مختلفان أنه ينبغي لسامعهما أن يتأولهما على وجه ينفي عنهما التناقض تنزيها له عن الكذب انتهى. ولعل سفيان فهم من قول بعض أهل ابن

(11/93)


عمر الإنكار على ما رواه له عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، فبادر سفيان إلى الانتصار لشيخه ولنفسه وسلك الأدب مع الذي خاطبه بالجمع الذي ذكره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الاستئذان من الأحاديث المرفوعة على خمسة وثمانين حديثا، المعلق منها وما في معناه اثنا عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منه فيه وفيما مضى خمسة وستون حديثا والخالص عشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث لأبي هريرة "رسول الرجل إذنه" وحديث أنس في المصافحة، وحديث ابن عمر في الاحتباء، وحديثه في البناء، وحديث ابن عباس في ختانه. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار. والله أعلم.

(11/94)


كتاب الدعوات
مدخل
...
80 - كِتَاب الدَّعَوَاتِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الدعوات" بفتح المهملتين جمع دعوة بفتح أوله وهي المسألة الواحدة، والدعاء الطلب، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله ودعوت فلانا سألته ودعوته استغثته ويطلق أيضا على رفعة القدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضا على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} والادعاء كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} وقال الراغب: الدعاء على التسمية كقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وقال الراغب: الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم والدعاء لا يكاد يتجرد. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في "شرح الأسماء الحسنى" ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه: منها العبادة "ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك" ومنها الاستغاثة "وادعوا شهداءكم"، ومنها السؤال "ادعوني أستجب لكم"، ومنها القول "دعواهم فيها سبحانك اللهم" والنداء "يوم يدعوكم"، والثناء "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن". قوله: "وقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله: "داخرين" وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض.وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي" واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية أخرجه الأربعة وصححه الترمذي والحاكم. وشذت طائفة فقالوا: المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر "الحج عرفه" أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه: "الدعاء مخ العبادة" وقد تواردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان

(11/94)


والحاكم وحديثه رفعه: "من لم يسأل الله يغضب عليه" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عنه، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبو زرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه أبو صالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه، وليس كما قال فقد جزم شيخه المزي في "الأطراف" بما قلته. ووقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي "سمعت أبا هريرة" قال الطيبي: معنى الحديث أن من لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه والله يحب أن يسأل انتهى. ويؤيده حديث ابن مسعود رفعه: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" أخرجه الترمذي، وله من حديث ابن عمر رفعه: "إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء" وفي سنده لين، وقد صححه مع ذلك الحاكم. وأخرج الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وقال الشيخ تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك "عن عبادتي" فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه. قلت: وقد دلت الآية الآتية قريبا في السورة المذكورة أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وهو قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال الطيبي: معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. وحكى القشيري في "الرسالة" الخلاف في المسألة فقال: اختلف أي الأمرين أولى: الدعاء أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة، لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار. وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل. قلت: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار، وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها، قال وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيا بلسانه راضيا بقلبه، قال: والأولى أن يقال إذا وجد في قلبه إشارة الدعاء فالدعاء أفضل وبالعكس. قلت: القول الأول أعلى المقامات أن يدعو بلسانه ويرضى بقلبه، والثاني لا يتأتى من كل أحد بل ينبغي أن يختص به الكمل. قال القشيري: ويصح أن يقال ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظ فالسكوت أفضل، وعبر ابن بطال ن هذا القول لما حكاه بقوله: يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وإن كثيرا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف. والجواب عن ذلك أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع

(11/95)


الإجابة: فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه. وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة ابن الصامت رفعه: "ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها" ولأحمد من حديث أبي هريرة "إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له" وله في حديث أبي سعيد رفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" وصححه الحاكم. وهذا شرط ثان للإجابة، ولها شروط أخرى منها أن يكون طيب المطعم والملبس لحديث: "فأنى يستجاب لذلك" وسيأتي بعد عشرين بابا من حديث أبي هريرة، ومنها ألا يكون يستعجل لحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يقل دعوت فلم يستجب لي" أخرجه مالك.

(11/96)


1 - باب لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
6304- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ"
[الحديث 6304- طرفه في: 7474]
6305- وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ قَالَ مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا أَوْ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب لكل نبي دعوة مستجابة" كذا لأبي ذر وسقط لفظ: "باب" لغيره فصار من جملة الترجمة الأولى. ومناسبتها للآية الإشارة إلى أن بعض الدعاء لا يستجاب عينا. قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "مستجابة" كذا لأبي ذر ولم أرها عند الباقين ولا في شيء من نسخ الموطأ. قوله: "يدعو بها" زاد في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة "فيعجل كل نبي دعوته" وفي حديث أنس ثاني حديثي الباب: "فاستجيب له". قوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة الآتية في التوحيد "فأريد إن شاء الله أن أختبئ" وزيادة "إن شاء الله" في هذا للتبرك. ولمسلم: من رواية أبي صالح عن أبي هريرة "وإني اختبأت" وفي حديث أنس "فجعلت دعوتي" وزاد: "يوم القيامة" وزاد أبو صالح "فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" وقوله: "من مات" في محل نصب على المفعولية و "لا يشرك بالله" في محل نصب على الحال، والتقدير شفاعتي نائلة من مات غير مشرك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل ورجا وقوع ذلك فأعلمه الله به فجزم به، وسيأتي تتمة الكلام على الشفاعة وأنواعها في أول كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة. وقيل معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها

(11/96)


ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب، وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح "لا تذر على الأرض" وقول زكريا "فهب لي من لدنك وليا يرثني" وقول سليمان "وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" حكاه ابن التين. وقال بعض شراح "المصابيح" ما لفظه: اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة. وتعقبه الطيبي1 بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب ودعا على أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ودعا على مضر، قال: والأولى أن يقال إن الله جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا، وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فبقي تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا. وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح "سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة" الحديث: قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم. وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين. وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم. وأما قوله: "فهي نائلة" ففيه دليل لأهل السنة أن من مات غير مشرك لا يخلد في النار، ولو مات مصرا على الكبائر. قوله: "وقال معتمر" هو ابن سليمان التيمي، كذا للأكثر وبه جزم الإسماعيلي والحميدي، لكن عند الأصيلي وكريمة في أوله "قال لي خليفة حدثنا معتمر" فعلى هذا هو متصل، وقد وصله أيضا مسلم عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر. قوله: "لكل نبي سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة" هكذا وقع بالشك، ولم يسق مسلم لفظه بل أحال به على طريق قتادة عن أنس، وقد أخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من طريق محمد بن عبد الأعلى به، ومن طريق الحسن بن الربيع ومسدد وغيرهما عن معتمر بالشك، ولفظه: "كل نبي قد سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة قد دعا بها" الحديث ولفظ قتادة عند مسلم: "لكل نبي دعوة لأمته" فذكره ولم يشك.

(11/97)


2 - باب أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
6306- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ "قَالَ حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يقُولَ اللَّهُمَّ

(11/97)


أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
[الحديث 6306- طرفه في 6323]
قوله: "باب أفضل الاستغفار" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر. ووقع في شرح ابن بطال بلفظ: "فضل الاستغفار" وكأنه لما رأى الآيتين في أول الترجمة وهما دالتان على الحث على الاستغفار ظن أن الترجمة لبيان فضيلة الاستغفار، ولكن حديث الباب يؤيد ما وقع عند الأكثر، وكأن المصنف أراد إثبات مشروعية الحث على الاستغفار بذكر الآيتين. ثم بين بالحديث أولى ما يستعمل من ألفاظه، وترجم بالأفضلية. ووقع الحديث بلفظ السيادة وكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية ومعناها الأكثر نفعا لمستعمله، ومن أوضح ما وقع في فضل الاستغفار ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث يسار وغيره مرفوعا: "من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف" قال أبو نعيم الأصبهاني: هذا يدل على أن بعض الكبائر تغفر ببعض العمل الصالح، وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكما في نفس ولا مال، ووجه الدلالة منه أنه مثل بالفرار من الزحف وهو من الكبائر، فدل على أن ما كان مثله أو دونه يغفر إذا كان مثل الفرار من الزحف، فإنه لا يوجب على مرتكبه حكما في نفس ولا مال. قوله: "وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً الآية } كذا رأيت في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وسقطت الواو من رواية غيره وهو الصواب. فإن التلاوة {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} وساق غير أبي ذر الآية إلى قوله تعالى: {أنهارا} وكأن المصنف لمح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن البصري: إن رجلا شكى إليه الجدب فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر جفاف بستانه فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر عدم الولد فقال استغفر الله، ثم تلا عليهم هذه الآية. وفي الآية حث على الاستغفار وإشارة إلى وقوع المغفرة لمن استغفر وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من جود كفيك ما علمتني الطلبا
قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} واختلف في معنى قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ} فقيل إن قوله: {فَاسْتَغْفَرُوا} تفسير للمراد بالذكر، وقيل هو على حذف تقديره ذكروا عقاب الله، والمعنى تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم فاستغفروا لذنوبهم أي لأجل ذنوبهم وقد ورد في حديث حسن صفة الاستغفار المشار إليه في الآية أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب قال: "حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهما وصدق أبو بكر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له" ثم تلا: {وَالَّذِينَ إِذَا

(11/98)


فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية. وقوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. وورد في فضل الاستغفار والحث عليه آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منها حديث أبي سعيد رفعه: "قال إبليس: يا رب لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله تعالى: وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" أخرجه أحمد، وحديث أبي بكر الصديق رفعه: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" أخرجه أبو داود والترمذي وذكر السبعين للمبالغة، وإلا ففي حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد مرفوعا: "أن عبدا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفر لي فغفر له" الحديث وفي آخره: "علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، اعمل ما شئت فقد غفرت لك". قوله: "حدثنا الحسين" هو ابن ذكوان المعلم، ووقع عند النسائي من رواية غندر حدثنا الحسين المعلم، وكذا عند الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن حسين المعلم.قوله: "حدثنا عبد الله بن بريدة" أي ابن الحصيب الأسلمي. قوله: "حدثنا بشير" بالموحدة ثم المعجمة مصغر، وقد تابع حسينا على ذلك ثابت البناني وأبو العوام عن بريدة ولكنهما لم يذكرا بشير بن كعب بل قالا عن ابن بريدة عن شداد أخرجه النسائي، وخالفهم الوليد بن ثعلبة فقال: عن ابن بريدة عن أبيه أخرجه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم لكن لم يقع في رواية الوليد أول الحديث، قال النسائي حسين المعلم أثبت من الوليد بن ثعلبة وأعلم بعبد الله بن بريدة وحديثه أولى بالصواب. قلت: كأن الوليد سلك الجادة، لأن جل رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه، وكأن من صححه جوز أن يكون عن عبد الله بن بريدة على الوجهين، والله أعلم. قوله: "حدثني شداد بن أوس" أي ابن ثابت بن المنذر بن حرام بمهملتين الأنصاري ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر، وشداد صحابي جليل نزل الشام وكنيته أبو يعلى. واختلف في صحبة أبيه وليس لشداد في البخاري إلا هذا الحديث الواحد. قوله: "سيد الاستغفار" قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور. قوله: "أن يقول" أي العبد، وثبت في رواية أحمد والنسائي: "إن سيد الاستغفار أن يقول العبد" وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد "ألا أدلك على سيد الاستغفار" وفي حديث جابر عند النسائي: "تعلموا سيد الاستغفار". قوله: "لا إله إلا أنت خلقتني" كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت، وسقطت الثانية من معظم الروايات، ووقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة "من قال حين يصبح: اللهم لك الحمد لا إله إلا أنت" والباقي نحو حديث شداد وزاد فيه: "آمنت لك مخلصا لك ديني".قوله: "وأنا عبدك" قال الطيبي: يجوز أن تكون مؤكدة، ويجوز أن تكون مقدرة، أي أنا عابد لك، ويؤيده عطف قوله: "وأنا على عهدك". قوله: "وأنا على عهدك" سقطت الواو في رواية النسائي، قال الخطابي: يريد أنا على ما عهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك. ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إلى من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر. واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. وقال ابن بطال: قوله: "وأنا على عهدك ووعدك" يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية. وبالوعد ما قال على لسان نبيه

(11/99)


"أن من مات لا يشرك بالله شيئا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة" . قلت: وقوله وأدى ما افترض علي زيادة ليست بشرط في هذا المقام لأنه جعل المراد بالعهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة. قال وفي قوله: "ما استطعت" إعلام لأمته أن أحدا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله. ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم، فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة، كذا قال: والتفريق بين العهد والوعد أوضح. قوله: "أبوء لك بنعمتك علي" سقط لفظ لك من رواية النسائي، وأبوء بالموحدة والهمز ممدود معناه أعترف. ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد "وأعترف بذنوبي" وأصله البواء ومعناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به. قوله: "وأبوء لك بذنبي" أي أعترف أيضا، وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني. وقال الطيبي: اعترف أولا بأنه أنعم عليه، ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها، ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: "أبوء لك بذنبي" أعترف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه، لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا. قوله: "فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل وفيه: "العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه". قوله: "من قالها موقنا بها" أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها. وقال الداودي يحتمل أن يكون هذا من قوله إن الحسنات يذهبن السيئات ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وغيره، لأنه بشر بالثواب ثم بشر بأفضل منه فثبت الأول وما زيد عليه، وليس يبشر بالشيء ثم يبشر بأقل منه مع ارتفاع الأول، ويحتمل أن يكون ذلك ناسخا وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء. كذا حكاه ابن التين عنه، وبعضه يحتاج إلى تأمل. قوله: "ومن قالها من النهار" في رواية النسائي: "فإن قالها حين يصبح" وفي رواية عثمان بن ربيعة "لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح، أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي". قوله: "فهو من أهل الجنة" في رواية النسائي: "دخل الجنة" وفي رواية عثمان بن ربيعة "إلا وجبت له الجنة" قال ابن أبي جمرة: جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى. وهذا القدر الذي يكني عنه بالحقيقة. فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل أو العفو بمقتضى الفضل، انتهى ملخصا. أيضا: من شروط الاستغفار صحة النية، والتوجه والأدب، فلو أن أحدا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان؟ فالجواب أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة، والله أعلم

(11/100)


3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
6307- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لاَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"
قوله: "باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم" أي وقوع الاستغفار منه.أو التقدير مقدار استغفاره في كل يوم، ولا يحمل على الكيفية لتقدم بيان الأفضل وهو لا يترك الأفضل.قوله: "قال: قال أبو هريرة" في رواية يونس بن يزيد عن الزهري "أخبرني أبو سلمة أنه سمع أبا هريرة" أخرجه النسائي. قوله: "والله إني لأستغفر الله" فيه القسم على الشيء تأكيدا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك. قوله: "لأستغفر الله وأتوب إليه" ظاهره أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة" ويحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة" وله من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة" . قوله: "أكثر من سبعين مرة" وقع في حديث أنس "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة"، فيحتمل أن يريد المبالغة ويحتمل أن يريد العدد بعينه. وقوله: "أكثر" مبهم فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة. وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة من رواية معمر عن الزهري بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" لكن خالف أصحاب الزهري في ذلك. نعم أخرج النسائي أيضا من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة" وأخرج النسائي أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" وله في حديث الأغر المزني رفعه مثله، وهو عنده وعند مسلم بلفظ: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة" قال عياض: المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر ما عد ذلك ذنبا فاستغفر عنه. وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى قلبه والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه، وقيل هي حالة خشية وإعظام والاستغفار شكرها، ومن ثم قال المحاسبي: خوف المتقربين خوف إجلال وإعظام.وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لا يعتقد أن الغين في حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال. ثم مثل ذلك بجفن العين حين يسبل ليدفع القذى عن العين مثلا فإنه يمنع العين من الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال. هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال: فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك انتهى. وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية. وأجيب بعدة أجوبة: منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر. كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا. ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة,

(11/101)


فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير انتهى. ومحصل جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى، ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة، أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلى وهو الحضور في حظيرة القدس. ومنها أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب الأمة فهو كالشفاعة لهم. وقال الغزالي في "الإحياء" كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك. وقال الشيخ السهروردي: لما كان روح النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب يستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس فكانت خطأ النفس تقصر عن مداهما في العروج، فاقتضت الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تنقطع علاقة النفس عنه فيبقى العباد محرومين، فكان صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الاستغفار لقصور النفس عن شأو ترقي القلب، والله أعلم.

(11/102)


4 - باب التَّوْبَةِ
قَالَ قَتَادَةُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا الصَّادِقَةُ: النَّاصِحَةُ
6308- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ ثُمَّ قَالَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ" تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَجَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ سَمِعْتُ الْحَارِثَ وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبُو مُسْلِمٍ اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ كُوفِيٌّ قَائِدُ الأَعْمَشِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ"
6309- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا هُدْبَةُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ"
قوله: "باب التوبة" أشار المصنف بإيراد هذين البابين -وهما الاستغفار ثم التوبة- في أوائل كتاب الدعاء إلى أن الإجابة تسرع إلى من لم يكن متلبسا بالمعصية، فإذا قدم التوبة والاستغفار قبل الدعاء كان أمكن لإجابته.

(11/102)


وما ألطف قول ابن الجوزي، إذ سئل أأسبح أو أستغفر؟ فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور. والاستغفار استفعال من الغفران وأصله الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه، وتدنيس كل شيء يحسبه والغفران من الله للعبد أن يصونه عن العذاب، والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه.وفي الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، ورد المظلمة إن كانت أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ ضروب الاعتذار، لأن المعتذر إما أن يقول لا أفعل فلا يقع الموقع عند من اعتذر له لقيام احتمال أنه فعل، لا سيما إن ثبت ذلك عنده عنه، أو يقول فعلت لأجل كذا ويذكر شيئا يقيم عذره وهو فوق الأول، أو يقول فعلت ولكن أسأت وقد أقلعت وهذا أعلاه انتهى من كلام الراغب ملخصا.وقال: القرطبي في "المفهم": اختلفت عبارات المشايخ فيها، فقائل يقول إنها الندم، وآخر يقول إنها العزم على أن لا يعود، وآخر يقول الإقلاع عن الذنب، ومنهم من يجمع بين الأمور الثلاثة وهو أكملها غير أنه مع ما فيه غير مانع ولا جامع. أما أولا فلأنه قد يجمع الثلاثة ولا يكون تائبا شرعا، إذ قد يفعل ذلك شحا على ماله أو لئلا يعيره الناس به؛ ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالإخلاص، ومن ترك الذنب لغير الله لا يكون تائبا اتفاقا. وأما ثانيا فلأنه يخرج منه من زنى مثلا ثم جب ذكره فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى، وأما العزم على عدم العود فلا يتصور منه، قال: وبهذا اغتر من قال إن الندم يكفي في حد التوبة، وليس كما قال لأنه لو ندم ولم يقلع وعزم على العود لم يكن تائبا اتفاقا، قال: وقال بعض المحققين هي اختيار ترك ذنب سبق حقيقة أو تقديرا لأجل الله، قال: وهذا أسد العبارات وأجمعها، لأن التائب لا يكون تاركا للذنب الذي فرغ لأنه غير متمكن من عينه لا تركا ولا فعلا، وإنما هو متمكن من مثله حقيقة، وكذا من لم يقع منه ذنب إنما يصح منه اتقاء ما يمكن أن يقع لا ترك مثل ما وقع فيكون متقيا لا تائبا، قال: والباعث على هذا تنبيه إلهي لمن أراد سعادته لقبح الذنب وضرره، لأنه سم مهلك يفوت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا وعن تقريبه في الآخرة. قال: ومن تفقد نفسه وجدها مشحونة بهذا السم، فإذا وفق انبعث منه خوف هجوم الهلاك عليه فيبادر بطلب ما يدفع به عن نفسه ضرر ذلك، فحينئذ ينبعث منه الندم على ما سبق والعزم على ترك العود عليه، قال: ثم اعلم أن التوبة إما من الكفر وإما من الذنب، فتوبة الكافر مقبولة قطعا، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق، ومعنى القبول الخلاص من ضرر الذنوب حتى يرجع كمن لم يعمل. ثم توبة العاصي إما من حق الله وإما من حق غيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك فقط بل أضاف إليه القضاء أو الكفارة، وحق غير الله يحتاج إلى إيصالها لمستحقها وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعات ويبدل السيئات حسنات، والله أعلم. قلت: حكى غيره عن عبد الله بن المبارك في شروط التوبة زيادة فقال: الندم، والعزم على عدم العود؛ ورد المظلمة، وأداء ما ضيع من الفرائض، وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيب، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية. قلت: وبعض هذه الأشياء مكملات. وقد تمسك من فسر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث ابن مسعود رفعه: "الندم توبة" ولا حجة فيه لأن المعنى الحض عليه وأنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه التوبة نفسها، وما يؤيد

(11/103)


اشتراط كونها لله تعالى وجود الندم على الفعل ولا يستلزم الإقلاع عن أصل تلك المعصية، كمن قتل ولده مثلا وندم لكونه ولده، وكمن بذل مالا في معصية ثم ندم على نقص ذلك المال مما عنده. واحتج من شرط في صحة التوبة من حقوق العباد أن يرد تلك المظلمة بأن من غصب أمة فزنى بها لا تصح توبته إلا بردها لمالكها، وأن من قتل نفسا عمدا لا تصح توبته إلا بتمكين نفسه من ولي الدم ليقتص أو يعفو. قلت: وهذا من جهة التوبة من الغصب ومن حق المقتول واضح، ولكن يمكن أن تصح التوبة من العود إلى الزنا وإن استمرت الأمة في يده، ومن العود إلى القتل وإن لم يمكن من نفسه. وزاد بعض من أدركناه في شروط التوبة أمورا أخرى: منها أن يفارق موضع المعصية، وأن لا يصل في آخر عمره إلى الغرغرة، وأن لا تطلع الشمس من مغربها، وأن لا يعود إلى ذلك الذنب، فإن عاد إليه بان أن توبته باطلة. قلت: والأول مستحب، والثاني والثالث داخلان في حد التكليف والرابع الأخير عزى للقاضي أبي بكر الباقلاني. ويرده الحديث الآتي بعد عشرين بابا وقد أشرت إليه في "باب فضل الاستغفار" وقد قال الحليمي في تفسير التواب في الأسماء الحسنى: أنه العائد على عبده بفضل رحمته، كلما رجع لطاعته وندم على معصيته فلا يحبط عنه ما قدمه من خير ولا يحرمه ما وعد به الطائع من الإحسان. وقال الخطابي: التواب الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذنب وتاب. قوله: "وقال قتادة توبة نصوحا: الصادقة الناصحة" وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عن قتادة مثله، وقيل سميت ناصحة لأن العبد ينصح نفسه فيها، فذكرت بلفظ المبالغة. وقرأ عاصم "نصوحا" بضم النون أي ذات نصح. وقال الراغب: النصح تحرى قول أو فعل فيه صلاح، تقول: نصحت لك الود أي أخلصته، ونصحت الجلد أي خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، فيحتمل أن يكون قوله: "توبة نصوحا" مأخوذا من الإخلاص أو من الإحكام، وحكى القرطبي المفسر أنه اجتمع له من أقوال العلماء في تفسير التوبة النصوح ثلاثة وعشرون قولا: الأول قول عمر "أن يذنب الذنب ثم لا يرجع" وفي لفظ "ثم لا يعود فيه" أخرجه الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود مثله، وأخرجه أحمد مرفوعا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أن يندم إذا أذنب فيستغفر ثم لا يعود إليه" وسنده ضعيف جدا. الثاني: أن يبغض الذنب ويستغفر منه كلما ذكره، أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري. الثالث قول قتادة المذكور قبل. الرابع أن يخلص فيها. الخامس أن يصير من عدم قبولها على وجل. السادس أن لا يحتاج معها إلى توبة أخرى. السابع أن يشتمل على خوف ورجاء ويدمن الطاعة. الثامن مثله وزاد: وأن يهاجر من أعانه عليه. التاسع أن يكون ذنبه بين عينيه. العاشر أن يكون وجها بلا قفا كما كان في المعصية قفا بلا وجه. ثم سرد بقية الأقوال من كلام الصوفية بعبارات مختلفة ومعان مجتمعة ترجع إلى ما تقدم، وجميع ذلك من المكملات لا من شرائط الصحة، والله أعلم. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب إلى جده واشتهر بذلك، وأبو شهاب شيخه اسمه عبد ربه بن نافع الحناط بالمهملة والنون وهو أبو شهاب الحناط الصغير، وأما أبو شهاب الحناط الكبير فهو في طبقة شيوخ هذا واسمه موسى بن نافع، وليسا أخوين وهما كوفيان، وكذا بقية رجال هذا السند. قوله: "عن عمارة بن عمير" فذكر المصنف تصريح الأعمش بالتحديث وتصريح شيخه عمارة. وفي رواية أبي أسامة المعلقة بعد هذا، وعمارة تيمي من بني تيم اللات ابن ثعلبة كوفي من طبقة الأعمش، وشيخه الحارث ابن سويد تيمي أيضا، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق

(11/104)


أولهم الأعمش وهو من صغار التابعين، وعمارة من أوساطهم، والحارث من كبارهم. قوله: "حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه قال إن المؤمن" فذكره إلى قوله: "فوق أنفه" ثم قال: "لله أفرح بتوبة عبده" هكذا وقع في هذه الرواية غير مصرح برفع أحد الحديثين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: قالوا المرفوع "لله أفرح إلخ" والأول قول ابن مسعود، وكذا جزم ابن بطال بأن الأول هو الموقوف والثاني هو المرفوع وهو كذلك، ولم يقف ابن التين على تحقيق ذلك فقال: أحد الحديثين عن ابن مسعود والآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزد في الشرح على الأصل شيئا، وأغرب الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في مختصره فأفرد أحد الحديثين من الأخر وعبر في كل منهما بقوله: "عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم" وليس ذلك في شيء من نسخ البخاري، ولا التصريح برفع الحديث الأول إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من نسخ كتب الحديث إلا ما قرأت في شرح مغلطاي أنه روى مرفوعا من طريق وهاها أبو أحمد الجرجاني يعني ابن عدي، وقد وقع بيان ذلك في الرواية المعلقة، وكذا وقع البيان في رواية مسلم مع كونه لم يسق حديث ابن مسعود الموقوف ولفظه من طريق جرير عن الأعمش عن عمارة عن الحارث قال: "دخلت على ابن مسعود أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين: حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لله أشد فرحا" الحديث. قوله: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه" قال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب المؤمن منور، فإذا رأي من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة. وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح ويخشى من صغير عمله السيئ. قوله: "وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب" في رواية أبي الربيع الزهراني عن أبي شهاب عند الإسماعيلي: "يرى ذنوبه كأنها ذباب مر على أنفه" أي ذنبه سهل عنده لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه. والذباب بضم المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف جمع ذبابة وهي الطير المعروف. قوله: "فقال به هكذا" أي نحاه بيده أو دفعه، هو من إطلاق القول على الفعل قالوا وهو أبلغ. قوله: "قال أبو شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "بيده على أنفه" هو تفسير منه لقوله: "فقال به" قال المحب الطبري: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية. وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول هذا سهل، قال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه وخفته عليه يدل على فجوره، قال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره؛ وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء، قال: وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده. لأن الذباب قلما ينزل على الأنف وإنما يقصد غالبا العين، قال: وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضا لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره، قال: وفي الحديث ضرب المثل بما يمكن، وإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان، وفيه أن الفجور أمر قلبي كالإيمان، وفيه دليل لأهل السنة لأنهم لا يكفرون بالذنوب، ورد على الخوارج وغيرهم ممن يكفر بالذنوب.

(11/105)


وقال ابن بطال: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا، لأن الله تعالى قد يعذب على القليل فإنه لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى. قوله: "ثم قال: لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا" في رواية أبي الربيع المذكورة "بتوبة عبده المؤمن" وعند مسلم من رواية جرير، ومن رواية أبي أسامة "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن" وكذا عنده من حديث أبي هريرة، وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه، قال الخطابي: معنى الحديث أن الله أرضى بالتوبة وأقبل لها، والفرح الذي يتعارفه الناس بينهم غير جائز على الله، وهو كقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي راضون. وقال ابن فورك: الفرح في اللغة السرور. ويطلق على البطر، ومنه "إن الله لا يحب الفرحين" وعلى الرضا، فإن كل من يسر بشيء ويرضى به يقال في حقه فرح به. قال ابن العربي: كل صفة تقتضي التغير لا يجوز أن يوصف الله بحقيقتها، فإن ورد شيء من ذلك حمل على معنى يليق به، وقد يعبر عن الشيء بسببه أو ثمرته الحاصلة عنه، فإن من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل وبذل له ما طلب، فعبر عن عطاء الباري وواسع كرمه بالفرح. وقال ابن أبي جمرة: كنى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه. وقال القرطبي في "المفهم": هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب، وأنه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله، ووجه هذا المثل أن العاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره وقد أشرف على الهلاك، فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية وتخلص من أسر الشيطان ومن المهلكة التي أشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته، وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى لأنه اهتزاز وطرب يجده الشخص من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه ويسد به خلته، أو يدفع به عن نفسه ضررا أو نقصا، وكل ذلك محال على الله تعالى فإنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور، لكن هذا الفرح له عندنا ثمرة وفائدة وهو الإقبال على الشيء المفروح به وإحلاله المحل الأعلى، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى، فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب، وهذا القانون جار في جميع ما أطلقه الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به، وكذا ما ثبت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وبه مهلكة" كذا في الروايات التي وقفت عليها من صحيح البخاري بواو مفتوحة ثم موحدة خفيفة مكسورة ثم هاء ضمير، ووقع عند الإسماعيلي في رواية أبي الربيع عن أبي شهاب بسند البخاري فيه: "بدوية" بموحدة مكسورة ودال مفتوحة ثم واو ثقيلة مكسورة ثم تحتانية مفتوحة ثم هاء تأنيث، وكذا في جميع الروايات خارج البخاري عند مسلم وأصحاب السنن والمسانيد وغيرهم. وفي رواية لمسلم: "في أرض دوية مهلكة" وحكى الكرماني أنه وقع في نسخة من البخاري "وبيئة" وزن فعيلة من الوباء ولم أقف أنا على ذلك في كلام غيره، ويلزم عليه أن يكون وصف المذكر وهو المنزل بصفة المؤنث في قوله: "وبيئة مهلكة" وهو جائز على إرادة البقعة، والدوية هي القفر والمفازة، وهي الداوية بإشباع الدال، ووقع كذلك في رواية لمسلم وجمعها داوي قال الشاعر "أروع خراج من الداوي". قوله: "مهلكة" بفتح الميم واللام بينهما هاء ساكنة يهلك من حصل بها، وفي بعض النسخ بضم الميم وكسر اللام من الرباعي أي تهلك هي من يحصل بها. قوله: "عليها طعامه وشرابه" زاد أبو معاوية عن الأعمش "وما يصلحه" أخرجه الترمذي وغيره. قوله: "وقد ذهبت

(11/106)


راحلته" في رواية أبي معاوية "فأضلها فخرج في طلبها" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "فطلبها". قوله: "حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله" شك من أبي شهاب، واقتصر جرير على ذكر العطش، ووقع في رواية أبي معاوية "حتى إذا أدركه الموت".قوله: "قال أرجع" بهمزة قطع بلفظ المتكلم.قوله: "إلى مكاني فرجع فنام" في رواية جرير "أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت" وفي رواية أبي معاوية "أرجع إلى مكاني الذي أضللنها فيه فأموت فيه، فرجع إلى مكانه فغلبته عينه". قوله: "فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده" في رواية جرير "فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده طعامه وشرابه" وزاد أبو معاوية في روايته: "وما يصلحه". قوله: "تابعه أبو عوانة" هو الوضاح، وجرير هو ابن عبد الحميد "عن الأعمش" فأما متابعة أبي عوانة فوصلها الإسماعيلي من طريق يحيى بن حماد عنه، وأما متابعة جرير فوصلها مسلم وقد ذكرت اختلاف لفظها. قوله: "وقال أبو أسامة" هو حماد بن أسامة "حدثنا الأعمش حدثنا عمارة حدثنا الحارث" يعني عن ابن مسعود بالحديثين، ومراده أن هؤلاء الثلاثة وافقوا أبا شهاب في إسناد هذا الحديث، إلا أن الأولين عنعناه، وصرح فيه أبو أسامة، ورواية أبي أسامة وصلها مسلم أيضا وقال مثل حديث جرير.قوله: "وقال شعبة وأبو مسلم" زاد المستملي في روايته عن الفربري "اسمه عبيد الله" أي بالتصغير كوفي قائد الأعمش. قلت: واسم أبيه سعيد بن مسلم كوفي ضعفه جماعة، لكن لما وافقه شعبة ترخص البخاري في ذكره، وقد ذكره في تاريخه وقال: في حديثه نظر وقال العقيلي: يكتب حديثه وينظر فيه، ومراده أن شعبة وأبا مسلم خالفا أبا شهاب ومن تبعه في تسمية شيخ الأعمش فقال الأولون عمارة. وقال هذان إبراهيم التيمي، وقد ذكر الإسماعيلي أن محمد بن فضيل وشجاع بن الوليد وقطبة بن عبد العزيز وافقوا أبا شهاب على قوله عمارة عن الحارث، ثم ساق رواياتهم، وطريق قطبة عند مسلم أيضا. قوله: "وقال أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمارة عن الأسود عن عبد الله وعن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله" يعني أن أبا معاوية خالف الجميع فجعل الحديث عند الأعمش عن عمارة بن عمير وإبراهيم التيمي جميعا، لكنه عند عمارة عن الأسود وهو ابن يزيد النخعي، وعند إبراهيم التيمي عن الحارث ابن سويد، وأبو شهاب ومن تبعه جعلوه عند عمارة عن الحارث بن سويد، ورواية أبي معاوية لم أقف عليها في شيء من السنن والمسانيد على هذين الوجهين، فقد أخرجه الترمذي عن هناد بن السري والنسائي عن محمد بن عبيد والإسماعيلي من طريق أبي همام ومن طريق أبي كريب ومن طريق محمد بن طريف كلهم عن أبي معاوية كما قال أبو شهاب ومن تبعه، وأخرجه النسائي عن أحمد بن حرب الموصلي عن أبي معاوية فجمع بين الأسود والحارث بن سويد. وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي كريب، ولم أره من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، وإنما وجدته عند النسائي من رواية علي بن مسهر عن الأعمش كذلك، وفي الجملة فقد اختلف فيه على عمارة في شيخه هل هو الحارث بن سويد أو الأسود، وتبين مما ذكرته أنه عنده عنهما جميعا، واختلف على الأعمش في شيخه هل هو عمارة أو إبراهيم التيمي، وتبين أيضا أنه عنده عنهما جميعا، والراجح من الاختلاف كله ما قال أبو شهاب ومن تبعه، ولذلك اقتصر عليه مسلم، وصدر به البخاري كلامه فأخرجه موصولا، وذكر الاختلاف معلقا كعادته في الإشارة إلى أن مثل هذا الخلاف ليس بقادح، والله أعلم. "تنبيه": ذكر مسلم من حديث البراء لهذا الحديث المرفوع سببا وأوله "كيف تقولون في رجل انفلتت منه راحلته بأرض

(11/107)


قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه" فذكر معناه. وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مختصرا "ذكروا الفرح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل يجد ضالته فقال: لله أشد فرحا" الحديث. قوله: "حدثني إسحاق" قال أبو علي الجياني: يحتمل أن يكون ابن منصور، فإن مسلما أخرج عن إسحاق ابن منصور عن حبان بن هلال حديثا غير هذا. قلت: وتقدم في البيوع في "باب البيعان بالخيار" في رواية أبي علي بن شبوية "حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا حبان بن هلال" فذكر حديثا غير هذا، وهذا مما يقوى ظن أبي علي، والله أعلم. وحبان بفتح المهملة ثم الموحدة الثقيلة، وهمام هو ابن يحيى، وقد نزل البخاري في حديثه في السند الأول ثم علاه بدرجة في السند الثاني، والسبب في ذلك أنه وقع في السند النازل تصرخ قتادة بتحديث أنس له، ووقع في السند العالي بالعنعنة. قوله: "سقط على بعيره" أي صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به، ومنه قولهم "على الخبير سقطت" وحكى الكرماني أن في رواية: "سقط إلى بعيره" أي انتهى إليه والأول أولى. قوله: "وقد أضله" أي ذهب منه بغير قصده، قال ابن السكيت: أضللت بعيري أي ذهب مني، وضللت بعيري أي لم أعرف موضعه. قوله: "بفلاة" أي مفازة. إلى هنا انتهت رواية قتادة: وزاد إسحاق بن أبي طلحة عن أنس فيه عند مسلم: "فانفلت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، فبينا هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح" قال عياض: فيه أن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به، وكذا حكايته عنه على طريق علمي وفائدة شرعية لا على الهزل والمحاكاة والعبث، ويدل على ذلك حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولو كان منكرا ما حكاه والله أعلم. قال ابن أبي حمزة: وفي حديث ابن مسعود من الفوائد جواز سفر المرء وحده لأنه لا يضرب الشارع المثل إلا بما يجوز، ويحمل حديث النهي على الكراهة جمعا، ويظهر من هذا الحديث حكمة النهي. قلت: والحصر الأول مردود، وهذه القصة تؤكد النهي. قال: وفيه تسمية المفازة التي ليس فيها ما يؤكل ولا يشرب مهلكة. وفيه أن من ركن إلى ما سوى الله يقطع به أحوج ما يكون إليه، لأن الرجل ما نام في الفلاة وحده إلا ركونا إلى ما معه من الزاد، فلما اعتمد على ذلك خانه، لولا أن الله لطف به وأعاد عليه ضالته قال بعضهم:
من سره أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
قال: وفيه أن فرح البشر وغمهم إنما هو على ما جرى به أثر الحكمة من العوائد، يؤخذ من ذلك أن حزن المذكور إنما كان على ذهاب راحلته لخوف الموت من أجل فقد زاده، وفرحه بها إنما كان من أجل وجدانه ما فقد مما تنسب الحياة إليه في العادة، وفيه بركة الاستسلام لأمر الله، لأن المذكور لما أيس من وجدان راحلته استسلم للموت فمن الله عليه برد ضالته. وفيه ضرب المثل بما يصل إلى الأفهام من الأمور المحسوسة، والإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان.

(11/108)


5 - باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
6310- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ

(11/108)


عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَجِيءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ"
قوله: "باب الضجع على الشق الأيمن" الضجع بفتح أوله وسكون الجيم مصدر؛ يقال ضجع الرجل يضجع ضجعا وضجوعا فهو ضاجع والمعنى وضع جنبه بالأرض. وفي رواية باب الضجعة وهو بكسر أوله لأن المراد الهيئة ويجوز الفتح أي المرة.حديث عائشة في اضطجاعه صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر، وقد مضى شرحه في كتاب الصلاة، وترجم له "باب الضجع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر" قال ابن التين: أصل اضطجع اضتجع بمثناة فأبدلوها طاء، ومنهم من أبقاها ولم يدغموا الضاد فيها، وحكى المازني الضجع بلام ساكنة قبل الضاد كراهة للجمع بين الضاد والطاء في النطق لثقله فجعل بدلها اللام.وذكر المصنف هذا الباب والذي بعده توطئة لما يذكر بعدهما من القول عند النوم.

(11/109)


6 - باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا
6311- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ مَنْصُورًا عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ "حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ وَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ فَقُلْتُ أَسْتَذْكِرُهُنَّ وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ قَالَ لاَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"
قوله: "باب إذا بات طاهرا" زاد أبو ذر في روايته: "وفضله" وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث ليست على شرطه، منها حديث معاذ رفعه: "ما من مسلم يبيت على ذكر وطهارة فيتعار من الليل فيسأل الله خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة نحوه وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر رفعه: "من بات طاهرا بات في شعاره ملك فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان" وأخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس نحوه بسند جيد. قوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي، ومنصور هو ابن المعتمر.قوله: "عن سعد بن عبيدة" كذا قال الأكثر، وخالفهم إبراهيم بن طهمان فقال: "عن منصور عن الحكم عن سعد بن عبيدة" زاد في الإسناد الحكم أخرجه النسائي، وقد سأل ابن أبي حاتم عنه أباه فقال: هذا خطأ ليس فيه الحكم. قلت: فهو من المزيد في متصل الأسانيد. قوله: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا لأبي ذر وأبي زيد المروزي، وسقط لفظ: "لي" من رواية الباقين. وفي رواية أبي إسحاق في الباب الذي يليه "أمر رجلا" وفي أخرى له "أوصى رجلا" وفي رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق الآتية كتاب التوحيد عن البراء "قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فلان إذا أويت إلى فراشك" الحديث

(11/109)


وأخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ألا أعلمك كلمات تقول إذ أويت إلى فراشك" . قوله: "إذا أتيت مضجعك" أي إذا أردت أن تضطجع، ووقع صريحا كذلك في رواية أبي إسحاق المذكورة، ووقع في رواية فطر بن خليفة عن سعد بن عبيدة عند أبي داود والنسائي: "إذا أويت إلى فراشك وأنت طاهر فتوسد يمينك" الحديث نحو حديث الباب وسنده جيد، ولكن ثبت ذلك في أثناء حديث آخر سأشير إليه في شرح حديث حذيفة الأتي في الباب بعده، وللنسائي من طريق الربيع بن البراء بن عازب قال قال البراء فذكر الحديث بلفظ: "من تكلم بهؤلاء الكلمات حين يأخذ جنبه من مضجعه بعد صلاة العشاء" فذكر نحو حديث الباب. قوله: "فتوضأ وضوءك للصلاة" الأمر فيه للندب.وله فوائد: منها أن يبيت على طهارة لئلا يبغته الموت فيكون على هيئة كاملة، ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب لأنه أولى من طهارة البدن. وقد أخرج عبد الرزاق من طريق مجاهد قال: "قال لي ابن عباس: لا تبيتن إلا على وضوء، فإن الأرواح نبعث على ما قبضت عليه" ورجاله ثقات إلا أبا يحيى القتات هو صدوق فيه كلام. ومن طريق أبي مراية العجلي قال "من أوى إلى فراشه طاهرا ونام ذاكرا كان فراشه مسجدا وكان في صلاة وذكر حتى يستيقظ" ومن طريق طاوس نحوه.ويتأكد ذلك في حق المحدث ولا سيما الجنب وهو أنشط للعود، وقد يكون منشطا للغسل فيبيت على طهارة كاملة. ومنها أن يكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به.قال الترمذي: ليس في الأحاديث ذكر الوضوء عند النوم إلا في هذا الحديث. قوله: "ثم اضطجع على شقك" بكسر المعجمة وتشديد القاف أي الجانب، وخص الأيمن لفوائد: منها أنه أسرع إلى الانتباه، ومنها أن القلب متعلق إلى جهة اليمين فلا يثقل بالنوم، ومنها قال ابن الجوزي: هذه الهيئة نص الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن ساعة ثم ينقلب إلى الأيسر لأن الأول سبب لانحدار الطعام، والنوم على اليسار يهضم لاشتمال الكبد على المعدة. "تنبيه": هكذا وقع في رواية سعد بن عبيدة وأبي إسحاق عن البراء، ووقع في رواية العلاء بن المسيب عن أبيه عن البراء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كما سيأتي قريبا "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن" ثم قال: الحديث فيستفاد مشروعية هذا الذكر من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله، ووقع عند النسائي من رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عن البراء وزاد في أوله "ثم قال: بسم الله اللهم أسلمت نفسي إليك" ووقع عند الخرائطي في "مكارم الأخلاق" من وجه آخر عن البراء بلفظ: "كان إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم أنت ربي ومليكي وإلهي لا إله إلا أنت، إليك وجهت وجهي" الحديث. قوله: "وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك" كذا لأبي ذر وأبي زيد ولغيرهما: "أسلمت نفسي" قيل الوجه والنفس هنا بمعنى الذات والشخص، أي أسلمت ذاتي وشخصي لك، وفيه نظر للجمع بينهما في رواية أبي إسحاق عن البراء الآتية بعد باب ولفظه "أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك ووجهت وجهي إليك" وجمع بينهما أيضا في رواية العلاء بن المسيب وزاد خصلة رابعة ولفظه: "أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري وألجأت ظهري إليك" فعلى هذا فالمراد بالنفس هنا الذات وبالوجه القصد، وأبدى القرطبي هذا احتمالا بعد جزمه بالأول. قوله: "أسلمت" أي استسلمت وانقدت، والمعنى جعلت نفسي منقادة لك تابعة لحكمك إذ لا قدرة لي على تدبيرها ولا على جلب ما ينفعها إليها ولا دفع ما يضرها عنها، وقوله: "وفوضت أمري إليك" أي توكلت عليك في أمري كله؛ وقوله: "وألجأت" أي اعتمدت في أموري عليك لتعينني على ما ينفعني، لأن من

(11/110)


استند إلى شيء تقوى به واستعان به، وخصه بالظهر لأن العادة جرت أن الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه، وقوله: "رغبة ورهبة إليك" أي رغبة في رفدك وثوابك "ورهبة" أي خوفا من غضبك ومن عقابك. قال ابن الجوزي: أسقط "من" مع ذكر الرهبة وأعمل "إلى" مع ذكر الرغبة وهو على طريق الاكتفاء كقول الشاعر "وزججن الحواجب والعيونا" والعيون لا تزجج، لكن لما جمعهما في نظم حمل أحدهما على الآخر في اللفظ، وكذا قال الطيبي، ومثل بقوله: "متقلدا سيفا ورمحا". قلت: ولكن ورد في بعض طرقه بإثبات "من" ولفظه: "رهبة منك ورغبة إليك" أخرجه النسائي وأحمد من طريق حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة. قوله: "لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك" أصل ملجأ بالهمز ومنجا بغير همز ولكن لما جمعا جاز أن يهمزا للازدواج، وأن يترك الهمز فيهما، وأن يهمز المهموز ويترك الآخر، فهذه ثلاثة أوجه، ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة. قال الكرماني: هذان اللفظان إن كانا مصدرين يتنازعان في "منك" وإن كانا ظرفين فلا، إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك ولا منجا منك إلا إليك. وقال الطيبي: في نظم هذا الذكر عجائب لا يعرفها إلا المتقن من أهل البيان، فأشار بقوله: "أسلمت نفسي" إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه، وبقوله: "وجهت وجهي" إلى أن ذاته مخلصة له بريئة من النفاق، وبقوله: "فوضت أمري" إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه لا مدبر لها غيره، وبقوله: "ألجأت ظهري" إلى أنه بعد التفويض يلتجئ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب كلها. قال: وقوله رغبة ورهبة منصوبان على المفعول له على طريق اللف والنشر، أي فوضت أموري إليك رغبة وألجأت ظهري إليك رهبة. قوله: "آمنت بكتابك الذي أنزلت" يحتمل أن يريد به القرآن، ويحتمل أن يريد اسم الجنس فيشمل كل كتاب أنزل. قوله: "ونبيك الذي أرسلت" وقع في رواية أبي زيد المروزي "أرسلته وأنزلته" في الأول بزيادة الضمير فيهما. قوله: "فإن مت مت على الفطرة" في رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق الآتية في التوحيد "من ليلتك" وفي رواية المسيب بن رافع "من قالهن ثم مات تحت ليلته" قال الطيبي: فيه إشارة إلى وقوع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل وهو تحته، أو المعنى بالتحت أي مت تحت نازل ينزل عليك في ليلتك، وكذا معنى "من" في الرواية الأخرى أي من أجل ما يحدث ليلتك، وقوله: "على الفطرة" أي على الدين القويم ملة إبراهيم، فإنه عليه السلام أسلم واستسلم، قال الله تعالى عنه "جاء ربه بقلب سليم" وقال عنه "أسلمت لرب العالمين" وقال: "فلما أسلما" وقال ابن بطال وجماعة: المراد بالفطرة هنا دين الإسلام، وهو بمعنى الحديث الآخر "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" قال القرطبي في "المفهم": كذا قال الشيوخ وفيه نظر، لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذكرت من التوحيد والتسليم والرضا إلى أن يموت كمن يقول لا إله إلا الله ممن لم يخطر له شيء من هذه الأمور فأين فائدة هذه الكلمات العظيمة وتلك المقامات الشريفة؟ ويمكن أن يكون الجواب أن كلا منهما وإن مات على الفطرة فبين الفطرتين ما بين الحالتين، ففطرة الأول فطرة المقربين وفطرة الثاني فطرة أصحاب اليمين. قلت: وقع في رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة في آخره عند أحمد بدل قوله: مات على الفطرة "بنى له بيت في الجنة" وهو يؤيد ما ذكره القرطبي، ووقع في آخر الحديث في التوحيد من طريق أبي إسحاق عن البراء "وإن أصبحت أصبت خيرا" وكذا لمسلم

(11/111)


والترمذي من طريق ابن عيينة عن أبي إسحاق "فإن أصبحت أصبحت وقد أصبت خيرا" وهو عند مسلم من طريق حصين عن سعد بن عبيدة ولفظه: "وإن أصبح أصاب خيرا" أي صلاحا في المال وزيادة في الأعمال.قوله: "فقلت" كذا لأبي ذر وأبي زيد المروزي، ولغيرهما: "فجعلت أستذكرهن" أي أتحفظهن. ووقع في رواية الثوري عن منصور الماضية في آخر كتاب الوضوء "فرددتها" أي رددت تلك الكلمات لأحفظهن. ولمسلم من رواية جرير عن منصور "فرددتهن لأستذكرهن". قوله: "وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا. وبنبيك الذي أرسلت" في رواية جرير عن منصور "فقال قل وبنبيك" قال القرطبي تبعا لغيره: هذا حجة لمن لم يجز نقل الحديث بالمعنى، وهو الصحيح من مذهب مالك، فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع، فإن النبوة من النبأ وهو الخبر فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفا، وأن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول، وإلا فهو نبي غير رسول، وعلى هذا فكل نبي رسول بلا عكس، فإن النبي والرسول اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في الرسالة، فإذا قلت: فلان رسول تضمن أنه نبي رسول، وإذا قلت: فلان نبي لم يستلزم أنه رسول، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما فيه حتى يفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وضع له وليخرج عما يكون شبه التكرار في اللفظ من غير فائدة، فإنه إذا قال: "ورسولك" فقد فهم منه أنه أرسله، فإذا قال: "الذي أرسلت" صار كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قوله: "ونبيك الذي أرسلت" فلا تكرار فيه لا متحققا ولا متوهما، انتهى كلامه. وقوله صار كالحشو متعقب لثبوته في أفصح الكلام كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ - أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ومن غير هذا اللفظ "يوم ينادي المنادي" إلى غير ذلك، فالأولى حذف هذا الكلام الأخير والاقتصار على قوله: "ونبيك الذي أرسلت" في هذا المقام أفيد من قوله ورسولك الذي أرسلت لما ذكر، والذي ذكره في الفرق بين الرسول والنبي مقيد بالرسول البشري، وإلا فإطلاق الرسول كما في اللفظ هنا يتناول الملك كجبريل مثلا فيظهر لذلك فائدة أخرى وهي تعين البشري دون الملك فيخلص الكلام من اللبس. وأما الاستدلال به على منع الرواية بالمعنى ففيه نظر، لأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق اللفظان في المعنى المذكور، وقد تقرر أن النبي والرسول متغايران لفظا ومعنى فلا يتم الاحتجاج بذلك. قيل وفي الاستدلال بهذا الحديث لمنع الرواية بالمعنى مطلقا نظر، وخصوصا إبدال الرسول بالنبي وعكسه إذا وقع في الرواية، لأن الذات المحدث عنها واحدة، فالمراد يفهم بأي صفة وصف بها الموصوف إذا ثبتت الصفة له، وهذا بناء على أن السبب في منع الرواية بالمعنى أن الذي يتسجيز ذلك قد يظن يوفى بمعنى اللفظ الآخر ولا يكون كذلك في نفس الأمر كما عهد في كثير من الأحاديث، فالاحتياط الإتيان باللفظ، فعلى هذا إذا تحقق بالقطع أن المعنى فيهما متحد لم يضر، بخلاف ما إذا اقتصر على الظن ولو كان غالبا. وأولى ما قيل في الحكمة في رده صلى الله عليه وسلم على من قال الرسول بدل النبي أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازري قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه. وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحى إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها. وقال النووي: في الحديث ثلاث سنن إحداها الوضوء عند النوم، وإن كان متوضئا كفاه لأن المقصود النوم على طهارة. ثانيها النوم على اليمين. ثالثها الختم بذكر الله. وقال الكرماني: هذا الحديث يشتمل على الإيمان

(11/112)


بكل ما يجب الإيمان به إجمالا من الكتب والرسل من الإلهيات والنبويات، وعلى إسناد الكل إلى الله من الذوات والصفات والأفعال، لذكر الوجه والنفس والأمر وإسناد الظهر مع ما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، وهذا كله بحسب المعاش، وعلى الاعتراف بالثواب والعقاب خيرا وشرا وهذا بحسب المعاد. "تنبيه": وقع عند النسائي في رواية عمرو بن مرة عن سعد بن عبيدة في أصل الحديث: "آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت" وكأنه لم يسمع من سعد بن عبيدة الزيادة التي في آخره فروي بالمعنى، وقد وقع في رواية أبي إسحاق عن البراء نظير ما في رواية منصور عن سعد بن عبيدة أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق، وفي آخره: "قال البراء: فقلت وبرسولك الذي أرسلت، فطعن بيده في صدري ثم قال: ونبيك الذي أرسلت". وكذا أخرج النسائي من طريق فطر بن خليفة عن أبي إسحاق ولفظه: "فوضع يده في صدري" نعم أخرج الترمذي من حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اضطجع أحدكم على يمينه ثم قال" فذكر نحو الحديث، وفي آخره: "أؤمن بكتابك الذي أنزلت وبرسلك الذي أرسلت" هكذا فيه بصيغة الجمع. وقال: حسن غريب. فإن كان محفوظا فالسر فيه حصول التعميم الذي دلت عليه صيغة الجمع صريحا فدخل فيه جميع الرسل من الملائكة والبشر فأمن اللبس، ومنه قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} والله أعلم.

(11/113)


باب مايقول إذا نام
...
7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ
6312- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا قَامَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
6313- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "سَمِعت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا ح" و حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لاَ مَلْجَا وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ"
قوله: "باب ما يقول إذا نام" سقطت هذه الترجمة لبعضهم وثبتت للأكثر. قوله: "سفيان" هو الثوري، وعبد الملك هو ابن عمير، وثبت في رواية أبي ذر وأبي زيد المروزي عن عبد الملك بن عمير. قوله: "إذا أوى إلى فراشه" أي دخل فيه، وفي الطريق الآتية قريبا "إذا أخذ مضجعه" وأوى بالقصر. وأما قوله: "الحمد لله الذي آوانا" فهو بالمد ويجوز فيه القصر، والضابط في هذه اللفظة أنها مع اللزوم تمد في الأفصح ويجوز القصر، وفي التعدي بالعكس. قوله: "باسمك أموت وأحيا" أي بذكر اسمك أحيا ما حييت وعليه أموت. وقال القرطبي:

(11/113)


قوله: "باسمك أموت" يدل على أن الاسم هو المسمى، وهو كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي سبح ربك، هكذا قال جل الشارحين، قال: واستفدت من بعض المشايخ معنى آخر وهو أن الله تعالى سمي نفسه بالأسماء الحسنى ومعانيها ثابتة له فكل ما صدر في الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات، فكأنه قال باسمك المحيي أحيا وباسمك المميت أموت انتهى ملخصا. والمعنى الذي صدرت به أليق، وعليه فلا يدل ذلك على أن الاسم غير المسمى ولا عينه، ويحتمل أن يكون لفظ الاسم هنا زائدا كما في قول الشاعر:
"إلى الحول ثم اسم السلام عليكما". قوله: "وإذا قام قال الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا" قال أبو إسحاق الزجاج: النفس التي تفارق الإنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة وهي التي يزول معها التنفس، وسمي النوم موتا لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلا وتشبيها قاله في النهاية، ويحتمل أن يكون المراد بالموت هنا السكون كما قالوا ماتت الريح أي سكنت، فيحتمل أن يكون أطلق الموت على النائم بمعنى إرادة سكون حركته لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} قاله الطيبي: قال: وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية والجهل.
وقال القرطبي في "المفهم": "النوم والموت يجمعهما انقطاع تعلق الروح بالبدن" وذلك قد يكون ظاهرا وهو النوم ولذا قيل النوم أخو الموت، وباطنا وهو الموت، فإطلاق الموت على النوم يكون مجازا لاشتراكهما في انقطاع تعلق الروح بالبدن. وقال الطيبي: الحكمة في إطلاق الموت على النوم أن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو لتحري رضا الله عنه وقصد طاعته واجتناب سخطه وعقابه، فمن نام زال عنه هذا الانتفاع فكان كالميت فحمد الله تعالى على هذه النعمة وزوال ذلك المانع، قال: وهذا التأويل موافق للحديث الآخر الذي فيه: "وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" وينتظم معه قوله: "وإليه النشور" أي وإليه المرجع في نيل الثواب بما يكتسب في الحياة. قلت: والحديث الذي أشار إليه سيأتي مع شرحه قريبا. قوله: "وإليه النشور" أي البعث يوم القيامة والإحياء بعد الإماتة، يقال نشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا. قوله: "تنشرها تخرجها" كذا ثبت هذا في رواية السرخسي وحده، وقد أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بذلك وذكرها بالزاي من أنشره إذا رفعه بتدريج وهي قراءة الكوفيين وابن عامر. وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ننشرها أي نحييها، وذكرها بالراء من أنشرها أي أحياها ومنه {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وهي قراءة أهل الحجاز وأبي عمرو قال: والقراءتان متقاربتان في المعنى؛ وقرئ في الشاذ بفتح أوله بالراء وبالزاي أيضا وبضم التحتانية معهما أيضا. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "سمعت البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا ح. وحدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "عن أبي إسحاق سمعت البراء" والأول أصوب وإلا لكان موافقا للرواية الأولى من كل جهة، ولأحمد عن عفان عن شعبة "أمر رجلا من الأنصار" وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في الباب قبله. "تنبيهان": الأول لشعبة في هذا الحديث شيخ آخر أخرجه النسائي من طريق غندر عنه عن مهاجر أبي الحسن عن البراء، وغندر من أثبت الناس في شعبة ولكن لا يقدح ذلك في رواية الجماعة عن شعبة، فكأن لشعبة فيه شيخين الثاني وقع في رواية شعبة عن أبي إسحاق في هذا الحديث عن البراء "لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" وهذا القدر من الحديث مدرج لم يسمعه

(11/114)


أبو إسحاق من البراء وإن كان ثابتا في غير رواية أبي إسحاق عن البراء، وقد بين ذلك إسرائيل عن جده أبي إسحاق، وهو من أثبت الناس فيه، أخرجه النسائي من طريقه فساق الحديث بتمامه ثم قال. كان أبو إسحاق يقول: "لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" لم أسمع هذا من البراء سمعتهم يذكرونه عنه، وقد أخرجه النسائي أيضا من وجه آخر عن أبي إسحاق عن هلال بن يساف عن البراء.

(11/115)


باب وضع ليد تحت الخد اليمنى
...
8 - باب وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى تَحْتَ الْخَدِّ الأَيْمَنِ
6314- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ "عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
حديث حذيفة المذكور في الباب الذي قبله وفيه: "وضع يده تحت خده" قال الإسماعيلي: ليس فيه ذكر اليمنى وإنما ذلك وقع في رواية شريك ومحمد بن جابر عن عبد الملك بن عمير. قلت: جرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث وطريق شريك هذه أخرجها أحمد من طريقه، وفي الباب عن البراء أخرجه النسائي من طريق أبي خيثمة والثوري عن أبي إسحاق عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن وقال: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك" وسنده صحيح.وأخرجه أيضا بسند صحيح عن حفصة وزاد: "يقول ذلك ثلاثا".

(11/115)


9 - باب النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
6315- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الْعَلاَءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ"
قوله: "باب النوم على الشق الأيمن" تقدمت فوائد هذه الترجمة قريبا، وبين النوم والضجع عموم وخصوص وجهي. قوله: "العلاء بن المسيب عن أبيه" هو ابن رافع الكاهلي ويقال الثعلبي بمثلثة ثم مهملة يكنى أبا العلاء، وكان من ثقات الكوفيين، وما لولده العلاء في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في غزوة الحديبية وهو ثقة، قال الحاكم: له أوهام. "تنبيه": وقع في "مستخرج أبي نعيم" في هذا الموضع ما نصه "لتسترهبوهم من الرهبة. ملكوت ملك مثل رهبوت ورحموت، تقول: ترهب خير من أن ترحم" انتهى ولم أره لغيره هنا. وقد تقدم قوله: "استرهبوهم من الرهبة" في تفسير سورة الأعراف وباقيه تقدم في تفسير الأنعام، وتكلمت عليه هناك

(11/115)


10 - باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ بِاللَّيْلِ
6316- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ كُرَيْبٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى حَاجَتَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ فَصَلَّى فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ فَتَوَضَّأْتُ فَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَتَتَامَّتْ صَلاَتُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَآذَنَهُ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا قَالَ كُرَيْبٌ وَسَبْعٌ فِي التَّابُوتِ فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعَرِي وَبَشَرِي وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ"
6317- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ"
قوله: "باب الدعاء إذا انتبه من الليل" رواية الكشميهني: "بالليل" ووقع عندهم في أول التهجد في أواخر كتاب الصلاة بالعكس. ذكر فيه حديثين عن ابن عباس. قوله: "عن سفيان" هو الثوري، وسلمة هو ابن كهيل. قوله: "بت عند ميمونة" تقدم شرحه مضموما إلى ما في ثاني حديثي الباب في أول أبواب الوتر دون ما في آخره من الدعاء فأحلت به على ما هنا. وقوله فيه: "فغسل وجهه" كذا لأبي ذر، ولغيره: "غسل" بغير فاء. وقوله: "شناقها" بكسر المعجمة وتخفيف النون ثم قاف هو رباط القربة يشد عنقها فشبه بما يشنق به، وقيل هو ما تعلق به، ورجح أبو عبيد الأول. قوله: "وضوءا بين وضوءين" قد فسره بقوله: "لم يكثر وقد أبلغ" وهو يحتمل أن يكون قلل من الماء مع التثليث أو اقتصر على دون الثلاث، ووقع في رواية شعبة عن سلمة عند مسلم: "وضوءا حسنا" ووقع عند الطبراني من طريق منصور بن معتمر عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه في هذه القصة "وإلى جانبه مخضب من برام مطبق عليه سواك فاستن به ثم توضأ". قوله: "أتقيه" بمثناة ثقيلة وقاف

(11/116)


مكسورة كذا للنسفي وطائفة، قال الخطابي: أي ارتقبه. وفي رواية بتخفيف النون وتشديد القاف ثم موحدة من التنقيب وهو التفتيش. وفي رواية القابسي "أبغيه" بسكون الموحدة بعدها معجمة مكسورة ثم تحتانية أي أطلبه، وللأكثر "أرقبه" وهي أوجه. قوله: "فتتامت" بمثناتين أي تكاملت، وهي رواية شعبة عن سلمة عند مسلم. قوله: "فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ" في رواية مسلم ثم نام حتى نفخ وكنا نعرفه إذا نام بنفخه". قوله: "وكان يقول في دعائه" فيه إشارة إلى أن دعاءه حينئذ كان كثيرا، وكان هذا من جملته، وقد ذكر في ثاني حديثي الباب قوله: "اللهم أنت نور السماوات والأرض إلخ" ووقع في رواية شعبة عن سلمة "فكان يقول في صلاته وسجوده" وسأذكر أن في رواية الترمذي زيادة في هذا الدعاء طويلة، ووقع عند مسلم أيضا في رواية علي ابن عبد الله بن عباس عن أبيه أنه قال الذكر الآتي في الحديث الثاني أول ما قام قبل أن يدخل في الصلاة. وقال هذا الدعاء المذكور في الحديث الأول وهو ذاهب إلى صلاة الصبح، فأفاد أن الحديثين في قصة واحدة وأن تفريقهما صنيع الرواة.وفي رواية الترمذي التي سيأتي التنبيه عليها أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين فرغ من صلاته، ووقع عند البخاري في "الأدب المفرد" من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي فقضى صلاته يثنى على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه اللهم اجعل في قلبي نورا الحديث". ويجمع بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه. قوله: "اللهم اجعل في قلبي نورا إلخ" قال الكرماني: التنوين فيها للتعظيم أي نورا عظيما كذا قال، وقد اقتصر في هذه الرواية على ذكر القلب والسمع والبصر والجهات الست وقال في آخره: "واجعل لي نورا". ولمسلم عن عبد الله بن هاشم عن عبد الرحمن بن مهدي بسند حديث الباب: "وعظم لي نورا" بتشديد الظاء المعجمة. ولأبى يعلى عن أبى خيثمة عن عبد الرحمن "وأعظم لي نورا" أخرجه الإسماعيلي، وأخرجه أيضا من رواية بندار عن عبد الرحمن. وكذا لأبي عوانة من رواية أبي حذيفة عن سفيان ولمسلم في رواية شعبة عن سلمة "واجعل لي نورا" أو قال: "واجعلني نورا" هذه رواية غندر عن شعبة. وفي رواية النضر عن شعبة "واجعلني" ولم يشك. وللطبراني في الدعاء من طريق المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه في آخره: "واجعل لي يوم القيامة نورا".قوله: "قال كريب: وسبع في التابوت" قلت: حاصل ما في هذه الرواية عشرة، وقد أخرجه مسلم من طريق عقيل عن سلمة بن كهيل "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسع عشرة كلمة حدثنيها كريب فحفظت منها ثنتي عشرة ونسيت ما بقي" فذكر ما في رواية الثوري هذه وزاد: "وفي لساني نورا" بعد قوله: "في قلبي" وقال في آخره: "واجعل لي في نفسي نورا وأعظم لي نورا" وهاتان ثنتان من السبع التي ذكر كريب أنها في التابوت مما حدثه بعض ولد العباس. وقد اختلف في مراده بقوله التابوت فجزم الدمياطي في حاشيته بأن المراد به الصدر الذي هو وعاء القلب، وسبق ابن بطال والداودي إلى أن المراد بالتابوت الصدر، وزاد ابن بطال: كما يقال لمن يحفظ العلم: علمه في التابوت مستودع. وقال النووي تبعا لغيره: المراد بالتابوت الأضلاع وما تحويه من القلب وغيره تشبيها بالتابوت الذي يحرز فيه المتاع، يعني سبع كلمات في قلبي ولكن نسيتها، قال: وقيل المراد سبعة أنوار كانت مكتوبة في التابوت الذي كان لبني إسرائيل فيه السكينة. وقال ابن الجوزي يريد بالتابوت الصندوق أي سبع مكتوبة في صندوق عنده لم يحفظها في ذلك الوقت. قلت: ويؤيده ما وقع عند أبي عوانة من طريق أبي حذيفة عن الثوري بسند حديث الباب: "قال كريب وستة

(11/117)


عندي مكتوبات في التابوت" وجزم القرطبي في "المفهم" وغير واحد بأن المراد بالتابوت الجسد أي أن السبع المذكورة تتعلق بجسد الإنسان بخلاف أكثر ما تقدم فإنه يتعلق بالمعاني كالجهات الست وإن كان السمع والبصر من الجسد، وحكى ابن التين عن الداودي أن معنى قوله: "في التابوت" أي في صحيفة في تابوت عند بعض ولد العباس، قال: والخصلتان العظم والمخ. وقال الكرماني: لعلهما الشحم والعظم، كذا قالا وفيه نظر، سأوضحه. قوله: "فلقيت رجلا من ولد العباس" قال ابن بطال: ليس كريب هو القائل "فلقيت رجلا من ولد العباس" وإنما قاله سلمة بن كهيل الراوي عن كريب. قلت: هو محتمل، وظاهر رواية أبي حذيفة أن القائل هو كريب، قال ابن بطال: وقد وجدت الحديث من رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال فذكر الحديث مطولا، وظهرت منه معرفة الخصلتين اللتين نسيهما فإن فيه: "اللهم اجعل في عظامي نورا وفي قبري نورا ". قلت: بل الأظهر أن المراد بهما اللسان والنفس وهما اللذان زادهما عقيل في روايته عند مسلم وهما من جملة الجسد، وينطبق عليه التأويل الأخير للتابوت، وبذلك جزم القرطبي في "المفهم" ولا ينافيه ما عداه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي من طريق داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده "سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلة حين فرغ من صلاته يقول: اللهم إني أسألك رحمة من عندك" فساق الدعاء بطوله وفيه: "اللهم اجعل لي نورا في قبري" ثم ذكر القلب ثم الجهات الست والسمع والبصر ثم الشعر والبشر ثم اللحم والدم والعظام ثم قال في آخره: "اللهم عظم لي نورا وأعطني نورا واجعلني نورا" قال الترمذي غريب. وقد روى شعبة وسفيان عن سلمة عن كريب بعض هذا الحديث ولم يذكروه بطوله انتهى. وأخرج الطبري من وجه آخر عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه في آخره: "وزدني نورا. قالها ثلاثا" وعند ابن أبي عاصم في كتاب الدعاء من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن عن كريب في آخر الحديث: "وهب لي نورا على نور" ويجتمع من اختلاف الروايات كما قال ابن العربي خمس وعشرون خصلة. قوله: "فذكر عصبي" بفتح المهملتين وبعدهما موحدة قال ابن التين هي أطناب المفاضل، وقوله: "وبشري" بفتح الموحدة والمعجمة: ظاهر الجسد. قوله: "وذكر خصلتين" أي تكملة السبعة، قال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن حملها على ظاهرها فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نورا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم، قال والأولى أن يقال: هي مستعارة للعلم والهداية كما قال تعالى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} ثم قال: والتحقيق في معناه أن النور مظهر ما نسب إليه، وهو يختلف بحسبه: فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. قال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا أن يتحلى بأنوار المعرفة والطاعات ويتعرى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوساوس فكان التخلص منها بالأنوار السادة لتلك الجهات. قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان وضياء الحق، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - إلى قوله تعالى- نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} انتهى ملخصا. وكان في بعض ألفاظه ما لا يليق بالمقام فحذفته. وقال الطيبي أيضا: خص السمع والبصر والقلب بلفظ: "لي" لأن القلب مقر الفكرة في آلاء الله، والسمع والبصر مسارح آيات الله المصونة، قال: وخص اليمين والشمال بعن إيذانا بتجاوز الأنوار عن قلبه وسمعه وبصره إلى من عن يمينه

(11/118)


وشماله من أتباعه، وعبر عن بقية الجهات بمن يشمل استنارته وإنارته من الله والخلق. وقوله في آخره: "واجعل لي نورا" هي فذلكة لذلك وتأكيد له. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "كان إذا قام من الليل يتهجد" تقدم شرحه مستوفي في أوائل التهجد، وقوله في آخره: "لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك" شك من الراوي. ووقع في رواية للطبراني في آخره: "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

(11/119)


11 - باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ
6318- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى "عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم شَكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تَجِدْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ قَالَ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْتُ أَقُومُ فَقَالَ مَكَانَكِ فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ وَعَنْ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ"
قوله: "باب التكبير والتسبيح عند المنام" أي والتحميد. قوله: "عن الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر فقيه الكوفة. وقوله: "عن ابن أبي ليلى" هو عبد الرحمن. وقوله: "عن علي" قد وقع في النفقات "عن بدل بن المحبر عن شعبة أخبرني الحكم سمعت عبد الرحمن ابن أبي ليلى أنبأنا علي". قوله: "إن فاطمة شكت ما تلقى في يدها من الرحى" زاد بدل في روايته: "مما تطحن" وفي رواية القاسم مولى معاوية عن علي عند الطبراني "وأرته أثرا في يدها من الرحى" وفي زوائد عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وصححه ابن حبان من طريق محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو عن علي "اشتكت فاطمة مجل يدها" وهو بفتح الميم وسكون الجيم بعدها لام معناه التقطيع. وقال الطبري: المراد به غلظ اليد، وكل من عمل عملا بكفه فغلظ جلدها قيل مجلت كفه. وعند أحمد من رواية هبيرة بن يريم عن علي "قلت لفاطمة لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألتيه خادما، فقد أجهدك الطحن والعمل" وعنده وعند ابن سعد من رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة" فذكر الحديث وفيه: "فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي "وقوله: "سنوت" بفتح المهملة والنون أي استقيت من البئر فكنت مكان السانية وهي الناقة، وعند أبي داود من طريق أبي الورد بن ثمامة عن علي بن أعبد عن علي قال: "كانت عندي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فجرت بالرحى حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في عنقها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها "وفي رواية له "وخبزت حتى تغير وجهها". قوله: "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما" أي جارية تخدمها، ويطلق أيضا على الذكر. وفي رواية السائب "وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي إليه فاستخدميه" أي اسأليه خادما. وزاد في رواية يحيى القطان عن شعبة كما تقدم في النفقات "وبلغها أنه جاءه رقيق" وفي رواية بدل "وبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبي". قوله: "فلم

(11/119)


تجده" في رواية القطان "فلم تصادفه" وفي رواية بدل فلم توافقه وهي بمعنى تصادفه. وفي رواية أبي الورد "فأتته فوجدت عنده حداثا" بضم المهملة وتشديد الدال وبعد الألف مثلثة أي جماعة يتحدثون "فاستحيت فرجعت" فيحمل على أن المراد أنها لم تجده في المنزل بل في مكان آخر كالمسجد وعنده من يتحدث معه. قوله: "فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته" في رواية القطان" أخبرته عائشة" زاد غندر عن شعبة في المناقب "بمجيء فاطمة "وفي رواية بدل" فذكرت ذلك عائشة له" وفي رواية مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عند جعفر الفريابي في "الذكر" والدار قطني في "العلل" وأصله في مسلم: "حتى أتت منزل النبي صلى الله عليه وسلم فلم توافقه، فذكرت ذلك له أم سلمة بعد أن رجعت فاطمة" ويجمع بأن فاطمة التمسته في بيتي أم المؤمنين، وقد وردت القصة من حديث أم سلمة نفسها أخرجها الطبري في تهذيبه من طريق شهر بن حوشب عنها قالت: "جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة" فذكرت الحديث مختصرا. وفي رواية السائب "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقلت: ما فعلت؟ قالت: استحييت". قلت: وهذا مخالف لما في الصحيح، ويمكن الجمع بأن تكون لم تذكر حاجتها أولا على ما في هذه الرواية، ثم ذكرتها ثانيا لعائشة لما لم تجده، ثم جاءت هي وعلي على ما في رواية السائب فذكر بعض الرواة ما لم يذكر بعض. وقد اختصره بعضهم، ففي رواية مجاهد الماضية في النفقات "أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه" وفي رواية هبيرة "فقالت انطلق معي، فانطلقت معها فسألناه فقال: ألا أدلكما" الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أبي هريرة "أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما وشكت العمل فقال: ما ألفيته عندنا" وهو بالفاء أي ما وجدته، ويحمل على أن المراد ما وجدته عندنا فاضلا عن حاجتنا إليه لما ذكر من إنفاق أثمان السبي على أهل الصفة. قوله: "فجاءنا وقد أخذنا مضاجعا" زاد في رواية السائب "فأتيناه جميعا، فقلت بأبي يا رسول الله، والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا فقال: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم" وقد أشار المصنف إلى هذه الزيادة في فرض الخمس وتكلمت على شرحها هناك. ووقع في رواية عبيدة بن عمرو عن علي عند ابن حبان من الزيادة "فأتانا وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولا خرجت منها جنوبنا وإذا لبسناها عرضا خرجت منها رءوسنا وأقدامنا" وفي رواية السائب "فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفة لهما إذا غطيا رءوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رءوسهما". قوله: "فذهبت أقوم" وافقه غندر. وفي رواية القطان "فذهبنا نقوم" وفي رواية بدل "لنقوم" وفي رواية السائب "فقاما". قوله: "فقال مكانك" وفي رواية غندر "مكانكما" وهو بالنصب أي الزما مكانكما. وفي رواية القطان وبدل "فقال على مكانكما" أي استمرا على ما أنتما عليه. قوله: "فجلس بيننا" في رواية غندر "فقعد" بدل جلس. وفي رواية القطان "فقعد بيني وبينها" وفي رواية عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى عند النسائي، "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع قدمه بيني وبين فاطمة". قوله: "حتى وجدت برد قدميه" هكذا هنا بالتثنية وكذا في رواية غندر وعند مسلم أيضا. وفي رواية القطان بالإفراد. وفي رواية بدل كذلك بالإفراد للكشميهني. وفي رواية للطبري "فسخنتهما" وفي رواية عطاء عن مجاهد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عند جعفر في الذكر وأصله في مسلم من الزيادة "فخرج حتى أتى منزل فاطمة وقد دخلت هي وعلي في اللحاف

(11/120)


فلما استأذن هما أن يلبسا فقال: كما أنتما، إني أخبرت أنك جئت تطلبين، فما حاجتك؟ قالت: بلغني أنه قدم عليك خدم، فأحببت أن تعطيني خادما يكفيني الخبز والعجن فإنه قد شق علي، قال: فما جئت تطلبين أحب إليك أو ما هو خير منه؟ قال علي: فغمزتها فقلت قولي ما هو خير منه أحب إلي، قال: فإذا كنتما على مثل حالكما الذي أنتما عليه فذكر التسبيح. وفي رواية علي بن أعبد "فجلس عند رأسها فأدخلت رأسها في اللفاع حياء من أبيها" ويحمل على أنه فعل ذلك أولا، فلما تآنست به دخل معهما في الفراش مبالغة منه في التأنيس، وزاد في رواية علي بن أعبد "فقال ما كان حاجتك أمس؟ فسكتت مرتين، فقلت: أنا والله أحدثك يا رسول الله فذكرته له" ويجمع بين الروايتين بأنها أولا استحيت فتكلم علي عنها، فأنشطت للكلام فأكملت القصة. واتفق غالب الرواة على أنه صلى الله عليه وسلم جاء إليهما. ووقع في رواية شبث وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة ابن ربعي عن علي عند أبي داود وجعفر في الذكر والسياق له "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلق علي وفاطمة حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أتى بكما، قال علي: شق علينا العمل. فقال: ألا أدلكما" وفي لفظ جعفر "فقال علي لفاطمة: ائت أباك فاسأليه أن يخدمك، فأتت أباها حين أمست فقال: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت أسلم عليك. واستحيت. حتى إذا كانت القابلة قال: ائت أباك" فذكر مثله "حتى إذا كانت الليلة الثالثة قال لها علي: امشي فخرجا معا" الحديث، وفيه: "ألا أدلكما على خير لكما من حمر النعم" وفي مرسل علي بن الحسين عند جعفر أيضا: "إن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما وبيدها أثر الطحن من قطب الرحى، فقال: إذا أويت إلى فراشك" الحديث. فيحتمل أن تكون قصة أخرى. فقد أخرج أبو داود من طريق أم الحكم أو ضباعة بنت الزبير أي ابن عبد المطلب قالت: "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيا، فذهبت أنا وأختي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم نشكو إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي فقال: سبقكن يتامى بدر" فذكر قصة التسبيح إثر كل صلاة ولم يذكر قصة التسبيح عند النوم، فلعله علم فاطمة في كل مرة أحد الذكرين. وقد وقع في تهذيب الطبري من طريق أبي أمامة عن علي في قصة فاطمة من الزيادة "فقال اصبري يا فاطمة، إن خير النساء التي نفعت أهلها". قوله: "فقال ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم" في رواية بدل "خير مما سألتماه" وفي رواية غندر "مما سألتماني" وللقطان نحوه. وفي رواية السائب "ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى. فقال: كلمات علمنيهن جبريل". قوله: "إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما" هذا شك من سليمان بن حرب، وكذا في رواية القطان، وجزم بدل وغندر بقوله: "إذا أخذتما مضاجعكما" ولمسلم من رواية معاذ عن شعبة "إذا أخذتما مضاجعكما من الليل" وجزم في رواية السائب بقوله: "إذا أويتما إلى فراشكما" وزاد في رواية: "تسبحان دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا "وهذه الزيادة ثابتة في رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أصحاب السنن الأربعة في حديث أوله "خصلتان لا يحصيهما عبد إلا دخل الجنة" وصححه الترمذي وابن حبان، وفيه ذكر ما يقال عند النوم أيضا. ويحتمل إن كان حديث السائب عن علي محفوظا أن يكون على ذكر القصتين اللتين أشرت إليهما قريبا معا. ثم وجدت الحديث في "تهذيب الآثار" للطبري فساقه من رواية حماد بن سلمة عن عطاء كما ذكرت، ثم ساقه من طريق شعبة عن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا وفاطمة إذا أخذا مضاجعهما بالتسبيح والتحميد والتكبير" فساق الحديث فظهر أن الحديث في قصة علي وفاطمة، وأن من لم يذكرهما من الرواة

(11/121)


اختصر الحديث، وأن رواية السائب إنما هي عن عبد الله بن عمرو، وأن قول من قال فيه عن علي لم يرد الرواية عن علي وإنما معناه عن قصة علي وفاطمة كما في نظائره. قوله: "فكبرا أربعا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين" كذا هنا بصيغة الأمر والجزم بأربع في التكبير. وفي رواية بدل مثله ولفظه: "فكبرا الله" ومثله للقطان لكن قدم التسبيح وأخر التكبير ولم يذكر الجلالة. وفي رواية عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى وفي رواية السائب كلاهما مثله، وكذا في رواية هبيرة عن علي وزاد في آخره: "فتلك مائة باللسان وألف في الميزان" وهذه الزيادة ثبتت أيضا في رواية هبيرة وعمارة بن عبد معا عن علي عند الطبراني. وفي رواية السائب كما مضى، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم كالأول لكن قال تسبحين بصيغة المضارع. وفي رواية عبيدة بن عمرو "فأمرنا عند منامنا بثلاث وثلاثين وثلاث وثلاثين وأربع وثلاثين من تسبيح وتحميد وتكبير" وفي رواية غندر للكشميهني مثل الأول، وعن غير الكشميهني: "تكبران" بصيغة المضارع وثبوت النون، وحذفت في نسخة وهي إما على أن إذا تعمل عمل الشرط وإما حذفت تخفيفا. وفي رواية مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في النفقات بلفظ: "تسبحين الله عند منامك" وقال في الجميع "ثلاثا وثلاثين" ثم قال في آخره قال سفيان رواية إحداهن أربع" وفي رواية النسائي عن قتيبة عن سفيان "لا أدري أيها أربع وثلاثون" وفي رواية الطبري من طريق أبي أمامة الباهلي عن علي في الجميع "ثلاثا وثلاثين. واختماها بلا إله إلا الله" وله من طريق محمد بن الحنفية عن علي "وكبراه وهللاه أربعا وثلاثين" وله من طريق أبي مريم عن علي "احمدا أربعا وثلاثين" وكذا له في حديث أم سلمة، وله من طريق هبيرة أن التهليل أربع وثلاثون ولم يذكر التحميد، وقد أخرجه أحمد من طريق هبيرة كالجماعة وما عدا ذلك شاذ. وفي رواية عطاء عن مجاهد عند جعفر وأصله عند مسلم: "أشك أيها أربع وثلاثون غير أني أظنه التكبير" وزاد في آخره: "قال علي فما تركتها بعد فقالوا له: ولا ليلة صفين؟ فقال: ولا ليلة صفين" وفي رواية القاسم مولى معاوية عن علي "فقيل لي" وفي رواية عمرو ابن مرة "فقال له رجل" وكذا في رواية هبيرة، ولمسلم في رواية من طريق مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "قلت ولا ليلة صفين" وفي رواية جعفر الفريابي في الذكر من هذا الوجه "قال عبد الرحمن: قلت ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين" وكذا أخرجه مطين في مسند علي من هذا الوجه، وأخرجه أيضا من رواية زهير ابن معاوية عن أبي إسحاق "حدثني هبيرة وهانئ بن هانئ وعمارة بن عبد أنهم سمعوا عليا يقول" فذكر الحديث وفي آخره: "فقال له رجل قال زهير أراه الأشعث بن قيس: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين" وفي رواية السائب فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق. نعم: ولا ليلة صفين، وللبزار من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب "فقال له عبد الله بن الكواء" والكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد وكان من أصحاب علي لكنه كان كثير التعنت في السؤال. وقد وقع في رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم بسند حديث الباب: "فقال ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: ويحك ما أكثر ما تعنتني، لقد أدركتها من السحر" وفي رواية علي بن أعبد "ما تركتهن منذ سمعتهن إلا ليلة صفين فإني ذكرتها من آخر الليل فقلتها" وفي رواية له وهي عند جعفر أيضا في الذكر "إلا ليلة صفين فإني أنسيتها حتى ذكرتها من آخر الليل" وفي رواية شبث بن ربعي مثله وزاد: "فقلتها" ولا اختلاف فإنه نفى أن يكون قالها أول الليل وأثبت أنه قالها في آخره، وأما الاختلاف في تسمية السائل فلا يؤثر لأنه محمول على التعدد بدليل قوله

(11/122)


في الرواية الأخرى "فقالوا" وفي هذا تعقب على الكرماني حيث فهم من قول علي "ولا ليلة صفين" أنه قالها من الليل فقال: مراده أنه لم يشتغل مع ما كان فيه من الشغل بالحرب عن قول الذكر المشار إليه، فإن في قول علي "فأنسيتها" التصريح بأنه نسيها أول الليل وقالها في آخره. والمراد بليلة صفين الحرب التي كانت بين علي ومعاوية بصفين، وهي بلد معروف بين العراق والشام، وأقام الفريقان بها عدة أشهر، وكانت بينهم وقعات كثيرة، لكن لم يقاتلوا في الليل إلا مرة واحدة وهي ليلة الهرير بوزن عظيم، سميت بذلك لكثرة ما كان الفرسان يهرون فيها، وقتل بين الفريقين تلك الليلة عدة آلاف، وأصبحوا وقد أشرف علي وأصحابه على النصر فرفع معاوية وأصحابه المصاحف، فكان ما كان من الاتفاق على التحكيم وانصراف كل منهم إلى بلاده. واستفدنا من هذه الزيادة أن تحديث علي بذلك كان بعد وقعة صفين بمدة، وكانت صفين سنة سبع وثلاثين، وخرج الخوارج على علي عقب التحكيم في أول سنة ثمان وثلاثين وقتلهم بالنهروان، وكل ذلك مشهور مبسوط في تاريخ الطبري وغيره "فائدة": زاد أبو هريرة في هذه القصة مع الذكر المأثور دعاء آخر ولفظه عند الطبري في تهذيبه من طريق الأعمش عن أبي صالح عنه "جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: ألا أدلك على ما هو خير من خادم؟ تسبحين" فذكره وزاد: "وتقولين: "اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر" وقد أخرجه مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه لكن فرقه حديثين. وأخرجه الترمذي من طريق الأعمش لكن اقتصر على الذكر الثاني ولم يذكر التسبيح وما معه. قوله: "وعن شعبة عن خالد" هو الحذاء" عن ابن سيرين" هو محمد "قال التسبيح أربع وثلاثون" هذا موقوف على ابن سيرين، وهو موصول بسند حديث الباب. وظن بعضهم أنه من رواية ابن سيرين بسنده إلى علي وأنه ليس من كلامه، وذلك أن الترمذي والنسائي وابن حبان أخرجوا الحديث المذكور من طريق ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة بن عمرو عن علي، لكن الذي ظهر لي أنه من قول ابن سيرين موقوف عليه، إذ لم يتعرض المصنف لطريق ابن سيرين عن عبيدة، وأيضا فإنه ليس في روايته عن عبيدة تعيين عدد التسبيح وقد أخرجه القاضي يوسف في كتاب الذكر عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه بسنده هذا إلى ابن سيرين من قوله فثبت ما قلته ولله الحمد. ووقع في مرسل عروة عند جعفر أن التحميد أربع، واتفاق الرواة على أن الأربع للتكبير أرجح، قال ابن بطال: هذا نوع من الذكر عند النوم، ويمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم كان يقول جميع ذلك عند النوم وأشار لأمته بالاكتفاء ببعضها إعلاما منه أن معناه الحض والندب لا الوجوب. وقال عياض: جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكار عند النوم مختلفة بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات، وفي كل فضل، قال ابن بطال: وفي هذا الحديث حجة لمن فضل الفقر على الغنى لقوله: "ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم" فعلمهما الذكر، فلو كان الغني أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم وعلمهما الذكر فلما منعهما الخادم وقصرهما على الذكر علم أنه إنما اختار لهما الأفضل عند الله. قلت: وهذا إنما يتم أن لو كان عنده صلى الله عليه وسلم من الخدام فضلة، وقد صرح في الخبر أنه كان محتاجا إلى بيع ذلك الرقيق لنفقته على أهل الصفة، ومن ثم قال عياض: لا وجه لمن استدل به على أن الفقير أفضل من الغني، وقد اختلف في معنى الخيرية في الخبر فقال

(11/123)


عياض: ظاهره أنه أراد أن يعلمهما أن عمل الآخرة أفضل من أمور الدنيا على كل حال، وإنما اقتصر على ذلك لما لم يمكنه إعطاء الخادم، ثم علمهما إذ فاتهما ما طلباه ذكرا يحصل لهما أجرا أفضل مما سألاه. وقال القرطبي: إنما أحالهما على الذكر ليكون عوضا عن الدعاء عند الحاجة، أو لكونه أحب لابنته ما أحب لنفسه من إيثار الفقر وتحمل شدته بالصبر عليه تعظيما لأجرها. وقال المهلب: علم صلى الله عليه وسلم ابنته من الذكر ما هو أكثر نفعا لها في الآخرة، وآثر أهل الصفة لأنهم كانوا وقفوا أنفسهم لسماع العلم وضبط السنة على شبع بطونهم لا يرغبون في كسب مال ولا في عيال، ولكنهم اشتروا أنفسهم من الله بالقوت. ويؤخذ منه تقديم طلبة العلم على غيرهم في الخمس. وفيه ما كان عليه السلف الصالح من شظف العيش وقلة الشيء وشدة الحال. وأن الله حماهم الدنيا مع إمكان ذلك صيانة لهم من تبعاتها، وتلك سنة أكثر الأنبياء والأولياء. وقال إسماعيل القاضي: في هذا الحديث أن للإمام أن يقسم الخمس حيث رأى، لأن السبي لا يكون إلا من الخمس، وأما الأربعة أخماس فهو حق الغانمين انتهى. وهو قول مالك وجماعة، وذهب الشافعي وجماعة إلى أن لآل البيت سهما من الخمس، وقد تقدم بسط ذلك في فرض الخمس في أواخر الجهاد. ثم وجدت في تهذيب الطبري من وجه آخر ما لعله يعكر على ذلك، فساق من طريق أبي أمامة الباهلي عن علي قال: "أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق، أهداهم له بعض ملوك الأعاجم، فقلت لفاطمة: ائت أباك فاستخدميه" فلو صح هذا لأزال الإشكال من أصله، لأنه حينئذ لا يكون للغانمين فيه شيء. وإنما هو من مال المصالح يصرفه الإمام حيث يراه. وقال المهلب: فيه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من إيثار الآخرة على الدنيا إذا كانت لهم قدرة على ذلك. قال: وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وزوجها بغير استئذان وجلوسه بينهما في فراشهما، ومباشرة قدميه بعض جسدهما. قلت: وفي قوله بغير استئذان نظر، لأنه ثبت في بعض طرقه أنه استأذن كما قدمته من رواية عطاء عن مجاهد في الذكر لجعفر، وأصله عند مسلم، وهو في "العلل" للدار قطني أيضا بطوله. وأخرج الطبري في تهذيبه من طريق أبي مريم "سمعت عليا يقول: إن فاطمة كانت تدق الدرمك بين حجرين حتى مجلت يداها" فذكر الحديث، وفيه: "فأتانا وقد دخلنا فراشنا فلما استأذن علينا تخششنا لنلبس علينا ثيابنا، فلما سمع ذلك قال: كما أنتما في لحافكما". ودفع بعضهم الاستدلال المذكور لعصمته صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به غيره ممن ليس بمعصوم. وفي الحديث منقبة ظاهرة لعلي وفاطمة عليهما السلام. وفيه بيان إظهار غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر ونهاية الاتحاد برفع الحشمة والحجاب حيث لم يزعجهما عن مكانهما فتركهما على حالة اضطجاعهما، وبالغ حتى أدخل رجله بينهما ومكث بينهما حتى علمهما ما هو الأولى بحالهما من الذكر عوضا عما طلباه من الخادم، فهو من باب تلقي المخاطب بغير ما يطلب إيذانا بأن الأهم من المطلوب هو التزود للمعاد والصبر على مشاق الدنيا والتجافي عن دار الغرور. وقال الطيبي: فيه دلالة على مكانة أم المؤمنين من النبي صلى الله عليه وسلم حيث خصتها فاطمة بالسفارة بينها وبين أبيها دون سائر الأزواج. قلت: ويحتمل أنها لم ترد التخصيص بل الظاهر أنها قصدت أباها في يوم عائشة في بيتها فلما لم تجده ذكرت حاجتها لعائشة، ولو اتفق أنه كان يوم غيرها من الأزواج لذكرت لها ذلك، وقد تقدم أن في بعض طرقه أن أم سلمة ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا، فيحتمل أن فاطمة لما لم تجده في بيت عائشة مرت على بيت أم سلمة فذكرت لها ذلك، ويحتمل أن يكون تخصيص هاتين من الأزواج لكون باقيهن كن حزبين كل حزب يتبع واحدة من هاتين كما تقدم صريحا في كتاب الهبة. وفيه أن من واظب

(11/124)


على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها صلى الله عليه وسلم على ذلك، كذا أفاده ابن تيمية، وفيه نظر ولا يتعين رفع التعب بل يحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل ولا يشق عليه ولو حصل له التعب، والله أعلم.

(11/125)


12 - باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ
6319- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِي يَدَيْهِ وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ"
قوله: "باب التعوذ والقراءة عند النوم" ذكر فيه حديث عائشة في قراءة المعوذات. حديث عائشة في قراءة المعوذات، وقد تقدم شرحه في كتاب الطب، وبينت اختلاف الرواة في أنه كان يقول ذلك دائما أو بقيد الشكوى، وأنه ثبت عن عائشة أنه يفيد الأمران معا لما في رواية عقيل عن الزهري بلفظ: "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة" وبينت فيه أن المراد بالمعوذات الإخلاص والفلق والناس، وأن ذلك وقع صريحا في رواية عقيل المذكورة وأنها تعين أحد الاحتمالات الماضي ذكرها ثمة، وفيها كيفية مسح جسده بيديه، وقد ورد في القراءة عند النوم عدة أحاديث صحيحة: منها حديث أبي هريرة في قراءة آية الكرسي وقد تقدم في الوكالة وغيرها، وحديث ابن مسعود الآيتان من آخر سورة البقرة وقد تقدم في فضائل القرآن، وحديث فروة بن نوفل عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنوفل اقرأ قل يا أيها الكافرون في كل ليلة ونم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك" أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وابن حبان والحاكم، وحديث العرباض بن سارية "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ويقول فيهن آية خير من ألف آية" أخرجه الثلاثة، وحديث جابر رفعه: "كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل وتبارك" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وحديث شداد بن أوس رفعه: "ما من امرئ مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله إلا بعث الله ملكا يحفظه من كل شيء يؤذيه حتى يهب" أخرجه أحمد والترمذي، وورد في التعوذ أيضا عدة أحاديث: منها حديث أبي صالح عن رجل من أسلم رفعه: "لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضرك شيء" وفيه قصة. ومنهم من قال عن أبي صالح عن أبي هريرة أخرجه أبو داود وصححه الحاكم. وحديث أبي هريرة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض" الحديث، وفي لفظ: "اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان الرجيم وشركه" أخرجه أبو داود والترمذي، وحديث على رفعه: "كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته" أخرجه أبو داود والنسائي، قال ابن بطال: في حديث عائشة رد على من منع استعمال العوذ والرقي إلا بعد وقوع المرض انتهى، وقد تقدم تقرير ذلك والبحث فيه في كتاب الطب

(11/125)


باب حدثنا أحمد بن يونس
...
13 – باب 6320- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي

(11/125)


14 - باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ
6321- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ وَأَبِي سَلَمَةَ

(11/128)


ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"
قوله: "باب الدعاء نصف الليل" أي بيان فضل الدعاء في ذلك الوقت على غيره إلى طلوع الفجر، قال ابن بطال: هو وقت شريف، خصه الله بالتنزيل فيه، فيتفضل على عباده بإجابة دعائهم، وإعطاء سؤلهم، وغفران ذنوبهم، وهو وقت غفلة وخلوة واستغراق في النوم واستلذاذ له، ومفارقة اللذة والدعة صعب، لا سيما أهل الرفاهية وفي زمن البرد. وكذا أهل التعب ولا سيما في قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه مع ذلك دل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فلذلك نبه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعلقها، ليستشعر العبد الجد والإخلاص لربه. قوله: "يتنزل ربنا" كذا للأكثر هنا بوزن يتفعل مشددا، وللنسفي والكشميهني: "ينزل" بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر الزاي. قوله: "حين يبقى ثلث الليل" قال ابن بطال: ترجم بنصف الليل وساق في الحديث أن التنزل يقع ثلث الليل، لكن المصنف عول على ما في الآية وهي قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} فأخذ الترجمة من دليل القرآن، وذكر النصف فيه يدل على تأكيد المحافظة على وقت التنزل قبل دخوله ليأتي وقت الإجابة والعبد مرتقب له مستعد للقائه. وقال الكرماني: لفظ الخبر "حين يبقى ثلث الليل" وذلك يقع في النصف الثاني انتهى. والذي يظهر لي أن البخاري جرى على عادته فأشار إلى الرواية التي وردت بلفظ النصف، فقد أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمر، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "ينزل الله إلى السماء الدنيا نصف الليل الأخير أو ثلث الليل الآخر" وأخرجه الدار قطني في كتاب الرؤيا من رواية عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه، ومن طريق حبيب بن أبي ثابت عن الأغر عن أبي هريرة بلفظ: "شطر الليل" من غير تردد، وسأستوعب ألفاظه في التوحيد إن شاء الله تعالى. وقال أيضا: النزول محال على الله لأن حقيقته الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه على ذلك فليتأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه أو يفوض مع اعتقاد التنزيه، وقد تقدم شرح الحديث في الصلاة في "باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل" من أبواب التهجد؛ ويأتي ما بقي منه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(11/129)


15 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلاَءِ
6322- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ"
قوله: "باب الدعاء عند الخلاء" أي عند إرادة الدخول. حديث أنس وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وفيه ذكر من رواه بلفظ: "إذا أراد أن يدخل".

(11/129)


16 - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ:
6323- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ "عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ"
6324- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
6325- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
[6225- طرفه في: 7395]
قوله: "باب ما يقول إذا أصبح" ذكر فيه ثلاثة أحاديث. وقد ورد فيما يقال عند الصباح عدة أحاديث: منها حديث أنس رفعه: "من قال حين يصبح: "اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار" الحديث رواه الثلاثة وحسنه الترمذي. وحديث أبي سلام عمن خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه: "من قال إذا أصبح وإذا أمسى: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا إلا كان حقا على الله أن يرضيه" أخرجه أبو داود وسنده قوي. وهو عند الترمذي بنحوه من حديث ثوبان

(11/130)


بسند ضعيف، وحديث عبد الله بن غنام البياضي رفعه: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه" الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان، وحديث أنس "قال النبي صلى الله عليه وسلم: لفاطمة: ما منعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح في شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين" أخرجه النسائي والبزار.

(11/131)


17 - بَاب الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ
6326- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو "عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ " قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6327- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أُنْزِلَتْ فِي الدُّعَاءِ"
6328- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلاَةِ السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ صَالِحٍ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ"
قوله "باب الدعاء في الصلاة" ذكر فيه ثلاثة أحاديث وهي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص "عن أبي بكر الصديق أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي" وقد تقدم الكلام عليه في "باب الدعاء قبيل السلام" في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة بما فيه كفاية. قوله: "وقال عمرو" هو ابن الحارث "عن يزيد" هو ابن أبي حبيب وهو المذكور في السند الأول، وأبو الخير هو مرثد بفتح الميم والمثلثة بينهما راء مهملة. قوله: "قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم" وصله في التوحيد من رواية عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث ولفظه:" أن أبا بكر قال: يا رسول الله" وقد بينت ذلك في شرحه. قال الطبري: في حديث أبي بكر دلالة على رد قول من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من لا خطيئة له ولا ذنب، لأن الصديق من أكبر أهل الإيمان. وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت" . وقال الكرماني: هذا الدعاء من الجوامع، لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير وطلب غاية الإنعام، فالمغفرة ستر الذنوب ومحوها، والرحمة إيصال

(11/131)


الخيرات، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار وفي الثاني طلب إدخال الجنة وهذا هو الفوز العظيم. وقال ابن أبي حمزة ما ملخصه: في الحديث مشروعية الدعاء في الصلاة، وفضل الدعاء المذكور على غيره، وطلب التعليم من الأعلى وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع، وخص الدعاء بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وفيه أن المرء ينظر في عبادته إلى الأرفع فيتسبب في تحصيله. وفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر هذا الدعاء إشارة إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولعله فهم ذلك من حال أبي بكر وإيثاره أمر الآخرة قال: وفي قوله: "ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت" أي ليس لي حيلة في دفعه فهي حالة افتقار، فأشبه حال المضطر الموعود بالإجابة، وفيه هضم النفس والاعتراف بالتقصير، وتقدمت بقية فوائده هناك. حديث عائشة في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ} قال: أنزلت في الدعاء، وقد تقدم شرحه في تفسير سبحان، وعلي شيخه هو ابن سلمة كما أشرت إليه في تفسير المائدة. حديث عبد الله وهو ابن مسعود في التشهد، وقد تقدم شرحه في أواخر صفة الصلاة، وأخذ الترجمة من هذه الأحاديث إلا أن الأول نص في المطلوب، والثاني يستفاد منه صفة من صفات الداعي وهي عدم الجهر والمخافتة فيسمع نفسه ولا يسمع غيره، وقيل للدعاء صلاة لأنها لا تكون إلا بدعاء فهو من تسمية بعض الشيء باسم كله. والثالث فيه الأمر بالدعاء في التشهد وهو من جملة الصلاة، والمراد بالثناء الدعاء، فقد تقدم في باب التشهد بلفظ: "فليتخير من الدعاء ما شاء". وقد ورد الأمر بالدعاء في السجود في حديث أبي هريرة رفعه: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء" وورد الأمر أيضا بالدعاء في التشهد في حديث أبي هريرة وفي حديث فضالة بن عبيد عند أبي داود والترمذي وصححه، وفيه أنه أمر رجلا بعد التشهد أن يثنى على الله بما هو أهله ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء، ومحصل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من المواضع التي كان يدعو فيها داخل الصلاة ستة مواطن: الأول عقب تكبيرة الإحرام ففيه حديث أبي هريرة في الصحيحين "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" الحديث الثاني في الاعتدال ففيه حديث ابن أبي أوفى عند مسلم أنه كان يقول بعد قوله من شيء بعد "اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد". الثالث في الركوع وفيه حديث عائشة "كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" أخرجاه. الرابع في السجود وهو أكثر ما كان يدعو فيه وقد أمر به فيه. الخامس بين السجدتين "اللهم اغفر لي" السادس في التشهد وسيأتي، وكان أيضا يدعو في القنوت وفي حال القراءة إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ.

(11/132)


18 - باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلاَةِ
6329- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ قَالَ "كَيْفَ ذَاكَ قَالُوا صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ قَالَ أَفَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلاَّ مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا

(11/132)


وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سُمَيٍّ وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلاَنَ عَنْ سُمَيٍّ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَرَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6330- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ "كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ إِذَا سَلَّمَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُسَيَّبَ"
قوله: "باب الدعاء بعد الصلاة" أي المكتوبة، وفي هذه الترجمة رد على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع، متمسكا بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم لا يثبت إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" . والجواب أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت أنه "كان إذا صلى أقبل على أصحابه" فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه. قال ابن القيم في "الهدي النبوي": وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة سواء الإمام والمنفرد والمأموم فلم يكن ذلك من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما، قال: وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، قال، وهذا اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه ثم يسأل إذا انصرف عنه؟ ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية وهي الذكر لا لكونه دبر المكتوبة. قلت: وما ادعاه من النفي مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "يا معاذ إني والله لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وحديث أبي بكرة في قول "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن دبر كل صلاة" أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم، وحديث سعد الآتي في "باب التعوذ من البخل" قريبا، فإن في بعض طرقه المطلوب. وحديث زيد بن أرقم "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شيء" الحديث أخرجه أبو داود والنسائي، وحديث صهيب رفعه: "كان يقول إذا انصرف من الصلاة: اللهم أصلح لي ديني" الحديث أخرجه النسائي وصححه ابن حبان وغير ذلك. فإن قيل: المراد بدبر كل صلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلنا قد ورد الأمر بالذكر دبر كل صلاة، والمراد به بعد السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه.

(11/133)


وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة "قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات" وقال حسن. وأخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: "الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة" وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة وإيراده بعد السلام، وأما إذا انتقل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. ثم ذكر المصنف حديث أبي هريرة في التسبيح بعد الصلاة، وحديث المغيرة في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وقد ترجم في أواخر الصلاة "باب الذكر بعد التشهد" وأورد فيه هذين الحديثين، وتقدم شرحهما هناك مستوفى، ومناسبة هذه الترجمة لهما أن الذاكر يحصل له ما يحصل للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب كما في حديث ابن عمر رفعه: "يقول الله تعالى من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" أخرجه الطبراني بسند لين، وحديث أبي سعيد بلفظ: "من شغله القرآن وذكرى عن مسألتي" الحديث أخرجه الترمذي وحسنه. وقوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه أو ابن منصور، ويزيد هو ابن هارون، وورقاء هو ابن عمر اليشكري، وسمي هو مولى أبي صالح. قوله: "تابعه عبيد الله بن عمر" هو العمري "عن سمي" يعني في إسناده، وفي أصل الحديث لا في العدد المذكور، وقد بينت هناك عند شرحه أن ورقاء خالف غيره في قوله عشرا وإن الكل قالوا "ثلاثا وثلاثين" وأن منهم من قال المجموع هذا القدر. قلت: قد ورد بالذكر العشر في حديث عبد الله بن عمرو وجماعة، وحديث عبيد الله بن عمر تقدم موصولا هناك، وأغرب الكرماني فقال لما جاء هناك بلفظ الدرجات فقيدها بالعلا وقيد أيضا زيادة في الأعمال من الصوم والحج والعمرة زاد في عدة الأذكار، يعني ولما خلت هذه الرواية من ذلك نقص العدد، ثم قال: على أن مفهوم العدد لا اعتبار به انتهى. وكلا الجوابين متعقب: أما الأول فمخرج الحديثين واحد وهو من رواية سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة، وإنما اختلف الرواة عنه في العدد المذكور في الزيادة والنقص، فإن أمكن الجمع وإلا فيؤخذ بالراجح. فإن استووا فالذي حفظ الزيادة مقدم. وأظن سبب الوهم أنه وقع في رواية ابن عجلان "يسبحون ويكبرون ويحمدون في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة" فحمله بعضهم على أن العدد المذكور مقسوم على الأذكار الثلاثة فروى الحديث بلفظ إحدى عشرة، وألغى بعضهم الكسر فقال عشر والله أعلم. وأما الثاني فمرتب على الأول، وهو لائق بما إذا اختلف مخارج الحديث أما إذا اتحد المخرج فهو من تصرف الرواة، فإذا أمكن الجمع وإلا فالترجيح.قوله: "ورواه ابن عجلان عن سمي ورجاء بن حيوة" وصله مسلم قال: "حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان" فذكره مقرونا برواية عبيد الله بن عمر كلاهما عن سمي عن أبي صالح به وفي آخره: "قال ابن عجلان: فحدثت به رجاء بن حيوة فحدثني بمثله عن أبي صالح عن أبي هريرة" ووصله الطبراني من طريق حيوة بن شريح عن محمد بن عجلان عن رجاء بن حيوة وسمي كلاهما عن أبي صالح به وفيه: "تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدونه ثلاثا وثلاثين وتكبرونه أربعا وثلاثين" وقال في "الأوسط" لم يروه عن رجاء إلا ابن عجلان. قوله: "ورواه جرير" يعني ابن عبد الحميد "عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي الدرداء" وصله أبو يعلى في مسنده والإسماعيلي عنه عن أبي خيثمة عن جرير، ووصله النسائي من حديث جرير بهذا وفيه مثل ما في رواية ابن عجلان من تربيع التكبير،

(11/134)


وفي سماع أبي صالح من أبي الدرداء نظر، وقد بين النسائي الاختلاف فيه على عبد العزيز بن رفيع فأخرجه من رواية الثوري عنه عن أبي عمر الضبي عن أبي الدرداء، وكذا رواه شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي عمر لكن زاد أم الدرداء بين أبي الدرداء وبين أبي عمر أخرجه النسائي أيضا، ولم يوافق شريك على هذه الزيادة فقد أخرجه النسائي أيضا من رواية شعبة عن الحكم عن أبي عمر عن أبي الدرداء، ومن رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم لكن قال: "عن عمر الضبي" فإن كان اسم أبي عمر عمر اتفقت الروايتان، لكن جزم الدار قطني بأنه لا يعرف اسمه فكأنه تحرف على الراوي والله أعلم. قوله: "ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة" وصله مسلم من رواية روح بن القاسم عن سهيل فساق الحديث بطوله لكن قال فيه: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال سهيل: إحدى عشرة وإحدى عشرة وإحدى عشرة فذلك كله ثلاث وثلاثون" وأخرجه النسائي من رواية الليث عن ابن عجلان عن سهيل بهذا السند بغير قصة، ولفظ آخر قال فيه: "من قال خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين تكبيرة وثلاثا وثلاثين تسبيحة وثلاثا وثلاثين تحميدة ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعني تمام المائة غفرت له خطاياه" أخرجه النسائي، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن الليث عن ابن عجلان عن سهيل عن عطاء بن يزيد عن بعض الصحابة، ومن طريق زيد بن أبي أنيسة عن سهيل عن أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، وهذا اختلاف شديد على سهيل، والمعتمد في ذلك رواية سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة والله أعلم. ورواية أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة أخرجها مالك في الموطأ لكن لم يرفعه، وأوردها مسلم من طريق خالد بن عبد الله وإسماعيل بن زكريا كلاهما عن سهيل عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك. قوله في حديث المغيرة "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "في دبر كل صلاة" في رواية الحموي والمستملي: "في دبر صلاته". قوله: "وقال شعبة عن منصور قال سمعت المسيب" يعني ابن رافع بالسند المذكور وصله أحمد عن محمد ابن جعفر حدثنا شعبة به ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث قال ابن بطال: في هذه الأحاديث الحض على الذكر في أدبار الصلوات" وأن ذلك يوازي إنفاق المال في طاعة الله لقوله: "تدركون به من سبقكم" وسئل الأوزاعي هل الذكر بعد الصلاة أفضل أم تلاوة القرآن؟ فقال: ليس شيء يعدل القرآن، ولكن كان هدى السلف الذكر. وفيها أن الذكر المذكور يلي الصلاة المكتوبة ولا يؤخر إلى أن يصلي الراتبة لما تقدم، والله أعلم.

(11/135)


باب قول الله تبارك وتعالى (وصل عليهم)
...
19- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ
6331- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ "حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَيَا عَامِرُ لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ فَنَزَلَ يَحْدُو بِهِمْ يُذَكِّرُ "تَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا" وَذَكَرَ شِعْرًا غَيْرَ هَذَا وَلَكِنِّي لَمْ أَحْفَظْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْلاَ مَتَّعْتَنَا

(11/135)


بِهِ فَلَمَّا صَافَّ الْقَوْمَ قَاتَلُوهُمْ فَأُصِيبَ عَامِرٌ بِقَائِمَةِ سَيْفِ نَفْسِهِ فَمَاتَ فَلَمَّا أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نَارًا كَثِيرَةً
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النَّارُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ فَقَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَكَسِّرُوهَا قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ"
6332- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ مُرَّةَ "سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى"
6333- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ "قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرًا قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَهُوَ نُصُبٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَصَكَّ فِي صَدْرِي فَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا قَالَ فَخَرَجْتُ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ مِنْ قَوْمِي وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ فَانْطَلَقْتُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قَوْمِي فَأَتَيْتُهَا فَأَحْرَقْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا مِثْلَ الْجَمَلِ الأَجْرَبِ فَدَعَا لِأَحْمَسَ وَخَيْلِهَا"
6334- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسٌ خَادِمُكَ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ"
6335- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا"
6336- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ"
قوله: "باب قول الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} كذا للجمهور، ووقع في بعض النسخ زيادة: إن صلواتك سكن لهم، واتفقوا على أن المراد بالصلاة هنا الدعاء، وثالث أحاديث الباب يفسر ذلك، وتقدم في السورة قريبا من هذه الآية قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ

(11/136)


وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} وفسرت الصلوات هنا أيضا بالدعوات لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لمن يتصدق.قوله: "ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه" في هذه الترجمة إشارة إلى رد ما جاء عن ابن عمر: أخرج ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال: ذكرت رجلا عند ابن عمر فترحمت عليه فلهز في صدري وقال لي: ابدأ بنفسك. وعن إبراهيم النخعي: كان يقال إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك. وأحاديث الباب ترد على ذلك، ويؤيدها ما أخرجه مسلم وأبو داود من طريق طلحة بن عبد الله ابن كريز عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رفعه: "ما من مسلم يدعو لأخيه ظهر الغيب إلا قال، الملك: ولك مثل ذلك" وأخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه: "خمس دعوات مستجابات" وذكر فيها "ودعوة الأخ لأخيه" وأخرجه أيضا، هكذا استدل بهما ابن بطال، وفيه نظر لأن الدعاء لظهر الغيب ودعاء الأخ لأخيه أعم من أن يكون الداعي خصه أو ذكر نفسه معه، وأعم من أن يكون بدأ به أو بدأ بنفسه وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رفعه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه" وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر ولفظه: "وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه" ويؤيد هذا القيد أنه صلى الله عليه وسلم دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه كقوله في قصة هاجر الماضية في المناقب "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عينا معينا" وقد تقدم حديث أبي هريرة "اللهم أيده بروح القدس" يريد حسان بن ثابت وحديث ابن عباس "اللهم فقهه في الدين" وغير ذلك من الأمثلة، مع أن الذي جاء في حديث أبي لم يطرد فقد ثبت أنه دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه كما مر في المناقب من حديث أبي هريرة "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد" وقد أشار المصنف إلى الأول بسادس أحاديث الباب، وإلى الثاني بالذي بعده. وذكر المصنف فيه سبعة أحاديث: قوله: "وقال أبو موسى قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه" هذا طرف من حديث لأبي موسى تقدم بطوله موصولا في غزوة أوطاس من المغازي، وفيه قصة قتل أبي عامر وهو عم أبي موسى الأشعري، وفيه قول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: "أن أبا عامر قال له: قل للنبي صلى الله عليه وسلم استغفر لي، قال فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر" وفيه: "فقلت: ولي فاستغفر، فقال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما" . قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال رجل من القوم" هو عمر بن الخطاب، وعامر هو ابن الأكوع عم سلمة راوي الحديث، وقد تقدم بيان ذلك كله في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وسبب قول عمر "لولا متعتنا به" وأن ذلك ورد مصرحا به في صحيح مسلم، وأما ابن عبد البر فأورده مورد الاستقراء فقال: "كانوا عرفوا أنه ما استرحم لإنسان قط في غزاة تخصه إلا استشهد، فلذا قال عمر لولا أمتعتنا بعامر" قوله: "وذكر شعرا غير هذا ولكني لم أحفظه" تقدم بيانه في المكان المذكور من طريق حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد، ويعرف منه أن القائل "وذكر شعرا" هو يحيى بن سعيد راويه، وأن الذاكر هو يزيد بن أبي عبيد. وقوله: "من هناتك" بفتح الهاء والنون جمع هنة، ويروى "هنيهاتك، وهنياتك" والمراد الأراجيز القصار، وتقدم شرح الحديث مستوفى هناك. قوله: "فلما أمسوا أوقدوا نارا كثيرة" الحديث في قصة الحمر الأهلية في رواية حاتم بن إسماعيل "فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم فيه" يعني خيبر وذكر الحديث بطوله

(11/137)


وقد تقدم شرحه. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وعمرو شيخ شعبة فيه هو ابن مرة، وابن أبي أوفى هو عبد الله.قوله: "صل على آل أبي أوفى" أي عليه نفسه وقيل عليه وعلى أتباعه، وسيأتي الكلام في الصلاة على غير الأنبياء بعد ثلاثة عشر بابا. قوله في حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي "وهو نصب" بضم النون وبصاد مهملة ثم موحدة هو الصنم، وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة سأل، وقوله يسمى "الكعبة اليمانية" في رواية الكشميهني: "كعبة اليمانية" وهي لغة وقوله: "فخرجت في خمسين من قومي" في رواية الكشميهني: "فارسا" والقائل "وربما قال سفيان" هو علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه، وسفيان هو ابن عيينة، وقد تقدم شرح هذا الحديث في أواخر المغازي. في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس أن يكثر ماله وولده، وسيأتي شرحه قريبا بعد ثمانية وعشرين بابا، وقد بين مسلم - في رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس - أن ذلك كان في آخر دعائه لأنس ولفظه: "فقالت أمي يا رسول الله خويدمك ادع الله له، فدعا لي بكل خير، وكان في دعائه أن قال" فذكره. قال الداودي هذا يدل على بطلان الحديث الذي ورد "اللهم من آمن بي وصدق ما جئت به فأقلل له من المال والولد" الحديث قال: وكيف يصح ذلك وهو صلى الله عليه وسلم يخص على النكاح والتماس الولد. قلت: لا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون ورد في حصول الأمرين معا، لكن يعكر عليه حديث الباب فيقال: كيف دعا لأنس وهو خادمه بما كرهه لغيره، ويحتمل أن يكون مع دعائه له بذلك قرنه بأن لا يناله من قبل ذلك ضرر، لأن المعنى في كراهية اجتماع كثرة المال والولد إنما هو لما يخشى من ذلك من الفتنة بهما، والفتنة لا يؤمن معها الهلكة. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان. قوله: "رجلا يقرأ في المسجد" هو عباد بن بشر كما تقدم في الشهادات، وتقدم شرح المتن في فضائل القرآن. وقوله فيه: "لقد أذكرني كذا وكذا آية" قال الجمهور: يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينسى شيئا من القرآن بعد التبليغ لكنه لا يقر عليه، وكذا يجوز أن ينسى ما لا يتعلق بالإبلاغ، ويدل عليه قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . قوله: "سليمان" هو ابن مهران الأعمش. قوله: "عن أبي وائل" هو شقيق بن سلمة وقد تقدم في الأدب من طريق حفص بن غياث عن الأعمش "سمعت شقيقا". قوله: "فقال رجل" هو معتب بمهملة ثم مثناة ثقيلة ثم موحدة، أو حرقوص كما تقدم بيانه في غزوة حنين هناك، والمراد منه هنا قوله: "يرحم الله موسى" فخصه بالدعاء فهو مطابق لأحد ركني الترجمة، وقوله: "وجه الله" أي الإخلاص له.

(11/138)


20 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ
6337- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ أَبُو حَبِيبٍ حَدَّثَنَا هَارُونُ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدِّثْ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاَثَ مِرَارٍ وَلاَ تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ وَلاَ أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ فَانْظُرْ السَّجْعَ مِنْ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ"

(11/138)


قوله: "باب ما يكره من السجع في الدعاء" السجع بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها عين مهملة هو موالاة الكلام على روي واحد، ومنه سجعت الحمامة إذا رددت صوتها، قاله ابن دريد. وقال الأزهري: هو الكلام المقفى من غير مراعاة وزن. قوله: "هارون المقرئ" هو ابن موسى النحوي. قوله: "حدثنا الزبير بن الخريت" بكسر المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة. قوله: "حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين" هذا إرشاد وقد بين حكمته. قوله: "ولا تمل الناس هذا القرآن" هو بضم أول تمل من الرباعي، والملل والسآمة بمعنى، وهذا القرآن منصوب على المفعولية، وقد تقدم في كتاب العلم حديث ابن مسعود "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهة السامة علينا". قوله: "فلا ألفينك" بضم الهمزة وبالفاء أي لا أجدنك، والنون مثقلة للتأكيد، وهذا النهي بحسب الظاهر للمتكلم، وهو في الحقيقة للمخاطب وهو كقولهم لا أرينك هاهنا. وفيه كراهة التحديث عند من لا يقبل عليه؛ والنهي عن قطع حديث غيره، وأنه لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه ويحدث من يشتهي بسماعه لأنه أجدر أن ينتفع به. قوله: "فتملهم" يجوز في محله الرفع والنصب. قوله: "وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه" أي لا تقصد إليه ولا تشغل فكرك به لما فيه من التكلف المانع للخشوع المطلوب في الدعاء. وقال ابن التين: المراد بالنهي المستكره منه. وقال الداودي الاستكثار منه. قوله: "لا يفعلون إلا ذلك" أي ترك السجع. ووقع عند الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن يحيى بن محمد شيخ البخاري بسنده فيه: "لا يفعلون ذلك" بإسقاط إلا، وهو واضح، وكذا أخرجه البزار في مسنده عن يحيى والطبراني عن البزار، ولا يرد على ذلك ما وقع في الأحاديث الصحيحة لأن ذلك كان يصدر من غير قصد إليه ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب" وكقوله صلى الله عليه وسلم: "صدق وعده، وأعز جنده" الحديث وكقوله: "أعوذ بك من عين لا تدمع، ونفس لا تشبع، وقلب لا يخشع" وكلها صحيحة. قال الغزالي: المكروه من السجع هو المتكلف لأنه لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير متكلفة، قال الأزهري: وإنما كرهه صلى الله عليه وسلم لمشاكلته كلام الكهنة كما في قصة المرأة من هذيل. وقال أبو زيد وغيره: أصل السجع القصد المستوى، سواء كان في الكلام أم غيره.

(11/139)


باب ليعزم المسألة فإنه لامكره له
...
21 - باب لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ
6338- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلاَ يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ"
[الحديث 6338- طرفه في: 7464]
6339- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لاَ مُستكْرِهَ لَهُ"
[الحديث 6339- طرفه في: 7477]

(11/139)


قوله: "باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له" المراد بالمسألة الدعاء، والضميران لله تعالى، أو الأول ضمير الشأن والثاني لله تعالى جزما.ومكره بضم أوله وكسر ثالثه. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وعبد العزيز هو ابن صهيب، ونسب في رواية أبي زيد المروزي وغيره. قوله: "فليعزم المسألة" في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور "الدعاء" ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى، وإن كان مأمورا في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى. وقيل: معنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة. قوله: "ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني" في حديث أبي هريرة المذكور بعده "اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت" وزاد في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في التوحيد "اللهم ارزقني إن شئت" وهذه كلها أمثلة، ورواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم تتناول جميع ما يدعى به. ولمسلم من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة "ليعزم في الدعاء" وله من رواية العلاء "ليعزم وليعظم الرغبة" ومعنى قوله ليعظم الرغبة أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، ويؤيده ما في آخر هذه الرواية: "فإن الله لا يتعاظمه شيء" . قوله: "فإنه لا مستكره له" في حديث أبي هريرة "فإنه لا مكره له" وهما بمعنى، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، والأول أولى. وقد وقع في رواية عطاء بن ميناء "فإن الله صانع ما شاء" وفي رواية العلاء "فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه لا يفعل إلا ما شاءه، وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى، ويؤيده ما سيأتي في حديث الاستخارة. قال ابن بطال: في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما. وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم في نفسه -يعني من التقصير- فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وقال الداودي: معنى قوله: "ليعزم المسألة" أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى، ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو جيد.

(11/140)


22 - باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ
6340- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"
قوله: "باب يستجاب للعبد" أي إذا دعا "ما لم يعجل" والتعبير بالعبد وقع في رواية أبي إدريس كما سأنبه عليه. قوله: "عن أبي عبيد" هو سعد بن عبيد. قوله: "مولى ابن أزهر" اسمه عبد الرحمن. قوله: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل" أي يجاب دعاؤه. وقد تقدم بيان ذلك في التفسير في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ} . قوله: "يقول دعوت فلم يستجب لي" في رواية غير أبي ذر "فيقول: "بزيادة فاء واللام منصوبة، قال ابن بطال: المعنى أنه يسأم

(11/140)


فيترك الدعاء فيكون كالمان بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء. وقد وقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل. قيل: وما الاستعجال؟ قال: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" ومعنى قوله يستحسر وهو بمهملات ينقطع. وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه: "من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة" الحديث أخرجه الترمذي بسند لين وصححه الحاكم فوهم، قال الداودي: يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة وما قام مقامها من الادخار والتكفير انتهى. وقد قدمت في أول كتاب الدعاء الأحاديث الدالة على أن دعوة المؤمن لا ترد، وأنها إما أن تعجل له الإجابة، وإما أن تدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له في الآخرة خير مما سأل. فأشار الداودي إلى ذلك، وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله: أعلم أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض. ومن جملة آداب الدعاء تحرى الأوقات الفاضلة كالسجود، وعند الأذان، ومنها تقديم الوضوء والصلاة، واستقبال القبلة، ورفع اليدين، وتقديم التوبة، والاعتراف بالذنب، والإخلاص، وافتتاحه بالحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال بالأسماء الحسنى، وأدلة ذلك ذكرت في هذا الكتاب. وقال الكرماني ما ملخصه: الذي يتصور في الإجابة وعدمها أربع صور: الأولى عدم العجلة وعدم القول المذكور، الثانية وجودهما، الثالثة والرابعة عدم أحدهما ووجود الآخر، فدل الخير على أن الإجابة تختص بالصورة الأولى دون ثلاث، قال: ودل الحديث على أن مطلق قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} مقيد بما دل عليه الحديث. قلت: وقد أول الحديث المشار إليه قبل على أن المراد بالإجابة ما هو أعم من تحصيل المطلوب بعينه أو ما يقوم مقامه ويزيد عليه، والله أعلم.

(11/141)


23 - باب رَفْعِ الأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ "سَمِعَا أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ"
قوله: "باب رفع الأيدي في الدعاء" أي على صفة خاصة، وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر. قوله: "وقال أبو موسى" هو الأشعري "دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه" هذا طرف من حديثه الطويل في قصة قتل عمه أبي عامر الأشعري، وقد تقدم موصولا في المغازي في غزوة حنين، وأشرت إليه قبل بثلاثة أبواب في "باب قول الله تعالى وصل عليهم". قوله: "وقال ابن عمر رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما"

(11/141)


صنع خالد" وهذا طرف من قصة غزوة بني جذيمة بجيم ومعجمة وزن عظيمة، وقد تقدم موصولا مع شرحه في المغازي بعد غزوة الفتح، وخالد المذكور هو ابن الوليد. قوله: "وقال الأويسي" هو عبد العزيز بن عبد الله، ومحمد بن جعفر أي ابن أبي كثير، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. وهذا طرف أيضا من حديث أنس في الاستسقاء وقد تقدم هناك بهذا السند معلقا، ووصله أبو نعيم من رواية أبي زرعة الرازي قال حدثنا الأويسي به، وأورد البخاري قصة الاستسقاء مطولة من رواية شريك بن أبي نمر وحده عن أنس من طرق في بعضها "ورفع يديه" وليس في شيء منها "حتى رأيت بياض إبطيه" إلا هذا. وفي الحديث الأول رد من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه وفي الذي بعده رد على من قال لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلا، وتمسك بحديث أنس "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" وهو صحيح، لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع وقد أشرت إلى ذلك في أبواب الاستسقاء، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلا وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما "حتى يرى بياض إبطيه" بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء، قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. قلت: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء سرد منها النووي في "الأذكار" وفي "شرح المهذب" حملة. وعقد لها البخاري أيضا في "الأدب المفرد" بابا ذكر فيه حديث أبي هريرة "قدم الطفيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسا عصت فادع الله عليها، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم اهد دوسا" وهو في الصحيحين دون قوله: "ورفع يديه" وحديث جابر "أن الطفيل بن عمرو هاجر" فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه وفيه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم وليديه فاغفر ورفع يديه" وسنده صحيح، وأخرجه مسلم. وحديث عائشة أنها "رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعا يديه يقول: اللهم إنما أنا بشر" الحديث وهو صحيح الإسناد.ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف في "جزء رفع اليدين": "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان" ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يدعو" وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضا: "ثم رفع يديه يدعو" وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع "فرفع يديه ثلاث مرات" الحديث. ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة "فرفع يديه وجعل يدعو" وفي الصحيحين من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية "ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول: اللهم هل بلغت" ومن حديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى فرفع يديه وقال: اللهم أمتي" وفي حديث عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوما، ثم سرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا" الحديث أخرجه الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم، وفي حديث أسامة "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناوله بيده وهو رافع اليد الأخرى" أخرجه النسائي بسند جيد، وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود "ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: اللهم صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" الحديث وسنده جيد. والأحاديث في ذلك كثيرة: وأما ما أخرجه مسلم من حديث عمارة بن

(11/142)


رويبة براء وموحدة مصغر أنه "رأى بشر بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك وقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يزيد على هذا يشير بالسبابة" فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها، وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث سلمان رفعه: "إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا" بكسر المهملة وسكون الفاء أي خالية وسنده جيد، قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم، ورأى شريح رجلا يرفع يديه داعيا فقال: من تتناول بهما لا أم لك؟ وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم. وذكر ابن التين عن عبد الله بن عمر بن غانم أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال: وقال في "المدونة" ويختص الرفع بالاستسقاء ويجعل بطونهما إلى الأرض. وأما ما نقله الطبري عن ابن عمر فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين وقال: ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبري عنه أيضا. وعن ابن عباس أن هذه صفة الدعاء. وأخرج أبو داود والحاكم عنه من وجه آخر قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا. وأخرج الطبري من وجه آخر عنه قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه. وقد صح عن ابن عمر خلاف ما تقدم أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق القاسم بن محمد "رأيت ابن عمر يدعو عند القاص يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه باطنهما مما يليه وظاهرهما مما يلي وجهه".

(11/143)


24 - باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
6342- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا فَتَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ وَمُطِرْنَا حَتَّى مَا كَادَ الرَّجُلُ يَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمْ تَزَلْ تُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا فَقَدْ غَرِقْنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَلاَ يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ"
قوله: "باب الدعاء غير مستقبل القبلة" ذكر فيه حديث قتادة عن أنس "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقام رجل فقال: يا رسول الله ادع الله أن يسقينا" الحديث. وفيه: "فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: ادع الله أن يصرف عنا فقد غرقنا، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا" الحديث، وقد تقدم شرحه في الاستسقاء، وفي بعض طرقه في الأول "فقال: اللهم اسقنا" ووجه أخذه من الترجمة من جهة أن الخطيب من شأنه أن يستدبر القبلة، وأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا في المرتين استدار، وقد تقدم في الاستسقاء من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في هذه القصة في آخره: "ولم يذكر أنه حول رداءه، ولا استقبل القبلة".

(11/143)


25 - باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
6343- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي فَدَعَا وَاسْتَسْقَى ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ"
قوله: "باب الدعاء مستقبل القبلة" ذكر فيه حديث عبد الله بن زيد قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقى فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه". قال الإسماعيلي هذا الحديث مطابق للترجمة التي قبل هذا، يريد أنه قدم الدعاء قبل الاستسقاء، ثم قال: لكن لعل البخاري أراد أنه لما تحول وقلب رداءه دعا حينئذ أيضا، قلت: وهو كذلك، فأشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وقد مضى في الاستسقاء من هذا الوجه بلفظ: "وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه" وترجم له "استقبال القبلة في الدعاء" والجمع بينه وبين حديث أنس أن القصة التي في حديث أنس كانت في خطبة الجمعة بالمسجد، والقصة التي في حديث عبد الله بن زيد كانت بالمصلى، وقد سقطت هذه الترجمة من رواية أبي زيد المروزي فصار حديثها من جملة الباب الذي قبله، ويسقط بذلك اعتراض الإسماعيلي من أصله. وقد ورد في استقبال القبلة في الدعاء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث: منها حديث عمر عند الترمذي وقد قدمته في "باب رفع اليدين في الدعاء" ولمسلم والترمذي من حديث ابن عباس عن عمر "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه" الحديث، وفي حديث ابن مسعود "استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش" الحديث متفق عليه، وفي حديث عبد الرحمن بن طارق عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جاز مكانا من دار يعلى استقبل القبلة فدعا" أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له، وفي حديث ابن مسعود "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبر عبد الله ذي النجادين" الحديث وفيه: "فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعا يديه" أخرجه أبو عوانة في صحيحه.

(11/144)


26 - باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَبِكَثْرَةِ مَالِهِ
6344- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَتْ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ"
قوله: "باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله" ذكر فيه حديث أنس "قالت أمي يا رسول الله خادمك أدع الله له، قال: اللهم أكثر ماله وولده"
حديث أنس "قالت أمي يا رسول الله خادمك أدع الله له، قال: اللهم أكثر ماله وولده" الحديث. وقد مضى قريبا، وذكره في عدة أبواب. وليس في شيء منها ذكر العمر، فقال بعض الشراح: مطابقة الحديث للترجمة أن الدعاء بكثرة الولد يستلزم حصول طول العمر، وتعقب بأنه لا ملازمة بينهما إلا بنوع من المجاز بأن يراد أن كثرة الولد في العادة تستدعي بقاء ذكر الولد ما بقي أولاده، فكأنه حي. والأولى في الجواب أنه أشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرقه، فأخرج في

(11/144)


"الأدب المفرد" من وجه آخر عن أنس قال: "قالت أم سليم - وهي أم أنس - خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له" فأما كثرة ولد أنس وماله فوقع عند مسلم في آخر هذا الحديث من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس "قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم"، وتقدم في حديث: "الطاعون شهادة لكل مسلم" في كتاب الطب قول أنس" أخبرتني ابنتي أمينة أنه دفن من صلبي إلى يوم مقدم الحجاج البصرة مائة وعشرون "وقال النووي في ترجمته: كان أكثر الصحابة أولادا. وقد قال ابن قتيبة في "المعارف": كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة وأنس وخليفة بن بدر، وزاد غيره رابعا وهو المهلب بن أبي صفرة. وأخرج الترمذي عن أبي العالية في ذكر أنس: وكان له بستان يأتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك، ورجاله ثقات. وأما طول عمر أنس فقد ثبت في الصحيح أنه كان في الهجرة ابن تسع سنين وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل وقيل سنة ثلاث وله مائة وثلاث سنين قاله خليفة وهو المعتمد، وأكثر ما قيل في سنه أنه بلغ مائة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه تسعا وتسعين سنة.

(11/145)


27 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ
6345- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ"
[الحديث 6345- أطرافه في 6346، 7421، 7431]
6346- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَقَالَ وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ"
قوله: "باب الدعاء عند الكرب" بفتح الكاف وسكون الراء بعدها موحدة، هو ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه. قوله: "هشام" وفي الطريق الثانية "هشام بن أبي عبد الله" وهو الدستوائي، وأبو العالية هو الرياحي بتحتانية ثم مهملة واسمه رفيع، وقد رواه قتادة عنه بالعنعنة وهو مدلس، وقد ذكر أبو داود في السنن في كتاب الطهارة عقب حديث أبي خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية قال شعبة: إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث: حديث يونس بن متى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث القضاة ثلاثة. وحديث ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون، وروى ابن أبي حاتم في "المراسيل" بسنده عن يحيى القطان عن شعبة قال: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أحاديث فذكرها بنحوه ولم يذكر حديث ابن عمر، وكأن البخاري لم يعتبر

(11/145)


بهذا الحصر لأن شعبة ما كان يحدث عن أحد من المدلسين إلا بما يكون ذلك المدلس قد سمعه من شيخه، وقد حدث شعبة بهذا الحديث عن قتادة، وهذا هو السر في إيراده له معلقا في آخر الترجمة من رواية شعبة. وأخرج مسلم الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أبا العالية حدثه، وهذا صريح في سماعه له منه. وأخرج البخاري أيضا من رواية قتادة عن أبي العالية غير هذا، وهو حديث رؤية موسى وغيره ليلة أسرى به. وأخرج مسلم أيضا. وقوله في هذا المعلق "وقال وهب" كذا للأكثر، وللمستملي وحده "وهيب" بالتصغير.وقال أبو ذر: الصواب الأول. قلت: ووقع في رواية أبي زيد المروزي "وهب بن جرير" أي ابن حازم فأزال الإشكال، ويؤيده أن البخاري أخرج الحديث المذكور في التوحيد من طريق وهيب بالتصغير وهو ابن خالد فقال: سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. فظهر أنه عند وهيب بالتصغير عن سعيد بالمهملة والدال، وعند وهب بسكون الهاء عن شعبة بالمعجمة والموحدة. قوله: "كان يدعو عند الكرب" أي عند حلول الكرب، وعند مسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب" وله من رواية يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أبي الحارث عن أبي العالية "كان إذا حزبه أمر" وهو بفتح المهملة والزاي وبالموحدة أي هجم عليه أو غلبه، وفي حديث على عند النسائي وصححه الحاكم "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أو شدة أن أقولها". قوله: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم" ووقع في الرواية التي بعدها بلفظ: "ورب الأرض ورب العرش الكريم" وقال في أوله "رب العرش الكريم" بدل "العظيم الحليم" ووقع جميع ما تضمنته هاتان الروايتان في رواية وهيب بن خالد التي أشرت إليها، لكن قال: "العليم الحليم" باللام بدل الظاء المعجمة، وكذا هو لمسلم من طريق معاذ بن هشام وقال: "العظيم" بدل "العليم". قوله: "رب العرش العظيم" نقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم، وكذا برفع الكريم في قوله: "رب العرش الكريم" على أنهما نعتان للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور بالجر على أنه نعت للعرش، وكذا قرأ الجمهور في قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} و {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} بالرفع، وقرأ ابن محيصن بالجر فيهما، وجاء ذلك أيضا عن ابن كثير وعن أبي جعفر المدني، وأعرب بوجهين أحدهما ما تقدم والثاني أن يكون مع الرفع نعتا للعرش على أنه خبر لمبتدأ محذوف قطع عما قبله للمدح، ورجح لحصول توافق القراءتين، ورجح أبو بكر الأصم الأول لأن وصف الرب بالعظيم أولى من وصف العرش، وفيه نطر لأن وصف ما يضاف للعظيم بالعظيم أقوى في تعظيم العظيم، فقد نعت الهدهد عرش بلقيس بأنه عرش عظيم ولم ينكر عليه سليمان، قال العلماء: الحليم الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، والعظيم الذي لا شيء يعظم عليه، والكريم المعطى فضلا، وسيأتي لذلك مزيد في شرح الأسماء الحسنى قريبا. وقال الطيبي: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب، لأنه مقتضى التربية، وفيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التي تدل على تمام القدرة، والحلم الذي يدل على العلم، إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية. ووقع في حديث على الذي أشرت إليه "لا إله إلا الله الكريم العظيم، سبحان الله تبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين" وفي لفظ: "الحليم الكريم" في الأول وفي لفظ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا

(11/146)


إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم" وفي لفظ: "لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحانه تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين" أخرجها كلها النسائي. قال الطبري: معنى قول ابن عباس "يدعو" وإنما هو تهليل وتعظيم يحتمل أمرين: أحدهما أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء كما ورد من طريق يوسف ابن عبد الله بن الحارث المذكورة وفي آخره: "ثم يدعو". قلت: وكذا هو عند أبي عوانة في مستخرجه من هذا الوجه، وعند عبد بن حميد من هذا الوجه "كان إذا حزبه أمر قال" فذكر الذكر المأثور وزاد: "ثم دعا" وفي "الأدب المفرد" من طريق عبد الله بن الحارث "سمعت ابن عباس" فذكره وزاد في آخره: "اللهم اصرف عني شره" قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب؛ وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء. كان على الرجاء. ثانيهما ما أجاب به ابن عيينة فيما حدثنا حسين بن حسن المروزي قال: "سألت ابن عيينة عن الحديث الذي فيه أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث فقال سفيان: هو ذكر، وليس فيه دعاء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عن ربه عز وجل. من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" قال وقال أمية ابن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء
قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال فكيف بالخالق؟ قلت: ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له" أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وفي لفظ للحام "فقال رجل: أكانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ألا تسمع إلى قول الله تعالى: {كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} . وقال ابن بطال: حدثني أبو بكر الرازي قال كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي عليه مدار الفتيا فسعى به عند السلطان فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي صلى الله عليه وسلم: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه. قال فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكن إلا قليلا حتى أخرج انتهى. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "الفرج بعد الشدة" له من طريق عبد الملك بن عمير قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان أنظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة جلدة وأوقفه للناس، قال فبعث إليه فجيء به فقام إليه علي بن الحسين فقال: يا ابن عم تكلم بكلمات الفرج يفرج الله عنك، فذكر حديث علي باللفظ الثاني، فقالها، فرفع إليه عثمان رأسه فقال: أرى وجه رجل كذب عليه، خلوا سبيله، فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره فأطلق. وأخرج النسائي والطبري من طريق الحسن بن الحسن بن علي قال: لما زوج عبد الله بن جعفر ابنته قال لها إن نزل بك أمر فاستقبليه بأن تقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. قال الحسن: فأرسل إلي الحجاج فقلتهن فقال: والله لقد أرسلت إليك وأنا أريد أن أقتلك، فلأنت اليوم أحب إلي من كذا وكذا. وزاد في لفظ: فسل حاجتك. ومما ورد من

(11/147)


28 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ
6347- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُمَيٌّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ" قَالَ سُفْيَانُ الْحَدِيثُ ثَلاَثٌ زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً لاَ أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ هِيَ.
[الحديث 6347- طرفه في 6616]
قوله: "باب التعوذ من جهد البلاء" الجهد بفتح الجيم وبضمها المشقة، وتقدم ما فيه في حديث بدء الوحي أول الكتاب، والبلاء بالفتح مع المد ويجوز الكسر مع القصر. قوله: "سمي" بالمهملة مصغر هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي. قوله: "كان يتعوذ" كذا للأكثر، ورواه مسدد عن سفيان بسنده هذا بلفظ الأمر "تعوذوا" وسيأتي في كتاب القدر، وكذا وقع في رواية الحسن بن علي الواسطي عن سفيان عند الإسماعيلي وأبي نعيم. قوله: "ودرك الشقاء" بفتح الدال والراء المهملتين ويجوز سكون الراء وهو الإدراك واللحاق، والشقاء بمعجمة ثم قاف هو الهلاك، ويطلق على السبب المؤدي إلى الهلاك. قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة راوي الحديث المذكور، وهو موصول بالسند المذكور. قوله: "الحديث ثلاث، زدت أنا واحدة لا أدري أيتهن" أي الحديث المرفوع المروي يشتمل على ثلاث جمل من الجمل الأربع؛ والرابعة زادها سفيان من قبل نفسه ثم خفي عليه تعيينها، ووقع عند الحميدي في مسنده عن سفيان "الحديث ثلاث من هذه الأربع" وأخرجه أبو عوانة والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق الحميدي ولم يفصل ذلك بعض الرواة عن سفيان، وفي ذلك تعقب على الكرماني حيث اعتذر عن سفيان في جواب من استشكل جواز زيادته الجملة المذكورة في الحديث مع أنه لا يجوز الإدراج في الحديث فقال: يجاب عنه بأنه كان يميزها إذا حدث، كذا قال وفيه نظر، فسيأتي في القدر عن مسدد وأخرجه مسلم عن أبي خيثمة وعمرو الناقد والنسائي عن قتيبة والإسماعيلي من رواية العباس بن الوليد وأبو عوانة من رواية عبد الجبار بن العلاء وأبو نعيم من طريق سفيان بن وكيع كلهم عن سفيان بالخصال الأربعة بغير تمييز، إلا أن مسلما قال عن عمرو الناقد: قال سفيان أشك أني زدت واحدة منها. وأخرجه الجوزقي من طريق عبد الله بن هاشم عن سفيان فاقتصر على ثلاثة ثم قال: قال سفيان وشماتة الأعداء. وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان، وبين أن الخصلة المزيدة هي شماتة الأعداء، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق شجاع بن مخلد عن سفيان مقتصرا على الثلاثة دونها، وعرف من ذلك تعيين الخصلة المزيدة، ويجاب عن النظر بأن سفيان كان إذا حدث ميزها ثم طال الأمر فطرقه السهو عن تعيينها فحفظ بعض من سمع تعيينها منه قبل أن يطرقه السهو؛ ثم كان بعد أن خفي عليه

(11/148)


تعيينها يذكر كونها مزيدة مع إبهامها، ثم بعد ذلك إما أن يحمل الحال حيث لم يقع تمييزها لا تعيينا ولا إبهاما أن يكون ذهل عن ذلك أو عين أو ميز فذهل عنه بعض من سمع، ويترجح كون الخصلة المذكورة هي المزيدة بأنها تدخل في عموم كل واحدة من الثلاثة ثم كل واحدة من الثلاثة مستقلة، فإن كل أمر يكره يلاحظ فيه جهة المبدأ وهو سوء القضاء وجهة المعاد وهو درك الشقاء لأن شقاء الآخرة هو الشقاء الحقيقي وجهة المعاش وهو جهد البلاء وأما شماتة الأعداء فتقع لكل من وقع له كل من الخصال الثلاثة. وقال ابن بطال وغيره: جهد البلاء كل ما أصاب المرء من شدة مشقة وما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه. وقيل المراد بجهد البلاء قلة المال وكثرة العيال كذا جاء عن ابن عمر. والحق أن ذلك فرد من أفراد جهد البلاء. وقيل هو ما يختار الموت عليه، قال: ودرك الشقاء يكون في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء عام في النفس والمال والأهل والولد والخاتمة والمعاد، قال: والمراد بالقضاء هنا المقضي، لأن حكم الله كله حسن لا سوء فيه. وقال غيره: القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل، قال ابن بطال: وشماتة الأعداء ما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ، وإنما تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تعليما لأمته، فإن الله تعالى كان آمنه من جميع ذلك، وبذلك جزم عياض. قلت: ولا يتعين ذلك، بل يحتمل أن يكون استعاذ بربه من وقوع ذلك بأمته، ويؤيده رواية مسدد المذكورة بصيغة الأمر كما قدمته. وقال النووي: شماتة الأعداء فرحهم ببلية تنزل بالمعادي، قال: وفي الحديث دلالة لاستحباب الاستعاذة من الأشياء المذكورة، وأجمع على ذلك العلماء في جميع الأعصار والأمصار، وشذت طائفة من الزهاد. قلت: وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل كتاب الدعوات. وفي الحديث أن الكلام المسجوع لا يكره إذا صدر عن غير قصد إليه ولا تكلف، قاله ابن الجوزي، قال: وفيه مشروعية الاستعاذة، ولا يعارض ذلك كون ما سبق في القدر لا يرد لاحتمال أن يكون مما قضى، فقد يقضي على المرء مثلا بالبلاء ويقضي أنه إن دعا كشف، فالقضاء محتمل للدافع والمدفوع، وفائدة الاستعاذة والدعاء إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه إليه، وقد تقدم ذلك مبسوطا في أوائل كتاب الدعوات.

(11/149)


29 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى
6348- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ " أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى قُلْتُ إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَتْ فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى"
قوله: "باب" كذا للأكثر بغير ترجمة، ذكر فيه حديث عائشة في الوفاة النبوية، وفيه قوله صلى الله عليه

(11/149)


وسلم: "الرفيق الأعلى" وقد تقدم شرحه في أواخر المغازي، وتعلقه بما قبله من جهة أن فيه إشارة إلى حديث عائشة أنه كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، وقضية سياقها هنا أنه لم يتعوذ في مرض موته بذلك، بل تقدم في الوفاة النبوية من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة "فذهبت أعوده فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى". قوله: "أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم أن عائشة رضي الله عنها قالت" لم أقف على تعيين أحد منهم صريحا، وقد روى أصل الحديث المذكور عن عائشة ابن أبي مليكة وذكوان مولى عائشة وأبو سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد، فيمكن أن يكون الزهري عناهم أو بعضهم.

(11/150)


30 - باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ
6349- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ" أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا قَالَ لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ"
6350- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ "أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا فِي بَطْنِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ"
6351- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي"
قوله: "باب الدعاء بالموت والحياة" في رواية أبي زيد المروزي وبالحياة وهو أوضح. حديث خباب، ويحيى في سنده هو ابن سعيد القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وإنما أعاده عن محمد بن المثنى بعد أن أورده عن مسدد وكلاهما يرويه عن يحيى القطان لما في رواية محمد بن المثنى من الزيادة وهي قوله: "في بطنه فسمعته يقول" وباقي سياقهما سواء، ووقعت الزيادة المذكورة عند الكشميهني وحده في رواية مسدد وهي غلط، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب عيادة المرضى. حديث أنس "لا يتمنين أحدكم الموت" في رواية الكشميهني: "أحد منكم" وقد تقدم شرحه أيضا هناك.=

36.

مجلد 36. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)    

باب الدعاء للصبيان بالبركة ومسح وءوسهم
...
31 - باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى وُلِدَ لِي غُلاَمٌ وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ
6352- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ الْجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ "سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ"

(11/150)


32 - باب الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6357- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ "لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
6358- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ"
قوله: "باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" هذا الإطلاق يحتمل حكمها وفضلها وصفتها ومحلها، والاقتصار على ما أورده في الباب يدل على إرادة الثالث، وقد يؤخذ منه الثاني، أما حكمها فحاصل ما وقفت عليه من كلام العلماء فيه عشرة مذاهب: أولها قول ابن جرير الطبري إنها من المستحبات وادعى الإجماع على ذلك. ثانيها مقابله وهو نقل ابن القصار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة. ثالثها تجب في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد قاله أبو بكر الرازي من الحنفية

(11/152)


وابن حزم وغيرهما. وقال القرطبي المفسر: لا خلاف في وجوبها في العمر مرة وأنها واجبة في كل حين وجوب السنن المؤكدة، وسبقه ابن عطية. رابعها تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحلل قاله الشافعي ومن تبعه. خامسها تجب في التشهد وهو قول الشعبي وإسحاق بن راهويه. سادسها تجب في الصلاة من غير تعيين من نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر. سابعها يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد قاله أبو بكر بن بكير من المالكية: ثامنها كلما ذكر قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية والحليمي وجماعة من الشافعية. وقال ابن العربي من المالكية إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشري. تاسعها في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا حكاه الزمخشري. عاشرها في كل دعاء حكاه أيضا. وأما محلها فيؤخذ مما أوردته من بيان الآراء في حكمها، وسأذكر ما ورد فيه عند الكلام على فضلها، وأما صفتها فهي أصل ما يعول عليه في حديثي الباب. قوله: "حدثنا الحكم" لم أقف عليه في جميع الطرق عن شعبة إلا هكذا غير منسوب، وهو فقيه الكوفة في عصره وهو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر، ووقع عن الترمذي والطبراني وغيرهما من رواية مالك بن مغول وغيره منسوبا قالوا "عن الحكم بن عتيبة" وعبد الرحمن بن أبي ليلى تابعي كبير وهو والد ابن أبي ليلى فقيه الكوفة محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ينسب إلى جده. قوله: "لقيني كعب بن عجرة" في رواية فطر بن خليفة عن ابن أبي ليلى "لقيني كعب بن عجرة الأنصاري" أخرجه الطبراني، ونقل ابن سعد عن الواقدي أنه أنصاري من أنفسهم، وتعقبه فقال: لم أجده في نسب الأنصار، والمشهور أنه بلوى، والجمع بين القولين أنه بلوى حالف الأنصار، وعين المحاربي عن مالك بن مغول عن الحكم المكان الذي التقيا به، فأخرجه الطبري من طريقه بلفظ أن كعبا قال له وهو يطوف بالبيت. قوله: "ألا أهدي لك هدية" زاد عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جده كما تقدم في أحاديث للأنبياء "سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا" يجوز في أن الفتح والكسر؛ وقال الفاكهاني في "شرح العمدة": في هذا السياق إضمار تقديره فقال عبد الرحمن نعم فقال كعب إن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وقع ذلك صريحا في رواية شبابة وعفان عن شعبة بلفظ: "قلت بلى قال" أخرجه الخلعي في فوائده. وفي رواية عبد الله بن عيسى المذكورة ولفظه: "فقلت بلى فاهدها لي، فقال". قوله: "فقلنا يا رسول الله" كذا في معظم الروايات عن كعب بن عجرة "قلنا" بصيغة الجمع، وكذا وقع في حديث أبي سعيد في الباب، ومثله في حديث أبي بريدة عند أحمد وفي حديث طلحة عند النسائي وفي حديث أبي هريرة عند الطبري، ووقع عند أبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة بسند حديث الباب: "قلنا أو قالوا يا رسول الله" بالشك والمراد الصحابة أو من حضر منهم، ووقع عند السراج والطبراني من رواية قيس بن سعد عن الحكم به "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا" وقال الفاكهاني: الظاهر أن السؤال صدر من بعضهم لا من جميعهم ففيه التعبير عن البعض بالكل. ثم قال: ويبعد جدا أن يكون كعب هو الذي باشر السؤال منفردا فأتى بالنون التي للتعظيم، بل لا يجوز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: "قولوا فلو كان السائل واحدا لقال له قل ولم يقل قولوا" انتهى، ولم يظهر لي وجه نفي الجواز وما المانع أن يسأل الصحابي الواحد عن الحكم فيجيب صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع إشارة إلى اشتراك الكل في الحكم، ويؤكده أن في نفس السؤال "قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي" كلها بصيغة الجمع فدل على أنه سأل لنفسه ولغيره فحسن الجواب بصيغة الجمع، لكن الإتيان بنون العظمة في

(11/153)


خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يظن بالصحابي، فإن ثبت أن السائل كان متعددا فواضح، وإن ثبت أنه كان واحدا فالحكمة في الإتيان بصيغة الجمع الإشارة إلى أن السؤال لا يختص به بل يريد نفسه ومن يوافقه على ذلك، فحمله على ظاهره من الجمع هو المعتمد، على أن الذي نفاه الفاكهاني قد ورد في بعض الطرق، فعند الطبري من طريق الأجلح، عن الحكم بلفظ: "قمت إليه فقلت: السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال قل اللهم صل على محمد الحديث" وقد وقفت من تعيين من باشر السؤال على جماعة: وهم كعب بن عجزة وبشير بن سعد والد النعمان وزيد بن خارجة الأنصاري وطلحة بن عبيد الله وأبو هريرة وعبد الرحمن بن بشير، أما كعب فوقع عند الطبراني من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بهذا السند بلفظ: "قلت يا رسول الله قد علمنا" وأما بشير ففي حديث أبي مسعود عند مالك ومسلم وغيرهما أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد "أمرنا الله أن نصلي عليك" الحديث، وأما زيد بن خارجة فأخرج النسائي من حديثه قال: "أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا علي واجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صل على محمد" الحديث. وأخرج الطبري من حديث طلحة قال: "قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك" ومخرج حديثهما واحد، وأما حديث أبي هريرة فأخرج الشافعي من حديثه أنه قال: "يا رسول الله كيف نصلي عليك" وأما حديث عبد الرحمن بن بشير فأخرجه إسماعيل القاضي في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "قلت أو قيل للنبي صلى الله عليه وسلم" هكذا عنده على الشك، وأبهم أبو عوانة في صحيحه من رواية الأجلح وحمزة الزيات عن الحكم السائل ولفظه: "جاء رجل فقال: يا رسول الله قد علمنا" ووقع لهذا السؤال سبب أخرجه البيهقي والخلعي من طريق الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني" حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الأعمش ومسعر ومالك بن مغول عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية قلنا: يا رسول الله، قد علمنا" الحديث. وقد أخرج مسلم هذا الحديث عن محمد بن بكار عن إسماعيل ابن زكريا ولم يسق لفظه بل أحال به على ما قبله فهو على شرطه، وأخرجه السراج من طريق مالك بن مغول وحده كذلك. وأخرج أحمد والبيهقي وإسماعيل القاضي من طريق يزيد بن أبي زياد والطبراني من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والطبري من طريق الأجلح والسراج من طريق سفيان وزائدة فرقهما وأبو عوانة في صحيحه من طريق الأجلح وحمزة الزيات كلهم عن الحكم مثله. وأخرج أبو عوانة أيضا من طريق مجاهد عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى مثله، وفي حديث طلحة عند الطبري "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} الآية فكيف الصلاة عليك". قوله: "قد علمنا" المشهور في الرواية بفتح أوله وكسر اللام مخففا، وجوز بعضهم ضم أوله والتشديد على البناء للمجهول، ووقع في رواية ابن عيينة عن يزيد بن أبي زياد وبالشك ولفظه: "قلنا قد علمناه أو علمنا" رويناه في "الخليعات" وكذا أخرج السراج من طريق مالك بن مغول عن الحكم بلفظ: "علمنا" أو علمناه ووقع في رواية حفص بن عمر المذكورة "أمرتنا أن نصلي عليك، وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه" وفي ضبط عرفناه ما تقدم في علمناه وأراد بقوله: "أمرتنا" أي بلغتنا عن الله تعالى أنه أمر بذلك، ووقع في حديث أبي مسعود "أمرنا الله" وفي رواية عبد الله بن عيسى المذكورة "كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم" أي علمنا الله كيفية السلام عليك على لسانك وبواسطة بيانك. وأما إتيانه بصيغة الجمع في قوله: "عليكم" فقد بين مراده بقوله، أهل

(11/154)


البيت، لأنه لو اقتصر عليها لاحتمل أن يريد بها التعظيم، وبها تحصل مطابقة الجواب للسؤال حيث قال: "على محمد وعلى آل محمد" وبهذا يستغنى عن قول من قال: في الجواب زيادة على السؤال لأن السؤال وقع عن كيفية الصلاة عليه فوقع الجواب عن ذلك بزيادة كيفية الصلاة على آله. قوله: "كيف نسلم عليك" قال البيهقي: فيه إشارة إلى السلام الذي في التشهد وهو قول "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فيكون المراد بقولهم "فكيف نصلي عليك" أي بعد التشهد. انتهى. وتفسير السلام بذلك هو الظاهر. وحكى ابن عبد البر فيه احتمالا، وهو أن المراد به السلام الذي يتحلل به من الصلاة وقال: إن الأول أظهر، وكذا ذكر عياض وغيره، ورد بعضهم الاحتمال المذكور بأن سلام التحلل لا يتقيد به اتفاقا، كذا قيل، وفي نقل الاتفاق نظر، فقد جزم جماعة من المالكية بأنه يستحب للمصلي أن يقول عند سلام التحلل، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام عليكم، ذكره عياض وقبله ابن أبي زيد وغيره. قوله: "فكيف نصلي عليك" زاد أبو مسعود في حديثه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله وإنما تمنوا ذلك خشية أن يكون لم يعجبه السؤال المذكور لما تقرر عندهم من النهي عن ذلك، فقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} من سورة المائدة بيان ذلك، ووقع عند الطبري من وجه آخر في هذا الحديث، فسكت حتى جاءه الوحي فقال: "تقولون" واختلف في المراد بقولهم "كيف" فقيل المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأي لفظ يؤدى، وقيل عن صفتها، قال عياض: لما كان لفظ الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} يحتمل الرحمة والدعاء والتعظيم سألوا بأي لفظ تؤدى؟ هكذا قال بعض المشايخ، ورجح الباجي أن السؤال إنما وقع عن صفتها لا عن جنسها، وهو أظهر لأن لفظ: "كيف" ظاهر في الصفة، وأما الجنس فيسأل عنه بلفظ: "ما" وبه جزم القرطبي فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها انتهى. والحامل لهم على ذلك أن السلام لما تقدم بلفظ مخصوص وهو "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فهموا منه أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص، وعدلوا عن القياس لإمكان الوقوف على النص ولا سيما في ألفاظ الأذكار فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبا، فوقع الأمر كما فهموا فإنه لم يقل لهم قولوا الصلاة عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولا قولوا الصلاة والسلام عليك إلخ بل علمهم صيغة أخرى. قوله: "قال قولوا اللهم" هذه كلمة كثر استعمالها في الدعاء وهو بمعنى يا الله، والميم عوض عن حرف النداء فلا يقال اللهم غفور رحيم مثلا وإنما يقال اللهم اغفر لي وارحمني، ولا يدخلها حرف النداء إلا في نادر كقول الراجز. إني إذا ما حادث ألما أقول يا اللهم يا اللهما واختص هذا الاسم بقطع الهمزة عند النداء ووجوب تفخيم لامه وبدخول حرف النداء عليه مع التعريف، وذهب الفراء ومن تبعه من الكوفيين إلى أن أصله يا الله وحذف حرف النداء تخفيفا والميم مأخوذ من جملة محذوفة مثل أمنا بخير، وقيل بل زائدة كما في زرقم للشديد الزرقة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيما، وقيل بل هو كالواو الدالة على الجمع كأن الداعي قال: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى، ولذلك شددت الميم لتكون عوضا عن علامة الجمع، وقد جاء عن الحسن البصري: اللهم مجتمع الدعاء، وعن النضر بن شميل: من قال اللهم فقد سأل الله بجميع أسمائه. قوله: "صل" تقدم في أواخر تفسير الأحزاب عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه عند ملائكته، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء له. وعند ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان قال: صلاة

(11/155)


الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار. وعن ابن عباس أن معنى صلاة الرب الرحمة وصلاة الملائكة الاستغفار. وقال الضحاك بن مزاحم: صلاة الله رحمته. وفي رواية عنه مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء أخرجهما إسماعيل القاضي عنه، وكأنه يريد الدعاء بالمغفرة ونحوها. وقال المبرد: الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة. وتعقب بأن الله غاير بين الصلاة والرحمة في قوله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وكذلك فهم الصحابة المغايرة من قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} حتى سألوا عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر الرحمة في تعليم السلام حيث جاء بلفظ: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم قد علمتم ذلك في السلام، وجوز الحليمي أن تكون الصلاة بمعنى السلام عليه، وفيه نظر وحديث الباب يرد على ذلك، وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة، وقيل صلاة الله على خلقه تكون خاصة وتكون عامة فصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة فهي التي وسعت كل شيء. ونقل عياض عن بكر القشيري قال: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تشريف وزيادة تكرمة وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وقال قبل ذلك في السورة المذكورة {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها. وقال الحليمي في الشعب معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فمعنى قولنا اللهم صل على محمد عظم محمدا. والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} ادعوا ربكم بالصلاة عليه انتهى. ولا يعكر عليه عطف آله وأزواجه وذريته عليه فإنه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم، إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به، وما تقدم عن أبي العالية أظهر، فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله وإلى ملائكته وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد، ويؤيده أنه لا خلاف في جواز الترحم على غير الأنبياء، واختلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كان معنى قولنا اللهم صلى على محمد اللهم ارحم محمدا أو ترحم على محمد لجاز لغير الأنبياء، وكذا لو كانت بمعنى البركة وكذا الرحمة لسقط الوجوب في التشهد عند من يوجبه بقول المصلي في التشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" ويمكن الانفصال بأن ذلك وقع بطريق التعبد فلا بد من الإتيان به ولو سبق الإتيان بما يدل عليه. قوله: "على محمد وعلى آل محمد" كذا وقع في الموضعين في قوله صل وفي قوله وبارك، ولكن وقع في الثاني وبارك على آل إبراهيم، ووقع عند البيهقي من وجه آخر عن آدم شيخ البخاري فيه على إبراهيم ولم يقل على آل إبراهيم، وأخذ البيضاوي من هذا أن ذكر الآل في رواية الأصل مقحم كقوله على آل أبي أوفى. قلت: والحق أن ذكر محمد وإبراهيم وذكر آل محمد وآل إبراهيم ثابت في أصل الخير. وإنما حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، وسأبين من ساقه تاما بعد قليل. وشرح الطيبي على ما وقع في رواية البخاري هنا فقال: هذا اللفظ يساعد قول من قال إن معنى قول الصحابي "علمنا كيف السلام عليك" أي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

(11/156)


صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فكيف نصلي عليك أي على أهل بيتك، لأن الصلاة عليه قد عرفت مع السلام من الآية، قال: فكان السؤال عن الصلاة على الآل تشريفا لهم. وقد ذكر محمد في الجواب لقوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفائدته الدلالة على الاختصاص، قال: وإنما ترك ذكر إبراهيم لينبه على هذه النكتة، ولو ذكر لم يفهم أن ذكر محمد على سبيل التمهيد انتهى. ولا يخفى ضعف ما قال. ووقع في حديث أبي مسعود عند أبي داود والنسائي: "على محمد النبي الأمي" وفي حديث أبي سعيد في الباب: "على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم" ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم، وهذا إن لم يحمل على ما قلته أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر والأظهر فساد ما بحثه الطيبي. وفي حديث أبي حميد في الباب بعده" على محمد وأزواجه وذريته" ولم يذكر الآل في الصحيح، ووقعت في رواية ابن ماجه وعند أبي داود من حديث أبي هريرة "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته" وأخرجه النسائي من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود ولكن وقع في السند اختلاف بين موسى بن إسماعيل شيخ أبو داود فيه وبين عمرو بن عاصم شيخ شيخ النسائي فيه فروياه معا عن حبان بن يسار وهو بكسر المهملة وتشديد الموحدة وأبوه بمثناة ومهملة خفيفة فوقع في رواية موسى عنه عن عبيد الله بن طلحة عن محمد بن علي عن نعيم المجمر عن أبي هريرة. وفي رواية عمرو بن عاصم عنه عن عبد الرحمن بن طلحة عن محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب، ورواية موسى أرجح، ويحتمل أن يكون لحبان فيه سندان. ووقع في حديث أبي مسعود وحده في آخره: "في العالمين إنك حميد مجيد" ومثله في رواية داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة عند السراج، قال النووي في "شرح المهذب": ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: "اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك" مثله وزاد في آخره: "في العالمين" وقال في "الأذكار" مثله وزاد عبدك ورسولك بعد قوله محمد في محل ولم يزدها في بارك. وقال في "التحقيق" و "الفتاوى" مثله إلا أنه أسقط النبي الأمي في وبارك، وفاته أشياء لعلها توازي قدر ما زاده أو تزيد عليه، منها قوله: "أمهات المؤمنين" بعد قوله أزواجه ومنها "وأهل بيت" بعد قوله وذريته، وقد وردت حديث ابن مسعود عند الدار قطني، ومنها "ورسولك" في وبارك، ومنها "في العالمين" في الأول، ومنها "إنك حميد مجيد" قبل وبارك، ومنها "اللهم" قبل وبارك فإنهما ثبتا معا في رواية للنسائي، ومنها "وترحم على محمد إلخ" وسيأتي البحث فيها بعد، ومنها في آخر التشهد "وعلينا معهم" وهي عند الترمذي من طريق أبي أسامة عن زائدة عن الأعمش عن الحكم نحو حديث الباب، قال في آخره: قال عبد الرحمن ونحن نقول، وعلينا معهم، وكذا أخرجها السراج من طريق زائدة، وتعقب ابن العربي هذه الزيادة قال: هذا شيء انفرد به زائدة فلا يعول عليه، فإن الناس اختلفوا في معنى الآل اختلافا كثيرا ومن جملته أنهم أمته فلا يبقى للتكرار فائدة، واختلفوا أيضا في جواز الصلاة على غير الأنبياء فلا نرى أن نشرك في هذه الخصوصية مع محمد وآله أحدا. وتعقبه شيخنا في "شرح الترمذي" بأن زائدة من الإثبات فانفراده لو انفرد لا يضر مع كونه لم ينفرد، فقد أخرجها إسماعيل القاضي كتاب فضل الصلاة من طريقين عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ويزيد استشهد به مسلم، وعند البيهقي في "الشعب" من حديث جابر نحو حديث الباب وفي آخره: "وعلينا معهم" وأما الإيراد الأول فإنه يختص بمن يرى أن معنى الآل كل الأمة، ومع ذلك فلا يمتنع

(11/157)


أن يعطف الخاص على العام ولا سيما في الدعاء، وأما الإيراد الثاني فلا نعلم من منع ذلك تبعا، وإنما الخلاف في الصلاة على غير الأنبياء استقلالا، وقد شرع الدعاء للآحاد بما دعاه به النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه في حديث: "اللهم إني أسالك من خير ما سألك منه محمد" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم انتهى ملخصا. وحديث جابر ضعيف. ورواية يزيد أخرجها أحمد أيضا عن محمد بن فضيل عنه وزاد في آخره: قال يزيد فلا أدري أشيء زاده عبد الرحمن من قبل نفسه أو رواه عن كعب، وكذا أخرجه الطبري من رواية محمد ابن فضيل، ووردت هذه الزيادة من وجهين آخرين مرفوعين أحدهما عند الطبراني من طريق فطر بن خليفة عن الحكم بلفظ: يقولون اللهم صل على محمد إلى قوله وآل إبراهيم وصل علينا معهم، وبارك على محمد مثله، وفي آخره وبارك علينا معهم، ورواته موثقون لكنه فيما أحسب مدرج لما بينه زائدة عن الأعمش. ثانيهما عند الدار قطني من وجه آخر عن ابن مسعود مثله لكن قال اللهم بدل الواو في وصل وفي وبارك، وفيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو ضعيف، وقد تعقب الإسنوي ما قاله النووي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعي: لم يسبق إلى ما قال. والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات ويقول كل ما ثبت هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد انتهى. وكأنه أخذه من كلام ابن القيم فإنه قال: إن هذه الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق، والأولى أن يستعمل كل لفظ ثبت على حدة فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة فإن الغالب على الظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يقله كذلك. وقال الإسنوي أيضا: كان يلزم الشيخ أن يجمع الألفاظ الواردة في التشهد. وأجيب بأنه لا يلزم من كونه لم يصرح بذلك أن لا يلتزمه. وقال ابن القيم أيضا: قد نص الشافعي على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين انتهى. والذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في أزواجه وأمهات المؤمنين فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما وإن كان اللفظ يستقل بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر البتة، فالأولى الإتيان به، ويحتمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر كما تقدم، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئا ما فلا بأس بالإتيان به احتياطا. وقالت طائفة منهم الطبري: إن ذلك الاختلاف المباح، فأي لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه. واستدل على ذلك باختلاف النقل عن الصحابة فذكر ما نقل عن علي، وهو حديث موقوف طويل أخرجه سعيد بن منصور والطبري والطبراني وابن فارس وأوله "اللهم داحي المدحوات" إلى أن قال: "اجعل شرائف صلواتك وتوامي بركاتك ورأفة تحيتك على محمد عبدك ورسولك" الحديث. وعن ابن مسعود بلفظ: "اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين إمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك" الحديث أخرجه ابن ماجه والطبري، وادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر محمد وآل محمد وبذكر آل إبراهيم فقط أو بذكر إبراهيم فقط قال: ولم يجيء في حديث صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معا إنما أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود، ويحيى مجهول وشيخه مبهم فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قوي لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائي والدار قطني من حديث

(11/158)


طلحة. قلت: وغفل عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بلفظ: "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وكذا في قوله: "كما باركت" وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدري من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد ابن عبد الله بن زيد عنه أخرجه الطبري، بل أخرجه الطبري أيضا في رواية الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه من طريق عمرو بن قيس عن الحكم بن عتيبة فذكره بلفظ: "على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد" وبلفظ: "على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" وأخرجه أيضا من طريق الأجلح عن الحكم مثله سواء. وأخرج أيضا من طريق حنظلة ابن علي عن أبي هريرة ما سأذكره، وأخرجه أبو العباس السراج من طريق داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة "أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" ومن حديث بريدة رفعه: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وأصله عند أحمد، ووقع في حديث ابن مسعود المشار إليه زيادة أخرى وهي "وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم" الحديث، وأخرجه الحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود فاغتر بتصحيحه قوم فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق وهو مجهول، عن رجل مبهم. نعم أخرج ابن ماجه ذلك عن ابن مسعود من قوله: "قال قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد عبدك ورسولك" الحديث وبالغ ابن العربي في إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبي زيد من زيادة "وترحم" فإنه قريب من البدعة لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم كيفية الصلاة عليه بالوحي ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه انتهى. وابن أبي زيد ذكر ذلك في صفة التشهد في "الرسالة" لما ذكر ما يستحب في التشهد ومنه "اللهم صل على محمد وآل محمد" فزاد: "وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلخ" فإن كان إنكاره لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال ارحم محمدا مردودة لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" ثم وجدت لابن أبي زيد مستندا، فأخرج الطبري في تهذيبه من طريق حنظلة بن علي عن أبي هريرة رفعه: "من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم شهدت له يوم القيامة وشفعت له" ورجال سنده رجال الصحيح إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص الراوي له عن حنظلة بن علي فإنه مجهول. "تنبيه": هذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة، وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع. وقال أبو القاسم الأنصاري شارح "الإرشاد" يجوز ذلك مضافا إلى الصلاة ولا يجوز مفردا، ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقا. وقال القرطبي في "المفهم" إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره: ففي "الذخيرة" من كتب الحنفية عن محمد يكره ذلك لإيهامه النقص لأن الرحمة غالبا إنما تكون عن فعل ما يلام عليه، وجزم ابن عبد البر بمنعه فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول رحمه الله لأنه قال من صلى علي، ولم يقل من ترحم علي ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص هذا اللفظ تعظيما له فلا يعدل عنه إلى غيره، ويؤيده

(11/159)


قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} انتهى. وهو بحث حسن لكن في التعليل الأول نظر، والمعتمد الثاني، والله أعلم. قوله: "وعلى آل محمد" قيل أصل "آل" أهل قلبت الهاء همزة ثم سهلت ولهذا إذا صغر رد إلى الأصل فقالوا أهيل، وقيل بل أصله أول من آل إذا رجع، سمي بذلك من يئول إلى الشخص ويضاف إليه، ويقويه أنه لا يضاف إلا إلى معظم فيقال آل القاضي ولا يقال آل الحجام بخلاف أهل، ولا يضاف آل أيضا غالبا إلى غير العاقل ولا إلى المضمر عند الأكثر، وجوره بعضهم بقلة، وقد ثبت في شعر عبد المطلب في قوله في قصة أصحاب الفيل من أبيات "وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك". وقد يطلق آل فلان على نفسه وعليه وعلى من يضاف إليه جميعا وضابطه أنه إذا قيل فعل آل فلان كذا دخل هو فيهم إلا بقرينة، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي، إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وإن ذكرا معا فلا، وهو كالفقير والمسكين، وكذا الإيمان والإسلام والفسوق والعصيان، ولما اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معا وفي إفراد أحدهما كان أولى المحامل أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كله، ويكون بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأما التعدد فبعيد لأن غالب الطرق تصرح بأنه وقع جوابا عن قولهم "كيف نصلي عليك" ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على آل إبراهيم بدون ذكر إبراهيم رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله آل إبراهيم كما تقدم. واختلف في المراد بآل محمد في هذا الحديث، فالراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك واضحا في كتاب الزكاة، وهذا نص عليه الشافعي واختاره الجمهور، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" وقد تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة، ولمسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة في أثناء حديث مرفوع "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" وقال أحمد: المراد بآل محمد في حديث التشهد أهل بيته، وعلى هذا فهل يجوز أن يقال أهل عوض آل؟ روايتان عندهم. وقيل المراد بآل محمد أزواجه وذريته لأن أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ: "وآل محمد" وجاء في حديث أبي حميد موضعه "وأزواجه وذريته" فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية، وتعقب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة كما في حديث أبي هريرة، فيحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره فالمراد بالآل في التشهد الأزواج ومن حرمت عليهم الصدقة ويدخل فيهم الذرية، فبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق على أزواجه صلى الله عليه وسلم آل محمد في حديث عائشة "ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثا" وقد تقدم ويأتي في الرقاق، وفيه أيضا من حديث أبي هريرة "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وكأن الأزواج أفردوا بالذكر تنويها بهم وكذا الذرية، وقيل المراد بالآل ذرية فاطمة خاصة حكاه النووي في "شرح المهذب". وقيل هم جميع قريش حكاه ابن الرفعة في "الكفاية". وقيل المراد بالآل جميع الأمة أمة الإجابة. وقال ابن العربي: مال إلى ذلك مالك واختاره الأزهري وحكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الشافعية ورجحه النووي في شرح مسلم، وقيده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أوليائي منكم المتقون" وفي "نوادر أبي العيناء" إنه غض من بعض الهاشميين فقال له أتغض مني وأنت تصلي علي في كل صلاة في قولك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، فقال: إني أريد الطيبين الطاهرين ولست منهم. ويمكن أن يحمل كلام من أطلق على أن المراد بالصلاة الرحمة المطلقة فلا تحتاج إلى تقييد، وقد

(11/160)


استدل لهم بحديث أنس رفعه: "آل محمد كل تقي" أخرجه الطبراني ولكن سنده واه جدا.وأخرج البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف. قوله: "كما صليت على آل إبراهيم" اشتهر السؤال عن موقع التشبيه مع أن المقرر أن المشبه دون المشبه به، والواقع هنا عكسه لأن محمدا صلى الله عليه وسلم وحده أفضل من آل إبراهيم ومن إبراهيم ولا سيما قد أضيف إليه آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره، وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم، وقد أخرج مسلم من حديث أنس "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، قال: ذاك إبراهيم" أشار إليه ابن العربي وأيده بأنه سأل لنفسه التسوية مع إبراهيم وأمر أمته أن يسألوا له ذلك فزاده الله تعالى بغير سؤال أن فضله على إبراهيم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لغير صفة الصلاة عليه بعد أن علم أنه أفضل. الثاني أنه قال ذلك تواضعا وشرع ذلك لأمته ليكتسبوا بذلك الفضيلة. الثالث أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهو كقول القائل أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ورجح هذا الجواب القرطبي في "المفهم". الرابع أن الكاف للتعليل كما في قوله: "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" وفي قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} . وقال بعضهم: الكاف على بابها من التشبيه ثم عدل عنه للإعلام بخصوصية المطلوب. الخامس أن المراد أن يجعله خليلا كما جعل إبراهيم، وأن يجعل له لسان صدق كما جعل لإبراهيم مضافا إلى ما حصل له من المحبة، ويرد عليه ما ورد على الأول، وقربه بعضهم بأنه مثل رجلين يملك أحدهما ألفا ويملك الآخر ألفين فسأل صاحب الألفين أن يعطي ألفا أخرى نظير الذي أعطيها الأول فيصير المجموع للثاني أضعاف ما للأول. السادس أن قوله: "اللهم صل على محمد" مقطوع عن التشبيه فسيكون التشبيه متعلقا بقوله: "وعلى آل محمد" وتعقب بأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء فكيف تطلب لهم صلاة مثل الصلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله؟ ويمكن الجواب عن ذلك بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم لا جميع الصفات التي كانت سببا للثواب، وقد نقل العمراني في "البيان" عن الشيخ أبي حامد أنه نقل هذا الجواب عن نص الشافعي، واستبعد ابن القيم صحة ذلك عن الشافعي لأنه مع فصاحته ومعرفته بلسان العرب لا يقول هذا الكلام الذي يستلزم هذا التركيب الركيك المعيب من كلام العرب، كذا قال، وليس التركيب المذكور بركيك بل التقدير اللهم صل على محمد وصل على آل محمد كما صليت إلى آخره فلا يمتنع تعلق التشبيه بالجملة الثانية. السابع أن التشبيه إنما هو للمجموع بالمجموع فإن في الأنبياء من آل إبراهيم كثرة، فإذا قوبلت تلك الذوات الكثيرة من إبراهيم وآل إبراهيم بالصفات الكثيرة التي لمحمد أمكن انتفاء التفاضل. قلت: ويعكر على هذا الجواب أنه وقع في حديث أبي سعيد ثاني حديثي الباب مقابلة الاسم فقط بالاسم فقط ولفظه: "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم". الثامن أن التشبيه بالنظر إلى ما يحصل لمحمد وآل محمد من صلاة كل فرد فرد، فيحصل من مجموع صلاة المصلين من أول التعليم إلى آخر الزمان أضعاف ما كان لآل إبراهيم، وعبر ابن العربي عن هذا بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره. التاسع أن التشبيه راجع إلى المصلي فيما يحصل له من الثواب لا بالنسبة إلى ما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف لأنه يصير كأنه قال اللهم أعطني ثوابا على صلاتي على النبي صلى الله عليه وسلم

(11/161)


كما صليت على آل إبراهيم، ويمكن أن يجاب بأن المراد مثل ثواب المصلي على آل إبراهيم. العاشر دفع المقدمة المذكورة أولا وهي أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، وأن ذلك ليس مطردا، بل قد يكون التشبيه بالمثل بل وبالدون كما في قوله تعالى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟ ولكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة، وكذا هنا لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهورا واضحا عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد وآل محمد بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم، ويؤيد ذلك ختم الطلب المذكور بقوله: "في العالمين" أي كما أظهرت الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، ولهذا لم يقع قوله في العالمين إلا في ذكر آل إبراهيم دون ذكر آل محمد على ما وقع في الحديث الذي ورد فيه وهو حديث أبي مسعود فيما أخرجه مالك ومسلم وغيرهما، وعبر الطيبي عن ذلك بقوله: ليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل بل من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. وقال الحليمي: سبب هذا التشبيه أن الملائكة قالت في بيت إبراهيم "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" وقد علم أن محمدا وآل محمد من أهل بيت إبراهيم فكأنه قال: أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها في آل إبراهيم الموجودين حينئذ، ولذلك ختم بما ختمت به الآية وهو قوله: "إنك حميد مجيد". وقال النووي بعد أن ذكر بعض هذه الأجوبة: أحسنها ما نسب إلى الشافعي والتشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة أو للمجموع بالمجموع. وقال ابن القيم بعد أن زيف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع: وأحسن منه أن يقال هو صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: محمد من آل إبراهيم فكأنه أمرنا أن نصلي على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كله له، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم قطعا، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه، وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ. ووجدت في مصنف لشيخنا مجد الدين الشيرازي اللغوي جوابا آخر نقله عن بعض أهل الكشف حاصله أن التشبيه لغير اللفظ المشبه به لا لعينه، وذلك أن المراد بقولنا "اللهم صل على محمد" اجعل من أتباعه من يبلغ النهاية في أمر الدين كالعلماء بشرعه بتقريرهم أمر الشريعة "كما صليت على إبراهيم" بأن جعلت في أتباعه أنبياء يقررون الشريعة، والمراد بقوله: "وعلى آل محمد" اجعل من أتباعه ناسا محدثين بالفتح يخبرون بالمغيبات كما صليت على إبراهيم بأن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيبات، والمطلوب حصول صفات الأنبياء لآل محمد وهم أتباعه في الدين كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم، وهذا محصل ما ذكره، وهو جيد إن سلم أن المراد بالصلاة هنا ما ادعاه، والله أعلم. وفي نحو هذه الدعوى جواب آخر: المراد اللهم استجب دعاء محمد في أمته كما استجبت دعاء إبراهيم في بنيه، ويعكر على هذا عطف الآل في الموضعين. قوله: "على آل إبراهيم" هم ذريته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به جماعة من الشراح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر فهم داخلون لا محالة. ثم إن المراد المسلمون منهم بل المتقون، فيدخل فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون دون من عداهم، وفيه ما تقدم في آل محمد. قوله: "وبارك" المراد بالبركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل المراد التطهير من العيوب والتزكية، وقيل المراد إثبات ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على

(11/162)


الأرض، وبه سميت بركة الماء بكسر أوله وسكون ثانية لإقامة الماء فيها. والحاصل أن المطلوب أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمر دائما. والمراد بالعالمين فيما رواه أبو مسعود في حديثه أصناف الخلق، وفيه أقوال أخرى: قيل ما حواه بطن الفلك، وقيل كل محدث، وقيل ما فيه روح، وقيل بقيد العقلاء، وقيل الإنس والجن فقط. قوله: "إنك حميد مجيد" أما الحميد فهو فعيل من الحمد بمعنى محمود، وأبلغ منه وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها، وقيل هو بمعنى الحامد أي يحمد أفعال عباده. وأما المجيد فهو من المجد وهو صفة من كمل في الشرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما أن الحمد يدل على صفة الإكرام، ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله لنبيه وثناؤه عليه والتنويه به وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له، والمعنى إنك فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك. واستدل بهذا الحديث على إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة لما وقع في هذا الحديث من الزيادة في بعض الطرق عن أبي مسعود، وهو ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد ابن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عنه بلفظ: "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" وقد أشرت إلى شيء من ذلك في تفسير سورة الأحزاب. وقال الدار قطني: إسناده حسن متصل. وقال البيهقي: إسناده حسن صحيح. وتعقبه ابن التركماني بأنه قال في "باب تحريم قتل ماله روح" بعد ذكر حديث فيه ابن إسحاق: الحفاظ يتوقون ما ينفرد به. قلت: وهو اعتراض متجه لأن هذه الزيادة تفرد بها ابن إسحاق، لكن ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث وهو هنا كذلك، وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحا وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه، وقد احتج بهذه الزيادة جماعة من الشافعية كابن خزيمة والبيهقي لإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بعد التشهد وقبل السلام، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وعلى تقدير أن يدل على إيجاب أصل الصلاة فلا يدل على هذا المحل المخصوص، ولكن قرب البيهقي ذلك بما تقدم أن الآية لما نزلت وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد علمهم كيفية السلام عليه في التشهد والتشهد داخل الصلاة فسألوا عن كيفية الصلاة فعلمهم، فدل على أن المراد بذلك إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدم تعليمه لهم، وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة فهو بعيد كما قال عياض وغيره. وقال ابن دقيق العيد: ليس فيه تنصيص على أن الأمر به مخصوص بالصلاة، وقد كثر الاستدلال به على وجوب الصلاة، وقرر بعضهم الاستدلال بأن الصلاة عليه واجبة بالإجماع وليست الصلاة عليه خارج الصلاة واجبة بالإجماع فتعين أن تجب في الصلاة، قال: وهذا ضعيف، لأن قوله لا تجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد به عينا فهو صحيح لكن لا يفيد المطلوب لأنه يفيد أن تجب في أحد الموضعين لا بعينه، وزعم القرافي في "الذخيرة" أن الشافعي هو المستدل بذلك، ورده بنحو ما رد به ابن دقيق العيد، ولم يصب في نسبة ذلك للشافعي، والذي قاله الشافعي في "الأم": فرض الله الصلاة على رسوله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع أولى منه في الصلاة، ووجدنا الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني صفوان بن سليم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن

(11/163)


عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله كيف نصلي عليك -يعني في الصلاة- قال: تقولون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم" الحديث، أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "كان يقول في الصلاة: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" الحديث، قال الشافعي: فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم التشهد في الصلاة، وروي عنه أنه علمهم كيف يصلون عليه في الصلاة، لم يجز أن نقول التشهد في الصلاة واجب والصلاة عليه فيه غير واجبة. وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه: أحدها ضعف إبراهيم بن أبي يحيى والكلام فيه مشهور، الثاني على تقدير صحته فقوله في الأول "يعني في الصلاة" لم يصرح بالقائل "يعني" الثالث قوله في الثاني "إنه كان يقول في الصلاة" وإن كان ظاهره أن الصلاة المكتوبة لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله في الصلاة أي في صفة الصلاة عليه، وهو احتمال قوي، لأن أكثر الطرق عن كعب بن عجرة كما قدم تدل على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة لا عن محلها، الرابع ليس في الحديث ما يدل على تعين ذلك في التشهد خصوصا بينه وبين السلام من الصلاة، وقد أطنب قوم في نسبة الشافعي في ذلك إلى الشذوذ، منهم أبو جعفر الطبري وأبو جعفر الطحاوي وأبو بكر بن المنذر والخطابي، وأورد عياض في "الشفاء" مقالاتهم وعاب عليه ذلك غير واحد لأن موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشافعي لأنه من جملة تعظيم المصطفى، وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته مع أن الأكثر على خلافه لكنه استجاده لما فيه من الزيادة في تعظيمه، وانتصر جماعة للشافعي فذكروا أدلة نقلية ونظرية، ودفعوا دعوى الشذوذ فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأصح ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين ما أخرجه الحاكم بسند قوي عن ابن مسعود قال: "يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه" وهذا أقوى شيء يحتج به للشافعي، فإن ابن مسعود ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة وأنه قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء" فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود في دفع ما ذهب إليه الشافعي مثل ما ذكر عياض قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ذكر الصلاة عليه، وكذا قول الخطابي أن في آخر حديث ابن مسعود "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" لكن رد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد، ويتقوى ذلك بما أخرجه الترمذي عن عمر موقوفا "الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم" قال ابن العربي: ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي فيكون له حكم الرفع انتهى. وورد له شاهد مرفوع في "جزء الحسن بن عرفة" وأخرج العمري في "عمل يوم وليلة" عن ابن عمر بسند جيد قال: "لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة علي" فخرج البيهقي في "الخلافيات" بسند قوي عن الشعبي وهو من كبار التابعين قال: "من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد فليعد صلاته" وأخرج الطبري بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين قال: "كنا نعلم التشهد فإذا قال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثنى عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل حاجته" وأما فقهاء الأمصار فلم يتفقوا على مخالفة الشافعي في ذلك بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم به في العمد فقال: إذا تركها يعيد والخلاف أيضا عند المالكية ذكرها ابن الحاجب في سنن الصلاة ثم قال: على الصحيح، فقال شارحه ابن

(11/164)


عبد السلام: يريد أن في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن المواز منهم. وأما الحنفية فألزم بعض شيوخنا من قال بوجوب الصلاة عليه كما ذكر كالطحاوي ونقله السروجي في "شرح الهداية" عن أصحاب "المحيط" و "العقد" و "التحفة" و "المغيث" من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد لتقدم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك لكن لا يجعلونه شرطا في صحة الصلاة. وروى الطحاوي أن حرملة انفرد عن الشافعي بإيجاب ذلك بعد التشهد وقبل سلام التحلل قال: لكن أصحابه قبلوا ذلك وانتصروا له وناظروا عليه انتهى. واستدل له ابن خزيمة ومن تبعه بما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، من حديث فضالة بن عبيد قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي فقال: عجل هذا، ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء" وهذا مما يدل على أن قول ابن مسعود المذكور قريبا مرفوع فإنه بلفظه، وقد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء بإعادة صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم. وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه. ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب. وقال جماعة منهم الجرجاني من الحنفية: لو كانت فرضا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه علمهم التشهد وقال: "فيتخير من الدعاء ما شاء" ولم يذكر الصلاة عليه. وأجيب باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذ. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": قد ورد هذا في الصحيح بلفظ: "ثم ليتخير" و "ثم" للتراخي فدل على أنه كان هناك شيء بين التشهد والدعاء. واستدل بعضهم بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع" . الحديث وعلى هذا عول ابن جزم في إيجاب هذه الاستعاذة في التشهد وفي كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحبة عقب التشهد لا واجبة، وفيه ما فيه، والله أعلم. وقد انتصر ابن القيم للشافعي فقال: أجمعوا على مشروعية الصلاة عليه في التشهد، وإنما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسك من لم يوجبه بعمل السلف الصالح نظر لأن عملهم كان بوفاقه، إلا إن كان يريد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأن ذلك ليس بواجب وأنى يوجد ذلك؟ قال: وأما قول عياض أن الناس شنعوا على الشافعي فلا معنى له، فأي شناعة في ذلك لأنه لم يخالف نصا ولا إجماعا ولا قياسا ولا مصلحة راجحة؟ بل القول بذلك من محاسن مذهبه. وأما نقله للإجماع فقد تقدم رده، وأما دعواه أن الشافعي اختار تشهد ابن مسعود فيدل على عدم معرفة باختيارات الشافعي فإنه إنما اختار تشهد ابن عباس وأما ما احتج به جماعة من الشافعية من الأحاديث المرفوعة الصريحة في ذلك فإنها ضعيفة كحديث سهل بن سعد وعائشة وأبي مسعود وبريدة وغيرهم، وقد استوعبها البيهقي في "الخلافيات" ولا بأس بذكرها للتقوية لا أنها تنهض بالحجة. قلت: ولم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي، ومع ذلك فلفظ المنقول عنه كما تقدم يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب فإنه عبر بالأجزاء. قوله في ثاني حديثي الباب "ابن أبي حازم والدراوردي" اسم كل منهما عبد العزيز، وابن أبي حازم ممن يحتج به البخاري، والدراوردي إنما يخرج له في المتابعات أو مقرونا بآخر، ويزيد شيخهما هو ابن عبد الله بن الهاد، وعبد الله بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "هذا السلام عليك" أي عرفناه كما وقع تقريره في الحديث الأول وتقدمت بقية فوائده في الذي قبله، واستدل بهذا الحديث على تعين هذا اللفظ الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم

(11/165)


لأصحابه في امتثال الأمر سواء قلنا بالوجوب مطلقا أو مقيدا بالصلاة، وأما تعينه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصح عند أتباعه لا تجب، واختلف في الأفضل: فعن أحمد أكمل ما ورد، وعنه يتخير، وأما الشافعية فقالوا يكفي أن يقول: "اللهم صل على محمد" واختلفوا هل يكفي الإتيان بما يدل على ذلك كأن يقوله بلفظ الخبر فيقول: صل الله على محمد مثلا، والأصح إجزاؤه. وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد فيكون جائزا بطريق الأولى. ومن منع وقف عند التعبد. وهو الذي رجحه ابن العربي. بل كلامه يدل على أن الثواب الوارد لمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة. واتفق أصحابنا على أنه لا يجزئ أن يقتصر على الخبر كأن يقول الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى، واختلفوا في تعين لفظ محمد، لكن جوزوا الاكتفاء بالوصف دون الاسم كالنبي ورسول الله لأن لفظ محمد وقع التعبد به فلا يجزئ عنه إلا ما كان أعلى منه، ولهذا قالوا لا يجزئ الإتيان بالضمير ولا بأحمد مثلا في الأصح فيهما مع تقدم ذكره في التشهد بقوله النبي وبقوله محمد، وذهب الجمهور إلى الاجتزاء بكل لفظ أدى المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم حتى قال بعضهم: ولو قال في أثناء التشهد الصلاة والسلام عليك أيها النبي أجزأ، وكذا لو قال أشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بخلاف ما إذا قدم عبده ورسوله، وهذا ينبغي أن ينبني على أن ترتيب ألفاظ التشهد لا يشترط وهو الأصح، ولكن دليل مقابله قوي لقولهم "كما يعلمنا السورة" وقول ابن مسعود "عدهن في يدي" ورأيت لبعض المتأخرين فيه تصنيفا، وعمدة الجمهور في الاكتفاء بما ذكر أن الوجوب ثبت بنص القرآن بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فلما سأل الصحابة عن الكيفية وعلمها لهم النبي صلى الله عليه وسلم واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات وترك ما زاد على ذلك كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجبا لما سكت عنه انتهى. وقد استشكل ذلك ابن الفركاح في "الإقليد" فقال: جعلهم هذا هو الأقل يحتاج إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإن الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار، والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقل ما وقع في الروايات "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم" ومن ثم حكى الفوراني عن صاحب الفروع في إيجاب ذكر إبراهيم وجهين، واحتج لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة عند النسائي بسند قوي ولفظه: "صلوا علي وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" وفيه نظر لأنه من اختصار بعض الرواة فإن النسائي أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي واختلف في إيجاب الصلاة على الآل ففي تعينها أيضا عند الشافعية والحنابلة روايتان، والمشهور عندهم لا، وهو قول الجمهور وادعى كثير منهم فيه الإجماع وأكثر من أثبت الوجوب من الشافعية نسبوه إلى الترنجي، ونقل البيهقي في "الشعب" عن أبي إسحاق المروزي وهو من كبار الشافعية قال: أنا أعتقد وجوبها، قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالة على صحة ما قال. قلت: وفي كلام الطحاوي في مشكلة ما يدل على أن حرملة نقله عن الشافعي واستدل به على مشروعية الصلاة على النبي وآله في التشهد الأول والمصحح عند الشافعية استحباب الصلاة عليه فقط لأنه مبني على التخفيف وأما الأول فبناه الأصحاب على حكم ذلك في التشهد الأخير إن قلنا بالوجوب. قلت: واستدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل؛ ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بذلك هكذا صوبه النووي في "الروضة" بعد

(11/166)


ذكر حكاية الرافعي عن إبراهيم المروزي أنه قال: يبر إذا قال: كلما ذكره الذاكرون، وكلما سها عن ذكره الغافلون. قال النووي وكأنه أخذ ذلك من كون الشافعي ذكر هذه الكيفية. قلت: وهي في خطبة الرسالة، لكن بلفظ غفل بدل سها. وقال الأذرعي: إبراهيم المذكور كثير النقل من تعليقة القاضي حسين، ومع ذلك فالقاضي قال: في طريق البر يقول اللهم صل على محمد كما هو أهله ومستحقه، وكذا نقله البغوي في تعليقه. قلت: ولو جمع بينها فقال ما في الحديث وأضاف إليه أثر الشافعي وما قاله القاضي لكان أشمل، ويحتمل أن يقال: يعمد إلى جميع ما اشتملت عليه الروايات الثابتة فيستعمل منها ذكرا يحصل به البر، وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في جزء له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض العلماء أنه قال: أفضل الكيفيات أن يقول: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. وعن آخر نحوه لكن قال: عدد الشفع والوتر وعدد كلماتك التامة. ولم يسم قائلها. والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا فليقل اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم" الحديث والله أعلم. "تنبيه": إن كان مستند المروزي ما قاله الشافعي فظاهر كلام الشافعي أن الضمير لله تعالى، فإن لفظه: "وصلى الله على نبيه كلما ذكره الذاكرون" فكان حق من غير عبارته أن يقول: اللهم صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون إلخ، واستدل به على جواز الصلاة على غير الأنبياء، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده، واستدل به على أن الواو لا تقتضي الترتيب لأن صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} وقدم تعليم السلام قبل الصلاة كما قالوا "علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك" واستدل به على رد قول النخعي: يجزئ في امتثال الأمر بالصلاة قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته في التشهد، لأنه لو كان كما قال لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى ذلك ولما عدل إلى تعليمهم كيفية أخرى، واستدل به على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره وكذا العكس، لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة كما تقدم فأفرد التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه، وقد صرح النووي بالكراهة، واستدل بورود الأمر بهما معا في الآية، وفيه نظر. نعم يكره أن يفرد الصلاة ولا يسلم أصلا أما لو صلى في وقت وسلم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلا، واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، وقد ورد في التصريح بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئا، منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا" وله شاهد عن أنس عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان، وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة ولفظ أبي طلحة عنده نحوه وصححه ابن حبان "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات" ، ومنها حديث ابن مسعود رفعه: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة" وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ: "صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" ولا بأس بسنده، وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس وهو عند أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان والحاكم، ومنها حديث: "البخيل

(11/167)


من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث على ومن حديث ابنه الحسين ولا يقصر عن درجة الحسن، ومنها حديث: "من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة" أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة وابن أبي حاتم من حديث جابر والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشد بعضها بعضا وحديث: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "من ذكرت عنده ولم يصل على فمات فدخل النار فأبعده الله" وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة ومن حديث مالك بن الحويرث ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ: "بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند الطبراني من حديث جابر رفعه: "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة "من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي علي" ومنها حديث أبي بن كعب "أن رجلا قال يا رسول الله إني أكثر الصلاة فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت. قال الثلث؟ قال ما شئت، وإن زدت فهو خير" إلى أن قال: "أجعل لك كل صلاتي؟ قال: إذا تكفى همك" الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن، فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك. قال الحليمي: المقصود بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله بامتثال أمره وقضاء حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا. وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه. وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك الأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر، لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعيد على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه وإحسانه مستمر فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضا بقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فلو كان إذا ذكر لا يصلي عليه لكان كآحاد الناس. ويتأكد ذلك إذا كان المعنى بقوله: {دُعَاءَ الرَّسُولِ} الدعاء المتعلق بالرسول. وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة: منها أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن وكذا سامعه وللزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان في ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به. وقد أطلق القدوري وغيره من الحنفية أن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى، وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه وفي حق

(11/168)


من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذلك بتكرر ذكره صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد واحتج الطبري لعدم الوجوب أصلا مع ورود صيغة الأمر بذلك بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن ذلك غير لازم فرضا حتى يكون تاركه عاصيا، قال: فدل ذلك على أن الأمر فيه للندب ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة. وما ادعاه من الإجماع معارض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك في الصلاة إما بطريق الوجوب وإما بطريق الندب، ولا يعرف عن السلف لذلك مخالف إلا ما أخرجه ابن أبي شيبة والطبري عن إبراهيم أنه كان يرى أن قول المصلي في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يجزئ عن الصلاة، ومع ذلك لم يخالف في أصل المشروعية وإنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة، والله أعلم. ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها التشهد الأول وخطبة الجمعة وغيرها من الخطب وصلاة الجنازة، ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة عقب إجابة المؤذن وأول الدعاء وأوسطه وآخره وفي أوله آكد وفي آخر القنوت وفي أثناء تكبيرات العيد وعند دخول المسجد والخروج منه وعند الاجتماع والتفرق وعند السفر والقدوم وعند القيام لصلاة الليل وعند ختم القرآن وعند الهم والكرب وعند التوبة من الذنب وعند قراءة الحديث تبليغ العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضا في أحاديث ضعيفة وعند استلام الحجر وعند طنين الأذن وعند التلبية وعقب الوضوء وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضا، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح كما تقدم.

(11/169)


باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)
...
33 - باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
6359- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ "عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَتِهِ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى"
6360- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ "أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
قوله: "باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم" أي استقلالا أو تبعا، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون، فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث حديث علي في الدعاء بحفظ القرآن ففيه: "وصل علي وعلى سائر النبيين" أخرجه الترمذي والحاكم، وحديث بريدة رفعه: "لا تتركن في التشهد الصلاة علي وعلى أنبياء الله" الحديث أخرجه البيهقي بسند واه، وحديث أبي هريرة رفعه: "صلوا على أنبياء الله " الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف، وحديث ابن عباس رفعه: "إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني" أخرجه الطبراني ورويناه في "فوائد العيسوي" وسنده ضعيف أيضا، وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال: "ما أعلم الصلاة

(11/169)


تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم" وهذا سند صحيح، وحكي القول به عن مالك وقال: ما تعبدنا به وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز. وقال سفيان يكره أن يصلي إلا على نبي، ووجدت بخط بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وخالفه يحيى بن يحيى فقال: لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة فلا يمنع إلا بنص أو إجماع، قال عياض: والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء قالوا: يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران والصلاة على غير الأنبياء يعني استقلالا لم تكن من الأمر المعروف وإنما أحدثت في دولة بني هاشم، وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثا نصا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلا، وأما المؤمنون فاختلف فيه فقيل: لا تجوز إلا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم. وقالت طائفة لا تجوز مطلقا استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد به النص أو ألحق به لقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} ولأنه لما علمهم السلام قال: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في "المفهم" وأبو المعالي من الحنابلة، وقد تقدم تقريره في تفسير سورة الأحزاب، هو اختيار ابن تيمية من المتأخرين. وقالت طائفة: تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة. وقالت طائفة تكره استقلالا لا تبعا وهي رواية عن أحمد. وقال النووي: هو خلاف الأولى وقالت طائفة: تجوز مطلقا، وهو مقتضى صنيع البخاري فإنه صدر بالآية وهي قوله: "وصل عليهم" ثم علق الحديث الدال على الجواز مطلقا وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا، فأما الأول وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى فتقدم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" أخرجه أبو داود والنسائي وسنده جيد، وفي حديث جابر "إن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم صل علي وعلى زوجي ففعل" أخرجه أحمد مطولا ومختصرا وصححه ابن حبان، وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك" وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لأحد غيرهما. وقال البيهقي: يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة. وقال ابن القيم: المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارا ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك لهم وهم من أدى زكاته إلا نادرا كما في قصة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة. "تنبيه": اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل: يشرع مطلقا، وقيل بل تبعا، ولا يفرد لواحد لكونه صار شعارا للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. قوله في ثاني حديثي الباب

(11/170)


"عبد الله بن أبي بكر عن أبيه" هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، مختلف في اسمه وقيل كنيته اسمه، وروايته عن عمرو بن سليم من الأقران، وولده من صغار التابعين، ففي السند ثلاثة من التابعين في نسق، والسند كله مدنيون. قوله: "وذريته" بضم المعجمة وحكى كسرها هي النسل، وقد يختص بالنساء والأطفال، وقد يطلق على الأصل، وهي من ذرأ بالهمز أي خلق، إلا أن الهمزة سهلت لكثرة الاستعمال، وقيل بل هي من الذر أي خلقوا أمثال الذر وعليه فليس مهموز الأصل، والله أعلم. واستدل به على أن المراد بآل محمد أزواجه وذريته كما تقدم البحث فيه في الكلام على آل محمد في الباب الذي قبله، واستدل به على أن الصلاة على الآل لا تجب لسقوطها في هذا الحديث، وهو ضعيف لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته أو أزواجه وذريته، وعلى تقدير كل منهما لا ينهض الاستدلال على عدم الوجوب، أما على الأول فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث المنع منه بل أخرج عبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من الصحابة الحديث المذكور بلفظ: "صل على محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته" وأما على الثاني فواضح، واستدل به البيهقي على أن الأزواج من أهل البيت وأيده بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}

(11/171)


34 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آذَيْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً"
6361- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة" كذا ترجم بهذا اللفظ، وأورده بلفظ: "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" أورده من طريق يونس وهو ابن يزيد عن ابن شهاب، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه مثله، وظاهر سياقه أنه حذف منه شيء من أوله، وقد بينه مسلم من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه بهذا الإسناد بلفظ: "اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة" ومن طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعله له زكاة ورحمة" ومن طريق الأعرج عن أبي هريرة مثل رواية ابن أخي ابن شهاب لكن قال: "فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" ومن طريق سالم عن أبي هريرة بلفظ: "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا" الحديث وفيه: "فأيما مؤمن آذيته" والباقي بمعناه بلفظ: "أو" وأخرج من حديث عائشة بيان سبب هذا الحديث قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فسبهما ولعنهما، فلما خرجا قلت له، فقال: أما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا " وأخرجه من حديث جابر نحوه، وأخرجه من حديث أنس وفيه

(11/171)


تقييد المدعو عليه بأن يكون ليس لذلك بأهل ولفظه: "إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر؛ فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" وفيه قصة لأم سليم. قوله: "اللهم فأيما مؤمن" الفاء جواب الشرط المحذوف لدلالة السياق عليه، قال المازري: إن قيل كيف يدعو صلى الله عليه وسلم بدعوة على من ليس لها بأهل؟ قيل: المراد بقوله: "ليس لها بأهل" عندك في باطن أمره لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعائي عليه، فكأنه يقول: من كان باطن أمره عندك أنه ممن ترضي عنه فاجعل دعوتي عليه التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهورا وزكاة، قال: وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله انتهى. وهذا مبني على قول من قال: إنه كان يجتهد في الأحكام ويحكم بما أدى إليه اجتهاده، وأما من قال: كان لا يحكم إلا بالوحي فلا يأتي منه هذا الجواب. ثم قال المازري: فإن قيل فما معنى قوله وأغضب كما يغضب البشر؟ فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب، لا أنها على مقتضى الشرع، فيعود السؤال، فالجواب أنه يحتمل أنه أراد أن دعوته عليه أو سبه أو جلده كان مما خير بين فعله له عقوبة للجاني أو تركه والزجر له بما سوى ذلك، فيكون الغضب لله تعالى بعثه على لعنه أو جلده، ولا يكون ذلك خارجا عن شرعه. قال: ويحتمل أن يكون ذلك خرج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف من تعدى حدود الله، فكأنه أظهر الإشفاق من أن يكون الغضب يحمله على زيادة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما وقعت، أو إشفاقا من أن يكون الغضب يحمله على زيادة يسيرة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما زادت، ويكون من الصغائر على قول من يجوزها، أو يكون الزجر يحصل بدونها. ويحتمل أن يكون اللعن والسب يقع منه من غير قصد إليه فلا يكون في ذلك كاللعنة الواقعة رغبة إلى الله وطلبا للاستجابة. وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتمال الأخير فقال: يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، ولكن جرى على عادة العرب في دعم كلامها وصلة خطابها عند الحرج والتأكيد للعتب لا على نية وقوع ذلك، كقولهم عقري حلقي وتربت يمينك، فأشفق من موافقة أمثالها القدر، فعاهد ربه ورغب إليه أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة انتهى. وهذا الاحتمال حسن إلا أنه يرد عليه قوله: "جلدته" فإن هذا الجواب لا يتمشى فيه، إذ لا يقع الجلد عن غير قصد، وقد ساق الجميع مساقا واحدا إلا إن حمل على الجلدة الواحدة فيتجه. ثم أبدى القاضي احتمالا آخر فقال: كان لا يقول ولا يفعل صلى الله عليه وسلم في حال غضبه إلا الحق، لكن غضبه لله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفه وترك الإغضاء والصفح، ويؤيده حديث عائشة "ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله" وهو في الصحيح. قلت: فعلى هذا فمعنى قوله: "ليس لها بأهل" أي من جهة تعين التعجيل. وفي الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وجميل خلقه وكرم ذاته حيث قصد مقابلة ما وقع منه بالجبر والتكريم، وهذا كله في حق معين في زمنه واضح، وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معين حتى يتناول من لم يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم فما أظنه يشمله، والله أعلم.

(11/172)


35 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ
6362- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ

(11/172)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ لاَ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاَحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ" وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
قوله: "باب التعوذ من الفتن" ستأتي هذه الترجمة وحديثها في كتاب الفتن. سيأتي في كتاب الفتن، وتقدم شيء من شرحه يتعلق بسبب نزول الآية المذكورة في آخر الحديث في تفسير سورة المائدة، وقوله: "أحفوه" بحاء مهملة ساكنة وفاء مفتوحة أي ألحوا عليه، يقال أحفيته إذا حملته على أن يبحث عن الخبر، وقوله: "لاف" بالرفع ويجوز النصب على الحال، وقوله: "إذا لاحى" بمهملة خفيفة أي خاصم، وفي الحديث أن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع من حكمه فإنه لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، وفيه فهم عمر وفضل علمه.

(11/173)


36 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ
6363- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ "أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ الْتَمِسْ لَنَا غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ"
قوله: "باب التعوذ من غلبة الرجال" ذكر فيه حديث أنس في قصة خيبر، وذكر صفية بنت حيى، وتقدم شرح ذلك في المغازي وغيرها، وسيأتي منه التعوذ مفردا بعد أبواب. قوله: "فكنت أسمعه يكثر أن يقول" استدل به على أن هذه الصيغة لا تدل على الدوام ولا الإكثار، وإلا لما كان لقوله: "يكثر" فائدة، وتعقب بأن

(11/173)


المراد بالدوام أعم من الفعل والقوة، ويظهر لي أن الحاصل أنه لم يعرف لذلك مزيلا، ويفيد قوله: "يكثر" وقوع ذلك من فعله كثيرا. قوله: "من الهم والحزن إلى قوله والجبن" يأتي شرحه قريبا. قوله: "وضلع الدين" أصل الضلع وهو بفتح المعجمة واللام الاعوجاج، يقال ضلع بفتح اللام يضلع أي مال، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء ولا سيما مع المطالبة. وقال بعض السلف ما دخل هم الدين قلبا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه. قوله: "وغلبة الرجال" أي شدة تسلطهم كاستيلاء الرعاع هرجا ومرجا. قال الكرماني: هذا الدعاء من جوامع الكلم، لأن أنواع الرذائل ثلاثة: نفسانية وبدنية وخارجية، فالأولى بحسب القوى التي للإنسان وهي ثلاثة: العقلية والغضبية والشهوانية، فالهم والحزن يتعلق بالعقلية، والجبن بالغضبية، والبخل بالشهوانية. والعجز والكسل بالبدنية. والثاني يكون عند سلامة الأعضاء وتمام الآلات والقوى، والأول عند نقصان عضو ونحوه، والضلع والغلبة بالخارجية فالأول مالي والثاني جاهي، والدعاء مشتمل على جميع ذلك.

(11/174)


37 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
6364- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ "سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
قوله: "باب التعوذ من عذاب القبر" تقدم الكلام عليه في أواخر كتاب الجنائز. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة، وأم خالد بنت خالد اسمها أمة بتخفيف الميم بنت خالد بن سعيد بن العاص، تقدم ذكرها في اللباس وأنها ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبواها إليها، ثم قدموا المدينة وكانت صغيرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد حفظت عنه.
6365- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ مُصْعَبٍ "كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ وَيَذْكُرُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
6366- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ وَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاَةٍ إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
قوله: "باب التعوذ من البخل" كذا وقعت هذه الترجمة هنا للمستملي وحده، وهي غلط من وجهين: أحدهما أن الحديث الأول في الباب وإن كان فيه ذكر البخل لكن قد ترجم لهذه الترجمة بعينها بعد أربعة أبواب وذكر فيه الحديث المذكور بعينه، ثانيهما أن الحديث الثاني مختص بعذاب القبر لا ذكر للبخل فيه أصلا فهو بقية من الباب الذي قبله وهو اللائق به، وقوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير كما سيأتي منسوبا في الباب المشار إليه. قوله: "عن

(11/174)


مصعب" هو ابن سعد بن أبي وقاص، وسيأتي قريبا من رواية غندر عن شعبة عن عبد الملك عن مصعب بن سعد، ولعبد الملك بن عمير فيه شيخ آخر، فقد تقدم في كتاب الجهاد من طريق أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن ميمون عن سعد وقال في آخره: "قال عبد الملك: فحدثت به مصعبا فصدقه" وأورده الإسماعيلي من طريق زائدة عن عبد الملك عن مصعب وقال في آخره: "فحدثت به عمرو بن ميمون فقال وأنا حدثني بهن سعد" وقد أورده الترمذي من طريق عبيد الله بن عمرو الرقى عن عبد الملك عن مصعب بن سعد وعمرو بن ميمون جميعا عن سعد وساقه على لفظ مصعب، وكذا أخرجه النسائي من طريق زائدة عن عبد الملك عنهما، وأخرجه البخاري من طريق زائدة عن عبد الملك عن مصعب وحده، وفي سياق عمرو أنه كان يقول ذلك دبر الصلاة، وليس ذلك في رواية مصعب. وفي رواية مصعب ذكر البخل وليس في رواية عمرو، وقد رواه أبو إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود هذه رواية زكريا عنه. وقال إسرائيل عنه عن عمرو عن عمر بن الخطاب، ونقل الترمذي عن الدارمي أنه قال: كان أبو إسحاق يضطرب فيه. قلت: لعل عمرو بن ميمون سمعه من جماعة، فقد أخرجه النسائي من رواية زهير عن أبي إسحاق عن عمرو عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمى منهم ثلاثة كما ترى، وقوله إنه "كان سعد يأمر" في رواية الكشميهني: "يأمرنا" بصيغة الجمع، وجرير المذكور في الحديث الثاني هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر من صغار التابعين، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة وهو ومسروق شيخه من كبار التابعين، ورجال الإسناد كلهم كوفيون إلى عائشة، ورواية أبي وائل عن مسروق من الأقران، وقد ذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية أبي إسحاق المستملي عن الفربري في هذا الحديث: "منصور عن أبي وائل ومسروق عن عائشة" بواو بدل عن قال: والصواب الأول، ولا يحفظ لأبي وائل عن عائشة رواية. قلت أما كونه الصواب فصواب لاتفاق الرواة في البخاري على أنه من رواية أبي وائل عن مسروق، وكذا أخرجه مسلم وغيره من رواية منصور، وأما النفي فمردود فقد أخرج الترمذي من رواية أبي وائل عن عائشة حديثين أحدهما "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه من رواية أبي وائل عن مسروق عن عائشة، والثاني "إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها" الحديث أخرجه أيضا من رواية عمرو بن مرة "سمعت أبا وائل عن عائشة" وهذا أخرجه الشيخان أيضا من رواية منصور والأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة، وهذا جميع ما في الكتب الستة لأبي وائل عن عائشة.
وأخرج ابن حبان في صحيحه من رواية شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عائشة حديث: "ما من مسلم يشاك شوكة فما دونها إلا رفعه الله بها درجة" الحديث، وفي بعض هذا ما يرد إطلاق أبي علي.
قوله: "دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة" عجز بضم العين المهملة والجيم بعدها زاي جمع عجوز مثل عمود وعمد، ويجمع أيضا على عجائز، وهذه رواية الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة شيخ البخاري فيه، قال ابن السكيت: ولا يقال عجوزة. وقال غيره: هي لغة رديئة. وقوله: "ولم أنعم" هو رباعي من أنعم والمراد أنها لم تصدقهما أولا. قوله: "فقلت يا رسول الله إن عجوزين وذكرت له فقال صدقتا" قال الكرماني حذف خبر "إن" للعلم به والتقدير دخلنا. قلت: ظهر لي أن البخاري هو الذي اختصره، فقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة شيخ البخاري فيه فساقه ولفظه: "فقلت

(11/175)


له: يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة دخلتا علي فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقتا "وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن جرير شيخ عثمان فيه، فعلى هذا فيضبط "وذكرت" له بضم التاء وسكون الراء أي ذكرت له ما قالتا، وقوله: "تسمعه البهائم" تقدم شرحه مستوفى، وبينت طريق الجمع بين جزمه صلى الله عليه وسلم هنا بتصديق اليهوديتين في إثبات عذاب القبر وقوله في الرواية: "عائذا بالله من ذلك" وكلا الحديثين عن عائشة، وحاصله أنه لم يكن أوحى إليه أن المؤمنين يفتنون في القبور فقال: "إنما يفتن يهود" جري على ما كان عنده من علم ذلك، ثم لما علم بأن ذلك يقع لغير اليهود استعاذ منه وعلمه وأمر بإيقاعه في الصلاة ليكون أنجح في الإجابة، والله أعلم

(11/176)


38 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ
6367- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ"
قوله: "باب التعوذ من فتنة المحيا" أي زمن الحياة "الممات" أي من الموت من أول النزع وهلم جرا. حديث أنس وفيه ذكر العجز والكسل والجبن، وقد تقدم الكلام عليه في الجهاد والبخل، وسيأتي بعد بابين، والهرم والمراد به الزيادة في كبر السن، وعذاب القبر وقد مضى في الجنائز. وأما فتنة المحيا والممات فقال ابن بطال هذه كلمة جامعة لمعان كثيرة، وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جميع ما ذكر دفعا عن أمته وتشريعا لهم ليبين لهم صفة المهم من الأدعية. قلت: وقد تقدم شرح المراد بفتنة المحيا وفتنة الممات في "باب الدعاء قبل السلام" في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة، وأصل الفتنة الامتحان والاختبار، واستعملت في الشرع في اختبار كشف ما يكره، ويقال فتنت الذهب إذا اختبرته بالنار لتنظر جودته، وفي الغفلة عن المطلوب كقوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وتستعمل في الإكراه على الرجوع عن الدين كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . قلت: واستعملت أيضا في الضلال والإثم والكفر والعذاب والفضيحة، ويعرف المراد حيثما ورد بالسياق والقرائن.

(11/176)


39 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
6368- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"

(11/176)


40 - باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ كُسَالَى وَكَسَالَى وَاحِدٌ
6369- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو "قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ"
قوله: "باب الاستعاذة من الجبن والكسل" تقدم شرحهما في كتاب الجهاد. قوله: "كسالى وكسالى واحد" بفتح الكاف وضمها، قلت: وما قراءتان قرأ الجمهور بالضم وقرأ الأعرج بالفتح، وهي لغة بني تميم، وقرأ ابن السميفع بالفتح أيضا لكن أسقط الألف وسكن السين ووصفهم بما يوصف به المؤنث المفرد لملاحظة معنى الجماعة، وهو كما قرئ {وَتَرَى النَّاسَ سكرَى} والكسل الفتور والتواني وهو ضد النشاط. قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال، ووقع التصريح به في رواية أبي زيد المروزي.قوله: "عمرو بن أبي عمرو" هو مولى المطلب الماضي ذكره في "باب التعوذ من غلبة الرجال". قوله: "فكنت أسمعه يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم إلى قوله والجبن" تقدم شرح هذه الأمور الستة، ومحصله إن الهم لما يتصوره العقل من المكروه في الحال، والحزن لما وقع في الماضي، والعجز ضد الاقتدار، والكسل ضد النشاط، والبخل ضد الكرم، والجبن ضد الشجاعة. وقوله: "وضلع الدين" تقدم ضبطه وتفسيره قبل ثلاث أبواب، وقوله: "وغلبة الرجال" هي إضافة للفاعل، استعاذ من أن يغلبه الرجال لما في ذلك من الوهن في النفس والمعاش.

(11/178)


41 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْبُخْلِ الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ وَاحِدٌ مِثْلُ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ
6370- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ "عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهَؤُلاَءِ الْخَمْسِ وَيُحَدِّثُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
قوله: "باب التعوذ من البخل" تقدم الكلام عليه قبل. قوله: "البخل والبخل واحد" يعني بضم أوله وسكون ثانيه وبفتحهما. قوله: "مثل الحزن والحزن" يعني في وزنهما. قوله: "وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر" في

(11/178)


42 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ أَرَاذِلُنَا سُقَّاطنا
6371- حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب "عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل "
قوله: "باب التعوذ من أرذل العمر أراذلنا سقاطنا" بضم المهملة وتشديد القاف جمع ساقط وهو اللئيم في حسبه ونسبه، وهذا قد تقدم القول فيه في أوائل تفسير سورة هود، وأورد فيه حديث أنس وليس فيه لفظ الترجمة لكنه أشار بذلك إلى أن المراد بأرذل العمر في حديث سعد بن أبي وقاص الذي قبله الهرم الذي في حديث أنس لمجيئها موضع الأخرى من الحديث المذكور.

(11/179)


43 - باب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ
6372- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا"
6373- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ " عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قُلْتُ فَبِشَطْرِهِ قَالَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ

(11/179)


44 - باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَفِتْنَةِ النَّارِ
6374- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ"
6375- حدثنا يحيى بن موسى حدثنا وكيع حدثنا هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وفتنة القبر وعذاب القبر وشر فتنة فلهذا وشر فتنة الفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"
قوله: "باب الاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا ومن فتنة النار" في رواية الكشميهني: "ومن عذاب النار" بدل فتنة النار. قوله: "أنبأنا الحسين" هو ابن علي الجعفي الزاهد المشهور، وإسحاق الراوي عنه هو ابن راهويه، وشيخه زائدة، هو ابن قدامة، وعبد الملك هو ابن عمير، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى قبل قليل و كذا حديث عائشة ثاني حديثي الباب.

(11/181)


45 - باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى
6376- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سلام بن أبي مطيع عن هشام عن أبيه "عن خالته ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ومن عذاب النار وأعوذ بك من فتنة القبر وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة الغني وأعوذ بك من فتنة الفقر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال"
قوله: "باب الاستعاذة من فتنة الغنى" ذكر فيه حديث عائشة المذكور مختصرا من رواية وكيع عن هشام بن عروة، وقد تقدم شرحه.

(11/181)


46 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ
6377- حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة رضي الله عنها

(11/181)


47 - باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ الْبَرَكَةِ
6378-6379- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِثْلَهُ"
قوله: "باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة" سقط هذا الباب والترجمة من رواية السرخسي والصواب إثباته. قوله: "شعبة قال سمعت قتادة عن أنس عن أم سليم أنها قالت يا رسول الله أنس خادمك ادع الله له. الحديث" وفي آخره "وعن هشام بن زيد سمعت أنس بن مالك مثله" قلت هكذا قال غندر عن شعبة جعل الحديث من مسند أم سليم، وكذا أخرجه الترمذي عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه عن محمد بن جعفر وهو غندر هذا فذكر مثله، ولكنه لم يذكر رواية هشام بن زيد التي في آخره. وقال: حسن صحيح، وأخرجه الإسماعيلي من رواية حجاج بن محمد عن شعبة فقال فيه: "عن أم سليم" كما قال غندر، وكذا أخرجه أحمد عن حجاج بن محمد وعن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة، وأخرجه في "باب من خص أخاه بالدعاء" من رواية سعيد بن الربيع عن شعبة عن قتادة قال: "سمعت أنسا قال قالت أم سليم" وظاهره أنه من مسند أنس وهو في الباب الذي يلي هذا كذلك، وكذا تقدم في "باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر" من طريق حرمي بن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: "قالت أمي" وكذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسي والإسماعيلي من رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة. وهذا الاختلاف لا يضر فإن أنسا حضر ذلك بدليل ما أخرجه مسلم من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال: "جاءت بي أمي أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا ابني أنس يخدمك، فادع الله له، فقال: اللهم أكثر ماله وولده" وأما رواية هشام بن زيد المعطوفة هنا فإنها معطوفة على رواية قتادة، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية حجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة وهشام بن زيد جميعا عن أنس، وكذا صنيع مسلم حيث أخرجه من رواية أبي داود عن شعبة. "تنبيه": ذكر الكرماني أنه وقع هنا "وعن هشام بن عروة قال" والأول هو الصحيح. قوله: "أنها قالت يا رسول الله أنس

(11/182)


خادمك ادع الله له" تقدم لهذا الحديث مبدأ من رواية حميد عن أنس في كتاب الصيام في "باب من زار قوما فلم يفطر عندهم" وقد بسطت شرحه هناك بما يغني عن إعادته، وذكرت طرفا منه قريبا في "باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر".

(11/183)


باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة
6380-6381- حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع حدثنا شعبة عن قتادة "قال سمعت أنسا رضي الله عنه قال قالت أم سليم: أنس خادمك ادع الله له قال اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته"
قوله: "باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة" تقدم شرحه في الذي قبله، وتقدم الحديث سندا ومتنا في باب قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ومن خص أخاه بالدعاء

(11/183)


48- باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاسْتِخَارَةِ
6382- حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُصْعَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ "عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنْ الْقُرْآنِ إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَمُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ"
قوله: "باب الدعاء عند الاستخارة" هي استفعال من الخير أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانيه بوزن العنبة، اسم من قولك خار الله له، واستخار الله طلب منه الخيرة، وخار الله له أعطاه ما هو خير له، والمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال" بفتح الميم وتخفيف الواو جمع مولى، واسمه زيد، ويقال زيد جد عبد الرحمن وأبوه لا يعرف اسمه، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين، وكان ينسب إلى ولاء آل علي بن أبي طالب، وخرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن في زمن المنصور، فلما قتل محمد حبس عبد الرحمن المذكور بعد أن ضرب. وقد وثقه ابن المعين وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وذكره ابن عدي في "الكامل" في الضعفاء، وأسند عن أحمد بن حنبل أنه قال: كان محبوسا في المطبق حين هزم هؤلاء يعني بني حسن، قال: وروي عن محمد بن المنكدر حديث الاستخارة وليس أحد يرويه غيره، وهو منكر، وأهل المدينة إذا كان حديث غلطا يقولون: ابن المنكدر عن جابر، كما أن أهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس يحملون

(11/183)


49 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْوُضُوءِ
6383- حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة "عن أبي موسى قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه فقال اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس"
قوله: "باب الدعاء عند الوضوء" ذكر فيه حديث أبي موسى قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ به، ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر" الحديث، ذكره مختصرا، وقد تقدم بطوله في المغازي في "باب غزوة أوطاس".

(11/187)


50 - باب الدُّعَاءِ إِذَا عَلاَ عَقَبَةً
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"

(11/187)


51 - باب الدُّعَاءِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا. فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه
قوله: "باب الدعاء إذا هبط واديا فيه حديث جابر" كذا ثبت عند المستملي والكشميهني وسقط لغيرهما، والمراد بحديث جابر ما تقدم في الجهاد وفي "باب التسبيح إذا هبط واديا" من حديثه بلفظ: "كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا".وقال بعده "باب التكبير إذا علا شرفا" وأورد فيه حديث جابر أيضا لكن بلفظ: "وإذا تصوبنا" بدل "نزلنا" والتصويب الانحدار وقد ورد بلفظ: "هبطنا" في هذا الحديث عند النسائي وابن خزيمة وأشرت إلى شرحه هناك، ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء، فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء فيكبره ليشكر له ذلك فيزيده من فضله، ومناسبة التسبيح عند الهبوط لكون المكان المنخفض محل ضيق فيشرع فيه التسبيح لأنه من أسباب الفرج، كما وقع في قصة يونس عليه السلام حين سبح في الظلمات فنجى من الغم

(11/188)


52 - باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ. فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ
6385- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"

(11/188)


53 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ
6386- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ مَهْيَمْ أَوْ مَهْ قَالَ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
6387- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ ثَيِّبًا قَالَ هَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ أَوْ تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ قُلْتُ هَلَكَ أَبِي فَتَرَكَ سَبْعَ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ فَبَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقُلْ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ"
قوله: "باب الدعاء للمتزوج" فيه حديث أنس في تزويج عبد الرحمن بن عوف وحديث جابر في تزويجه الثيب. حديث أنس في تزويج عبد الرحمن بن عوف، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب النكاح، والمراد هنا قوله: "بارك الله لك" وقوله: "فقال مهيم أو مه" شك من الراوي، والمعتمد ما في الرواية المتقدمة وهو الجزم بالأول ومعناه ما حالك، ومه في هذه الرواية استفهامية انقلبت الألف هاء. حديث جابر في تزويجه الثيب وفيه: "هلا جارية تلاعبها" وقد تقدم شرحه في النكاح، والمراد منه قوله فيه: "بارك الله عليك" وقوله فيه: "تزوجت يا جابر قلت نعم، قال بكرا أم ثيبا" انتصب على حذف فعل تقديره أتزوجت، وقوله في الجواب "قلت ثيب" بالرفع على أن التقدير مثلا التي تزوجتها ثيب، قيل وكان الأحسن النصب على نسق الأول أي تزوجت ثيبا. قلت: ولا يمتنع أن يكون منصوبا فكتب بغير ألف على تلك اللغة، وقوله فيه: "أو

(11/190)


تضاحكها" شك من الراوي "وهو يعين أحد الاحتمالين في تلاعبها هل من اللعب أو من اللعاب "وقد تقدم بيانه عند شرحه. قوله: "لم يقل ابن عيينة ومحمد بن مسلم عن عمرو بارك الله عليك" أما رواية سفيان بن عيينة فتقدمت موصولة في المغازي وفي النفقات من طريقه، وأما رواية محمد بن مسلم وهو الطائفي فتقدم الكلام عليها في المغازي، ومناسبة قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن "بارك الله لك" ولجابر "بارك الله عليك" أن المراد بالأول اختصاصه بالبركة في زوجته وبالثاني شمول البركة له في جودة عقله حيث قدم مصلحة أخواته على حظ نفسه فعدل لأجلهن عن تزوج البكر مع كونها أرفع رتبة للمتزوج الشاب من الثيب غالبا.

(11/191)


54- - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
6388- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا"
قوله: "باب ما يقول إذا أتى أهله" ذكر فيه حديث ابن عباس، وفي لفظه ما يقتضي أن القول المذكور يشرع عند إرادة الجماع فيرفع احتمال ظاهر الحديث أنه يشرع عند الشروع في الجماع. حديث ابن عباس، وفي لفظه ما يقتضي أن القول المذكور يشرع عند إرادة الجماع فيرفع احتمال ظاهر الحديث أنه يشرع عند الشروع في الجماع، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب النكاح. وقوله: "لم يضره شيطان أبدا" أي لم يضر الولد المذكور بحيث يتمكن من إضراره في دينه أو بدنه، وليس المراد رفع الوسوسة من أصلها.

(11/191)


55 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
6389- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ربنا آتنا في الدنيا حسنة" كذا ذكره بلفظ الآية. الحديث من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ: "كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم آتنا إلى آخر الآية" وقد أورده في تفسير البقرة عن أبي معمر عن عبد الوارث بسنده هذا ولكن لفظه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول" وللباقي مثله وأخرجه مسلم من طريق إسماعيل بن علية عن عبد العزيز قال: "سأل قتادة أنسا أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟ قال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة إلى آخره. قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها" وهذا الحديث سمعه شعبة من إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عن أنس مختصرا رواه عنه يحيى بن أبي بكير قال فلقيت إسماعيل فحدثني به فذكره كما عند مسلم، وأورده مسلم من طريق شعبة عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية. وهذا مطابق للترجمة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي نعيم حدثنا عبد السلام أبو طالوت "كنت عند أنس فقال له ثابت: إن إخوانك يسألونك أن تدعو لهم، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فذكر القصة وفيها: إذا آتاكم الله ذلك فقد آتاكم الخير كله" قال

(11/191)


56 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا
6390- حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا عبيدة بن حميد عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص "عن أبيه رضي الله عنه قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن نرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر"
قوله: "باب التعوذ من فتنة الدنيا" تقدمت هذه الترجمة ضمن ترجمة وذلك قبل اثنى عشر بابا، وتقدم شرح الحديث أيضا.

(11/192)


57 - باب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ
6391- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْذِرٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(11/192)


58 - باب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ}
6392- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الأَحْزَابَ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ"
6393- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي

(11/193)


رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ"
6394- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ عَاصِمٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فَأُصِيبُوا فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ فَقَنَتَ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَيَقُولُ إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
6395- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ السَّامُ عَلَيْكَ فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَالَتْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي أَنِّي أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ وَعَلَيْكُمْ"
6396- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ مَلاَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَهِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ"
قوله: "باب الدعاء على المشركين" كذا أطلق هنا، وقيده في الجهاد بالهزيمة والزلزلة وذكر فيه أحاديث: الأول قوله: "وقال ابن مسعود: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" وهذا طرف من حديث تقدم موصولا في كتاب الاستسقاء وتقدم شرحه هناك. الثاني قوله: "وقال: اللهم عليك بأبي جهل" أي بإهلاكه، وسقط هذا التعليق من رواية أبي زيد، وهو طرف من حديث لابن مسعود أيضا في قصة سلي الجزور التي ألقاها أشقى القوم على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم موصولا في الطهارة، وهو رابع الأحاديث المذكورة في الترجمة التي أشرت إليها آنفا في كتاب الجهاد. الثالث قوله: "وقال ابن عمر: دعا النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقال: اللهم العن فلانا وفلانا، حتى أنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} هذا أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في غزوة أحد وفي تفسير آل عمران وتقدم شرحه وتسمية من أبهم من المدعو عليهم. قوله: "حدثنا ابن سلام" هو محمد بن أبي خالد اسمه إسماعيل وابن أبي أوفى هو عبد الله. قوله: "على الأحزاب" تقدم المراد به قريبا، وسريع الحساب أي سريع فيه أو المعنى أن مجيء الحساب سريع، وتقدم شرح الحديث مستوفى في "باب لا تتمنوا لقاء العدو" من كتاب الجهاد. حديث أبي هريرة في الدعاء في القنوت للمستضعفين من المسلمين، وفيه: "اللهم اشدد وطأتك على مضر" أي خذهم بشدة، وأصلها من الوطء بالقدم والمراد الإهلاك، لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه والمراد بمضر القبيلة المشهورة التي منها جميع بطون قيس وقريش وغيرهم، وهو على حذف مضاف أي كفار مضر، وقد تقدم في الجهاد أنه يشرح في المغازي فلم يتهيأ ذلك فشرح في تفسير سورة النساء، وقوله فيه: "اللهم أنج

(11/194)


سلمة ابن هشام" نقل ابن التين عن الداودي أنه قال: هو عم أبي جهل، قال: فعلى هذا فاسم أبي جهل هشام واسم جده هشام. قلت: وهو خطأ من عدة أوجه فإن اسم أبي جهل عمرو واسم أبيه هشام، وسلمة أخوه بلا خلاف بين أهل الإخبار في ذلك، فلعله كان فيه: "قاسم أبي أبي جهل" فيستقيم، لكن قوله وسلمة عم أبي جهل خطأ فيرجع الخطأ. حديث أنس "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية يقال لهم القراء" الحديث، وقد تقدم شرحه في غزوة بئر معونة من كتاب المغازي، وقوله: "وجد" من الوجد بفتح ثم سكون أي حزن. حديث عائشة "كانت اليهود يسلمون"، وقد تقدم شرحه في كتاب الاستئذان. حديث علي "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق" الحديث وفيه: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا" وقد تقدم شرحه في تفسير سورة البقرة، وأشرت إلى اختلاف العلماء في الصلاة الوسطى وبلغته إلى عشرين قولا. وقد تعسف أبو الحسن بن القصار في تأويله فقال: إنما تسمية العصر وسطى يختص بذلك اليوم لأنهم شغلوا عن الظهر والعصر والمغرب فكانت العصر بالنسبة إلى الثلاثة التي شغلوا عنها وسطى، لا أن المراد بالوسطى تفسير ما وقع في سورة البقرة. قلت: وقوله في هذه الرواية: "وهي صلاة العصر" جزم الكرماني بأنه مدرج في الخير من قول بعض رواته، وفيه نظر، فقد تقدم في الجهاد من رواية عيسى بن يونس وفي المغازي من رواية روح بن عبادة وفي التفسير من رواية يزيد بن هارون ومن رواية يحيى بن سعيد كلهم عن هشام ولم يقع عنده ذكر صلاة العصر عن أحد منهم، إلا أنه وقع في المغازي "إلى أن غابت الشمس" وهو مشعر بأنها العصر، وأخرجه مسلم من رواية أبي أسامة ومن رواية المعتمر بن سليمان ومن رواية يحيى بن سعيد ثلاثتهم عن هشام كذلك ولكن بلفظ: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وكذا أخرجه من طريق شتير بن شكل عن علي ومن طريق مرة عن عبد الله بن مسعود مثله سواء، وأصرح من ذلك ما أخرجه من حديث حذيفة مرفوعا: "شغلونا عن صلاة العصر" وهو ظاهر في أنه من نفس الحديث، وقوله في السند "حدثنا الأنصاري" يريد محمد بن عبد الله بن المثنى القاضي وهو من شيوخ البخاري، ولكن ربما أخرج عنه بواسطة كالذي هنا، وقوله: "حدثنا هشام بن حسنان" يرجح قول من قال في الرواية التي مضت في الجهاد من طريق عيسى بن يونس "حدثنا هشام" أنه ابن حسان، وقد كنت ظننت أنه الدستوائي ورددت على الأصيلي حيث جزم بأنه ابن حسان ثم نقل تضعيف هشام بن حسان يروم رد الحديث فتعقبته هناك، ثم وقفت على هذه الرواية فرجعت عما ظننته، لكن أجيب الآن عن تضعيفه لهشام بأن هشام بن حسان وإن تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه لكن لم يضعفه بذلك أحد مطلقا بل بقيد بعض شيوخه، واتفقوا على أنه ثبت في الشيخ الذي حدث عنه بحديث الباب وهو محمد بن سيرين، قال سعيد بن أبي عروبة: ما كان أحد أحفظ عن ابن سيرين من هشام. وقال يحيى القطان: هشام بن حسان ثقة في محمد بن سيرين. وقال أيضا: هو أحب إلي في ابن سيرين من عاصم الأحوال وخالد الحذاء. وقال علي بن المديني: كان يحيى القطان يضعف حديث هشام بن حسان عن عطاء وكان أصحابنا يثبتونه، قال: وأما حديثه عن محمد بن سيرين فصحيح. وقال يحيى بن معين: كان ينفي حديثه عن عطاء وعن عكرمة وعن الحسن. قلت: قد قال أحمد ما يكاد ينكر عليه شيء إلا ووجدت غيره قد حدث به، إما أيوب وإما عوف. وقال ابن عدي: أحاديثه مستقيمة، ولم أر فيها شيئا منكرا انتهى. وليس له في الصحيحين عن عطاء شيء، وله في

(11/195)


البخاري شيء يسير عن عكرمة وتوبع عليه، والله أعلم.

(11/196)


59 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ
6397- حدثنا علي حدثنا سفيان حدثنا أبو الزناد عن الأعرج "عن أبي هريرة رضي الله عنه ثم قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها فظن الناس أنه يدعو عليهم فقال اللهم اهد دوسا وأت بهم"
قوله: "باب الدعاء للمشركين" تقدمت هذه الترجمة وحديث أبي هريرة فيها في كتاب الجهاد، لكن زاد: "بالهدي ليتألفهم" وقد تقدم شرحه هناك، وذكرت وجه الجمع بين الترجمتين: والدعاء على المشركين والدعاء للمشركين وأنه باعتبارين، وحكى ابن بطال أن الدعاء للمشركين ناسخ للدعاء على المشركين ودليله قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال: والأكثر على أن لا نسخ، وأن الدعاء على المشركين جائز، وإنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم ودخولهم في الإسلام، ويحتمل في التوفيق بينهما أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم، والتقييد بالهداية يرشد إلى أن المراد بالمغفرة في قوله في الحديث الآخر "اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" العفو عما جنوه عليه في نفسه لا محو ذنوبهم كلها لأن ذنب الكفر لا يمحى، أو المراد بقوله: "اغفر لهم" اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة، أو المعنى اغفر لهم إن أسلموا، والله أعلم.

(11/196)


60 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ
6398- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى "عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ"
[الحديث 6398- طرفه في: 6399]
6399- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي بُرْدَةَ أَحْسِبُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَايَايَ

(11/196)


61 - باب الدُّعَاءِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
6400- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ وَقَالَ بِيَدِهِ قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا"
قوله: "باب الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة" أي التي ترجى فيها إجابة الدعاء.وقد ترجم في كتاب الجمعة "باب الساعة التي في يوم الجمعة" ولم يذكر في البابين شيئا يشعر بتعيينها. وقد اختلف في ذلك كثيرا، واقتصر الخطابي منها على وجهين: أحدهما أنها ساعة الصلاة، والآخر أنها ساعة من النهار عند دنو الشمس للغروب، وتقدم سياق الحديث في كتاب الجمعة من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها" وقد ذكرت شرحه هناك، واستوعبت الخلاف الوارد في الساعة المذكورة فزاد على الأربعين قولا، واتفق لي نظير ذلك ليلة القدر. وقد ظفرت بحديث يظهر منه وجه المناسبة بينهما في العدد المذكور، وهو ما أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة من طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة قال: "قلت يا أبا سعيد إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة فقال: سألت عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر". وفي هذا الحديث إشارة إلى أن كل رواية جاء فيها تعيين وقت الساعة المذكورة مرفوعا وهم، والله أعلم. قوله: "يسأل الله خيرا" يقيد قوله في رواية الأعرج "شيئا" وأن الفضل المذكور لمن يسأل الخير، فيخرج الشر مثل الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم ونحو ذلك. وقوله: "وقال بيده" فيه إطلاق القول على الفعل، وقد وقع في رواية الأعرج "وأشار بيده". قوله: "قلنا يقللها يزهدها" يحتمل أن يكون قوله يزهدها وقع تأكيدا لقوله يقللها، وإلى ذلك أشار الخطابي. ويحتمل أن يكون قال أحد اللفظين فجمعهما الراوي. ثم وجدته عند الإسماعيلي من رواية أبي خيثمة زهير بن حرب "يقللها ويزهدها" فجمع بينهما، وهو عطف تأكيد. وقد أخرجه مسلم عن زهير بن حرب عن إسماعيل شيخ مسدد فيه فلم يقع عنده "قلنا" ولفظه:" وقال بيده يقللها يزهدها" وأخرجه أبو عوانة عن الزعفراني عن إسماعيل بلفظ:" وقال بيده هكذا فقلنا يزهدها أو يقللها" وهذه أوضح الروايات والله أعلم.

(11/199)


62 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَجَابُ لَنَا فِي الْيَهُودِ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا
6401- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عَائِشَةَ

(11/199)


63 - باب التَّأْمِينِ
6402- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
قوله: "باب التأمين" يعني قول "آمين" عقب الدعاء.حديث أبي هريرة "إذا أمن القارئ فأمنوا" وقد تقدم شرحه في كتاب الصلاة، والمراد بالقارئ هنا الإمام إذا قرأ في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالقارئ أعم من ذلك. وورد في التأمين مطلقا أحاديث منها حديث عائشة مرفوعا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" رواه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وأخرجه ابن ماجه أيضا من حديث ابن عباس بلفظ: "ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين" وأخرج الحاكم "عن حبيب بن مسلمة الفهري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى" ولأبي داود من حديث أبي زهير النميري قال: "وقف النبي صلى الله عليه وسلم على رجل قد ألح في الدعاء فقال: أوجب إن ختم، فقال: بأي شيء؟ قال بآمين. فأتاه الرجل فقال: يا فلان اختم بآمين وأبشر" وكان أبو زهير يقول: آمين مثل الطابع على الصحيفة. وقد ذكرت في "باب جهر الإمام بالتأمين" في كتاب الصلاة. ما في آمين من اللغات واختلاف في معناها فأغنى عن الإعادة.

(11/200)


64 - باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ

(11/200)


65 - باب فَضْلِ التَّسْبِيحِ
6405- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"
6406- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"
[الحديث 6406- طرفاه في 6682، 7563]
قوله: "باب فضل التسبيح" يعني قول سبحان الله، ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص، فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل. ويطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويطلق ويراد به صلاة النافلة. وأما صلاة التسبيح فسميت بذلك لكثرة التسبيح فيها. وسبحان اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف تقديره سبحت الله سبحانا، كسبحت الله تسبيحة ولا يستعمل غالبا إلا مضافا، وهو مضاف إلى المفعول أي سبحت الله، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل أي نزه الله نفسه والمشهور الأول، وقد جاء غير مضاف في الشعر كقوله: سبحانه ثم سبحانا أنزهه. قوله: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" زاد في رواية سهيل بن أبي صالح عن سمي عن أبي صالح "من قال حين يمسي وحين يصبح" ويأتي في ذلك ما ذكره النووي من أن الأفضل أن يقول ذلك متواليا في أول النهار وفي أول الليل، والمراد بقوله: "وإن كانت مثل زبد البحر" الكناية عن المبالغة في الكثرة، قال عياض قوله: "حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" مع قوله في التهليل "محيت عنه مائة سيئة" قد يشعر بأفضلية التسبيح على التهليل، يعني لأن عدد زبد البحر أضعاف

(11/206)


أضعاف المائة، لكن تقدم في التهليل "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به" فيحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون التهليل أفضل وأنه بما زيد من رفع الدرجات وكتب الحسنات ثم ما جعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب قد يزيد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا لأنه قد جاء "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار" فحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عموما بعد حصر ما عدد منها خصوصا مع زيادة مائة درجة وما زاده عتق الرقاب الزيادة على الواحدة، ويؤيده الحديث الآخر "أفضل الذكر التهليل" وأنه أفضل ما قاله والنبيون من قبله وهو كلمة التوحيد والإخلاص، وقيل إنه اسم الله الأعظم، وقد مضى شرح التسبيح وإنه التنزيه عما لا يليق بالله تعالى وجميع ذلك داخل في ضمن "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" انتهى ملخصا. قلت: وحديث: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث جابر، ويعارضه في الظاهر حديث أبي ذر "قلت يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله، قال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده" أخرجه مسلم. وفي رواية: "سئل أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله وبحمده" وقال الطيبي في الكلام على حديث أبي ذر: فيه تلميح بقوله تعالى حكاية عن الملائكة {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ويمكن أن يكون قوله: "سبحان الله وبحمده" مختصرا من الكلمات الأربع وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لأن "سبحان الله" تنزيه له عما لا يليق بجلاله وتقديس لصفاته من النقائص. فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله، وقوله: "وبحمده" صريح في معنى والحمد لله لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد، ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والأفضال لله ومن الله وليس من غيره شيء من ذلك فلا يكون أحد أكبر منه، ومع ذلك كله فلا يلزم أن يكون التسبيح أفضل من التهليل لأن التهليل صريح في التوحيد والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الآلهة في قول "لا إله" نفي لمضمنها من فعل الخلق والرزق والإثابة والعقوبة، وقول "إلا الله" إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضاده ويخالفه من النقائص، فمنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد ومنطوق لا إله إلا الله توحيد ومفهومه تنزيه، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل لأن التوحيد أصل والتنزيه ينشأ عنه والله أعلم. وقد جمع القرطبي بما حاصله: إن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل الكلام أو أحبه إلى الله فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها، بدليل حديث سمرة عند مسلم: "أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفى، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه، ومن نزهه فقد عظمه ومن عظمه فقد نزهه، انتهى. وقال النووي: هذا الإطلاق في الأفضلية محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل الذكر. وقال البيضاوي: الظاهر أن المراد من الكلام كلام البشر، فإن للثلاث الأول وإن وجدت في القرآن لكن الرابعة لم توجد فيه، ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه. قلت ويحتمل أن يجمع بأن تكون "من" مضمرة في قوله: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" وفي قوله: "أحب الكلام" بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان في المعنى، لكن يظهر مع ذلك تفضيل لا إله إلا الله لأنها ذكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة وذكرت مع أخواتها بالأحبية فحصل لها التفضيل تنصيصا وانضماما والله أعلم. وأخرج الطبري من رواية عبد الله بن باباة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "إن الرجل إذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملا حتى يقولها،

(11/207)


وإذا قال الحمد لله فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد حتى يقولها" ومن طريق الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: "من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين". "تكميل": أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال موسى يا رب علمني شيئا أذكرك به، قال: قل لا إله إلا الله" الحديث وفيه: "لو أن السماوات السبع وعامرهن والأرضين السبع جعلن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله" فيؤخذ منه أن الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله، ولا يعارضه حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "والحمد لله تملأ الميزان" فإن الملء يدل على المساواة والرجحان صريح في الزيادة فيكون أولى، ومعنى "ملء الميزان" أن ذاكرها يمتلئ ميزانه ثوابا. وذكر ابن بطال عن بعض العلماء أن الفضل الوارد في حديث الباب وما شابهه إنما هو لأهل الفضل في الدين والطهارة من الجرائم العظام، وليس من أصر على شهواته وانتهك دين الله وحرماته بلا حق بالأفاضل المطهرين في ذلك.ويشهد له قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .قوله: "حدثنا ابن فضيل" هو محمد، وأبوه بالفاء والمعجمة مصغر، وعمارة هو ابن القعقاع بن شبرمة، وأبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير، ورجال الإسناد ما بين زهير بن حرب وأبي هريرة كوفيون. قوله: "خفيفتان على اللسان إلخ" قال الطيبي الخفة مستعارة للسهولة، شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات فلا يشق عليه، فذكر المشبه وأراد المشبه به، وأما الثقل فعلى حقيقته لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والخفة والسهولة من الأمور النسبية. وفي الحديث حث على المواظبة على هذا الذكر وتحريض على ملازمته، لأن جميع التكاليف شاقة على النفس. وهذا سهل ومع ذلك يثقل في الميزان كما تثقل الأفعال الشاقة فلا ينبغي التفريط فيه. وقوله: "حبيبتان إلى الرحمن" ثنية حبيبة وهي المحبوبة، والمراد أن قائلها محبوب لله، ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم، وخص الرحمن من الأسماء الحسنى للتنبيه على سعة رحمة الله، حيث يجازى على العمل القليل بالثواب الجزيل، ولما فيها من التنزيه والتحميد والتعظيم، وفي الحديث جواز السجع في الدعاء إذا وقع بغير كلفة، وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في آخر الصحيح حيث ختم به المصنف إن شاء الله تعالى

(11/208)


66 - باب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
6407- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"
6408- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي قَالَ

(11/208)


فَيَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ يَقُولُونَ مِنْ النَّارِ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب فصل ذكر الله عز وجل" ذكر فيه حديثي أبي موسى وأبي هريرة وهما ظاهران فيما ترجم له، والمراد بالذكر هنا الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات وهي "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، ويطلق ذكر الله أيضا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة، ثم الذكر يقع تارة باللسان ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا، فإن صحيح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال. وقال الفخر الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله. والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثم سمى الله الصلاة ذكرا فقال: "فاسعوا إلى ذكر الله" ونقل عن بعض العارفين قال: الذكر على سبعة أنحاء: فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء. وورد في فضل الذكر أحاديث أخرى منها ما أخرجه المصنف في أواخر كتاب التوحيد عن أبي هريرة "قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" الحديث. ومنها ما أخرجه في صلاة الليل من حديث أبي هريرة أيضا رفعه: "يعقد الشيطان" الحديث وفيه: "فإن قام فذكر الله انحلت عقدة" ومنها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا: "لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة" الحديث. ومن حديث أبي ذر رفعه: "أحب الكلام إلى الله ما اصطفى لملائكته: سبحان ربي وبحمده" الحديث. ومن حديث معاوية رفعه أنه قال لجماعة جلسوا يذكرون الله تعالى "أتاني جبريل فأخبرني

(11/209)


أن الله يباهي بكم الملائكة". ومن حديث سمرة رفعه: "أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت" ومن حديث أبي هريرة رفعه: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وأخرج الترمذي والنسائي وصححه الحاكم عن الحارث بن الحارث الأشعري حديث طويل وفيه: "فآمركم أن تذكروا الله، وإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين أحرز نفسه منهم، فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى" . وعن عبد الله بن بسر "أن رجلا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي. فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. وأخرج ابن حبان نحوه أيضا من حديث معاذ بن جبل وفيه أنه السائل عن ذلك. وأخرج الترمذي من حديث أنس رفعه: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر" وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله عز وجل" وقد أشرت إليه مستشكلا في أوائل الجهاد مع ما ورد في فضل المجاهد أنه كالصائم لا يفطر وكالقائم لا يفتر وغير ذلك مما يدل على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة، وطريق الجمع - والله أعلم - أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلا من غير استحضار لذلك. وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه. أو قتاله الكفار مثلا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى. وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية. ويشير إلى ذلك حديث: "نية المؤمن أبلغ من عمله". قوله: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" سقط لفظ: "ربه" الثانية من رواية غير أبي ذر، هكذا وقع في جميع نسخ البخاري، وقد أخرجه مسلم عن أبي كريب وهو محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه بسنده المذكور بلفظ: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت "وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان صحيحه جميعا عن أبي يعلى عن أبي كريب، وكذا أخرجه أبو عوانة عن أحمد بن عبد الحميد والإسماعيلي أيضا عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن براد، وعن القاسم ابن زكريا عن يوسف بن موسى وإبراهيم بن سعيد الجوهري وموسى بن عبد الرحمن المسروقي والقاسم بن دينار كلهم عن أبي أسامة، فتوارد هؤلاء على هذا اللفظ يدل على أنه هو الذي حدث به بريد بن عبد الله شيخ أبي أسامة، وانفراد البخاري باللفظ المذكور دون بقية أصحاب أبي كريب وأصحاب أبي أسامة يشعر بأنه رواه من حفظه أو تجوز في روايته بالمعنى الذي وقع له وهو أن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا السكن وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنه بنور المعرفة

(11/210)


وغير الذاكر بالبيت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل؛ وقيل موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت. قوله: "حدثنا قتيبة" هو ابن سعيد، وصرح بذلك في غير رواية أبي ذر. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن أبي صالح" لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة لكن اعتمد البخاري على وصله لكون شعبة رواه عن الأعمش كما سأذكره. فإن شعبة كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق أنهم سمعوه. قوله: "عن أبي هريرة" كذا قال جرير، وتابعه الفضيل بن عياض عند ابن حبان وأبو بكر بن عياش عند الإسماعيلي كلاهما عن الأعمش، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش فقال: "عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد" هكذا بالشك للأكثر، وفي نسخة "وعن أبي سعيد" بواو العطف، والأول هو المعتمد، فقد أخرجه أحمد عن أبي معاوية بالشك وقال: شك الأعمش، وكذا قال ابن أبي الدنيا عن إسحاق، بن إسماعيل عن أبي معاوية، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد وقال شك سليمان يعني الأعمش، قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روى عن أبي هريرة من غير هذا الوجه يعني كما تقدم بغير تردد.قوله بعد سياق المتن "رواه شعبة عن الأعمش" يعني بسنده المذكور. قوله: "ولم يرفعه" هكذا وصله أحمد قال حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال بنحوه ولم يرفعه، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية بشر بن خالد عن محمد بن جعفر موقوفا. قوله: "ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" وصله مسلم وأحمد من طريقه، وسأذكر ما في روايته من فائدة. قوله: "إن لله ملائكة" زاد الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وابن حبان من طريق إسحاق بن راهويه كلاهما عن جرير "فضلا" وكذا لابن حبان من طريق فضيل بن عياض، وكذا لمسلم من رواية سهيل، قال عياض في "المشارق" ما نصه: في روايتنا عن أكثرهم بسكون الضاد المعجمة وهو الصواب، ورواه العذري والهوزني "فضل" بالضم وبعضهم بضم الضاد، ومعناه زيادة على كتاب الناس هكذا جاء مفسرا في البخاري، قال: وكان هذا الحرف في كتاب ابن عيسى "فضلاء" بضم أوله وفتح الضاد والمد وهو وهم هنا وإن كانت هذه صفتهم عليهم السلام. وقال في "الإكمال" الرواية فيه عند جمهور شيوخنا في مسلم والبخاري بفتح الفاء وسكون الضاد فذكر نحو ما تقدم وزاد: هكذا جاء مفسرا في البخاري في رواية أبي معاوية الضرير. وقال ابن الأثير في "النهاية" فضلا أي زيادة عن الملائكة المرتبين مع الخلائق، ويروي بسكون الضاد وبضمها قال بعضهم والسكون أكثر وأصوب. وقال النووي: ضبطوا فضلا على أوجه أرجحها بضم الفاء والضاد والثاني بضم الفاء وسكون الضاد ورجحه بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب، والثالث بفتح الفاء وسكون الضاد، قال القاضي عياض: هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاري ومسلم، والرابع بضم الفاء والضاد كالأول لكن برفع اللام يعني على أنه خبر إن، والخامس فضلاء بالمد جمع فاضل قال العلماء ومعناه على جميع الروايات أنهم زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر. وقال الطيبي فضلا بضم الفاء وسكون الضاد جمع فاضل كنزل ونازل انتهى، ونسبة عياض هذه اللفظة للبخاري وهم فإنها ليست في صحيح البخاري هنا في جميع الروايات إلا أن تكون خارج الصحيح، ولم يخرج البخاري الحديث المذكور عن أبي معاوية أصلا وإنما أخرجه من طريقه الترمذي، وزاد ابن أبي الدنيا والطبراني رواية جرير فضلا عن كتاب

(11/211)


الناس، ومثله لابن حبان من رواية فضيل ابن عياض وزاد: "سياحين في الأرض" وكذا هو في رواية أبي معاوية عند الترمذي والإسماعيلي عن كتاب الأيدي، ولمسلم من رواية سهيل عن أبيه "سيارة فضلا". قوله: "يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر" في رواية سهيل "يتبعون مجالس الذكر". وفي حديث جابر بن أبي يعلى "إن لله سرايا من الملائكة تقف وتحل بمجالس الذكر في الأرض". قوله: "فإذا وجدوا قوما" في رواية فضيل بن عياض "فإذا رأوا قوما" وفي رواية سهيل "فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر". قوله: "تنادوا" في رواية الإسماعيلي: "يتنادون". قوله: "هلموا إلى حاجتكم" في رواية أبي معاوية "بغيتكم" وقوله: "هلموا" على لغة أهل نجد، وأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والاثنين والجمع هلم بلفظ الإفراد، وقد تقدم تقرير ذلك في التفسير.واختلف في أصل هذه الكلمة فقيل هل لك في الأكل أم، أي اقصد، وقيل أصله لم بضم اللام وتشديد الميم وها للتنبيه حذفت ألفها تخفيفا. قوله: "فيحفونهم بأجنحتهم" أي يدنون بأجنحتهم حول الذاكرين، والباء للتعدية وقيل للاستعانة. قوله: "إلى السماء الدنيا" في رواية الكشميهني: "إلى سماء الدنيا" وفي رواية سهيل "قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين سماء الدنيا". قوله: "قال فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم" في رواية الكشميهني: "بهم" كذا للإسماعيلي، وهي جملة معترضة وردت لرفع التوهم، زاد في رواية سهيل "من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض" وفي رواية الترمذي "فيقول الله: أي شيء تركتم عبادي يصنعون". قوله: "ما يقول عبادي؟ قال: تقول يسبحونك" كذا لأبي ذر بالإفراد فيهما، ولغيره: "قالوا يقولون" ولابن أبي الدنيا "قال يقولون" وزاد سهيل في روايته: "فإذا تفرقوا" أي أهل المجلس "عرجوا" أي الملائكة "وصعدوا إلى السماء". قوله: "يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك" زاد إسحاق وعثمان عن جرير "ويمجدونك" وكذا لابن أبي الدنيا. وفي رواية أبي معاوية "فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك" وفي رواية الإسماعيلي: "قالوا ربنا مررنا بهم وهم يذكرونك إلخ" وفي رواية سهيل "جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك" وفي حديث أنس عند البزار "ويعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك ويسألونك لآخرتهم ودنياهم" ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وأنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر، والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما والتلاوة حسب، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى. قوله: "قال فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون لا والله ما رأوك" كذا ثبت لفظ الجلالة في جميع نسخ البخاري وكذا في بقية المواضع، وسقط لغيره. قوله: "كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا" زاد أبو ذر في روايته: "وتحميدا" وكذا لابن أبي الدنيا، وزاد في رواية الإسماعيلي: "وأشد لك ذكرا" وفي رواية ابن أبي الدنيا "وأكثر لك تسبيحا".قوله: "قال يقول" في رواية أبي ذر "فيقول". قوله: "فما يسألوني" في رواية أبي معاوية "فأي شيء يطلبون". قوله: "يسألونك الجنة" في رواية سهيل "يسألونك جنتك". قوله: "كانوا أشد عليها حرصا" زاد أبو معاوية في روايته: "عليها" وفي رواية ابن أبي الدنيا "كانوا أشد حرصا

(11/212)


وأشد طلبة وأعظم لها رغبة". قوله: "قال فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار" في رواية أبي معاوية "فمن أي شيء يتعوذون؟ فيقولون من النار" وفي رواية سهيل "قالوا ويستجيرونك. وقال ومم يستجيرونني؟ قالوا من نارك". قوله: "كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة" في رواية أبي معاوية "كانوا أشد منها هربا وأشد منها تعوذا وخوفا" وزاد سهيل في روايته: "قالوا ويستغفرونك" قال فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا" وفي حديث أنس "فيقول غشوهم رحمتي".قوله: "يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة" في رواية أبي معاوية "فيقولون إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاء لحاجة" وفي رواية سهيل "قال يقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم" وزاد في روايته: "قال وله قد غفرت". قوله: "هم الجلساء" في رواية أبي معاوية وكذا في رواية سهيل "هم القوم" وفي اللام إشعار بالكمال أي هم القوم كل القوم. قوله: "لا يشقى جليسهم" كذا لأبي ذر، ولغيره: "لا يشقى بهم جليسهم" وللترمذي "لا يشقى لهم جليس" وهذه الجملة مستأنفة لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال، وقد أخرج جعفر في الذكر من طريق أبي الأشهب عن الحسن البصري قال: "بينما قوم يذكرون الله إذ أتاهم رجل فقعد إليهم، قال فنزلت الرحمة ثم ارتفعت، فقالوا ربنا فيهم عبدك فلان، قال غشوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قيل لسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود. "تنبيه": اختصر أبو زيد المروزي في روايته عن الفربري متن هذا الحديث فساق منه إلى قوله: "هلموا إلى حاجتكم" ثم قال: فذكر الحديث. وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين؛ وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر. وفيه محبة الملائكة بني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر من السائل وهو أعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنوية بقدره والإعلان بشرف منزلته. وقيل إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان، وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس، وقيل إنه يؤخذ من هذا الحديث أن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب، بخلاف الملائكة في ذلك كله. وفيه بيان كذب من ادعى من الزنادقة أنه يرى الله تعالى جهرا في دار الدنيا، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رفعه: "واعلموا أنكم لم تروا ربكم حتى تموتوا" . وفيه جواز القسم في الأمر المحقق تأكيدا له وتنويها به. وفيه أن الذي اشتملت عليه الجنة من أنواع الخيرات والنار من أنواع المكروهات فوق ما وصفتا به، وإن الرغبة والطلب من الله والمبالغة في ذلك من أسباب الحصول.

(11/213)


67 - باب قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
6409- حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن أخبرنا عبد الله أخبرنا سليمان التيمي عن أبي عثمان "عن

(11/213)


أبي موسى الأشعري قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عقبة أو قال في ثنية قال فلما علا عليها رجل نادى فرفع صوته لا إله إلا الله والله أكبر قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته قال فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ثم قال يا أبا موسى أو يا عبد الله ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة قلت بلى قال لا حول ولا قوة إلا بالله"
قوله: "باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله" ذكر فيه حديث أبي موسى، وقد تقدم قريبا في "باب الدعاء إذا علا عقبة" ووعدت بشرحه في كتاب القدر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

(11/214)


68 - باب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ
6409- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً " قَالَ لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ"
قوله: "باب لله مائة اسم غير واحدة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "مائة غير واحد" بالتذكير، وكذا اختلف الرواة في هذا في لفظ المتن. قوله: "حفظناه من أبي الزناد" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا أبو الزناد" وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه. قوله: "رواية" في رواية الحميدي "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولمسلم عن عمرو بن محمد الناقد عن سفيان بهذا السند عن النبي صلى الله عليه وسلم وللمصنف في التوحيد من رواية شعيب "عن أبي الزناد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" ووقع عند الدار قطني في "غرائب مالك" من رواية عبد الملك بن يحيى ابن بكير عن أبيه عن ابن وهب عن مالك بالسند المذكور "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل: لي تسعة وتسعون اسما". قلت: وهذا الحديث رواه عن الأعرج أيضا موسى بن عقبة عند ابن ماجه من رواية زهير بن محمد عنه وسرد الأسماء، ورواه عن أبي الزناد أيضا شعيب بن أبي حمزة كما مضى في الشروط، ويأتي في التوحيد، وأخرجه الترمذي من رواية الوليد بن مسلم عن شعيب وسرد الأسماء، ومحمد بن عجلان عند أبي عوانة، ومالك عند ابن خزيمة والنسائي، والدار قطني في "غرائب مالك" وقال: صحيح عن مالك وليس في الموطأ قدر ما عند أبي نعيم في طرق الأسماء الحسنى، وعبد الرحمن بن أبي الزناد عند الدار قطني، وأبو عوانة ومحمد ابن إسحاق عند أحمد وابن ماجه، وموسى بن عقبة عند أبي نعيم من رواية حفص بن ميسرة عنه. ورواه عن أبي هريرة أيضا همام بن منبه عند مسلم وأحمد، ومحمد بن سيرين عند مسلم والترمذي والطبراني في الدعاء وجعفر الفريابي في الذكر، وأبو رافع عند الترمذي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن عند أحمد، وابن ماجه وعطاء بن يسار وسعيد المقبري وسعيد بن المسيب وعبد الله بن شقيق ومحمد بن جبير بن مطعم والحسن البصري أخرجها أبو نعيم بأسانيد عنهم كلها ضعيفة، وعراك بن مالك عند البزار لكن شك فيه، ورويناها في "جزء المعالي" وفي "أمالي الجرفي" من طريقه بغير شك، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة سلمان الفارسي وابن عباس وابن عمر وعلي وكلها عند أبي نعيم أيضا بأسانيد ضعيفة، وحديث علي في "طبقات الصوفية" لأبي

(11/214)


عبد الرحمن السلمي، وحديث ابن عباس وابن عمر معا في الجزء الثالث عشر من "أمالي أبي القاسم بن بشران" وفي "فوائد أبي عمر بن حيوية" انتقاء الدار قطني، هذا جميع ما وقفت عليه من طرقه. وقد أطلق ابن عطية في تفسيره أنه تواتر عن أبي هريرة فقال: في سرد الأسماء نظر، فإن بعضها ليس في القرآن ولا في الحديث الصحيح، ولم يتواتر الحديث من أصله وإن خرج في الصحيح، ولكنه تواتر عن أبي هريرة، كذا قال ولم يتواتر عن أبي هريرة أيضا بل غاية أمره أن يكون مشهورا، ولم يقع في شيء من طرقه سرد الأسماء إلا في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي. وفي رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجه، وهذان الطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج، وفيهما اختلاف شديد في سرد الأسماء والزيادة والنقص على ما سأشير إليه. ووقع سرد الأسماء أيضا في طريق ثالثة أخرجها الحاكم في "المستدرك" وجعفر الفريابي في الذكر من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة، فمشى كثير منهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيرا من هذه الأسماء كذلك. وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه. ونقله عبد العزيز النخشبي عن كثير من العلماء، قال الحاكم بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بسياق الأسماء الحسنى، والعلة فيه عندهما تفرد الوليد بن مسلم، قال ولا أعلم خلافا عند أهل الحديث أن الوليد أوثق وأحفظ وأجل وأعلم من بشر بن شعيب وعلي بن عياش وغيرهما من أصحاب شعيب، يشير إلى أن بشرا وعليا وأبا اليمان رووه عن شعيب بدون سياق الأسماء فرواية أبي اليمان عند المصنف، ورواية علي عند النسائي، ورواية بشر عند البيهقي، وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج، قال البيهقي: يحتمل أن يكون التعيين وقع من بعض الرواة في الطريقين معا، ولهذا وقع الاختلاف الشديد بينهما، ولهذا الاحتمال ترك الشيخان تخريج التعيين. وقال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق الوليد: هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان ولا نعرفه إلا من حديث صفوان وهو ثقة، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذه الطريق وقد روي بإسناد أخر عن أبي هريرة فيه ذكر الأسماء وليس له إسناد صحيح انتهى. ولم ينفرد به صفوان فقد أخرجه البيهقي من طريق موسى بن أيوب النصيبي وهو ثقة عن الوليد أيضا، وقد اختلف في سنده على الوليد فأخرجه عثمان الدارمي في "النقض على المريسي" عن هشام بن عمار عن الوليد فقال: عن خليد بن دعلج عن قتادة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فذكره بدون التعيين، قال الوليد وحدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك وقال: كلها في القرآن "هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وسرد الأسماء وأخرجه أبو الشيخ ابن حبان من رواية أبي عامر القرشي عن الوليد بن مسلم بسند آخر فقال: حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة، قال زهير: فبلغنا أن غير واحد من أهل العلم قال إن أولها أن تفتتح بلا إله إلا الله وسرد الأسماء وهذه الطريق أخرجها ابن ماجه وابن أبي عاصم والحاكم من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد لكن سرد الأسماء أولا فقال بعد قوله من حفظها دخل الجنة: الله الواحد الصمد إلخ ثم قال بعد أن انتهى العد: قال زهير فبلغنا عن غير واحد من أهل العلم أن أولها يفتتح بلا إله إلا الله

(11/215)


له الأسماء الحسنى. قلت: والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك بن محمد الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج، وقد تكرر في رواية الوليد عن زهير ثلاثة أسماء وهي "الأحد الصمد الهادي" ووقع بدلها في رواية عبد الملك "المقسط القادر الوالي" وعند الوليد أيضا: "الوالي الرشيد" وعند عبد الملك "الوالي الراشد" وعند الوليد "العادل المنير" وعند عبد الملك "الفاطر القاهر" واتفقا في البقية. وأما رواية الوليد عن شعيب وهي أقرب الطرق إلى الصحة وعليها عول غالب من شرح الأسماء الحسنى فسياقها عند الترمذي، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور". وقد أخرجه الطبراني عن أبي زرعة الدمشقي عن صفوان بن صالح فخالف في عدة أسماء فقال: "القائم الدائم" بدل "القابض الباسط" و "الشديد" بدل "الرشيد" و "الأعلى المحيط مالك يوم الدين" بدل "الودود المجيد الحكيم" ووقع عند ابن حبان عن الحسن بن سفيان عن صفوان "الرافع" بدل المانع ووقع في صحيح ابن خزيمة في رواية صفوان أيضا مخالفة في بعض الأسماء، قال: "الحاكم" بدل "الحكيم" و "القريب" بدل" الرقيب" و "المولى" بدل "الوالي" و "الأحد" بدل "المغني" ووقع في رواية البيهقي وابن منده من طريق موسى بن أيوب عن الوليد "المغيث" بالمعجمة والمثلثة بدل "المقيت" بالقاف والمثناة، ووقع بين رواية زهير وصفوان المخالفة في ثلاثة وعشرين اسما، فليس في رواية زهير "الفتاح القهار الحكم العدل الحسيب الجليل المحصي المقتدر المقدم المؤخر البر المنتقم المغني النافع الصبور البديع الغفار الحفيظ الكبير الواسع الأحد مالك الملك ذو الجلال والإكرام" وذكر بدلها "الرب الفرد الكافي القاهر المبين بالموحدة الصادق الجميل البادي بالدال القديم البار بتشديد الراء الوفي البرهان الشديد الواقي بالقاف القدير الحافظ العادل المعطي العالم الأحد الأبد الوتر ذو القوة" ووقع في رواية عبد العزيز بن الحصين اختلاف أخر فسقط فيها مما في رواية صفوان من "القهار" إلى تمام خمسة عشر اسما على الولاء، وسقط منها أيضا: "القوي الحليم الماجد القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل المقسط الجامع الضار النافع الوالي الرب" فوقع فيها مما في رواية موسى بن عقبة المذكورة آنفا ثمانية عشر اسما على الولاء، وفيها أيضا: "الحنان المنان الجليل الكفيل المحيط القادر الرفيع الشاكر الأكرم الفاطر الخلاق الفاتح المثيب بالمثلثة ثم الموحدة العلام المولى النصير ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الإله المدبر بتشديد الموحدة" قال الحاكم: إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهدا لرواية الوليد عن شعبة لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن، كذا قال، وليس كذلك، وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف لا أن جميعها ورد فيه بصورة الأسماء. وقد قال الغزالي في "شرح الأسماء" له: لا أعرف أحدا من العلماء عني بطلب أسماء وجمعها سوى رجل من حفاظ المغرب يقال له علي بن حزم فإنه قال: صح عندي قريب من ثمانين اسما يشتمل عليها

(11/216)


كتاب الله والصحاح من الأخبار، فلتطلب البقية من الأخبار الصحيحة.قال الغزالي: وأظنه لم يبلغه الحديث يعني الذي أخرجه الترمذي أو بلغه فاستضعف إسناده، قلت: الثاني هو مراده، فإنه ذكر نحو ذلك في "المحلى" ثم قال: والأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة لا يصح شيء منها أصلا، وجميع ما تتبعته من القرآن ثمانية وستون اسما. فإنه اقتصر على ما ورد فيه بصورة الاسم لا ما يؤخذ من الاشتقاق كالباقي من قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ولا ما ورد مضافا كالبديع من قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وسأبين الأسماء التي اقتصر عليها قريبا. وقد استضعف الحديث أيضا جماعة فقال الداودي: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عين الأسماء المذكورة. وقال ابن العربي يحتمل أن تكون الأسماء تكملة الحديث المرفوع، ويحتمل أن تكون من جمع بعض الرواة وهو الأظهر عندي. وقال أبو الحسن القابسي: أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا يدخل فيها القياس ولم يقع في الكتاب ذكر عدد معين، وثبت في السنة أنها تسعة وتسعون، فأخرج بعض الناس من الكتاب تسعة وتسعين اسما، والله أعلم بما أخرج من ذلك، لأن بعضها ليست أسماء يعني صريحة. ونقل الفخر الرازي عن أبي زيد البلخي أنه طعن في حديث الباب فقال: أما الرواية التي لم يسرد فيها الأسماء وهي التي اتفقوا على أنها أقوى من الرواية التي سردت فيها الأسماء فضعيفة من جهة أن الشارع ذكر هذا العدد الخاص ويقول إن من أحصاه دخل الجنة ثم لا يسأله السامعون عن تفصيلها، وقد علمت شدة رغبة الخلق في تحصيل هذا المقصود، فيمتنع أن لا يطالبوه بذلك، ولو طالبوه لبينها لهم ولو بينها لما أغفلوه ولنقل ذلك عنهم. وأما الرواية التي سردت فيها الأسماء فيدل على ضعفها عدم تناسبها في السياق ولا في التوقيف ولا في الاشتقاق، لأنه إن كان المراد الأسماء فقط فغالبها صفات، وإن كان المراد الصفات فالصفات غير متناهية. وأجاب الفخر الرازي عن الأول بجواز أن يكون المراد من عدم تفسيرها أن يستمروا على المواظبة بالدعاء بجميع ما ورد من الأسماء رجاء أن يقعوا على تلك الأسماء المخصوصة، كما أبهمت ساعة الجمعة وليلة القدر والصلاة الوسطى. وعن الثاني بأن سردها إنما وقع بحسب التتبع والاستقراء على الراجح فلم يحصل الاعتناء بالتناسب، وبأن المراد من أحصى هذه الأسماء دخل الجنة بحسب ما وقع الاختلاف في تفسير المراد بالإحصاء فلم يكن القصد حصر الأسماء انتهى. وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد، فروينا في "كتاب المائتين" لأبي عثمان الصابوني بسنده إلى محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن، وكذا أخرج أبو نعيم عن الطبراني عن أحمد بن عمرو الخلال عن ابن أبي عمرو "حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى فقال: هي في القرآن. وروينا في "فوائد تمام" من طريق أبي الطاهر بن السرح عن حبان بن نافع عن سفيان بن عيينة الحديث، يعني حديث: "إن لله تسعة وتسعين اسما" قال فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن فأبطأ، فأتينا أبا زيد فأخرجها لنا فعرضناها على سفيان فنظر فيها أربع مرات وقال: نعم هي هذه، وهذا سياق ما ذكره جعفر. وأبو زيد قالا: ففي الفاتحة خمسة "الله رب الرحمن الرحيم مالك" وفي البقرة "محيط قدير عليم حكيم علي عظيم تواب بصير ولي واسع كاف رءوف بديع شاكر واحد سميع قابض باسط حي قيوم غني حميد غفور حليم" وزاد جعفر "إله قريب مجيب عزيز نصير قوي شديد سريع خبير" قالا: وفي آل عمران "وهاب قائم" زاد

(11/217)


جعفر الصادق "باعث منعم متفضل "وفي النساء" رقيب حسيب شهيد مقيت وكيل "زاد جعفر"علي كبير" وزاد سفيان "عفو" وفي الأنعام "فاطر قاهر" وزاد جعفر "مميت غفور برهان" وزاد سفيان "لطيف خبير قادر" وفي الأعراف "محيي مميت" وفي الأنفال "نعم المولى ونعم النصير" وفي هود "حفيظ مجيد ودود فعال لما يريد" زاد سفيان "قريب مجيب" وفي الرعد "كبير متعال" وفي إبراهيم "منان" زاد جعفر "صادق وارث" وفي الحجر "خلاق" وفي مريم "صادق وارث" زاد جعفر "فرد" وفي طه عند جعفر وحده "غفار" وفي المؤمنين "كريم" وفي النور "حق مبين" زاد سفيان "نور" وفي الفرقان "هاد" وفي سبأ "فتاح" وفي الزمر "عالم" عند جعفر وحده، وفي المؤمن "غافر قابل ذو الطول" زاد سفيان "شديد" وزاد جعفر "رفيع" وفي الذاريات "رزاق ذو القوة المتين" بالتاء وفي الطور "بر" وفي اقتربت "مقتدر" زاد جعفر "مليك" وفي الرحمن "ذو الجلال والإكرام" زاد جعفر "رب المشرقين ورب المغربين باقي معين" وفي الحديد "أول آخر ظاهر باطن" وفي الحشر "قدوس سلام مؤمن مهيمن عزيز جبار متكبر خالق بارئ مصور" زاد جعفر "ملك" وفي البروج "مبدئ معيد" وفي الفجر "وتر" عند جعفر وحده، وفي الإخلاص "أحد صمد" هذا آخر ما رويناه عن جعفر وأبي زيد وتقرير سفيان من تتبع الأسماء من القرآن، وفيها اختلاف شديد وتكرار وعدة أسماء لم ترد بلفظ الاسم وهي "صادق منعم متفضل منان مبدئ معيد باعث قابض باسط برهان معين مميت باقي "ووقفت في كتاب "المقصد الأسنى" لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الزاهد أنه تتبع الأسماء من القرآن فتأملته فوجدته كرر أسماء وذكر مما لم أره فيه بصيغة الاسم "الصادق والكاشف والعلام" وذكر من المضاف "الفالق" من قوله: "فالق الحب والنوى" وكان يلزمه أن يذكر القابل من قوله: "قابل التوب" وقد تتبعت ما بقي من الأسماء مما ورد في القرآن بصيغة الاسم مما لم يذكر في رواية الترمذي وهي "الرب الإله المحيط القدير الكافي الشاكر الشديد القائم الحاكم الفاطر الغافر القاهر المولى النصير الغالب الخالق الرفيع المليك الكفيل الخلاق الأكرم الأعلى المبين بالموحدة الحفي بالحاء المهملة والفاء القريب الأحد الحافظ "فهذه سبعة وعشرون اسما إذا انضمت إلى الأسماء التي وقعت في رواية الترمذي مما وقعت في القرآن بصيغة الاسم تكمل بها التسعة والتسعون وكلها في القرآن، لكن بعضها بإضافة كالشديد من {شَدِيدُ الْعِقَابِ} والرفيع من {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} والقائم من قوله: {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} والفاطر من {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} والقاهر من {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} والمولى والنصير من {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} والعالم من {عَالِمُ الْغَيْبِ} والخالق من قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} والغافر من {غَافِرِ الذَّنْبِ} والغالب من {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} والرفيع من {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} والحافظ من قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} ومن قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقد وقع نحو ذلك من الأسماء التي في رواية الترمذي وهي المحيي من قوله: {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} والمالك من قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} والنور من قوله: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والبديع من قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والجامع من قوله: {جَامِعُ النَّاسِ} والحكم من قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} والوارث من قوله: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} والأسماء التي تقابل هذه مما وقع في رواية الترمذي مما لم تقع في القرآن بصيغة الاسم وهي سبعة وعشرون اسما "القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل العدل الجليل الباعث المحصي المبدئ المعيد المميت الواجد الماجد المقدم المؤخر الوالي ذو الجلال والإكرام المقسط المغني

(11/218)


المانع الضار النافع الباقي الرشيد الصبور" فإذا اقتصر من رواية الترمذي على ما عدا هذه الأسماء وأبدلت بالسبعة والعشرين التي ذكرتها خرج من ذلك تسعة وتسعون اسما كلها في القرآن واردة بصيغة الاسم ومواضعها كلها ظاهرة من القرآن إلا قوله الحفي فإنه في سورة مريم في قول إبراهيم {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} وقل من نبه على ذلك، ولا يبقى بعد ذلك إلا النظر في الأسماء المشتقة من صفة واحدة مثل "القدير والمقتدر والقادر والغفور والغفار والغافر والعلي والأعلى والمتعال والملك والمليك والمالك والكريم والأكرم والقاهر والقهار والخالق والخلاق والشاكر والشكور والعالم والعليم" فأما أن يقال لا يمنع ذلك من عدها فإن فيها التغاير في الجملة فإن بعضها يزيد بخصوصية على الآخر ليست فيه،وقد وقع الاتفاق على أن الرحمن الرحيم اسمان مع كونهما مشتقين من صفة واحدة ولو منع من عد ذلك للزم أن لا يعد ما يشترك الاسمان فيه مثلا من حيث المعنى مثل الخالق البارئ المصور لكنها عدت لأنها ولو اشتركت في معنى الإيجاد والاختراع فهي مغايرة من جهة أخرى وهي أن الخالق يفيد القدرة على الإيجاد والبارئ يفيد الموجد لجوهر المخلوق والمصور يفيد خالق الصورة في تلك الذات المخلوقة وإذا كان ذلك لا يمنع المغايرة لم يمتنع عدها أسماء مع ورودها والعلم عند الله تعالى. وهذا سردها لتحفظ ولو كان في ذلك إعادة لكنه يغتفر لهذا القصد "الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار التواب الوهاب الخلاق الرزاق الفتاح العليم الحليم العظيم الواسع الحكيم الحي القيوم السميع البصير اللطيف الخبير العلي الكبير المحيط القدير المولى النصير الكريم الرقيب القريب المجيب الوكيل الحسيب الحفيظ المقيت الودود المجيد الوارث الشهيد الولي الحميد الحق المبين القوي المتين الغني المالك الشديد القادر المقتدر القاهر الكافي الشاكر المستعان الفاطر البديع الغافر الأول الآخر الظاهر الباطن الكفيل الغالب الحكم العالم الرفيع الحافظ المنتقم القائم المحيي الجامع المليك المتعالي النور الهادي الغفور الشكور العفو الرءوف الأكرم الأعلى البر الحفي الرب الإله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". قوله: "لله تسعة وتسعون" في رواية الحميدي "إن لله تسعة وتسعين" وكذا في رواية شعيب. قوله: "اسما" كذا في معظم الروايات بالنصب على التمييز، وحكى السهيلي أنه روى بالجر وخرجه على لغة من يجعل الإعراب في النون ويلزم الجمع الياء فيقول كم سنينك برفع النون وعددت سنينك بالنصب وكم مر من سنينك بكسر النون ومنه قول الشاعر "وقد جاوزت حد الأربعين "بكسر النون فعلامة النصب في الرواية فتح النون وحذف التنوين لأجل الإضافة، وقوله مائة بالرفع والنصب على البدل في الروايتين. قوله: "إلا واحدة" قال ابن بطال كذا وقع هنا ولا يجوز في العربية، قال: ووقع في رواية شعيب في الاعتصام "إلا واحدا" بالتذكير وهو الصواب كذا قال، وليست الرواية المذكورة في الاعتصام بل في التوحيد، وليست الرواية التي هنا خطأ بل وجهوها. وقد وقع في رواية الحميدي هنا "مائة غير واحد" بالتذكير أيضا، وخرج التأنيث على إرادة التسمية. وقال السهيلي بل أنث الاسم لأنه كلمة، واحتج بقول سيبويه: الكلمة اسم أو فعل أو حرف، فسمي الاسم كلمة وقال ابن مالك: أنث باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة. وقال جماعة من العلماء: الحكمة في قوله: "مائة غير واحد" بعد قوله: "تسعة وتسعون" أن يتقرر ذلك في نفس السامع جمعا بين جهتي الإجمالي والتفصيل أو دفعا للتصحيف الخطي والسمعي، واستدل به على صحة استثناء القليل من الكثير وهو متفق عليه، وأبعد من استدل

(11/219)


به على جواز الاستثناء مطلقا حتى يدخل استثناء الكثير حتى لا يبقى إلا القليل. وأغرب الداودي فيما حكاه عنه ابن التين فنقل الاتفاق على الجواز، وأن من أقر ثم استثنى عمل باستثنائه حتى لو قال له على ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعين أنه لا يلزمه إلا واحد. وتعقبه ابن التين فقال: ذهب إلى هذا في الإقرار جماعة، وأما نقل الاتفاق فمردود فالخلاف ثابت حتى في مذهب مالك، وقد قال أبو الحسن اللخمي منهم: لو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين وقع عليه ثلاث، ونقل عبد الوهاب وغيره عن عبد الملك وغيره أنه لا يصح استثناء الكثير من القليل. ومن لطيف أدلتهم أن من قال صمت الشهر إلا تسعا وعشرين يوما يستهجن لأنه لم يصم إلا يوما واليوم لا يسمى شهرا، وكذا من قال لقيت القوم جميعا إلا بعضهم ويكون ما لقي إلا وحدا. قلت: والمسألة مشهورة فلا يحتاج إلى الإطالة فيها. وقد اختلف في هذا العدد هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو أنها أكثر من ذلك ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟ فذهب الجمهور إلى الثاني، ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاء "وأسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم" وأورد الطبري عن قتادة نحوه، ومن حديث عائشة أنها دعت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك. وسيأتي في الكلام على الاسم الأعظم. وقال الخطابي: في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها من الزيادة، وإنما للتخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني، وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله: "من أحصاها" لا قوله: "لله" وهو كقولك لزيد ألف درهم أعدها للصدقة أو لعمرو مائة ثوب من زاره ألبسه إياها. وقال القرطبي في "المفهم" نحو ذلك ونقل ابن بطال عن القاضي أبي بكر بن الطيب قال ليس في الحديث دليل على أنه ليس لله من الأسماء إلا هذه العدة وإنما معنى الحديث أن من أحصاها دخل الجنة، ويدل على عدم الحصر أن أكثرها صفات وصفات الله لا تتناهى. وقيل إن المراد الدعاء بهذه الأسماء لأن الحديث مبني على قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} " فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تسعة وتسعون فيدعي بها ولا يدعي بغيرها حكاه ابن بطال عن المهلب، وفيه نظر لأنه ثبت في أخبار صحيحة الدعاء بكثير من الأسماء التي لم ترد في القرآن كما في حديث ابن عباس في قيام الليل "أنت المقدم وأنت المؤخر" وغير ذلك. وقال الفخر الرازي: لما كانت الأسماء من الصفات وهي إما ثبوتية حقيقية كالحي أو إضافية كالعظيم وإما سلبية كالقدوس وإما من حقيقية وإضافية كالقدير أو من سلبية إضافية كالأول والآخر وإما من حقيقة وإضافية سلبية كالملك، والسلوب غير متناهية لأنه عالم بلا نهاية قادر على ما لا نهاية له فلا يمتنع أن يكون له من ذلك اسم فيلزم أن لا نهاية لأسمائه. وحكى القاضي أبو بكر ابن العربي عن بعضهم أن لله ألف اسم، قال ابن العربي وهذا قليل فيها، ونقل الفخر الرازي عن بعضهم أن لله أربعة آلاف اسم استأثر بعلم ألف منها وأعلم الملائكة بالبقية والأنبياء بألفين منها وسائر الناس بألف، وهذه دعوى تحتاج إلى دليل. واستدل بعضهم لهذا القول بأنه ثبت في نفس حديث الباب أنه وتر يحب الوتر، والرواية التي سردت فيها

(11/220)


الأسماء لم يعد فيها الوتر فدل على أن له اسما آخر غير التسعة والتسعين. وتعقبه من ذهب إلى الحصر في التسعة والتسعين كابن حزم بأن الخبر الوارد لم يثبت رفعه وإنما هو مدرج كما تقدمت الإشارة إليه، واستدل أيضا على عدم الحصر بأنه مفهوم عدد وهو ضعيف، وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلا ولكنه احتج بالتأكيد في قوله صلى الله عليه وسلم: "مائة إلا واحدا" قال لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون له مائة اسم فيبطل قوله مائة إلا واحدا، وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم، لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى على أن الوعد وقع لمن أحصى زائدا على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد، واحتج بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} وقد قال أهل التفسير: من الإلحاد في أسمائه تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة، وقد ذكر منها في آخر سورة الحشر عدة، وختم ذلك بأن قال له الأسماء الحسنى، قال: وما يتخيل من الزيادة في العدة المذكور لعله مكرر معنى وإن تغاير لفظا كالغافر والغفار والغفور مثلا فيكون المعدود من ذلك واحدا فقط، فإذا اعتبر ذلك وجمعت الأسماء الواردة نصا في القرآن وفي الصحيح من الحديث لم تزد على العدد المذكور. وقال غيره: المراد بالأسماء الحسنى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ما جاء في الحديث: "إن لله تسعة وتسعين اسما" فإن ثبت الخبر الوارد في تعيينها وجب المصير إليه وإلا فليتتبع من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، فإن التعريف في الأسماء للعهد فلا بد من المعهود فإنه أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها فلا بد من وجود المأمور به قلت: والحوالة على الكتاب العزيز أقرب، وقد حصل بحمد الله تتبعها كما قدمته وبقي أن يعمد إلى ما تكرر لفظا ومعنى من القرآن فيقتصر عليه ويتتبع من الأحاديث الصحيحة تكملة العدة المذكورة فهو نمط آخر من التتبع عسى الله أن يعين عليه بحوله وقوته آمين.
"فصل" وأما الحكمة في القصر على العدد المخصوص فذكر الفخر الرازي عن الأكثر أنه تعبد لا يعقل معناه كما قيل في عدد الصلوات وغيرها، ونقل عن أبي خلف محمد بن عبد الملك الطبري السلمي قال: إنما خص هذا العدد إشارة إلى أن الأسماء لا تؤخذ قياسا. وقيل الحكمة فيه أن معاني الأسماء ولو كانت كثيرة جدا موجودة في التسعة والتسعين المذكورة، وقيل الحكمة فيه أن العدد زوج وفرد، والفرد أفضل من الزوج، ومنتهى الأفراد من غير تكرار تسعة وتسعون لأن مائة وواحدا يتكرر فيه الواحد. وإنما كان الفرد أفضل من الزوج لأن الوتر أفضل من الشفع لأن الوتر من صفة الخالق والشفع من صفة المخلوق، والشفع يحتاج للوتر من غير عكس. وقيل الكمال في العدد حاصل في المائة لأن الأعداد ثلاثة أجناس: آحاد وعشرات ومئات، والألف مبتدأ لآحاد أخر، فأسماء الله مائة استأثر الله منها بواحد وهو الاسم الأعظم فلم يطلع عليه أحد فكأنه قيل مائة لكن واحد منها عند الله وقال غيره: ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيا بل هو الجلالة، وممن جزم بذلك السهيلي فقال: الأسماء الحسنى مائة على عدد درجات الجنة والذي يكمل المائة، الله، ويؤيده قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة. واستدل بهذا الحديث على أن الاسم هو المسمى حكاه أبو القاسم القشيري في شرح أسماء الله الحسنى فقال: في هذا الحديث دليل على أن الاسم هو المسمى، إذ لو كان غيره كانت الأسماء غيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ثم قال: والمخلص من ذلك أن المراد بالاسم

(11/221)


هنا التسمية.وقال الفخر الرازي: المشهور من قول أصحابنا أن الاسم نفس المسمى وغير التسمية، وعند المعتزلة الاسم نفس التسمية وغير المسمى، واختار الغزالي أن الثلاثة أمور متباينة. وهو الحق عندي، لأن الاسم إن كان عبارة عن اللفظ الدال على الشيء بالوضع وكان المسمى عبارة عن نفس ذلك الشيء المسمى فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى وهذا مما لا يمكن وقوع النزاع فيه. وقال أبو العباس القرطبي في "المفهم": الاسم في العرف العام هو الكلمة الدالة على شيء مفرد، وبهذا الاعتبار لا فرق بين الاسم والفعل والحرف إذ كل واحد منها يصدق عليه ذلك، وإنما التفرقة بينها باصطلاح النحاة وليس ذلك من غرض المبحث هنا، وإذا تقرر هذا عرف غلط من قال إن الاسم هو المسمى حقيقة كما زعم بعض الجهلة فألزم أن من قال نار احترق، فلم يقدر على التخلص من ذلك. وأما النحاة فمرادهم بأن الاسم هو المسمى أنه من حيث إنه لا يدل إلا عليه ولا يقصد إلا هو، فإن كان ذلك الاسم من الأسماء الدالة على ذات المسمى دل عليها من غير مزيد أمر آخر، وإن كان من الأسماء الدالة على معنى زائد دل على أن تلك الذات منسوبة إلى ذلك الزائد خاصة دون غيره، وبيان ذلك أنك إذا قلت زيد مثلا فهو يدل على ذات متشخصة في الوجود من غير زيادة ولا نقصان، فإن قلت العالم دل على أن تلك الذات منسوبة للعلم، ومن هذا صح عقلا أن تتكثر الأسماء المختلفة على ذات واحدة ولا توجب تعددا فيها ولا تكثيرا قال: وقد خفي هذا على بعضهم ففر منه هربا من لزوم تعدد في ذات الله تعالى فقال: إن المراد بالاسم التسمية، ورأى أن هذا يخلصه من التكثر، وهذا فرار من غير مفر إلى مفر.وذلك أن التسمية إنما هي وضع الاسم وذكر الاسم فهي نسبة الاسم إلى مسماه؛ فإذا قلنا لفلان تسميتان اقتضى أن له اسمين ننسبهما إليه، فبقي الإلزام على حاله من ارتكاب التعسف. ثم قال القرطبي: وقد يقال الاسم هو المسمى على إرادة أن هذه الكلمة التي هي الاسم تطلق ويراد بها المسمى، كما قيل ذلك في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي سبح ربك فأريد بالاسم المسمى. وقال غيره: التحقيق في ذلك أنك إذا سميت شيئا باسم فالنظر في ثلاثة أشياء: ذلك الاسم وهو اللفظ، ومعناه قبل التسمية، ومعناه بعدها وهو الذات التي أطلق عليها اللفظ، والذات واللفظ متغايران قطعا، والنحاة إنما يطلقونه على اللفظ لأنهم إنما يتكلمون في الألفاظ، وهو غير مسمى قطعا والذات هي المسمى قطعا وليست هي الاسم قطعا، والخلاف في الأمر الثالث وهو معنى اللفظ قبل التلقيب، فالمتكلمون يطلقون الاسم عليه ثم يختلفون في أنه الثالث أو لا، فالخلاف حينئذ إنما هو في الاسم المعنوي هل هو المسمى أو لا، لا في الاسم اللفظي، والنحوي لا يطلق الاسم على غير اللفظ لأنه محط صناعته، والمتكلم لا ينازعه في ذلك ولا يمنع إطلاق اسم المدلول على الدال. وإنما يزيد عليه شيئا آخر دعاه إلى تحقيقه ذكر الأسماء والصفات وإطلاقها على الله تعالى، قال: ومثال ذلك أنك إذا قلت جعفر لقبه أنف الناقة فالنحوي يريد باللقب لفظ أنف الناقة، والمتكلم يريد معناه وهو ما يفهم منه من مدح أو ذم، ولا يمنع ذلك قول النحوي اللقب لفظ يشعر بضعة أو رفعة، لأن اللفظ يشعر بذلك لدلالته على المعنى والمعنى في الحقيقة هو المقتضي للضعة والرفعة، وذات جعفر هي الملقبة عند الفريقين، وبهذا يظهر أن الخلاف في أن الاسم هو المسمى أو غير المسمى خاص بأسماء الأعلام المشتقة. ثم قال القرطبي: فأسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في ذاته ولا تركيب، لا محسوسا كالجسميات ولا عقليا كالمحدودات، وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات، ثم هي من جهة دلالتها على أربعة

(11/222)


ضرب: الأول ما يدل على الذات مجردة كالجلالة فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة وبه يعرف جميع أسمائه فيقال الرحمن مثلا من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن، ولهذا كان الأصح أنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة. الثاني ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير. الثالث ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق. الرابع ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس. وهذه الأقسام الأربعة منحصرة في النفي والإثبات. واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء، إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة، فقال الفخر: المشهور عن أصحابنا أبها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية: إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه على الله. وقال القاضي أبو بكر والغزالي: الأسماء توقيفية دون الصفات، قال: وهذا هو المختار. واحتج الغزالي بالاتفاق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا سمى به نفسه وكذا كل كبير من الخلق، قال: فإذا امتنع ذلك في حق المخلوقين فامتناعه في حق الله أولى. واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم ولا صفة توهم نقصا ولو ورد ذلك نصا، فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق ولا نحو ذلك وإن ثبت في قوله: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} ، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} " ونحوها، ولا يقال له ماكر ولا بناء وإن ورد {وَمَكَرَ اللَّهُ} {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} وقال أبو القاسم القشيري: الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه، وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه. وقال أبو إسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه، والضابط أن كل ما أذن الشرع أن يدعى به سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو من أسمائه، وكل ما جاز أن ينسب إليه سواء كان مما يدخله التأويل أو لا فهو من صفاته ويطلق عليه اسما أيضا. قال الحليمي: الأسماء الحسنى تنقسم إلى العقائد الخمس: الأولى إثبات الباري ردا على المعطلين وهي الحي والباقي والوارث وما في معناها. والثانية توحيده ردا على المشركين وهي الكافي والعلي والقادر ونحوها، والثالثة تنزيهه ردا على المشبهة وهي القدوس والمجيد والمحيط وغيرها. والرابعة اعتقاد أن كل موجود من اختراعه ردا على القول بالعلة والمعلول وهي الخالق والبارئ والمصور والقوي وما يلحق بها. والخامسة أنه مدبر لما اخترع ومصرفه على ما شاء وهو القيوم والعليم والحكيم وشبهها. وقال أبو العباس بن معد: من الأسماء ما يدل على الذات عينا وهو الله، وعلى الذات مع سلب كالقدوس والسلام، ومع إضافة كالعلي العظيم، ومع سلب وإضافة كالملك والعزيز ومنها ما يرجع إلى صفة كالعليم والقدير، ومع إضافة كالحليم والخبير، أو إلى القدرة مع إضافة كالقهار، وإلى الإرادة مع فعل وإضافة كالرحمن الرحيم. وما يرجع إلى صفة فعل كالخالق والبارئ، ومع دلالة على الفعل كالكريم واللطيف. قال: فالأسماء كلها لا تخرج عن هذه العشرة، وليس فيها شيء مترادف إذ لكل اسم خصوصية ما وإن اتفق بعضها مع بعض في أصل المعنى انتهى كلامه. ثم وقفت عليه منتزعا من كلام الفخر الرازي في شرح الأسماء الحسنى. وقال الفخر أيضا: الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة: ثابتة في حق الله قطعا، وممتنعة قطعا، وثابتة لكن مقرونة بكيفية، فالقسم الأول منه ما يجوز ذكره مفردا ومضافا وهو كثير جدا كالقادر والقاهر، ومنه ما يجوز مفردا ولا يجوز مضافا إلا بشرط كالخالق فيجوز خالق ويجوز خالق كل شيء مثلا ولا يجوز خالق القردة، ومنه عكسه يجوز مضافا ولا يجوز مفردا كالمنشئ يجوز منشئ الخلق ولا يجوز منشئ فقط. والقسم الثاني إن ورد السمع بشيء منه أطلق وحمل على

(11/223)


ما يليق به.والقسم الثالث إن ورد السمع بشيء منه أطلق ما ورد منه ولا يقاس عليه ولا يتصرف فيه بالاشتقاق كقوله تعالى: {وَمَكَرَ اللَّهُ} و {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فلا يجوز ماكر ومستهزئ. "تكميل": وإذ قد جرى ذكر الاسم الأعظم في هذه المباحث فليقع الإمام بشيء من الكلام عليه، وقد أنكره قوم كأبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض، ونسب ذلك بعضهم لمالك لكراهيته أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها من السور لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض فيؤذن ذلك باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل، وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم وأن أسماء الله كلها عظيمة، وعبارة أبي جعفر الطبري: اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول كل اسم من أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم. وقال ابن حبان الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به. مزيد ثواب القارئ وقيل المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقا بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى فإن من تأتى له ذلك استجيب له. ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما. وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، وأثبته آخرون معينا واضطربوا في ذلك وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولا: الأول الاسم الأعظم "هو" نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف، واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم حضرته لم يقل له: أنت قلت كذا، وإنما يقول هو يقول تأدبا معه. الثاني "الله" لأنه اسم لم يطلق على غيره، ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه. الثالث "الله الرحمن الرحيم" ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة أنها "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلت ودعت: اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم" الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها "إنه لفي الأسماء التي دعوت بها" . قلت: وسنده ضعيف وفي الاستدلال به نظر لا يخفى. الرابع "الرحمن الرحيم الحي القيوم" لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين" {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وفاتحة سورة آل عمران {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي وفي نسخة صحيحة: وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب. الخامس "الحي القيوم" أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة "الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة وآل عمران وطه" قال القاسم الراوي عن أبي أمامة: التمسته منها فعرفت أنه الحي القيوم، وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما. السادس "الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم" ورد ذلك مجموعا في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان. السابع "بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام" أخرجه أبو يعلى من طريق السدي ابن يحيى عن رجل من طيئ وأثنى عليه قال: "كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم فأريته مكتوبا في الكواكب في السماء".الثامن. "ذو الجلال والإكرام" أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال: "سمع

(11/224)


النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال، قد استجيب لك فسل" واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات.التاسع "الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك. العاشر "رب رب" أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عباس بلفظ: "اسم الله الأكبر رب رب" وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة "إذا قال العبد يا رب يا رب، قال الله تعالى: لبيك عبدي سل تعط" رواه مرفوعا وموقوفا.الحادي عشر "دعوة ذي النون" أخرج النسائي والحاكم عن فضالة بن عبيد رفعه: "دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له". الثاني عشر نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى في النوم "هو الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم". الثالث عشر هو مخفي في الأسماء الحسنى، ويؤيده حديث عائشة المتقدم "لما دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى. فقال لها صلى الله عليه وسلم: إنه لفي الأسماء التي دعوت بها". الرابع عشر "كلمة التوحيد" نقله عياض تقدم قبل هذا. واستدل بحديث الباب على انعقاد اليمين بكل اسم ورد في القرآن أو الحديث الثابت وهو وجه غريب حكاه ابن كج من الشافعية؛ ومنع الأكثر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فليحلف بالله" وأجيب بأن المراد الذات لا خصوص هذا اللفظ، وإلى هذا الإطلاق ذهب الحنفية والمالكية وابن حزم وحكاه ابن كج أيضا، والمعروف عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من العلماء أن الأسماء ثلاثة أقسام: أحدها ما يختص بالله كالجلالة والرحمن ورب العالمين فهذا ينعقد به اليمين إذا أطلق ولو نوى به غير الله. ثانيها ما يطلق عليه وعلى غيره لكن الغالب إطلاقه عليه وأنه يقيد في حق غيره بضرب من التقييد كالجبار والحق والرب ونحوها فالحلف به يمين، فإن نوى به غير الله فليس بيمين. ثالثها ما يطلق في حق الله وفي حق غيره على حد سواء كالحي والمؤمن، فإن نوى به غير الله أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى الله تعالى فوجهان صحح النووي أنه يمين وكذا في المحرر. وخالف في الشرحين فصحح أنه ليس بيمين. واختلف الحنابلة فقال القاضي أبو يعلى ليس بيمين وقال المجد ابن تيمية في المحرر إنها يمين. قوله: "من حفظها" هكذا رواه علي بن المديني ووافقه الحميدي وكذا عمرو الناقد عند مسلم. وقال ابن أبي عمر عن سفيان "من أحصاها" أخرجه مسلم والإسماعيلي من طريقه، وكذا قال شعبة عن أبي الزناد كما تقدم في الشروط ويأتي في التوحيد، قال الخطابي: الإحصاء في مثل هذا يحتمل وجوها: أحدها أن يعدها حتى يستوفيها يريد أنه لا يقتصر على بعضها لكن يدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها فيستوجب الموعود عليها من الثواب. ثانيها المراد بالإحصاء الإطاقة كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} ومنه حديث: "استقيموا ولن تحصوا" أي لن تبلغوا كنه الاستقامة، والمعنى من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بواجبها فإذا قال: "الرزاق" وثق بالرزق وكذا سائر الأسماء. ثالثها المراد بالإحصاء الإحاطة بمعانيها من قول العرب فلان ذو حصاة أي ذو عقل ومعرفة انتهى ملخصا. وقال القرطبي: المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة، وهذه المراتب الثلاثة للسابقين والصديقين وأصحاب اليمين. وقال غيره: معنى أحصاها عرفها، لأن العارف بها

(11/225)


لا يكون إلا مؤمنا والمؤمن يدخل الجنة.وقيل معناه عدها معتقدا، لأن الدهري لا يعترف بالخالق. والفلسفي لا يعترف بالقادر وقيل أحصاها يريد بها وجه الله وإعظامه. وقيل معنى أحصاها عمل بها، فإذا قال: "الحكيم" مثلا سلم جميع أوامره لأن جميعها على مقتضى الحكمة وإذا قال: "القدوس" استحضر كونه منزها عن جميع النقائص، وهذا اختيار أبي الوفا بن عقيل. وقال ابن بطال: طريق العمل بها أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم فإن الله يحب أن يرى حلاها على عبده، فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى كالجبار والعظيم فيجب على العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة، فهذا معنى أحصاها وحفظها، ويؤيده أن من حفظها عدا وأحصاها سردا ولم يعمل بها يكون كمن حفظ القرآن ولم يعمل بما فيه، وقد ثبت الخبر في الخوارج أنهم يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم. قلت: والذي ذكره مقام الكمال، ولا يلزم من ذلك أن لا يرد الثواب لمن حفظها وتعبد بتلاوتها والدعاء بها وإن كان متلبسا بالمعاصي كما يقع مثل ذلك في قارئ القرآن سواء، فإن ا القارئ ولو كان متلبسا بمعصية غير ما يتعلق بالقراءة يثاب على تلاوته عند أهل السنة، فليس ما بحثه ابن بطال بدافع لقول من قال إن المراد حفظها سردا والله أعلم. وقال النووي قال البخاري وغيره من المحققين: معناه حفظها، وهذا هو الأظهر لثبوته نصا في الخبر. وقال في "الأذكار" هو قول الأكثرين. وقال ابن الجوزي: لما ثبت في بعض طرق الحديث: "من حفظها" بدل "أحصاها" اخترنا أن المراد العد أي من عدها ليستوفيها حفظا. قلت: وفيه نظر، لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ حفظها تعين السرد عن ظهر قلب، بل يحتمل الحفظ المعنوي. وقيل المراد بالحفظ حفظ القرآن لكونه مستوفيا لها، فمن تلاه ودعا بما فيه من الأسماء حصل المقصود. قال النووي: وهذا ضعيف، وقيل المراد من تتبعها من القرآن. وقال ابن عطية: معنى أحصاها عدها وحفظها، ويتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والاعتبار بمعانيها. وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها. وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها. وقال أبو عمر الطلمنكي من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المعرفة بالأسماء والصفات وما تتضمن من الفوائد وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالم لمعاني الأسماء ولا مستفيدا بذكرها ما تدل عليه من المعاني. وقال أبو العباس بن معد: يحتمل الإحصاء معنيين أحدهما أن المراد تتبعها من الكتاب والسنة حتى يحصل عليها، والثاني أن المراد أن يحفظها بعد أن يجدها محصاة. قال: ويؤيده أنه ورد في بعض طرقه: "من حفظها" قال: ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أطلق أولا قوله: "من أحصاها دخل الجنة" ووكل العلماء إلى البحث عنها ثم يسر على الأمة الأمر فألقاها إليهم محصاة وقال: "من حفظها دخل الجنة" قلت: وهذا الاحتمال بعيد جدا لأنه يتوقف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث بهذا الحديث مرتين إحداهما قبل الأخرى، ومن أين يثبت ذاك ومخرج اللفظين واحد؟ وهو عن أبي هريرة، والاختلاف عن بعض للرواة عنه في أي اللفظين قاله. قال: وللإحصاء معان أخرى، منها الإحصاء الفقهي وهو العلم بمعانيها من اللغة وتنزيهها على الوجوه التي تحملها الشريعة ومنها الإحصاء النظري وهو أن يعلم معنى كل اسم بالنظر في الصيغة ويستدل عليه بأثره الساري

(11/226)


في الوجود فلا تمر على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء وتعرف خواص بعضها وموقع القيد ومقتضى اسم، قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء، قال: وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن بما يقتضيه كل اسم، من الأسماء فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته، قال فمن حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية، ومن منح منحي من مناحيها فثوابه بقدر ما نال والله أعلم. "تنبيه": وقع في تفسير ابن مردويه وعند أبي نعيم من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة بدل قوله من أحصاها دخل الجنة "من دعا بها دخل الجنة" وفي سنده حصين بن مخارق وهو ضعيف، وزاد خليد بن دعلج في روايته التي تقدمت الإشارة إليها "وكلها في القرآن" وكذا وقع من قول سعيد بن عبد العزيز، وكذا وقع في حديث ابن عباس وابن عمر معا بلفظ: "من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن "وسيأتي في كتاب التوحيد شرح معاني كثير من الأسماء حيث ذكرها المصنف في تراجمه إن شاء الله تعالى. وقوله: "دخل الجنة" عبر بالماضي تحقيقا لوقوعه وتنبيها على أنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع لأنه كائن لا محالة. قوله: "وهو وتر يحب الوتر" في رواية مسلم: "والله وتر يحب الوتر" وفي رواية شعيب بن أبي حمزة "أنه وتر يحب الوتر" ويجوز فتح الواو وكسرها، والوتر الفرد ومعناه في حق الله أنه الواحد الذي لا نظير له في ذاته ولا انقسام، وقوله: "يحب الوتر" قال عياض معناه أن الوتر في العدد فضلا على الشفع في أسمائه لكونه دالا على الوحدانية في صفاته، وتعقب بأنه لو كان المراد به الدلالة على الوحدانية لما تعددت الأسماء، بل المراد أن الله يحب الوتر من كل شيء وأن تعدد ما فيه الوتر، وقيل هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص، وقيل لأنه أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس ووتر الليل وإعداد الطهارة وتكفين الميت وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض انتهى ملخصا. وقال القرطبي: الظاهر أن الوتر هنا للجنس، إذ لا معهود جرى ذكره حتى يحمل عليه فيكون معناه أنه وتر يحب كل وتر شرعه، ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه، ويصلح ذلك العموم ما خلقه وترا من مخلوقاته أو معنى محبته له أنه خصصه بذلك لحكمة يعلمها، ويحتمل أن يريد بذلك وترا بعينه وإن لم يجر له ذكر. ثم اختلف هؤلاء فقيل: المراد صلاة الوتر، وقيل صلاة الجمعة، وقيل يوم الجمعة، وقيل يوم عرفة، وقيل آدم، وقيل غير ذلك. قال: والأشبه ما تقدم من حمله على العموم. قال: ويظهر لي وجه آخر وهو أن الوتر يراد به التوحيد فيكون المعنى أن الله في ذاته وكماله وأفعاله واحد ويحب التوحيد، أي أن يوحد ويعتقد انفراده بالألوهية دون خلقه فيلتئم أول الحديث وآخره. والله أعلم. قلت: لعل من حمله على صلاة الوتر استند إلى حديث علي "أن الوتر ليس بحتم كالمكتوبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر ثم قال أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر" أخرجوه في السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة واللفظ له، فعلى هذا التأويل تكون اللام في هذا الخبر للعهد لتقدم ذكر الوتر المأمور به، لكن لا يلزم أن يحمل الحديث الأخر على هذا بل العموم فيه أظهر، كما أن العموم في حديث على محتمل أيضا. وقد طعن حفظ ألفاظ تعد في أيسر مدة؟ وتعقب بأن الشرط المذكور ليس مطردا ولا حصر فيه، بل قد تحصل الجنة بغير ذلك كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد أن فاعله يدخله الجنة. وأما دعوى أن حفظها يحصل في أيسر مدة فإنما يرد على من حمل الحفظ والإحصاء على معنى أن يسردها عن ظهر

(11/227)


قلب، فأما من أوله على بعض الوجوه المتقدمة فإنه يكون في غاية المشقة، ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع.

(11/228)


69 - باب الْمَوْعِظَةِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ
6411- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ "قَالَ كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْنَا أَلاَ تَجْلِسُ قَالَ لاَ وَلَكِنْ أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ وَإِلاَ جِئْتُ أَنَا فَجَلَسْتُ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَمَا إِنِّي أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"
قوله: "باب الموعظة ساعة بعد ساعة" مناسبة هذا الباب لكتاب الدعوات أن الموعظة يخالطها غالبا التذكير بالله، وقد تقدم أن الذكر من جملة الدعاء، وختم به أبواب الدعوات التي عقبها بكتاب الرقاق لأخذه من كل منهما شوبا. قوله: "حدثني شقيق" هو أبو وائل، ووقع كذلك في كتاب العلم من طريق الثوري عن الأعمش، وقد ذكرت هناك ما يتعلق بسماع الأعمش له من أبي وائل. قوله: "كنا ننتظر عبد الله" يعني ابن مسعود. قوله: "إذ جاء يزيد بن معاوية" في رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق "كنا جلوسا عند باب عبد الله ننتظره فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي". قلت: وهو كوفي تابعي ثقة عابد، ذكر العجلي أنه من طبقة الربيع بن خثيم، وذكر البخاري في تاريخه أنه قتل غازيا بفارس كأنه في خلافة عثمان، وليس له في الصحيحين ذكر إلا في هذا الموضع، ولا أحفظ له رواية، وهو نخعي كما وقع عند مسلم، وفيه رد على ابن التين في حكايته أنه عبسي بالموحدة. قوله: "قلت ألا تجلس؟ قال: لا، ولكن أدخل فأخرج إليكم صاحبكم" في رواية أبي معاوية "فقلنا أعلمه بمكاننا فدخل عليه". قوله: "أما إني" بتخفيف الميم "أخبر" بضم أوله وفتح الموحدة على البناء للمجهول، وقد تقدم في العلم أن هذا الكلام قاله ابن مسعود جواب قولهم وددنا أنك لو ذكرتنا كل يوم، وأنه كان يذكرهم كل خميس، وزاد فيه أن ابن مسعود قال: إني أكره أن أملكم. قوله: "كان يتخولنا بالموعظة" تقدم البحث فيه وبيان معناه وقول من حدث به بالنون بدل اللام من "يتخولنا". قال الخطابي: المراد أنه كان يراعي الأوقات في تعليمهم ووعظهم ولا يفعله كل يوم خشية الملل، والتخول التعهد، وقيل إن بعضهم رواه بالحاء المهملة وفسره بأن المراد يتفقد أحوالهم التي يحصل لهم فيها النشاط للموعظة فيعظهم فيها ولا يكثر عليهم لئلا يملوا، حكى ذلك الطيبي ثم قال: ولكن الرواية في الصحاح بالخاء المعجمة. قوله: "في الأيام" يعني فيذكرهم أياما ويتركهم أياما، فقد ترجم له في كتاب العلم "باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة".قوله: "كراهية السآمة علينا" أي أن تقع منا السامة، وقد تقدم توجيه "علينا" في كتاب العلم وأن السآمة ضمنت معنى المشقة فعديت بعلي.وفيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحسن التوصل إلى تعليمهم وتفهيمهم ليأخذوا عنه بنشاط لا عن ضجر ولا ملل، ويقتدى به في ذلك، فإن التعليم بالتدريج أخف مؤنة وأدعى إلى الثبات من أخذه بالكد والمغالبة. وفيه منقبة لابن مسعود لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في القول والعمل ومحافظته على ذلك.

(11/228)


"خاتمة": اشتمل كتاب الدعوات من الأحاديث المرفوعة على مائة وخمسة وأربعين حديثا، منها أحد وأربعون معلقة والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة وأحد وعشرون حديثا والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث شداد في سيد الاستغفار وحديث أبي هريرة في عدد الاستغفار كل يوم وحديث حذيفة في القول عند النوم وحديث أبي ذر في ذلك وحديث أبي الدرداء في من شهد أن لا إله إلا الله وحديث ابن عباس في اجتناب السجع في الدعاء وحديث جابر في الاستخارة وحديث أبي أيوب في التهليل، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين تسعة آثار. والله أعلم.

(11/229)


كتاب الرقاق
باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
81- كِتَاب الرِّقَاقِ
1 – بَاب ما جاء في الرقاق وأن لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَةِ
6412- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"
قَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ"
6413- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَأَصْلِحْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ"
6414- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ "حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ وَيَمُرُّ بِنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ تَابَعَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ"
قوله "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الرقاق الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة" كذا لأبي ذر عن السرخسي وسقط عنده عن المستملي والكشميهني: "الصحة والفراغ" ومثله للنسفي، وكذا للإسماعيلي لكن قال: "وأن لا عيش" كذا لأبي الوقت لكن قال: "باب لا عيش" وفي رواية كريمة عن الكشميهني: "ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش، الآخرة" قال مغلطاي: عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق. قلت: منهم ابن المبارك والنسائي في "الكبرى" وروايته كذلك في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري والمعنى واحد والرقاق والرقائق جمع رقيقة وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة. قال أهل اللغة: الرقة الرحمة وضد الغلظ، ويقال للكثير الحياء رق وجهه استحياء. وقال الراغب: متى كانت الرقة في جسم فضدها

(11/229)


الصفاقة كثوب رقيق وثوب صفيق، ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسي القلب. وقال الجوهري: وترقيق الكلام تحسينه. قوله: "أخبرنا المكي" كذا للأكثر بالألف واللام في أوله، وهو اسم بلفظ النسب، وهو من الطبقة العليا من شيوخ البخاري، وقد أخرج أحمد عنه هذا الحديث بعينه. قوله: "هو ابن أبي هند" الضمير لسعيد لا لعبد الله، وهو من تفسير المصنف، ووقع في رواية أحمد عن مكي ووكيع جميعا "حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند" وعبد الله المذكور من صغار التابعين لأنه لقي بعض صغار الصحابة وهو أبو أمامة بن سهل. قوله: "عن أبيه" في رواية يحيى القطان عن عبد الله بن سعيد" حدثني أبي "أ خرجه الإسماعيلي قوله: "عن ابن عباس" في الرواية التي بعدها "سمعت ابن عباس". قوله: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" كذا لسائر الرواة، لكن عند أحمد "الفراغ والصحة" وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق إسماعيل بن جعفر وابن المبارك ووكيع كلهم عن عبد الله ابن سعيد بسنده "الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس" ولم يبين لمن اللفظ، وأخرجه الدارمي عن مكي بن إبراهيم شيخ البخاري فيه كذلك بزيادة ولفظه: "إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله" والباقي سواء، وهذه الزيادة وهي قوله: "من نعم الله" وقعت في رواية ابن عدي المشار إليها، وقوله: "نعمتان" تثنية نعمة وهي الحالة الحسنة، وقيل هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير، والغبن بالسكون وبالتحريك. وقال الجوهري: هو في البيع بالسكون وفي الرأي بالتحريك، وعلى هذا فيصح كل منهما في هذا الخبر فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس ولم يحمد رأيه في ذلك قال ابن بطال: معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن فمن حصل له ذبك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون. وأشار بقوله: "كثير من الناس" إلى أن الذي يوفق لذلك قليل. وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل
وقال الطيبي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين، ليربح خيري الدنيا والآخرة وقريب منه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآيات. وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح. وقوله في الحديث: "مغبون فيهما كثير من الناس" كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية. وقال القاضي وأبو بكر بن العربي: اختلف

(11/230)


في أول نعمة الله على العبد فقيل الإيمان، وقيل الحياة، وقيل الصحة، والأول أولى فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان وحينئذ يغبن فيها كثير من الناس أي يذهب ربحهم أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغا فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ فإنه يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجة. قوله: "وقال عباس العنبري" هو بالمهملة والموحدة ابن عبد العظيم أحد الحفاظ، بصري من أوساط شيوخ البخاري، وقد أخرجه ابن ماجه عن العباس المذكور فقال في كتاب الزهد من السنن في "باب الحكمة منه": حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري فذكره سواء، قال الحاكم: هذا الحديث صدر به ابن المبارك كتابه فأخرجه عن عبد الله بن سعيد بهذا الإسناد. قلت: وأخرجه الترمذي والنسائي من طريقه قال الترمذي رواه غير واحد عن عبد الله بن سعيد فرفعوه، ووقفه بعضهم على ابن عباس وفي الباب عن أنس انتهى وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن ابن المبارك، ثم من وجهين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن سعيد، ثم من طريق بندار عن يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله به ثم قال: قال بندار ربما حدث به يحيى بن سعيد ولم يرفعه. وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا. قوله: "عن معاوية بن قرة" أي ابن إياس المزني، ولقرة صحبة، ووقع في رواية آدم في فضائل الأنصار عن شعبة "حدثنا أبو إياس معاوية بن قرة" وإياس هو القاضي المشهور بالذكاء. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة" في رواية المستملي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال". قوله: "فأصلح الأنصار والمهاجرة" تقدم في فضل الأنصار بيان الاختلاف على شعبة في لفظه وأنه عطف عليه رواية شعبة عن قتادة عن أنس وزيادة من زاد فيه أن ذلك كان يوم الخندق فطابق حديث سهل بن سعد المذكور في الذي بعده وزيادة من زاد فيه أنهم كانوا يقولون "نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا فأجابهم بذلك" وتقدم في غزوة الخندق من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس أتم من ذلك كله، وفيه من طريق حميد عن أنس أن ذلك كان في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم. فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال ذلك. قوله: "الفضيل بن سليمان" هو بالتصغير وهو النميري، صدوق في حفظه شيء. قوله: "وهو يحفر ونحن ننقل التراب" تقدم في فضل الأنصار من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل "خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون الخندق" الحديث، ويجمع بأن منهم من كان يحفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان ينقل التراب. قوله: "وبصر بنا" بفتح أوله وضم الصاد المهملة. وفي رواية الكشميهني: "ويمر بنا" من المرور. قوله: "فاغفر" تقدم في غزوة الخندق بلفظ: "فاغفر للمهاجرين والأنصار" وأن الألفاظ المنقولة في ذلك بعضها موزون أكثرها غير موزون، ويمكن رده إلى الوزن بضرب من الزحاف، وهو غير مقصود إليه بالوزن فلا يدخل هو في الشعر. وفي هذين الحديثين إشارة إلى تحقير عيش الدنيا لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء. قال ابن المنير مناسبة إيراد حديث أنس وسهل مع حديث ابن عباس الذي تضمنته الترجمة أن الناس قد غبن كثير منهم في الصحة والفراغ لإيثارهم لعيش الدنيا على عيش الآخرة، فأراد الإشارة إلى أن العيش الذي اشتغلوا به ليس بشيء بل العيش الذي شغلوا عنه هو المطلوب، ومن فاته فهو المغبون.

(11/231)


2 - باب مَثَلِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى "أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ

(11/231)


وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}
6415- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه "عن سهل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها"
قوله:" باب مثل الدنيا في الآخرة" هذه الترجمة بعض لفظ حديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق قيس بن أبي حازم عن المستورد بن شداد رفعه: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع" وسنده إلى التابعي على شرط البخاري لأنه لم يخرج للمستورد، واقتصر على ذكر حديث سهل ابن سعد "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" فإن قدر السوط من الجنة إذا كان خيرا من الدنيا فيكون الذي يساويها مما في الجنة دون قدر السوط فيوافق ما دل عليه حديث المستورد، وقد تقدم شرح قوله: "غدوة في سبيل الله" في كتاب الجهاد. قال القرطبي: هذا نحو قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وهذا بالنسبة إلى ذاتها وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا قدر لها ولا خطر، وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب وإلا فلا نسبة بين المتناهي وبين ما لا يتناهى، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "فلينظر بم يرجع" ووجهه أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة والحاصل أن الدنيا كالماء الذي يعلق، في الأصبع من البحر والآخرة كسائر البحر. "تنبيه": اختلف في ياء "يرجع" فذكر الرامهرمزي أن أهل الكوفة رووه بالمثناة قال فجعلوا الفعل للإصبع وهي مؤنثة، ورواه أهل البصرة بالتحتانية قال فجعلوا الفعل لليم. قلت: أو للواضع. قوله: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولهو - إلى قوله: مَتَاعُ الْغُرُورِ} كذا في رواية أبي ذر، وساق في رواية كريمة الآية كلها، وعلى هذا فتفتح الهمزة في أنما محافظة على لفظ التلاوة، فإن أول الآية {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إلخ" ولولا ما وقع من سياق بقية الآية لجوزت أن يكون المصنف أراد الآية التي في القتال وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} الآية. قال ابن عطية: المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية ما يختص بدار الدنيا من تصرف، وأما ما كان فيها من الطاعة وما لا بد منه مما يقيم الأود ويعين على الطاعة فليس مرادا هنا، والزينة ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء مما يحسن به الشيء، والتفاخر يقع بالنسب غالبا كعادة العرب، والتكاثر ذكر متعلقه في الآية، وصورة هذا المثال أن المرء يولد فينشأ فيقوى فيكسب المال والولد ويرأس، ثم يأخذ بعد ذلك في الانحطاط فيشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب من مرض ونقص في مال وعز، ثم يموت فيضمحل أمره ويصير ماله لغيره وتغير رسومه، فحاله كحال أرض أصابها مطر فنبت عليها العشب نباتا معجبا أنيقا ثم هاج أي يبس وأصفر ثم تحطم وتفرق إلى أن اضمحل، قال: واختلف في المراد بالكفار، فقيل: جمع كافر بالله لأنهما أشد تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها. وقيل: المراد بهم الزراع مأخوذ من كفر الحب في الأرض أي ستره بها، وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر

(11/232)


بالنبات فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة، انتهى ملخصا. وقوله في آخر الآية {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} قال الفراء: لا يوقف على شديد لأن تقدير الكلام أنها إما عذاب شديد وإما مغفرة من الله ورضوان. واستحسن غيره الوقف على شديد لما فيه من المبالغة في التنفير من الدنيا والتقدير للكافرين، ويبتدئ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي للمؤمنين. وقيل: إن قوله: "وفي الآخرة" قسيم لقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} والأول صفة الدنيا وهي اللعب وسائر ما ذكر، والثاني صفة الآخرة وهي عذاب شديد لمن عصى ومغفرة ورضوان لمن أطاع. وأما قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إلخ" فهو تأكيد لما سبق أي تغر من كن إليها، وأما التقى فهي له بلاغ إلى الآخرة. ولما أورد الغزالي حديث المستورد في الإحياء عقبه بأن قال ما ملخصه: أعلم أن مثل أهل الدنيا في غفلتهم كمثل قوم ركبوا سفينة فانتهوا إلى جزيرة معشبة فخرجوا لقضاء الحاجة فحذرهم الملاح من التأخر فيها وأمرهم أن يقيموا بقدر حاجتهم وحذرهم أن يقلع بالسفينة ويتركهم، فبادر فرجع سريعا فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها فاستقر فيه، وانقسم الباقون فرقا الأولى استغرقت في النظر إلى أزهارها المونقة وأنهارها المطردة وثمارها الطيبة وجواهرها ومعادنها، ثم استيقظ فبادر إلى السفينة فلقي مكانا دون الأول فنجا في الجملة، الثانية كالأولى لكنهما أكبت على تلك الجواهر والثمار والأزهار ولم تسمح نفسه لتركها فحمل منها ما قدر عليه فتشاغل بجمعه وحمله فوصل إلى السفينة فوجد مكانا أضيق من الأول ولم تسمح نفسه برمي ما استصحبه فصار مثقلا به، ثم لم يلبث أن ذبلت الأزهار ويبست الثمار وهاجت الرياح فلم يجد بدا من إلقاء ما استصحبه حتى نجا بحشاشة نفسه، الثالثة تولجت في الغياض غفلت عن وصية الملاح ثم سمعوا نداءه بالرحيل فمرت فوجدت السفينة سارت فبقيت بما استصحبت في البر حتى هلكت، والرابعة اشتدت بها الغفلة عن سماع النداء وسارت السفينة فتقسموا فرقا منهم من افترسته السباع ومنهم من تاه على وجهه حتى هلك ومنهم من مات جوعا ومنهم من نهشته الحيات، قال: فهذا مثل أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة وغفلتهم عن عاقبة أمرهم. ثم ختم بأن قال: وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن يغتر بالأحجار من الذهب والفضة والهشيم من الأزهار والثمار وهو لا يصحبه شيء من ذلك بعد الموت. والله المستعان.

  3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ
6416- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو المُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب" هكذا ترجم ببعض الخبر إشارة إلى ثبوت رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن من رواه موقوفا قصر فيه. قوله: "عن الأعمش حدثني مجاهد" أنكر العقيلي هذه اللفظة وهي "حدثني مجاهد" وقال: إنما رواه الأعمش بصيغة "عن مجاهد" كذلك رواه أصحاب الأعمش عنه وكذا

(11/233)


أصحاب الطفاوي عنه، وتفرد ابن المديني بالتصريح قال ولم يسمعه الأعمش عن مجاهد وإنما من ليث بن أبي سليم عنه فدلسه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق الحسن بن قزعة "حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن الأعمش عن مجاهد" بالعنعنة وقال: قال الحسن بن قزعة ما سألني يحيى بن معين إلا عن هذا الحديث، وأخرجه ابن حبان في "روضة العقلاء" من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن الطفاوي بالعنعنة أيضا وقال: مكثت مدة أظن أن الأعمش دلسه عن مجاهد وإنما من ليث حتى رأيت علي بن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بالتحديث، يشير إلى رواية البخاري التي في الباب. قلت: وقد أخرجه أحمد والترمذي من رواية سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل من طريق حماد بن شعيب عن أبي يحيى القتات عن مجاهد، وليث وأبو يحيى ضعيفان والعمدة على طريق الأعمش، وللحديث طريق أخرى أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر مرفوعا، وهذا مما يقوي الحديث المذكور لأن رواته من رجال الصحيح، وإن كان اختلف في سماع عبدة من ابن عمر. قوله: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي" فيه تعين ما أبهم في رواية ليث عند الترمذي "أخذ ببعض جسدي" والمنكب بكسر الكاف مجمع العضد والكتف، وضبط في بعض الأصول بالتثنية. قوله: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" قال الطيبي: ليست أو للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا مسكن يسكنه، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة، ومن ثم عقبه بقوله: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح إلخ" وبقوله: "وعد نفسك في أهل القبور" والمعنى استمر سائرا ولا تفتر، فإنك إن قصرت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله: "وخذ من صحتك لمرضك" أي أن العمر لا يخلو عن صحة ومرض، فإذا كنت صحيحا فسر سير القصد وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة بحيث تكون ما بك من تلك الزيادة قائما مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف، زاد عبدة في روايته عن ابن عمر "اعبد الله كأنك تراه وكن في الدنيا" الحديث، وزاد ليث في روايته: "وعد نفسك في أهل القبور" وفي رواية سعيد بن منصور "وكأنك عابر سبيل" وقال ابن بطال: لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس بل هو مستوحش منهم إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه مستأنس به فهو دليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه وتخفيفه من الأثقال غير مثبت بما يمنعه من قطع سفره معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته من قصده شبهه بهما، وفي ذلك إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقال غيره: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها والاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة. وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. وقال غيره: عابر السبيل هو المار على الطريق طالبا وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه ثم يعود إلى وطنه ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه وقال غيره: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء، من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع

(11/234)


إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب. أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة. واستشكل عطف عابر السبيل على الغريب وقد تقدم جواب الطيبي، وأجاب الكرماني بأنه من عطف العام على الخاص، وفيه نوع من الترقي لأن تعلقاته أقل من تعلقات الغريب المقيم. قوله: "وكان ابن عمر يقول" في رواية ليث "وقال لي ابن عمر إذا أصبحت" الحديث. قوله: "وخذ من صحتك" أي زمن صحتك "لمرضك" في رواية ليث "لسقمك" والمعنى اشتغل في الصحة بالطاعة بحيث لو حصل تقصير في المرض لا يجبر بذلك. قوله: "ومن حياتك لموتك" في رواية ليث "قبل موتك" وزاد: "فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا" أي هل يقال له شقي أو سعيد، ولم يرد اسمه الخاص به فإنه لا يتغير. وقيل المراد هل هو حي أو ميت. وهذا القدر الموقوف من هذا تقدم محصل معناه في حديث ابن عباس أول كتاب الرقاق، وجاء معناه من حديث ابن عباس أيضا مرفوعا أخرجه الحاكم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" وأخرجه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون، قال بعض العلماء: كلام ابن عمر منتزع من الحديث المرفوع، وهو متضمن لنهاية قصر الأمل، وأن العاقل ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك. قال: وقوله: "خذ من صحتك إلخ" أي اعمل ما تلقى نفعه بعد موتك، وبادر أيام صحتك بالعمل الصالح فإن المرض قد يطرأ فيمتنع من العمل فيخشى على من فرط في ذلك أن يصل إلى المعاد بغير زاد. ولا يعارض ذلك الحديث الماضي في الصحيح "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما" لأنه ورد في حق من يعمل، والتحذير الذي في حديث ابن عمر في حق من لم يعمل شيئا، فإنه إذا مرض ندم على تركه العمل، وعجز لمرضه عن العمل فلا يفيده الندم. وفي الحديث مس المعلم أعضاء المتعلم عند التعليم والموعوظ عند الموعظة وذلك للتأنيس والتنبيه، ولا يفعل ذلك غالبا إلا بمن يميل إليه، وفيه مخاطبة الواحد وإرادة الجمع، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لأمته، والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بد منه

(11/235)


4 - باب فِي الأَمَلِ وَطُولِهِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ" بِمُزَحْزِحِهِ بِمُبَاعِدِهِ
6417- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ

(11/235)


بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا"
6418- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُوطًا فَقَالَ هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ"
قوله: "باب في الأمل وطوله" الأمل بفتحتين رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني. وقيل الفرق بينهما أن الأمل ما تقدم له سبب والتمني بخلافه. وقيل لا ينفك الإنسان من أمل، فإن فاته ما أمله عول على التمني. ويقال الأمل إرادة الشخص تحصيل شيء يمكن حصوله فإذا فاته تمناه. قوله: "وقوله تعالى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الآية" كذا للنسفي وساق في رواية كريمة وغيرها إلى الغرور، وقع في رواية أبي ذر إلى قوله: "فقد فاز" والمطلوب هنا ما سقط من روايته وهو الإشارة إلى أن متعلق الأمل ليس بشيء لأنه متاع الغرور، شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغره حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس وهو الغرور بالفتح الناشئ عنه الغرور بالضم، وقد قرئ في الشاذ هنا بفتح الغين أي متاع الشيطان، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول وهو المخدوع فتتفق القراءتان. قوله: "بمزحزحه: بمباعده" وقع هذا في رواية النسفي وكذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، والمراد أن معنى قوله: "زحزح" في هذه الآية فمن زحزح بوعد، وأصل الزحزحة الإزالة، ومن أزيل عن الشيء فقد بوعد منه وقال للكرماني: مناسبة هذه الآية للترجمة أن في أول الآية "كل نفس ذائقة الموت" وفي آخرها {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أو أن قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ} مناسب لقوله: "وما هو بمزحزحه" وفي تلك الآية {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قوله: "وقوله {ذرهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة وغيرها إلى {يَعْلَمُونَ} وسقط قوله: "وقوله" للنسفي، قال الجمهور هي عامة. وقال جماعة هي في الكفار خاصة والأمر فيه للتهديد، وفيه زجر عن الانهماك في ملاذ الدنيا. قوله: "وقال علي بن أبي طالب ارتحلت الدنيا مدبرة إلخ" هذه قطعة من أثر لعلي جاء عنه موقوفا ومرفوعا، وفي أوله شيء مطابق للترجمة صريحا، فعند ابن أبي خشيبة في "المصنف" وابن المبارك في "الزهد" من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد وزبيد الأيامي عن رجل من بني عامر، وسمي في رواية لابن أبي شيبة مهاجر العامري، وكذا في "الحلية" من طريق أبي مريم عن زبيد عن مهاجر بن عمير قال: قال علي "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة. ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة" الحديث كالذي في الأصل سواء، ومهاجر المذكور هو العامري المبهم قبله وما عرفت حاله، وقد جاء مرفوعا أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب قصر الأمل" من رواية اليمان بن حذيفة عن علي بن أبي حفصة مولى علي "عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أشد ما أتخوف عليكم خصلتين" فذكر معناه واليمان وشيخه لا يعرفان، وجاء من حديث جابر أخرجه أبو عبد الله بن منده من طريق المنكدر بن محمد ابن المنكدر عن أبيه عن جابر مرفوعا، والمنكدر ضعيف، وتابعه علي بن أبي علي اللهبي عن

(11/236)


ابن المنكدر بتمامه وهو ضعيف أيضا وفي بعض طرق هذا الحديث: "فاتباع الهوى يصرف بقلوبكم عن الحق، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا". ومن كلام علي أخذ بعض الحكماء قوله: "الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة فعجب لمن يقبل على المدبرة ويدبر على المقبلة" وورد في ذم الاسترسال مع الأمل حديث أنس رفعه: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا" أخرجه البزار: وعن عبد الله بن عمرو رفعه: "صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل" أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا، وقيل إن قصر الأمل حقيقة الزهد، وليس كذلك بل هو سبب، لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وقيل: من قصر أمله قل همه وتنور قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة، وقل همه، ورضي بالقليل. وقال ابن الجوزي: الأمل مذموم للناس إلا للعلماء، فلولا أملهم لما صنفوا ولا ألفوا. وقال غيره: الأمل مطبوع في جميع بني آدم كما سيأتي في الحديث الذي في الباب بعده "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين حب الدنيا وطول الأمل" وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته. له في أثر علي "فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل" جعل اليوم نفس العمل والمحاسبة مبالغة وهو كقولهم نهاره صائم، والتقدير في الموضعين ولا حساب فيه ولا عمل فيه، وقوله: "ولا حساب" بالفتح بغير تنوين ويجوز الرفع منونا، وكذا قوله ولا عمل قوله: "يحيى بن سعيد" هو القطان، وسفيان هو الثوري، وأبوه سعيد بن مسروق، ومنذر هو ابن يعلى الثوري ووقع في رواية الإسماعيلي: "أبو يعلى" فقط، والربيع بن خثيم بمعجمة ومثلثة مصغر، وعبد الله هو ابن مسعود ومن الثوري فصاعدا كوفيون. قوله: "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا" الخط الرسم والشكل، والمربع المستوى الزوايا قوله: "وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط" قيل هذه صفة الخط:

(11/237)


والأول المعتمد، وسياق الحديث يتنزل عليه، فالإشارة بقوله: "هذا الإنسان" إلى النقطة الداخلة، وبقوله: "وهذا أجله محيط به" إلى المربع، وبقوله: "وهذا الذي هو خارج أمله" إلى الخط المستطيل المنفرد، وبقوله: "وهذه إلى الخطوط" وهي مذكورة على سبيل المثال لا أن المراد انحصارها في عدد معين، ويؤيده قوله في حديث أنس بعده "إذ جاءه الخط الأقرب" فإنه أشار به إلى الخط المحيط به، ولا شك أن الذي يحيط به أقرب إليه من الخارج عنه، وقوله: "خططا" بضم المعجمة والطاء الأولى للأكثر ويجوز فتح الطاء، وقوله: "هذا إنسان" مبتدأ وخبر أي هذا الخط هو الإنسان على التمثيل. قوله: "وهذه الخطط" بالضم فيهما أيضا. وفي رواية المستملي والسرخسي "وهذه الخطوط". قوله: "الأعراض" جمع عرض بفتحتين وهو ما ينتفع به له الدنيا في الخير وفي الشر، والعرض بالسكون ضد الطويل، ويطلق على ما يقابل النقدين والمراد هنا الأول. قوله: "نهشه" بالنون والشين المعجمة أي أصابه. واستشكلت هذه الإشارات الأربع مع أن الخطوط ثلاثة فقط وأجاب الكرماني بأن للخط الداخل اعتبارين: فالمقدار الداخل منه هر الإنسان والخارج أمله، والمراد بالأعراض الآفات العارضة له فإن سلم من هذا لم يسلم من هذا وإن سلم من الجميع ولم تصبه آفة من مرض أو فقد مال أو غير ذلك بغته الأجل. والحاصل أن من لم يمت بالسيب مات بالأجل. وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل. وعبر بالنهش وهو لدغ ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك. قوله:" حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد العزيز بن سلام عنه. قوله: "همام" هو ابن يحيى وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي. قوله: "عن إسحاق" في رواية الإسماعيلي: "حدثنا إسحاق" وهو ابن أخي أنس لأمه. قوله: "خطوطا" قد فسرت في حديث ابن مسعود. قوله: "فبينما هو كذلك" في رواية الإسماعيلي: "يأمل" وعند البيهقي في الزهد من وجه عن إسحاق سياق المتن أتمم منه ولفظه: "خط خطوطا وخط خطا ناحية ثم قال هل تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل، بينما يأمل إذ جاءه الموت" وإنما جمع الخطوط ثم اقتصر في التفصيل على اثنين اختصارا، والثالث الإنسان، والرابع الآفات. وقد أخرج الترمذي حديث أنس من رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن أبي بكر ابن أنس عن أنس بلفظ: "هذا ابن آدم وهذا أجله، ووضع يده عند قفاه ثم بسطها فقال: وثم أمله، وثم أجله إن أجله أقرب إليه من أمله". قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد. قلت: أخرجه أحمد من رواية علي بن علي عن أبي المتوكل عنه ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عودا بين يديه ثم غرز إلى جنبه آخر ثم غرز الثالث فأبعده ثم قال: هذا الإنسان وهذا أجله وهذا أمله"، والأحاديث متوافقة على أن الأجل أقرب من الأمل

(11/238)


5 - باب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ
لِقَوْلِهِ تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ}
6419- حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ مُطَهَّرٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً"
تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلاَنَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ"

(11/238)


6420- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الأَمَلِ قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ"
6421- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ" رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ
قوله: "باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، لقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} كذا للأكثر، وسقط قوله: "لقوله تعالى" وفي رواية النسفي "يعني الشيب" وثبت قوله يعني الشيب في رواية أبي ذر وحده، وقد اختلف أهل التفسير فيه فالأكثر على أن المراد به الشيب لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها، وهو علامة لمفارقة سن الصبي الذي هو مظنة اللهو. وقال علي: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا أيضا في المراد بالتعمير في الآية على أقوال: أحدها أنه أربعون سنة، نقله الطبري عن مسروق وغيره، وكأنه أخذه من قوله: "بلغ أشده وبلغ أربعين سنة". والثاني ست وأربعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن ابن عباس وتلا الآية، ورواته رجال الصحيح، إلا ابن خثيم فهو صدوق وفيه ضعف. والثالث سبعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فقال نزلت تعييرا لأبناء السبعين، وفي إسناده يحيى بن ميمون وهو ضعيف الرابع ستون، وتمسك قائله بحديث الباب وورد في بعض طرقه التصريح بالمراد، فأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق سعيد بن سليمان عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة بلفظ: "العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وأخرجه ابن مردويه من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم عن سهل بن سعد مثله. الخامس التردد بين الستين والسبعين أخرجه ابن مردويه من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ: "من عمر ستين أو سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر" وأخرجه أيضا من طريق معتمر بن سليمان عن معمر عن رجل من غفار يقال له محمد عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ: "من بلغ الستين والسبعين" ومحمد الغفاري هو ابن معن الذي أخرجه البخاري من طريقه اختلف عليه في لفظه، كما اختلف على سعيد المقبري في لفظه، وأصح الأقوال في ذلك ما ثبت في حديث الباب ويدخله في هذا حديث: "معترك المنايا ما بين ستين وسبعين" أخرجه أبو يعلى من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة، وإبراهيم ضعيف.قوله: "حدثنا عبد السلام بن مطهر" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الهاء المفتوحة وشيخه عمر بن علي هو المقدمي، وقد تقدم بهذا الإسناد إلى أبي هريرة حديث آخر وذكرت أن عمر مدلس وأنه أورده بالعنعنة وبينت عذر البخاري في ذلك أنه وجد من وجه آخر مصرح فيه بالسماع، وأما هذا الحديث فقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد المقبري بنحوه، وهذا الرجل المبهم هو معن بن محمد الغفاري، فهي متابعة قوية لعمر بن علي

(11/239)


أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن معمر، ووقع لشيخه فيه وهم ليس هذا موضع بيانه. قوله: "أعذر الله" الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه. وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، ونسبة الإعذار إلى الله مجازية والمعنى أن الله لم يترك للعبد سببا في الاعتذار يتمسك به. والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجه. قوله: "أخر أجله" يعني أطاله "حتى بلغه ستين سنة" وفي رواية معمر "لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى يبلغ ستين سنة أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه". قوله: "تابعه أبو حازم وابن عجلان عن المقبري" أما متابعة أبي حازم وهو سلمة بن دينار فأخرجها الإسماعيلي من طريق عبد العزيز بن أبي حازم "حدثني أبي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة "كذا أخرجه الحفاظ عن عبد العزيز بن أبي حازم وخالفهم هارون بن معروف فرواه عن ابن أبي حازم عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أخرجه الإسماعيلي، وإدخاله بين سعيد وأبي هريرة فيه رجلا من المزيد في متصل الأسانيد، وقد أخرجه أحمد والنسائي من رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بغير واسطة. وأما طريق محمد بن عجلان فأخرجه أحمد من رواية سعيد بن أبي أيوب عن محمد بن عجلان عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر" قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدا لهذا لأنها قريبة من المعترك وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية فهذا إعذار بعد إعذار لطفا من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليتمثلوا ما أمروا به من الطاعة وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية. وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل. وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك". قال بعض الحكماء الأسنان أربعة سن الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة. وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مقصرا: ويأثم إن مات قبل أن يحج، بخلاف ما دون ذلك. قوله: "يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل" المراد بالأمل هنا محبة طول العمر، فسره حديث أنس الذي بعده في آخر الباب، وسماه شابا إشارة إلى قوة استحكام حبه للمال، أو هو من باب المشاكلة والمطابقة. قوله: "قال ليث عن يونس، وابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب أخبرني سعيد" هو ابن المسيب "وأبو سلمة" يعني كلاهما عن أبي هريرة. أما رواية ليث وهو ابن سعد فوصلها الإسماعيلي من طريق أبي صالح كاتب الليث "حدثنا الليث حدثني يونس هو ابن يزيد عن ابن شهاب أخبرني سعيد وأبو سلمة عن أبي هريرة بلفظه إلا أنه قال: "المال" بدل الدنيا. وأما رواية ابن وهب فوصلها مسلم عن حرملة عنه بلفظ: "قلب الشيخ شاب على حب اثنتين طول الحياة وحب المال" وأخرجه الإسماعيلي من طريق أيوب بن سويد عن يونس

(11/240)


مثل رواية ابن وهب سواء، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة بزيادة في أوله قال: "إن ابن آدم يضعف جسمه وينحل لحمه من الكبر وقلبه شاب" . قوله: "حدثنا مسلم" كذا لأبي ذر غير منسوب ولغيره: "حدثنا مسلم بن إبراهيم" وهشام هو الدستوائي. قوله: "يكبر" بفتح الموحدة أي يطعن في السن. قوله: "ويكبر معه" بضم الموحدة أي يعظم، ويجوز الفتح، ويجوز الضم في الأول تعبيرا عن الكثرة وهي كثرة عدد السنين بالعظم. قوله: "اثنتان حب المال وطول العمر" في رواية أبي عوانة عن قتادة عند مسلم: "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال، والحرص على العمر" ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه قاله بمثله. قوله: "رواه شعبة عن قتادة" وصله مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة ولفظه: "سمعت قتادة يحدث عن أنس، بنحوه" وأخرجه أحمد عن محمد بن جعفر بلفظ: "يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان" وفائدة هذا التعليق دفع توهم الانقطاع فيه لكون قتادة مدلسا وقد عنعنه، لكن شعبة لا يحدث عن المدلسين إلا بما علم أنه داخل في سماعهم فيستوي في ذلك التصريح والعنعنة بخلاف غيره. قال النووي هذا مجاز واستعارة ومعناه: أن قلب الشيخ كامل الحب للمال متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه، هذا صوابه، وقيل في تفسيره غير هذا مما لا يرتضى، وكأنه أشار إلى قول عياض: هذا الحديث فيه من المطابقة وبديع الكلام الغاية، وذلك أن الشيخ من شأنه أن تكون آماله وحرصه على الدنيا قد بليت على بلاء جسمه إذا انقضى عمره ولم يبق له إلا انتظار الموت، فلما كان الأمر بضده ذم. قال: والتعبير بالشاب إشارة إلى كثرة الحرص وبعد الأمل الذي هو في الشباب أكثر وبهم أليق لكثرة الرجاء عادة عندهم في طول أعمارهم ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا. قال القرطبي: في هذا الحديث كراهة الحرص على طول العمر وكثرة المال وأن ذلك ليس بمحمود. وقال غيره: الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو راغب في بقائها فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاد ذلك أشتد حبه له ورغبته في دوامه. واستدل به على أن الإرداة في القلب خلافا لمن قال إنها في الرأس، قاله المازري. "تنبيه": قال الكرماني كان ينبغي له أن يذكر هذا الحديث في الباب السابق يعني "باب في الأمل وطوله". قلت: ومناسبته للباب الذي ذكره فيه ليست ببعيدة ولا خفية.

(11/241)


6 - باب الْعَمَلِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. فِيهِ سَعْدٌ
6422- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ
6423- قَالَ "سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ"
6423- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ

(11/241)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ"
قوله: "باب العمل الذي يبتغي به وجه الله تعالى" ثبتت هذه الترجمة للجميع، وسقطت من شرح ابن بطال فأضاف حديثها عن عتبان الذي قبله، ثم أخذ في بيان المناسبة لترجمة من بلغ ستين سنة فقال: خشي المصنف أن يظن أن من بلغ الستين وهو مواظب على المعصية أن ينفذ عليه الوعيد، فأورد هذا الحديث المشتمل على أن كلمة الإخلاص تنفع قائلها، إشارة إلى أنها لا تخص أهل عمر دون عمر ولا أهل عمل دون عمل، قال: ويستفاد منه أن التوبة مقبولة ما لم يصل إلى الحد الذي ثبت النقل فيه أنها لا تقبل معه وهو الوصول إلى الغرغرة. وتبعه ابن المنير فقال: يستفاد منه أن الأعذار لا تقطع التوبة بعد ذلك وإنما تقطع الحجة التي جعلها الله للعبد بفضله، ومع ذلك فالرجاء باق بدليل حديث عتبان وما ذكر معه. قلت: وعلى ما وقع في الأصول فهذه مناسبة تعقيب الباب الماضي بهذا الباب. قوله: "فيه سعد" كذا للجميع، وسقط للنسفي وللإسماعيلي وغيرهما، وسعد فيما يظهر لي هو ابن أبي وقاص، وحديثه المشار إليه ما تقدم في المغازي وغيرها من رواية عامر بن سعد عن أبيه في قصة الوصية وفيه: "الثلث والثلث كثير" وفيه قوله: "فقلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة" الحديث، وقد تقدم هذا اللفظ في كتاب الهجرة إلى المدينة. قوله: "حدثنا معاذ بن أسد" هو المروزي، وشيخه عبد الله هو ابن المبارك. قوله: "غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لن يوافي" هكذا أورده مختصرا، وليس هذا القول معقبا بالغدو بل بينهما أمور كثيرة من دخول النبي صلى الله عليه وسلم منزله وصلاته فيه وسؤالهم أن يتأخر عندهم حتى يطعموه وسؤاله عن مالك بن الدخشم وكلام من وقع في حقه والمراجعة في ذلك، وفي آخره ذلك القول المذكور هنا، وقد أورده في "باب المساجد في البيوت" في أوائل الصلاة وأورده أيضا مطولا من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري في أبواب صلاة التطوع، فخرج منه أيضا في أوائل الصلاة في "باب إذا زار قوما فصلى عندهم" عن معاذ بن أسد بالسند المذكور في حديث الباب من المتن طرفا غير المذكور هنا، وقوله في هذه الرواية: "حرم الله عليه النار" وقع في الرواية الماضية "حرمه الله على النار" قال الكرماني ما ملخصه: والمعنى واحد لوجود التلازم بين الأمرين، واللفظ الأول هو الحقيقة لأن النار تأكل ما يلقى فيها، والتحريم يناسب الفاعل فيكون اللفظ الثاني مجازا. قوله: "يعقوب بن عبد الرحمن" هو الإسكندراني. قوله: "عن عمرو" هو ابن أبي عمرو مولى المطلب. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء" أي ثواب ولم أر لفظ جزاء في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، ولأبي نعيم من طريق السراج كلاهما عن قتيبة. قوله: "إذا قبضت صفيه" بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية وهو الحبيب المصافي كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت. قوله: "ثم احتسبه إلا الجنة" قال الجوهري احتسب ولده إذا مات كبيرا. فإن مات صغيرا قيل أفرطه، وليس هذا التفصيل مرادا هنا بل المراد باحتسبه صبر على فقده راجيا الأجر من الله على ذلك، وأصل الحسبة بالكسر الأجرة، والاحتساب طلب الأجر من الله تعالى

(11/242)


خالصا. واستدل به ابن بطال على أن من مات له ولد واحد يلتحق بمن مات له ثلاثة وكذا اثنان، وأن قول الصحابي كما مضى في "باب فضل من مات له ولد" من كتاب الجنائز "ولم نسأله عن الواحد" لا يمنع من حصول الفضل لمن مات له واحد، فلعله صلى الله عليه وسلم سئل بعد ذلك عن الواحد فأخبر بذلك، أو أنه أعلم بأن حكم الواحد حكم ما زاد عليه فأخبر به. قلت: وقد تقدم في الجنائز تسمية من سأل عن ذلك، والرواية التي فيها "ثم لم نسأله عن الواحد" ولم يقع لي إذ ذاك وقوع السائل عن الواحد. وقد وجدت من حديث جابر ما أخرجه أحمد من طريق محمود ابن أسد عن جابر وفيه: "قلنا يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان. قال محمود فقلت لجابر أراكم لو قلتم واحدا لقال واحد، قال وأنا والله أظن ذاك" ورجاله موثقون. وعند أحمد والطبراني من حديث معاذ رفعه: "أوجب ذو الثلاثة. فقال له معاذ: وذو الاثنين؟ قال: وذو الاثنين" زاد في رواية الطبراني قال: "أو واحد" وفي سنده ضعف. وله في الكبير والأوسط من حديث جابر بن سمرة رفعه: "من دفن له ثلاثة فصبر" الحديث وفيه: "فقالت أم أيمن: وواحد؟ فسكت ثم قال: يا أم أيمن من دفن واحدا فصبر عليه واحتسبه وجبت له الجنة" وفي سندهما ناصح بن عبد الله وهو ضعيف جدا. ووجه الدلالة من حديث الباب أن الصفي أعم من أن يكون ولدا أم غيره وقد أفرد وتب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه، ويدخل هذا ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث قرة بن إياس "أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال: أتحبه؟ قال: نعم. ففقده فقال ما فعل فلان؟ قالوا: يا رسول الله مات ابنه، فقال: ألا تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة، إلا وجدته ينتظرك. فقال رجل: يا رسول الله أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم" وسنده على شرط الصحيح وقد صححه ابن حبان والحاكم.

(11/243)


7 - باب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا
6425- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَتْهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ"
6426- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ

(11/243)


فَقَالَ إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"
6427- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ قِيلَ وَمَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ أَنَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ قَالَ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرَةِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ"
6428- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا محمد بن جعفر حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ "سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَمَا أَدْرِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"
6429- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ"
6430- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ "قَالَ سَمِعْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى يَوْمَئِذٍ سَبْعًا فِي بَطْنِهِ وَقَالَ لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِالْمَوْتِ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ التُّرَابَ"
6431- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ "قَالَ أَتَيْتُ خَبَّابًا وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ مَضَوْا لَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا شَيْئًا وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ شَيْئًا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ في التُّرَابَ"

(11/244)


6432- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.."
قوله: "باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها" المراد بزهرة الدنيا بهجتها ونضارتها وحسنها والتنافس يأتي بيانه في الباب. قوله: "إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن موسى بن عقبة" هو عم إسماعيل الراوي عنه. قوله: "قال: قال ابن شهاب" هو الزهري قوله: "أن عمرو بن عوف" تقدم بيان نسبه في الجزية. وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق وهم موسى وابن شهاب وعروة وصحابيان وهما المسور وعمرو، كلهم مدنيون وكذا بقية رجال الإسناد من إسماعيل فصاعدا. قوله: "إلى البحرين" سقط "إلى" من رواية الأكثر وثبتت للكشميهني. قوله: "فواقفت" في رواية المستملي والكشميهني: "فوافقت". قوله: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم" بنصب الفقر أي ما أخشى عليكم الفقر، ويجوز الرفع بتقدير ضمير أي ما الفقر أخشاه عليكم، والأول هو الراجح، وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر، وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد ذكر ذلك في أعلام النبوة مما أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعه قبل أن يقع فوقع. وقال الطيبي: فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن الفقر، فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغني الذي هو مطلوب الوالد لولده. والمراد بالفقر العهدي وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء ويحتمل الجنس والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى، لأن مضرة الفقر دنيوية غالبا ومضرة الغنى دينية غالبا. قوله: "فتنافسوها" بفتح المثناة فيها، والأصل فتنافسوا فحذفت إحدى التاءين، والتنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه، يقال نافست في الشيء منافسة ونفاسة ونفاسا، ونفس الشيء بالضم نفاسة صار مرغوبا فيه، ونفست به بالكسر بخلت، ونفست عليه لم أره أهلا لذلك. قوله: "فتهلككم" أي لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك. قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس غيره فيها، ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا والفقير آمن من ذلك. حديث عقبة بن عامر في صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد بعد ثمان سنين، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر كتاب الجنائز وعلامات النبوة، وقوله: "أنا فرطكم" بفتح الفاء والراء أي السابق إليه. حديث أبي سعيد. قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وقد وافقه في رواية هذا الحديث عن مالك بتمامه ابن وهب وإسحاق بن محمد وأبو قرة، ورواه معن بن عيسى والوليد بن مسلم عن مالك مختصرا منهما طرفا، وليس هو في الموطأ قاله الدار قطني في "الغرائب". قوله: "عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أكثر ما أخاف عليكم" في رواية هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار

(11/245)


الماضية في كتاب الزكاة في أوله "إنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم" وفي رواية السرخسي "إني مما أخاف" وما في قوله ما يفتح في موضع نصب لأنها اسم أن، و "مما" في قوله: "إن مما" في موضع رفع لأنها الخبر. قوله: "زهرة الدنيا" زاد هلال "وزينتها" وهو عطف تفسير، وزهرة الدنيا بفتح الزاي وسكون الهاء. وقد قرئ في الشاذ عن الحسن وغيره بفتح الهاء فقيل هما بمعنى مثل جهرة وجهرة، وقيل بالتحريك جمع زاهر كفاجر وفجرة، والمراد بالزهرة الزينة والبهجة كما في الحديث، والزهرة مأخوذة من زهرة الشجر وهو نورها بفتح النون، والمراد ما فيها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها مما يفتخر الناس بحسنه مع قلة البقاء. قوله: "فقال رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "هل يأتي" في رواية هلال "أو يأتي" وهي بفتح الواو والهمزة للاستفهام والواو عاطفة على شيء مقدر أي تصير النعمة عقوبة؟ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله فهل تعود هذه النعمة نقمة؟ وهو استفهام استرشاد لا إنكار، والباء في قوله: "بالشر" صلة ليأتي، أى هل يستجلب الخير الشر؟. قوله: "ظننت" في رواية الكشميهني: "ظننا" وفي رواية هلال "فرئينا" بضم الراء وكسر الهمزة وفي رواية الكشميهني: "فأرينا" بضم الهمزة. قوله: "ينزل عليه" أي الوحي، وكأنهم فهموا ذلك بالقرينة من الكيفية التي جرت عادته بها عندما يوحى إليه. قوله: "ثم جعل يمسح عن جبينه" في رواية الدار قطني "العرق" وفي رواية هلال "فيمسح عنه الرحضاء" بضم الراء وفتح المهملة ثم المعجمة والمد هو "العرق" وقيل الكثير، وقيل عرق الحمى، وأصل الرخص بفتح ثم سكون الغسيل، ولهذا فسره الخطابي أنه عرق يرخص الجلد لكثرته. قوله: "قال أبو سعيد لقد حمدناه حين طلع لذلك" في رواية المستملي: "حين طلع ذلك" وفي رواية هلال "وكأنه حمده". والحاصل أنهم لاموه أولا حيث رأوا سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فظنوا أنه أغضبه، ثم حمدوه آخرا لما رأوا مسألته سببا لاستفادة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله:" وكأنه حمده "فأخذوه من قرينة الحال. قوله: "لا يأتي الخير إلا بالخير" زاد في رواية الدار قطني تكرار ذلك ثلاث مرات. وفي رواية هلال "إنه لا يأتي الخير بالشر" ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، إنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيرا فلا يكون شرا وبالعكس، ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر. ووقع في مرسل سعيد المقبري عند سعيد بن منصور "أو خير هو؟ ثلاث مرات" وهو استفهام إنكار، أي أن المال ليس خيرا حقيقيا وإن سمي خيرا لأن الخير الحقيقي هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أن الشر الحقيقي فيه ما يعرض له من الإمساك عن الحق والإخراج في الباطل، وما ذكر في الحديث بعد ذلك من قوله: "إن هذا المال خضرة حلوة" كضرب المثل بهذه الجملة. قوله: "إن هذا المال" في رواية الدار قطني "ولكن هذا المال إلخ" ومعناه أن صورة الدنيا حسنة مونقة، والعرب تسمى كل شيء مشرق ناضر أخضر. وقال ابن الأنباري: قوله: "المال خضرة حلوة" ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه. كأنه قال: المال كالبقلة الخضراء الحلوة، أو التاء في قوله خضرة وحلوة باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا، أو على معنى فائدة المال أي أن الحياة به أو العيشة، أو أن المراد بالمال هنا الدنيا لأنه من زينتها، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقد وقع في حديث أبي سعيد أيضا المخرج في السنن "الدنيا خضرة حلوة" فيتوافق الحديثان، ويحتمل

(11/246)


أن تكون التاء فيهما للمبالغة. قوله: "وإن كل ما أنبت الربيع" أي الجدول، وإسناد الإثبات إليه مجازي والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى. وفي رواية هلال "وأن مما ينبت" ومما في قوله مما ينبت للتكثير وليست من للتبعيض لتوافق رواية: "كل ما أنبت" وهذا الكلام كله وقع كالمثل للدنيا، وقد وقع التصريح بذلك في مرسل سعيد المقبري. قوله: "يقتل حبطا أو يلم" أما حبطا فبفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضا، والحبط انتفاخ البطن من كثرة الأكل يقال حبطت الدابة تحبط حبطا إذا أصابت مرعى طيبا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وروي بالخاء المعجمة من التخبط وهو الاضطراب والأول المعتمد، وقوله: "يلم" بضم أوله أي يقرب من الهلاك.قوله: "إلا" بالتشديد على الاستثناء، وروي بفتح الهمزة وتخفيف اللام للاستفتاح. قوله: "آكلة" بالمد وكسر الكاف، "الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين للأكثر وهو ضرب من الكلأ يعجب الماشية وواحدة خضرة وفي رواية الكشميهني بضم الخاء وسكون الضاد وزيادة الهاء في آخره. وفي رواية السرخسي "الخضراء" بفتح أوله وسكون ثانيه وبالمد، ولغيرهم بضم أوله وفتح ثانيه جمع خضرة. قوله: "امتلأت خاصرتاها" تثنية خاصرة بخاء معجمة وصاد مهملة وهما جانبا البطن من الحيوان. وفي رواية الكشميهني: "خاصرتها" بالإفراد. قوله: "أتت" بمثناة أي جاءت وفي رواية هلال "استقبلت". قوله: "اجترت" بالجيم أي استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف فأعادت مضغه. قوله: "وثلطت" بمثلثة ولام مفتوحتين ثم طاء مهملة وضبطها ابن التين بكسر اللام أي ألقت ما في بطنها رقيقا، زاد الدار قطني "ثم عادت فأكلت" والمعنى أنها إذا شبعت فثقل عليها ما أكلت تحيلت في دفعه بأن تجتر فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمي بها فيسهل خروجه؛ فإذا خرج زال الانتفاخ فسلمت، وهذا بخلاف من لم تتمكن من ذلك فإن الانتفاخ يقتلها سريعا، قال الأزهري: هذا الحديث إذا فرق لم يكد يظهر معناه، وفيه مثلان أحدهما للمفرط في جميع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها وهو ما تقدم أي الذي يقتل حبطا. والثاني المقتصد في جمعها وفي الانتفاع بها وهو آكلة الخضر فإن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع ولكنها الحبة والحبة ما فوق البقل ودون الشجر التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها ولا منعها من مستحقها، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر، وأكثر ما تحبط الماشية إذا انحبس رجيعها في بطنها. وقال الزين بن المنير: آكلة الخضر هي بهيمة الأنعام التي ألف المخاطبون أحوالها في سومها ورعيها وما يعرض لها من البشم وغيره، والخضر والنبات الأخضر وقيل حرار العشب التي تستلذ الماشية أكله فتستكثر منه، وقيل هو ما ينبت بعد إدراك العشب وهياجه فإن الماشية تقتطف منه مثلا شيئا فشيئا ولا يصيبنها منه ألم، وهذا الأخير فيه نظر فإن سياق الحديث يقتضى وجود الحبط للجميع إلا لمن وقعت منه المداومة حتى اندفع عنه ما يضره، وليس المراد أن آكلة الخضر لا يحصل لها من أكله ضرر البتة، والمستنى آكلة الخضر بالوصف المذكور لا كل من اتصف بأنه آكلة الخضر، ولعل قائله وقعت له رواية فيها "يقتل أو يلم إلا آكلة الخضر" ولم يذكر ما بعده فشرحه على ظاهر هذا الاختصار. قوله: "فنعم المعونة" هو في رواية هلال "فنعم صاحب المسلم هو". قوله: "وإن أخذه بغير حقه" في رواية هلال "وأنه من يأخذه بغير حقه". قوله:" كالذي يأكل ولا يشبع" زاد هلال "ويكون شهيدا عليه يوم القيامة" يحتمل أن يشهد عليه حقيقة بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون

(11/247)


مجازا، والمراد شهادة الملك الموكل به. ويؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف، لأن الماشية إذا رعت الخضر للتغذية إما أن تقتصر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر، الأول الزهاد والثاني إما أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضر فإذا أخرجه زال الضر واستمر النفع، وإما أن يهمل ذلك، الأول العاملون في جميع الدنيا بما يجب من إمساك وبذل، والثاني العاملون في ذلك بخلاف ذلك. وقال الطيبي: يؤخذ منه أربعة أصناف: فمن أكل منه أكل مستلذ مفرط منهمك حتى تنتفخ أضلاعه ولا يقلع فيسرع إليه الهلاك، ومن أكل كذلك لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم فغلبه فأهلكه، ومن أكل كذلك لكنه بادر إلى إزالة ما يضره ويحيل في دفعه حتى انهضم فيسلم، ومن أكل غير مفرط ولا منهمك وإنما اقتصر على ما يسد جوعته ويمسك رمقه، فالأول مثال الكافر والثاني مثال العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة إلا عند فوتها والثالث مثال للمخلط المبادر للتوبة حيث تكون مقبولة والرابع مثال الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، وبعضها لم يصرح به في الحديث وأخذه منه محتمل، وقوله: "فنعم المعونة" كالتذييل للكلام المتقدم، وفيه حذف تقديره إن عمل فيه بالحق. وفيه إشارة إلى عكسه، وهو بئس الرفيق هو لمن عمل فيه بغير الحق، وقوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" ذكر في مقابلة "فنعم المعونة هو" وقوله: "ويكون شهيدا عليه" أي حجة يشهد عليه بحرصه وإسرافه وإنفاقه فيما لا يرضى الله. وقال الزين بن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات بديعة: أولها تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره، ثانيها تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب، وثالثها تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه، ورابعها تشبيه الخارج من المال مع عظمته في النفوس حتى أدى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السلح ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعا، وخامسها تشبيه المتقاعد عن جمعه وضمه بالشاه إذا استراحت وحطت جانبها مستقبلة عين الشمس فإنها من أحسن حالاتها سكونا وسكينة وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها، وسادسها تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها، وسابعها تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوا، فإن المال من شأنه أن يحرز ويشد وثاقه حبا له وذلك يقتضي منعه من مستحقه فيكون سببا لعقاب مقتنيه، وثامنها تشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع. وقال الغزالي: مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرها ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي فقد لقي البلاء المهلك. وفي الحديث جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة الجمعة ونحوها. وفيه جلوس الناس حوله والتحذير من المنافسة في الدنيا. وفيه استفهام العالم عما يشكل وطلب الدليل لدفع المعارضة. وفيه تسمية المال خيرا، ويؤيده قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وفي قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} . وفيه ضرب المثل بالحكمة وإن وقع في اللفظ ذكر ما يستهجن كالبول فإن ذلك يغتفر لما يترتب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي عند إرادة الجواب عما يسأل عنه، وهذا على ما ظنه الصحابة، ويجوز أن يكون سكوته ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة. وقد عد ابن دريد هذا الحديث وهو قوله: "إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم" من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه فإنما أخذه منه. ويستفاد منه ترك العجلة في الجواب إذا كان يحتاج إلى التأمل. وفيه لوم من ظن به تعنت في السؤال وحمد من أجاد فيه،

(11/248)


ويؤيد أنه من الوحي قوله يمسح العرق فإنها كانت عادته عند نزول الوحي كما تقدم في بدء الوحي "وإن جبينه ليتفصد عرقا" وفيه تفضيل الغني على الفقير، ولا حجة فيه لأنه يمكن التمسك به لمن لم يرجح أحدهما على الآخر. والعجب أن النووي قال: فيه حجة لمن رجح الغني على الفقير، وكان قبل ذلك شرح قوله: "لا يأتي الخير إلا بالخير" على أن المراد أن الخير الحقيقي لا يأتي إلا بالخير، لكن هذه الزهرة ليست خيرا حقيقيا لما فيها من الفتنة والمنافسة والاشتغال عن كمال الإقبال على الآخرة. قلت: فعلى هذا يكون حجة لمن يفضل الفقر على الغنى والتحقيق أن لا حجة فيه لأحد القولين. وفيه الحض على إعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل. وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع. وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير عير مبارك كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} . حديث عمران بن حصين. قوله: "سمعت أبا جمرة" هو بالجيم والراء وهو الضبعي نصر بن عمران، وقد روى شعبة عن أبي حمزة بالمهملة والزاي حديثا لكنه عند مسلم دون البخاري، وليس لشعبة في البخاري عن أبي جمرة بهذه الصورة إلا عن نصر بن عمران. وزهدم بالزاي وزن جعفر ومضرب بالضاد المعجمة ثم الموحدة والتشديد باسم الفاعل، وقد تقدم شرح هذا الحديث في الشهادات وفي أول فضائل الصحابة، وكذا الحديث الذي بعده. قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو. حديث خباب أورده من طريقين في الأولى زيادة على ما في الثانية، وهو حديث واحد ذكر فيه بعض الرواة ما لم يذكر بعض وأبهم شيئا قاله شعبة، وقد تقدمت روايته له عن إسماعيل بن أبي خالد في أواخر كتاب المرضي قبل كتاب الطب وشرح هناك وزاد أحمد عن وكيع بهذا السند في هذا المتن فقال في أوله "دخلنا على خباب نعوده وهو يبني حائطا له فقال: إن المسلم يؤجر في كل شيء إلا ما يجعله في هذا التراب "وقد تقدم شرح هذه الزيادة هناك. وإسماعيل في الطريقين هر ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم ورجال الإسناد من وكيع فصاعدا كوفيون، ويحيى في السند الثاني هو ابن سعيد القطان وهو بصري. انظر الحديث السابق حديث خباب أيضا، ورجاله من شيخ البخاري فصاعدا كوفيون، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن شقيق أبي وائل عن خباب" تقدم في الهجرة من طريق يحيى بن سعيد القطان عن الأعمش "سمعت أبا وائل حدثنا خباب". قوله: "هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصه" كذا لأبي ذر، وهو بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ضمير، والمراد أن الراوي قص الحديث وأشار به إلى ما أخرجه بتمامه في أول الهجرة إلى المدينة عن محمد بن كثير بالسند المذكور هنا وقرنه برواية يحيى القطان عن الأعمش وساقه بتمامه وقال بعد المذكور هنا "فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير" الحديث، وقد تقدم ذكره في الجنائز وأحلت شرحه على ما هنا، وذكر في الهجرة في موضعين وفي غزوة أحد في موضعين وأحلت به في الهجرة على المغازي، ولم يتيسر في المغازي التعرض لشرحه ذهولا والله المستعان. وسيأتي بعد ثمانية أبواب في "باب فضل الفقر" إن شاء الله تعالى.

(11/249)


باب قول الله تعالى ياأيها الناس (إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا)
...
8- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ

(11/249)


يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} جَمْعُهُ سُعُرٌ قَالَ مُجَاهِدٌ الْغَرُورُ الشَّيْطَانُ
6433- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِطَهُورٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَغْتَرُّوا"
قوله: "باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الآية إلى قوله: { السَّعِيرِ } كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة الآيتين. قوله: "جمعه سعر" بضمتين يعني السعير، وهو فعيل بمعنى مفعول من السعر بفتح أوله وسكون ثانيه وهو الشهاب من النار. قوله: "وقال مجاهد: الغرور الشيطان" ثبت هذا الأثر هنا في رواية الكشميهني وحده، ووصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو تفسير قوله تعالى: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو فعول بمعنى فاعل تقول غررت فلانا أصبت غرته ونلت ما أردت منه "والغرة" بالكسر غفلة في اليقظة والغرور كل ما يغر الإنسان، وإنما فسر بالشيطان لأنه رأس في ذلك. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن، و "يحيى" هو ابن كثير، و "محمد بن إبراهيم" هو التيمي واسم جده الحارث بن خالد وكانت له صحبة. قوله: "أخبرني معاذ بن عبد الرحمن" أي ابن عثمان بن عبيد الله التيمي، وعثمان جده هو أخو طلحة بن عبيد الله، ووالده عبد الرحمن صحابي أخرج له مسلم، وكان يلقب شارب الذهب، وقتل مع ابن الزبير. ووقع في رواية الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن إبراهيم عن شقيق بن سلمة. هذه رواية الوليد بن مسلم عند النسائي وابن ماجه. وفي رواية عبد الحميد بن حبيب عن الأوزاعي بسنده "عن عيسى بن طلحة" بدل شقيق بن سلمة. قال المزي في "الأطراف": رواية الوليد أصوب. قلت: ورواية شيبان أرجح من رواية الأوزاعي لأن نافع بن جبير وعبد الله بن أبي سلمة وافقا محمد بن إبراهيم التيمي في روايته له عن معاذ بن عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون الطريقان محفوظين لأن محمد بن إبراهيم صاحب حديث فلعله سمعه من معاذ ومن عيسى بن طلحة وكل منهما من رهطه ومن بلده المدينة النبوية، وأما شقيق بن سلمة فليس من رهطه ولا من بلده. والله أعلم. قوله: "أن ابن أبان أخبره" قال عياض وقع لأبي ذر والنسفي والكافة "أن ابن أبان أخبره" ووقع لابن السكن "أن حمران بن أبان" ووقع للجرجاني وحده "أن أبان أخبره" وهو خطأ. قلت: ووقع في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر "أن ابن أبان" وقد أخرجه أحمد عن الحسن بن موسى عن شيبان بسند البخاري فيه ووقع عنده "أن حمران بن أبان أخبره". قوله: "فأحسن الوضوء" في رواية نافع بن جبير عن حمران "فأسبغ الوضوء" وتقدم في الطهارة من وجه آخر عن حمران بيان صفة الإسباغ المذكور والتثليث فيه وقول عروة "إن هذا أسبغ الوضوء". قوله: "ثم قال من توضأ مثل هذا الوضوء" تقدم هناك توجيهه وتعقب من نفي ورود الرواية بلفظ: "مثل" وأن الحكمة في ورودها بلفظ: "نحو" التعذر على كل أحد أن يأتي بمثل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس" هكذا

(11/250)


أطلق صلاة ركعتين، وهو نحو رواية ابن شهاب. الماضية في كتاب الطهارة، وقيده مسلم في روايته من طريق نافع بن جبير عن حمران بلفظ: "ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو في المسجد" وكذا وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه عن حمران عنده "فيصلي صلاة" وفي أخرى له عنه "فيصلي الصلاة المكتوبة" وزاد: "إلا غفر الله له ما بينها وبين الصلاة التي تليها" أي التي سبقتها، وفيه تقييد لما أطلق قوله في الرواية الأخرى "غفر الله له ما تقدم من ذنبه" وإن التقدم خاص بالزمان الذي بين الصلاتين، وأصرح منه في رواية أبي صخرة عن حمران عند مسلم أيضا: "ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن"، وتقدم من طريق عروة عن حمران "إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة حتى يصليها" وله من طريق عمرو بن سعيد بن العاص عن عثمان بنحوه، وفيه تقييده بمن لم يغش الكبيرة، وقد بينت توجيه ذلك في كتاب الطهارة واضحا، والحاصل أن لحمران عن عثمان حديثين في هذا: أحدهما مقيد بترك حديث النفس وذلك في صلاة ركعتين مطلقا غير مقيد بالمكتوبة، والآخر في الصلاة المكتوبة في الجماعة أو في المسجد من غير تقييد بترك حديث النفس. قوله: "قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا" قدمت شرحه في الطهارة وحاصله لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب فتسترسلوا في الذنوب اتكالا على غفرانها بالصلاة، فإن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة ولا اطلاع لأحد عليه. ظهر لي جواب آخر وهو أن المكفر بالصلاة هي الصغائر فلا تغتروا فتعملوا الكبيرة بناء على تكفير الذنوب بالصلاة فإنه خاص بالصغائر، أو لا تستكثروا من الصغائر فإنها بالإصرار تعطي حكم الكبيرة فلا يكفرها ما يكفر الصغيرة، أو أن ذلك خاص بأهل الطاعة فلا يناله من هو مرتبك في المعصية. والله أعلم.

(11/251)


9 - باب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ وَيُقَالُ الذِّهَابُ الْمَطَرُ
6434- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ لاَ يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ"
قوله: "باب ذهاب الصالحين" أي موتهم. قوله: "ويقال الذهاب المطر" ثبت هذا في رواية السرخسي وحده ومراده أن لفظ الذهاب مشترك على المضي وعلى المطر. وقال بعض أهل اللغة: الذهاب الأمطار اللينة، وهو جمع ذهبة بكسر أوله وسكون ثانيه. قوله: "حدثني يحيى بن حماد" هو من قدماء مشايخه، وقد أخرج عنه بواسطة في كتاب الحيض. قوله: "عن بيان" بموحدة ثم تحتانية خفيفة وهو ابن بشر، وقيس هو ابن أبي حازم، ومرداس الأسلمي هو ابن مالك، زاد الإسماعيلي: رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عنده في رواية محمد بن فضيل عن بيان، وتقدم من وجه آخر في غزوة الحديبية من كتاب المغازي أنه كان من أصحاب الشجرة أي الذين بايعوا بيعة الرضوان، وذكر مسلم في الوحدان وتبعه جماعة ممن صنف فيها أنه لم يرو عنه إلا قيس بن أبي حازم، ووقع في "التهذيب للمزي" في ترجمة مرداس هذا أنه روى عنه زياد بن علاقة أيضا، وتعقب بأنه مرداس آخر أفرده أبو

(11/251)


علي بن السكن في الصحابة عن مرداس بن مالك وقال: إنه مرداس بن غروة. وممن فرق بينهما البخاري والرازي والبستي ورجحه ابن السكن. قوله: "يذهب الصالحون الأول فالأول" في رواية عبد الواحد بن غياث عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "يقبض" بدل يذهب والمراد قبض أرواحهم، وعنده من رواية خالد الطحان عن بيان "يذهب الصالحون أسلافا وقبض الصالحون الأول فالأول" والثانية تفسير للأولى.قوله: "ويبقى حثالة أو حفالة" هو شك هل هي بالثاء المثلثة أو بالفاء والحاء المهملة في الحالين ووقع في رواية عبد الواحد "حثالة" بالمثلثة جزما.قوله: "كحثالة الشعير أو التمر" يحتمل الشك ويحتمل التنويع، وقع في رواية عبد الواحد "كحثالة الشعير" فقط. وفي رواية: "حتى لا يبقى إلا مثل حثالة التمر والشعير" زاد غير أبي ذر من رواة البخاري: قال أبو عبد الله وهو البخاري حثالة وحفالة يعني أنهما بمعنى واحد.وقال الخطابي: الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء، وقيل آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه. وقال ابن التين: الحثالة سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما.وقال الداودي: ما يسقط من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل.ووجدت لهذا الحديث شاهدا من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ: "تذهبون الخير فالخير حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر ينزو بعضهم على بعض نزو المعز" أخرجه أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر" وليس فيه تصريح برفعه لكن له حكم المرفوع. قوله: "لا يباليهم الله بالة" قال الخطابي: أي لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا، يقال باليت بفلان وما باليت به مبالاة وبالية وبالة.وقال غيره: أصل بالة بالية فحذفت الياء تخفيفا. وتعقب قول الخطابي بأن بالية ليس مصدرا لباليت وإنما هو اسم مصدره. وقال أبو الحسن القابسي: سمعته في الوقف بالة، ولا أدري كيف هو في الدرج، والأصل باليته بالاة فكأن الألف حذفت في الوقف. كذا قال، وتعقبه ابن التين بأنه لم يسمع في مصدره بالاة. قال: ولو علم القابسي ما نقله الخطابي أن بالة مصدر مصادر لما احتاج إلى هذا التكلف. قلت: تقدم في المغازي من رواية عيسى بن يونس عن بيان بلفظ:" لا يعبأ الله بهم شيئا "وفي رواية عبد الواحد" لا يبالي الله عنهم" وكذا في رواية خالد الطحان، و "عن" هنا بمعنى الباء يقال ما باليت به وما باليت عنه، وقول يعبأ بالمهملة الساكنة والموحدة مهموز أي لا يبالي، وأصله من العبء بالكسر ثم الموحدة مهموز وهو الثقل فكأن معنى لا يعبأ به أنه لا وزن له عنده. ووقع في آخر حديث الفزارية المذكور آنفا" على أولئك تقوم الساعة "قال ابن بطال: في الحديث أن موت الصالحين من أشراط الساعة.وفيه الندب إلى الاقتداء بأهل الخير، والتحذير من مخالفتهم خشية أن يصير من خالفهم ممن لا يعبأ الله به.وفيه أنه يجوز انقراض أهل الخير في آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الشر، واستدل به على جواز خلو الأرض من عالم حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفا. ويؤيده الحديث الآتي في الفتن "حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا" وسيأتي بسط القول في هذه المسألة هناك إن شاء الله تعالى.
"تنبيه": وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله حفالة وحثالة أي أنها رويت بالفاء وبالمثلثة، وهما بمعنى واحد.

(11/252)


باب ما يتقى من فتنة المال وقوله تعالى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)
...
10- باب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ, وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}

(11/252)


6435- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ"
6436- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا وَلاَ يَمْلاَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"
[الحديث 6436- طرفه في: 6437]
6437- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالًا لاَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ وَلاَ يَمْلاَ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلاَ أَدْرِي مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لاَ قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ"
6438- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا ملآن مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلاَ يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"
6439- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ "قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلاَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ
6440- وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ}
قوله: "باب ما يتقى" بضم أوله وبالمثناة والقاف. قوله: "من فتنة المال" أي الالتهاء به. قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي تشغل البال عن القيام بالطاعة، وكأنه أشار بذلك إلى ما أخرجه الترمذي وابن حيان والحاكم وصححوه من حديث كعب بن عياض "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال" وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور عن جبير بن نفير مثله وزاد: "ولو سيل لابن آدم

(11/253)


واديان من مال لتمنى إليه ثالثا" الحديث وبها تظهر المناسبة جدا؛ وقوله سيل بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام على البناء للمجهول يقال سال الوادي إذا جرى ماؤه، وأما الفتنة بالولد فورد فيه ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن صححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران فنزل عن المنبر فحملها فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولاكم فتنة" الحديث وظاهر الحديث أن قطع الخطبة والنزول لهما فتنة دعا إليها محبة الولد فيكون مرجوحا، والجواب أن ذلك إنما هو في حق غيره، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فهو لبيان الجواز فيكون في حقه راجحا، ولا يلزم من فعل الشيء لبيان الجواز أن لا يكون الأولى ترك فعله ففيه تنبيه على أن الفتنة بالولد مراتب، وإن هذا من أدناها، وقد يجر إلى ما فوقه فيحذر.قوله: "حدثني يحيى بن يوسف" هو الزمي بكسر الزاي وتشديد الميم ويقال له ابن أبي كريمة فقيل هي كنية أبيه وقيل.هو جده واسمه كنيته، أخرج عنه البخاري بغير واسطة في الصحيح وأخرج عنه خارج الصحيح بواسطة. قوله: "أخبرني أبو بكر بن عياش" بمهملة تحتانية ثقيلة ثم معجمة، ووقع في رواية غير أبي ذر "حدثنا". قوله: "عن أبي حصين" بمهملتين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم. وفي رواية غير أبي ذر أيضا: "حدثنا". قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الإسماعيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإسماعيلي وافق أبا بكر على رفعه شريك القاضي، وقيس بن الربيع عن أبي حصين، وخالفهم إسرائيل فرواه عن أبي حصين موقوفا. قلت: إسرائيل أثبت منهم، ولكن اجتماع الجماعة يقاوم ذلك، وحينئذ تتم المعارضة بين الرفع والوقف فيكون الحكم للرفع والله أعلم. وقد تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في باب الحراسة في الغزو من كتاب الجهاد، وهو من نوادر ما وقع في هذا الجامع الصحيح. قوله: "تعس" بكسر العين المهملة ويجوز الفتح أي سقط والمراد هنا هلك. وقال ابن الأنباري: التعس الشر، قال تعالى: {فَتَعْساً لَهُمْ} أراد ألزمهم الشر، وقيل التعس البعد أي بعدا لهم.وقال غيره قولهم تعسا لفلان نقيض قولهم لعا له، فتعسا دعاء عليه بالعثرة ولعا دعاء له بالانتقاش.قوله: "عبد الدينار" أي طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده. قال الطيبي: قيل خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصا، ولم يقل مالك الدينار ولا جامع الدينار لأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة. وقوله: "إن أعطى إلخ "يؤذن بشدة الحرص على ذلك. وقال غيره: جعله عبدا لهما لشغفه وحرصه، فمن كان عبدا لهواه لم يصدق في حقه "إياك نعبد" فلا يكون من اتصف بذلك صديقا. قوله: "والقطيفة" هي الثوب الذي له خمل "والخميصة الكساء المربع" وقد تقدم الحديث، في كتاب الجهاد من رواية عبد الله بن دينار عن أبي صالح بلفظ: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" وقوله وانتكس أي عاوده المرض فعلى ما تقدم من تفسير التعس بالسقوط يكون المراد أنه إذا قام من سقطته عاوده السقوط، ويحتمل أن يكون المعنى بانتكس بعد تعس انقلب على رأسه بعد أن سقط. ثم وجدته في شرح الطيبي، قال في قوله: "تعس وانتكس" فيه الترقي في الدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس انقلب على رأسه، وقيل التعس الخر على الوجه والنكس الخر على الرأس. وقوله في الرواية المذكورة "وإذا شيك" بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم كاف أي إذا

(11/254)


دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش وهو معنى قوله فلا انتقش، ويحتمل أن يريد لم يقدر الطبيب أن يخرجها.وفيه إشارة إلى الدعاء عليه بما يثبطه عن السعي والحركة، وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات.قال الطيبي: وإنما خص انتقاش الشوكة بالذكر لأنه أسهل ما يتصور من المعاونة، فإذا انتفى ذلك الأسهل انتفى ما فوقه بطريق الأولى.قوله: "إن أعطي" بضم أوله. قوله: "وإن لم يعط لم يرض" وقع من وجه آخر عن أبي بكر بن عياش عند ابن ماجه والإسماعيلي بلفظ الوفاء عوض الرضا وأحدهما ملزوم للآخر غالبا. قوله: "عن عطاء" هو ابن أبي رباح، وصرح في الرواية الثانية بسماع ابن جريج له من عطاء، وهذا هو الحكمة في إيراد الإسناد النازل عقب العالي إذ بينه وبين ابن جريح في الأول واحد وفي الثاني اثنان، وفي السند الثاني أيضا فائدة أخرى وهي الزيادة في آخره، ومحمد في الثاني هو ابن سلام وقد نسب في رواية أبي زيد المروزي كذلك، ومخلد بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" هذا من الأحاديث التي صرح فيها ابن عباس بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة بالنسبة لمرويه عنه، فإنه أحد المكثرين، ومع ذلك فتحمله كان أكثره عن كبار الصحابة. قوله: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا" في الرواية الثانية "لو أن لابن آدم واديا مالا لأحب أن له إليه مثله" ونحوه في حديث أنس في الباب وجمع بين الأمرين في الباب أيضا، ومثله في مرسل جبير بن نفير الذي قدمته وفي حديث أبي الذي سأذكره، وقوله: "من مال" فسره في حديث ابن الزبير بقوله: "من ذهب" ومثله في حديث أنس في الباب وفي حديث زيد بن أرقم عند أحمد وزاد: "وفضة" وأوله مثل لفظ رواية ابن عباس الأولى، ولفظه عند أبي عبيدة في فضائل القرآن "كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى الثالث" وله من حديث جابر بلفظ: "لو كان لابن آدم وادي نخل" وقوله: "لابتغى" بالغين المعجمة وهو افتعل بمعنى الطلب، ومثله في حديث زيد بن أرقم، وفي الرواية الثانية "أحب" وكذا في حديث أنس. وقال في حديث أنس "لتمنى مثله ثم تمنى مثله حتى يتمنى أودية". قوله: "ولا يملأ جوف ابن آدم" في رواية حجاج بن محمد عن ابن جريح عند الإسماعيلي: "نفس" بدل "جوف" وفي حديث جابر كالأول، وفي مرسل حبير بن نفير "ولا يشبع" بضم أوله "جوف" وفي حديث ابن الزبير "ولا يسد جوف" وفي الرواية الثانية في الباب: "ولا يملأ عين" وفي حديث أنس فيه: "ولا يملأ فاه" ومثله في حديث أبي واقد عند أحمد، وله في حديث زيد بن أرقم "ولا يملأ بطن" قال الكرماني: ليس المراد الحقيقة في عضو بعينه بقرينة عدم الانحصار في التراب إذ غيره يملؤه أيضا، بل هو كناية عن الموت لأنه مستلزم للامتلاء، فكأنه قال لا يشبع من الدنيا حتى يموت، فالغرض من العبارات كلها واحد وهي من التفنن في العبارة. قلت: وهذا يحسن فيما إذا اختلفت مخارج الحديث، وأما إذا اتحدت فهو من تصرف الرواة، ثم نسبة الامتلاء للجوف واضحة، والبطن بمعناه، وأما النفس فعبر بها عن الذات وأطلق الذات وأراد البطن من إطلاق الكل وإرادة البعض، وأما بالنسبة إلى الفم فلكونه الطريق إلى الوصول للجوف، ويحتمل أن يكون المراد بالنفس العين، وأما العين فلأنها الأصل في الطلب لأنه يرى ما يعجبه فيطلبه ليحوزه إليه، وخص البطن في أكثر الروايات لأن أكثر ما يطلب المال لتحصيل المستلذات أكثرها يكون للأكل والشرب. وقال الطيبي: وقع قوله: "ولا يملأ إلخ" موقع التذييل والتقرير للكلام السابق كأنه قيل ولا يشبع من خلق من

(11/255)


التراب إلا بالتراب.ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكر التراب، دون غيره أن المرء لا ينقضي طمعه حتى يموت، فإذا مات كان من شأنه أن يدفن فإذا دفن صب عليه التراب فملأ حوفه وفاه وعينيه ولم يبق منه موضع يحتاج إلى تراب غيره.وأما النسبة إلى الفم فلكونه الطريق إلى للوصول للجوف.قوله: "ويتوب الله على من تاب" أي أن الله يقبل التوبة من الحريص كما يقبلها من غيره، قيل وفيه إشارة إلى ذم الاستكثار من جمع المال وتمني ذلك والحرص عليه، للإشارة إلى أن الذي يترك ذلك يطلق عليه أنه تاب، ويحتمل أن يكون تاب بالمعنى اللغوي وهو مطلق الرجوع أي رجع عن ذلك الفعل والتمني. وقال الطيبي: يمكن أن يكون معناه أن الآدمي مجبول على حب المال وأنه لا يشبع من جمعه إلا من حفظه الله تعالى ووفقه لإزالة هذه الجبلة عن نفسه وقليل ما هم، فوضع "ويتوب" موضعه إشعارا بأن هذه الجبلة مذمومة جارية مجرى الذنب، وأن إزالتها ممكنة بتوفيق الله وتسديده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ففي إضافة الشح إلى النفس دلالة على أنه غريزة فيها. وفي قوله: "ومن يوق" إشارة إلى إمكان إزالة ذلك، ثم رتب الفلاح على ذلك قال: وتؤخذ المناسبة أيضا من ذكر التراب، فإن فيه إشارة إلى أن الآدمي خلق من التراب ومن طبعه القبض واليبس، وأن إزالته ممكنة بأن يمطر الله عليه ما يصلحه حتى يثمر الخلال الزكية والخصال المرضية، قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} فوقع قوله: "ويتوب الله إلخ" موقع الاستدراك، أي أن ذلك العسر الصعب يمكن أن يكون يسيرا على من يسره الله تعالى عليه. قوله: "قال ابن عباس: فلا أدري من القرآن هو أم لا" يعني الحديث المذكور، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على حديث أبي. قوله: "قال وسمعت ابن الزبير" القائل هو عطاء، وهو متصل بالسند المذكور. وقوله: "على المنبر" بين في الرواية التي بعدها أنه منبر مكة، وقوله: "ذلك" إشارة إلى الحديث، وظاهره أنه باللفظ المذكور بدون زيادة ابن عباس. قوله: "عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل" أي غسيل الملائكة وهو حنظلة بن أبي عامر الأوسي، وهو جد سليمان المذكور لأنه ابن عبد الله بن حنظلة، ولعبد الله صحبة وهو من صغار الصحابة وقتل يوم الحرة وكان الأمير على طائفة الأنصار يومئذ، وأبوه استشهد بأحد وهو من كبار الصحابة وأبوه أبو عامر يعرف بالراهب وهو الذي بني مسجد الضرار بسببه ونزل فيه القرآن. وعبد الرحمن معدود في صغار التابعين لأنه لقي بعض صغار الصحابة، وهذا الإسناد من أعلى ما في صحيح البخاري لأنه في حكم الثلاثيات وإن كان رباعيا، وعباس بن سهل بن سعد هو ولد الصحابي المشهور. قوله: "عبد العزيز" هو الأويسي، وصالح هو ابن كيسان، وابن شهاب هو الزهري. قوله: "أحب أن يكون" كذا وقع بغير لام وهو جائز، وقد تقدم من رواية ابن عباس بلفظ: "لأحب" قوله: "وقال لنا أبو الوليد" هو الطيالسي هشام بن عبد الملك، وشيخه حماد بن سلمة لم يعدوه فيمن خرج له البخاري موصولا، بل علم المزي على هذا السند في" الأطراف" علامة التعليق، وكذا رقم لحماد بن سلمة في التهذيب علامة التعليق ولم ينبه على هذا الموضع، وهو مصير منه إلى استواء قال فلان وقال لنا فلان، وليس بجيد لأن قوله قال لنا ظاهر في الوصل وإن كان بعضهم قال إنها للإجازة أو للمناولة أو للمذاكرة فكل ذلك في حكم الموصول، وإن كان التصريح بالتحديث أشد اتصالا، والذي ظهر لي بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يأتي بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن ليس على شرطه في أصل موضوع كتابه، كأن يكون

(11/256)


ظاهره الوقف، أو في السند من ليس على شرطه في الاحتجاج، فمن أمثلة الأول قوله في كتاب النكاح في "باب ما يحل من النساء وما يحرم": "قال لنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد هو القطان" فذكر عن ابن عباس قال: "حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع" الحديث، فهذا من كلام ابن عباس فهو موقوف، وإن كان يمكن أن يتلمح له ما يلحقه بالمرفوع. ومن أمثلة الثاني قوله في المزارعة "قال لنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان العطار" فذكر حديث أنس "لا يغرس مسلم غرسا" الحديث، فأبان ليس على شرطه كحماد بن سلمة، وعبر في التخريج لكل منهما بهذه الصيغة لذلك، وقد علق عنهما أشياء بخلاف الواسطة التي بينه وبينه وذلك تعليق ظاهر؛ وهو أظهر في كونه لم يسقه مساق الاحتجاج من هذه الصيغة المذكورة هنا، لكن السر فيه ما ذكرت وأمثلة ذلك في الكتاب كثيرة تظهر لمن تتبعها. قوله: "عن ثابت" هو البناني ويقال إن حماد بن سلمة كان أثبت الناس في ثابت، وقد أكثر مسلم من تخريج ذلك محتجا به ولم يكثر من الاحتجاج بحماد بن سلمة كإكثاره في احتجاجه بهذه النسخة. قوله: "عن أبي" هو ابن كعب، وهذا من رواية صحابي عن صحابي وإن كان أبي أكبر من أنس. قوله: "كنا نرى" بضم النون أوله أي نظن، ويجوز فتحها من الرأي أي نعتقد. قوله: "هذا" لم يبين ما أشار إليه بقوله هذا، وقد بينه الإسماعيلي من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة ولفظه: "كنا نرى هذا الحديث من القرآن: لو أن لابن آدم واديين من مال لتمني واديا ثالثا "الحديث دون قوله: "ويتوب الله إلخ". قوله: "حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} " زاد في رواية موسى بن إسماعيل "إلى آخر السورة" وللإسماعيلي أيضا من طريق عفان ومن طريق أحمد بن إسحاق، الحضرمي قالا "حدثنا حماد بن سلمة" فذكر مثله وأوله "كنا نرى أن هذا من القرآن إلخ". "تنبيه": هكذا وقع حديث أبي بن كعب من رواية ثابت عن أنس عنه مقدما على رواية ابن شهاب عن أنس في هذا الباب عند أبي ذر، وعكس ذلك غيره وهو الأنسب، قال ابن بطال وغيره: قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} خرج على لفظ الخطاب لأن الله فطر الناس على حب المال والولد فلهم رغبة في الاستكثار من ذلك، ومن لازم ذلك الغفلة عن القيام بما أمروا به حتى يفجأهم الموت. وفي أحاديث الباب ذم الحرص والشره ومن ثم آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة باليسير والرضا بالكفاف، ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك ولا بد لكل أحد منه، فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شرحه بعضهم على أنه كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فاستمرت تلاوتها فكانت ناسخة لتلاوة ذلك. وأما الحكم فيه والمعنى فلم ينسخ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء. قلت: يؤيد ما رده ما أخرجه الترمذي من طريق زر بن حبيش "عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال وقرأ فيها: إن الدين عند الله الحنيفية السمحة" الحديث، وفيه: "وقرأ عليه: لو أن لابن آدم واديا من مال" الحديث وفيه: "ويتوب الله على من تاب" وسنده جيد، والجمع بينه وبين حديث أنس عن أبي المذكور آنفا أنه يحتمل أن يكون أبي لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم "لم يكن" وكان هذا الكلام في آخر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم احتمل عنده أن يكون بقية السورة واحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتهيأ له أن يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى

(11/257)


نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فلم ينتف الاحتمال. ومنه ما وقع عند أحمد وأبي عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أبي واقد الليثي قال: "كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه فيحدثنا، فقال لنا ذات يوم: إن الله قال إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثان" الحديث بتمامه، وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، والله أعلم وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما وإن كان حكمه مستمرا. ويؤيد هذا الاحتمال ما أخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أبي موسى قال: "قرأت سورة نحو براءة فغبت وحفظت منها: ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا" الحديث، ومن حديث جابر "كنا نقرأ لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله"

(11/258)


11 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ" , وقوله تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ إِلاَّ أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ
6441- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ هَذَا الْمَالُ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ لِي يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا المال خضرة حلوة" تقدم شرحه قريبا في "باب ما يحذر من زهرة الدنيا" في شرح حديث أبي سعيد الخدري.قوله: "وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الآية" كذا لأبي ذر، ولأبي زيد المروزي {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية" وللإسماعيلي مثل أبي ذر وزاد:" إلى قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وساق ذلك في رواية كريمة. وقوله: "زين" قيل الحكمة في ترك الإفصاح بالذي زين أن يتناول اللفظ جميع من تصح نسبة التزيين إليه، وإن كان العلم أحاط بأنه سبحانه وتعالى هو الفاعل بالحقيقة، فهو الذي أوجد الدنيا وما فيها وهيأها للانتفاع وجعل القلوب مائلة إليها، وإلى ذلك الإشارة بالتزيين ليدخل فيه حديث النفس ووسوسة الشيطان، ونسبة ذلك إلى الله تعالى باعتبار الخلق والتقدير والتهيئة، ونسبة ذلك للشيطان باعتبار ما أقدره الله عليه من التسلط على الآدمي بالوسوسة الناشئ عنها حديث النفس. وقال ابن التين بدأ في الآية بالنساء لأنهن أشد الأشياء فتنة للرجال، ومنه حديث: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" قال: ومعنى تزيينها إعجاب الرجل بها وطواعيته لها. والقناطير جمع قنطار، واختلف في تقديره فقيل سبعون ألف دينار وقيل سبعة آلاف دينار وقيل مائة وعشرون رطلا وقيل مائة رطل وقيل ألف مثقال وقيل ألف ومائتا أوقية،

(11/258)


وقيل معناه الشيء الكثير مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه. وقال ابن عطية: القول الأخير قيل هذا أصح الأقوال لكن يختلف القنطار في البلاد باختلافها في قدر الوقية. قوله: "وقال عمر: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرج بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه" سقط هذا التعليق في رواية أبي زيد المروز، وفي هذا الأثر إشارة إلى أن فاعل التزيين المذكور في الآية هو الله، وأن تزيين ذلك بمعنى تحسينه في قلوب بني آدم وأنهم جبلوا على ذلك، لكن منهم من استمر على ما طبع عليه من ذلك وانهمك فيه وهو المذموم، ومنهم من راعى فيه الأمر والنهي ووقف عند ما حد له من ذلك وذلك بمجاهدة نفسه بتوفيق الله تعالى له فهذا لم يتناوله الذم، ومنهم من ارتقى عن ذلك فزهد فيه بعد أن قدر عليه وأعرض عنه مع إقباله عليه وتمكنه منه، فهذا هو المقام المحمود، وإلى ذلك الإشارة بقول عمر "اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه" وأثره هذا وصله الدار قطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري "أن عمر بن الخطاب أتى بمال من المشرق يقال له نفل كسرى، فأمر به فصب وغطى، ثم دعا الناس فاجتمعوا ثم أمر به فكشف عنه، فإذا حلى كثير وجوهر ومتاع، فبكى عمر وحمد الله عز وجل فقالوا له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ هذه غنائم غنمها الله لنا ونزعها من أهلها، فقال: ما فتح من هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم واستحلوا حرمتهم. قال فحدثني زيد بن أسلم أنه بقى من ذلك المال مناطق وخواتم فرفع، فقال له عبد الله بن أرقم: حتى متى تحبسه لا تقسمه؟ قال: بلى إذا رأيتني فارغا فآذني به، فلما رآه فارغا بسط شيئا في حش نخلة ثم جاء به في مكتل فصبه. فكأنه استكثره ثم قال: اللهم أنت قلت {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} ، فتلا الآية حتى فرغ منها ثم قال: لا نستطيع إلا أن نحب ما زينت لنا، فقني شره وارزقني أن أنفقه في حقك، فما قام حتى ما بقي منه شيء" وأخرجه أيضا من طريق عبد العزيز بن يحيى المدني عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه نحوه، وهذا موصول لكن في سنده إلى عبد العزيز ضعف. وقال بعد قوله واستحلوا حرمتهم وقطعوا أرحامهم: فما رام حتى قسمه، وبقيت منه قطع. وقال بعد قوله لا نستطيع إلا أن يتزين لنا ما زينت لنا. والباقي نحوه، وزاد في آخره قصة أخرى. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "ثم قال: إن هذا المال، ربما قال سفيان: قال لي يا حكيم إن هذا المال" فاعل قال أولا هو النبي صلى الله عليه وسلم والقائل "ربما" هو علي بن المدايني راويه عن سفيان، والقائل قال لي هو حكيم بن حزام صحابي الحديث المذكور، وحكيم بالرفع بغير تنوين منادى مفرد حذف منه حرف النداء، وظاهر السياق إن حكيما قال لسفيان وليس كذلك لأنه لم يدركه لأن بين وفاة حكيم ومولد سفيان نحو الخمسين سنة ولهذا لا يقرأ حكيم بالتنوين وإنما المراد أن سفيان رواه مرة بلفظ: "ثم قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال" ومرة بلفظ: "ثم قال لي يا حكيم إن هذا المال إلخ" وقد وقع بإثبات حرف النداء في معظم الروايات، وإنما سقط من رواية أبي زيد المروزي، وتقدم شرح قوله: "فمن أخذه بطيب نفس إلخ" في باب "الاستعفاف عن المسألة" من كتاب الزكاة، وتقدم شرح قوله في آخره: "واليد العليا خير من اليد السفلى" في "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى" من كتاب الزكاة أيضا، وقوله: "بورك له فيه" زاد الإسماعيلي من رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان بسنده ومتنه، وإبراهيم كان أحد الحفاظ وفيه مقال.

(11/259)


6442- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ قَالَ فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ"
قوله: "باب ما قدم من ماله فهو له" الضمير للإنسان المكلف، وحذفه للعلم به وإن لم يجر له ذكر.قوله: "عمر بن حفص" أي ابن غياث. وعبد الله هو ابن مسعود، ورجال السند كلهم كوفيون. قوله: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" أي أن الذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان هو في الحال منسوبا إليه فإنه باعتبار انتقاله إلى وارثه يكون منسوبا للوارث، فنسبته للمالك في حياته حقيقية ونسبته للوارث في حياة المورث مجازية ومن بعد موته حقيقية. قوله: "فإن ماله ما قدم" أي هو الذي يضاف إليه في الحياة وبعد الموت بخلاف المال الذي يخلفه، وقد أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش به سندا ومتنا وزاد في آخره: "ما تعدون الصرعة فيكم" الحديث وزاد فيه أيضا: "ما تعدون الرقوب فيكم" قال ابن بطال وغيره: فيه التحريض على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبر لينتفع به في الآخرة، فإن كل شيء يخلفه المورث يصير ملكا للوارث فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثواب ذلك وكان ذلك الذي تعب في جمعه ومنعه، وإن عمل فيه بمعصية الله فذاك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع به إن سلم من تبعته. ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم لسعد "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" لأن حديث سعد محمول على من تصدق بماله كله أو معظمه في مرضه، وحديث ابن مسعود في حق من يتصدق في صحته وشحه.

(11/260)


باب المكثرزن هم المقلون
...
13 - باب الْمُكْثِرُونَ هُمْ الْمُقِلُّونَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
6443- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ قَالَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ قَالَ فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ مَنْ هَذَا قُلْتُ أَبُو ذَرٍّ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ لِي اجْلِسْ هَا هُنَا قَالَ فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ فَقَالَ لِي اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ قَالَ فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لاَ أَرَاهُ فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ وَهُوَ يَقُولُ وَإِنْ

(11/260)


سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا قَالَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ قَالَ بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ قَالَ قُلْتُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ" قَالَ النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالأَعْمَشُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لاَ يَصِحُّ إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ مُرْسَلٌ أَيْضًا لاَ يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا إِذَا مَاتَ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ"
قوله: "باب المكثرون هم المقلون" كذا للأكثر، وللكشميهني: "الأقلون" وقد ورد الحديث باللفظين، ووقع في رواية المعرور عن أبي ذر "الأخسرون" بدل "المقلون" وهو بمعناه بناء على أن المراد بالقلة في الحديث قلة الثواب وكل من قل ثوابه فهو خاسر بالنسبة لمن كثر ثوابه.قوله: "وقوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآيتين" كذا لأبي ذر. وفي رواية أبي زيد بعد قوله وزينتها {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} ومثله للإسماعيلي لكن قال: "إلى قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولم يقل الآية. وساق الآيتين في رواية الأصيلي وكريمة. واختلف في الآية فقيل: هي على عمومها في الكفار وفيمن يرائي بعمله من المسلمين، وقد استشهد بها معاوية لصحة الحديث الذي حدث به أبو هريرة مرفوعا في المجاهد والقارئ والمتصدق "لقوله تعالى لكل منهم: إنما عملت ليقال فقد قيل فبكى معاوية لما سمع هذا الحديث ثم تلا هذه الآية" أخرجه الترمذي مطولا وأصله عند مسلم، وقيل بل هي في حق الكفار خاصة بدليل الحصر في قوله في الآية التي تليها {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} والمؤمن في الجملة مآله إلى الجنة بالشفاعة أو مطلق العفو، والوعيد في الآية بالنار وإحباط العمل وبطلانه إنما هو للكافر.وأجيب عن ذلك بأن الوعيد بالنسبة إلى ذلك العمل الذي وقع الرياء فيه فقط فيجازي فاعله بذلك إلا أن يعفو الله عنه، وليس المراد إحباط جميع أعماله الصالحة التي لم يقع فيها رياء. والحاصل أن من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له وجوزي في الآخرة بالعذاب لتجريده قصده إلى الدنيا وإعراضه على الآخرة، وقيل نزلت في المجاهدين خاصة وهو ضعيف؛ وعلى تقديره ثبوته فعمومها شامل لكل مراء، وعموم قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي في الدنيا مخصوص بمن لم يقدر الله له ذلك لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} فعلى هذا التقييد يحمل ذلك المطلق، وكذا يقيد مطلق قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} وبهذا يندفع إشكال من قال قد يوجد بعض الكفار مقترا عليه في الدنيا غير موسع عليه من المال أو من الصحة أو من طول العمر، بل قد يوجد من هو منحوس الحظ من جميع ذلك كمن قيل في حقه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ومناسبة ذكر

(11/261)


الآية في الباب لحديثه أن في الحديث إشارة إلى أن الوعيد الذي فيها محمول على التأقيت في حق من وقع له ذلك من المسلمين لا على التأييد لدلالة الحديث على أن مرتكب جنس الكبيرة من المسلمين يدخل الجنة، وليس فيه ما ينفي أنه قد يعذب قبل ذلك، كما أنه ليس في الآية ما ينفي أنه قد يدخل الجنة بعد التعذيب على معصية الرياء. قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد، وقد روى جرير بن حازم هذا الحديث لكن عن الأعمش عن زيد ابن وهب كما سيأتي بيانه، لكن قتيبة لم يدركه ابن حازم، وعبد العزيز بن رفيع بفاء ومهملة مصغر مكي سكن الكوفة وهو من صغار التابعين لقي بعض الصحابة كأنس. قوله: "عن أبي ذر" في رواية الأعمش الماضية في الاستئذان عن زيد بن وهب "حدثنا والله أبو ذر بالربذة" بفتح الراء والموحدة بعدها معجمة مكان معروف من عمل المدينة النبوية وبينهما ثلاث مراحل من طريق العراق، سكنه أبو ذر بأمر عثمان ومات به في خلافته، وقد تقدم بيان سبب ذلك في كتاب الزكاة. قوله: "خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان" هو تأكيد لقوله: "وحده" ويحتمل أن يكون لرفع توهم أن يكون معه أحد من غير جنس الإنسان من ملك أو جني. وفي رواية الأعمش عن زيد بن وهب عنه "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء" فأفادت تعيين الزمان والمكان، والحرة مكان معروف بالمدينة من الجانب الشمالي منها وكانت به الوقعة المشهورة في زمن يزيد بن معاوية. وقيل الحرة الأرض التي حجارتها سود، وهو يشمل جميع جهات المدينة التي لا عمارة فيها، وهذا يدل على أن قوله في رواية المعرور بن سويد عن أبي ذر "انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة وهو يقول هم الأخسرون ورب الكعبة" فذكر قصة المكثرون وهي قصة أخرى مختلفة الزمان والمكان والسياق. قوله: "فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد فجعلت أمشي في ظل القمر" أي في المكان الذي ليس للقمر فيه ضوء ليخفي شخصه، وإنما استمر يمشي لاحتمال أن يطرأ للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة فيكون قريبا منه. قوله: "فالتقت فرآني فقال: من هذا" كأنه رأى شخصه ولم يتميز له. قوله: "فقلت أبو ذر" أي أنا أبو ذر. قوله: "جعلني الله فداءك" في رواية أبي الأحوص في الباب بعده عن الأعمش وكذا لأبي معاوية عن الأعمش عند أحمد "فقلت لبيك يا رسول الله" وفي رواية حفص عن الأعمش كما مضى في الاستئذان "فقلت لبيك وسعديك". قوله: "فقال أبا ذر تعال" في رواية الكشميهني: "تعاله" بهاء السكت؛ قال الداودي: فائدة الوقوف على هاء السكت أن لا يقف على ساكنين نقله ابن التين، وتعقب بأن ذلك غير مطرد، وقد اختصر أبو زيد المروزي في روايته سياق الحديث في هذا الباب فقال بعد قوله: "ليس معه أحد" فذكر الحديث وقال فيه: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة": هكذا عنده وساق الباقون الحديث بتمامه، ويأتي شرحه مستوفي في الباب الذي بعده. قوله: "وقال النضر بن شميل أنبأنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت والأعمش وعبد العزيز بن رفيع قالوا حدثنا زيد بن وهب بهذا" الغرض بهذا التعليق تصريح الشيوخ الثلاثة المذكورين بأن زيد بن وهب حدثهم، والأولان نسبا إلى التدليس مع أنه لو ورد من رواية شعبة بغير تصريح لأمن فيه التدليس لأنه كان لا يحدث عن شيوخه إلا بما لا تدليس فيه، وقد ظهرت فائدة ذلك في رواية جرير بن حازم عن الأعمش فإنه زاد فيه بين الأعمش وزيد بن وهب رجلا مبهما، ذكر ذلك الدار قطني في "العلل" فأفادت هذه الرواية المصرحة أنه من المزيد في متصل الأسانيد. وقد اعترض الإسماعيلي على قول البخاري في هذا السند "بهذا" فأشار إلى رواية عبد العزيز ابن رفيع، واقتضى ذلك أن رواية

(11/262)


شعبة هذه نظير روايته فقال: ليس في حديث قصة المقلين والمكثرين، إنما فيه قصة من مات لا يشرك بالله شيئا قال: والعجب من البخاري كيف أطلق ذلك ثم ساقه موصولا من طريق حميد ابن زنجويه حدثنا النضر بن شميل عن شعبة ولفظه: "أن جبريل بشرني أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق". قيل لسليمان يعني الأعمش إنما روى هذا الحديث عن أبي الدرداء، فقال: إنما سمعته عن أبي ذر.ثم أخرجه من طريق معاذ حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت وبلال والأعمش وعبد العزيز بن رفيع سمعوا زيد بن وهب عن أبي ذر زاد فيه راويا وهو بلال وهو ابن مرداس الفزاري، شيخ كوفي أخرج له أبو داود، وهو صدوق لا بأس به. وقد أخرجه أبو داود الطيالسي عن شعبة كرواية النضر ليس فيه بلال، وقد تبع الإسماعيلي على اعتراضه المذكور جماعة منهم مغلطاي ومن بعده، والجواب عن البخاري واضح على طريقة أهل الحديث لأن مراده أصل الحديث، فإن الحديث المذكور في الأصل قد اشتمل على ثلاثة أشياء فيجوز إطلاق الحديث على كل واحد من الثلاثة إذا أريد بقول البخاري "بهذا" أي بأصل الحديث لا خصوص اللفظ المساق، فالأول من الثلاثة "ما يسرني أن لي أحدا ذهبا" وقد رواه عن أبي ذر أيضا بنحوه الأحنف بن قيس وتقدم في الزكاة، والنعمان الغفاري وسالم بن أبي الجعد وسويد بن الحارث كلهم عن أبي ذر، وروياتهم عند أحمد، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أبو هريرة وهو في آخر الباب من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه، وسيأتي في كتاب التمني من طريق همام، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن زياد وهو عند أحمد من طريق سليمان بن يسار كلهم عن أبي هريرة كما سأبينه. الثاني حديث المكثرين والمقلين، وقد رواه عن أبي ذر أيضا المعرور بن سويد كما تقدمت الإشارة إليه والنعمان الغفاري وهو عند أحمد أيضا. الثالث حديث: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" وفي بعض طرقه: "وإن زنى وإن سرق" وقد رواه عن أبي ذر أيضا أبو الأسود الدؤلي وقد تقدم في اللباس، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أبو هريرة كما سيأتي بيانه لكن ليس فيه بيان "وإن زنى وإن سرق" وأبو الدرداء كما تقدمت الإشارة إليه من رواية الإسماعيلي، وفيه أيضا فائدة أخرى وهو أن بعض الرواة قال عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء، فلذلك قال الأعمش لزيد ما تقدم في رواية حفص بن غياث عنه: قلت لزيد بلغني أنه أبو الدرداء، فأفادت رواية شعبة أن حبيبا وعبد العزيز وافقا الأعمش على أنه عن زيد بن وهب عن أبي ذر لا عن أبي الدرداء، وممن رواه عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء محمد بن إسحاق فقال عن عيسى بن مالك عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء أخرجه النسائي، والحسن بن عبيد الله النخعي أخرجه الطبراني من طرقه عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء بلفظ: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" فقال أبو الدرداء "وإن زنى وإن سرق" قال: "وإن زنى وإن سرق" فكررها ثلاثا وفي الثالثة "وإن رغم أنف أبي الدرداء" وسأذكر بقية طرقه عن أبي الدرداء في آخر الباب الذي يليه. وذكره الدار قطني في "العلل" فقال يشبه أن يكون القولان صحيحين. قلت: وفي حديث كل منهما في بعض الطرق ما ليس في الأخر.

(11/263)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أحب أن يكون لي مثل أحد ذهبا
...
14 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا
6444- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ "قَالَ أَبُو

(11/263)


ذَرٍّ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ مَشَى فَقَالَ إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمْ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ثُمَّ قَالَ لِي مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ ثُمَّ انْطَلَقَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدْ ارْتَفَعَ فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ وَهَلْ سَمِعْتَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَقَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ"
6445- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لاَ تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا" لم أر لفظ هذا في رواية الأكثر، لكنه ثابت في لفظ الخبر الأول. قوله: "حدثنا الحسن بن الربيع" هو أبو علي البوراني بالموحدة والراء وبعد الألف نون، وأبو الأحوص هو سلام بالتشديد ابن سليم. قوله: "فاستقبلنا أحد" في رواية عبد العزيز بن رفيع "فالتفت فرآني" كما تقدم وتقدم قصة المكثيرين والمقلين، وقوله: "فاستقبلنا أحد" هو بفتح اللام، وأحد بالرفع على الفاعلية. وفي رواية حفص بن غياث "فاستقبلنا أحدا" بسكون اللام وأحدا بالنصب على المفعولية. قوله: "فقال يا أبا ذر، فقلت: لبيك يا رسول الله" زاد في رواية سالم بن أبي الجعد ومنصور عن زيد بن وهب عند أحمد "فقال: يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قلت: أحد" وفي رواية الأحنف الماضية في الزكاة "يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن يرسلني في حاجة له فقلت: نعم". قوله: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار" في رواية حفص بن غياث "ما أحب أن لي أحدا ذهبا يأتي علي يوم وليلة أو ثلاث عندي منه دينار" وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عن أحمد "ما أحب أن لي أحدا ذاك ذهبا" وفي رواية أبي شهاب عن الأعمش في الاستئذان "فلما أبصر أحدا قال: ما أحب أنه تحول لي ذهبا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث" قال ابن مالك تضمن هذا الحديث استعمال حول بمعنى صير وأعمالها عملها، وهو استعمال صحيح خفي على أكثر النحاة، وقد جاءت هذه الرواية مبينة لما لم يسم فاعله فرفعت أول المفعولين وهو ضمير عائد على أحد ونصب ثانيهما وهو قوله:

(11/264)


"ذهبا" فصارت ببنائها لما لم يسم فاعله جارية مجرى صار في رفع المبتدأ ونصب الخبر. انتهى كلامه. وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، وهو متحد المخرج فهو من تصرف الرواة فلا يكون حجة في اللغة، ويمكن الجمع بين قوله: "مثل أحد" وبين قوله: "تحول لي أحد" يحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهبا كان قدر وزنه أيضا. وقد اختلفت ألفاظ رواته عن أبي ذر أيضا: ففي رواية سالم ومنصور عن زيد بن وهب بعد قوله قلت أحد قال: "والذي نفسي بيده ما يسرني أنه ذهب قطعا أنفقه في سبيل الله أدع منه قيراطا" وفي رواية سويد بن الحارث عن أبي ذر "ما يسرني أن لي أحدا ذهبا أموت يوم أموت وعندي منه دينار أو نصف دينار". واختلفت ألفاظ الرواة أيضا في حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب كما سأذكره. قوله: "تمضي علي ثالثة" أي ليلة ثالثة، قيل وإنما قيد بالثلاثة لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالبا، ويعكر عليه رواية: "يوم وليلة" فالأولى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك، والواحدة أقل ما يمكن. قوله: "إلا شيئا أرصده لدين" أي أعداه أو أحفظه. وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دين غائب حتى يحضر فيأخذه، أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى. ووقع في رواية حفص وأبي شهاب جميعا عن الأعمش "إلا دينار" بالرفع، والنصب والرفع جائزان لأن المستثنى منه مطلق عام والمستثنى مقيد خاص فاتجه للنصب، وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي وجواب لو هنا في تقدير النفي، ويجوز أن يحمل النفي الصريح في أن لا يمر على حمل إلا على الصفة، وقد فسر الشيء في هذه الرواية بالدينار، ووقع في رواية سويد بن الحارث عن أبي ذر "وعندي منه دينار أو نصف دينار" وفي رواية سالم ومنصور "أدع منه قيراطا. قال قلت: قنطارا؟ قال: قيراطا" وفيه:" ثم قال يا أبا ذر إنما أقول الذي هو أقل" ووقع في رواية الأحنف "ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير" فظاهره نفي محبة حصول المال ولو مع الإنفاق وليس مرادا، وإنما المعنى نفي إنفاق البعض مقتصرا عليه، فهو يحب إنفاق الكل إلا ما استثنى، وسائر الطرق تدل على ذلك، ويؤيده أن في رواية سليمان بن يسار عن أبي هريرة عند أحمد "ما يسرني أن أحدكم هذا ذهبا أنفق منه كل يوم في سبيل الله فيمر بي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين" ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد بالكراهة الإنفاق في خاصة نفسه لا في سبيل الله فهو محبوب. قوله: "إلا أن أقول به في عباد الله" هو استثناء بعد استثناء فيفيد الإثبات، فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فمادام الإنفاق مستمرا لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر ولو كان قدر أحد أو أكثر مع استمرار الإنفاق. قوله: "هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه" هكذا اقتصر على ثلاث، وحمل على المبالغة لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر لي أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ثم وجدته في الجزء الثالث من "البشرانيات" من رواية أحمد بن ملاعب عن عمر ابن حفص بن غياث عن أبيه بلفظ: "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وهكذا، وأرانا بيده" كذا فيه بإثبات الأربع، وقد أخرجه المصنف في الاستئذان عن عمر بن حفص مثله، لكن اقتصر من الأربع على ثلاث، وأخرجه أبو نعيم من طريق سهل بن بحر عن عمر بن حفص فاقتصر على ثنتين. قوله: "ثم مشى ثم قال: ألا إن الأكثرين هم المقلون يوم

(11/265)


القيامة" في رواية أبي شهاب في الاستقراض ورواية حفص في الاستئذان "هم الأقلون" بالميم في الموضعين. وفي رواية عبد العزيز بن رفيع الماضية في الباب قبله "إن المكثرين هم المقلون" بالميم في الموضعين، ولأحمد من رواية النعمان الغفاري عن أبي ذر "إن المكثرين الأقلون" والمراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة وهذا في حق من كان مكثرا ولم يتصف بما دل عليه الاستثناء بعده من الإنفاق. قوله: "إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه" في رواية أبي شهاب "إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وأشار أبو شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله" وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عند أحمد "إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره" فاشتملت هذه الروايات على الجهات الأربع وإن كان كل منها اقتصر على ثلاث، وقد جمعها عبد العزيز بن رفيع في روايته ولفظه: "إلا من أعطاه الله خيرا - أي مالا - فنفح بنون وفاء ومهملة أي أعطى كثيرا بغير تكلف يمينا وشمالا وبين يديه ووراءه" وبقي من الجهات فوق وأسفل، والإعطاء من قبل كل منهما ممكن، لكن حذف لندوره. وقد فسر بعضهم الإنفاق من وراء بالوصية، وليس قيدا فيه بل قد يقصد الصحيح الإخفاء فيدفع لمن وراءه مالا يعطى به من هو أمامه. وقوله: "هكذا" صفة لمصدر محذوف أي أشار إشارة مثل هذه الإشارة، وقوله: "من خلفه" بيان للإشارة وخص عن اليمين والشمال لأن الغالب في الإعطاء صدوره باليدين، وزاد في رواية عبد العزيز بن رفيع "وعمل فيه خيرا" أي حسنة وفي سياقه جناس تام في قوله أعطاه الله خيرا. وفي قوله وعمل فيه خيرا، فمعنى الخير الأول المال والثاني الحسنة. قوله: "وقليل ما هم" ما زائدة مؤكدة للقلة، ويحتمل أن تكون موصوفة، ولفظ قليل هو الخبر وهم هو المبتدأ والتقدير وهم قليل، وقدم الخبر للمبالغة في الاختصاص. قوله: "ثم قال لي: مكانك" بالنصب أي الزم مكانك، وقوله: "لا تبرح" تأكيد لذلك، ورفع لتوهم أن الأمر بلزوم المكان ليس عاما في الأزمنة، وقوله: "حتى آتيك" غاية للزوم المكان المذكور. وفي رواية حفص "لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع" ووقع في رواية عبد العزيز بن رفيع "فمشيت معه ساعة، فقال لي اجلس هاهنا، فأجلسني في قاع" أي أرض سهلة مطمئنة. قوله: "ثم انطلق في سواد الليل" فيه إشعار بأن القمر كان قد غاب. قوله: "حتى توارى" أي غاب شخصه، زاد أبو معاوية "عني" وفي رواية حفص "حتى غاب عني" وفي رواية عبد العزيز "فأطلق في الحرة - أي دخل فيها - حتى لا أراه "وفي رواية أبي شهاب"فتقدم غير بعيد" زاد في رواية عبد العزيز "فأطال اللبث". قوله: "فسمعت صوتا قد ارتفع" في رواية أبي معاوية "فسمعت لغطا وصوتا". قوله: "فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم" أي تعرض له بسوء. ووقع في رواية عبد العزيز "فتخوفت أن يكون عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم:" وهو بضم أول عرض على البناء للمجهول. قوله: "فأردت أن آتيه" أي أتوجه إليه، ووقع في رواية عبد العزيز "فأردت أن أذهب" أي إليه ولم يرد أن يتوجه إلى حال سبيله بدليل رواية الأعمش في الباب. قوله: "فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني" في رواية أبي معاوية عن الأعمش "فانتظرته حتى جاء". قوله: "قلت يا رسول الله لقد سمعت صوتا تخوفت فذكرت له" في رواية أبي معاوية "فذكرت له الذي سمعت" وفي رواية أبي شهاب "فقلت يا رسول الله الذي سمعت لو قال الصوت الذي سمعت" كذا فيه بالشك وفي رواية عبد العزيز "ثم إني سمعته وهو يقول وإن سرق وإن زنى، فقلت يا رسول الله من تكلم في جانب الحرة ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا". قوله: "فقال وهل سمعته؟ قلت نعم. قال ذاك

(11/266)


جبريل" أي الذي كنت أخاطبه، أو ذلك صوت جبريل. قوله: "أتاني" زاد في رواية حفص" فأخبرني". ووقع في رواية عبد العزيز "عرض لي - أي ظهر - فقال: بشر أمتك" ولم أر لفظ التبشير في رواية الأعمش. قوله: "من مات لا يشرك بالله شيئا" زاد الأعمش "من أمتك". قوله: "دخل الجنة" هو جواب الشرط. رتب دخول الجنة على الموت بغير إشراك بالله، وقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عملها فلذلك وقع الاستفهام. قوله: "قلت وإن زنى وإن سرق" قال ابن مالك: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدر ولا بد من تقديره. وقال غيره التقدير أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة. وقال الطيبي: أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق. والشرط حال، ولا يذكر الجواب مبالغة، وتتميما لمعنى الإنكار قال وإن زنى وإن سرق. ووقع في رواية عبد العزيز ابن رفيع "قلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم". وكررها مرتين للأكثر وثلاثا للمستملي وزاد في آخر الثالثة "وإن شرب الخمر" وكذا وقع التكرار ثلاثا في رواية أبي الأسود عن أبي ذر في اللباس، لكن بتقديم الزنا على السرقة كما في رواية الأعمش، ولم يقل "وإن شرب الخمر" ولا وقعت في رواية الأعمش، وزاد أبو الأسود "على رغم أنف أبي ذر" قال وكان أبو ذر إذا حدث بهذا الحديث يقول: "وإن رغم أنف أبي ذر" وزاد حفص ابن غياث في روايته عن الأعمش: قال الأعمش قلت لزيد بن وهب إنه بلغني أنه أبو الدرداء قال أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة. قال الأعمش: وحدثني أبو صالح عن أبي الدرداء نحوه. وأخرجه أحمد عن أبي نمير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي الدرداء بلفظ: " إنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" نحوه، وفيه: "وإن رغم أنف أبي الدرداء"، قال البخاري في بعض النسخ عقب رواية حفص: حديث أبي الدرداء مرسل لا يصح إنما أردنا للمعرفة أي إنما أردنا أن نذكره للمعرفة بحاله. قال: والصحيح حديث أبي ذر قيل له: فحديث عطاء ابن يسار عن أبي للدرداء؟ فقال: مرسل أيضا لا يصح. ثم قال: اضربوا على حديث أبي الدرداء. قلت: فلهذا هو ساقط من معظم النسخ، وثبت في نسخة الصغاني، وأوله قال أبو عبد الله حديث أبي صالح عن أبي الدرداء مرسل، فساقه إلخ. ورواية عطاء بن يسار التي أشار إليها أخرجها النسائي من رواية محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم هو يقص على المنبر يقول: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فأعدت فأعاد فقال في الثالثة قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء "وقد وقع التصريح بسماع عطاء بن يسار له من أبي الدرداء في رواية ابن أبي حاتم في "التفسير" والطبراني في "المعجم" والبيهقي في "الشعب" قال البيهقي: حديث أبي الدرداء هذا غير حديث أبي ذر وإن كان فيه بعض معناه. قلت: وهما قصتان متغايرتان، وإن اشتركتا في المعنى الأخير وهو سؤال الصحابي بقوله وإن زنى وإن سرق، واشتركا أيضا في قوله وإن رغم، ومن المغايرة بينهما أيضا وقوع المراجعة المذكورة بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل في رواية أبي ذر دون أبي الدرداء، وله عن أبي الدرداء طرق أخرى منها للنسائي من رواية محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبي الدرداء نحو رواية عطاء بن يسار، ومنها للطبراني من طريق أم الدرداء عن أبي الدرداء رفعه بلفظ: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء" ومن طريق أبي مريم عن أبي الدرداء نحوه، ومن طريق كعب بن ذهل "سمعت أبا الدرداء رفعه. أتاني آت من ربي

(11/267)


فقال من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، فقلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم ثم ثلثت فقال على رغم أنف عويمر فرددها، قال فأنا رأيت أبا الدرداء يضرب أنفه بإصبعه" ومنها لأحمد من طريق واهب بن عبد الله المغافري "عن أبي الدرداء رفعه: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي الدرداء. قال فخرجت لأنادي بها في الناس، فلقيني عمر فقال: ارجع، فإن الناس إن يعلموا بهذا اتكلوا عليها، فرجعت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق عمر" قلت: وقد وقعت هذه الزيادة الأخيرة لأبي هريرة، ويأتي بسط ذلك في "باب من جاهد في طاعة الله تعالى" قريبا. قوله: "حدثنا أحمد بن شبيب" بفتح المعجمة وموحدتين مثل حبيب، وهو الحبطي بفتح المهملة والموحدة ثم الطاء المهملة نسبة إلى الحبطات من بني تميم، وهو بصري صدوق ضعفه ابن عبد البر تبعا لأبي الفتح الأزدي والأزدي غير مرضى فلا يتبع في ذلك، وأبوه يكنى أبا سعيد، روى عنه ابن وهب وهو من أقرانه، ووثقه ابن المديني. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" هذا التعليق وصله الذهلي في "الزهريات" عن عبد الله بن صالح عن الليث، وأراد البخاري بإيراده تقوية رواية أحمد بن شبيب، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "لو كان لي" زاد في رواية الأعوج عن أبي هريرة عند أحمد في أوله "والذي نفسي بيده" وعنده في رواية همام عن أبي هريرة "والذي نفس محمد بيده". قوله: "مثل أحد ذهبا" في رواية الأعرج "لو أن أحدكم عندي ذهبا". قوله: "ما يسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين" في رواية الأعرج "إلا أن يكون شيء أرصده في دين علي" وفي رواية همام "وعندي منه دينار أجد من يقبله ليس شيئا أرصده في دين علي" قال ابن مالك: في هذا الحديث وقوع التمني بعد مثل، وجواب لو مضارعا منفيا بما، وحق جوابها أن يكون ماضيا مثبتا نحو لو قام لقمت، أو بلم نحو لو قام لم أقم. والجواب من وجهين: أحدهما أن يكون وضع المضارع موضع الماضي الواقع جوابا كما وقع موضعه وهو شرط في قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} ، ثانيهما أن يكون الأصل ما كان يسرني فحذف كان وهو جواب وفيه ضمير وهو الاسم ويسرني خبر، وحذف كان مع اسمها وبقاء خبرها كثير نظما ونثرا ومنه "المرء مجزي بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر" قال وأشبه شيء بحذف كان قبل يسرني حذف جعل قبل يجادلنا في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} أي جعل يجادلنا، والوجه الأول أولى. وفيه أيضا وقوع لا بين أن وتمر وهي زائدة والمعنى ما يسرني أن تمر. وقال الطيبي: قوله: "ما يسرني" هو جواب "لو" الامتناعية فيفيد أنه لم يسره المذكور بعده لأنه لم يكن عنده مثل أحد ذهبا، وفيه نوع مبالغة لأنه إذا لم يسره كثرة ما ينفقه فكيف ما لا ينفقه قال: وفي التقييد بالثلاثة تتميم ومبالغة في سرعة الإنفاق، فلا تكون لا زائدة كما قال ابن مالك بل النفي فيها على حاله. قلت: ويؤيد قول ابن مالك الرواية الماضية قبل في حديث أبي ذر بلفظ: "ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا تمضي على ثالثة". وفي حديث الباب من الفوائد أدب أبي ذر مع النبي صلى الله عليه وسلم وترقبه أحواله وشفقته عليه حتى لا يدخل عليه أدنى شيء مما يتأذى به. وفيه حسن الأدب مع الأكابر وأن الصغير إذا رأى الكبير منفردا لا يتسور عليه ولا يجلس معه ولا يلازمه إلا بإذن منه. وهذا بخلاف ما إذا كان في مجمع كالمسجد والسوق فيكون جلوسه معه

(11/268)


بحسب ما يليق به. وفيه جواز تكنية المرء نفسه لغرض صحيح كأن يكون أشهر من اسمه، ولا سيما إن كان الله مشتركا بغيره وكنيته فردة. وفيه جواز تفدية الصغير الكبير بنفسه وبغيرها، والجواب بمثل لبيك وسعديك زيادة في الأدب. وفيه الانفراد عند قضاء الحاجة. وفيه أن امتثال أمر الكبير والوقوف عنده أولى من ارتكاب ما يخالفه بالرأي ولو كان فيما يقتضيه الرأي توهم دفع مفسدة حتى يتحقق ذلك فيكون دفع المفسدة أولى. وفيه استفهام التابع من متبوعه على ما يحصل له فائدة دينية أو علمية أو غير ذلك. وفيه الأخذ بالقرائن لأن أبا ذر لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم، "أتبصر أحدا" فهم منه أنه يريد أن يرسله في حاجة فنظر إلى ما على أحد من الشمس ليعلم هل يبقى من النهار قدر يسعها. وفيه أن محل الأخذ بالقرينة إن كان في اللفظ ما يخصص ذلك، فإن الأمر وقع على خلاف ما فهمه أبو ذر من القرينة، فيؤخذ منه أن بعض القرائن لا يكون دالا على المراد وذلك لضعفه. وفيه المراجعة في العلم بما تقرر عند الطالب في مقابلة ما يسمعه مما يخالف ذلك، لأنه تقرر عند أبي ذر من الآيات والآثار الواردة في وعيد أهل الكبائر بالنار وبالعذاب، فلما سمع أن من مات لا يشرك دخل الجنة استفهم عن ذلك بقوله: "وإن زنى وإن سرق" واقتصر على هاتين الكبيرتين لأنهما كالمثالين فيما يتعلق بحق الله وحق العباد، وأما قوله في الرواية الأخرى "وإن شرب الخمر" فاللإشارة إلى فحش تلك الكبيرة لأنها تؤدي إلى خلل العقل الذي شرف به الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يحجز عن ارتكاب بقية الكبائر. وفيه أن الطالب إذا ألح في المراجعة يزجر بما من يليق به أخذا من قوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" وقد حمله البخاري كما مضى في اللباس على من تاب عند الموت، وحمله غيره على أن المراد بدخول الجنة أعم من أن يكون ابتداء أو بعد المجازاة على المعصية، والأول هو وفق ما فهمه أبو ذر، والثاني أولى للجمع بين الأدلة، ففي الحديث حجة لأهل السنة ورد على من زعم من الخوارج والمعتزلة أن صاحب الكبيرة إذا مات عن غير توبة يخلد في النار، لكن في الاستدلال به لذلك نظر، لما مر من سياق كعب بن ذهل عن أبي الدرداء أن ذلك في حق من عمل سوءا أو ظلم نفسه ثم استغفر، وسنده جيد عند الطبراني. وحمله بعضهم على ظاهره وخص به هذه الأمة لقوله فيه: "بشر أمتك" وإن من مات من أمتي، وتعقب بالأخبار الصحيحة الواردة في أن بعض عصاة هذه الأمة يعذبون، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة "المفلس من أمتي" الحديث. وفيه تعقب على من تأول في الأحاديث الواردة في أن "من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة" وفي بعضها "حرم على النار" أن ذلك كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي، وهو مروي عن سعيد بن المسيب والزهري، ووجه التعقب ذكر الزنا والسرقة فيه فذكر على خلاف هذا التأويل، وحمله الحسن البصري على من قال الكلمة وأدى حقها بأداء ما وجب واجتناب ما نهى، ورجحه الطيبي إلا أن هذا الحديث يخدش فيه، وأشكل الأحاديث وأصعبها قوله: "لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة" وفي آخره وإن زنى وإن سرق" وقيل أشكلها حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار" لأنه أتى فيه بأداة الحصر ومن الاستغراقية وصرح بتحريم النار، بخلاف قوله: "دخل الجنة" فإنه لا ينفي دخول النار أولا، قال الطيبي: لكن الأول يترجح بقوله: "وإن زنى وإن سرق" لأنه شرط لمجرد التأكيد، ولا سيما وقد كرره ثلاثا مبالغة وختم بقوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" تتميما للمبالغة، والحديث الآخر مطلق يقبل التقييد فلا يقاوم قوله: "وإن زنى وإن

(11/269)


سرق" وقال النووي بعد أن ذكر المتون في ذلك والاختلاف في هذا الحكم: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقنا بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دينا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة الله وحرم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها وارتكاب النواهي أو بعضها ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه، فإن شاء أن يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة، انتهى. وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول تقديره وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، لكنه قبل ذلك إن مات مصرا على المعصية في مشيئة الله، وتقدير الثاني حرمه الله على النار إلا أن يشاء الله أو حرمه على نار الخلود والله أعلم. قال الطيبي: قال بعض المحققين قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث المبطلة ذريعة إلى طرح التكاليف وإبطال العمل ظنا أن ترك الشرك كاف، وهذا يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية لا تأثير له بل يقتضي الانخلاع عن الدين والانحلال عن قيد الشريعة والخروج عن الضبط والولوج في الخبط وترك الناس سدى مهملين وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى، مع أن قوله في بعض طرق الحديث: "أن يعبدوه" يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية وقوله: "ولا يشركوا به شيئا" يشمل مسمى الشرك الجلي والخفي، فلا راحة للتمسك به في ترك العمل لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض فإنها في حكم الحديث الواحد، فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها وبالله التوفيق. وفيه جواز الحلف بغير تحليف، ويستحب إذا كان لمصلحة كتأكيد أمر مهم وتحقيقه ونفي المجاز عنه. وفي قوله في بعض طرقه والذي نفس محمد بيده تعبير الإنسان عن نفسه باسمه دون ضميره، وقد ثبت بالضمير في الطريق الأخرى "والذي نفسي بيده" وفي الأول نوع تجريد، وفي الحلف بذلك زيادة في التأكيد لأن الإنسان إذا استحضر أن نفسه وهي أعز الأشياء عليه بيد الله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء استشعر الخوف منه فارتدع عن الحلف على ما لا يتحققه، ومن ثم شرع تغليظ الأيمان بذكر الصفات الإلهية ولا سيما صفات الجلال. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الخير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيء من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه، وإما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك منه لتقييده في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في كتاب التمني بقوله: "أجد من يقبله" ومنه يؤخذ جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد من يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله ويجتهد في حصول من يأخذه، فإن لم يجد فلا حرج عليه ولا ينسب إلى تقصير في حبسه. وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع. وفيه جواز الاستقراض وقيده ابن بطال باليسير أخذا من قوله: "إلا دينارا" قال ولو كان عليه أكثر من ذلك لم يرصد لأدائه دينارا واحدا لأنه كان أحسن الناس قضاء. قال ويؤخذ من هذا أنه لا ينبغي الاستغراق في الدين بحيث لا يجد له وفاء فيعجز عن أدائه، وتعقب بأن الذي فهمه من لفظ الدينار من الوحدة ليس كما فهم، بل إنما المراد به الجنس، وأما قوله في الرواية الأخرى "ثلاثة دنانير" فليست الثلاثة فيه للتقليل بل للمثال أو لضرورة الواقع، وقد قيل إن المراد بالثلاثة أنها كانت كفايته فيما يحتاج إلى إخراجه في ذلك اليوم، وقيل بل هي دينار الدين كما في الرواية الأخرى ودينار للإنفاق على الأهل ودينار للإنفاق على الضيف، ثم المراد بدينار الدين الجنس ويؤيده تعبيره في أكثر الطرق بالشيء على الإبهام فيتناول القليل

(11/270)


والكثير. وفي الحديث أيضا الحث على وفاء الديون وأداء الأمانات وجواز استعمال "لو" عند تمني الخير وتخصيص الحديث الوارد عن استعمال "لو" على ما يكون في أمر غير محمود شرعا. وادعى المهلب أن قوله في رواية الأحنف عن أبي ذر "أتبصر أحدا؟ قال فنظرت ما عليه من الشمس" الحديث أنه ذكر للتمثيل في تعجيل إخراج الزكاة وأن المراد ما أحب أن أحبس ما أوجب الله على إخراجه بقدر ما بقي من النهار، وتعقبه عياض فقال: هو بعيد في التأويل، وإنما السياق بين في أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينبه على عظم أحد ليضرب به المثل في أنه لو كان قدره ذهبا ما أحب أن يؤخر عنده إلا لما ذكر من الإنفاق والإرصاد، فظن أبو ذر يريد أن يبعثه في حاجة ولم يكن ذاك مرادا إذ ذاك كما تقدم. وقال القرطبي: إنما استفهمه عن رؤيته ليستحضر قدره حتى يشبه له ما أراد بقوله: "إن لي مثله ذهبا". وقال عياض: قد يحتج به من يفضل للفقر على الغنى، وقد يحتج به من يفضل الغنى على الفقر، ومأخذ كل منهما واضح من سياق الخبر. وفيه الحض على إنفاق المال في الحياة وفي الصحة وترجيحه على إنفاقه عند الموت، وقد مضى فيه حديث:" أن تصدق وأنت صحيح شحيح" وذلك أن كثيرا من الأغنياء يشح بإخراج ما عنده ما دام في عافية فيأمل البقاء ويخشى الفقر، فمن خالف شيطانه وقهر نفسه إيثارا لثواب الآخرة فاز، ومن بخل بذلك لم يأمن الجور في الوصية، وإن سلم لم يأمن تأخير تنجيز ما أوصى به أو تركه أو غير ذلك من الآفات ولا سيما إن خلف وارثا غير موفق فيبذره في أسرع وقت ويبقى وباله على الذي جمعه، والله المستعان.

(11/271)


15 - باب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ .
وَقال اللَّه تَعَالَى {أَيَحْسِبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ -إلى قوله تَعالى- مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَعْمَلُوهَا لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا
6446- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"
قوله: "باب" بالتنوين "الغنى غنى النفس" أي سواء كان المتصف بذلك قليل المال أو كثيره، والغنى بكسر أوله مقصور وقد مد في ضرورة الشعر، وبفتح أوله مع المد هو الكفاية. قوله: "وقال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ - إلى قوله: هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} في رواية أبي ذر "إلى {عَامِلُونَ} وهذه رأس الآية التاسعة من ابتداء الآية المبدأ بها هنا، والآيات التي بين الأولى والثانية وبين الأخيرة والتي قبلها اعترضت في وصف المؤمنين، والضمير قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} للمذكورين في قوله: "نمدهم" والمراد به من ذكر قبل ذلك في قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} والمعنى: أيظنون أن المال الذي نرزقهم إياه لكرامتهم علينا؟ إن ظنوا ذلك اخطئوا، بل هو استدراج كما قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} والإشارة في قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} أي من الاستدراج المذكور. وأما قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فالمراد به ما يستقبلون من الأعمال من كفر أو إيمان، وإلى ذلك أشار ابن عيينة في تفسيره بقوله: لم يعملوها لا بد أن يعلموها، وقد سبقه إلى مثل ذلك أيضا السدي وجماعة فقالوا: المعنى كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لتحق عليهم كلمة العذاب. ثم مناسبة الآية

(11/271)


للحديث أن خيرية المال ليست لذاته بل بحسب ما يتعلق به وإن كان يسمى خيرا في الجملة، وكذلك صاحب المال الكثير ليس غنيا لذاته بل بحسب تصرفه فيه. فإن كان في نفسه غنيا لم يتوقف في صرفه في الواجبات والمستحبات من وجوه البر والقربات، وإن كان في نفسه فقيرا أمسكه وامتنع من بذله فيما أمر به خشية من نفاده، فهو في الحقيقة فقير صورة ومعنى وإن كان المال تحت يده، لكونه لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الأخرى، بل ربما كان وبالا عليه. قوله: "حدثنا أبو بكر" هو ابن عياش بمهملة وتحتانية ثم معجمة، وهو القارئ المشهور.وأبو حصين بفتح أوله اسمه عثمان. والإسناد كله كوفيون إلى أبي هريرة. قوله: "عن كثرة العرض" بفتح المهملة والراء ثم ضاد معجمة، أما عن فهي سببية، وأما العرض فهو ما ينتفع به من متاع الدنيا، ويطلق بالاشتراك على ما يقابل الجوهر وعلى كل ما يعرض للشخص من مرض ونحوه. وقال أبو عبد الملك البوني فيما نقله ابن التين عنه قال: اتصل بي عن شيخ من شيوخ القيروان أنه قال: العرض بتحريك الراء الواحد من العروض التي يتجر فيها، قال: وهو خطأ، فقد قال الله تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} ولا خلاف بين أهل اللغة في أنه ما يعرض فيه، وليس هو أحد العروض التي يتجر فيها بل واحدها عرض بالإسكان وهو ما سوى النقدين. وقال أبو عبيد: العروض الأمتعة وهي ما سوى الحيوان والعقار وما لا يدخله كيل ولا وزن، وهكذا حكاه عياض وغيره. وقال ابن فارس: العرض بالسكون كل ما كان من المال غير نقد وجمعه عروض، وأما بالفتح فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} وقال: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . قوله: "إنما الغنى غنى النفس" في رواية الأعرج عن أبي هريرة عند أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما: "إنما الغنى في النفس" وأصله في مسلم، ولابن حبان من حديث أبي ذر "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم. قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" قال ابن بطال معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني. وقال القرطبي: معنى الحديث إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس ويصغر قدره عندهم فيكون أحقر من كل حقير وأذل من كل ذليل. والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلح في الطلب ولا يحلف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبدا، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أعطى بل هو أبدا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال لأنه لم يستغن بما أعطى، فكأنه ليس بغنى، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعال والتسليم لأمره علما بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن الحرض والطلب، وما أحسن قول القائل:
غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا

(11/272)


وقال الطيبي: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وإلى ذلك أشار القائل:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات، لا في جمع المال فإنه لا يزداد بذلك إلا فقرا انتهى. وهذا وإن كان يمكن أن يراد لكن الذي تقدم أظهر في المراد، وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكره على نعمائه ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غيره وبه تعالى، والغنى الوارد في قوله: "ووجدك عائلا فأغنى" يتنزل على غنى النفس، فإن الآية مكية ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال. والله أعلم.

(11/273)


16 - باب فَضْلِ الْفَقْرِ
6447- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا"
6448- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ "عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الإِذْخِرِ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
6449- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ وَقَالَ صَخْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
6450- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَأْكُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ"

(11/273)


6451- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ
قوله: "باب فضل الفقر" قيل أشار بهذه الترجمة عقب التي قبلها إلى تحقيق محل الخلاف في تفضيل الفقر على الغنى أو عكسه، لأن المستفاد من قوله: "الغنى غنى النفس" الحصر في ذلك، فيحمل كل ما ورد في فضل الغنى على ذلك، فمن لم يكن غني النفس لم يكن ممدوحا بل يكون مذموما فكيف يفضل، وكذا ما ورد من فضل الفقر لأن من لم يكن غني النفس فهو فقير النفس، وهو الذي تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه.والفقر الذي وقع فيه النزاع عدم المال والتقلل منه، وأما الفقر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فالمراد به احتياج المخلوق إلى الخالق، فالفقر للمخلوقين أمر ذاتي لا ينفكون عنه، والله هو الغني ليس بمحتاج لأحد. ويطلق الفقر أيضا على شيء اصطلح عليه الصوفية وتفاوتت فيه عباراتهم وحاصله كما قال أبو إسماعيل الأنصاري نفض اليد من الدنيا ضبطا وطلبا، مدحا وذما. وقالوا: إن المراد بذلك أن لا يكون ذلك في قلبه سواء حصل في يده أم لا، وهذا يرجع إلى ما تضمنه الحديث الماضي في الباب قبله أن الغنى غنى النفس على ما تقدم تحقيقه، والمراد بالفقر هنا الفقر من المال. وقد تكلم ابن بطال هنا على مسألة التفضيل بين الغنى والفقر فقال: طال نزاع الناس في ذلك، فمنهم من فضل الفقر واحتج بأحاديث الباب وغيرها من الصحيح والواهي، واحتج من فضل الغنى بما تقدم قبل هذا بباب في قوله: "إن المكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا" وحديث سعد الماضي في الوصايا "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" وحديث كعب ابن مالك حيث استشار في الخروج من ماله كله فقال: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" وحديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور" وفي آخره: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وحديث عمرو بن العاص "نعم المال الصالح للرجل الصالح" أخرجه مسلم وغير ذلك قال: وأحسن ما رأيت في هذا قول أحمد بن نصر الداودي: الفقر والغنى محنتان من الله يختبر بهما عباده في الشكر والصبر كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يستعيذ من شر فتنة الفقر ومن شر فتنة الغنى" ثم ذكر كلاما طويلا حاصله أن الفقير والغنى متقابلان لما يعرض لكل منهما في فقره وغناه من العوارض فيمدح أو يذم والفضل كله في الكفاف لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وسيأتي قريبا، وعليه يحمل قوله: "أسالك غناي وغنى هؤلاء". وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا" الحديث فهو ضعيف وعلى تقدير ثبوته فالمراد به أن لا يجاوز به الكفاف. انتهى ملخصا. وممن جنح إلى تفضيل الكفاف القرطبي في "المفهم" فقال: جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث: الفقر والغنى والكفاف، فكان الأول أول حالاته فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس، ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله، وهي صورة الكفاف التي

(11/274)


مات عليها. قال: وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم، وأيضا فصاحبها معدود في الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا؛ بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة انتهى. ويؤيده ما تقدم من الترغيب في غنى النفس، وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رفعه: "وارض بما قسم لك تكن أغنى الناس" وأصح ما ورد في ذلك ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه: "قد أفلح من هدي إلى الإسلام، ورزق الكفاف وقنع" وله شاهد عن فضالة بن عبيد نحوه عند الترمذي وابن حبان وصححاه قال النووي: فيه فضيلة هذه الأوصاف، والكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان. وقال القرطبي: هو ما يكف عن الحاجات ويدفع للضرورات ولا يلحق بأهل الترفهات، ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا. وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال، وقد قال: "خير الأمور أوساطها" انتهى. ويؤيده ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد" بسند صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قليل العمل قليل الذنوب أفضل، أو رجل كثير العمل كثير الذنوب؟ فقال: "لا أعدل بالسلامة شيئا" فمن حصل له ما يكفيه واقتنع به أمن من آفات الغنى وآفات الفقر، وقد ورد حديث لو صح لكان نصا في المسألة وهو ما أخرجه ابن ماجه من طريق نفيع - وهو ضعيف - عن أنس رفعه: "ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا" قلت: وهذا كله صحيح، لكن لا يدفع أصل السؤال عن أيهما أفضل: الغنى أو الفقر؟ لأن النزاع إنما ورد في حق من اتصف بأحد الوصفين أيهما في حقه أفضل؟ ولهذا قال الداودي في آخر كلامه المذكور أولا: إن السؤال أيهما أفضل لا يستقيم، لاحتمال أن يكون لأحدهما من العمل الصالح ما ليس للآخر، فيكون أفضل، وإنما يقع السؤال عنهما إذا استويا بحيث يكون لكل منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، قال: فعلم أيهما أفضل عند الله انتهى.وكذا قال ابن تيمية، لكن قال: إذا استويا في التقوى فهما في الفضل سواء.وقد تقدم كلام ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أهل الدثور قبيل كتاب الجمعة، ومحصل كلامه أن الحديث يدل على تفضيل الغنى على الفقر لما تضمنه من زيادة الثواب بالقرب المالية. إلا إن فسر الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي حصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ولهذا المعنى ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى انتهى. وقال ابن الجوزي: صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص وغني ليس بممسك إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني البخيل، وأن الغني المنفق أفضل من الفقير الحريص، قال: وكل ما يراد لغيره ولا يراد لعينه ينبغي أن يضاف إلى مقصوده فبه يظهر فضله. فالمال ليس محذورا لعينه بل لكونه قد يعوق عن الله وكذا العكس، فكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شغله فقره عن الله. إلى أن قال: وإن أخذت بالأكثر فالفقير عن الخطر أبعد لأن فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر، ومن العصمة أن لا تجد، انتهى. وصرح كثير من الشافعية بأن الغنى الشاكر أفضل، وأما قول أبي علي الدقاق شيخ أبي القاسم القشيري: الغني أفضل من الفقير، لأن الغنى صفة الخالق والفقر صفة

(11/275)


المخلوق وصفة الحق أفضل من صفة الخلق فقد استحسنه جماعة من الكبار، وفيه نظر لما قدمته أول الباب، ويظهر منه أن هذا لا يدخل في أصل النزاع إذ ليس هو في ذات الصفتين وإنما هو في عوارضهما. وبين بعض من فضل الغني على الفقير كالطبري جهته بطريق أخرى فقال: لا شك أن محنة الصابر أشد من محنة الشاكر غير أني أقول كما قال مطرف بن عبد الله: لأن أعافي فأشكر أحب إلي من أن أبتلي فأصبر. قلت: وكأن السبب فيه ما جبل عليه طبع الآدمي من قلة الصبر، ولهذا يوجد من يقوم بحسب الاستطاعة بحق الصبر أقل ممن يقوم بحق الشكر بحسب الاستطاعة. وقال بعض المتأخرين فيما وجد بخط أبي عبد الله بن مرزوق: كلام الناس في أصل المسألة مختلف، فمنهم من فضل الفقر ومنهم من فضل الغنى ومنهم من فضل الكفاف وكل ذلك خارج عن محل الخلاف وهو أي الحالين أفضل عند الله للعبد حتى يتكسب ذلك ويتخلق به؟ هل التقلل من المال أفضل ليتفرغ قلبه من الشواغل وينال لذة المناجاة ولا ينهمك في الاكتساب ليستريح من طول الحساب، أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر به من التقرب بالبر والصلة والصدقة لما في ذلك من النفع المتعدي؟ قال: وإذا كان الأمر كذلك فالأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه من التقلل في الدنيا والبعد عن زهراتها، ويبقى النظر فيمن حصل له شيء من الدنيا بغير تكسب منه كالميراث وسهم الغنيمة هل الأفضل أن يبادر إلى إخراجه في وجوه البر حتى لا يبقى منه شيء، أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدي؟ قال: وهو على القسمين الأولين. قلت: ومقتضى ذلك أن يبذل إلى أن يبقى في حال الكفاف ولا يضره ما يتجدد من ذلك إذا سلك هذه الطريقة. ودعوى أن جمهور الصحابة كانوا على التقلل والزهد ممنوعة بالمشهور من أحوالهم، فإنهم كانوا على قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح، فمنهم من أبقى ما بيده مع التقرب إلى ربه بالبر والصلة والمواساة مع الاتصاف بغنى النفس، ومنهم من استمر على ما كان عليه قبل ذلك فكان لا يبقى شيئا مما فتح عليه به وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى، ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك، فأخبارهم في ذلك لا تحصى كثرة، وحديث خباب في الباب شاهد لذلك. والأدلة الواردة في فضل كل من الطائفتين كثيرة: فمن الشق الأول بعض أحاديث الباب وغيرها، ومن الشق الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه: "إن الله يحب الغني التقي الخفي" أخرجه مسلم، وهو دال لما قلته سواء حملنا الغني فيه على المال أو على غنى النفس، فإنه على الأول ظاهر وعلى الثاني يتناول القسمين فيحصل المطلوب. والمراد بالتقي وهو بالمثناة من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به واجتنابا للمنهي عنه، والخفي ذكر للتتميم إشارة إلى ترك الرياء والله أعلم. ومن المواضع التي وقع فيها التردد من لا شيء له فالأولى في حقه أن يتكسب للصون عن ذل السؤال، أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة، فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه أنه قال لمن سأله عن ذلك: الزم السوق. وقال لآخر: استغن عن الناس، فلم أر مثل الغنى عنهم. وقال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله وأن يعودوا أنفسهم التكسب، ومن قال بترك التكسب فهو أحمق يريد تعطيل الدنيا. نقله عنه أبو بكر المروزي. وقال: أجرة التعليم والتعلم أحب إلي من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس. وقال أيضا: من جلس ولم يحترف دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس. وأسند عن عمر "كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس" وأسند عن سعيد بن المسيب أنه قال عند موته وترك مالا "اللهم إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني" وعن سفيان الثوري وأبي سليمان الداراني ونحوهما من السلف نحوه، بل نقله البربهاري عن الصحابة والتابعين وأنه

(11/276)


لا يحفظ عن أحد منهم أنه ترك تعاطي الرزق مقتصرا على ما يفتح عليه. واحتج من فضل الغنى بآية الأمر في قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الآية قال: وذلك لا يتم إلا بالمال. وأجاب من فضل الفقر بأنه لا مانع أن يكون الغنى في جانب أفضل من الفقر في حالة مخصوصة، ولا يستلزم أن يكون أفضل مطلقا وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما صرح به أبو نعيم، وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا"؟ تقدم في "باب الأكفاء في الدين" من أوائل النكاح عن إبراهيم بن حمزة عن أبي حازم "فقال ما تقولون في هذا" وهو خطاب لجماعة. ووقع في رواية جبير بن نفير عن أبي ذر عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان بلفظ: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى أرفع رجل في المسجد في عينيك، قال فنظرت إلى رجل في حلة" الحديث، فعرف منه أن المسئول هو أبو ذر، ويجمع بينه وبين حديث سهل أن الخطاب وقع لجماعة منهم أبو ذر ووجه إليه فأجاب ولذلك نسبه لنفسه، وأما المار فلم أقف على اسمه، ووقع في رواية أخرى لابن حبان: "سألني رسول صلى الله عليه وسلم عن رجل من قريش فقال: هل تعرف فلانا؟ قلت: نعم" الحديث ووقع في المغازي لابن إسحاق ما قد يؤخذ منه أنه عيينة بن حصن الفزاري أو الأقرع بن حابس التميمي كما سأذكره. قوله: "فقال" أي المسئول. قوله: "رجل من أشراف الناس" أي هذا رجل من أشراف الناس، ووقع كذلك عند ابن ماجه عن محمد ابن الصباح عن أبي حازم. قوله: "هذا والله حري" بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وتشديد آخره، أي جدير وحقيق وزنا ومعنى، ووقع في رواية إبراهيم بن حمزة "قالوا حرى". قوله: "إن خطب أن ينكح" بضم أوله وفتح ثالثه أي تجاب خطبته "وإن شفع أن يشفع" بتشديد الفاء أي تقبل شفاعته، وزاد إبراهيم بن حمزة في روايته: "وإن قال أن يستمع" وفي رواية ابن حبان: "إذا سأل أعطى وإذا حضر أدخل". قوله: "ثم مر رجل" زاد إبراهيم "من فقراء المسلمين" وفي رواية ابن حبان: "مسكين من أهل الصفة". قوله: "هذا خير من ملء" بكسر الميم وسكون اللام مهموز. قوله: "مثل" بكسر اللام ويجوز فتحها، قال الطيبي: وقع التفضيل بينهما باعتبار مميزه وهو قوله بعد هذا لأن البيان والمبين شيء واحد، زاد أحمد وابن حبان: "عند الله يوم القيامة" وفي رواية ابن حبان الأخرى "خير من طلاع الأرض من الآخر" وطلاع بكسر المهملة وتخفيف اللام وآخره مهملة أي ما طلعت عليه الشمس من الأرض كذا قال عياض. وقال غيره: المراد ما فوق الأرض، وزاد في آخر هذه الرواية: "فقلت يا رسول الله أفلا يعطي هذا كما يعطي الآخر؟ قال: إذا أعطى خيرا فهو أهله وإذا صرف عنه فقد أعطى حسنة" وفي رواية أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر فيما أخرجه محمد بن هارون الروياني في مسنده وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" ومحمد ابن الربيع الجيزي في "مسند الصحابة الذين نزلوا مصر" ما يؤخذ منه تسمية المار الثاني ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كيف ترى جعيلا؟ قلت: مسكينا كشكله من الناس، قال: فكيف ترى فلانا؟ قلت: سيدا من السادات، قال: فيجعل خير من ملء الأرض مثل هذا. قال فقلت يا رسول الله ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع؟ قال: إنه رأس قومه فأتألفهم" . وذكر ابن إسحاق في المغازي عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا أو معضلا قال: "قيل يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيلا. قال: والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفهما وأكل جعيلا إلى إيمانه" ولجعيل المذكور ذكر في حديث أخيه عوف

(11/277)


بن سراقة في غزوة بني قريظة وفي حديث العرباض بن سارية في غزوة تبوك، وقيل فيه جعال بكسر أوله وتخفيف ثانيه ولعله صغر وقيل بل هما أخوان. وفي الحديث بيان فضل جعيل المذكور وأن السيادة بمجرد الدنيا لا أثر لها، وإنما الاعتبار في ذلك بالآخرة كما تقدم "أن العيش عيش الآخرة" وأن الذي يفوته الحظ من الدنيا يعاض عنه بحسنة الآخرة ففيه فضيلة للفقر كما ترجم به، لكن لا حجة فيه لتفضيل الفقير على الغني قال ابن بطال لأنه إن كان فضل عليه لفقره فكان ينبغي أن يقول: خير من ملء الأرض مثله لا فقير فيهم، وإن كان لفضله فلا حجة فيه. قلت يمكنهم أن يلتزموا الأول والحيثية مرعية، لكن تبين من سياق طرق القصة أن جهة تفضيله إنما هي لفضله بالتقوى وليست المسألة مفروضة في فقير متق وغني غير متق بل لا بد من استوائهما أولا في التقوى، وأيضا فما في الترجمة تصريح بتفضيل الفقر على الغنى، إذ لا يلزم من ثبوت فضيلة الفقر أفضليته، وكذلك لا يلزم من ثبوت أفضلية فقير على غني أفضلية كل فقير على كل غني. حديث خباب بن الأرت، وقد تقدم بعض شرحه في الجنائز فيما يتعلق بالكفر ونحو ذلك، وذكر في موضعين من الهجرة، وأحلت بشرحه على المغازي فلم يتفق ذلك ذهولا. قوله: "حدثنا الحميدي حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "عن الأعمش" وقع في أوائل الهجرة بهذا السند سواء "حدثنا الأعمش". قوله: "عدنا" بضم المهملة من العيادة. قوله: "هاجرنا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة" أي بأمره وإذنه، أو المراد بالمعية الاشتراك في حكم الهجرة إذ لم يكن معه حسا إلا الصديق وعامر بن فهيرة. قوله: "نبتغي وجه الله" أي جهة ما عنده من الثواب لا جهة الدنيا. قوله: "فوقع" في رواية الثوري كما مضى في الهجرة عن الأعمش "فوجب" وإطلاق الوجوب على الله بمعنى إيجابه على نفسه بوعده الصادق وإلا فلا يجب على الله شيء. قوله: "أجرنا على الله" أي إثابتنا وجزاؤنا. قوله: "لم يأكل من أجره شيئا" أي من عرض الدنيا، وهذا مشكل على ما تقدم من تفسير ابتغاء وجه الله، ويجمع بأن إطلاق الأجر على المال في الدنيا بطريق المجاز بالنسبة لثواب الآخرة؛ وذلك أن القصد الأول هو ما تقدم لكن منهم من مات قبل الفتوح كمصعب بن عمير ومنهم من عاش إلى أن فتح عليهم، ثم انقسموا فمنهم من أعرض عنه وواسى به المحاويج أولا فأولا بحيث بقي على تلك الحالة الأولى وهم قليل منهم أبو ذر، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول، ومنهم من تبسط في بعض المباح فيما يتعلق بكثرة النساء والسراري أو الخدم والملابس ونحو ذلك ولم يستكثر وهم كثير ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد فاستكثر بالتجارة وغيرها مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة وهم كثير أيضا منهم عبد الرحمن بن عوف، وإلى هذين القسمين أشار خباب، فالقسم الأول وما التحلق به توفر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر أنه يحسب عليهم ما وصل إليهم من مال الدنيا من ثوابهم في الآخرة، ويؤيده ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "ما من غازية تغزو فتغنم وتسلم إلا تعجلوا ثلثي أجرهم" الحديث، ومن ثم آثر كثير من السلف قلة المال وقنعوا به إما ليتوفر لهم ثوابهم في الآخرة وإما ليكون أقل لحسابهم عليه. قوله: "منهم مصعب بن عمير" بصيغة التصغير هو ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وكان يكنى أبا عبد الله، من السابقين إلى الإسلام وإلى هجرة المدينة. قال البراء: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان القرآن أخرجه المصنف في أوائل الهجرة، وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله مع أهل العقبة الأولى يقرئهم ويعلمهم، وكان مصعب وهو

(11/278)


بمكة في ثروة ونعمة فلما هاجر صار في قلة، فأخرج الترمذي من طريق محمد بن كعب حدثني من سمع عليا يقول: "بينما نحن في المسجد إذ دخل علينا مصعب بن عمير وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفروة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه للذي كان فيه من النعم والذي هو فيه اليوم". قوله: "قتل يوم أحد" أي شهيدا، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثبت ذلك في مرسل عبيد بن عمير بسند صحيح عند ابن المبارك في كتاب الجهاد.قوله: "وترك نمرة" بفتح النون وكسر الميم ثم راء هي إزار من صوف مخطط أو بردة. قوله: "أينعت" بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح النون والمهملة أي انتهت واستحقت القطف، وفي بعض الروايات ينعت بغير ألف وهي لغة، قال القزاز وأينعت أكثر. قوله: "فهو يهدبها" بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر المهملة ويجوز ضمها بعدها موحدة أي يقطفها. قال ابن بطال: في الحديث ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم. وفيه أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار. وفيه أن الكفن يكون ساترا لجميع البدن وأن الميت يصير كله عورة، ويحتمل أن يكون ذلك بطريق الكمال، وقد تقدم سائر ما يتعلق بذلك في كتاب الجنائز. ثم قال ابن بطال: ليس في حديث خباب تفضيل الفقير على الغني، وإنما فيه أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها ولا نعمة يتعجلونها وإنما كانت لله خالصة ليثيبهم عليها في الآخرة فمن مات منهم قبل فتح البلاد توفر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خشي أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم، وكانوا على نعيم الآخرة أحرص. قوله: "سلم" بفتح المهملة وسكون اللام "ابن زرير" بزاي ثم راء وزن عظيم، وأبو رجاء هو العطاردي، وقد تقدم بهذا السند والمتن في صفة الجنة من بدء الخلق، ويأتي شرحه في صفة الجنة والنار من كتاب الرقاق هذا. قوله: "تابعه أيوب وعوف. وقال حماد بن نجيح وصخر عن أبي رجاء عن ابن عباس" أما متابعة أيوب فوصلها النسائي وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب النكاح. وأما متابعة عوف فوصلها المؤلف في كتاب النكاح. وأما متابعة حماد بن نجيح -وهو الإسكاف- البصري فوصلها النسائي من طريق عثمان بن عمر بن فارس عنه، وليس له في الكتابين سوى هذا الحديث الواحد، وقد وثقه وكيع وابن معين وغيرهما. وأما متابعة صخر -وهو ابن جويرية- فوصلها النسائي أيضا من طريق المعافي بن عمران عنه وابن منده في كتاب التوحيد من طريق مسلم بن إبراهيم حدثنا صخر بن جويرية وحماد بن نجيح قالا حدثنا أبو رجاء، وقد وقعت لنا بعلو في "الجعديات" من رواية على بن الجعد عن صخر قال سمعت أبا رجاء حدثنا ابن عباس به، قال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق عوف: وقال أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس، وكلا الإسنادين ليس فيه مقال، ويحتمل أن يكون عن أبي رجاء عند كل منهما. وقال الخطيب في "المدرج": روى هذا الحديث أبو داود الطيالسي عن أبي الأشهب وجرير بن حازم وسلم بن زرير وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن عمران وابن عباس به، ولا نعلم أحدا جمع بين: هؤلاء فإن الجماعة رووه عن أبي رجاء عن ابن عباس، وسلم إنما رواه عن أبي رجاء عن عمران، ولعل جريرا كذلك، وقد جاءت الرواية عن أيوب عن أبي رجاء بالوجهين، ورواه سعيد بن أبي عروبة عن فطر عن أبي رجاء عن عمران، فالحديث عن أبي رجاء عنهما والله أعلم. قال ابن بطال: ليس قوله: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء" يوجب فضل الفقير على الغني، وإنما معناه أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء فأخبر عن ذلك كما تقول أكثر أهل الدنيا الفقراء إخبارا عن الحال، وليس

(11/279)


الفقر أدخلهم الجنة وإنما دخلوا بصلاحهم مع الفقر، فإن الفقير إذ لم يكن صالحا لا يفضل. قلت: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من الدنيا كما أن فيه تحريض النساء على المحافظة على أمر الدين لئلا يدخلن النار كما تقدم تقرير ذلك في كتاب الإيمان في حديث: "تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قيل: بم؟ قال: بكفرهن، قيل يكفرن بالله؟ قال: يكفرون بالإحسان". قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن محمد بن عمرو بن الحجاج. قوله: "عن أنس" في رواية همام عن قتادة "كنا نأتي أنس بن مالك" وسيأتي في الباب الذي بعده. قوله: "على خوان" بكسر المعجمة وتخفيف الواو وتقدم شرحه في كتاب الأطعمة. قوله: "وما أكل خبزا مرققا حتى مات" قال ابن بطال: تركه عليه الصلاة والسلام الأكل على الخوان وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة، والمال إنما يرغب فيه ليستعان به على الآخرة فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المال من هذا الوجه. وحاصله أن الخبر لا يدل على تفضيل الفقر على الغنى بل يدل على فضل القناعة والكفاف وعدم التبسط في ملاذ الدنيا، ويؤيده حديث ابن عمر "لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته، وإن كان عند الله كريما" أخرجه ابن أبي الدنيا قال المنذري وسنده جيد والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الله بن أبي شيبة" هو أبو بكر وأبو شيبة جده لأبيه وهو ابن محمد بن أبي شيبة واسمه إبراهيم، أصله من واسط وسكن الكوفة وهو أحد الحفاظ الكبار، وقد أكبر عنه المصنف وكذا مسلم لكن مسلم يكنيه دائما والبخاري يسميه وقل أن كناه. قوله: "وما في بيتي شيء إلخ" لا يخالف ما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث المصطلقي "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارا ولا درهما ولا شيئا" لأن مراده بالشيء المنفى ما تخلف عنه مما كان يختص به، وأما الذي أشارت إليه عائشة فكان بقية نفقتها التي تختص بها فلم يتحد الموردان. قوله: "يأكله ذو كبد" شمل جميع الحيوان وانتفى جميع المأكولات. قوله: "إلا شطر شعير" المراد بالشطر هنا البعض، والشطر يطلق على النصف وعلى ما قاربه وعلى الجهة وليست مرادة هنا، ويقال أرادت نصف وسق. قوله: "في رف لي" قال الجوهري الرف شبه الطاق في الحائط. وقال عياض: الرف خشب يرتفع عن الأرض في البيت يوضع فيه ما يراد حفظه. قلت: والأول أقرب للمراد. قوله: "فأكلت منه حتى طال علي، فكلته" بكسر الكاف "ففني" أي فرغ. قال ابن بطال حديث عائشة هذا في معنى حديث أنس في الأخذ من العيش بالاقتصاد وما يسد الجوعة. قلت: إنما يكون كذلك لو وقع بالقصد إليه، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه، وقد روى البيهقي من وجه أخر عن عائشة قالت: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه" ، وأما قولها "فكلته ففني" قال ابن بطال: فيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلوما للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة لأنه غير معلوم مقداره. قلت: في تعميم كل الطعام بذلك نظر، والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر الذي أذكره آخر الباب، ووقع مثل ذلك في مزود أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والبيهقي في "الدلائل" من طريق أبي العالية عن أبي هريرة "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت: ادع لي فيهن

(11/280)


بالبركة، قال فقبض ثم دعا ثم قال: خذهن فاجعلهن في مزود فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ ولا تنثر بهن نثرا، فحملت من ذلك كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل ونطعم وكان المزود معلقا بحقوي لا يفارقه، فلما قتل عثمان انقطع" وأخرجه البيهقي أيضا من طريق سهل ابن زياد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة مطولا وفيه: "فأدخل يدك فخذ ولا تكفئ فيكفأ عليك" ومن طريق يزيد بن أبي منصور عن أبيه عن أبي هريرة نحوه، ونحوه ما وقع في عكة المرأة وهو ما أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر "أن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنا فيأتيها بنوها فيسألون الأدم فتعمد إلى العكة فتجد فيها سمنا فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو تركتها ما زال قائما" وقد استشكل هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام وترتيب البركة على ذلك كما تقدم في البيوع من حديث المقدام بن معد يكرب بلفظ: "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه" ، وأجيب بأن الكيل عند المبايعة مطلوب من أجل تعلق حق المتبايعين فلهذا القصد يندب، وأما الكيل عند الإنفاق فقد يبعث عليه الشح فلذلك كره، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم" قال القرطبي: سبب رفع النماء من ذلك عند العصر والكيل -والله أعلم- الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته كثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة. ويستفاد منه أن من رزق شيئا أو أكرم بكرامة أو لطف به في أمر ما فالمتعين عليه موالاة الشكر ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغييرا والله أعلم.

(11/281)


باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم تعن الدنيا
...
17 - باب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ عنْ الدُّنْيَا
6452- حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ أَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لاَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لاَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ قَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً

(11/281)


أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ اشْرَبْ فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ"
6453- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ "سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ إِنِّي لاَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلاَمِ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي"
6454- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ"
6455- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ الأَزْرَقُ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ هِلاَلٍ الْوَزَّانِ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ"
6456- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ"
6457- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ وَقَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ"
6458- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ"

(11/282)


6459- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ"
6460- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا"
قوله: "باب" بالتنوين "كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه"؟ أي في حياته "وتخليهم عن الدنيا" أي عن ملاذها والتبسط فيها. قوله: "حدثنا أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث" قال الكرماني: يستلزم أن يكون الحديث بغير إسناد يعني غير موصول، لأن النصف المذكور مبهم لا يدري أهو الأول أو الثاني. قلت: يحتمل أيضا أن يكون قدر النصف الذي حدثه به أبو نعيم ملفقا من الحديث المذكور، والذي يتبادر من الإطلاق أنه النصف الأول، وقد جزم مغلطاي وبعض شيوخنا، أن القدر المسموع له منه هو الذي ذكره في "باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن" من كتاب الاستئذان حيث قال: "حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن ذر ح، وأخبرنا محمد بن مقاتل أنبأنا عبد الله هو ابن المبارك أنبأنا عمر بن ذر أنبأنا مجاهد عن أبي هريرة قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح فقال: أبا هر الحق أهل الصفة فادعهم إلي.قال فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا" قال مغلطاي: فهذا هو القدر الذي سمعه البخاري من أبي نعيم، واعترضه الكرماني فقال ليس هذا ثلث الحديث ولا ربعه فضلا عن نصفه. قلت: وفيه نظر من وجهين آخرين: أحدهما احتمال أن يكون هذا السياق لابن المبارك فإنه لا يتعين كونه لفظ أبي نعيم، ثانيهما أنه منتزع من أثناء الحديث فإنه ليس فيه القصة الأولى المتعلقة بأبي هريرة ولا ما في آخره من حصول البركة في اللبن إلخ. نعم، المحرر قول شيخنا في "النكت على ابن الصلاح" ما نصه: القدر المذكور في الاستئذان بعض الحديث المذكور في الرقاق، قلت: فهو مما حدثه به أبو نعيم سواء كان بلفظه أم بمعناه، وأما باقيه الذي لم يسمعه منه فقال الكرماني إنه يصير بغير إسناد فيعود المحذور، كذا قال. وكأن مراده أنه لا يكون متصلا لعدم تصريحه بأن أبا نعيم حدثه به، لكن لا يلزم من ذلك محذور بل يحتمل كما قال شيخنا أن يكون البخاري حدث به عن أبي نعيم بطريق الوجادة أو الإجازة أو حمله عن شيخ آخر غير أبي نعيم، قلت: أو سمع بقية الحديث من شيخ سمعه من أبي نعيم، ولهذين الاحتمالين الأخيرين أوردته في "تعليق التعليق" فأخرجته من طريق علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم تاما ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" والبيهقي في "الدلائل" وأخرجه النسائي في "السنن الكبرى" عن أحمد بن يحيى الصوفي عن أبي نعيم بتمامه، واجتمع لي ممن سمعه من عمر بن ذر شيخ أبي نعيم أيضا جماعة: منهم روح بن عبادة أخرجه أحمد عنه وعلي بن مسهر ومن طريقه أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه ويونس بن بكير ومن طريقه أخرجه الترمذي والإسماعيلي والحاكم في المستدرك والبيهقي. وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة. ثم قال

(11/283)


الكرماني مجيبا عن المحذور الذي ادعاه ما نصه: اعتمد البخاري على ما ذكره في الأطعمة عن يوسف بن عيسى فإنه قريب من نصف هذا الحديث. فلعله أراد بالنصف هنا ما لم يذكره ثمة فيصير الكل مسندا بعضه عن يوسف وبعضه عن أبي نعيم قلت: سند طريق يوسف مغاير لطريق أبي نعيم إلى أبي هريرة فيعود المحذور بالنسبة إلى خصوص طريق أبي نعيم فإنه قال في أول كتاب الأطعمة "حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال أصابني جهد" فذكر سؤاله عمر عن الآية وذكر مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وفيه: "فانطلق بي إلى رحله فأمر لي بعس من لبن فشربت منه ثم قال عد" فذكره ولم يذكر قصة أصحاب الصفة ولا ما يتعلق بالبركة التي وقعت في اللبن، وزاد في آخره ما دار بين أبي هريرة وعمر وندم عمر على كونه ما استتبعه، فظهر بذلك المغايرة بين الحديثين في السندين، وأما المتن ففي أحد الطريقين ما ليس في الآخر لكن ليس في طريق أبي حازم من الزيادة كبير أمر، والله أعلم. قوله: "عمر بن ذر" بفتح المعجمة وتشديد الراء. قوله: "أن أبا هريرة كان يقول" في رواية روح ويونس بن بكير وغيرهما: "حدثنا مجاهد عن أبي هريرة". قوله: "الله الذي لا إله إلا هو" كذا للأكثر بحذف حرف الجر من القسم، وهو في روايتنا بالخفض، وحكى بعضهم جواز النصب. وقال ابن التين رويناه بالنصب.وقال ابن جني: إذا حذف حرف القسم نصب الاسم بعده بتقدير الفعل، ومن العرب من يجر اسم الله وحده مع حذف حرف الجر فيقول: الله لأقومن، وذلك لكثرة ما يستعملونه. قلت: وثبت في رواية روح ويونس بن بكير وغيرهما بالواو في أوله فتعين الجر فيه. قوله: "إن كنت" بسكون النون مخففة من الثقيلة، وقوله: "لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع" أي ألصق بطني بالأرض، وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شد الحجر على بطنه، أو هو كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشيا عليه كما وقع في رواية أبي حازم في أول الأطعمة "فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية" فذكره، قال: "فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي" الحديث. وفي حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة الآتي في كتاب الاعتصام "لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشيا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع" وعند ابن سعد من طريق الوليد بن رباح عن أبي هريرة "كنت من أهل الصفة، وإن كان ليغشى علي فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع" ومضى أيضا في مناقب جعفر من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة "وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني" وفيه: "كنت ألصق بطني بالحصى من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني" وزاد فيه الترمذي "وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله" قوله: "وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع" عند أحمد في طريق عبد الله بن شقيق "أقمت مع أبي هريرة سنة فقال: لو رأيتنا وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاما يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه" قال العلماء فائدة شد الحجر المساعدة على الاعتدال والانتصاب، أو المنع من كثرة التحلل من الغذاء الذي في البطن لكون الحجر بقدر البطن فيكون الضعف أقل، أو لتقليل حرارة الجوع ببرد الحجر، أو لأن فيه الإشارة إلى كسر النفس. وقال الخطابي أشكل الأمر في شد الحجر على البطن من الجوع على قوم فتوهموا أنه تصحيف، وزعموا أنه الحجز بضم أوله وفتح الجيم بعدها زاي جمع الحجزة التي يشد بها الوسط، قال: ومن أقام بالحجاز وعرف

(11/284)


عادتهم عرف أن الحجر واحد الحجارة.وذلك أن المجاعة تعتريهم كثيرا فإذا خوى بطنه لم يمكن معه الانتصاب فيعمد حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف أو أكبر فيربطها على بطن وتشد بعصابة فوقها فتعتدل قامته بعض الاعتدال، والاعتماد بالكبد على الأرض مما يقارب ذلك. قلت: سبقه إلى الإنكار المذكور أبو حاتم بن حبان في صحيحه، فلعله أشار إلى الرد عليه، وقد ذكرت كلامه وتعقبه في "باب التنكيل لمن أراد الوصال" من كتاب الصيام. قوله: "ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه" الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه ممن كان طريق منازلهم إلى المسجد متحدة. قوله: "فمر أبو بكر فسألته عن آية ما سألته إلا ليشبعني" بالمعجمة والموحدة من الشبع، ووقع في رواية الكشميهني: "ليستتبعني" بمهملة ومثناتين وموحدة أي يطلب مني أن أتبعه ليطعمني، وثبت كذلك في رواية روح وأكثر الرواة. قوله: "فمر ولم يفعل" أي الإشباع أو الاستتباع. قوله: "حتى مر بي عمر" يشير إلى أنه استمر في مكانه بعد ذهاب أبي بكر إلى أن مر عمر، ووقع في قصة عمر من الاختلاف في قوله: "ليشبعني" نظير ما وقع في التي قبلها، وزاد في رواية أبي حازم "فدخل داره وفتحها علي" أي قرأ الذي استفهمته عنه، ولعل العذر لكل من أبي بكر وعمر حمل سؤال أبي هريرة على ظاهره أو فهما ما أراده ولكن لم يكن عندهما إذ ذاك ما يطعمانه، لكن وقع في رواية أبي حازم من الزيادة أن عمر تأسف على عدم إدخاله أبا هريرة داره ولفظه: "فلقيت عمر فذكرت له وقلت له ولي الله ذلك من كان أحق به منك يا عمر" وفيه: "قال عمر والله لأن أكون أدخلتك أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم" فإن فيه إشعارا بأنه كان عنده ما يطعمه إذ ذلك فيرجح الاحتمال الأول، ولم يعرج على ما رمزه أبو هريرة من كنايته بذلك عن طلب ما يؤكل. وقد استنكر بعض مشايخنا ثبوت هذا عن أبي هريرة لاستبعاد مواجهة أبي هريرة لعمر بذلك، وهو استبعاد مستبعد. قوله: "ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي" استدل أبو هريرة بتبسمه صلى الله عليه وسلم على أنه عرف ما به، لأن التبسم تارة يكون لما يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه ولم تكن تلك الحال معجبة فقوى الحمل على الثاني. قوله: "وما في وجهي" كأنه عرف من حال وجهه ما في نفسه من احتياجه إلى ما يسد رمقه. ووقع في رواية علي بن مسهر وروح "وعرف ما في وجهي أو نفسي" بالشك. قوله: "ثم قال لي يا أبا هريرة" في رواية علي بن مسهر "فقال أبو هر" وفي رواية روح "فقال أبا هر" فأما النصب فواضح، وأما الرفع فهو على لغة من لا يعرف لفظ الكنية، أو هو للاستفهام أي أنت أبو هر؟ وأما قوله: "هر" فهو بتشديد الراء وهو من رد الاسم المؤنث إلى المذكر والمصغر إلى المكبر، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة تصغير هرة مؤنثا وأبو هر مذكر مكبر، وذكر بعضهم أنه يجوز فيه تخفيف الراء مطلقا فعلى هذا يسكن، ووقع في رواية يونس بن بكير "فقال أبو هريرة، أي أنت أبو هريرة، وقد ذكرت توجيهه قبل. قوله: "قلت لبيك رسول الله" كذا فيه بحذف حرف النداء، ووقع في رواية علي بن مسهر "فقلت لبيك يا رسول الله وسعديك". قوله: "الحق" بهمزة وصل وفتح المهملة أي اتبع.قوله: "ومضى فاتبعته" زاد في رواية علي بن مسهر فلحقته. قوله: "فدخل" زاد علي بن مسهر إلى أهله. قوله: "فأستأذن" بهمزة بعد الفاء والنون مضمومة فعل متكلم وعبر عنه بذلك مبالغة في التحقق.ووقع في رواية علي بن مسهر ويونس وغيرهما: "فاستأذنت". قوله: "فأذن لي فدخل" كذا فيه وهو إما تكرار لهذه اللفظة لوجود الفصل أو التفات، ووقع في رواية علي ابن مسهر "فدخلت" وهي واضحة. قوله:

(11/285)


"فوجد لبنا في قدح" في رواية علي بن مسهر "فإذا هو بلبن في قدح" وفي رواية يونس "فوجد قدحا من اللبن".قوله: "فقال: من أين هذا اللبن؟" زاد روح "لكم" وفي رواية ابن مسهر "فقال لأهله: من أين لكم هذا". قوله: "قالوا أهداه لك فلان أو فلانة" كذا بالشك، ولم أقف على اسم من أهداه. وفي رواية روح "أهداه لنا فلان أو آل فلان" وفي رواية يونس "أهداه لنا فلان". قوله: "الحق إلى أهل الصفة" كذا عدى الحق بإلى وكأنه ضمنها معنى انطلق، ووقع في رواية روح بلفظ: "انطلق". قوله: "قال وأهل الصفة من أضياف الإسلام" سقط لفظ: "قال" من رواية روح ولا بد منها فإنه كلام أبي هريرة قاله شارحا لحال أهل الصفة وللسبب في استدعائهم فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخصهم بما يأتيه من الصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية، وقد وقع في رواية يونس بن بكير هذا القدر في أول الحديث ولفظه عن أبي هريرة "قال كان أهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال والله الذي لا إله إلا هو إلخ" وفيه إشعار بأن أبا هريرة كان منهم. قوله: "لا يأوون على أهل ولا مال" في رواية روح والأكثر "إلى" بدل على. قوله: "ولا على أحد" تعميم بعد تخصيص فشمل الأقارب والأصدقاء وغيرهم. وقد وقع في حديث طلحة ابن عمرو عند أحمد وابن حبان والحاكم "كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة" وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط عند ابن سعد "كان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره" وله من طريق نعيم المجمر عن أبي هريرة "كنت من أهل الصفة" وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال: ناموا في المسجد"، وتقدم في "باب علامات النبوة" وغيره حديث عبد الرحمن بن أبي بكر "أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث" الحديث، ولأبي نعيم في "الحلية" من مرسل محمد بن سيرين "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناسا من أصحاب الصفة بين ناس من أصحابه فيذهب الرجل بالرجل والرجل بالرجلين حتى ذكر عشرة" الحديث، وله من حديث معاوية بن الحكم "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة فجعل يوجه الرجل مع الرجل من الأنصار والرجلين والثلاثة حتى بقيت في أربعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم خامسنا فقال: انطلقوا بنا، فقال: يا عائشة عشينا" الحديث. قوله: "إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا" أي لنفسه. وفي رواية روح "ولم يصب منها شيئا" وزاد: "ولم يشركهم فيها" قوله: "وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها" في رواية علي بن مسهر "وشركهم" بالتشديد وقال: "فيها أو منها" بالشك ووقع عند يونس "الصدقة والهدية" بالتعريف فيهما، وقد تقدم في الزكاة وغيرها بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وتقدم في الهبة من حديث أبي هريرة مختصرا من رواية محمد بن زياد عنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا، ولم يأكل. وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم" ولأحمد وابن حبان من هذا الوجه "إذا أتي بطعام من غير أهله" ويجمع بين هذا وبين ما وقع في حديث الباب بأن ذلك كان قبل أن تبنى الصفة، فكان يقسم الصدقة فيمن يستحقها ويأكل من الهدية مع من حضر من أصحابه، وقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" من مرسل الحسن قال: "بنيت صفة في المسجد لضعفاء المسلمين" ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف حالين: فيحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحد فإنه

(11/286)


يرسل ببعض الهدية إلى أهل الصفة أو يدعوهم إليه كما في قصة الباب، وإن حضره أحد يشركه في الهدية فإن كان هناك فضل أرسله إلى أهل الصفة أو دعاهم. ووقع في حديث طلحة بن عمرو الذي ذكرته آنفا "وكنت فيمن نزل الصفة فوافقت رجلا فكان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مد من تمر بين كل رجلين" وفي رواية أحمد "فنزلت في الصفة مع رجل فكان بيني وبينه كل يوم مد من تمر" وهو محمول أيضا على اختلاف الأحوال: فكان أولا يرسل إلى أهل الصفة بما حضره أو يدعوهم أو يفرقهم على من حضر إن لم يحضره ما يكفيهم، فلما فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التمر في كل يوم ما ذكر؟ وقد اعتنى بجمع أسماء أهل الصفة أبو سعيد بن الأعرابي وتبعه أبو عبد الرحمن السلمي فزاد أسماء، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل "الحلية" فسرد جميع ذلك. ووقع في حديث أبي هريرة الماضي في علامات النبوة أنهم كانوا سبعين، وليس المراد حصرهم في هذا العدد وإنما هي عدة من كان موجودا حين القصة المذكورة، وإلا فمجموعهم أضعاف ذلك كما بينا من اختلاف أحوالهم. قوله: "فساءني ذلك" زاد في رواية علي بن مسهر "والله" والإشارة إلى ما تقدم من قوله: "ادعهم لي" وقد بين ذلك ب قوله: "فقلت" أي في نفسي "وما هذا اللبن"؟ أي ما قدره "في أهل الصفة"؟ والواو عاطفة على شيء محذوف، ووقع في رواية يونس بحذف الواو زاد في روايته: "وأنا رسوله إليهم" وفي رواية علي بن مسهر، "وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله"؟ وهو بالجر عطفا على أهل الصفة ويجوز الرفع والتقدير وأنا ورسول الله معهم. قوله: "وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها" زاد في رواية روح يومي وليلتي. قوله: "فإذا جاء" كذا فيه بالإفراد أي من أمرني بطلبه، وللأكثر "فإذا جاءوا" بصيغة الجمع. قوله: "أمرني" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فكنت أنا أعطيهم" وكأنه عرف بالعادة ذلك لأنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ويخدمه، وقد تقدم في مناقب جعفر من حديث طلحة بن عبيد الله "كان أبو هريرة مسكينا لا أهل له ولا مال، وكان يدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثما دار" أخرجه البخاري في تاريخه، وتقدم في البيوع وغيره من وجه آخر عن أبي هريرة "كنت امرءا مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني" ووقع في رواية يونس بن بكير "فسيأمرني أن أديره عليهم فما عسى أن يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يغنيني" أي عن جوع ذلك اليوم. قوله: "وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن" أي يصل إلي بعد أن يكتفوا منه. وقال الكرماني لفظ: "عسى" زائد. قوله: "ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد" يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . قوله: "فأتيتهم فدعوتهم" قال الكرماني: ظاهره أن الإتيان والدعوة وقع بعد الإعطاء، وليس كذلك، ثم أجاب بأن معنى قوله: "فكنت أنا أعطيهم" عطف على جواب "فإذا جاءوا" فهو بمعنى الاستقبال، قلت: وهو ظاهر من السياق. قوله: "فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت" أي فقعد كل منهم في المجلس الذي يليق به، ولم أقف على عددهم إذ ذاك، وقد تقدم في أبواب المساجد في أوائل كتاب الصلاة من طريق أبي حازم عن أبي هريرة "رأيت سبعين من أصحاب الصفة" الحديث وفيه إشعار بأنهم كانوا أكثر من ذلك، وذكرت هناك أن أبا عبد الرحمن السلمي وأبا سعيد بن الأعرابي والحاكم اعتنوا بجمع أسمائهم فذكر كل منهم من لم يذكر الآخر، وجمع الجميع أبو نعيم في "الحلية" وعدتهم تقرب من المائة لكن الكثير من ذلك لا يثبت، وقد بين كثيرا من ذلك أبو نعيم، وقد قال أبو نعيم: كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال فربما اجتمعوا فكثروا وربما

(11/287)


18 - باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ
6461- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَشْعَثَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ مَسْرُوقًا "قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الدَّائِمُ قَالَ قُلْتُ فَأَيَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ قَالَتْ كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ"
6462- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ"
6463- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا"
6464- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ
[الحديث 6464- طرفه في 6467]
6465- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ وَقَالَ اكْلَفُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ"
6466- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ "سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الأَيَّامِ قَالَتْ لاَ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ"
6467- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ" قَالَ أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ

(11/294)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلًا سَدِيدًا وَسَدَادًا صِدْقًا"
6468- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلاَةَ ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ قَدْ أُرِيتُ الْآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمْ الصَّلاَةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ"
قوله: "باب القصد" بفتح القاف وسكون المهملة، هو سلوك الطريق المعتدلة، أي استحباب ذلك؛ وسيأتي أنهم فسروا السداد بالقصد وبه تظهر المناسبة. قوله: "والمداومة على العمل" أي الصالح. ذكر فيه ثمانية أحاديث أكثرها مكرر وفي بعضها زيادة على بعض، ومحصل ما اشتملت عليه الحث على مداومة العمل الصالح وإن قل، وأن الجنة لا يدخلها أحد بعمله بل برحمة الله، وقصة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاته، والأول هو المقصود بالترجمة والثاني ذكر استطرادا وله تعلق بالترجمة أيضا والثالث يتعلق بها أيضا بطريق خفي. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد، وأشعث هو ابن سليم بن الأسود وأبوه يكنى أبا الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة وهو بها أشهر، وقد تقدم هذا الحديث بهذا الإسناد في "باب من نام عند السحر" من كتاب التهجد، وتقدم شرحه هناك. والمراد بالصارخ الديك. وقوله هنا "قلت في أي حين كان يقوم" وقع في رواية الكشميهني: "فأي حين" وقد تقدم هناك بلفظ: "قلت متى كان يقوم" وأعقبه برواية أبي الأحوص عن أشعث بلفظ: "إذا سمع الصارخ قام فصلى" اختصره، وأخرجه مسلم من هذا الوجه بتمامه وقال فيه: "قلت أي حين كان يصلي" فذكره. حديث عائشة أيضا من طريق عروة عنها أنها قالت: "كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه" وهذا يفسر الذي قبله، وقد ثبت هذا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي يلي الذي بعده. حديث أبي هريرة من رواية سعيد المقبري عنه. قوله: "لن ينجي أحدا منكم عمله" في رواية أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب "ما منكم من أحد ينجيه عمله" وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وتقدم في كفارة المرض من طريق أبي عبيد عن أبي هريرة بلفظ: "لم يدخل أحدا عمله الجنة" وأخرجه مسلم أيضا وهو كلفظ عائشة في الحديث الرابع هنا، ولمسلم من طريق ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة "ليس أحد منكم ينجيه عمله" ومن طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه "لن ينجو أحد منكم بعمله" وله من حديث جابر "لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار" ومعنى قوله ينجي أي يخلص والنجاة من الشيء التخلص منه، قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول. ثم قال:

(11/295)


ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية، والتقدير ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم. وقال عياض طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية، فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة كل ذلك لم يستحقه العامل بعمله. وإنما هو بفضل الله وبرحمته. وقال ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال. الرابع أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال. وقال الكرماني الباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ليس للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة، أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة، أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في "المغني" فسبق إليه فقال: ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف، ومنه {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" لأن المعطي بعوض قد يعطى مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب، قال: وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث. قلت: سبقه إلى ذلك ابن القيم فقال في كتاب "مفتاح دار السعادة": الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة لأن العمل بمجرده ولو تناهي لا يوجب بمجرده دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها، لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبة وهو غير ظالم، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله كما في حديث أبي بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذكر القدر ففيه: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم" الحديث، قال وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يبطل دعوى الطائفتين والله أعلم. قلت: وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إن مشى في الجواب عن قوله تعالى: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لم يمش في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله: "ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" أي تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون

(11/296)


الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية. ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى. ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. وقال المازري: ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخبره صدق لا خلف فيه. وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خبط كثير وتفصيل طويل. قوله: "قالوا ولا أنت يا رسول الله"؟ وقع في رواية بشر بن سعيد عن أبي هريرة عند مسلم: "فقال رجل" ولم أقف على تعيين القائل قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى. قلت: وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في أماليه فقال: لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم وعمله في العبادة أقوم قيل له "ولا أنت" أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال: "لا إلا برحمة الله" وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ: "لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة من الله تعالى". قوله: "إلا أن يتغمدني الله" في رواية سهيل "إلا أن يتداركني". قوله: "برحمة" في رواية أبي عبيد "بفضل ورحمة" وفي رواية الكشميهني من طريقه "بفضل رحمته" وفي رواية الأعمش "برحمة وفضل" وفي رواية بشر بن سعيد "منه برحمة" وفي رواية ابن عون "بمغفرة ورحمة". وقال ابن عون بيده هكذا "وأشار على رأسه" وكأنه أراد تفسير معنى "يتغمدني" قال أبو عبيد: المراد بالتغمد الستر، وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به. قال الرافعي: في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته. قوله: "سددوا" في رواية بشر بن سعيد عن أبي هريرة عند مسلم: "ولكن سددوا" ومعناه اقصدوا السداد أي الصواب، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل، فكأنه قيل بل له فائدة وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره ليقبل عملكم فينزل عليكم الرحمة. قوله: "وقاربوا" أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا، وقد أخرج البزار من طريق محمد بن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر ولكن صوب إرساله، وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبد الله بن عمرو موقوف "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" والمنبت بنون ثم موحدة ثم مثناة ثقيلة أي الذي عطب مركوبه من شدة السير، مأخوذ من البت وهو القطع أي صار منقطعا لم يصل إلى مقصوده وفقد مركوبه. الذي كان يوصله لو رفق به. وقوله: "أوغلوا" بكسر المعجمة من الوغول وهو الدخول في الشيء. قوله: "واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة" في رواية الطيالسي عن ابن أبي ذئب "وخطا من الدلجة" والمراد بالغدو

(11/297)


السير من أول النهار، وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار، والدلجة بضم المهملة وسكون اللام ويجوز فتحها وبعد اللام جيم سير الليل يقال سار دلجة من الليل أي ساعة فلذلك قال شيئا من الدلجة لعسر سير جميع الليل، فكأن فيه إشارة إلى صيام جميع النهار وقيام بعض الليل وإلى أعم من ذلك من سائر أوجه العبادة، وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة وهو الموافق للترجمة، وعبر بما يدل على السير لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة، وشيئا منصوب بفعل محذوف أي افعلوا، وقد تقدم بأبسط من هذا في كتاب الإيمان في "باب الدين يسر". قوله: "والقصد القصد" بالنصب على الإغراء أي الزموا الطريق الوسط المعتدل، ومنه قوله في حديث جابر ابن سمرة عند مسلم: "كانت خطبته قصدا" أي لا طويلة ولا قصيرة، واللفظ الثاني للتأكيد، ووقفت على سبب لهذا الحديث: فأخرج ابن ماجه من حديث جابر قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي على صخرة فأتى ناحية فمكث ثم انصرف فوجده على حاله فقام فجمع يديه ثم قال: أيها الناس عليكم القصد، عليكم القصد". الحديث: قوله: "حدثنا عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي، وسليمان هو ابن بلال. قوله: "عن موسى بن عقبة" قال الإسماعيلي بعد أن أخرجه من طريق محمد بن الحسين المخزومي عن سليمان ابن بلال عن عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة: لم أر في كتاب البخاري "عن عبد العزيز بن المطلب" 0 بين سليمان وموسى. قلت: وهو المحفوظ، والذي زاده غير معتمد لأنه متفق على ضعفه وهو المعروف بابن زبالة بفتح الزاي وتخفيف الموحدة المدني، وهذا من الأمثلة لما تعقبته على ابن الصلاح في جزمه بأن الزيادات التي تقع في المستخرجات تحكم بصحتها لأنها خارجة مخرج الصحيح، ووجه التعقب أن الذين استخرجوا لم يصرحوا بالتزام ذلك، سلمنا أنهم التزموا ذلك لكن لم يفوا به، وهذا من أمثلة ذلك فإن ابن زبالة ليس من شرط الصحيح. قوله: "عن أبي سلمة بن عبد الرحمن" سيأتي ما يتعلق باتصاله بعد حديثين، وقد تقدم شرح المتن في الذي قبله. قوله: "وإن أحب الأعمال إلخ" خرج هذا جواب سؤال سيأتي بيانه في الذي بعده. قوله: "عن سعد بن إبراهيم" أي ابن عبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة شيخه هو عمه. قوله: "عن عائشة" وقع عند النسائي من طريق ابن إسحاق وهو السبيعي عن أبي سلمة عن أم سلمة فذكر معنى حديث عائشة، ورواية سعد بن إبراهيم أقوى لكون أبي سلمة بلديه وقريبه، بخلاف ابن إسحاق في الأمرين؛ ويحتمل أن يكون عند أبي سلمة عن أمي المؤمنين لاختلاف السياقين، فإن لفظه عن أم سلمة بعد زيادة في أوله "وكان أحب الأعمال إليه الذي يدوم عليه العبد وإن كان يسيرا" وقد تقدم من طريق القاسم بن محمد عن عائشة نحو سياق أبي سلمة عن عائشة. قوله: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله" لم أقف على تعيين السائل عن ذلك، لكن1 قوله: "قال أدومها وإن قل" فيه سؤال وهو أن المسئول عنه أحب الأعمال، وظاهره السؤال عن ذات العمل فلم يتطابقا، ويمكن أن يقال إن هذا السؤال وقع بعد قوله في الحديث الماضي في الصلاة وفي الحج وفي بر الوالدين حيث أجاب بالصلاة ثم بالبر إلخ ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولا أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجرا لكن ليس فيه مداومة. قوله: "وقال" أي النبي صلى الله عليه وسلم، هو موصول بالسند المذكور. قوله: "اكلفوا" بفتح اللام وبضمها أيضا، قال ابن التين
ـــــــ
1 بياض بأصله.

(11/298)


هو في اللغة بالفتح ورويناه بالضم، والمراد به الإبلاغ بالشيء إلى غايته، يقال كلفت بالشيء إذا أولعت به، ونقل بعض الشراح أنه روى بفتح الهمزة وكسر اللام من الرباعي، ورد بأنه لم يسمع أكلف بالشيء، قال المحب الطبري: الكلف بالشيء التولع به فاستعير للعمل للالتزام والملابسة، وألفه ألف وصل، والحكمة في ذلك أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازي بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع. وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات. قوله: "ما تطيقون" أي قدر طاقتكم. والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية، لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس وهو خال إبراهيم، والسند كله إلى عائشة كوفيون. قوله: "هل كان يخص شيئا من الأيام" أي بعبادة مخصوصة لا يفعل مثلها في غيره "قالت لا"، وقد استشكل ذلك بما ثبت عنها أن أكثر صيامه كان في شعبان كما تقدم تقريره في كتاب الصيام، وبأنه كان يصوم أيام البيض كما ثبت في السنن وتقدم بيانه أيضا. وأجيب بأن مرادها تخصيص عبادة معينة في وقت خاص، وإكثاره الصيام في شعبان إنما كان لأنه كان يعتريه الوعك كثيرا وكان يكثر السفر في الغزو فيفطر بعض الأيام التي كان يريد أن يصومها فيتفق أن لا يتمكن من قضاء ذلك إلا في شعبان فيصير صيامه في شعبان بحسب الصورة أكثر من صيامه في غيره. وأما أيام البيض فلم يكن يواظب على صيامها في أيام بعينها. بل كان ربما صام من أول الشهر وربما صام من وسطه وربما صام من آخره، ولهذا قال أنس "ما كنت تشاء أن تراه صائما من النهار إلا رأيته، ولا قائما من الليل إلا رأيته". وقد تقدم هذا كله بأبسط من هذا في كتاب الصيام أيضا. قوله: "كان عمله ديمة" بكسر الدال المهملة وسكون التحتانية أي دائما، والديمة في الأصل المطر المستمر مع سكون بلا رعد ولا برق، ثم استعمل في غيره، وأصلها الواو فانقلبت بالكسرة قبلها ياء. قوله: "وأيكم يستطيع إلخ" أي في العبادة كمية كانت أو كيفية من خشوع وخضوع وإخبات وإخلاص والله أعلم. قوله: "محمد بن الزبرقان" بكسر الزاي والراء بينهما باء موحدة وبالقاف هو أبو همام الأهوازي، وثقه علي بن المديني والدار قطني وغيرهما وقال أبو حاتم الرازي: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ؛ وما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد وقد توبع فيه. قوله: "قال أظنه عن أبي النضر" هو سالم بن أبي أمية المدني التيمي، وفاعل أظنه هو علي بن المديني شيخ البخاري فيه، وكأنه جوز أن يكون موسى بن عقبة لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة بن عبد الرحمن وأن بينهما فيه واسطة وهو أبو النضر، لكن قد ظهر من وجه آخر أن لا واسطة لتصريح وهيب وهو ابن خالد عن موسى بن عقبة بقوله: "سمعت أبا سلمة" وهذا هو النكتة في إيراد الرواية المعلقة بعدها عن عفان عن وهيب، وطريق عفان هذه وصلها أحمد في مسنده قال: "حدثنا عفان بسنده" وأخرجها البيهقي في "الشعب" من طريق إبراهيم الحربي عن عفان. وأخرج مسلم الحديث المذكور من طريق بهز بن أسد عن وهيب. قوله: "سددوا وأبشروا" هكذا اقتصر على طرف المتن، لأن غرضه منه بيان اتصال السند فاكتفى، وقد ساقه أحمد بتمامه عن عفان مثل رواية أبي همام سواء لكن قدم وأخر في بعض ألفاظه، وكذا لمسلم في رواية بهز وزاد

(11/299)


في آخره: "واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" ومضى لنحو هذا الحديث في كتاب اللباس سبب وهو من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة "عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل فيصلي عليه ويبسطه في النهار فيجلس عليه، فجعل الناس يصلون عليه بصلاته حتى كثروا، فأقبل عليهم فقال: يا أيها الناس عليكم من الأعمال بما تطيقون" ووقفت له على سبب آخر وهو عند ابن حبان من حديث أبي هريرة قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقول لك لا تقنط عبادي، فرجع إليهم فقال: سددوا وقاربوا" ، قال ابن حزم في كلامه على مواضع من البخاري: معنى الأمر بالسداد والمقاربة أنه صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى أنه بعث ميسرا مسهلا، فأمر أمته بأن يقتصدوا في الأمور لأن ذلك يقتضي الاستدامة عادة. قوله: "وقال مجاهد: سديدا سدادا صدقا" كذا ثبت للأكثر، والذي ثبت عن مجاهد عند الفريابي والطبري وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {قَوْلاً سَدِيداً} قال: سدادا والسداد بفتح أوله العدل المعتدل الكافي وبالكسر ما يسد الخلل. والذي وقع في الرواية بالفتح. وزعم مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن الطبري وصل تفسير مجاهد عن موسى بن هارون بن عمرو بن طلحة عن أسباط عن السدي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهذا وهم فاحش، فما للسدي من ابن أبي نجيح رواية، ولا أخرجه الطبري من هذا الوجه، وإنما أخرج من وجه آخر عن السدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "قولا سديدا" قال: القول السديد أن يقول لمن حضره الموت: قدم لنفسك واترك لولدك. وأخرج أثر مجاهد من رواية ورقاء عن ابن أبي نجيح. وأخرج أيضا من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال في قوله تعالى: {قَوْلاً سَدِيداً} قال: عدلا يعني في منطقة. وفي عمله. قال والسداد الصدق. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري في قوله: "قولا سديدا" قال: صدقا. وأخرج الطبري من طريق الكلبي مثله، والذي أظنه أنه سقط من الأصل لفظة والتقدير قال مجاهد: سدادا. وقال غيره صدقا. أو الساقط منه لفظة أي كأن المصنف أراد تفسير ما فسر به مجاهد السديد. قوله: "فليح" هو ابن سليمان، والإسناد كله مدنيون. قوله: "صلى لنا يوما الصلاة" وقع في رواية الزهري عن أنس أنها الظهر. قوله: "ثم رقي" بفتح أوله وكسر القاف من الارتقاء أي صعد وزنا ومعنى. قوله: "من قبل" أي من جهة وزنا ومعنى. قوله: "أريت" بضم الهمزة وكسر الراء وفي بعضها "رأيت" بفتحتين. قوله: "ممثلتين" أي مصورتين وزنا ومعنى، يقال مثله إذا صوره كأنه ينظر إليه. قوله: "في قبل" بضم القاف والموحدة، والمراد بالجدار جدار المسجد. قوله: "فلم أر كاليوم في الخير والشر" وقع هنا مكررا تأكيدا، وقد تقدم شرح هذا اللفظ في "باب وقت الظهر" من أبواب المواقيت، ويأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وفي الحديث إشارة إلى الحث على مداومة العمل، لأن من مثل الجنة والنار بين عينيه كان ذلك باعثا له على المواظبة على الطاعة والانكفاف عن المعصية. وبهذا التقريب تظهر مناسبة الحديث للترجمة

(11/300)


19 - باب الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ
وَقَالَ سُفْيَانُ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}

(11/300)


6469- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ"
قوله: "باب الرجاء مع الخوف" أي استحباب ذلك، فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف ولا في الخوف عن الرجاء لئلا يفضي في الأول إلى المكر وفي الثاني إلى القنوط وكل منهما مذموم، والمقصود من الرجاء أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا في غرور، وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي: من علامة السعادة أن تطيع، وتخاف أن لا تقبل. ومن علامة الشقاء أن تعصى، وترجو أن تنجو. وقد أخرج ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه "عن عائشة قلت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الذي يسرق ويزني؟ قال: لا، ولكنه الذي يصوم ويتصدق ويصلي ويخاف أن لا يقبله منه" وهذا كله متفق على استحبابه في حالة الصحة، وقيل الأول أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" ، وسيأتي الكلام عليه في كتاب التوحيد. وقال آخرون: لا يهمل جانب الخوف أصلا بحيث يجزم بأنه آمن، ويؤيده ما أخرج الترمذي عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف" ولعل البخاري أشار إليه في الترجمة، ولما لم يوافق شرطه أورد ما يؤخذ منه، وإن لم يكن مساويا له في التصريح بالمقصود. قوله: "وقال سفيان" هو ابن عيينة "ما في القرآن آية أشد علي" من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وقد تقدم الكلام على هذا الأثر وبيانه والبحث فيه في تفسير المائدة ومناسبته للترجمة من جهة أن الآية تدل على أن من لم يعمل بما تضمنه الكتاب الذي أنزل عليه لم تحصل له النجاة، لكن يحتمل أن يكون ذلك من الإصر الذي كان كتب على من قبل هذه الأمة، فيحصل الرجاء بهذه الطريق مع الخوف. قوله: "حدثنا قتيبة" هو ابن سعيد، وثبت كذلك لغير أبي ذر، وعمرو هو ابن أبي عمرو مولى المطلب وهو تابعي صغير، وشيخه تابعي وسط، وما مدنيان. قوله: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة" قال ابن الجوزي: رحمة الله صفة من صفات ذاته، وليس هي بمعنى الرقة التي في صفات الآدميين، بل ضرب ذلك مثلا لما يعقل من ذكر الأجزاء ورحمة المخلوقين والمراد أنه أرحم الراحمين. قلت: المراد بالرحمة هنا ما يقع من صفات الفعل كما سأقرره فلا حاجة للتأويل، وقد تقدم في أوائل الأدب جواب آخر مع مباحث حسنة وهو في "باب جعل الله الرحمة مائة جزء"

(11/301)


(11/302)


20 - باب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

(11/302)


باب (ومن يتوكل على اللخ فهو حسبه)
...
21 - باب {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ
6472- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"
قوله: "باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمنها الترغيب في التوكل، وكأنه أشار إلى تقييد ما أطلق في حديث الباب قبله، وأن كلا من الاستغناء والتصبر والتعفف إذا كان مقرونا بالتوكل على الله فهو الذي ينفع وينجع. وأصل التوكل الوكول، يقال وكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانا استكفاه أمره ثقة بكفايته. والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل. وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال لا أعمل شيئا

(11/305)


حتى يأتيني رزقي فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم. انتهى. والحديث الأول سبق الكلام عليه في الجهاد، والثاني أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه. قوله: "وقال الربيع بن خثيم" بمعجمة ومثلثة مصغر. قوله: "من كل ما ضاق على الناس" وصله الطبراني وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن منذر الثوري عن أبيه عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} الآية قال: من كل شيء ضاق على الناس. والربيع المذكور من كبار التابعين، صحب ابن مسعود، وكان يقول له: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك. أورد ذلك أحمد في "الزهد" بسند جيد، وحديثه مخرج في الصحيحين وغيرهما، والربيع بن منذر لم يخرجوا عنه، لكن ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات، وأبوه متفق على توثيقه والتخريج عنه. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور كما أوضحته في المقدمة، وغلط من قال إنه ابن إبراهيم وسيأتي شرح الحديث مستوفي في "باب يدخل الجنة سبعون ألفا" بعد ثمانية وعشرين بابا إن شاء الله تعالى

(11/306)


باب ما يكره من قبل وقال
...
22 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ
6473- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ وَفُلاَنٌ وَرَجُلٌ ثَالِثٌ أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ "أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الصَّلاَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَعَنْ هُشَيْمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ وَرَّادًا يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب ما يكره من قيل وقال" ذكر فيه حديث المغيرة بن شعبة في ذلك، قال أبو عبيد: جعل القال مصدرا كأنه قال نهى عن قيل وقول تقول قلت قولا وقيلا وقالا، والمراد أنه نهى عن الإكثار بما لا فائدة فيه من الكلام، وهذا على أن الرواية فيه بالتنوين. وقال غيره اسمان يقال كثير القيل والقال، وفي حرف ابن مسعود "ذلك عيسى بن مريم قال الحق" بضم اللام. وقال ابن دقيق العيد: الأشهر منه فتح اللام فيهما على سبيل الحكاية وهو الذي يقتضيه المعنى، لأن القيل والقال إذا كانا اسمين كانا بمعنى واحد كالقول فلا يكون في عطف أحدهما على الآخر كبير فائدة، بخلاف ما إذا كانا فعلين. وقال المحب الطبري: إذا كانا اسمين يكون الثاني تأكيدا. والحكمة في النهي عن ذلك أن الكثرة من ذلك لا يؤمن معها وقوع الخطأ، قلت: وفي الترجمة إشارة إلى أن جميع ذلك لا يكره لأن من عمومه ما يكون في الخبر المحض فلا يكره والله أعلم. وذهب بعضهم إلى أن المراد حكاية أقاويل الناس

(11/306)


والبحث عنها كما يقال قال فلان كذا وقيل عنه كذا مما يكره حكايته عنه، وقيل هو أن يذكر للحادثة عن العلماء أقوالا كثيرة ثم يعمل بأحدها بغير مرجح أو يطلقها من غير تثبت ولا احتياط لبيان الراجح، والنهي عن كثرة السؤال يتناول الإلحاف في الطلب والسؤال عما لا يعني السائل. وقيل المراد بالنهي المسائل التي نزل فيها "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" وقيل يتناول الإكثار من تفريع المسائل، ونقل عن مالك أنه قال: والله إني لأخشى أن يكون هذا الذي أنتم فيه من تفريع المسائل. ومن ثم كره جماعة من السلف السؤال عما لم يقع لما يتضمن من التكلف في الدين والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة. وقد تقدم كثير من هذه المباحث عند شرح الحديث في كتاب الصلاة، وأن المراد بالنهي عن كثرة السؤال في المال. ورجحه بعضهم لمناسبته لقوله: "وإضاعة المال" وتقدم شيء من هذا في كتاب الزكاة. وأما من فسره بكثرة سؤال الناس عن أحوالهم وما في أيديهم أو عن أحداث الزمان وما لا يعني السائل فإنه بعيد، لأنه داخل في قوله: "نهى عن قيل وقال" والله أعلم. قوله: "حدثنا علي بن مسلم" كذا للأكثر ووقع للكشميهني وحده "وقال علي بن مسلم" جزم أبو نعيم في "المستخرج" بما عليه الجمهور. قوله:" أنبأنا غير واحد منهم مغيرة" هو ابن مقسم الضبي وفلان ورجل ثالث، المراد بفلان مجالد بن سعيد فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن زياد بن أيوب ويعقوب بن إبراهيم الدورقي قالا "حدثنا هشيم أنبأنا غير واحد منهم مغيرة ومجالد" وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي خثيمة عن هشيم، وكذا أخرجه أحمد عن هشيم، وأخرجه النسائي عن يعقوب الدورقي لكن قال في روايته: "عن غير واحد منهم مغيرة" ولم يسم مجالدا. وأخرجه أيضا عن الحسن بن إسماعيل عن هشيم أنبأنا مغيرة وذكر آخر ولم يسمه وكأنه مجالد، وأخرجه أبو يعلى عن زكريا بن يحيى عن هشيم عن مغيرة عن الشعبي ولم يذكر مع مغيرة أحدا وأما الرجل الثالث فيحتمل أنه داود بن أبي هند، فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي بكير الكرماني عن هشيم قال أنبأنا داود بن أبي هند وغيره عن الشعبي به، ويحتمل أن يكون زكريا بن أبي زائدة أو إسماعيل بن أبي خالد فقد أخرجه الطبراني من طريق الحسن بن علي بن راشد الواسطي عن هشيم عن مغيرة وزكريا بن أبي زائدة ومجالد وإسماعيل بن أبي خالد كلهم عن الشعبي، والحسن المذكور ثقة من شيوخ أبي داود تكلم فيه عبدان بما لا يقدح فيه. وقال ابن عدي: لم أر حديثا منكرا. قوله: "فكتب إليه المغيرة" ظاهره أن المغيرة باشر الكتابة، وليس كذلك، فقد أخرجه ابن حبان من طريق عاصم الأحول عن الشعبي "إن معاوية كتب إلى المغيرة اكتب إلي بحديث سمعته، فدعا غلامه ورادا فقال: اكتب" فذكره. وقوله لا إله إلا الله - إلى قوله: وهو على كل شيء قدير زاد في نسخة الصغاني هنا "ثلاث مرات" وأخرجه الطبراني من طريق عبد الملك بن عمير عن وراد "كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فكتبت إليه بخطي" ولم أقف على تسمية من كتب لمعاوية صريحا إلا أن المغيرة كان معاوية أمره على الكوفة في سنة إحدى وأربعين إلى أن مات سنة خمسين أو في التي بعدها وكان كاتب معاوية إذ ذاك عبيد بن أوس الغساني. وفي الحديث حجة على من لم يعمل في الرواية بالمكاتبة، واعتل بعضهم بأن العمدة حينئذ على الذي بلغ الكتاب كأن يكون الذي أرسله أمره أن يوصل الكتاب وأن يبلغ ما فيه مشافهة، وتعقب بأن هذا يحتاج إلى نقل، وعلى تقدير وجوده فتكون الرواية عن مجهول ولو فرض أنه ثقة عند من أرسله ومن أرسل إليه، فتجيء فيه مسألة التعديل على الإبهام والمرجح عدم الاعتداد به. قوله:

(11/307)


"وعن هشيم أنبأنا عبد الملك بن عمير" هو موصول بالطريق التي قبله، وقد وصله الإسماعيلي من رواية يعقوب الدورقي وزياد بن أيوب قالا "حدثنا هشيم عن عبد الملك به". قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا أطلق، وظاهره أن الرواية كالتي قبلها، وهو كذلك عند الإسماعيلي، وأخرجه أبو نعيم من طريق أبي الربيع الزهراني عن هشيم فقال في سياقه "كتب معاوية إلى المغيرة أن اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره

(11/308)


باب حفظ اللسان ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
...
23 - باب حِفْظِ اللِّسَانِ وَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
6474- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ"
6475- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"
6475- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ "عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ سَمِعَ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ جَائِزَتُهُ قِيلَ مَا جَائِزَتُهُ قَالَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ"
6477- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ"
[الحديث 6477- طرفه في 6478]
6478- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْني ابْنَ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ"
قوله: "باب حفظ اللسان" أي عن النطق بما لا يسوغ شرعا مما لا حاجة للمتكلم به. وقد أخرج أبو الشيخ

(11/308)


في "كتاب الثواب" والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي جحيفة رفعه: "أحب الأعمال إلى الله حفظ اللسان". قوله: "ومن كان يؤمن بالله إلخ" وقع عند أبي ذر "وقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان يؤمن بالله إلخ" وقد أورده موصولا في الباب بلفظه. قوله: "وقول الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} كذا لأبي ذر، وللأكثر "وقوله ما يلفظ إلخ" ولابن بطال "وقد أنزل الله تعالى ما يلفظ الآية" وقد تقدم ما يتعلق بتفسيرها في تفسير سورة ق. وقال ابن بطال جاء عن الحسن أنهما يكتبان كل شيء، وعن عكرمة يكتبان الخير والشر فقط، ويقوى الأول تفسير أبي صالح في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: تكتب الملائكة كل ما يتلفظ به الإنسان ثم يثبت الله من ذلك ما له وما عليه ويمحو ما عدا ذلك. قلت: هذا لو ثبت كان نصا في ذلك، ولكنه من رواية الكلبي وهو ضعيف جدا، والرقيب هو الحافظ والعتيد هو الحاضر وورد في فضل الصمت عدة أحاديث منها حديث سفيان بن عبد الله الثقفي "قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا، وأخذ بلسانه" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، وتقدم في الإيمان حديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء "وكف لسانك إلا من خير "وعن عقبة بن عامر "قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك" الحديث أخرجه الترمذي وحسنه، وفي حديث معاذ مرفوعا: "ألا أخبرك بملاك الأمر كله، كف هذا، وأشار إلى لسانه. قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه كلهم من طريق أبي وائل عن معاذ مطولا، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن معاذ، وزاد الطبراني في رواية مختصرة "ثم إنك لن تزال سالما ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك" وفي حديث أبي ذر مرفوعا: "عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان" أخرجه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وصححاه، وعن ابن عمر رفعه: "من صمت نجا" أخرجه الترمذي ورواته ثقات، وعن أبي هريرة رفعه: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" أخرجه الترمذي وحسنه. قوله: "حدثني" كذا لأبي ذر وللباقين "حدثنا" وكذا للجميع في هذا السند بعينه في المحاربين، وعمر بن علي المقدمي بفتح القاف وتشديد الدال هو عم محمد بن أبي بكر الراوي عنه، وقد تقدم أن عمر مدلس لكنه صرح هنا بالسماع. قوله: "عن سهل بن سعد" هو الساعدي. قوله: "من يضمن" بفتح أوله وسكون الضاد المعجمة والجزم من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية فأطلق الضمان وأراد لازمه وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال وكفه عن الحرام، وسيأتي في المحاربين عن خليفة بن خياط عن عمر بن علي بلفظ: "من توكل" وأخرجه الترمذي عن محمد بن عبد الأعلى عن عمر بن علي بلفظ: "من تكفل" وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان قال: "حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي وعمر ابن علي هو الفلاس وغيرهما قالوا: حدثنا عمر بن علي" بلفظ: "من حفظ" عند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي موسى بسند حسن، وعند الطبراني من حديث أبي رافع بسند جيد لكن قال: "فقميه" بدل "لحييه" وهو بمعناه، والفقم بفتح الفاء وسكون القاف. قوله: "لحييه" بفتح اللام وسكون المهملة والتثنية هما العظمان في جانبي الفم والمراد بما بينهما اللسان وما يتأتى به النطق، وبما بين الرجلين الفرج. وقال الداودي المراد بما بين اللحيين الفم، قال: فيتناول

(11/309)


الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل، قال: ومن تحفظ من ذلك أمن من الشر كله لأنه لم يبق إلا السمع والبصر، كذا قال وخفي عليه أنه بقي البطش باليدين، وإنما محمل الحديث على أن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب فإذا لم ينطق به إلا في خير سلم. وقال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقى أعظم الشر. قوله: "أضمن له" بالجزم جواب الشرط. وفي رواية خليفة "توكلت له بالجنة" ووقع في رواية الحسن "تكفلت له" قال الترمذي: حديث سهل بن سعد حسن صحيح، وأشار إلى أن أبا حازم تفرد به عن سهل فأخرجه من طريق محمد بن عجلان عن أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ: "من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة" وحسنه، ونبه على أن أبا حازم الراوي عن سهل غير أبي حازم الراوي عن أبي هريرة. قلت: وهما مدنيان تابعيان، لكن الراوي عن أبي هريرة اسمه سلمان وهو أكبر من الراوي عن سهل واسمه سلمة؛ ولهذا اللفظ شاهد من مرسل عطاء بن يسار في الموطأ. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في أوائل كتاب الأدب، وفيه الحث على إكرام الضيف ومنع أذى الجار، وفيه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" حديث أبي شريح، وقد تقدم شرحه أيضا هناك، وفيه: "فليقل خيرا أو ليسكت" وفيه إكرام الضيف أيضا، وتوقيت الضيافة بثلاثة أيام، وقوله: "الضيافة ثلاثة أيام جائزته، قيل وما جائزته؟ قال: يوم وليلة" وقد تقدم في الأدب بلفظ: "فليكرم ضيفه جائزته، قال: وما جائزته؟ قال: يوم وليلة" وعلى ما هنا فالمعنى أعطوه جائزته، فإن الرواية بالنصب، وإن جاءت بالرفع فالمعنى تتوجه عليكم جائزته، وقد تقدم بيان الاختلاف في توجيهه، ووقع قوله: "يوم وليلة" خبرا عن الجائزة وفيه حذف تقديره زمان جائزته أو تضييف يوم وليلة. حديث أبي هريرة أورده من طريقين. قوله: "حدثنا" كذا لأبي ذر ولغيره: "حدثني" بالإفراد في الموضعين. قوله: "ابن أبي حازم" هو عبد العزيز بن دينار، ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق إسماعيل القاضي عن إبراهيم بن حمزة شيخ البخاري فيه: "أن عبد العزيز بن أبي حازم وعبد العزيز بن محمد الدراوردي حدثاه عن يزد" فيحتمل أن يكون إبراهيم لما حدث به البخاري اقتصر على ابن أبي حازم، ويحتمل أن يكون حدث عنهما فحذف البخاري ذكر عبد العزيز الدراوردي، وعلى الأول لا إشكال، وعلى الثاني يتوقف الجواز على أن اللفظ للاثنين سواء وإن المذكور ليس هو لفظ المحذوف، أو أن المعنى عليهما متحد تفريعا على جواز الرواية بالمعنى، ويؤيد الاحتمال الأول أن البخاري أخرج بهذا الإسناد بعينه إلى محمد بن إبراهيم حديثا جمع فيه بين ابن أبي حازم والدراوردي وهو في "باب فضل الصلاة" في أوائل كتاب الصلاة. قوله: "عن يزيد" هو ابن عبد الله المعروف بابن الهاد، ووقع منسوبا في رواية إسماعيل المذكورة، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، ورجال هذا الإسناد كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وعيسى بن طلحة هو ابن عبيد الله التيمي، وثبت كذلك في رواية أبي ذر، وطلحة هو أحد العشرة. قوله: "إن العبد ليتكلم" كذا للأكثر، ولأبي ذر "يتكلم" بحذف اللام. قوله: "بالكلمة" أي الكلام المشتمل على ما يفهم الخير أو الشر سواء طال أم قصر، كما يقال كلمة الشهادة، وكما يقال للقصيدة كلمة فلان. قوله: "ما يتبين فيها" أي لا يتطلب معناها، أي لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت فيها فلا يقولها إلا إن ظهرت المصلحة في القول. وقال بعض الشراح: المعنى أنه لا يبينها بعبارة واضحة، وهذا يلزم منه أن يكون بين وتبين بمعنى واحد. ووقع في رواية الدراوردي عن يزيد بن

(11/310)


الهاد عند مسلم: "ما يتبين ما فيها" وهذه أوضح، و "ما" الأولى نافية و "ما" الثانية موصولة أو موصوفة ووقع في رواية الكشميهني: "ما يتقي بها" ومعناها يؤول لما تقدم. قوله: "يزل بها" بفتح أوله وكسر الزاي بعدها لام أي يسقط. قوله: "أبعد ما بين المشرق" كذا في جميع النسخ التي وقعت لنا في البخاري، وكذا في رواية إسماعيل القاضي عن إبراهيم بن حمزة شيخ البخاري فيه عند أبي نعيم، وأخرجه مسلم والإسماعيلي من رواية بكر بن مضر عن يزيد بن الهاد بلفظ: "أبعد ما بين المشرق والمغرب" وكذا وقع عند ابن بطال وشرحه الكرماني على ما وقع عند البخاري فقال: قوله: "ما بين المشرق" لفظ بين يقتضي دخوله على المتعدد والمشرق متعدد معنى إذ مشرق الصيف غير مشرق الشتاء وبينهما بعد كبير، ويحتمل أن يكون اكتفى بأحد المتقابلين عن الآخر مثل "سرابيل تقيكم الحر" قال: وقد ثبت في بعضها بلفظ: "بين المشرق والمغرب" قال ابن عبد البر: الكلمة التي يهوى صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر، وزاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سببا لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك لكنها ربما أدت إلى ذلك فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي ترفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة أو يفرج بها عنه كربة أو ينصر بها مظلوما. وقال غيره في الأولى: هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله، قال ابن التين: هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان ممن يأتي منه ذلك. ونقل عن ابن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين. وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه. قلت: وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب. وقال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك. قلت: وهو صريح الحديث الثاني والثالث. "تنبيه": وقع في رواية أبي ذر تأخير طريق عيسى بن طلحة عن الطريق الأخرى، ولغيره بالعكس، وسقط طريق عيسى بن طلحة عند النسفي أصلا. والله أعلم. قوله في الطريق الثانية "سمع أبا النضر" هو هاشم بن القاسم، والتقدير أنه سمع، ويحذف لفظ أنه في الكتابة غالبا. قوله: "عن أبي صالح" هو ذكوان، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. قوله: "لا يلقي لها بالا" بالقاف في جميع الروايات أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئا، وهو من نحو قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وقد وقع في حديث بلال بن الحارث المزني الذي أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم بلفظ: "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة " وقال في السخط مثل ذلك. قوله: "يرفع الله بها درجات" كذا في رواية المستملي والسرخسي، وللنسفي والأكثر يرفع الله له بها درجات" وفي رواية الكشميهني: "يرفعه الله بها درجات". قوله: "يهوى" بفتح أوله وسكون الهاء وكسر الواو، قال عياض: المعنى ينزل فيها ساقطا. وقد جاء بلفظ: "ينزل بها في النار" لأن درجات النار إلى أسفل، فهو نزول سقوط. وقيل أهوى من قريب وهوى

(11/311)


من بعيد. وأخرج الترمذي هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق قال: "حدثني محمد بن إبراهيم التيمي" بلفظ: "لا يرى بها بأسا يهوى بها في النار سبعين خريفا"

(11/312)


24 - باب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عز وجل
6479-حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله: رجل ذكر الله ففاضت عيناه"
قوله: "باب البكاء من خشية الله عز وجل" ذكر فيه طرفا من حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ولفظه: "رجل ذكر الله ففاضت عيناه" كذا اقتصر عليه، وتقدم بتمامه في أبواب المساجد مع شرحه وفيه: "ذكر الله خاليا" وورد هنا بدونها، وثبتت في رواية ابن خزيمة عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه أخرجه الإسماعيلي عنه مختصرا كما هنا، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وخبيب بمعجمة وموحدتين مصغر، ووقع هنا "في ظله" وبينت هناك من رواه بلفظ: "في ظل عرشه" وظل كل شيء بحسبه ويطلق أيضا بمعنى النعيم ومنه {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} وبمعنى الجانب ومنه "يسير الراكب في ظلها مائة عام" وبمعنى الستر والكنف والخاصة ومنه: أنا في ظلك، وبمعنى العز ومنه: أسبغ الله ظلك. وقد ورد في البكاء من خشية الله على وفق لفظ الترجمة حديث أبي ريحانة رفعه: "حرمت النار على عين بكت من خشية الله" الحديث أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم، والترمذي نحوه عن ابن عباس ولفظه: "لا تمسها النار" وقال حسن غريب، وعن أنس نحوه عن أبي يعلى، وعن أبي هريرة بلفظ: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله" الحديث وصححه الترمذي والحاكم

(11/312)


25 - باب الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ
6480- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ "عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَفَعَلُوا بِهِ فَجَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ قَالَ مَا حَمَلَنِي إِلاَّ مَخَافَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ"
6481- حدثنا موسى حدثنا معتمر سمعت أبي حدثنا قتادة عن عقبة بن عبد الغافر "عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا فيمن كان سلف أو قبلكم آتاه الله مالا وولدا يعني أعطاه قال فلما حضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا خير أب قال فإنه لم يبتئر عند الله خيرا فسرها قتادة لم يدخر وإن يقدم على الله يعذبه فانظروا فإذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني أو قال فاسهكوني ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي

(11/312)


باب الانتهاء من المعاصي
...
26 - باب الِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي
6482- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَا النَّجَاءَ فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ"
[الحديث 6482- طرفه في 7283]
6483- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا"
6484- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"
قوله: "باب الانتهاء عن المعاصي" أي تركها أصلا ورأسا والإعراض عنها بعد الوقوع فيها. قوله: "بريد" بموحدة وراء مهملة مصغر. قوله: "مثلي" بفتح الميم والمثلثة، والمثل الصفة العجيبة الشأن يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم. قوله: "ما بعثني الله" العائد محذوف والتقدير بعثني الله به إليكم. قوله: "أتى قوما" التنكير فيه للشيوع. قوله: "رأيت الجيش" بالجيم والشين المعجمة واللام فيه للعهد. قوله: "بعيني" بالإفراد، وللكشميهني بالتثنية بفتح النون والتشديد، قيل ذكر العينين إرشادا إلى أنه تحقق عنده جميع ما أخبر عنه تحقق من رأى شيئا بعينه لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك. قوله: "وإني أنا النذير العريان" قال ابن بطال النذير العريان رجل من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة فقطع يده ويد امرأته فانصرف إلى قومه فحذرهم فضرب به المثل في تحقيق الخبر. قلت: وسبق إلى ذلك يعقوب ابن السكيت وغيره، وسمي الذي حمل عليه عوف بن عامر اليشكري، وأن المرأة كانت من بني كنانة. وتعقب باستبعاد تنزيل هذه القصة على لفظ الحديث، لأنه ليس فيها أنه كان عريانا. وزعم ابن الكلبي أن النذير العريان امرأة من بني عامر بن

(11/316)


كعب لما قتل المنذر بن ماء السماء أولاد أبي داود وكان جار المنذر خشيت على قومها فركبت جملا ولحقت بهم وقالت: أنا النذير العريان. ويقال أول من قاله أبرهة الحبشي لما أصابته الرمية بتهامة ورجع إلى اليمن، وقد سقط لحمه وذكر أبو بشر الآمدي أن زنبرا بزاي ونون ساكنة ثم موحدة ابن عمرو الخثعمي كان ناكحا في آل زبيد، فأرادوا أن يغروا قومه وخشوا أن ينذر بهم فحرسه أربعة نفر، فصادف منهم غرة فقذف ثيابه وعدا وكان من أشد الناس عدوا فأنذر قومه. وقال غيره: الأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فسلبوه وأسروه فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عريانا فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على القطع بصدقه تقريبا لأفهام المخاطيين بما يألفونه ويعرفونه. قلت: ويؤيده ما أخرجه الرامهرمزي في "الأمثال" وهو عند أحمد أيضا بسند جيد من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فنادى ثلاث مرات: أيها الناس مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو فأقبل لينذر قومه فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه أيها الناس أتيتم ثلاث مرات". وأحسن ما فسر به الحديث من الحديث، وهذا كله يدل على أن العريان من التعري وهو المعروف في الرواية، وحكى الخطابي أن محمد بن خالد رواه بالموحدة قال: فإن كان محفوظا فمعناه الفصيح بالإنذار لا يكنى ولا يورى، يقال رجل عريان أي فصيح اللسان. قوله: "فالنجاء النجاء" بالمد فيهما وبمد الأولى وقصر الثانية وبالقصر فيهما تخفيفا. وهو منصوب على الإغراء، أي اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش. قال الطيبي: في كلامه أنواع من التأكيدات أحدها "بعيني" ثانيها قوله: "وإني أنا" ثالثها قوله: "العريان" لأنه الغاية في قرب العدو، ولأنه الذي يختص في إنذاره بالصدق. قوله: "فأطاعه طائفة" كذا فيه بالتذكير لأن المراد بعض القوم. قوله: "فأدلجوا" بهمزة قطع ثم سكون أي ساروا أول الليل أو ساروا الليل كله على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة، وإما بالوصل والتشديد على أن المراد به سير آخر الليل فلا يناسب هذا المقام. قوله: "على مهلهم" بفتحتين والمراد به الهينة والسكون، وبفتح أوله وسكون ثانيه الإمهال وليس مرادا هنا. وفي رواية مسلم: "على مهلتهم" بزيادة تاء تأنيث، وضبطه النووي بضم الميم وسكون الهاء وفتح اللام. قوله: "وكذبته طائفة" قال الطيبي: عبر في الفرقة الأولى بالطاعة وفي الثانية بالتكذيب ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق وبشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان. قوله: "فصبحهم الجيش" أي أتاهم صباحا، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى استعمل فيمن طرق بغتة في أي وقت كان. قوله: "فاجتاحهم" بجيم ثم حاء مهملة أي استأصلهم من جحت الشيء أجرحه إذا استأصلته، والاسم الجائحة وهي الهلاك، وأطلقت على الآفة لأنها مهلكة، قال الطيبي: شبه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل وإنذاره بالعذاب القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب الرجل في إنذاره ومن صدقه. حديث أبي هريرة، جزم المزي في الأطراف، بأن البخاري ذكره في أحاديث الأنبياء ولم يذكر أنه أورده في الرقاق، فوجدته في أحاديث الأنبياء في ترجمة سليمان عليه السلام لكنه لم يذكر إلا طرفا منه ولم أستحضره إذ ذاك في الرقاق فشرحته هناك، ثم ظفرت به هنا فأذكر الآن من شرحه ما لم يتقدم. قوله: "استوقد" بمعنى أوقد وهو أبلغ، والإضاءة

(11/317)


فرط الإنارة. قوله: "فلما أضاءت ما حوله" اختصرها المؤلف هناك ونسبتها أنا لتخريج أحمد ومسلم من طريق همام وهي في رواية شعيب كما ترى، وكأنه تبرك بلفظ الآية. ووقع في رواية مسلم: "ما حولها" والضمير للنار: والأول للذي أوقد النار، وحول الشيء جانبه الذي يمكن أن ينتقل إليه، وسمي بذلك إشارة إلى الدوران، ومنه قيل للعام حول. قوله: "الفراش" جزم المازري بأنها الجنادب، وتعقبه عياض فقال الجندب هو الصرار، قلت والحق أن الفراش اسم لنوع من الطير مستقل له أجنحة أكبر من جثته، وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر وكذا أجنحته وعطف الدواب على الفراش يشعر بأنها غير الجنادب والجراد، وأغرب ابن قتيبة فقال: الفراش ما تهافت في النار من البعوض، ومقتضاه أن بعض البعوض هو الذي يقع في النار ويسمى حينئذ الفراش. وقال الخليل الفراش كالبعوض وإنما شبهه به لكونه يلقى نفسه في النار لا أنه يشارك البعوض في القرص. قوله: "وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها" القول فيه كالقول في الذي قبله، اختصره هناك فنسبته لتخريج أبي نعيم وهو في رواية شعيب كما ترى، ويدخل فيما يقع في النار البعوض والبرغش، ووقع في كلام بعض الشراح البق والمراد به البعوض. قوله: "فجعل" في رواية الكشميهني: "وجعل" ومن هذه الكلمة إلى آخر الحديث لم يذكره المصنف هناك. قوله: "فجعل الرجل يزعهن" بفتح التحتانية والزاي وضم العين المهملة أي يدفعهن. وفي رواية ينزعهن بزيادة نون، وعند مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها". قوله: "فيقتحمن فيها" أي يدخلن، وأصله القحم وهو الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، ويطلق على رمي الشيء بغتة، واقتحم الدار هجم عليها. قوله: "فأنا آخذ" قال النووي: روى باسم الفاعل، ويروي بصيغة المضارعة من المتكلم. قلت: هذا في رواية مسلم، والأول هو الذي وقع في البخاري. وقال الطيبي: الفاء فيه فصيحة، كأنه لما قال: "مثلي ومثل الناس"إلخ أتي بما هو أهم وهو قوله: "فأنا آخذ بحجزكم" ومن هذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله: "مثل الناس" إلى الخطاب في قوله: "بحجزكم" كما أن من أخذ في حديث من له بشأنه عناية وهو مشتغل في شيء يورطه في الهلاك يجد لشدة حرصه على نجاته أنه حاضر عنده، وفيه إشارة إلى أن الإنسان إلى النذير أحوج منه إلى البشير، لأن جبلته مائلة إلى الحظ العاجل دون الحظ الآجل. وفي الحديث ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة، كما قال تعالى {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . قوله: "بحجزكم" بضم المهملة وفتح الجيم بعدها زاي جمع حجزة وهي معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة، ويجوز ضم الجيم في الجمع. قوله: "عن النار" وضع المسبب موضع السبب لأن المراد أنه يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي تكون سببا لولوج النار. قوله: "وأنتم" في رواية الكشميهني: "وهم" وعليها شرح الكرماني فقال: كان القياس أن يقول وأنتم، ولكنه قال وهم وفيه التفات، وفيه إشارة إلى أن من أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجزته لا اقتحام له فيها، قال: وفيه أيضا احتراز عن مواجهتهم بذلك. قلت والرواية بلفظ: "وأنتم" ثابتة تدفع هذا. ووقع في رواية مسلم: "وأنتم تفلتون" بفتح أوله والفاء واللام الثقيلة وأصله تتفلتون، وبضم أوله وسكون الفاء وفتح اللام ضبطوه بالوجهين وكلاهما صحيح، تقول تفلت مني وأفلت مني لمن كان بيدك فعالج الهرب منك حتى هرب، وقد تقدم بيان هذا التمثيل، وحاصله أنه شبه تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي التي تكون سببا في الوقوع في النار بتهافت الفراش بالوقوع في النار اتباعا لشهواتها، وشبه ذبه العصاة عن المعاصي بما حذرهم به وأنذرهم بذب صاحب النار الفراش عنها. وقال عياض: شبه

(11/318)


تساقط أهل المعاصي في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا. قوله: "تقحمون فيها" في رواية همام عند مسلم: "فيغلبوني" النون مثقلة لأن أصله فيغلبونني، والفاء سببية، والتقدير أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم من النار فجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ.قوله: "تقحمون" بفتح المثناة والقاف والمهملة المشددة والأصل تتقحمون فحذفت إحدى التاءين، قال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وذلك أن حدود الله محارمه ونواهيه كما في الحديث الصحيح "ألا إن حمى الله محارمه "ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها واستيفاء لذتها وشهواتها، فشبه صلى الله عليه وسلم إظهار تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستنقاذ الرجال من النار، وشبه فشو ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد. وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف، وتعديهم حدود الله وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات ومنعه إياهم عن ذلك بأخذ حجزهم بالفراش التي تقتحمن في النار وتغلبن المستوقد على دفعهن عن الاقتحام، كما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاستضاءة والاستدفاء وغير ذلك، والفراش لجهلها جعلته سببا لهلاكها، فكذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واجتنابها ما هو سبب هلاكهم وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها مقتضية لترديهم. وفي قوله: "آخذ بحجزكم" استعارة مثل حالة منعه الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجزة صاحبه الذي يكاد يهوي في مهواة مهلكة. قوله: "زكريا" هو ابن أبي زائدة وعامر هو الشعبي. قوله: "المسلم" تقدم شرحه في أوائل كتاب الإيمان. قوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" قيل خص المهاجر بالذكر تطييبا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة، فأعلمهم أن من هجر ما نهى الله عنه كان هو المهاجر الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيها للمهاجرين أن لا يتكلوا على الهجرة فيقصروا في العمل. وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

(11/319)


27 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
6485- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
[الحديث 6485- طرفه في 6637]
6486- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم إلخ" ذكر فيه حديث أبي هريرة بلفظ الترجمة. قوله: "عن سعيد بن المسيب" في رواية حجاج بن محمد عن الليث بسنده "أخبرني سعيد"، والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة، ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف. وقد جاء لهذا الحديث سبب أخرجه سنيد في تفسيره

(11/319)


بسند واهٍ والطبراني عن ابن عمر "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال: والذي نفسي بيده" فذكر هذا الحديث. وعن الحسن البصري "من علم أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الله تعالى مشهده، فحقه أن يطول في الدنيا حزنه" قال الكرماني: في هذا الحديث من صناعة البديع مقابلة الضحك بالبكاء والقلة بالكثرة ومطابقة كل منهما

(11/320)


28- باب حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
6487- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ"
قوله: "باب حجبت النار بالشهوات" كذا للجميع، ووقع عند أبي نعيم "حفت" بدل "حجبت" أي غطيت بها فكانت الشهوات سببا للوقوع في النار. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "حدثني مالك" هذا الحديث ليس في الموطأ، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه عن الهيثم بن خلف عن البخاري، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن إسماعيل، وأخرجه الدار قطني "الغرائب" من رواية إسماعيل، ومن طريق سعيد بن داود وإسحاق بن محمد الفروي أيضا عن مالك، وأخرجه أيضا من رواية عبد الله ابن وهب عن مالك به لكن وقفه. قوله: "عن أبي الزناد" في رواية سعيد بن داود "أخبرنا أبو الزناد". قوله: "عن الأعرج عن أبي هريرة" في رواية سعيد بن داود "أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول". قوله: "حجبت" كذا للجميع في الموضعين إلا الفروي فقال: "حفت" في الموضعين، وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء بن عمر عن أبي الزناد، وكذا أخرجه مسلم والترمذي من حديث أنس. وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها. وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة، فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها، قال فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد" فهذا يفسر رواية الأعرج، فإن المراد بالمكاره هنا ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلا وتركا كالإتيان بالعبادات على وجهها والمحافظة عليها واجتناب المنهيات قولا وفعلا، وأطلق عليها المكاره لمشقتها على العامل وصعوبتها عليه ومن جملتها الصبر على المصيبة والتسليم لأمر الله فيها؛ والمراد بالشهوات ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه إما بالأصالة وإما لكون فعله يستلزم ترك شيء من المأمورات، ويلتحق بذلك الشبهات والإكثار مما أبيح خشية أن يوقع في المحرم، فكأنه قال: لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المشقات المعبر عنها بالمكروهات، ولا إلى النار إلا بتعاطي الشهوات، وما محجوبتان فمن هتك الحجاب اقتحم. ويحتمل أن يكون هذا الخبر وإن كان بلفظ الخبر فالمراد به النهي. وقوله: "حفت "بالمهملة والفاء من الحفاف وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلا

(11/320)


بتخطيه فالجنة لا يتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات.وقال ابن العربي: معنى الحديث أن الشهوات جعلت على حفافي النار وهي جوانبها، وتوهم بعضهم أنها ضرب بها المثل فجعلها في جوانبها من خارج، ولو كان ذلك كان مثلا صحيحا، وإنما هي من داخل، وهذه صورتها:
المكاره ... الشهوات
فمن اطلع الحجاب فقد واقع ما وراءه؛ وكل من تصورها من خارج فقد ضل عن معنى الحديث. ثم قال: فإن قيل فقد جاء في البخاري "حجبت النار بالشهوات" فالجواب أن المعنى واحد، لأن الأعمى عن التقوى الذي قد أخذت الشهوات سمعه وبصره يراها ولا يرى النار التي هي فيها، وذلك لاستيلاء الجهالة والغفلة على قلبه، فهو كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ وهي محجوبة به ولا يرى الفخ لغلبة شهوة الحبة على قلبه وتعلق باله بها. قلت: بالغ كعادته في تضليل من حمل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيره ببعيد، وأن الشهوات على جانب النار من خارج فمن واقعها وخرق الحجاب دخل النار، كما أن الذي قاله القاضي محتمل والله أعلم. "تنبيه": أدخل ابن بطال في هذا الباب حديثي الباب الذي بعده وحذف الترجمة التي تليه وهي ثابتة في جميع الأصول، وفيها الحديثان وليس في الذي قبلها إلا حديث أبي هريرة.

(11/321)


29 - باب الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ
6488- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ"
6489- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ"
قوله: "باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله" هذه الترجمة حذفها ابن بطال، وذكر الحديثين اللذين فيها في الباب الذي قبلها، والمناسبة ظاهرة لكن الذي ثبت في الأصول التفرقة. قوله: "حدثنا موسى بن مسعود" هو أبو حذيفة النهدي وهو بكنيته أشهر، وسفيان شيخه هو الثوري، وعبد الله هو ابن مسعود، والسند كله كوفيون. قوله: "شراك" تقدم ضبطه وبيانه في أواخر كتاب اللباس وأنه السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل، ويطلق أيضا على كل سير وقي به القدم. قال ابن بطال: فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة وإن المعصية مقربة إلى النار، وإن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء. وتقدم في هذا المعنى قريبا حديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة "الحديث، فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها. وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية. حديث أبي هريرة،

(11/321)


هذا الحديث عند مسلم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، وكذا ثبت لمالك الذي أخرجه البخاري من طريقه عند الدار قطني من رواية سعيد بن داود عنه بسند صحيح، وزاد مسلم من طريق أبي صالح المذكورة "فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" أي هو حقيق بعدم الازدراء وهو افتعال من زريت عليه وأزريت به إذا تنقصته، وفي معناه ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله ابن الشخير رفعه: "أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله" قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالا منه. فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده. وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيا إلى الشكر. وقد وقع في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه قال: "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به" . وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته فإنه لا يكتب شاكرا ولا صابرا.

(11/322)


باب لينظر إلى من هو أسفل منه ولا يظر إلى من هو فوقه
...
31 - باب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسَيِّئَةٍ
6491- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا جَعْدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو عُثْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً"
قوله: "باب من هم بحسنة أو بسيئة" الهم ترجيح قصد الفعل، تقول هممت بكذا أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب. قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو بن الحجاج المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، وعبد الوارث هو ابن سعيد، والسند كله بصريون، وجعد بن دينار تابعي صغير وهو الجعد أبو عثمان الراوي عن أنس في أواخر النفقات وفي غيرها. قوله: "عن ابن عباس" في رواية الحسن بن ذكوان عن أبي رجاء "حدثني ابن عباس" أخرجه أحمد. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية مسدد عند الإسماعيلي: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم أر في شيء من الطرق التصريح بسماع ابن عباس له من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فيما يروى عن ربه" هذا من الأحاديث الإلهية، ثم هو محتمل أن يكون مما تلقاه صلى الله عليه وسلم عن ربه بلا واسطة ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك وهو الراجح. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية ويحتمل أن يكون للبيان لما فيه من الإسناد

(11/322)


وقد تقدم في أوائل السيرة النبوية وفي الأدب. قوله: "أصدق بيت" أطلق البيت على بعضه مجازا، فإن الذي ذكره نصفه وهو المصراع الأول المسمى عروض البيت، وأما نصفه الثاني وهو المسمى بالضرب فهو "وكل نعيم لا محالة زائل". ويحتمل أن يكون على سبيل الاكتفاء فأشار بأول البيت إلى بقيته والمراد كله، وعكسه ما مضى في "باب ما يجوز من الشعر" في كتاب الأدب بلفظ: "أصدق كلمة" فإن المراد بها القصيدة وقد أطلقها وأراد البيت، وتقدم شرح هذا الحديث في أيام الجاهلية، وأورده فيها أيضا بلفظ: "أصدق كلمة" وهو المشهور. وذكرت هناك أن في رواية شريك عند مسلم بلفظ: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب" وبحث السهيلي في ذلك، وذكرت أيضا ما أورده ابن إسحاق في السيرة فيما جرى لعثمان بن مظعون مع لبيد بن ربيعة ناظم هذا البيت حيث قال له لما أنشد المصراع الأول: صدقت، ولما أنشد المصراع الثاني: كذبت، ثم قال له: نعيم الجنة لا يزول. وذكرت توجيه كل من الأمرين، وأن كل من صدق بأن ما خلا الله باطل فقد صدق ببطلان ما سواه، فيدخل نعيم الجنة، بما حاصله أن المراد بالباطل هنا الهالك، وكل شيء سوى الله جائز عليه الفناء وإن خلق فيه البقاء بعد ذلك كنعيم الجنة، والله أعلم. وقال ابن بطال هنا: قوله: "ما خلا الله باطل "لفظ عام أريد به الخصوص، والمراد أن كل ما قرب من الله فليس بباطل. وأما أمور الدنيا التي لا تئول إلى طاعة الله فهي الباطل انتهى. ولعل الأول أولى. "تنبيه": مناسبة هذا الحديث الثاني للترجمة خفية، وكأن الترجمة لما تضمنت ما في الحديث الأول من التحريض على الطاعة ولو قلت والزجر عن المعصية ولو قلت فيفهم أن من خالف ذلك إنما يخالفه لرغبة في أمر من أمور الدنيا، وكل ما في الدنيا باطل كما صرح به الحديث الثاني، فلا ينبغي للعاقل أن يؤثر الفاني على الباقي.

(11/323)


باب من هم بحسنة أو بسيئة
...
30 - باب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ وَلاَ يَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ
6490- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ ممن فضِّل عليه"
قوله: "باب لينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه" هذا لفظ حديث أخرجه مسلم بنحوه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم". قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن أبي الزناد" في رواية ابن وهب عن مالك "حدثني أبو الزناد" أخرجه الدار قطني في "الغرائب". قوله: "عن الأعرج" في رواية سعيد بن داود عن مالك "حدثني أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة" أخرجه الدار قطني أيضا، وضاق مخرجه على أبي نعيم فأخرجه من طريق القاسم بن زكريا عن البخاري، وأخرجه الإسماعيلي من طريق حميد بن قتيبة عن إسماعيل والدار قطني من وجهين عن إسماعيل. قوله: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل" بالفاء والمعجمة على البناء للمجهول. قوله: "في المال والخلق" بفتح الخاء أي الصورة، ويحتمل أن يدخل في ذلك الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا، ورأيته في نسخة معتمدة من "الغرائب" للدار قطني "والخلق" بضم الخاء واللام. قوله: "فلينظر إلى من هو أسفل منه" في رواية عبد العزيز بن يحيى عن مالك "فلينظر إلى من تحته" أخرجه الدار قطني أيضا. ويجوز في أسفل الرفع والنصب والمراد بذلك ما يتعلق بالدنيا. قوله: "ممن فضل عليه" كذا ثبت في آخر

(11/323)


الصريح إلى الله حيث قال: "إن الله كتب" ويحتمل أن يكون لبيان الواقع وليس فيه أن غيره ليس كذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، بل فيه أن غيره كذلك إذ قال: "فيما يرويه" أي في جملة ما يرويه انتهى ملخصا. والثاني لا ينافي الأول وهو المعتمد، فقد أخرجه مسلم من طريق جعفر بن سليمان عن الجعد ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة من طريق عفان، وأبو نعيم من طريق قتيبة كلاهما عن جعفر بلفظ: "فيما يروي عن ربه قال: إن ربكم رحيم، من هم بحسنة" وسيأتي في التوحيد من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل إذا أراد عبدي أن يعمل" وأخرجه مسلم بنحوه من هذا الوجه ومن طرق أخرى منها عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل إذا هم عبدي". قوله: "إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات" يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى فيكون التقدير قال الله إن الله كتب، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يحكيه عن فعل الله تعالى وفاعل "ثم بين ذلك" هو الله تعالى، وقوله: "فمن هم" شرح ذلك. قوله: "ثم بين ذلك" أي فصله بقوله: "فمن هم" والمجمل قوله: "كتب الحسنات والسيئات" وقوله كتب قال الطوفي أي أمر الحفظة أن تكتب، أو المراد قدر ذلك في علمه على وفق الواقع منها. وقال غيره المراد قدر ذلك وعرف الكتبة من الملائكة ذلك التقدير، فلا يحتاج إلى الاستفسار في كل وقت عن كيفية الكتابة لكونه أمرا مفروغا منه انتهى. وقد يعكر على ذلك ما أخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة رفعه قال: "قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها" فهذا ظاهره وقوع المراجعة لكن ذلك مخصوص بإرادة عمل السيئة، ويحتمل أن يكون ذلك وقع في ابتداء الأمر فلما حصل الجواب استقر ذلك فلا يحتاج إلى المراجعة بعده. وقد وجدت عن الشافعي ما يوافق ظاهر الخبر، وأن المؤاخذة إنما تقع لمن هم على الشيء فشرع فيه. لا من هم به ولم يتصل به العمل، فقال في صلاة الخوف لما ذكر العمل الذي يبطلها ما حاصله: إن من أحرم بالصلاة وقصد القتال فشرع فيه بطلت صلاته، ومن تحرم وقصد إلى العدو لو دهمه دفعه بالقتال لم تبطل. قوله: "فمن هم" كذا في رواية ابن سيرين عن أبي هريرة عند مسلم. وفي رواية الأعرج في التوحيد "إذا أراد" وأخرجه مسلم من هذا الوجه بلفظ: "إذا هم" كذا عنده من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فهما بمعنى واحد، ووقع لمسلم أيضا من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ: "إذا تحدث" وهو محمول على حديث النفس لتوافق الروايات الأخرى، ويحتمل أن يكون على ظاهره ولكن ليس قيدا في كتابة الحسنة بل بمجرد الإرادة تكتب الحسنة، نعم ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه: "ومن هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها" وقد تمسك به ابن حبان فقال بعد إيراد حديث الباب في صحيحه: المراد بالهم هنا العزم. ثم قال: ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل. قوله: "فلم يعملها" يتناول نفى عمل الجوارح، وأما عمل القلب فيحتمل نفيه أيضا إن كانت الحسنة تكتب بمجرد الهم كما في معظم الأحاديث، لا أن قيدت بالتصميم كما في حديث خريم، ويؤيد الأول حديث أبي ذر عند مسلم أن الكف عن الشر صدقة. قوله: "كتبها الله له" أي للذي هم بالحسنة "عنده" أي عند الله "حسنة كاملة" كذا ثبت في حديث ابن عباس دون حديث أبي هريرة وغيره وصف الحسنة بكونها كاملة، وكذا قوله: "عنده" وفيهما نوعان من التأكيد:

(11/324)


فأما العندية فإشارة إلى الشرف، وأما الكمال فإشارة إلى رفع توهم نقصها لكونها نشأت عن الهم المجرد. فكأنه قيل بل هي كاملة لا نقص فيها. قال النووي: أشار بقوله: "عنده" إلى مزيد الاعتناء به، وبقوله: "كاملة" إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها، وعكس ذلك في السيئة فلم يصفها بكاملة بل أكدها بقوله: "واحدة" إشارة إلى تخفيفها مبالغة في الفضل والإحسان. ومعنى قوله: "كتبها الله" أمر الحفظة بكتابتها بدليل حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد بلفظ: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها" وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما بإطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني قال: "ينادي الملك اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول يا رب إنه لم يعمله، فيقول إنه نواه" وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة وبالحسنة رائحة طيبة. وأخرج ذلك الطبري عن أبي معشر المدني، وجاء مثله عن سفيان بن عيينة ورأيت لا شرح مغلطاي أنه ورد مرفوعا، قال الطوفي إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة لأن إرادة الخير سبب إلى العمل وإرادة الخير خير لأن إرادة الخير من عمل القلب، واستشكل بأنه إذا كان كذلك فكيف لا تضاعف لعموم قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وأجيب بحمل الآية على عمل الجوارح والحديث على الهم المجرد واستشكل أيضا بأن عمل القلب إذا اعتبر في حصول الحسنة فكيف لم يعتبر في حصول السيئة؟ وأجيب بأن ترك عمل السيئة التي وقع الهم بها يكفرها لأنه قد نسخ قصده السيئة وخالف هواه، ثم إن ظاهر الحديث حصول الحسنة بمجرد الترك سواء كان ذلك لمانع أم لا، ويتجه أن يقال: يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع فإن كان خارجيا مع بقاء قصد الذي هم بفعل الحسنة فهي عظيمة القدر، ولا سيما إن قارنها ندم على تفويتها واستمرت النية على فعلها عند القدرة، وإن كان الترك من الذي هم من قبل نفسه فهي دون ذلك إلا إن قارنها قصد الإعراض عنها جملة والرغبة عن فعلها، ولا سيما إن وقع العمل في عكسها كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلا فصرفه بعينه في معصية، فالذي يظهر في الأخير أن لا تكتب له حسنة أصلا، وأما ما قبله فعلى الاحتمال. واستدل بقوله حسنة كاملة على أنها تكتب حسنة مضاعفة لأن ذلك هو الكمال لكنه مشكل يلزم منه مساواة من نوى الخير بمن فعله في أن كلا منهما يكتب له حسنة.وأجيب بأن التضعيف في الآية يقتضي اختصاصه بالعامل لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} والمجيء بها هو العمل وأما المناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة، والعلم عند الله تعالى. قوله: "فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات" يؤخذ منه رفع توهم أن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف فتكون الجملة إحدى عشرة على ما هو ظاهر رواية جعفر بن سليمان عند مسلم ولفظه: "فإن عملها كتبت له عشر أمثالها" وكذا في حديث أبي هريرة وفي بعض طرقه احتمال، ورواية عبد الوارث في الباب ظاهرة فيما قلته وهو المعتمد، قال ابن عبد السلام في أماليه: معنى الحديث إذا هم بحسنة فإن كتبت له حسنة عملها كملت له عشرة لأنا نأخذ بقيد كونها قد هم بها، وكذا السيئة إذا عملها لا تكتب واحدة للهم وأخرى للعمل بل تكتب واحدة فقط. قلت: الثاني صريح في حديث هذا الباب، وهو مقتضى كونها في جميع الطرق لا تكتب بمجرد الهم، وأما حسنة الهم بالحسنة فالاحتمال قائم، وقوله بقيد كونها قد هم بها يعكر عليه من عمل حسنة بغتة من غير أن يسبق له أنه هم بها فإن قضية كلامه أنه يكتب له تسعة وهو خلاف ظاهر الآية {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فإنه يتناول من هم بها ومن لم يهم،

(11/325)


والتحقيق أن حسنة من هم بها تندرج في العمل في عشرة لعمل لكن تكون حسنة من هم بها أعظم قدرا ممن لم يهم بها، والعلم عند الله تعالى. قوله: "إلى سبعمائة ضعف" الضعف في اللغة المثل، والتحقيق أنه اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر، فإذا قيل ضعف العشرة فهم أن المراد عشرون، ومن ذلك لو أقر بأن له عندي ضعف درهم لزمه درهمان أو ضعفي درهم لزمه ثلاثة. قوله: "إلى أضعاف كثيرة" لم يقع في شيء من طرق حديث أبي هريرة "إلى أضعاف كثيرة" إلا في حديثه الماضي في الصيام فإن في بعض طرقه عند مسلم: "إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله" وله من حديث أبي ذر رفعه: "يقول الله من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد" وهو بفتح الهمزة وكسر الزاي، وهذا يدل على أن تضعيف حسنة العمل إلى عشرة مجزوم به وما زاد عليها جائز وقوعه بحسب الزيادة في الإخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع كالصدقة الجارية والعلم النافع والسنة الحسنة وشرف العمل ونحو ذلك، وقد قيل إن العمل الذي يضاعف إلى سبعمائة خاص بالنفقة في سبيل الله، وتمسك قائله بما في حديث خريم بن فاتك المشار إليه قريبا رفعه: "من هم بحسنة فلم يعملها" فذكر الحديث وفيه: "ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله كانت له بسبعمائة ضعف" وتعقب بأنه صريح في أن النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة وليس فيه نفي ذلك عن غيرها صريحا، ويدل على التعميم حديث أبي هريرة الماضي في الصيام "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" الحديث واختلف في قوله تعالى {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} هل المراد المضاعفة إلى سبعمائة فقط أو زيادة على ذلك؟ فالأول هو المحقق من سياق الآية والثاني محتمل، ويؤيد الجواز سعة الفضل.قوله: "ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة" المراد بالكمال عظم القدر كما تقدم لا التضعيف إلى العشرة، ولم يقع التقييد بكاملة في طرق حديث أبي هريرة، وظاهر الإطلاق كتابة الحسنة بمجرد الترك، لكنه قيده في حديث الأعرج عن أبي هريرة كما سيأتي في كتاب التوحيد ولفظه: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئه فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة" وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن لم يقع عنده "من أجلي" ووقع عنده من طريق همام عن أبي هريرة "وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَرَّاي" بفتح الجيم وتشديد الراء بعد الألف ياء المتكلم وهي بمعنى من أجلي، ونقل عياض عن بعض العلماء أنه حمل حديث ابن عباس على عمومه، ثم صوب حمل مطلقه على ما قيد في حديث أبي هريرة. قلت: ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر والكف عن الشر خير، ويحتمل أيضا أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه كتبت حسنة مضاعفة. وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركا إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلا فيجد الباب مغلقا ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنا مثلا فلم ينتشر أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلا. ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري ما قد يعارض ظاهر حديث الباب، وهو ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ: "إنما الدنيا لأربعة" فذكر الحديث وفيه: "وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يرى لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن

(11/326)


لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء" فقيل الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هما مجردا من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصر عليه. وهو موافق لما ذهب إليه الباقلاني وغيره؛ قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وجمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المازري: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونقل ذلك عن نص الشافعي، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ: "فأنا أغفرها له ما لم يعملها" فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به. وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية ومما يدل على ذلك حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالمقابل والمقتول في النار، قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه" وسيأتي سياقه وشرحه في كتاب الفتن، والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا عاقب عقاب من باشر القتل خسا. وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب منها ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم به ابن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} ويؤيده أن الإصرار معصية اتفاقا، فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية. قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} الآية، وقوله {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} وغير ذلك وقال ابن الجوزي: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس وهو من عمل القلب. قال: والدليل على التفريق بين الهم والعزم أن من كان في الصلاة فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمم على قطعها بطلت. وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود، للفرق بين ما هو بالقصد وما هو بالوسيلة. وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقساما يظهر منها الجواب عن الثاني، أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة وهو معفو عنه وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر على قصده، وهذا هو التردد فيعفى عنه أيضا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله وهذا هو الهم فيعفى عنه أيضا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله فهذا هو العزم وهو منتهى الهم، وهو على قسمين: القسم الأول أن يكون من أعمال القلوب صرفا كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث فهذا كفر ويعاقب عليه جزما، ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغض - الله ويبغض ما يحبه الله ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك فهذا يأثم، ويلتحق به الكبر والعجب والبغي والمكر والحسد، وفي بعض هذا خلاف. فعن الحسن البصري أن سوء الظن بالمسلم وحسده معفو عنه وحملوه على ما يقع في النفس مما لا يقدر على دفعه. لكن من يقع له ذلك مأمور بمجاهدته النفس على تركه والقسم الثاني أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة فهو الذي وقع فيه النزاع، فذهبت

(11/327)


طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلا، ونقل عن نص الشافعي، ويؤيده ما وقع في حديث خريم بن فاتك المنبه عليه قبل فإنه حيث ذكر الهم بالحسنة قال: علم الله أنه أشعرها قلبه وحرص عليها، وحيث ذكر الهم بالسيئة لم يقيد بشيء بل قال فيه: ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، والمقام مقام الفضل فلا يليق التحجير فيه. وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بما يهم به؟ قال: إذا جزم بذلك. واستدل كثير منهم بقوله تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وحملوا حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" على الخطرات كما تقدم. ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم. وقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب، وهذا قول ابن جريج والربيع بن أنس وطائفة ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا، واستدلوا بحديث النجوى الماضي شرحه في "باب ستر المؤمن على نفسه" من كتاب الأدب، واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهم بالمعصية ما يقع في الحرم المكي ولو لم يصمم لقوله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذكره السدي في تفسيره عن مرة عن ابن مسعود، وأخرجه أحمد من طريقه مرفوعا، ومنهم من رجحه موقوفا، ويؤيد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته، وتعقب هذا البحث بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم ومع ذلك فمن هم بمعصيته لا يؤاخذه فكيف يؤاخذا بما دونه؟ ويمكن أن يجاب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه من هم بمعصية ذاهلا عن قصد الاستخفاف، وهذا تفصيل جيد ينبغي أن يستحضر عند شرح حديث: "لا يزني الزاني وهو مؤمن" . وقال السبكي الكبير: الهاجس لا يؤاخذ به إجماعا، والخاطر وهو جريان ذلك الهاجس وحديث النفس لا يؤاخذ بهما للحديث المشار إليه، والهم وهو قصد فعل المعصية مع التردد لا يؤاخذ به الحديث الباب، والعزم - وهو قوة ذلك القصد أو الجزم به ورفع التردد - قال المحققون يؤاخذ به. وقال بعضهم لا واحتج بقول أهل اللغة: هم بالشيء عزم عليه، وهذا لا يكفي، قال: ومن أدلة الأول حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" الحديث، وفيه أنه كان حريصا على قتل صاحبه فعلل بالحرص، واحتج بعضهم بأعمال القلوب ولا حجة معه لأنها على قسمين: أحدهما لا يتعلق بفعل خارجي وليس البحث فيه، والثاني بتعلق بالملتقيين عزم كل منهما على قتل صاحبه واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح وإشارته به إلى الآخر فهذا الفعل يؤاخذ به سواء حصل القتل أم لا. انتهى. ولا يلزم من قوله: "فالقاتل والمقتول في النار" أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق. قوله: "فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة" في رواية الأعرج "فاكتبوها له بمثلها" وزاد مسلم في حديث أبي ذر "فجزاؤه بمثلها أو أغفر" وله في آخر حديث ابن عباس أو "يمحوها" والمعنى أن الله يمحوها بالفضل أو بالتوبة أو بالاستغفار أو بعمل الحسنة التي تكفر السيئة، والأول أشبه لظاهر حديث أبي ذر، وفيه رد لقول من ادعى أن الكبائر لا تغفر إلا بالتوبة، ويستفاد من التأكيد بقوله: "واحدة" أن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى {فَلا يُجْزَى إِلَّا

(11/328)


مِثْلَهَا} قال ابن عبد السلام في أماليه: فائدة التأكيد دفع توهم من يظن الله إذا عمل السيئة كتبت عليه سيئة العمل وأضيفت إليها سيئة الهم، وليس كذلك إنما يكتب عليه سيئة واحدة. وقد استثنى بعض العلماء وقوع المعصية في الحرم المكي. قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد هل ورد في شيء من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعت إلا بمكة لتعظيم البلد. والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة لكن قد يتفاوت بالعظم، ولا يرد على ذلك قوله تعالى {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} لأن ذلك ورد تعظيما لحق النبي صلى الله عليه وسلم لأن وقوع ذلك من نسائه يقتضي أمرا زائدا على الفاحشة وهو أذى النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد مسلم بعد قوله: "أو يمحوها": "ولا يهلك على الله إلا هالك" أي من أصر على التجري على السيئة عزما وقولا وفعلا وأعرض عن الحسنات هما وقولا وفعلا، قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة، لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات؛ ويؤيد ما دل عليه حديث الباب من الإثابة على الهم بالحسنة وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه بخلاف الحسنة، وفيه ما يترتب للعبد على هجران لذته وترك شهوته من أجل ربه رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه، واستدل به على أن الحفظة لا تكتب المباح للتقييد بالحسنات والسيئات، وأجاب بعض الشراح بأن بعض الأئمة عد المباح من الحسن، وتعقب بأن الكلام فيما يترتب على فعله حسنة وليس المباح ولو سمي حسنا كذلك، نعم قد يكتب حسنة بالنية وليس البحث فيه، وقد تقدم في "باب حفظ اللسان "قريبا شيء من ذلك، وفيه أن الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة والفضل في الحسنة فضاعف الحسنة ولم يضاعف السيئة بل أضاف فيها إلى العدل الفضل فأدارها بين العقوبة والعفو بقوله: "كتبت له واحدة أو يمحوها" وبقوله: "فجزاؤه بمثلها أو أغفر" وفي هذا الحديث رد على الكعبي في زعمه أن ليس في الشرع مباح بل الفاعل إما عاص وإما مثاب، فمن اشتغل عن المعصية بشيء فهو مثاب، وتعقبوه بما تقدم أن الذي يثاب على ترك المعصية هو الذي يقصد بتركها رضا الله كما تقدمت الإشارة إليه، وحكى ابن التين أنه يلزمه أن الزاني مثلا مثاب لاشتغاله بالزنا عن معصية أخرى ولا يخفى ما فيه.

(11/329)


32 - باب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ
6492- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ غَيْلاَنَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ"
قوله: "باب ما يتقى من محقرات الذنوب" التعبير بالمحقرات وقع في حديث سهل بن سعد رفعه: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" أخرجه أحمد بسند حسن، ونحوه عند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا " وصححه ابن حبان. قوله: "مهدي" هو ابن ميمون، وغيلان بمعجمة ثم تحتانية وزن عجلان

(11/329)


هو ابن جرير والسند كله بصريون.قوله: "هي أدق" أفعل تفضيل من الدقة بكسر الدال إشارة إلى تحقيرها وتهوينها، وتستعمل في تدقيق النظر في العمل والإمعان فيه أي تعملون أعمالا تحسبونها هينة وهي عظيمة أو تؤول إلى العظم. قوله: "إن كنا لنعدها" كذا للأكثر بلام التأكيد. وفي رواية أبي ذر عن السرخسي والمستملي بحذفها وبحذف الضمير أيضا ولفظهما "إن كنا نعد" وله عن الكشميهني: "إن كنا نعدها" وإن مخففة من الثقيلة وهي للتأكيد. قوله: "من الموبقات" بموحدة وقاف، وسقط لفظ: "من" للسرخسي والمستملي أيضا. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف "يعني بذلك المهلكات" أي الموبقة هي المهلكة، ووقع للإسماعيلي من طريق إبراهيم بن الحجاج عن مهدي "كنا نعدها ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر" وكأنه ذكره بالمعنى. وقال ابن بطال: المحقرات إذا كثرت صارت كبارا مع الإصرار، وقد أخرج أسد بن موسى في الزهد عن أبي أيوب الأنصاري قال: "إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها وينسى المحقرات فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال منها مشفقا حتى يلقى الله آمنا" .

(11/330)


33 - باب الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا
6493- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ الأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ فَقَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْه,ِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا"
قوله: "باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها" ذكر فيه حديث سهل بن سعد في قصة الذي قتل نفسه وفي آخره: "وإنما الأعمال بالخواتيم" وتقدم شرح القصة في غزوة خيبر من كتاب المغازى، ويأتي شرح آخره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى حديث سهل بن سعد في قصة الذي قتل نفسه وفي آخره: "وإنما الأعمال بالخواتيم" وتقدم شرح القصة في غزوة خيبر من كتاب المغازى، ويأتي شرح آخره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى وقوله: "غناء" بفتح المعجمة بعدها نون ممدود أي كفاية، وأغنى فلان عن فلان ناب عنه وجرى مجراه. وذبابة السيف حده وطرفه. قال ابن بطال: في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة وتدبير لطيف، لأنه لو علم وكان ناجيا أعجب وكسل وإن كان هالكا ازداد عتوا فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء، وقد روى الطبري عن حفص بن حميد قال: قلت لابن المبارك رأيت رجلا قتل رجلا ظلما فقلت في نفسي أنا أفضل من هذا، فقال: أمنك على نفسك أشد من ذنبه. قال الطبري: لأنه لا يدري ما يؤول إليه الأمر لعل القاتل يتوب فتقبل توبته، ولعل الذي أنكر عليه يختم له بخاتمة السوء.

(11/330)


باب العزلة واحة من خلاط السوء
...
34 - باب الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلاَّطِ السُّوءِ
6494- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ

(11/330)


باب رفع الأمانة
باب الرياء والسمعة
...
36 - باب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
6499- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ ح و حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ

(11/335)


عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ "قال النبي صلى الله عليه وسلم: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ"
[الحديث 6499- طرفه في: 7152]
قوله: "باب الرياء والسمعة" الرياء بكسر الراء وتخفيف التحتانية والمد وهو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها، والسمعة بضم المهملة وسكون الميم مشتقة من سمع، والمراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر. وقال الغزالي: المعنى طلب المنزلة في قلوب الناس بأن يريهم الخصال المحمودة، والمرائي هو العامل. وقال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله والسمعة أن يخفى عمله الله ثم يحدث به الناس. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. وسفيان في الطريقين هو الثوري، والسند الثاني أعلى من الأول، ولم يكتف به مع علوه لأن في الرواية الأولى مزايا وهي جلالة القطان وما وقع في سياقه من تصريح سفيان بالتحديث ونسبة سلمة شيخ الثوري وهو سلمة بن كهيل بالتصغير ابن حصين الحضرمي، والسند الثاني كله كوفيون. قوله: "ولم أسمع أحدا يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم غيره" وثبت كذلك عند مسلم في رواية، وقائل ذلك هو سلمة بن كهيل "ومراده أنه لم يسمع من أحد من الصحابة حديثا مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جندب وهو ابن عبد الله البجلي الصحابي المشهور وهو من صغار الصحابة وقال الكرماني: مراده لم يبق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ غيره في ذلك المكان. قلت: احترز بقوله: "في ذلك المكان" عمن كان من الصحابة موجودا إذ ذاك بغير المكان الذي كان فيه جندب، وليس كذلك فإن جندبا كان بالكوفة إلى أن مات وكان بها في حياة جندب أبو جحيفة السوائي وكانت وفاته بعد جندب بست سنين، وعبد الله بن أبي أوفى وكانت وفاته بعد جندب بعشرين سنة، وقد روى سلمة عن كل منهما فتعين أن يكون مراده أنه لم يسمع منهما ولا من أحدهما ولا من غيرهما ممن كان موجودا من الصحابة بغير الكوفة بعد أن سمع من جندب الحديث المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. قوله: "من سمع" بفتح المهملة والميم الثقيلة والثانية مثلها، وقوله: "ومن يرائي" بضم التحتية والمد وكسر الهمزة والثانية مثلها وقد ثبتت الياء في آخر كل منهما أما الأولى فللإشباع وأما الثانية فكذلك، أو التقدير فإنه يرائي به الله. ووقع في رواية وكيع عن سفيان عند مسلم: "من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يرائي الله به" ولابن المبارك في الزهد من حديث ابن مسعود "من سمع سمع الله به، ومن رائى رائى الله به، ومن تطاول تعاظما خفضه الله، ومن تواضع تخشعا رفعه الله" وفي حديث ابن عباس عند1 "من سمع سمع الله به ومن رائى رائى الله به" ووقع عند الطبراني من طريق محمد بن جحادة عن سلمة بن كهيل عن جابر في آخر هذا الحديث: "ومن كان ذا لسانين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة" قال الخطابي: معناه من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه وقيل من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة، ومعنى يرائي يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه، ومنه قوله
ـــــــ
1 بياض بالأصل، وهو عند مسلم في كتاب الزهد والرقاق 53 الحديث 47 ( الرقم العام 2986)

(11/336)


تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا - إلى قوله: مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقيل: المراد من قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليعظموه وتعلو منزلته عندهم حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاءه على عمله؛ ولا يثاب عليه في الآخرة. وقيل المعنى، من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمعه المكروه. وقيل المعنى من نسب إلى نفسه عملا صالحا لم يفعله وادعى خيرا لم يصنعه فإن الله يفضحه ويظهر كذبه، وقيل المعنى من يرائي الناس بعمله أراه الله ثواب ذلك العمل وحرمه إياه. قيل معنى سمع الله به شهره أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة، قلت: ورد في عدة أحاديث التصريح بوقوع ذلك في الآخرة، فهو المعتمد: فعند أحمد والدارمي من حديث أبي هند الداري رفعه: "من قام مقام رياء وسمعة رائى الله به يوم القيامة وسمع به"، وللطبراني من حديث عوف بن مالك نحوه، وله من حديث معاذ مرفوعا: "ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رءوس الخلائق يوم القيامة" وفي الحديث استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة. قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به أو لينتفع به ككتابة العلم، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة "لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي" قال الطبري كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إماما يستن بعمله عالما بما لله عليه قاهرا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف. فمن الأول حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ ويرفع صوته بالذكر فقال إنه أواب قال فإذا هو المقداد بن الأسود" أخرجه الطبري. ومن الثاني حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قام رجل يصلي فجهر بالقراءة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمعني وأسمع ربك" أخرجه أحمد وابن أبي خيثمة وسنده حسن.

(11/337)


37 - باب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
6500- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ"
قوله: "باب من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل" يعني بيان فضل من جاهد، والمراد بالمجاهدة كف النفس

(11/337)


عن إرادتها من الشغل بغير العبادة، وبهذا تظهر مناسبة الترجمة لحديث الباب. وقال ابن بطال: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} الآية. ويقع بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها من الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة. قلت: ولئلا يعتاد الإكثار فيألفه فيجره إلى الشبهات فلا يأمن أن يقع في الحرام. ونقل القشيري عن شيخه أبي على الدقاق: من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذا الطريق شمة. وعن أبي عمرو بن بجيد: من كرم عليه دينه هانت عليه نفسه. قال القشيري: أصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير هواها. وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات، فالمجاهدة تقع بحسب ذلك. قال بعض الأئمة: جهاد النفس داخل في جهاد العدو، فإن الأعداء ثلاثة: رأسهم الشيطان، ثم النفس لأنها تدعو إلى اللذات المفضية بصاحبها إلى الوقوع في الحرام الذي يسخط الرب، والشيطان هو المعين لها على ذلك ويزينه لها. فمن خالف هوى نفسه قمع شيطانه، فمجاهدته نفسه حملها على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، وإذا قوى العبد على ذلك سهل عليه جهاد أعداء الدين، فالأول الجهاد الباطن والثاني الجهاد الظاهر. وجهاد النفس أربع مراتب: حملها على تعلم أمور الدين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم من لا يعلم، ثم الدعاء إلى توحيد الله وقتال من خالف دينه وجحد نعمه. وأقوى المعين على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقى إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نهى عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام ذلك من المجاهدة أن يكون متيقظا لنفسه في جميع أحواله، فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات وبالله التوفيق. قوله: "همام" هو ابن يحيى. قوله: "أنس عن معاذ بن جبل" هكذا رواه همام عن قتادة، ومقتضاه التصريح بأنه من مسند معاذ، وخالفه هشام الدستوائي عن قتادة فقال: "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -ومعاذ رديفه على الرجل- يا معاذ" وقد تقدم في أواخر كتاب العلم ومقتضاه أنه من مسند أنس والمعتمد الأول، ويؤيده أن المصنف أتبع رواية هشام رواية سليمان التيمي عن أنس قال: "ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ" فدل على أن أنسا لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم واحتمل قوله: "ذكر" على البناء للمجهول أن يكون أنس حمله عن معاذ بواسطة أو بغير واسطة، وقد أشرت في شرحه في العلم إلى احتمال أن يكون أنس حمله عن عمرو بن ميمون الأودي عن معاذ، أو من عبد الرحمن بن سمرة عن معاذ، وهذا كله بناء على أنه حديث واحد، وقد رجح لي أنهما حديثان وإن اتحد مخرجهما عن قتادة عن أنس ومتنهما في كون معاذ ردف النبي صلى الله عليه وسلم للاختلاف فيما وردا فيه، وهو أن حديث الباب في حق الله على العباد وحق العباد على الله، والماضي فيمن لقي الله لا يشرك به شيئا، وكذا رواية أبي عثمان النهدي وأبي رزين وأبي العوام كلهم عن معاذ عند أحمد، ورواية عمرو بن ميمون موافقة لرواية حديث الباب، ونحوها رواية عبد الرحمن بن سمرة عن معاذ عند النسائي، والرواية الأخرى موافقة لرواية هشام التي في العلم، وقد أشرت إلى شيء من ذلك في "باب اسم الفرس والحمار" من كتاب الجهاد، وقد جاء عن أنس عن معاذ نحو حديث الباب أخرجه أحمد من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال: "أتينا معاذا فقلنا: حدثنا من غرائب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر مثل حديث همام عن قتادة. قوله: "بينا أنا رديف" تقدم بيانه في أواخر كتاب اللباس قبل الأدب ببابين. قوله: "ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل" بفتح الراء وسكون الحاء المهملة هو للبعير كالسرج للفرس،

(11/338)


وآخره بالمد وكسر المعجمة بعدها راء هي العود الذي يجعل خلف الراكب يستند إليه، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه. ووقع في رواية مسلم عن هداب بن خالد وهو هدبة شيخ البخاري فيه بسنده هذا "مؤخرة" بدل "آخرة" وهي بضم الميم وسكون الهمزة وفتح الخاء، ووقع في رواية عمرو بن ميمون عن معاذ "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير" وقد تقدم ضبطه في الجهاد، ووقع عند أحمد من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار يقال له يعفور رسنه من ليف" ويمكن الجمع بأن المراد بآخرة الرحل موضع آخرة الرحل للتصريح هنا بكونه كان على حمار، وإلى ذلك أشار النووي ومشى ابن الصلاح على أنهما قضيتان، وكأن مستنده أنه وقع في رواية أبي العوام عند أحمد "على جمل أحمر" ولكن سنده ضعيف. قوله: "فقال يا معاذ: قلت لبيك" تقدم بيان ذلك في كتاب الحج. قوله: "رسول الله" بالنصب على النداء وحرف النداء محذوف، ووقع في العلم بإثباته. قوله: "ثم سار ساعة" فيه بيان أن الذي وقع في العلم "قال لبيك يا رسول الله وسعديك، قال يا معاذ" لم يقع النداء الثاني على الفور بل بعد ساعة. قوله: "فقال" في رواية الكشميهني: "ثم قال". قوله: "يا معاذ بن جبل" تقدم ضبطه في العلم. قوله: "قال هل تدري" وقع في رواية مسلم المشار إليها بعد قوله: "وسعديك" الثانية "ثم سار ساعة ثم قال هل تدري" وفي رواية موسى بن إسماعيل عن همام الماضية في الاستئذان بعد المرة الأولى "ثم قال مثله ثلاثا" أي النداء والإجابة وقد تقدم نحوه في العلم، وهو لتأكيد الاهتمام بما يخبره به ويبالغ في تفهمه وضبطه. قوله: "هل تدري ما حق الله على عباده" الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق حق لأن وقوعه متحقق لا تردد فيه، وكذا الحق المستحق على الغير إذا كان لا تردد فيه، والمراد هنا ما يستحقه الله على عباده مما جعله محتما عليهم قاله ابن التيمي في التحرير. وقال القرطبي: حق الله على العباد هو ما وعدهم به من الثواب وألزمهم إياه بخطابه. قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى فاشترط نفي ذلك، وتقدم أن الجملة حالية والتقدير يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبان: عبادة الله إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، ولهذا قال في الجواب "فما حق العباد إذا فعلوا ذلك" فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول. قوله: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه"؟ الضمير لما تقدم من قوله: "يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" في رواية مسلم: "إذا فعلوا ذلك". قوله: "حق العباد على الله أن لا يعذبهم" في رواية ابن حبان من طريق عمرو بن ميمون "أن يغفر لهم ولا يعذبهم" وفي رواية أبي عثمان "يدخلهم الجنة" وفي رواية أبي العوام مثله وزاد: "ويغفر لهم" وفي رواية عبد الرحمن بن غنم "أن يدخلهم الجنة" قال القرطبي: حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد، فالله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر إذ لا آمر فوقه ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب انتهى. وتمسك بعض المعتزلة بظاهره. ولا متمسك لهم فيه مع قيام الاحتمال. وقد تقدم في العلم عدة أجوبة غير هذه، ومنها أن المراد بالحق هنا المتحقق الثابت أو الجدير، لأن إحسان الرب لمن لم يتخذ ربا سواه جدير في الحكمة أن لا يعذبه، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده،

(11/339)


أو ذكر على سبيل المقابلة. قال: وفي الحديث جواز ركوب اثنين على حمار، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وفضل معاذ وحسن أدبه في القول وفي العلم برده لما لم يحط بحقيقته إلى علم الله ورسوله، وقرب منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه تكرار الكلام لتأكيده وتفهيمه، واستفسار الشيخ تلميذه عن الحكم ليختبر ما عنده ويبين له ما يشكل عليه منه. وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاري: قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية لله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا فيحب الجمع بين الأمرين، وقد سلكوا في ذلك مسالك: أحدها قول الزهري إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود، وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء، واستبعده غيره من أن النسخ لا يدخل الخبر، وبأن سماع معاذ لهذه كان متأخرا عن أكثر نزول الفرائض. وقيل لا نسخ بل هو على عمومه، ولكنه مقيد بشرائط كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضي عمله، وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في كتاب الجنائز في شرح "أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة": ليس من مفتاح إلا وله أسنان، وقيل المراد ترك دخول نار الشرك، وقيل ترك تعذيب جميع بدن الموحدين لأن النار لا تحرق مواضع السجود، وقيل ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية. انتهى ملخصا. وفي آخر حديث أنس عن معاذ في نحو هذا الحديث: "فقلت ألا أخبر الناس؟ قال: لا لئلا يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب العلم. "تنبيه" هذا من الأحاديث التي أخرجها البخاري في ثلاثة مواضع عن شيخ واحد بسند واحد، وهي قليلة في كتابه جدا، ولكنه أضاف إليه في الاستئذان موسى بن إسماعيل، وقد تتبع بعض من لقيناه ما أخرجه في موضعين بسند فبلغ عدتها زيادة على العشرين، وفي بعضها يتصرف في المتن بالاختصار منه.

(11/340)


ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله، فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه كالمصيبة في الدين مثلا. قال: ويدخل في قوله: "افترضت عليه" الفرائض الظاهرة فعلا كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، وتركا كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات، والباطنة كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه وغير ذلك. وهي تنقسم أيضا إلى أفعال وتروك. قال: وفيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات بإطلاع الله تعالى له، ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فإنه لا يمنع دخول بعض أتباعه معه بالتبعية لصدق قولنا ما دخل على الملك اليوم إلا الوزير، ومن المعلوم أنه دخل معه بعض خدمه. قلت الوصف المستثنى للرسول هنا إن كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لأحد من أتباعه فيه إلا منه، وإلا فيحتمل ما قال، والعلم عند الله تعالى. "تنبيه": أشكل وجه دخول هذا الحديث في باب التواضع حتى قال الداودي: ليس هذا الحديث من التواضع في شيء. وقال بعضهم: المناسب إدخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله تعالى، وبذلك ترجم البيهقي في "الزهد" فقال: فصل في الاجتهاد في الطاعة وملازمة العبودية. والجواب عن البخاري من أوجه: أحدها أن التقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله والتوكيل عليه، ذكره الكرماني، ثانيها ذكره أيضا فقال: قيل الترجمة مستفادة مما قال: "كنت سمعه "ومن التردد. قلت: ويخرج منه جواب ثالث، ويظهر لي رابع، وهو أنها تستفاد من لازم قوله: "من عادى لي وليا" لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم، وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع، إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة لكن ليس شيء منها على شرطه فاستغنى عنها بحديثي الباب، منها حديث عياض بن حمار رفعه : "إن الله تعالى أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد" أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة رفعه: "وما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه" أخرجه مسلم أيضا والترمذي، ومنها حديث أبي سعيد رفعه: "من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين" الحديث أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان

(11/147)


39 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْن"
{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
6503- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا وَيُشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّ هِمَا"
6504- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي التَّيَّاحِ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ"
6505- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ"

(11/347)


قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين" قال أبو البقاء العكبري في إعراب المسند: الساعة بالنصب والواو فيه بمعنى "مع" قال: ولو قرئ بالرفع لفسد المعنى لأنه لا يقال بعثت الساعة، ولا هو في موضع المرفوع لأنها لم توجد بعد، وأجاز غيره الوجهين، بل جزم عياض بأن الرفع أحسن وهو عطف على ضمير المجهول في بعثت، قال: ويجوز النصب، وذكر نحو توجيه أبي البقاء وزاد: أو على ضمير يدل عليه الحال نحو فانتظروا، كما قدر في نحو جاء البرد والطيالسة فاستعدوا. قلت: والجواب عن الذي اعتل به أبو البقاء أولا أن يضمن بعثت معنى يجمع إرسال الرسول ومجيء الساعة نحو جئت، وعن الثاني بأنها نزلت منزلة الموجود مبالغة في تحقق مجيئها، ويرجح النصب ما وقع في تفسير سورة والنازعات من هذا الصحيح من طريق فضيل بن سليمان عن أبي حازم بلفظ: "بعثت والساعة" فإنه ظاهر في أن الواو للمعية. قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} الآية" كذا لأبي ذر. وفي رواية الأكثر {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كذا للجميع معطوفا على الحديث بغير فصل، وهو يوهم أن تكون بقيته، وليس كذلك بل التقدير "وقول الله عز وجل" وقد ثبت ذلك في بعض النسخ. ولما أراد البخاري إدخال أشراط الساعة وصفة القيامة في كتاب الرقاق استطرد من حديث الباب الذي قبله المشتمل على ذكر الموت الدال على فناء كل شيء إلى ذكر ما يدل على قرب القيامة، وهو من لطيف ترتيبه. ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث عن سهل وأنس وأبي هريرة بلفظ واحد، وفي حديث سهل وأبي هريرة زيادة الإشارة. قوله: "عن سهل" في رواية سفيان عن أبي حازم سمعت من سهل بن سعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كتاب اللعان. قوله: "بعثت أنا والساعة" المراد بالساعة هنا يوم القيامة، والأصل فيها قطعة من الزمان، وفي عرف أهل الميقات جزء من أربعة وعشرين جزءا من اليوم والليلة، وثبت مثله في حديث جابر رفعه: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة" وقد بينت حاله في كتاب الجمعة، وأطلقت في الحديث على انخرام قرن الصحابة ففي صحيح مسلم عن عائشة "كان الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم" وعنده من حديث أنس نحوه، وأطلقت أيضا على موت الإنسان الواحد. قوله: "كهاتين" كذا وقع عند الكشميهني في حديث سهل، ولغيره: "كهاتين هكذا" وكذا وقع في رواية سفيان لكن بلفظ: "كهذه من هذه، أو كهاتين" وفي رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عند مسلم: "بعثت أنا والساعة هكذا" وفي رواية فضيل بن سليمان "قال بأصبعيه هكذا". قوله: "ويشير بإصبعيه فيمدهما" في رواية سفيان "وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى" وفي رواية فضيل بن سليمان ويعقوب "بالوسطي والتي تلي الإبهام" وللإسماعيلي من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه "وجمع بين إصبعيه وفرق بينهما شيئا" وفي رواية أبي ضمرة عن أبي حازم عند ابن جرير "وضم بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام وقال: وما مثلي الساعة إلا كفرسي رهان" ونحوه في حديث بريدة بلفظ: "بعثت أنا والساعة، إن كادت لتسبقني" أخرجه أحمد والطبري وسنده حسن، وفي حديث المستورد بن شداد "بعثت في نفس الساعة سبقها كما سبقت هذه لهذه، لإصبعيه السبابة والوسطى" أخرجه الترمذي والطبري. وقوله: "في نفس" بفتح الفاء وهو كناية عن القرب أي بعثت عند تنفسها، ومثله في حديث أبي جبيرة - بفتح الجيم كسر الموحدة: الأنصاري عن أشياخ من الأنصار أخرجه الطبري، وأخرجه أيضا عن أبي جبيرة مرفوعا بغير واسطة بلفظ أخر سأنبه

(11/348)


عليه. قوله في حديث أنس "وأبي التياح" بفتح المثناة وتشديد التحتانية وآخره مهملة اسمه يزيد بن حميد، ووقع عند مسلم في رواية خالد بن الحارث عن شعبة "سمعت قتادة وأبا التياح يحدثان أنهما سمعا أنسا" فذكره وزاد في آخره: "هكذا وقرن شعبة المسبحة والوسطى" وأخرجه من طريق ابن عدي عن شعبة عن حمزة الضبي وأبي التياح مثله، وليس هذا اختلافا على شعبة بل كان سمعه من ثلاثة فكان يحدث به تارة عن الجميع وتارة عن البعض، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة فجمع الثلاثة، ووقع لمسلم من طريق غندر عن شعبة عن قتادة "حدثنا أنس" كراوية البخاري وزاد: "قال شعبة وسمعت قتادة يقول في قصصه كفضل إحداهما على الأخرى" فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة أي من قبل نفسه، وأخرجه الطبري من هذا الوجه بلفظ: "فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله هو" وزاد في رواية عاصم بن على "هكذا وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة قال" وكان يقول يغني قتادة كفضل إحداهما على الأخرى". قلت: ولم أرها في شيء من الطرق عن أنس، وقد أخرجه مسلم من طريق معبد وهو ابن هلال والطبري من طريق إسماعيل بن عبيد الله كلاهما عن أنس وليس ذلك فيه، نعم وجدت هذه الزيادة مرفوعة في حديث أبي جبيرة بن الضحاك عند الطبري. قوله في حديث أبي هريرة "حدثني يحيى بن يوسف" في رواية أبي ذر "حدثنا". قوله: "حدثنا أبو بكر" في رواية غير أبي ذر "أخبرنا أبو بكر وهو ابن عياش". قوله: "عن أبي حصين" في رواية ابن ماجه: "حدثنا أبو حصين" بفتح المهملة أوله، وأبو صالح هو ذكوان، والإسناد كله كوفيون. قوله: "كهاتين يعني أصبعين" كذا في الأصل، ووقع عند ابن ماجه عن هناد بن السري عن أبي بكر بن عياش "وجمع بين أصبعيه" وأخرجه الطبري عن هناد بلفظ: "وأشار بالسبابة والوسطى" بدل قوله: "يعني أصبعين" وقد أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن هناد "بلفظ كهذه من هذه يعني أصبعيه"، وله من رواية أبي طالب عن الدوري "وأشار أبو بكر بأصبعيه السبابة والتي تليها" وهذا يدل على أن في رواية الطبري إدراجا، وهذه الزيادة ثابتة في المرفوع لكن من حديث أبي هريرة كما تقدم، وقد أخرجه الطبري من حديث جابر ابن سمرة "كأني أنظر إلى أصبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار بالمسبحة والتي تليها وهو يقول: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه "وجمع رواية له عنه" وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى، والمراد بالسبابة وهي بفتح المهملة وتشديد الموحدة الأصبع التي بين الإبهام والوسطى وهي المراد بالمسبحة سميت مسبحة لأنها يشار بها عند التسبيح وتحرك في التشهد عند التهليل إشارة إلى التوحيد، وسميت سبابة لأنهم كانوا إذا تسابوا أشاروا بها. قوله: "تابعه إسرائيل" يعني ابن يونس بن أبي إسحاق "عن أبي حصين" يعني بالسند والمتن، وقد وصله الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بسنده قال مثل رواية هناد عن أبي بكر بن عياش، قال الإسماعيلي: وقد تابعهما قيس بن الربيع عن أبي حصين، قال عياض وغيره: أشار بهذا الحديث على اختلاف ألفاظه إلى قلة المدة بينه وبين الساعة، والتفاوت إما في المجاورة وإما في قدر ما بينهما، ويعضده قوله: "كفضل أحدهما على الأخرى" وقال بعضهم: هذا الذي يتجه أن يقال، ولو كان المراد الأول لقامت الساعة لاتصال إحدى الأصبعين بالأخرى قال ابن التين: اختلف في معنى قوله: "كهاتين" فقيل كما بين السبابة والوسطى في الطول، وقيل المعنى ليس بينه وبينها نبي. وقال القرطبي في "المفهم" حاصل الحديث تقريب أمر الساعة وسرعة مجيئها، قال وعلى رواية النصب يكون التشبيه وقع بالانضمام، وعلى الرفع وقع بالتفاوت. وقال البيضاوي: معناه أن نسبة تقدم البعثة

(11/349)


النبوية على قيام الساعة كنسبة فضل إحدى الأصبعين على الأخرى، وقيل المراد استمرار دعوته لا تفترق إحداهما عن الأخرى، كما أن الأصبعين لا تفترق إحداهما عن الأخرى. ورجح الطيبي قول البيضاوي بزيادة المستورد فيه. وقال القرطبي في "التذكرة": معنى هذا الحديث تقريب أمر الساعة. ولا منافاة بينه وبين قوله في الحديث الآخر "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" فإن المراد بحديث الباب أنه ليس بينه وبين الساعة نبي كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى، ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه لكن سياقه يفيد قربها وأن أشراطها متتابعة كما قال تعالى {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} قال الضحاك: أول أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد. وقال الكرماني: قيل معناه الإشارة إلى قرب المجاورة، وقيل إلى تفاوت ما بينهما طولا، وعلى هذا فالنظر في القول الأول إلى العرض، وقيل المراد ليس بينهما واسطة، ولا معارضة بين هذا وبين قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ونحو ذلك لأن علم قربها لا يستلزم علم وقت مجيئها معينا، وقيل معنى الحديث أنه ليس بيني وبين القيامة شيء، هي التي تليني كما تلي السبابة الوسطى، وعلى هذا فلا تنافي بين ما دل عليه الحديث وبين قوله تعالى عن الساعة {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} وقال عياض: حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الأصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستند إلى أخبار لا تصح. وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم وفسره بخمسمائة سنة، فيؤخذ من ذلك أن الذي يقي نصف سبع وهو قريب مما بين السبابة والوسطى في الطول، قال: وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه. قلت: وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد عياض إلى هذا الحين ثلاثمائة سنة. وقال ابن العربي: قيل الوسطى تزيد على السبابة نصف سبعها، وكذلك الباقي الدنيا من البعثة إلى قيام الساعة. قال: وهذا بعيد ولا يعلم مقدار الدنيا فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمد مجهول، فالصواب الإعراض عن ذلك قلت: السابق إلى ذلك أبو جعفر بن جرير الطبري فإنه أورد في مقدمة تاريخه عن ابن عباس قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مضى ستة آلاف ومائة سنة، وأورده من طريق يحيى بن يعقوب عن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عنه. ويحيى هو أبو طالب القاص الأنصاري، قال البخاري: منكر الحديث، وشيخه هو فقيه الكوفة وفيه مقال. ثم أورد الطبري عن كعب الأحبار قال: الدنيا ستة آلاف سنة. وعن وهب بن منبه مثله وزاد أن الذي مضى منها خمسة آلاف وستمائة سنة، ثم زيفهما ورجح ما جاء عن ابن عباس. ثم أورد حديث ابن عمر الذي في الصحيحين مرفوعا: "ما أجلكم في أجل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس" ومن طريق مغيرة بن حكيم عن ابن عمر بلفظ: "ما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار إذا صليت العصر "ومن طريق مجاهد عن ابن عمر "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان مرتفعة بعد العصر فقال: ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه" وهو عند أحمد أيضا بسند حسن. ثم أورد حديث أنس "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وقد كادت الشمس تغيب" فذكر نحو الحديث الأول عن ابن عمر، ومن حديث أبي سعيد بمعناه قال عند غروب الشمس "إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كبقية يومكم هذا فيما مضى منه" وحديث أبي سعيد أخرجه أيضا وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وحديث أنس أخرجه أيضا وفيه موسى بن خلف، ثم جمع بينهما بما حاصله أنه حمل قوله: "بعد صلاة العصر" على ما إذا صليت في

(11/350)


وسط من وقتها. قلت: وهو بعيد من لفظ أنس وأبي سعيد، وحديث ابن عمر صحيح متفق عليه فالصواب الاعتماد عليه، وله محملان أحدهما أن المراد بالتشبيه التقريب ولا يراد حقيقة المقدار فيه يجتمع مع حديث أنس وأبي سعيد على تقدير ثبوتهما، والثاني أن يحمل على ظاهره فيقدم حديث ابن عمر لصحته ويكون فيه دلالة على أن مدة هذه الأمة قدر خمس النهار تقريبا. ثم أيد الطبري كلامه بحديث الباب وبحديث أبي ثعلبه الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم ولفظه: "والله لا تعجز هذه الأمة من نصف يوم" ورواته ثقات ولكن رجح البخاري وقفه، وعند أبي داود أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: "إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة" ورواته موثقون إلا أن فيها انقطاعا. قال الطبري: ونصف اليوم خمسمائة سنة أخذا من قوله تعالى {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} فإذا انضم إلى قول ابن عباس إن الدنيا سبعة آلاف سنة توافقت الأخبار، فيكون الماضي إلى وقت الحديث المذكور ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة تقريبا. وقد أورد السهيلي كلام الطبري وأيده بما وقع عنده في حديث المستورد، وأكده بحديث زمل رفعه: "الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها". قلت وهذا الحديث إنما هو عن ابن زمل وسنده ضعيف جدا أخرجه ابن السكن في "الصحابة" وقال إسناده مجهول، وليس بمعروف في الصحابة، وابن قتيبة في "غريب الحديث" وذكره في الصحابة أيضا ابن منده وغيره وسماه بعضهم عبد الله وبعضهم الضحاك، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال ابن الأثير: ألفاظه مصنوعة. ثم بين السهيلي أنه ليس في حديث نصف يوم ما ينفي الزيادة على الخمسمائة، قال: وقد جاء بيان ذلك فيما رواه جعفر بن عبد الواحد بلفظ: "إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم" قال وليس في قوله: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ما يقطع به على صحة التأويل الماضي، بل قد قيل في تأويله إنه ليس بينه وبين الساعة نبي مع التقريب لمجيئها. ثم جوز أن يكون في عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر ما يوافق حديث ابن زمل، وذكر أن عدتها تسعمائة وثلاثة. قلت: وهو مبني على طريقة المغاربة في عد الحروف، وأما المشارقة فينقص العدد عندهم مائتين وعشرة فإن السين عند المغاربة بثلاثمائة والصاد بستين وأما المشارقة فالسين عندهم ستون والصاد تسعون فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعين، وقد مضت وزيادة عليها مائة وخمس وأربعون سنة، فالحمل على ذلك من هذه الحيثية باطل، وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة. وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي وهو من مشايخ السهيلي في فوائد رحلته ما نصه: ومن الباطل الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ولا يصل فيها إلى فهم إلا أني أقول. فذكر ما ملخصه أنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، بل تلا عليهم "ص" وحم وفصلت وغيرهما فلم ينكروا ذلك بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه. قلت: وأما عد الحروف بخصوصه فإنما جاء عن بعض اليهود كما حكاه ابن إسحاق في السيرة النبوية عن أبي ياسر ابن أخطب وغيره أنهم حملوا الحروف التي في أوائل السور على هذا الحساب واستقصروا المدة أول ما نزل الم والر، فلما نزل بعد ذلك المص وطسم وغير ذلك قالوا ألبست علينا الأمر. وعلى تقدير أن يكون

(11/351)


ذلك مرادا فليحمل على جميع الحروف الواردة ولا يحذف المكرر، فإنه ما من حرف منها إلا وله سر يخصه، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور ولو تكررت الحروف فيها، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة وعدد حروف الجميع ثمانية وسبعون حرفا وهي الم ستة حم ستة الر خمسة طسم ثنتان المص المر كهيعص حمعسق طه طس يس ص ق ن، فإذا حذف ما كرر من السور وهي خمس من ألم وخمس من حم وأربع من الر وواحدة من طسم بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمانية وثلاثون حرفا فإذا حسب عددها بالجمل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين وأما بالجمل المشرقي فتبلغ ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسين ولم أذكر ذلك ليعتمد عليه إلا لأبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه، وفي الجملة فأقوى ما يعتمد في ذلك عليه حديث ابن عمر الذي أشرت إليه قبل، وقد أخرج معمر في الجامع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال معمر: وبلغني عن عكرمة في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: الدنيا من أولها إلى آخرها يوم مقداره خمسون ألف سنة لا يدري كم مضى ولا كم بقي إلا الله تعالى، وقد حمل بعض شراح "المصابيح" حديث: "لن تعجز هذه الأمة أن يؤخرها نصف يوم" على حال يوم القيامة وزيفه الطيبي فأصاب، وأما زيادة جعفر فهي موضوعة لأنها لا تعرف إلا من جهته وهو مشهور بوضع الحديث وقد كذبه الأئمة مع أنه لم يسق سنده بذلك، فالعجب من السهيلي كيف سكت عنه مع معرفته بحاله. والله المستعان.

(11/352)


من مغربها وخروج الدابة والنار التي تحشر الناس وحديث الباب يؤذن بذلك لأنه جعل في طلوعها من المغرب غاية لعدم قيام الساعة فيقتضي أنها إذا طلعت كذلك انتفى عدم القيام فثبت القيام.قوله: "فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون" وقع في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة في التفسير "فإذا رآها الناس آمن من عليها" أي على الأرض من الناس. قوله: "فذاك" في رواية الكشميهني: "فذلك" وكذا هو في رواية أبي زرعة ووقع في رواية همام عن أبي هريرة في التفسير أيضا: "وذلك" بالواو. قوله: "حين لا ينفع نفسا إيمانها الآية" كذا هنا وفي رواية أبي زرعة "إيمانها لم تكن آمنت من قبل" وفي رواية همام "إيمانها ثم قرأ الآية" قال الطبري: معنى الآية لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع ولا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة وذلك لا يفيد شيئا كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وكما ثبت في الحديث الصحيح "تقبل توبة العبد ما لم يبلغ الغرغرة" وقال ابن عطية: في هذا الحديث دليل على أن المراد بالبعض في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} طلوع الشمس من المغرب وإلى ذلك ذهب الجمهور وأسند الطبري عن ابن مسعود أن المراد بالبعض إحدى ثلاث هذه أو خروج الدابة أو الدجال قال: وفيه نظر لأن نزول عيسى بن مريم يعقب خروج الدجال وعيسى لا يقبل إلا الإيمان فانتفى أن يكون بخروج الدجال لا يقبل الإيمان ولا التوبة. قلت: ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة رفعه: "ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض" قيل فلعل حصول ذلك يكون متتابعا بحيث تبقى النسبة إلى الأول منها مجازية وهذا بعيد لأن مدة لبث الدجال إلى أن يقتله عيسى ثم لبس عيسى وخروج يأجوج ومأجوج كل ذلك سابق على طلوع الشمس من المغرب فالذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب. وقد أخرج مسلم أيضا من طريق أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: "أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب" وفي الحديث قصة لمروان بن الحكم وأنه كان يقول: أول الآيات خروج الدجال فأنكر عليه عبد الله بن عمرو. قلت: ولكلام مروان محمل يعرف مما ذكرته. قال الحاكم أبو عبد الله: الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه. قلت: والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس كما تقدم في حديث أنس في بدء الخلق في مسائل عبد الله بن سلام ففيه: "وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب" وسيأتي فيه زيادة في "باب كيف الحشر" قال ابن عطية وغيره ما حاصله: معنى الآية أن الكافر لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من المغرب وكذلك العاصي لا تنفعه توبته ومن لم يعمل صالحا من قبل ولو كان مؤمنا لا ينفعه العمل بعد طلوعها من المغرب. وقال القاضي عياض: المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها

(11/353)


والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة وارتفع الإيمان بالغيب فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. وقال القرطبي في "التذكرة" بعد أن ذكر هذا: فعلى هذا فتوبة من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن ينسى هذا الأمر أو ينقطع تواتره ويصير الخبر عنه آحادا فمن أسلم حينئذ أو تاب قبل منه. وأيد ذلك بأنه روى أن الشمس والقمر يكسيان الضوء بعد ذلك ويطلعان ويغربان من المشرق كما كانا قبل ذلك. قال وذكر أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن عمران بن حصين قال: إنما لا يقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع لأنه يكون حينئذ صيحة فيهلك بها كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت لم تقبل توبته ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته. قال وذكر الميانشي عن عبد الله بن عمرو رفعه قال: تبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة. قلت: رفع هذا لا يثبت. وقد أخرجه عبد ابن حميد في تفسيره بسند جيد عن عبد الله بن عمرو موقوفا وقد ورد عنه ما يعارضه فأخرج أحمد ونعيم بن حماد من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو رفعه: الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضا. وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو رفعه: إذا طلع الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت الحديث. وأخرج نعيم نحوه عن أبي هريرة والحسن وقتادة بأسانيد مختلفة. وعند ابن عساكر من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رفعه: بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقط منها واحده توالت. وعن أبي العالية بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر يتتابعن كتتابع الخرزات في النظام. ويمكن الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بأن المدة ولو كانت كما قال عشرين ومائة سنة لكنها تمر مرورا سريعا كمقدار مرور عشرين ومائة شهر من قبل ذلك أو دون ذلك كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رفعه: "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر" الحديث وفيه: "واليوم كاحتراق السعفة" وأما حديث عمران فلا أصل له وقد سبقه إلى هذا الاحتمال البيهقي في "البعث والنشور" فقال في "باب خروج يأجوج ومأجوج" فصل ذكر الحليمي أن أول الآيات الدجال ثم نزول عيسى لأن طلوع الشمس من المغرب لو كان قبل نزول عيسى لم ينفع الكفار إيمانهم في زمانه ولكنه ينفعهم إذ لو لم ينفعهم لما صار الدين واحدا بإسلام من أسلم منهم. قال البيهقي: وهو كلام صحيح لو لم يعارض الحديث الصحيح المذكور أن "أول الآيات طلوع الشمس من المغرب" وفي حديث عبد الله بن عمرو طلوع الشمس أو خروج الدابة وفي حديث أبي حازم عن أبي هريرة الجزم بهما وبالدجال في عدم نفع الإيمان. قال البيهقي: إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابق احتمل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك فإذا انقرضوا وتطاول الزمان وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليفه الإيمان بالغيب وكذا في قصة الدجال لا ينفع إيمان من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال وينفعه بعد انقراضه. وإن كان في علم الله طلوع الشمس بعد نزول عيسى احتمل أن يكون المراد بالآيات في حديث عبد الله بن عمرو آيات أخرى غير الدجال ونزول عيسى إذ ليس في الخبر نص على أنه يتقدم عيسى. قلت: وهذا الثاني هو المعتمد والأخبار الصحيحة تخالفه ففي صحيح مسلم من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" فمفهومه أن من تاب بعد ذلك لم تقبل. ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه: "لا تزال تقبل التوبة حتى

(11/354)


يطلع الشمس من مغربها" وسنده جيد. وللطبراني عن عبد الله بن سلام نحوه. وأخرج أحمد والطبري والطبراني من طريق مالك بن يخامر بضم التحتانية بعدها خاء معجمة وبكسر الميم وعن معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو رفعوه "لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل" وأخرج أحمد والدارمي وعبد بن حميد في تفسيره كلهم من طريق أبي هند عن معاوية رفعه: "لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" وأخرج الطبري بسند جيد من طريق أبي الشعثاء عن ابن مسعود موقوفا "التوبة مفروضة ما لم تطلع الشمس من مغربها" وفي حديث صفوان بن عسال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وفي حديث ابن عباس نحوه عند ابن مردويه وفيه: "فإذا طلعت الشمس من مغربها رد المصراعان فليتئم ما بينهما فإذا أغلق ذلك الباب لم تقبل بعد ذلك توبة ولا تنفع حسنة إلا من كان يعمل الخير قبل ذلك فإنه يجري لهم ما كان قبل ذلك" وفيه: "فقال أبي بن كعب: فكيف بالشمس والناس بعد ذلك؟ قال: تكسي الشمس الضوء وتطلع كما كانت تطلع وتقبل الناس على الدنيا فلو نتج رجل مهرا لم يركبه حتى تقوم الساعة" وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند نعيم ابن حماد في كتاب الفتن وعبد الرزاق في تفسيره عن وهب بن جابر الخيواني بالخاء المعجمة قال: "كنا عند عبد الله بن عمرو فذكر قصة قال ثم أنشأ يحدثنا قال: إن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت في الطلوع فيؤذن لها حتى إذا كان ذات ليلة فلا يؤذن لها وتحبس ما شاء الله تعالى ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربت قال فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق كذلك ومن طريق أخرى وزاد فيها قصة المتهجدين وأنهم هم الذين يستنكرون بطء طلوع الشمس. وأخرج أيضا من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: "تأتي ليلة قدر ثلاث ليال لا يعرفها إلا المتهجدون يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ ثم ينام ثم يقوم فعندها يموج الناس بعضهم في بعض حتى إذا صلوا الفجر وجلسوا فإذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها فيضج الناس ضجة واحدة حتى إذا توسطت السماء رجعت" وعند البيهقي في "البعث والنشور" من حديث ابن مسعود نحوه "فينادي الرجل جاره يا فلان ما شأن الليلة لقد نمت حتى شبعت وصليت حتى أعييت" وعند نعيم بن حماد من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو قال: "لا يلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلا حتى تطلع الشمس من مغربها فيناديهم مناد: يا أيها الذين آمنوا قد قبل منكم ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة وجفت الأقلام وطويت الصحف" ومن طريق يزيد بن شريح وكثير بن مرة "إذا طلعت الشمس من المغرب يطبع على القلوب بما فيها وترتفع الحفظة وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملا" وأخرج عبد بن حميد والطبري بسند صحيح من طريق عامر الشعبي عن عائشة "إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام وطويت الصحف وخلصت الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال" وهو وإن كان موقوفا فحكمه الرفع. ومن طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ومن طريق ابن مسعود قال: "الآية التي يختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها" فهذه آثار يشد بعضها بعضا متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة ولم يفتح بعد ذلك وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع بل يمتد إلى يوم القيامة ويؤخذ منها أن طلوع الشمس من مغربها أول الإنذار بقيام الساعة وفي ذلك رد==

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...