Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 27. و28.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 27. و28.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

27.

27  فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 =مشورته فيما يتعلق بالأمور العامة أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وأما أسامة فهو كعلي في طول الملازمة ومزيد الاختصاص والمحبة ولذلك كانوا يطلقون عليه أنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصه دون أبيه وأمه لكونه كان شابا كعلي وأن كان على أسن منه وذلك أن للشاب من صفاء الذهن ما ليس لغيره ولأنه أكثر جرأة على الجواب بما يظهر له من المسن لأن المسن غالبا يحسب العاقبة فربما أخفى ما يظهر له رعاية للقائل تارة والمسؤول عنه أخرى مع ما ورد في بعض الأخبار أنه استشار غيرهما تنبيه وقع بسبب هذا الكلام من على نسبه عائشة إياه إلى الإساءة في شأنها كما تقدم من رواية الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة في المغازي وما راجع به الوليد بن عبد الملك من ذلك فأغنى عن اعادته وقد وضح عذر على في ذلك قوله "وسل الجارية تصدقك" في رواية مقسم عن عائشة أرسل إلى بريرة خادمها فسلها فعسى أن تكون قد اطلعت على شيء من أمرها قوله "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة" بفتح الموحدة وكسر الراء تقدم ضبطها في العتق وفي رواية مقسم "فأرسل إلى بريرة فقال لها أتشهدين أني رسول الله قالت نعم قال فإني سائلك عن شيء فلا تكتمينه قالت نعم قال هل رأيت من عائشة ما تكرهينه قالت لا" وقد قيل إن تسميتها هنا وهم لأن قصتها كانت بعد فتح مكة كما سيأتي أنها لما خيرت فاختارت نفسها كان زوجها يبكي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة الحديث وسيأتي ويمكن الجواب بأن تكون بريرة كانت تخدم عائشة وهي في رق مواليها وأما قصتها معا في مكاتبتها وغير ذلك فكان بعد ذلك بمدة أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصة الإفك وافق اسم بريرة التي وقع لها التخيير وجزم البدر الزركشي فيما استدركته عائشة على الصحابة أن تسمية هذه الجارية ببريرة مدرجة من بعض الرواة وأنها جارية أخرى وأخذه من بن القيم الحنبلي فإنه قال تسميتها ببريرة وهم من بعض الرواة فإن عائشة إنما اشترت بريرة بعد الفتح ولما كاتبتها عقب شرائها وعتقت خيرت فاختارت نفسها فظن الراوي أن قول علي وسل الجارية تصدقك أنها بريرة فغلط قال وهذا نوع غامض لا ينتبه له الا الحذاق قلت وقد أجاب غيره بأنها كانت تخدم عائشة بالأجرة وهي في رق مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ قوله "أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك" في رواية هشام بن عروة فانتهرها بعض أصحابه فقال اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي أويس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي شأنك بالجارية فسألها على وتوعدها فلم تخبره إلا بخير ثم ضربها وسألها فقالت والله ما علمت على عائشة سواء وفي رواية بن إسحاق فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا يقول اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية هشام حتى أسقطوا لها به يقال أسقط الرجل في القول إذا أتى بكلام ساقط والضمير في قوله به للحديث أو الرجل الذي اتهموها به وحكى عياض أن في رواية بن ماهان في مسلم حتى أسقطوا لهاتها بمثناة مفتوحة وزيادة ألف بعد الهاء قال وهو تصحيف لأنهم لو أسقطوا لهاتها لم تستطع الكلام والواقع أنها تكلمت فقالت سبحان الله الخ وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة ثم الطبرائي فقال لست عن هذا أسألك قالت نعمة فلما فطنت قالت سبحان الله وهذا يدل على أن المراد بقوله في الرواية حتى أسقطوا لها به حتى صرحوا لها بالأمر فلهذا تعجبت وقال بن الجوزي أسقطوا لها به أي صرحوا بها بالأمر وقيل جاءوا في خطابها بسقط من القول ووقع في رواية

(8/469)


الطبري من طريق أبي أسامة قال عروة فعيب ذلك على من قاله وقال بن بطال يحتمل أن يكون من قولهم سقط إلى الخبر إذا علمته قال الشاعر إذا هن ساقطن الحديث وقلن لي قال فمعناه ذكروا لها الحديث وشرحوه قوله "إن رأيت عليها أمرا" أي ما رأيت فيها مما تسألون عنه شيئا أصلا وأما من غيره ففيها ما ذكرت من غلبة النوم لصغر سنها ورطوبة بدنها قوله أغمصه بغين معجمة وصاد مهملة أي أعيبه قوله "سوى أنها جارية حديثه السن تنام عن عجين أهلها" في رواية بن إسحاق "ما كنت أعيب عليها إلا أني كنت أعجن عجيني وآمرها أن تحفظه فتنام عنه" وفي رواية مقسم "ما رأيت منها مذ كنت عندها إلا أني عجنت عجينا لي فقلت احفظي هذه العجينة حتى أقتبس نار إلا خبزها فغفلت فجاءت الشاة فأكلتها" وهو يفسر المراد بقوله في رواية الباب حتى تأتي الداجن وهي بدال مهملة ثم جيم الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى وقيل هي كل ما يألف البيوت مطلقا شاة أو طيرا قال بن المنير في الحاشية هذا من الاستثناء البديع الذي يراد به المبالغة في نفي العيب فغفلتها عن عجينها أبعد لها من مثل الذي رميت به وأقرب إلى أن تكون من الغافلات المؤمنات وكذا في قولها في رواية هشام بن عروة ما علمت إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر أي كما لا يعلم الصائغ من الذهب الأحمر إلا الخلوص من العيب فكذلك أنا لا أعلم منها إلا الخلوص من العيب وفي رواية بن حاطب عن علقمة "فقالت الجارية الحبشيه والله لعائشة أطيب من الذهب ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله قالت فعجب الناس من فقهها" قوله "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي أويس ثم خرج حين سمع من بريرة ما قالت وفي رواية هشام بن عروة "قام فينا خطيبا فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد وزاد عطاء الخراساني عن الزهري هنا قبل قوله "فقم وكانت أم أيوب الأنصارية قالت لأبي أيوب أما سمعت ما يتحدث الناس فحدثته بقول أهل الإفك فقال ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم قلت" وسيأتي في الاعتصام من طريق يحيى بن أبي زكريا عن هشام بن عروة في قصة الإفك مختصرة وفيه بعد قوله وأرسل معها الغلام وقال رجل من الأنصار ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك فيستفاد معرفته من رواية عطاء هذه وروى الطبري منه حديث بن عمر قال قال أسامة ما يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك الآية لكن أسامة مهاجري فإن ثبت حمل على التوارد وفي مرسل سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ ممن قال ذلك وروى الطبري أيضا من طريق بن إسحاق حدثني أبي عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب قالت له أم أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة قال بلى وذلك الكذب أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب قالت لا والله قال فعائشة والله خير منك قالت فنزل القرآن لولا إذ سمعتموه الآية وللحاكم من طريق أفلح مولى أبي أيوب عن أبي أيوب نحوه وله من طريق أخرى قال قالت أم طفيل لأبي بن كعب فذكر نحوه قوله فاستعذر من عبد الله بن أبي أي طلب من يعذره منه أي ينصفه قال الخطابي يحتمل أن يكون معناه من يقوم بعذره فيما رمى أهلي به من المكروه ومن يقوم بعذري إذا عاقبته على سوء ما صدر منه ورجح النووي هذا الثاني وقيل معنى من يعذرني من ينصرني والعزيز الناصر وقيل المراد من ينتقم لي منه وهو ليث قبله ويؤيده قول سعد أنا أعذرك منه قوله "بلغني أذاه في أهل بيتي" في رواية هشام بن عروة أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي وهو بفتح الموحدة الخفيفة والنون المضمومة وحكى عياض أن في رواية الأصيلي

(8/470)


بتشديد الموحدة وهي لغة ومعناه عابوا أهلي أو اتهموا أهلي وهو المعتمد لأن الابن بفتحتين التهمة وقال بن الجوزي المراد رموا أهلي بالقبيح ومنه الحديث الذي في الشمائل في ذكر مجلسه صلى الله عليه وسلم لا تؤين فيه الحرم وحكى عياض أن في بتقديم النون الثقيلة على الموحدة قال وهو تصحيف لأن التأنيب هو اللوم الشديد ولا معنى له هنا انتهى قال النووي وقد يوجه بأن المراد لاموهم أشد اللوم فيما زعموا أنهم صنعوه وهم لم يصنعوا شيئا من ذلك لكنه بعيد من صورة الحال والأول هو المعتمد قال النووي التخفيف أشهر وفي رواية بن إسحاق ما بال أناس يؤذوني في أهلي وفي رواية بن حاطب من يعذرني فيمن يؤذيني في أهلي ويجمع في بيته من يؤذيني ووقع في رواية الغساني المذكورة في قوم يسبون أهلي وزاد فيه ما علمت عليهم من سوء قط قوله "ولقد ذكروا رجلا" زاد الطبري في روايته صالحا وزاد أبو أويس في روايته وكان صفوان بن المعطل قعد لحسان فضربه ضربة بالسيف وهو يقول:
تلق ذباب السيف مني فإنني ... غلام إذا هو جئت لست بشاعر
فصاح حسان ففر صفوان فاستوهب النبي صلى الله عليه وسلم من حسان ضربة صفوان فوهبها له قوله "فقام سعد بن معاذ الأنصاري" كذا هنا وفي رواية معمر وأكثر أصحاب الزهري ووقع في رواية صالح بن كيسان فقام سعد أخو بني عبد الأشهل وفي رواية فليح فقام سعد ولم ينسبه وقد تعين أنه سعد بن معاذ لما وقع في رواية الباب وغيره وأما قوله "شيخ شيوخنا القطب" فلهذا وقع في نسخة سماعنا فقام سعد بن معاذ وفي موضع آخر فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فيحتمل أن يكون سعد بن معاذ فإن في بني عبد الأشهل جماعة من الصحابة يسمى كل منهم سعدا منهم سعد بن زيد الأشهلي شهد بدرا وكان على سبايا قريظة الذين بيعوا بنجد وله ذكر في عدة أخبار منها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته قال فيحتمل أن يكون هو المتكلم في قصة الإفك قلت وحمله على ذلك ما حكاه عياض وغيره من الأشكال في ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة والذي جوزه مردود بالتصريح بسعد بن معاذ في هذه الرواية الثالثة فأذكر كلام عياض وما تيسر من الجواب عنه قال عياض في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال لم يتكلم الناس عليه ونبهنا عليه بعض شيوخنا وذلك أن الإفك كان في المريسيع وكانت سنة ست فيما ذكر بن إسحاق وسعد بن معاذ مات من الرمية التي رميها بالخندق فدعا الله فأبقاه حتى حكم في بني قريظة ثم انفجر جرحه فمات منها وكان ذلك سنة أربع ثم الجميع إلا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس قال وعلى كل تقدير فلا يصح ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة والأشبه أنه غيره ولهذا لم يذكره بن إسحاق في روايته وجعل المراجعة أولا وثانيا بين أسيد بن حضير وبين سعد بن عبادة قال وقال لي بعض شيوخنا يصح أن يكون سعد موجودا في المريسيع بناء على الاختلاف في تاريخ غزوة المريسيع وقد حكى البخاري عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع وكذلك الخندق كانت سنة أربع فيصح أن تكون المريسيع قبلها لأن بن إسحاق جزم بأن المريسيع كانت في شعبان وأن الخندق كانت في شوال فإن كانا من سنة واحدة استقام أن تكون المريسيع قبل الخندق فلا يمتنع أن يشهدها سعد بن معاذ انتهى وقد قدمنا في المغازي أن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع كانت سنة خمس وأن الذي نقله عنه البخاري من أنها سنة أربع سبق قلم نعم والراجح أن الخندق أيضا كانت في سنة خمس خلافا لابن إسحاق فيصح الجواب المذكور وممن جزم بأن المريسيع

(8/471)


سنة خمس الطبري، لكن يعكر على هذا شيء لم يتعرضوا له أصلا وذلك أن ابن عمر ذكر أنه كان معهم في غزوة بني المصطلق وهو المريسيع كما تقدم من حديثه في المغازي وثبت في الصحيحين أيضا أنه عرض في يوم أحد النبي صلى الله عليه وسلم وعرض في الخندق فأجازه فإذا كان أول مشاهده الخندق وقد ثبت أنه شهد المريسيع لزم أن تكون المريسيع بعد الخندق فيعود الإشكال ويمكن الجواب بأنه لا يلزم من كون بن عمر كان معهم في غزوة بني المصطلق أن يكون أجيز في القتال فقد يكون صحب أباه ولم يباشر القتال كما ثبت عن جابر أنه كان يمنح الماء لأصحابه يوم بدر وهو لم يشهد بدرا باتفاق وقد سلك البيهقي في أصل الإشكال جوابا آخر بناء على أن الخندق قبل المريسيع فقال يجوز أن يكون جرح سعد بن معاذ لم ينفجر من بني قريظة بل تأخر زمانا ثم انفجر بعد ذلك وتكون مراجعته في قصة الإفك في أثناء ذلك ولعله لم يشهد غزوة المريسيع لمرضه وليس ذلك مانعا له أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك مما أجابه وأما دعوى عياض أن الذين تقدموا لم يتكلموا على الإشكال المذكور فما أدرى من الذين عناهم فقد تعرض له من القدماء إسماعيل القاضي فقال الأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق للحديث الصحيح عن عائشة واستشكله بن حزم لاعتقاده أن الخندق قبل المريسيع وتعرض له بن عبد البر فقال رواية من روى أن سعد بن معاذ راجح في قصة الإفك سعد بن عبادة وهم خطأ وإنما راجع سعد بن عبادة أسيد بن حضير كما ذكره بن إسحاق وهو الصحيح فإن سعد بن معاذ مات في منصرفهم من غزوة بني قريظة لا يختلفون في ذلك فلم يدرك المريسيع ولا حضرها وبالغ بن العربي على عادته فقال اتفق الرواة على أن ذكر بن معاذ في قصة الإفك على هذا الإطلاق القرطبي قوله "أعذرك منه" في رواية فليح فقال أنا والله أعذرك منه ووقع في رواية معمر أعذرك منه بحذف المبتدأ قوله "إن كان من الأوس" يعني قبيلة سعد بن معاذ قوله "ضربنا عنقه" في رواية صالح بن كيسان ضربت بضم الشاة وإنما قال ذلك لأنه كان سيدهم فجزم بأن حكمة فيهم نافذ قوله "وإن كان من إخواننا من الخزرج" من الأولى تبعضية والأخرى بيانية ولهذا سقطت من رواية فليح قوله "أمرتنا ففعلنا" التابعين في رواية بن جريج أتيناك به ففعلنا فيه التابعين قوله "فقام سعد بن عبادة" وهو سيد الخزرج في رواية صالح بن كيسان فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج انتهى وأم حسان عدا الفريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة وقوله "من فخذه بعد" قوله "بنت عمه" إشارة إلى أنها ليست بنت عمه لحا لأن سعد بن عبادة يجتمع معها في ثعلبة وقد تقدم سياق نسبه في المناقب قوله "وكان قبل ذلك رجلا صالحا" أي كامل الصلاح في رواية الواقدي وكان صالحا لكن الغضب بلغ منه ومع ذلك لم يغمص عليه في دينه قوله "ولكن احتملته الحمية" كذا للأكثر احتملته بمهملة ثم مثناة ثم ميم أي أغضبته وفي رواية معمر ثم مسلم وكذا يحيى بن سعيد ثم الطبراني اجتهلته بجيم ثم مثناة ثم هاء وصوبها الوقشي أي حملته على الجهل قوله فقال لسعد أي بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله العمر بفتح العين المهملة هو البقاء وهو العمر بضمها لكن لا يستعمل في القسم إلا بالفتح قوله ولا تقدر على قتله ولوكان من رهطك ما أحببت أن تقتل1" فسر قوله لا تقتله بقوله ولا تقدر على قتله إشارة إلى أن قومه يمنعونه من قتله وأما قوله ولو كان من رهطك فهو من تفسير
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: "ولو كان من رهطك الخ" ليس في نسخ المتن التي بأيدينا.

(8/472)


قوله كذبت أي في قولك إن كان من الأوس ضربت عنقه فنسبه إلى الكذب في هذه الدعوى وأنه جزم أن يقتله إن كان من رهطه مطلقا وأنه إن كان رهطه إن أمر بقتله قتله وإلا فلا فكأنه قال له بل الذي نعتقده على العكس بما نطقت به وأنه لو إن كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ولكنه رهطك فأنت تحب أن يقتل وهذا بحسب ما ظهر له في تلك الحالة ونقل بن التين عن الداودي أن معنى قوله "كذبت لا تقتله" أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمة إليك فذلك لا تقدر على قتله وهو حمل جيد وقد بينت الروايات الأخرى السبب الحامل لسعد بن عبادة على ما قال ففي رواية بن إسحاق فقال سعد بن عبادة ما قلت هذه المقالة إلا إنك علمت أنه من الخزرج وفي رواية بن حاطب فقال سعد بن عبادة يا بن معاذ والله ما بك نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها قد كانت بيننا ضغائن في الجاهلية وإحن لم تحلل لنا من صدوركم فقال بن معاذ الله أعلم بما أردت وفي حديث بن عمر إنما طلبت به دخول الجاهلية قال بن التين قول بن معاذ إن كان من الأوس ضربت عنقه إنما قال ذلك لأن الأوس قومه وهم بنو النجار ولم يقل في الخزرج لما كان بين الأوس والخزرج من التشاحن قبل الإسلام ثم زال بالإسلام وبقي بعضه بحكم الأنفة قال فتكلم سعد بن عبادة بحكم الأنفة ونفى أن يحكم فيهم سعد بن معاذ وهو من الأوس قال ولم يرد سعد بن عبادة الرضا بما نقل عن عبد الله بن أبي وإنما بمعنى قول عائشة وكان قبل ذلك رجلا صالحا أي لم يتقدم منه ما يتعلق بالوقوف مع أنفة الحمية ولم ترد أنه ناضل عن المنافقين وهو كما قال إلا أن دعواه أن بني النجار قوم سعد بن معاذ خطأ وإنما هم من رهط سعد بن عبادة ولم يجر لهم في هذه القصة ذكر وقد تأول بعضهم ما دار بين السعدين بتأويل بعيد فارتكب شططا فزعم أن قول سعد بن عبادة لا تقتله ولا تقدر على قتله أي إن كان من الأوس واستدل على ذلك بأن بن معاذ لم يقل في الخزرجي ضربنا عنقه وإنما قال ذلك في الأوسي فدل على أن بن عبادة لم يقل ذلك حمية لقومه إذ لو كان حمية لم يوجهها رهط غيره قال وسبب قوله ذلك أن الذي خاض في الإفك كان يظهر الإسلام ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام وأراد أن بقية قومه يمنعونه منه إذا أراد قتله إذا لم يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله فكأنه قال لا تقل ما لا تفعل ولا تعد بما لا تقدر على الوفاء به ثم أجاب عن قول عائشة احتملته الحمية بأنها كانت حينئذ منزعجة الخاطر لما دهمها من الأمر فقد يقع في فهمها ما يكون أرجح منه وعن قول أسيد بن حضير الآتي بأنه حمل قول بن عبادة على ظاهر لفظه وخفي عليه أن له محملا سائغا انتهى ولا يخفى ما فيه من التعسف حاجة إلى ذلك وقوله إن عائشة قالت ذلك وهي منزعجة الخاطر مردود لأن ذلك إنما يتم لو كانت حدثت بذلك ثم وقوع الفتنة والواقع أنها إنما حدثت بها بعد حتى سمع ذلك منها عروة وغيره من التابعين كما قدمت الإشارة إليه وحينئذ كان ذلك الانزعاج وزال وانقضى والحق أنها فهمت ذلك ثم وقوعه بقرائن الحال وأما قوله لا تقدر على قتله مع أن سعد بن معاذ لم يقل بقتله كما قال في حق من يكون من الأوس فإن سعد بن عبادة فهم أن قول بن معاذ أمرتنا بأمرك أي إن أمرتنا بأمرك أي أمرتنا بقتله قتلناه وإن أمرت قومه بقتله قتلوه فنفى سعد بن عبادة قدرة سعد بن معاذ على قتله إن كان من الخزرج لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا قومه بقتله فكأنه أيأسه من مباشرة قتله وذلك بحكم الحمية التي أشارت إليها عائشة ولا يلزم من ذلك ما فهمه المذكور أنه يرد أمر النبي صلى الله عليه بقتله ولا يمتثله حاشا لسعد من ذلك وقد اعتذر المازري عن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك منافق أن ذلك

(8/473)


وقع منه على جهة الغيظ والحنق والمبالغة في زجر سعد بن عبادة عن المجادلة عن بن أبي وغيره ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر قال ولعله صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإنكار عليه لذلك وسأذكر ما في فوائد هذا الحديث في آخر شرحه زيادة في هذا قوله "فقام أسيد بن حضير" بالتصغير فيه وفي أبيه وأبوه بمهملة ثم معجمة تقدم نسبه في المناقب قوله "وهو بن عم سعد بن معاذ" أي من رهطه ولم يكن بن عمه لحا لأنه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ آلاف بن زيد بن عبد الأشهل وأسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن امرئ آلاف إنما يجتمعان في امرئ آلاف وهما في التعدد إليه سواء قوله "فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه" أي ولو كان من الخزرج إذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وليست لكم قدرة على منعنا من ذلك قوله "فإنك منافق تجادل عن المنافقين" أطلق أسيد ذلك مبالغة في زجره عن القول الذي قاله وأراد بقوله "فإنك منافق" أي تصنع صنيع المنافقين وفسره بقوله "تجادل عن المنافقين" وقابل قوله لسعد بن معاذ كذبت لا تقتله بقوله هو كذبت لنقتلنه وقال المازري إطلاق أسيد لم يرد به نفاق الكفر وإنما أراد أنه كان يظهر المودة للأوس ثم ظهر منه في هذه القصة ضد ذلك فأشبه حال المنافق لأن حقيقته إظهار شيء واخفاء غيره ولعل هذا هو السبب في ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه قوله فتثاور بمثناة ثم مثلثة تفاعل من الثورة والحيان بمهملة ثم تحتانية تثنية حي والحي كالقبيلة أي نهض بعضهم إلى بعض من الغضب ووقع في حديث بن عمر وقام سعد بن معاذ فسل سيفه قوله حتى هموا أن يقتتلوا زاد بن جريج في روايته في قصة الإفك هنا قال قال بن عباس فقال بعضهم لبعض موعدكم الحرة أي خارج المدينة لتتقاتلوا هناك قوله "فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا" وفي رواية بن حاطب فلم يزل يوميء بيده إلى الناس ههنا حتى هدأ الصوت وفي رواية فليح فنزل فخفضهم حتى سكتوا ويحمل على أنه سكتهم وهو على المنبر ثم نزل إليهم أيضا ليكمل تسكيتهم ووقع في رواية عطاء الخراساني عن الزهري فحجز بينهم قوله "فمكثت يومي ذلك في رواية الكشميهني فبكيت وهي في رواية فليح وصالح وغيرهما قوله "فأصبح أبواي عندي" أي أنهما جاآ إلى المكان الذي هي به من بينهما لا أنها رجعت من عندهما إلى بيتها ووقع في رواية محمد بن ثور عن معمر ثم الطبري وأنا في بيت أبوي قوله وقد بكيت ليلتين ويوما أي الليلة التي أخبرتها فيها أم مسطح الخبر واليوم الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم الناس والليلة التي تليه ووقع في رواية فليح وقد بكيت ليلتي ويوما وكأن الياء مشددة ونسبتهما إلى نفسها لما وقع لها فيهما قوله فبيناهما وفي رواية الكشميهني فبينما هما قوله يظنان أن البكاء فالق كبدي في رواية فليح حتى أظن ويجمع بأن الجميع كانوا يظنون ذلك قوله فاستأذنت كذا فيه وفي الكلام حذف تقديره جاءت امرأة فاستأذنت وفي رواية فليح إذ استأذنت قوله امرأة من الأنصار لم صليت على عدا قوله فبينا نحن على ذلك في رواية الكشميهني فبينا نحن كذلك وهي رواية فليح والأول رواية صالح قوله دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي في رواية هشام بن عروة بلفظ فأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي وفي رواية بن حاطب وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سرير وجاهي وفي حديث أم رومان إن عائشة في تلك الحالة كانت بها الحمى النافض وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل فوجدها كذلك قال ما شأن هذه قالت أخذتها الحمى بناقض قال فلعله في حديث تحدث قالت نعم فقعدت

(8/474)


عائشة قوله ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني حكى التسهيلي أن بعض المفسرين ذكر أن المدة كانت سبعة وثلاثين يوما فألغى الكسر في هذه الرواية وعند بن حزم أن المدة كانت خمسين يوما أو أزيد ويجمع بأنها المدة التي كانت بين قدومهم المدينة ونزول القرآن في قصة الإفك وأما التقييد بالشهر فهو المدة التي أولها إتيان عائشة إلى بيت أبويها حين بلغها الخبر قوله "فتشهد" في رواية هشام بن عروة "فحمد الله وأثنى عليه" قوله "أما بعد يا عائشة فأنه بلغني عنك كذا وكذا" هو كناية عما رميت به من الإفك ولم أر في شيء من الطرق التصريح فلعل الكناية من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية بن إسحاق فقال يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتق الله وأن كنت قارفت سوءا فتوبى قوله "فإن كنت بريئة فسيبرئك الله" أي بوحى ينزله بذلك قرآنا أو غيره قوله "وإن كنت ألممت بذنب" أي وقع منك على خلاف العادة وهذا حقيقة الإدام ومنه ألمت بنا والليل مرخ ستوره قوله "فاستغفري الله وتوبي إليه" في رواية معمر ثم توبي إليه وفي رواية أبي أويس إنما أنت من بنات آدم إن كنت أخطأت فتوبى قوله "فان العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه" قال الداودي أمرها بالاعتراف ولم يندبها إلى الكتمان المفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن ولا يكتمنه إياه لأنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك بخلاف نساء الناس فأنهن تدين إلى الستر بالإجماع عياض بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك ولا فيه أنه أمرها بالاعتراف وإنما أمرها أن تستغفر الله وتتوب إليه أي فيما بينها وبين ربها فليس صريحا في الأمر لها بان تعترف ثم الناس بذلك وسياق جواب عائشة يشعر بما قاله الداودي لكن المعترف عنده ليس إطلاقه فليتأمل ويؤيد ما قاله عياض أن في رواية حاطب قالت فقال أبي إن كنت صنعت شيئا فاستغفري الله وإلا فأخبري رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذرك قوله "قلص دمعي" بفتح القاف واللام ثم مهملة أي استمسك نزوله فانقطع ومنه قلص الظل إذا شمر قال القرطبي سببه أن الحزن والغضب إذا أخذ أحدهما فقد الدمع لفرط حرارة المصيبة قوله "حتى ما أحس" بضم الهمزة وكسر المهملة أي أجد قوله "فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قال والله ما أدري ما أقول" قيل إنما قالت عائشة لأبيها ذلك مع أن السؤال إنما وقع عما في باطن الأمر وهو لا اطلاع له على ذلك لكن قالته إشارة إلى أنها لم يقع منها شيء في الباطن يخالف الظاهر الذي هو يطلع عليه فكأنها قالت له برئني بما شئت وأنت على ثقة من الصدق فيما تقول وإنما أجابها أبو بكر بقوله لا أدري لأنه كان كثير الأتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بما يطابق السؤال في المعنى ولأنه وإن كان يتحقق براءتها لكنه كره أن يزكى ولده وكذا الجواب عن قول أمها لا أدري ووقع في رواية هشام بن عروة الآتية فقال ماذا أقول وفي رواية أبي أويس فقلت لأبي أجب فقال لا أفعل هو رسول الله والوحي يأتيه قوله قالت قلت وأنا جارية حديثه السن لا أقرأ كثيرا من القرآن قالت هذا توطئة لعذرها لكونها لم تستحضر اسم يعقوب عليه السلام كما سيأتي ووقع في رواية هشام بن عروة الآتيه فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت أما بعد وفي رواية بن إسحاق فلما استعجما على استعبرت فبكيت ثم قلت والله لا أتوب مما ذكروا أبدا قوله حتى استقر في أنفسكم في رواية فليح وقر بالتخفيف أي ثبت وزنا ومعنى قوله وصدقتم به في رواية هشام بن عروة لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم قالت هذا وإن لم يكن على حقيقته على

(8/475)


سبيل المقابلة لما وقع من المبالغة في التنقيب عن ذلك وهي كانت لما تحققته من براءة نفسها ومنزلتها تعتقد أنه كان ينبغي لكل من سمع عنها ذلك أن يقطع بكذبه لكن العذر لهم عن ذلك أنهم أرادوا إقامة الحجة على من تكلم في ذلك ولا يكفي فيها مجرد نفي ما قالوا والسكوت عليه بل تعين التنقيب عليه لقطع شبههم أو مرادها بمن صدق به أصحاب الإفك لكن ضمت إليه من لم يكذبهم تغليبا قوله "لا تصدقونني بذلك أي لا تقطعون بصدقي وفي رواية هشام بن عروة ما ذاك بنافعي عندكم وقالت في الشق الآخر لنصدقني وهو بتشديد النون والأصل تصدقونني فأدغمت إحدى النونين في الأخرى وإنما قالت ذلك لأن المرء مؤاخذ بإقراره ووقع في حديث أم رومان لئن حلفت لا تصدقونني ولئن قلت لا تعذرونني قوله والله ما أجد لكم مثلا في رواية صالح وفليح ومعمر ما أجد لكم ولي مثلا قوله "إلا قول أبي يوسف" زاد بن جريج في روايته واختلس مني اسمه وفي رواية هشام بن عروة والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه وفي رواية أبي أويس نسيت اسم يعقوب لما بي من البكاء واحتراق الجوف ووقع في حديث أم رومان مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه وهي بالمعنى للتصريح في حديث هشام وغيره بأنها لم تستحضر اسمه قوله ثم تحولت فاضطجعت على فراشي زاد بن جريج ووليت وجهي نحو الجدر قوله "وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي" زعم بن التين أنه وقع عنده وإن الله مبرئني بنون قبل الياء وبعد الهمزة قال وليس ببين لأن نون الوقاية تدخل في الأفعال لتسلم من الكسر والأسماء تكسر فلا تحتاج إليها انتهى والذي وقفنا عليه في جميع الروايات مبرئي بغير نون وعلى تقدير وجود ما ذكر فقد سمع مثل ذلك في بعض اللغات قوله ولكن والله ما كنت أظن أن في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر زاد يونس في روايته يتلى وفي رواية فليح من أن يتكلم بالقرآن في أمري وفي رواية بن إسحاق يقرأ به في به قوله فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فارق ومصدره الريم بالتحتانية بخلاف رام بمعنى طلب فمصدره الروم ويفترقان في المضارع يقال رام يروم روما ورام يريم ريما وحذف في هذه الرواية الفاعل ووقع في رواية صالح وفليح ومعمر وغيرهم مجلسه أي ما فارق مجلسه قوله ولا خرج أحد من أهل البيت أي الذين كانوا حينئذ حضورا ووقع في رواية أبي أسامة وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته قوله "فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء" بضم الموحدة وفتح الراء ثم مهملة ثم مد هي شدة الحمى وقيل شدة الكرب وقيل شدة الحر ومنه برح بي الهم إذا بلغ مني غايته ووقع في رواية إسحاق بن راشد وهو العرق وبه جزم الداودي وهو تفسير باللازم غالبا لأن البرحاء شدة الكرب ويكون عنده العرق غالبا وفي رواية بن حاطب وشخص بصره إلى السقف وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة ثم الحاكم فأتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي أخذه السبل وفي رواية بن إسحاق فسجى بثوب ووضعت تحت رأسه وسادة من أدم قوله حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه الجمان بضم الجيم وتخفيف الميم اللؤلؤ وقيل حب يعمل من الفضة كاللؤلؤ وقال الداودي خرز أبيض والأول أولى فشبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بالجمان لمشابهتها في الصفاء والحسن وزاد بن جريج في روايته قال أبو بكر فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى أن ينزل من السماء ما لا مرد له وأنظر إلى وجه عائشة فإذا هو منبق فيطمعني ذلك فيها وفي رواية بن إسحاق فأما أنا فوالله ما فزعت

(8/476)


قد عرفت أني بريئة وأن ظالمي وأما أبواي فما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسها فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما يقول الناس ونحوه في رواية الواقدي قوله فلما سرى بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة أي كشف قوله "وهو يضحك" في رواية هشام بن عروة فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه يمسح جبينه وفي رواية بن حاطب فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ثم مسح وجهه قوله "فكان أول كلمة تكلم بها يا عائشة: "أما الله عز وجل فقد برأك" في رواية صالح بن كيسان قال يا عائشة وفي رواية فليح أن قال لي يا عائشة: " احمدي الله فقد برأك" زاد في رواية معمر أبشري وكذا في رواية هشام بن عروة وعند الترمذي من هذا الوجه البشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك وفي رواية عمر بن أبي سلمة فقال أبشري يا عائشة قوله "أما الله فقد برأك" أي بما أنزل من القرآن قوله "فقالت أمي قومي إليه قال فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله" في رواية صالح فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي وفي رواية الطبري من هذا الوجه أحمد الله لا إياكما وفي رواية بن جريج فقلت بحمد الله وذمكما وفي رواية أبي أويس نحمد الله ولا نحمدكم وفي رواية أم رومان وكذا في حديث أبي هريرة فقالت نحمد الله لا نحمدك ومثله في رواية عمر بن أبي سلمة وكذا ثم الواقدي وفي رواية بن حاطب والله لا نحمدك ولا نحمد أصحابك وفي رواية مقسم والأسود وكذا في حديث بن عباس ولا نحمدك ولا نحمد أصحابك وزاد في رواية الأسود عن عائشة وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فانتزعت يدي منه فنهرني أبو بكر وعذرها في إطلاق ذلك ما ذكرته من الذي خامرها من الغضب من كونهم لم يبادروا بتكذيب من قال فيها ما قال مع تحققهم حسن طريقتها قال بن الجوزي إنما قالت ذلك إدلالا كما يدل الحبيب على حبيبه وقيل أشارت إلى أفراد الله تعالى بقولها فهو الذي أنزل براءتي فناسب إفراده بالحمد في الحال ولا يلزم منه ترك الحمد بعد ذلك ويحتمل أن تكون مع ذلك تمسكت بظاهر قوله "صلى الله عليه وسلم لها احمدي الله" ففهمت منه أمرها بإفراد الله تعالى بالحمد فقالت ذلك وما أضافته إليه من الألفاظ المذكورة كان من باعث الغضب وروى الطبري وأبو عوانة من طريق أبي حصين عن مجاهد قال قالت عائشة لما نزل عذرها فقبل أبو بكر رأسها فقلت ألا عذرتني فقال أي سماء تظلني ونصف أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم قوله فأنزل الله تعالى إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم العشر الآيات كلها قلت آخر العشرة قوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} لكن وقع في رواية عطاء الخراساني عن الزهري فانزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} إلى قوله إن يغفر الله لكم والله غفور رحيم وعدد الآي إلى هذا الموضع ثلاث عشر آية فلعل في قولها العشر الآيات مجازا بطريق إلغاء الكسر وفي رواية الحكم بن عتيبة مرسلا عن الطبري لما خاض الناس في أمر عائشة فذكر الحديث مختصرا وفي آخره فانزل الله تعالى خمس عشرة آية من سورة النور حتى بلغ الخبيثات للخبيثين وهذا فيه تجوز وعدة الاي إلى هذا الموضع ست عشرة وفي مرسل سعيد بن جبير ثم بن أبي حاتم والحاكم في الأكليل فنزلت ثماني عشرة آية متواليه كذبت من قذف عائشة إن الذين جاءوا إلى قوله "رزق كريم" وفيه ما فيه أيضا وتحرير العدة سبع عشرة قال الزمخشري لم يقع في القرآن من التغليظ في معصية ما وقع في قصة الإفك بأوجز عبارة وأشبعها لاشتماله على الوعيد الشديد والعتاب البليغ

(8/477)


والزجر العنيف واستعظام القول في ذلك واستشناعه بطرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه بل ما وقع منها من وعيد عبدة الأوثان إلا بما هو دون ذلك وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير من هو منه بسبيل وعند أبي داود من طريق حميد الأعرج عن الزهري عن عروة عن عائشة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف الثوب عن وجهه ثم قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم وفي رواية بن إسحاق ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ويجمع بأنه قرأ ذلك ثم عائشة ثم خرج فقرأها على الناس قوله فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر يؤخذ منه مشروعية ترك المؤاخذة بالذنب ما دام احتمال عدمه موجودا لأن أبا بكر لم يقطع نفقة مسطح إلا بعد تحقيق ذنبه فيما وقع منه قوله لقرابته منه تقدم بيان ذلك قبل قوله وفقره علة أخرى للأنفاق عليه قوله بعد الذي قال لعائشة أي عن عائشة وفي رواية هشام بن عروة فخلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا قوله ولا يأتل سيأتي شرحه في باب مفرد قريبا قوله وليعفوا وليصفحوا قال مسلم حدثنا حبان بن موسى أنبأنا عبد الله بن المبارك قال هذه أرجى آية في كتاب الله انتهى وإلى ذلك إشار القائل:
فإن قدر الذنب من مسطح ... يحط قدر النجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى ... وعوتب الصديق في حقه
قوله قال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي في رواية هشام بن عروة بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا قوله فرجع إلى مسطح النفقة أي ردها إليه وفي رواية فليح فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه وفي رواية هشام بن عروة وعاد له بما كان يصنع ووقع ثم الطبراني أنه صار يعطيه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك قوله يسأل زينب بنت جحش أي أم المؤمنين أحمى سمعي وبصري أي من الحماية فلا أنسب إليهما ما لم أسمع وأبصر قوله وهي التي كانت تساميني أي تعاليني من السمو وهو العلو والارتفاع أي تطلب من العلو والرفعة والحظوة ثم النبي صلى الله عليه وسلم ما أطلب أو تعتقد أن الذي لها عنده مثل الذي لي عنده وذهل بعض الشراح فقال إنه من سوم الخسف وهو حمل الإنسان على ما يكرهه والمعنى تغايظني وهذا لا يصح فإنه لا يقال في مثله سام ولكن ساوم قوله فعصمها الله أي حفظها ومنعها قوله بالورع أي بالمحافظة على دينها وبجانبه ما تخشي سوء عاقبته قوله وطفقت بكسر الفاء وحكى فتحها أي جعلت أو شرعت وحمنة بفتح المهملة وسكون الميم وكانت تحت طلحة بن عبيد الله قوله تحارب لها أي تجادل لها وتنعصب وتحكي ما قال أهل الإفك لتنخفض منزلة عائشة وتعلو مرتبة أختها زينب قوله فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك أي حدثت فيمن حدث أو أئمت مع من أثم زاد صالح بن كيسان وفليح ومعمر وغيرهم قال بن شهاب فهذا الذي بلغنا من حديث هؤلاء الرهط زاد صالح بن كيسان عن بن شهاب عن عروة قالت عائشة والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله والذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط وقد تقدم شرحه قبل قالت عائشة ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله وتقدم الخلاف في سنة قتله وفي الغزاة التي استشهد فيها في أوائل الكلام على هذا الحديث ووقع في آخر رواية هشام بن عروة وكان الذي تكلم به مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن

(8/478)


أبي وهو الذي يستوشيه وهو الذي تولى كبره هو وحمنه وعند الطبراني من هذا الوجه وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ومسطح وحمنة وحسان وكان كبر ذلك من قبل عبد الله بن أبي وعند أصحاب السنن من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حد القذف على الذين تكلموا بالإفك لكن لم يذكر فيهم عبد الله بن أبي وكذا في حديث أبي هريرة ثم البزار وبنى على ذلك صاحب الهدى فأبدى الحكمة في ترك الحد على عبد الله بن أبي وفاته أنه ورد أنه ذكر أيضا فيمن أقيم عليه الحد ووقع ذلك في رواية أبي أويس وعن حسن بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر أخرجه الحاكم في الأكليل وفيه رد على الماوردي حيث صحح أنه لم يحدهم مستندا إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار ثم قال وقيل إنه حدهم وما ضعفه هو الصحيح المعتمد وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى وفي هذا الحديث من ما تقدم جواز الحديث عن جماعة ملفقا مجملا وقد تقدم البحث فيه وفيه حتى بين النساء وفي المسافرة بهن والسفر بالنساء حتى في الغزو وجواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس إذا تضمن ذلك إزلة توهم النقص عن الحاكي إذا كان بريئا ثم قصد نصح من يبلغه ذلك لئلا يقع فيما وقع فيه من سبق وإن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أولى من تركه يقع في الإثم وتحصيل الأجر للموقوع فيه وفيه استعمال التوطئة فيما يحتاج إليه من الكلام وأن الهودج يقوم مقام البيت في حجب المرأة وجواز ركوب المرأة الهودج على ظهر البعير ولو كان ذلك عليه حيث يكون مطيقا لذلك وفيه رحمة الأجانب للمرأة من وراء الحجاب وجواز تستر المرأة بالشيء المنفصل عن البدن وتوجه المرأة لقضاء حاجتها وحدها وبغير إذن خاص من زوجها بل اعتمادا على الأذن العام المستند إلى العرف العام وجواز تحلى المرأة في السفر بالقلادة ونحوها وصيانة المال ولو قل للنهي عن إضاعة المال فإن عقد عائشة لم يكن من ذهب ولا جوهر وفيه شؤم الحرص على المال لأنها لو لم تطل في التفتيش لرجعت بسرعة فلما زاد على قدر الحاجة أثر ما جرى وقريب منه قصة المتخاصمين حيث رفع علم ليلة القدر بسببهما فإنهما لم يقتصرا على ما لا بد منه بل زاد في الخصام حتى ارتفعت أصواتهما فأثر ذلك بالرفع المذكور وتوقف رحيل العسكر على إذن الأمير واستعمال بعض الجيش ساقه يكون أمينا ليحمل الضعيف ويحفظ ما يسقط وغير ذلك من المصالح والاسترجاع ثم المصيبة وتغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي وإطلاق الظن على العلم كذا قيل وفيه نظر قدمته وإغاثة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي القدر وإيثارهم بالركوب وتجشم المشقة لأجل ذلك وحسن الأدب مع الأجانب خصوصا النساء لا سيما في الخلوة والمشي أمام المرأة ليستقر خاطرها وتأمن مما يتوهم من نظره لما عساه ينكشف منها في حركة المشي وفيه ملاطفة الزوجة وحسن معاشرتها والتقصير من ذلك ثم إشاعة ما يقتضي النقص وإن لم يتحقق وفائدة ذلك أن تتفطن لتغيير الحال فتعتذر أو تعترف وأنه لا ينبغي لأهل المريض أن يعلموه بما يؤذي باطنه لئلا يزيد ذلك في مرضه وفيه السؤال عن المريض وإشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة فإذا كان السبب محققا فيترك أصلا وإن كان مظنونا فيخفف وإن كان مشكوكا فيه أو محتملا فيحسن التقليل منه لا للعمل بما قيل بل لئلا يظن بصاحبه عدم المبالاة بما قيل في حقه لأن ذلك من خوارم المروءة وفيه أن المرأة إذا خرجت لحاجة تستصحب من يؤنسها أو يخدمها ممن يؤمن عليها وفيه ذب المسلم عن المسلم خصوصا من كان من أهل الفضل وردع من يؤذيهم ولو كان منهم بسبيل وبيان مزيد

(8/479)


فضيلة أهل بدر وإطلاق السب على لفظ الدعاء بالسوء على الشخص وفيه البحث عن الأمر القبيح إذا أشيع وتعرف صحته وفساده بالتنقيب على من قيل فيه هل وقع منه قبل ذلك ما يشبهه أو يقرب منه واستصحاب حال من أتهم بسوء إذا كان قبل ذلك معروفا بالخير إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك وفيه فضيلة قوية لأم مسطح لأنهالم تحاب ولدها في وقوعه في حق عائشة بل تعمدت سبه على ذلك وفيه تقوية لأحد الاحتمالين في قوله صلى الله عليه وسلم عن أهل بدر إن الله قال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأن الراجح أن المراد بذلك أن الذنوب تقع منهم لكنها مقرونة بالمغفرة تفضيلا لهم على غيرهم بسبب ذلك المشهد العظيم ومرجوحية القول الآخر أن المراد أن الله تعالى عصمهم فلا يقع منهم ذنب نبه على ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به وفيه مشروعية التسبيح ثم سماع ما يعتقد السامع أنه كذب وتوجيهه هنا أنه سبحانه وتعالى ينزه أن يحصل لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدنيس فيشرع شكره بالتنزيه في مثل هذا نبه عليه أبو بكر بن العربي وفيه توقف خروج المرأة من بيتها على إذن زوجها ولو كانت إلى بيت أبويها وفيه البحث عن الأمر المقول ممن يدل عليه المقول فيه والتوقف في خير الواحد ولو كان صادقا وطلب الارتقاء من مرتبة الظن إلى مرتبة اليقين وأن خبر الواحد إذا جاء شيئا بعد شيء أفاد القطع لقول عائشة لأستيقن الخبر من قبلهما وأن ذلك لا يتوقف على عدد معين وفيه استشارة المرء أهل بطانته ممن يلوذ به بقرابة وغيرها وتخصيص من جربت صحة رأيه منهم بذلك ولو كان غيره أقرب والبحث عن حال من اتهم بشيء وحكاية ذلك للكشف عن أمره ولا يعد ذلك غيبة وفيه استعمال لا نعلم إلا خيرا في التزكية وأن ذلك كاف في حق من سبقت عدالته ممن يطلع على خفي أمره وفيه التثبت في الشهادة وفطنة الإمام ثم الحادث المهم والاستنصار بالاخصاء على الأجانب وتوطئة العذر لمن يراد إيقاع العقاب به أو العتاب له واستشارة الأعلى لمن هو دونه واستخدام من ليس في الرق وأن من استفسر عن حال شخص فأراد بيان ما فيه من عيب فليقدم ذكر عذره في ذلك إن كان يعلمه كما قالت بريرة في عائشة حيث عاتبها بالنوم عن العجين فقدمت قبل ذلك أنها جارية حديثه السن وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي نبه عليه الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به وأن الحمية لله ورسوله لا تذم وفيه فضائل جمة لعائشة ولأبويها ولصفوان ولعلى بن أبي طالب وأسامة وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وفيه أن التعصب لأهل الباطل يخرج عن اسم الصلاح وجواز سب من يتعرض للباطل ونسبته إلى ما يسوءه وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه لكن إذا وقع منه ما يشبه ذلك جاز إطلاق ذلك عليه تغليظا له وإطلاق الكذب على الخطأ والقسم بلفظ لعمر الله وفيه الندب إلى قطع الخصومة وتسكين ثائرة الفتنة وسد ذريعة ذلك واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما وفضل احتمال الأذى وفيه مباعدة من خالف الرسول ولو كان قريبا حميما وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل يقتل لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي عليه وسلم وفيه مساعدة من نزلت فيه بلية بالتوجع والبكاء والحزن وفيه تثبت أبي بكر الصديق في الأمور لأنه لم ينقل عنه في هذه القصة مع تمادي الحال فيها شهرا كلمة فما فوقها إلا ما ورد عنه في بعض طرق الحديث أنه قال والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية فكيف بعد أن أعزانا الله بالإسلام وقع ذلك في حديث بن عمر ثم الطبراني وفيه ابتداء الكلام في الأمر المهم بالتشهد والحمد والثناء وقول أما بعد وتوقيف من نقل عنه ذنب على

(8/480)


7- باب {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَلَقَّوْنَهُ} يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ {تُفِيضُونَ} تَقُولُونَ
4751- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ أُمِّ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا رُمِيَتْ عَائِشَةُ خَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا"
قوله: "باب قوله {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في رواية أبي ذر بعد قوله: {أَفَضْتُمْ فِيهِ} الآية.
قوله: {أَفَضْتُمْ} قلتم ثبت هذا لأبي نعيم في رواية: "المستخرج" : وقال أبو عبيدة في قوله: أفضتم أي خضتم فيه. قوله: "تفيضون فيه تقولون" هو قول أبي عبيدة. قوله: "وقال مجاهد تلقونه يرويه بعضكم عن بعض" وصله الفريابي من طريقه وقال: معناه من التلقي للشيء وهو أخذه وقبوله، وهو على القراءة المشهورة، وبذلك جزم أبو عبيدة وغيره. وتلقونه بحذف إحدى التاءين، وقرأ ابن مسعود بإثباتها، وقراءة عائشة ويحيى بن يعمر "تلقونه" بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق بسكون اللام وهو الكذب. وقال الفراء: الولق الاستمرار في السير وفي الكذب، ويقال للذي أدمن الكذب الألق بسكون اللام وبفتحها أيضا. وقال الخليل: أصل الولق الإسراع، ومنه جاءت الإبل تلق، وقد تقدم في غزوة المريسيع التصريح بأن عائشة قرأته كذلك، وأن ابن أبي مليكة قال: هي أعلم من غيرها بذلك لكونه نزل فيها. وقد تقدم فيه أيضا الكلام على إسناد حديث أم رومان المذكور في هذا الباب، والمذكور هنا طرف من حديثها وقد تقدم بتمامه هناك، وتقدم شرحه مستوفى في الباب الذي قبله في أثناء حديث عائشة. وقال الإسماعيلي: هذا الذي ذكره من حديث أم رومان لا يتعلق بالترجمة، وهو كما قال. إلا أن الجامع بينهما قصة الإفك في الجملة. وقوله في هذه الرواية: "حدثنا محمد بن كثير حدثنا سليمان عن حصين" كذا للأكثر، وسليمان هو ابن كثير أخو محمد الراوي عنه، وللأصيلي عن الجرجاني سفيان بدل "سليمان" قال أبو علي الجياني: هو خطأ والصواب سليمان. وهو كما قال.

(8/482)


باب {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}
...
8- باب {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
4752- حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام أن بن جريج أخبرهم قال بن أبي مليكة ثم سمعت عائشة تقرأ {إذ تلقونه بألسنتكم} "

(8/482)


باب {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
4753- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ قَالَتْ أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ فَقِيلَ ابْنُ

(8/482)


9- باب {يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا}
4755- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا قُلْتُ أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا قَالَتْ أَوَلَيْسَ قَدْ أَصَابَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ قَالَ سُفْيَانُ تَعْنِي ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ:

(8/484)


حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
قَالَتْ لَكِنْ أَنْت"

(8/485)


10- بَاب {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
4756- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ فَشَبَّبَ وَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
قَالَتْ لَسْتَ كَذَاكَ قُلْتُ تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ فَقَالَتْ وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى وَقَالَتْ وَقَدْ كَانَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب {يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} الآية" سقط لغير أبي ذر لفظ: "الآية" . قوله: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء حسان بن ثابت يستأذن عليها" فيه التفات من المخاطبة إلى الغيبة. وفي رواية مؤمل عن سفيان عند الإسماعيلي: "كنت عند عائشة فدخل حسان، فأمرت فألقيت له وسادة، فلما خرج قلت: أتأذنين لهذا" . قوله: "قلت: أتأذنين لهذا" في رواية مؤمل "ما تصنعين بهذا" وفي رواية شعبة في الباب الذي يليه "تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله: والذي تولى كبره منهم" وهذا مشكل لأن ظاهره أن المراد بقوله: "والذي تولى كبره منهم" هو حسان بن ثابت وقد تقدم قبل هذا أنه عبد الله بن أبي وهو المعتمد، وقد وقع في رواية أبي حذيفة عن سفيان الثوري عند أبي نعيم في المستخرج "وهو ممن تولى كبره" فهذه الرواية أخف إشكالا. قوله: "قالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم" في رواية شعبة "قالت: وأي عذاب أشد من العمى". قوله: "قال سفيان: تعني ذهاب بصره" زاد أبو حذيفة "وإقامة الحدود" ووقع بعد هذا الباب في رواية شعبة تصريح عائشة بصفة العذاب دون رواية سفيان، ولهذا احتاج أن يقول: "تعني". وسفيان المذكور هو الثوري، والراوي عنه الفريابي، وقد روى البخاري عن محمد بن يوسف عن سفيان عن الأعمش شيئا غير هذا، ومحمد بن يوسف فيه هو البيكندي، وسفيان هو ابن عيينة بخلاف الذي هنا. ووقع عند الإسماعيلي التصريح بأن سفيان هنا هو الثوري ومحمد بن يوسف هو الفريابي. قوله: "فشبب" بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة أي تغزل، يقال شبب الشاعر بفلانة أي عرض بحبها وذكر حسنها، والمراد ترقيق الشعر بذكر النساء، وقد يطلق على إنشاد الشعر وإنشائه ولم يكن فيه غزل كما وقع في حديث أم معبد "فلما سمع حسان شعر الهاتف شبب يجاريه" أخذ في نظم جوابه. قوله: "حصان" بفتح المهملة قال السهيلي: هذا الوزن يكثر في أوصاف المؤنث وفي الإعلام منها كأنهم قصدوا بتوالي الفتحات مشاكلة خفة اللفظ لخفة المعني "حصان" من الحصين والتحصين يراد به الامتناع على الرجال ومن نظرهم إليها، وقوله: "رزان" من الرزانة يراد قلة الحركة، "وتزن" بضم أوله ثم زاي ثم نون ثقيلة أي ترمى، وقوله: "غرثى" بفتح المعجمة وسكون الراء ثم مثلثة أي خميصة البطن أي لا تغتاب أحدا، وهي استعارة فيها تلميح بقوله تعالى في المغتاب: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ

(8/485)


لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} . و "الغوافل" جمع غافلة وهي العفيفة الغافلة عن الشر، والمراد تبرئتها من اغتياب الناس بأكل لحومهم من الغيبة، ومناسبة تسمية "الغيبة" بأكل اللحم أن اللحم ستر على العظم، فكأن المغتاب يكشف ما على من اغتابه من ستر. وزاد ابن هشام في السيرة في هذا الشعر على أبي زيد الأنصاري:
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل
وفيه عن ابن إسحاق:
فإن كنت قد قلت الذي زعموا لكم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
وزاد فيه الحاكم في رواية له من غير رواية ابن إسحاق:
حليلة خير الخلق دينا ومنصبا ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل
رأيتك وليغفر لك الله حرة ... من المحصنات غير ذات الغوائل
و "الخيم" بكسر المعجمة وسكون التحتانية الأصل الثابت، وأصله من الخيمة يقال خام يخيم إذا أقام بالمكان. قوله: "فقالت عائشة: لست كذاك" ذكر ابن هشام عن أبي عبيدة أن امرأة مدحت بنت حسان بن ثابت عند عائشة فقالت: حصان رزان البيت. فقالت عائشة: لكن أبوها. وهو بتخفيف النون، فإن كان محفوظا أمكن تعدد القصة ويكون قوله في بعض طرق رواية مسروق "يشبب ببنت له" بالنون لا بالتحتانية، ويكون نظم حسان في بنته لا في عائشة، وإنما تمثل به، لكن بقية الأبيات ظاهرة في أنها في عائشة، وهذا البيت في قصيدة لحسان يقول فيها:
فإن كنت قد قلت الذي زعموا لكم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وإن الذي قد قيل ليس بلائق ... بك الدهر بل قيل امرئ متماحل
قوله: "قالت: لكن أنت" في رواية شعيب "قالت: لست كذاك" وزاد في آخره: "وقالت: قد كان يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وتقدم في المغازي من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "أنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ودل قول عائشة: "لكن أنت لست كذلك" على أن حسان كان ممن تكلم في ذلك، وهذه الزيادة الأخيرة تقدمت هناك من طريق عروة عن عائشة أتم من هذا، وتقدم هناك أيضا في أثناء حديث الإفك من طريق صالح بن كيسان عن الزهري "قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
"قوله: "باب {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} "ذكر فيه بعض حديث مسروق عن عائشة، وقد بينت ما فيه في الباب الذي قبله، وقوله في أول السند: "حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سليمان"1 كذا للأكثر غير منسوب وهو
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: هذه الجملة ليست في نسخ الصحيح التي بأيدينا، ولعلها رواية الشارح

(8/486)


سليمان بن كثير أخو محمد الراوي عنه صرح به، ووقع في رواية الأصيلي عن أبي زيد كالجماعة، وعن الجرجاني سفيان بدل سليمان، قال أبو علي الجياني: وسليمان هو الصواب.

(8/487)


11- باب {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4757- وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ وَمَا عَلِمْتُ بِهِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيَّ خَطِيبًا فَتَشَهَّدَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي وَايْمُ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ وَلاَ يَدْخُلُ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ وَأَنَا حَاضِرٌ وَلاَ غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلاَّ غَابَ مَعِي" فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ نَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ رَهْطِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَقَالَ كَذَبْتَ أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا مِنْ الأَوْسِ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا عَلِمْتُ فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ فَعَثَرَتْ وَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ أَيْ أُمِّ تَسُبِّينَ ابْنَكِ وَسَكَتَتْ ثُمَّ عَثَرَتْ الثَّانِيَةَ فَقَالَتْ تَعَسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا أَيْ أُمِّ أَتَسُبِّينَ ابْنَكِ فَسَكَتَتْ ثُمَّ عَثَرَتْ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ تَعَسَ مِسْطَحٌ فَانْتَهَرْتُهَا فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلاَّ فِيكِ فَقُلْتُ فِي أَيِّ شَأْنِي قَالَتْ فَبَقَرَتْ لِي الْحَدِيثَ فَقُلْتُ وَقَدْ كَانَ هَذَا قَالَتْ نَعَمْ وَاللَّهِ فَرَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي كَأَنَّ الَّذِي خَرَجْتُ لَهُ لاَ أَجِدُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلاَ كَثِيرًا وَوُعِكْتُ فَقُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسِلْنِي إِلَى بَيْتِ أَبِي فَأَرْسَلَ مَعِي الْغُلاَمَ فَدَخَلْتُ الدَّارَ فَوَجَدْتُ أُمَّ رُومَانَ فِي السُّفْلِ وَأَبَا بَكْرٍ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ فَقَالَتْ أُمِّي مَا جَاءَ بِكِ يَا بُنَيَّةُ فَأَخْبَرْتُهَا وَذَكَرْتُ لَهَا الْحَدِيثَ وَإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مِثْلَ مَا بَلَغَ مِنِّي فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ خَفِّفِي عَلَيْكِ الشَّأْنَ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ حَسَدْنَهَا وَقِيلَ فِيهَا وَإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مَا بَلَغَ مِنِّي قُلْتُ وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبِي قَالَتْ نَعَمْ قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ نَعَمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْبَرْتُ وَبَكَيْتُ فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتِي وَهُوَ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ فَنَزَلَ فَقَالَ لِأُمِّي مَا شَأْنُهَا قَالَتْ بَلَغَهَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا فَفَاضَتْ

(8/487)


عَيْنَاهُ قَالَ أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ أَيْ بُنَيَّةُ إِلاَّ رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ فَرَجَعْتُ وَلَقَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتِي فَسَأَلَ عَنِّي خَادِمَتِي فَقَالَتْ لاَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا إِلاَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلَ خَمِيرَهَا أَوْ عَجِينَهَا وَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ وَبَلَغَ الأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَتْ وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي فَلَمْ يَزَالاَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ وَقَدْ اكْتَنَفَنِي أَبَوَايَ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ سُوءًا أَوْ ظَلَمْتِ فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ " قَالَتْ وَقَدْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَهِيَ جَالِسَةٌ بِالْبَابِ فَقُلْتُ أَلاَ تَسْتَحْيِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا فَوَعَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْتَفَتُّ إِلَى أَبِي فَقُلْتُ لَهُ أَجِبْهُ قَالَ فَمَاذَا أَقُولُ فَالْتَفَتُّ إِلَى أُمِّي فَقُلْتُ أَجِيبِيهِ فَقَالَتْ أَقُولُ مَاذَا فَلَمَّا لَمْ يُجِيبَاهُ تَشَهَّدْتُ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَشْهَدُ إِنِّي لَصَادِقَةٌ مَا ذَاكَ بِنَافِعِي عِنْدَكُمْ لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُكُمْ وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ لَتَقُولُنَّ قَدْ بَاءَتْ بِهِ عَلَى نَفْسِهَا وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً وَالْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ فَسَكَتْنَا فَرُفِعَ عَنْهُ وَإِنِّي لاَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ قَالَتْ وَكُنْتُ أَشَدَّ مَا كُنْتُ غَضَبًا فَقَالَ لِي أَبَوَايَ قُومِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُهُ وَلاَ أَحْمَدُكُمَا وَلَكِنْ أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي لَقَدْ سَمِعْتُمُوهُ فَمَا أَنْكَرْتُمُوهُ وَلاَ غَيَّرْتُمُوهُ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ أَمَّا زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إِلاَّ خَيْرًا وَأَمَّا أُخْتُهَا حَمْنَةُ فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ قَالَتْ فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لاَ يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ {وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} يَعْنِي مِسْطَحًا إِلَى قَوْلِهِ: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَع"

(8/488)


قوله: "باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى رءوف رحيم. قوله: "تشيع تظهر" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "تشيع الفاحشة" تظهر يتحدث به، ومن طريق سعيد بن جبير في قوله: {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} يعني أن تفشو وتظهر والفاحشة الزنا. قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} - إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سقط لغير أبي ذر فصارت الآيات موصولا بعضها ببعض فأما قوله: {وَلا يَأْتَلِ} فقال أبو عبيدة: معناه لا يفتعل من آليت أي أقسمت، وله معنى آخر من ألوت أي قصرت، ومنه {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} وقال الفراء الائتلاء الحلف، وقرأ أهل المدينة "ولا يتأل" بتأخير الهمزة. وتشديد اللام، وهي خلاف رسم المصحف، وما نسبه إلى أهل المدينة غير معروف وإنما نسبت هذه القراءة للحسن البصري، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا يَأْتَلِ} يقول لا يقسم، وهو يؤيد القراءة المذكورة. قوله: "وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة إلخ" وصله أحمد عنه بتمامه، وقد ذكرت ما فيه من فائدة في أثناء حديث الإفك الطويل قريبا، ووقع في رواية المستملي عن الفربري "حدثنا حميد بن الربيع حدثنا أبو أسامة" فظن الكرهاني أن البخاري وصله عن حميد بن الربيع، وليس كذلك بل هو خطأ فاحش فلا يغتر به.

(8/489)


12- باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
4758- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا"
[الحديث 4758- طرفه في: 4759]
4759- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا"
قوله: "باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} كأن يضربن ضمن معني يلقين فلذلك عدي بعلى. قوله: "وقاله أحمد بن شيب" بمعجمة وموحدتين وزن عظيم، وهو من شيوخ البخاري إلا أنه أورد هذا عنه بهذه الصيغة، وقد وصله ابن المنذر عن محمد بن إسماعيل الصائغ عن أحمد بن شبيب، وكذا أخرجه ابن مردويه من طريق موسى بن سعيد الدنداني عن أحمد بن شبيب بن سعيد، وهكذا أخرجه أبو داود والطبراني من طريق قرة بن عبد الرحمن عن الزهري مثله. قوله: "يرحم الله نساء المهاجرات" أي النساء المهاجرات فهو كقولهم شجر الأراك، ولأبي داود من وجه آخر عن الزهري يرحم الله النساء المهاجرات. قوله: "الأول" بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى أي السابقات من المهاجرات، وهذا يقتضي أن الذي صنع ذلك نساء المهاجرات، لكن في رواية صفية بنت شيبة عن عائشة أن

(8/489)


ذلك في نساء الأنصار كما سأنبه عليه. قوله: "مروطهن" جمع مرط وهو الإزار، وفي الرواية الثانية "أزرهن" وزاد: "شققنها من قبل الحواشي" . قوله: "فاختمرن" أي غطين وجوههن؛ وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع، قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل. قوله في الرواية الثانية: "عن الحسن" هو ابن مسلم. قوله: "لما نزلت هذه الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أخذن أزرهن" هكذا وقع عند البخاري الفاعل ضميرا، وأخرجه النسائي من رواية ابن المبارك عن إبراهيم بن نافع بلفظ: "أخذ النساء" وأخرجه الحاكم من طريق زيد بن الحباب عن إبراهيم بن نافع بلفظ: "أخذ نساء الأنصار" ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية ما يوضح ذلك، ولفظه: "ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن، فقالت: إن نساء قريش لفضلاء، ولكني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان" ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك.

(8/490)


25- سورة الْفُرْقَانِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَبَاءً مَنْثُورًا} مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيحُ {مَدَّ الظِّلّ} َ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ {سَاكِنًا} دَائِمًا {عَلَيْهِ دَلِيلاً} طُلُوعُ الشَّمْسِ {خِلْفَةً} مَنْ فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ وَقَالَ الْحَسَنُ {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى حَبِيبَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ثُبُوراً} وَيْلاً وَقَالَ غَيْرُهُ {السَّعِيرُ} مُذَكَّرٌ وَالتَّسَعُّرُ وَالْاضْطِرَامُ التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ {تُمْلَى عَلَيْهِ} تُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ {الرَّسُّ} الْمَعْدِنُ جَمْعُهُ رِسَاسٌ {مَا يَعْبَأُ} يُقَالُ مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ {غَرَامًا} هَلاَكًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَعَتَوْا} طَغَوْا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {عَاتِيَةٍ} عَتَتْ عَنْ الْخَزَّان"
قوله: "سورة الفرقان {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: وقال ابن عباس: هباء منثورا ما تسفي به الريح" وصله ابن جرير من طريق، ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله وزاد في آخره: "ويبثه" ولابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس 1. وقال أبو عبيدة في قوله: {هَبَاءً مَنْثُورًا} : هو الذي يدخل البيت من الكوة، يدخل مثل الغبار مع الشمس، وليس له مس ولا يرى في الظل. وروى ابن أبي حاتم من طريق الحسن البصري نحوه وزاد: "لو ذهب أحدكم يقبض عليه لم يستطع" ومن طريق الحارث عن علي في قوله: "هباء منثورا" قال: ما ينثر من الكوة. قوله: "دعاؤكم إيمانكم" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
ـــــــ
(1) بياض يالأصل.

(8/490)


عباس مثله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل كتاب الإيمان، وثبت هذا هنا للنسفي وحده. قوله: {مَدَّ الظِّلَّ} ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، وعند عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة مثله. وقال ابن عطية: تظاهرت أقوال المفسرين بهذا، وفيه نظر لأنه لا خصوصية لهذا الوقت بذلك، بل من بعد غروب الشمس مدة يسيرة يبقى فيها ظل ممدود مع أنه في نهار، وأما سائر النهار ففيه ظلال متقطعة. ثم أشار إلى اعتراض آخر وهو أن الظل إنما يقال لما يقع بالنهار، قال: والظل الموجود في هذين الوقتين من بقايا الليل انتهى. والجواب عن الأول أنه ذكر تفسير الخصوص من سياق الآية، فإن في بقيتها {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} والشمس تعقب الذي يوجد قبل طلوعها فيزيله فلهذا جعلت عليه دليلا، فظهر اختصاص الوقت الذي قبل الطلوع بتفسير الآية دون الذي بعد الغروب. وأما الاعتراض الثاني فساقط لأن الذي نقل أنه يطلق على ذلك ظل ثقة مثبت فهو مقدم على الباقي، حتى ولو كان قول النافي محققا لما امتنع إطلاق ذلك عليه مجازا. قوله: "ساكنا دائما" وصله ابن أبي حاتم من الوجه المذكور. قوله: {عَلَيْهِ دَلِيلاً} : طلوع الشمس" وصله ابن أبي حاتم كذلك. قوله: "خلفة: من فاته من الليل عمل أدركه بالنهار أو فاته بالنهار أدركه بالليل" وصله ابن أبي حاتم أيضا كذلك، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن نحوه. قوله: "قال الحسن" هو البصري. قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} : في طاعة الله" وصله سعيد بن منصور "حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن وسأله رجل عن قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} : ما القرة، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ قال: بل في الدنيا، هي والله أن يرى العبد من ولده طاعة الله إلخ" وأخرجه عبد الله بن المبارك في "كتاب البر والصلة" عن حزم القطعي عن الحسن، وسمي الرجل السائل كثير بن زياد. قوله. "وما شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى حبيبه في طاعة الله" في رواية سعيد بن منصور "أن يرى حميمه" . قوله: "وقال ابن عباس ثبورا ويلا" وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وثبت هذا لأبي ذر والنسفي فقط. وقال أبو عبيدة في قوله: "دعوا هنالك ثبورا" أي هلكة. وقال مجاهد: "عتوا" طغوا، وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "وعنوا عتوا كبيرا" قال: طغوا. قوله: "وقال غيره: السعير مذكر" قال أبو عبيدة في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} - ثم قال بعده – {إِذَا رَأَتْهُمْ} والسعير مذكر وهو ما يسعر به النار، ثم أعاد الضمير للنار، والعرب تفعل ذلك تظهر مذكرا من سبب مؤنث ثم يؤنثون ما بعد المذكر. قوله: "والتسعير والاضطرام التوقد الشديد" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "أساطير" تقدم في تفسير سورة الأنعام. قوله: "تملي عليه: تقرأ عليه من أمليت وأمللت" قال أبو عبيدة في قوله: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} : أي تقرأ عليه، وهو من أمليت عليه، وهي في موضع آخر أمللت عليه، يشير إلى قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} . قوله: "الرس المعدن جمعه رساس" قال أبو عبيده في قوله: "وأصحاب الرس" أي المعدن. وقال الخليل: الرس كل بئر تكون غير مطوية، ووراء ذلك أقوال. أحدها أورده ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الرس البئر، ومن طريق سفيان عن رجل عن عكرمة قال: أصحاب الرس رسوا نبيهم في بئر، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: حدثنا أن أصحاب الرس كانوا باليمامة. ومن طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: "وأصحاب الرس" قال: بئر بأذربيجان. قوله: "ما يعبأ يقال ما عبأت به شيئا لا يعتد به" قال أبو عبيدة في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ

(8/491)


رَبِّي} هو من قولهم ما عبأت بك شيئا أي ما عددتك شيئا.
" تنبيه " : وقع في بعض الروايات تقديم وتأخير لهذه التفاسير، والخطب فيها سهل. قوله: "غراما هلاكا" قال أبو عبيدة في قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي: هلاكا وإلزاما لهم، ومنه رجل مغرم بالحب. قوله: "وقال ابن عيينة: عاتية عتت على الخزان" كذا في تفسيره وهذا في سورة الحاقة؛ وإنما ذكره هنا استطرادا لما ذكر قوله: {عَتَوْا} ، وقد تقدم ذكر هذا في قصة هود من أحاديث الأنبياء.

(8/492)


باب {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرا مكانا وأضل سبيلا}
...
1- باب {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً}
4760- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ قَتَادَةُ بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا"
قوله: "باب قوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: "وأضل سبيلا" قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "أن رجلا قال: يا نبي الله يحشر الكافر" لم أقف على اسم السائل؛ وسيأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "يحشر الكافر" في رواية الحاكم من وجه آخر عن أنس "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر أهل النار على وجوههم" وفي حديث أبي هريرة عند البزار "يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم. فقيل: فكيف يمشون على وجوههم" الحديث. ويؤخذ من مجموع الأحاديث أن المقربين يحشرون ركبانا، ومن دونهم من المسلمين على أقدامهم، وأما الكفار يحشرون على وجوههم. قوله: "قال قتادة: بلى وعزة ربنا" هذه الزيادة موصولة بالإسناد المذكور، قالها قتادة تصديقا لقوله: "أليس" .

(8/492)


2- باب {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الْعُقُوبَةَ
4761- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ح قَالَ وَحَدَّثَنِي وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ" قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ}
4762- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ

(8/492)


3- باب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}
4765- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ ابْنُ أَبْزَى سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وَقَوْلِهِ {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} حَتَّى بَلَغَ {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللَّهِ وَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورًا رَحِيمًا}
قوله: "باب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} قرأ الجمهور بالجزم في" يضاعف ويخلد "بدلا

(8/494)


من الجزاء في قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} بدل اشتمال. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالرفع على الاستئناف. قوله: "حدثنا سعد بن حفص" هو الطلحي، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "عن سعيد من جبير قال: قال ابن أبزى" بموحدة وزاي مقصورة واسمه عبد الرحمن، وهو صحابي صغير. قوله: "سئل ابن عباس" كذا في رواية أبي ذر بصيغة الفعل الماضي، وهذه للنسفي، وهو يقتضي أنه من رواية سعيد بن جبير عن ابن أبزى عن ابن عباس. وفي رواية الأصيلي: "سل" بصيغة الأمر وهو المعتمد، ويدل عليه قوله بعد سياق الآيتين "فسألته" فإنه واضح في جواب قوله: "سل" وإن كان اللفظ الآخر يمكن توجيهه بتقدير سئل ابن عباس عن كذا فأجاب فسألته عن شيء آخر مثلا، ولا يخفى تكلفه. ويؤيد الأول رواية شعبة في الباب الذي يليه عن منصور عن سعيد بن جبير قال: "أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس فسألته" وكذا أخرجه إسحاق بن إبراهيم في تفسيره عن جرير عن منصور، وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن جرير بلفظ: "قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس" فذكره، وذكر عياض ومن تبعه أنه وقع في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام في هذا الحديث من طريق 1 عن سعيد بن جبير "أمرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس" فالحديث من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، ولغيره: "أمرني ابن عبد الرحمن" قال: وقال بعضهم: لعله سقط "ابن" قبل عبد الرحمن وتصحف من "أمرني" ويكون الأصل "أمر ابن عبد الرحمن" ثم لا ينكر سؤال عبد الرحمن واستفادته من ابن عباس فقد سأله من كان أقدم منه وأفقه. قلت: الثابت في الصحيحين وغيرهما من المستخرجات عن سعيد بن جبير "أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس" فالحديث من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، والذي زاد فيه سعيد بن عبد الرحمن أو ابن عبد الرحمن.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل

(8/495)


4- بَاب {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
4766- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ وَعَنْ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قَالَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْك"
قوله: "عن هاتين الآيتين" ومن يقتل مؤمنا متعمدا" فسألته فقال: لم ينسخها شيء، وعن "والذين يدعون من الله إلها آخر" قال: نزلت في أهل الشرك" هكذا أورده مختصرا، وسياق مسلم من هذا الوجه أتم، وأتم منهما ما تقدم في المبعث من رواية جرير بلفظ: "هاتين الآيتين ما أمرهما؟ التي في سورة الفرقان {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} والتي في سورة النساء {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} قال: سألت ابن عباس فقال: لما أنزلت التي في سورة الفرقان قال مشركو مكة: قد قتلنا النفس ودعونا مع الله إلها آخر وأتينا الفواحش، قال: فنزلت: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} الآية، قال: فهذه لأولئك، قال: وأما التي في سورة النساء فهو الذي قد عرف الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم لا توبة

(8/495)


له، قال. فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم" وحاصل ما في هذه الروايات أن ابن عباس كان تارة يجعل الآيتين في محل واحد فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارة يجعل محلهما مختلفا. ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرة المؤمن القتل متعمدا، وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض، وأولى من دعوى أنه قال بالنسخ ثم رجع عنه. وقول ابن عباس بأن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا توبة له مشهور عنه، وقد جاء عنه في ذلك ما هو أصرح مما تقدم: فروى أحمد والطبري من طريق يحيى الجابر والنسائي وابن ماجه من طريق عمار الذهبي كلاهما عن سالم بن أبي الجعد قال: "كنت عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ قال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وساق الآية إلى "عظيما" قال: لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأني له التوبة والهدى" لفظ يحيى الجابر، والآخر نحوه. وجاء على وفق ما ذهب إليه ابن عباس في ذلك أحاديث كثيرة: منها ما أخرجه أحمد والنسائي من طريق أبي إدريس الخولاني عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره؛ إلا الرجل يموت كافرا، والرجل يقتل مؤمنا متعمدا" وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من ذلك على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره. وقالوا: معني قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} أي إن شاء الله أن يجازيه تمسكا بقوله تعالى في سورة النساء أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أتى تمام المائة فقال له: لا توبة، فقتله فأكمل به مائة. ثم جاء آخر فقال: "ومن يحول بينك وبين التوبة" الحديث، وهو مشهور، وسيأتي في الرقاق واضحا. وإذا ثبت ذلك لمن قبل من غير هذه الأمة فمثله لهم أولى لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم.

(8/496)


5- باب {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أَيْ هَلَكَةً
4767- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخَانُ وَالْقَمَرُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} "
قوله: باب قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أَيْ هَلَكَةً قال أبو عبيدة في قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} : أي جزاء يلزم كل عامل بما عمل، وله معنى آخر يكون هلاكا. قوله: "حدثنا مسلم" هو أبو الضحى الكوفي.

(8/497)


26- سورة الشُّعَرَاءِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَعْبَثُونَ} تَبْنُونَ {هَضِيمٌ} يَتَفَتَّتُ إِذَا مُسَّ {مُسَحَّرِينَ} ْمَسْحُورِينَ {لَيْكَةُ} وَ {الأَيْكَةُ} جَمْعُ أَيْكَةٍ وَهِيَ جَمْعُ شَجَرٍ {يَوْمِ الظُّلَّةِ} إِظْلاَلُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ {مَوْزُونٍ} مَعْلُومٍ {كَالطَّوْدِ} كَالْجَبَلِ وَقَالَ غَيْرُهُ {لَشِرْذِمَةٌ} الشِّرْذِمَةُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ {فِي السَّاجِدِينَ} الْمُصَلِّينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} كَأَنَّكُمْ {الرِّيعُ} الأَيْفَاعُ مِنْ الأَرْضِ وَجَمْعُهُ رِيَعَةٌ وَأَرْيَاعٌ وَاحِدُهُ الرِيعَةٌ

(8/496)


1- باب {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يَرَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ" الْغَبَرَةُ هِيَ الْقَتَرَة
4769- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَخِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِين"
قوله: "باب {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "وقال إبراهيم بن طهمان إلخ" وصله النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان وساق الحديث بتمامه. قوله: "عن سعيد المقبري عن أبي هريرة" كذا قال ابن أبي أويس، وأورد البخاري هذه الطريق معتمدا عليها وأشار إلى الطريق الأخرى التي زيد فيها بين سعيد وأبي هريرة رجل فذكرها معلقة، وسعيد قد سمع من أبي هريرة وسمع من أبيه عن أبي هريرة، فلعل هذا مما سمعه من أبيه عن أبي هريرة ثم سمعه من أبي هريرة، أو سمعه من أبي هريرة مختصرا ومن أبيه عنه تاما، أو سمعه من أبي هريرة ثم ثبته فيه أبوه، وكل ذلك لا يقدح في صحة الحديث، وقد وجد للحديث أصل عن أبي هريرة من وجه آخر أخرجه البزار والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، وشاهده عندهما أيضا من حديث أبي سعيد. قوله: "إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة وعليه الغيرة والقترة. والغيرة هي القترة" كذا أورده مختصرا، ولفظ النسائي: "وعليه الغيرة والقترة، فقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال: لكن لا أعصيك اليوم" الحديث، فعرف من هذا أن قوله: والغيرة هي القترة من كلام المصنف، وأخذه من كلام أبي عبيدة. وأنه قال في تفسير سورة يونس: "ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة" القتر الغبار، وأنشد لذلك شاهدين. قال ابن التين: وعلى هذا فقوله في سورة عبس: {غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة} تأكيد لفظي، كأنه قال: غيرة فوقها غبرة. وقال غير هؤلاء: القترة ما يغشى الوجه من الكرب، والغيرة ما يعلوه من الغبار، وأحدهما حسي والآخر معنوي. وقيل: القترة شدة الغيرة بحيث يسود الوجه. وقيل: القترة سواد الدخان فاستعير هنا. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد. قوله في الطريق الموصولة "يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين" هكذا أورده هنا مختصرا، وساقه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء تاما. قوله: "يلقى إبراهيم أباه آزر" هذا موافق لظاهر القرآن في تسمية والد إبراهيم، وقد سبقت نسبته في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء. وحكى الطبري من طريق ضعيفة عن مجاهد أن آزر اسم الصنم وهو شاذ. قوله: "وعلى وجه آزر قترة وغبرة" هذا موافق لظاهر

(8/499)


القرآن {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي يغشاها قترة، فالذي يظهر أن الغبرة الغبار من التراب، والقترة السواد الكائن عن الكآبة. قوله: "فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك" في رواية إبراهيم بن طهمان "فقال له قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال: لكني لا أعصيك واحدة" . قوله: "فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد" وصف نفسه بالأبعد على طريق الفرض إذا لم تقبل شفاعته في أبيه، وقيل: الأبعد صفة أبيه أي أنه شديد البعد من رحمة الله لأن الفاسق بعيد منها فالكافر أبعد، وقيل: الأبعد بمعنى البعيد والمراد الهالك، ويؤيد الأول أن في رواية إبراهيم بن طهمان "وإن أخزيت أبي فقد أخزيت الأبعد" وفي رواية أيوب " يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول له: أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بارزتي. فيأخذ بارزته. ثم ينطلق حتى يأتي ربه وهو يعرض الخلق، فيقول الله: يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول: أي رب أبي معي، فإنك وعدتني أن لا تخزني" . قوله: "فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين" في حديث أبي سعيد "فينادى: إن الجنة لا يدخلها مشرك" . قوله: "ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ انظر، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار" في رواية إبراهيم بن طهمان" فيؤخذ منه فيقول: يا إبراهيم أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني، قال: انظر أسفل، فينظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه" . وفي رواية أيوب " فيمسخ الله أباه ضبعا" فيأخذ بأنفه فيقول: يا عبدي أبوك هو، فيقول: لا وعزتك "وفي حديث أبي سعيد" فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة في صورة ضبعان "زاد ابن المنذر من هذا الوجه" فإذا رآه كذا تبرأ منه قال: لست أبي "والذيخ بكسر الذال المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم خاء معجمة ذكر الصباع، وقيل لا يقال له ذيخ إلا إذا كان كثير الشعر. والضبعان لغة في الضبع. وقوله: "متلطخ" قال بعض الشراح: أي في رجيع أو دم أو طين. وقد عينت الرواية الأخرى المراد وأنه الاحتمال الأول حيث قال: فيتمرغ في نتنه. قيل: الحكمة وفي مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه ولئلا يبقى في النار على صورته فيكون فيه غضاضة على إبراهيم. وقيل: الحكمة في مسخه ضبعا أن الضبع من أحمق الحيوان، وآزر كان من أحمق البشر، لأنه بعد أن ظهر له من ولده من الآيات البينات أصر على الكفر حتى مات. واقتصر في مسخه على هذا الحيوان لأنه وسط في التشويه بالنسبة إلى ما دونه كالكلب والخنزير وإلى ما فوقه كالأسد مثلا، ولأن إبراهيم بالغ في الخضوع له وخفض الجناح فأبى واستكبر وأصر على الكفر فعومل بصفة الذل يوم القيامة، ولأن للضبع عوجا فأشير إلى أن آزر لم يستقم فيؤمن بل استمر على عوجه في الدين. وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحته فقال بعد أن أخرجه: هذا خبر في صحته نظر من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد؛ فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا مع علمه بذلك؟ وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} انتهى. والجواب عن ذلك أن أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرأ فيه إبراهيم من أبيه، فقيل: كان ذلك في الحياة الدنيا لما مات آزر مشركا، وهذا أخرجه الطبري من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وإسناده صحيح. وفي رواية: "فلما مات لم يستغفر له" ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه قال: "استغفر له ما كان حيا فلما مات أمسك" وأورده أيضا من طريق مجاهد وقتادة وعمرو بن دينار نحو ذلك، وقيل

(8/500)


إنما تبرأ منه يوم القيامة لما يئس منه حين مسخ على ما صرح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها، وهذا الذي أخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقول يوم القيامة: رب والدي، رب والدي. فإذا كان الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو ضبعان فيتبرأ منه. ومن طريق عبيد بن عمير قال: يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا وتعصيني، ولست تاركك اليوم فخذ بحقوي، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعا، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرأ منه. ويمكن الجمع بين القولين بأنه تبرأ منه لما مات مشركا فترك الاستغفار له، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقة فسأل فيه، فلما رآه مسخ يئس منه حينئذ فتبرأ منه تبرءا أبديا وقيل: إن إبراهيم لم يتيقن موته على الكفر بجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك، وتكون تبرئته منه حينئذ بعد الحال التي وقعت في هذا الحديث. قال الكرماني: فإن قلت: إذا أدخل الله أباه النار فقد أخزاه لقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وخزي الوالد خزي الولد فيلزم الخلف في الوعد وهو محال، ولو أنه يدخل النار لزم الخلف في الوعيد وهو المراد بقوله: "إن الله حرم الجنة على الكافرين" والجواب أنه إذا مسخ في صورة ضبع وألقي في النار لم تبق الصورة التي هي سبب الخزي، فهو عمل بالوعد والوعيد. وجواب آخر: وهو أن الوعد كان مشروطا بالإيمان، وإنما استغفر له وفاء بما وعده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. قلت: وما قدمته يؤدي المعنى المراد مع السلامة مما في اللفظ من الشناعة، والله أعلم.

(8/501)


2- باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ أَلِنْ جَانِبَكَ
4770- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: "يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ" لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
4771- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا" تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ

(8/501)


وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَاب"
قوله: "باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ، واخفض جناحك: ألن جانبك" هو قول أبي عبيدة وزاد: "وكلامك" . قوله: "عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} هذا من مراسيل الصحابة، وبذلك جزم الإسماعيلي لأن أبا هريرة إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصة وقعت بمكة، وابن عباس كان حينئذ إما لم يولد، وإما طفلا. ويؤيد الثاني نداء فاطمة فإنه يشعر بأنها كانت حينئذ بحيث تخاطب بالأحكام، وقد قدمت في "باب من انتسب إلى آبائه" في أوائل السيرة النبوية احتمال أن تكون هذه القصة وقعت مرتين، لكن الأصل عدم تكرار النزول، وقد صرح في هذه الرواية بأن ذلك وقع حين نزلت. نعم وقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم ونساءه وأهله فقال: يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا في فكاك رقابكم يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة" فذكر حديثا طويلا، فهذا إن ثبت دل على تعدد القصة، لأن القصة الأولى وقعت بمكة لتصريحه في حديث الباب أنه صعد الصفا، ولم تكن عائشة وحفصة وأم سلمة عنده ومن أزواجه إلا بالمدينة، فيجوز أن تكون متأخرة عن الأولى فيمكن أن يحضرها أبو هريرة وابن عباس أيضا، ويحمل قوله: "لما نزلت. جمع" أي بعد ذلك، لا أن الجمع وقع على الفور، ولعله كان نزل أولا {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فجمع قريشا فعم ثم خص كما سيأتي، ثم نزل ثانيا: "ورهطك منهم المخلصين" فخص بذلك بني هاشم ونساءه والله أعلم. وفي هذه الزيادة تعقب على النووي حيث قال في "شرح مسلم:"إن البخاري لم يخرجها أعني. "ورهطك منهم المخلصين" اعتمادا على ما في هذه السورة، وأغفل كونها موجودة عند البخاري في سورة تبت. فوله: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} زاد في تفسير تبت من رواية أبي أسامة عن الأعمش بهذا السند" ورهطك منهم المخلصين" وهذه الزيادة وصلها الطبري من وجه آخر عن عمرو بن مرة أنه كان يقرأها كذلك، قال القرطبي لعل هذه الزيادة كانت قرآنا فنسخت تلاوتها. ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفار، والمخلص صفة المؤمن، والجواب عن ذلك أنه لا يمتنع عطف الخاص على العام، ف قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} عام فيمن آمن منهم ومن لم يؤمن؛ ثم عطف عليه الرهط المخلصين تنويها بهم وتأكيدا، واستدل بعض المالكية بقوله في هذا الحديث: "يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا" أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمل عنها صلى الله عليه وسلم بما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع. وتعقب بأن هذا كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه يشفع فيمن أراد وتقبل شفاعته، حتى يدخل قوما الجنة بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون في قوله: "لا أغني شيئا" إضمار إلا إن أذن الله لي بالشفاعة. قوله: "فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش" في حديث أبي هريرة قال: "يا معشر قريش، أو كلمة نحوها" ووقع عند البلاذري من وجه آخر عن ابن عباس أبين من هذا ولفظه: "فقال: يا بني فهر، فاجتمعوا. ثم قال: يا بني غالب، فرجع بنو محارب والحارث ابنا فهر. فقال: يا بني لؤي، فرجع بنو الأدرم بن غالب. فقال: يا آل كعب، فرجع بنو عدي وسهم وجمح فقال: يا آل كلاب، فرجع بنو مخزوم وتيم. فقال: يا آل قصي، فرجع بنو زهرة. فقال: يا آل عبد مناف، فرجع بنو عبد الدار وعبد العزى. فقال له أبو لهب: هؤلاء بنو

(8/502)


عبد مناف عندك" وعند الواقدي أنه قصر الدعوة على بني هاشم والمطلب، وهم يومئذ خمسة وأربعون رجلا. وفي حديث علي عند ابن إسحاق والطبري والبيهقي في "الدلائل" أنهم كانوا حينئذ أربعون يزيدون رجلا أو ينقصون وفيه عمومته أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عنه أنهم يومئذ أربعون غير رجل أو أربعون ورجل. وفي حديث علي من الزيادة أنه صنع لهم شاة على ثريد وقعب لبن، وأن الجميع أكلوا من ذلك وشربوا وفضلت فضلة، وقد كان الواحد منهم يأتي على جميع ذلك. قوله: "أرأيتكم لو أخبرتكم إلخ" أراد بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب. ووقع في حديث علي" ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة" . قوله: "كنتم مصدقي" بتشديد التحتانية. قوله: "قال: فإني نذير لكم" أي منذر. ووقع في حديث قبيصة بن محارب وزهير بن عمرو عند مسلم وأحمد "فجعل ينادي: إنما أنا نذير، وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فجعل يهتف: يا صباحاه" يعني ينذر قومه. وفي رواية موسى بن وردان عن أبي هريرة عند أحمد قال: "أنا النذير، والساعة الموعد" وعند الطبري من مرسل قسامة بن زهير قال: "بلغني أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصابعه في أذنه ورفع صوته وقال: يا صباحاه" ووصله مرة أخرى عن قسامة عن أبي موسى الأشعري، وأخرجه الترمذي موصولا أيضا. قوله: "فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب" في رواية أبي أسامة "تبت يدا أبي لهب وقد تب" وزاد: "هكذا قرأها الأعمش يومئذ" انتهى. وليست هذه القراءة فيما نقل الفراء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيا لا قارئا، ويؤيده قوله في هذا السياق: "يومئذ" فإنه يشعر بأنه كان لا يستمر على قراءتها كذلك، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده. قوله في حديث أبي هريرة "اشتروا أنفسكم من الله" أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة. وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} فهناك المؤمن بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حق طاعته في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ووفى ما عليه من الثمن، وبالله التوفيق. قوله: "يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، يا عباس إلخ" في رواية موسى بن طلحة عن أبي هريرة عند مسلم وأحمد "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا فعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب، يا معشر بني هاشم كذلك، يا معشر بني عبد المطلب كذلك" الحديث. قوله: "يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم" بنصب عمة، ويجوز في صفية الرفع والنصب وكذا القول في قوله يا فاطمة بنت محمد. قوله: "تابعه أصبغ عن ابن وهب إلخ" سبق التنبيه عليه في الوصايا، وفي الحديث أن الأقرب للرجل من كان يجمعه هو وجد أعلى، وكل من اجتمع معه في جد دون ذلك كان أقرب إليه، وقد تقدم البحث في المراد بالأقربين والأقارب في الوصايا، والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نص له على إنذارهم. وفيه جواز تكنية الكافر، وفيه خلاف بين العلماء، كذا قيل. وفي إطلاقه نظر، لأن الذي منع من ذلك إنما منع منه حيث يكون السياق يشعر بتعظيمه، بخلاف ما إذا كان ذلك لشهرته بها دون غيرها كما في هذا أو للإشارة إلى ما يؤول أمره إليه من لهب جهنم. ويحتمل أن يكون ترك ذكره باسمه لقبح اسمه لأن اسمه كان عبد العزى، ويمكن جواب آخر وهو أن التكنية لا تدل

(8/503)


بمجردها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله الأنبياء بأسمائهم دون كناهم.

(8/504)


27- سورة النَّمْلِ
{َالْخَبْء}ُ مَا خَبَأْتَ {لاَ قِبَلَ} لاَ طَاقَةَ {الصَّرْحُ} كُلُّ مِلاَطٍ اتُّخِذَ مِنْ الْقَوَارِيرِ وَالصَّرْحُ الْقَصْرُ وَجَمَاعَتُهُ صُرُوحٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَلَهَا عَرْشٌ} سَرِيرٌ {كَرِيمٌ} حُسْنُ الصَّنْعَةِ وَغَلاَءُ الثَّمَنِ يَأْتُونِي {مُسْلِمِينَ} طَائِعِينَ {رَدِفَ} اقْتَرَبَ {جَامِدَةً} قَائِمَةً {أَوْزِعْنِي} اجْعَلْنِي وَقَالَ مُجَاهِدٌ {نَكِّرُوا} غَيِّرُوا {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} يَقُولُهُ سُلَيْمَانُ {الصَّرْحُ} بِرْكَةُ مَاءٍ ضَرَبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ قَوَارِيرَ أَلْبَسَهَا إِيَّاهُ
قوله: "سورة النمل – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقط "سورة والبسملة" لغير أبي ذر، وثبت للنسفي لكن بتقديم البسملة. قوله: "الخبء ما خبأت" في رواية غير أبي ذر "والخبء" بزيادة واو في أوله، وهذا قول ابن عباس أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه قال: "يخرج الخبء" : يعلم كل خفية في السماوات والأرض. وقال الفراء في قوله: "يخرج الخبء" : أي الغيث من السماء والنبات من الأرض، قال: و "في" هنا بمعنى من، وهو كقولهم: ليستخرجن العلم فيكم أي الذي منكم، وقرأ ابن مسعود" يخرج الخبء من "بدل "في" ، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الخبء السر، ولابن أبي حاتم من طريق عكرمة مثله، ومن طريق مجاهد قال: الغيث. ومن طريق سعيد بن المسيب قال: الماء. قوله: "لا قبل: لا طاقة" هو قول أبي عبيدة. وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد مثله. قوله: "الصرح كل ملاط اتخذ من القوارير" كذا للأكثر بميم مكسورة. وفي رواية الأصيلي بالموحدة المفتوحة ومثله لابن السكن، وكتبه الدمياطي في نسخته بالموحدة وليست هي روايته. والملاط بالميم المكسورة الطين الذي يوضع بين ساقتي البناء، وقيل: الصخر، وقيل: كل بناء عال منفرد. وبالموحدة المفتوحة ما كسيت به الأرض من حجارة أو رخام أو كلس. وقد قال أبو عبيدة: الصرح كل بلاط اتخذ من قوارير، والصرح القصر. وأخرج الطبري من طريق وهب بن منبه قال: أمر سليمان الشياطين فعملت له الصرح من زجاج كأنه الماء بياضا، ثم أرسل الماء تحته ووضع سريره فيه فجلس عليه. وعكفت عليه الطير والجن والإنس، ليريها ملكا هو أعز من ملكها، فلما رأت ذلك بلقيس حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لتخوضه. ومن طريق محمد بن كعب قال: سجن سليمان فيه دواب البحر الحيتان والضفادع، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما، فأمرها سليمان فاستترت. قوله: "والصرح القصر وجماعته صروح" هو قول أبي عبيدة كما تقدم، وسيأتي له تفسير آخر بعد هذا بقليل. قوله: "وقال ابن عباس: ولها عرش سرير كريم حسن الصنعة وغلاء الثمن" وصله الطبري من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قال: سرير كريم حسن الصنعة، قال: وكان من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ. ولابن أبي حاتم من طريق زهير بن محمد قال: حسن الصنعة غالي الثمن سرير من ذهب وصفحتاه مرمول بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في أربعين. قوله: " {يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} طائعين" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، ومن طريق

(8/504)


ابن جريج أي مقرين بدين الإسلام، ورجح الطبري الأول واستدل له. قوله: "ردف اقترب" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {عسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ} اقترب لكم. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ} أي جاء بعدكم. ودعوى المبرد أن اللام زائده وأن الأصل ردفكم قاله على ظاهر اللفظ، وإذا صح أن المراد به اقترب صح تعديته باللام كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} . قوله: "جامدة قائمة" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. قوله: "أوزعني: اجعلني" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة في قوله: "أوزعني" أي سددني إليه. وقال في موضع آخر: أي ألهمني، وبالثاني جزم الفراء. قوله: "وقال مجاهد: نكروا غيروا" وصله الطبري من طريقه، ومن طريق قتادة وغيره نحو. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر صحيح عن مجاهد قال: أمر بالعرش فغير ما كان أحمر جعل أخضر وما كان أخضر جعل أصفر، غير كل شيء عن حاله. ومن طريق عكرمة قال: زيدوا فيه وأنقصوا. قوله: "والقبس ما اقتبست منه النار" ثبت هذا للنسفي وحده، وهو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي بشعلة نار، ومعنى قبس ما اقتبس من النار ومن الجمر. قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} يقوله سليمان" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، ونقل الواحدي أنه من قول بلقيس، قالته مقرة بصحة نبوة سليمان، والأول هو المعتمد. قوله: "الصرح بركة ماء ضرب عليها سليمان قوارير وألبسها إياه" في رواية الأصيلي: "إياها" وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الصرح بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها، قال: وكانت هلباء شقراء. ومن وجه آخر عن مجاهد: كشفت بلقيس عن ساقيها فإذا هما شعراوان، فأمر سليمان بالنورة فصنعت. ومن طريق عكرمة نحوه قال: فكان أول من صنعت له النورة. وصله ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس.

(8/505)


28- سورة الْقَصَصِ
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إِلاَّ مُلْكَهُ وَيُقَالُ إِلاَّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} الْحُجَجُ
قوله: "سورة القصص – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت "سورة البسملة" لغير أبي ذر والنسفي.
قوله: "إلا وجهه: إلا ملكه" في رواية النسفي "وقال معمر" : فذكره. ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى، وهذا كلامه في كتابه "مجاز القرآن" لكن بلفظ: "إلا هو" وكذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية، وكذا ذكره الفراء. وقال ابن التين قال أبو عبيدة: إلا وجهه أي جلاله، وقيل: إلا إياه، تقول: أكرم الله وجهك أي أكرمك الله. قوله: "ويقال: إلا ما أريد به وجهه" نقله الطبري أيضا عن بعض أهل العربية، ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن مجاهد مثله، ومن طريق سفيان الثوري قال: إلا ما ابتغي به وجه الله من الأعمال الصالحة انتهى. ويتخرج هذان القولان على الخلاف في جواز إطلاق "شيء" على الله، فمن أجازه قال: الاستثناء متصل والمراد بالوجه الذات والعرب تعبر بالأشرف عن الجملة، ومن لم يجز إطلاق "شيء" على الله قال: هو منقطع، أي لكن هو تعالى لم يهلك، أو متصل والمراد بالوجه ما عمل لأجله. قوله: "وقال مجاهد: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ} الحجج" وصله الطبري

(8/505)


من طريق ابن أبي نجيح عنه.

(8/506)


1- باب {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
4772- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أُولِي الْقُوَّةِ} لاَ يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنْ الرِّجَالِ {لَتَنُوءُ} لَتُثْقِلُ {فَارِغًا} إِلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى {الْفَرِحِينَ} الْمَرِحِينَ {قُصِّيهِ} اتَّبِعِي أَثَرَهُ وَقَدْ يَكُونُ أَنْ يَقُصَّ الْكَلاَمَ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} عَنْ جُنُبٍ عَنْ بُعْدٍ عَنْ جَنَابَةٍ وَاحِدٌ وَعَنْ اجْتِنَابٍ أَيْضًا يَبْطِشُ وَيَبْطُشُ {يَأْتَمِرُونَ} يَتَشَاوَرُونَ الْعُدْوَانُ وَالْعَدَاءُ وَالتَّعَدِّي وَاحِدٌ {آنَسَ} أَبْصَرَ الْجِذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنْ الْخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ وَالشِّهَابُ فِيهِ لَهَبٌ وَالْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالأَفَاعِي وَالأَسَاوِدُ {رِدْءًا} مُعِينًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَدِّقُنِي وَقَالَ غَيْرُهُ {سَنَشُدُّ} سَنُعِينُكَ كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدًا {مَقْبُوحِينَ} مُهْلَكِينَ {وَصَّلْنَا} بَيَّنَّاهُ وَأَتْمَمْنَاهُ {يُجْبَى} يُجْلَبُ {بَطِرَتْ} أَشِرَتْ {فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا {تُكِنُّ} تُخْفِي أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ وَكَنَنْتُهُ أَخْفَيْتُهُ وَأَظْهَرْتُهُ {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} مِثْلُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْه"
قوله: "باب {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب واختلفوا في المراد بمتعلق {أَحْبَبْتَ} فقيل: المراد أحببت هدايته، وقيل: أحببته هو لقرابته منك. قوله: "عن أبيه" هو المسيب بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها نون، وقد تقدم بعض شرح الحديث في الجنائز. قوله: "لما حضرت أبا طالب الوفاة" قال الكرماني: المراد حضرت علامات الوفاة، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم انتهى. ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال: "أجادل لك بها وأشفع لك" وسيأتي بيانه. ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من

(8/506)


الإقرار بالتوحيد وقال هو: "على ملة عبد المطلب" ومات على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه، وقد تقدمت الرواية بذلك في السيرة النبوية. قوله: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية" يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإن المذكورين من بني مخزوم وهو من بني مخزوم أيضا، وكان الثلاثة يومئذ كفارا فمات أبو جهل على كفره وأسلم الآخران. وأما قول بعض الشراح: هذا الحديث من مراسيل الصحابة فمردود، لأنه استدل بأن المسيب على قول مصعب من مسلمة الفتح، وعلى قول العسكري ممن بايع تحت الشجرة، قال: فأيا ما كان فلم يشهد وفاة أبي طالب لأنه توفي هو وخديجة في أيام متقاربة في عام واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نحو الخمسين انتهى. ووجه الرد أنه لا يلزم من كون المسيب تأخر إسلامه أن لا يشهد وفاة أبي طالب كما شهدها عبد الله بن أبي أمية وهو يومئذ كافر ثم أسلم بعد ذلك، وعجب من هذا القائل كيف يعزو كون المسيب كان ممن بايع تحت الشجرة إلى العسكري ويغفل عن كون ذلك ثابتا في هذا الصحيح الذي شرحه كما مر في المغازي واضحا. قوله: "أي عم" أما "أي" فهو بالتخفيف حرف نداء، وأما "عم" فهو منادي مضاف، ويجوز فيه إثبات الياء وحذفها. قوله: "كلمة" بالنصب على البدل من لا إله إلا الله أو الاختصاص. ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. قوله: "أحاج" بتشديد الجيم من المحاجة وهي مفاعلة من الحجة والجيم مفتوحة على الجزم جواب الأمر، والتقدير إن تقل أحاج، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ووقع في رواية معمر عن الزهري بها الإسناد في الجنائز "أشهد" بدل "أحاج" وفي رواية مجاهد عند الطبري "أجادل عنك بها" زاد الطبري من طريق سفيان بن حسين عن الزهري قال: "أي عم، إنك أعظم الناس علي حقا، وأحسنهم عندي يدا، فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة" . قوله: "فلم يزل يعرضها" بفتح أوله وكسر الراء. وفي رواية الشعبي عند الطبري "فقال له ذلك مرارا" . قوله: "ويعيدانه بتلك المقالة" أي ويعيدانه إلى الكفر بتلك المقالة، كأنه قال: كان قارب أن يقولها فيردانه. ووقع في رواية معمر فيعودان له بتلك المقالة وهي أوضح، ووقع عند مسلم: "فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويقول له تلك المقالة" قال القرطبي في: "المفهم" كذا في الأصول وعند أكثر الشيوخ، والمعنى أنه عرض عليه الشهادة وكررها عليه. ووقع في بعض النسخ "ويعيد أن له بتلك المقالة" والمراد قول أبي جهل ورفيقه له "ترغب عن ملة عبد المطلب" . قوله: "آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب" خبر مبتدأ محذوف أي هو على ملة. وفي رواية معمر "هو على ملة عبد المطلب" وأراد بذلك نفسه. ويحتمل أن يكون قال: "أنا" فغيرها الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحا للفظ المذكور؛ وهي من التصرفات الحسنة. ووقع في رواية مجاهد قال: "يا ابن أخي ملة الأشياخ" ووقع في حديث أبي حازم عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي والطبري "قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت لأقررت بها عينك" وفي رواية الشعبي عند الطبراني "قال: لولا أن يكون عليك عار لم أبال أن أفعل" وضبط "جزع" بالجيم والزاي، ولبعض رواة مسلم بالخاء المعجمة والراء. قوله: "وأبى أن يقول لا إله إلا الله" هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه ذلك منه في تلك الحال، وهذا القدر هو الذي يمكن إطلاعه عليه، ويحتمل أن يكون أطلعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قوله:"والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" قال الزين بن المنير: ليس المراد طلب المغفرة العامة والمسامحة بذنب الشرك، وإنما

(8/507)


المراد تخفيف العذاب عنه كما جاء مبينا في حديث آخر. قلت: وهي غفلة شديدة منه، فإن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب لم ترد، وطلبها لم ينه عنه، وإنما وقع النهي عن طلب المغفرة العامة، وإنما ساغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بإبراهيم في ذلك، ثم ورد نسخ ذلك كما سيأتي بيانه واضحا. قوله: "فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" أي ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي هكذا وقع في هذه الرواية. وروى الطبري من طريق شبل عن عمرو بن دينار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال استغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت" وهذا فيه إشكال، لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرر النزول. وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى، فبكينا لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل علي : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه وفيه: "نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب" ولم يذكر نزول الآية. وفي رواية الطبري من هذا الوجه" لما قدم مكة أتى رسم قبر" ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية" لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت، وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود وفيه: "لما هبط من ثنية عسفان" وفيه نزول الآية في ذلك. فهذه طرق يعضد بعضها بعضا، وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب، ويؤيده أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد بعد أن شج وجهه "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصا بالأحياء وليس البحث فيه، ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان: متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر آمنة. ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب، ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب: "وأنزل الله في أبي طالب: إنك لا تهدي من أحببت" لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية نزلت فيه وحده، ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد من طريق أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي قال: "سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ما كان للنبي الآية" وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وقال المؤمنون ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه؟ فنزلت ومن طريق قتادة قال: "ذكرنا له أن رجالا" فذكر نحوه. وفي الحديث أن من لم يعمل خيرا قط إذا ختم عمره بشهادة أن لا إله إلا الله حكم بإسلامه وأجريت عليه أحكام المسلمين، فإن قارن نطق لسانه عقد قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى، بشرط أن لا يكون وصل إلى حد انقطاع الأمل من الحياة وعجز عن فهم الخطاب ورد الجواب وهو وقت المعاينة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} والله أعلم. قوله: "العدوان والعداء والتعدي واحد" أي بمعنى واحد وأراد تفسير قوله في قصة موسى وشعيب: {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} والعداء بفتح العين ممدود قال أبو عبيدة في قوله: {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} : وهو والعداء والتعدي والعدو كله واحد، والعدو

(8/508)


من قوله: عدا فلان على فلان. قوله: وقال ابن عباس: "أولي القوة" : لا يرفعها العصبة من الرجال "لتنوء" لتثقل "فارغا" إلا من ذكر موسى "الفرحين" المرحين "قصيه" اتبعي أثره، وقد يكون أن يقص الكلام "نحن نقص عليك" . "عن جنب" عن بعد وعن جنابة واحد وعن اجتناب أيضا. "نبطش" ونبطش أي بكسر الطاء وضمها. "يأتمرون: يتشاورون" هذا جميعه سقط لأبي ذر والأصيلي وثبت لغيرهما من أوله إلى قوله: "ذكر موسى" تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وكذا قوله: "نبطش إلخ" وأما قوله: "الفرحين المرحين" فهو عند ابن أبي حاتم موصول من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقوله: {قُصِّيهِ} : اتبعي أثره" وصله ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في قوله: {قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} : قصي أثره. وقال أبو عبيدة في قوله: "قصيه" اتبعي أثره، يقال: قصصت آثار القوم. وقال في قوله: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي عن بعد وتجنب، ويقال: ما تأتينا إلا عن جنابة وعن جنب. قوله: "تأجرني تأجر فلانا تعطيه أجرا، ومنه التعزية آجرك الله" ثبت هذا للنسفي وقد قال أبو عبيدة في قوله: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} من الإجارة، يقال: فلان تأجر فلانا، ومنه آجرك الله. قوله: "الشاطئ والشط واحد، وهما ضفتا وعدوتا الوادي" ثبت هذا للنسفي أيضا، وقد قال أبو عبيدة: "نودي من شاطئ الوادي" : الشاطئ والشط واحد وهما ضفتا الوادي وعدوتاه. قوله: "كأنها جان" في رواية أخرى {حيَّةٌ تَسْعَى} والحيات أجناس. الجان والأفاعي والأساود، ثبت هذا للنسفي أيضا وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "مقبوحين: مهلكين" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وصلنا بيناه وأتمناه" هو قول أبي عبيدة أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قال: بينا لهم القول، وقيل: المعنى أتبعنا بعضه بعضا فاتصل وهذا قول الفراء. قوله: "يجبى يجلب" هو بسكون الجيم وفتح اللام ثم موحدة. وقال أبو عبيدة في قوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي يجمع كما يجمع الماء في الجابية فيجمع للوارد. قوله: "بطرت أشرت" قال أبو عبيدة في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي أشرت وطغت وبغت، والمعنى بطرت في معيشتها. فانتصب بنزع الخافض. وقال الفراء: المعنى أبطرتها معيشتها. قوله: "في أمها رسولا: أم القرى مكة وما حولها" قال أبو عبيدة: أم القرى مكة في قول العرب وفي رواية أخرى "لتنذر أم القرى ومن حولها" ولابن أبي حاتم من طريق قتادة نحوه. ومن وجه آخر عن قتادة عن الحسن في قوله: "في أمها" قال: في أوائلها. قوله: "تكن تخفي، أكننت الشيء أخفيته، وكننته أخفيته وأظهرته" كذا للأكثر، ولبعضهم أكننته أخفيته، وكننته خفيته. وقال ابن فارس: أخفيته سترته وخفيته أظهرته. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي تخفي، يقال: أكننت ذلك في صدري بألف، وكننت الشيء خفيته وهو بغير ألف. وقال في موضع آخر: أكننت وكننت واحد. وقال أبو عبيدة: أكننته إذا أخفيته وأظهرته وهو من الأضداد. قوله: "ويكأن الله مثل "ألم تر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر "يوسع عليه ويضيق" وقع هذا لغير أبي ذر وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} أي ألم تر أن الله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "ويكأن الله" أي أو لا يعلم أن الله.

(8/509)


2- باب {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} الآيَةَ
4773- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا يَعْلَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْعُصْفُرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَرَادُّكَ

(8/509)


إِلَى مَعَادٍ} قَالَ إِلَى مَكَّةَ
قوله: "باب {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} سقطت الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "أخبرنا يعلى" هو ابن عبيد. قوله: "حدثنا سفيان العصفري" هو ابن دينار التمار كما تقدم تحقيقه في آخر الجنائز، وليس له في البخاري سوى هذين الموضعين. قوله: "لرادك إلى معاد، قال: إلى مكة" هكذا في هذه الرواية. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: كان ابن عباس يكتم تفسير هذه الآية، وروى الطبري من وجه آخر عن ابن عباس قال: {لَرَادُكَ إلَى مَعٍادٍ} : قال: إلى الجنة" وإسناده ضعيف، ومن وجه آخر قال: "إلى الموت" وأخرجه ابن أبي حاتم وإسناده لا بأس به، ومن طريق مجاهد قال: "يحييك يوم القيامة" ومن وجه آخر عنه "إلى مكة" وقال عبد الرزاق قال معمر: وأما الحسن والزهري فقالا هو يوم القيامة؛ وروى أبو يعلى من طريق أبي جعفر محمد بن علي قال: سألت أبا سعيد عن هذه الآية فقال: معاده آخرته، وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف.

(8/510)


29 - سورة الْعَنْكَبُوتِ
قَالَ مُجَاهِدٌ وَكَانُوا {مُسْتَبْصِرِينَ} ضَلَلَةً وَقَالَ غَيْرُهُ الْحَيَوَانُ وَالْحَيُّ وَاحِدٌ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ فَلِيَمِيزَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ} {أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أَوْزَاراً مَعَ أَوْزَارِهِم"
قوله: "سورة العنكبوت - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت "سورة والبسملة" لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: وكانوا مستبصرين ضللة" وصله ابن أبي حاتم من طريق شبل بن عباد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: معجبين بضلالتهم. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة قال: كانوا مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها. قوله: "وقال غيره: الحيوان والحي واحد" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وللأصيلي: الحيوان والحياة واحد، وهو قول أبي عبيدة قال: الحيوان والحياة واحد وزاد: ومنه قولهم نهر الحيوان أي نهر الحياة، وتقول حييت حيا، والحيوان والحياة اسمان منه. وللطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لَهيَ الحَيَوانُ} قال: لا موت فيها. قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} علم الله ذلك إنما هي بمنزلة فليميز الله كقوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وقال أبو عبيده في قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي فليميزن الله لأن الله قد علم ذلك من قبل. قوله: {وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أوزارا مع أوزارهم "هو قول أبي عبيدة أيضا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: من دعا قوما إلى ضلالة فعليه مثل أوزارهم. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة قال: "وليحملن أثقالهم" أي أوزارهم {وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أوزار من أضلوا.

(8/510)


30 - سورة الرُّومِ
{فَلاَ يَرْبُو} عِنْدَ اللَّهِ مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يَبْتَغِي أَفْضَلَ مِنْهُ فَلاَ أَجْرَ لَهُ فِيهَا قَالَ مُجَاهِدٌ {يُحْبَرُونَ} يُنَعَّمُونَ {يَمْهَدُونَ} يُسَوُّونَ الْمَضَاجِعَ {الْوَدْقُ} الْمَطَرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فِي الآلِهَةِ وَفِيهِ تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا {يَصَّدَّعُونَ} يَتَفَرَّقُونَ فَاصْدَعْ وَقَالَ غَيْرُهُ ضُعْفٌ وَضَعْفٌ

(8/510)


باب {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لِدِينِ اللَّهِ {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} دِينُ الأَوَّلِينَ وَالْفِطْرَةُ الإِسْلاَمُ
4775- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} "
قوله: باب {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله، {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} دين الأولين" أخرج الطبري من طريق إبراهيم النخعي في قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله. ومن طرق عن مجاهد وعكرمة وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك مثله، وفيه قول آخر أخرجه الطبري من طرق عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد قال: الإحصاء. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} يقول: دين الأولين، وهذا يؤيد الأول. وفيه قول آخر أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علقمة في قوله: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} قال: اختلاق الأولين. ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كذبهم. ومن طريق قتادة قال: سيرتهم.

(8/512)


قوله: "والفطرة الإسلام" هو قول عكرمة: وصله الطبري من طريقه، وقد تقدم نقل الخلاف في ذلك في أواخر كتاب الجنائز. حديث أبي هريرة "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" وقد تقدم بسنده ومتنه في كتاب الجنائز مع شرحه في "باب ما قيل في أولاد المشركين" .

(8/513)


سورة لقمان: باب {لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}
...
31 - سورة لُقْمَانَ
1 - باب {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
4776- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال ثم لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بذاك آلا تسمع إلى قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
قوله: "سورة لقمان – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر؛ وسقطت البسملة فقط للنسفي.
قوله: {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ذكر فيه حديث ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان.

(8/513)


2 - باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}
4777- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ قَالَ الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِسْلاَمُ قَالَ الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِحْسَانُ قَالَ الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ رُدُّوا عَلَيَّ فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَالَ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُم"
4778- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ ثُمَّ قَرَأَ

(8/513)


32 - سورة السَّجْدَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَهِينٍ} ضَعِيفٍ نُطْفَةُ الرَّجُلِ {ضَلَلْنَا} هَلَكْنَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الْجُرُزُ} الَّتِي لاَ تُمْطَرُ إِلاَّ مَطَرًا لاَ يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا {يَهْدِ} يُبَيِّنْ
قوله: "سورة السجدة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر وسقطت البسملة للنسفي، ولغيرهما:"تنزيل السجدة" حسب. قوله: "وقال مجاهد: مهين ضعيف نطفة الرجل" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "من ماء مهين" ضعيف، وللفريابي من هذا الوجه في قوله: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} قال: نطفة الرجل. قوله: "ضللنا هلكنا" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} قال: هلكنا. قوله: "وقال ابن عباس الجرز التي لا تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن رجل عن مجاهد عنه مثله، وذكره الفريابي وإبراهيم الحربي في "غريب الحديث:"من طريق ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عباس كذلك زاد إبراهيم، وعن مجاهد قال: هي أرض أبين. وأنكر ذلك الحربي وقال: أبين مدينة معروفة باليمن فلعل مجاهدا قال ذلك في وقت لم تكن أبين تنبت فيه شيئا. وأخرج ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قال: هي أرض باليمن. وقال أبو عبيدة: الأرض الجرز اليابسة الغليظة التي لم يصبها مطر. قوله: {يَهْدِ} يبين أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} قال: أو لم يبين لهم. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أي يبين لهم وهو من الهدى.

(8/515)


1- باب {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
4779- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} و حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ اللَّهُ مِثْلَهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ رِوَايَةً قَالَ فَأَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ "قُرَّاتِ أَعْيُن" .
4780- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ

(8/515)


33- سورة الأَحْزَابِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَيَاصِيهِمْ} قُصُورِهِمْ، معروفا في الكتاب
1- باب 4781- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَه"
قوله: "سورة الأحزاب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، وسقطت البسملة فقط للنسفي. قوله: "وقال مجاهد: صياصيهم قصورهم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "معروفا في الكتاب" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن جريج قال: قلت لعطاء في هذه الآية: {إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} فقال: هو إعطاء المسلم الكافر بينهما قرابة صلة له. قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر. حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به " الحديث، وسيأتي الكلام عليه في الفرائض إن شاء الله تعالى.

(8/517)


2- باب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}
4782-حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلاَّ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} "
قوله: "باب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أعدل، وسيأتي تفسير القسط، والفرق بين القاسط والمقسط في آخر الكتاب. قوله: "إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد ابن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} في رواية القاسم بن معن عن موسى بن عقبة في هذا الحديث: "ما كنا ندعو زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد ابن محمد" أخرجه الإسماعيلي. وفي حديث عائشة الآتي في النكاح في قصة سالم مولى أبي حذيفة "وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه، حتى نزلت هذه الآية" وسيأتي مزيد الكلام على قصة زيد بن حارثة في ذلك بعد قليل إن شاء الله تعالى.

(8/517)


باب {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينظر وما بدلوا تبديلا}
...
3- باب {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} نَحْبَهُ عَهْدَهُ أَقْطَارِهَا جَوَانِبُهَا الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا لاَعْطَوْهَا

(8/517)


باب {قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا}
...
4- باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} وَقَالَ مَعْمَرٌ التَّبَرُّجُ أَنْ تُخْرِجَ مَحَاسِنَهَا سُنَّةَ اللَّهِ اسْتَنَّهَا جَعَلَهَا
4785- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إِلَى تَمَامِ الآيَتَيْنِ فَقُلْتُ لَهُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَة"
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} في رواية أبي ذر {أُمَتِّعْكُنَّ} الآية" . قوله: "وقال معمر" كذا لأبي ذر. وسقط هذا العزو من رواية غيره. قوله: "التبرج أن تخرج زينتها" هو قول أبي عبيدة واسمه معمر بن المثنى، ولفظه في "كتاب المجاز: . في قوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} هو من التبرج، وهو أن يبرزن محاسنهن. وتوهم مغلطاي ومن قلده أن مراد البخاري معمر بن راشد فنسب هذا إلى تخريج عبد الرزاق في تفسيره عن معمر، ولا وجود لذلك في تفسير

(8/519)


عبد الرزاق، وإنما أخرج عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية قال. كانت المرأة تخرج تتمشى بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية، وعند ابن أبي حاتم عن طريق شيبان عن قتادة قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج إذا خرجن من البيوت فنهين عن ذلك. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس قال: قال عمر: ما كانت إلا جاهلية واحدة. فقال له ابن عباس. هل سمعت بأولى إلا ولها آخرة؟ ومن وجه آخر عن ابن عباس قال: تكون جاهلية أخرى. ومن وجه آخر عنه قال: كانت الجاهلية الأولى ألف سنة فيما بين نوح وإدريس، وإسناده قوي. ومن حديث عائشة قالت: الجاهلية الأولى بين نوح وإبراهيم، وإسناده ضعيف. ومن طريق عامر - وهو الشعبي - قال: هي ما بين عيسى ومحمد. وعن مقاتل بن حيان قال: الأولى زمان إبراهيم، والأخرى زمان محمد قبل أن يبعث. قلت: ولعله أراد الجمع بين ما نقل عن عائشة وعن الشعبي والله أعلم. قوله: "سنة الله استنها جعلها" هو قول أبي عبيده أيضا وزاد: جعلها سنة. ونسبه مغلطاي ومن تبعه أيضا إلى تخريج عبد الرزاق عن معمر، وليس ذلك فيه. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمر الله أن يخير أزواجه" سيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده.

(8/520)


5- باب {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ
4786- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: " إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ قَالَتْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا إِلَى أَجْرًا عَظِيمًا} قَالَتْ فَقُلْتُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْخِرَةَ قَالَتْ ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَعْمَرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَة"
قوله: "باب قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ساقوا كلهم الآية إلى { عَظِيمًا}. قوله: "وقال قتادة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ، القرآن والسنة" وصله ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة بلفظ: "من آيات الله والحكمة، القرآن والسنة" أورده بصورة اللف والنشر المرتب، وكذا هو في تفسير عبد الرزاق. قوله: "وقال الليث: حدثني يونس" وصله الذهلي عن أبي صالح عنه، وأخرجه ابن جرير والنسائي والإسماعيلي من رواية ابن وهب عن يونس كذلك. قوله: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه" ورد في سبب هذا التخيير ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: "دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حولي كما ترى يسألنني النفقة" يعني نساءه، وفيه أنه اعتزلهن شهرا ثم نزلت عليه هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {أَجْراً عَظِيماً} قال: فبدأ بعائشة فذكر نحو حديث الباب، وقد تقدم في المظالم من طريق عقيل

(8/520)


ويأتي في النكاح أيضا من طريق شعيب كلاهما عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا بطوله وفي آخره: "حين أفشته حفصة إلى عائشة "وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله، فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وقد أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون" . وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين. قالت عائشة: "فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تعجلي" الحديث. وهذا السياق ظاهره أن الحديث كله من رواية ابن عباس عن عمر، وأما المروي عن عائشة فمن رواية ابن عباس عنها، وقد وقع التصريح بذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي صالح عن الليث بهذا الإسناد إلى ابن عباس قال: "قالت عائشة: أنزلت آية التخيير، فبدأ بي" الحديث. لكن أخرج مسلم الحديث من رواية معمر عن الزهري ففصله تفصيلا حسنا، وذلك أنه أخرجه بطوله إلى آخر قصة عمر في المتظاهرتين إلى قوله: "حتى عاتبه" ثم عقبه بقوله: "قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضى تسع وعشرون" فذكر مراجعتها في ذلك ثم عقبه بقوله: "قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" الحديث. فعرف من هذا أن قوله: "فلما مضت تسع وعشرون إلخ" في رواية عقيل هو من رواية الزهري عن عائشة بحذف الواسطة، ولعل ذلك وقع عن عمد من أجل الاختلاف على الزهري في الواسطة بينه وبين عائشة في هذه القصة بعينها كما بينه المصنف هنا، وكأن من أدرجه في رواية ابن عباس مشى على ظاهر السياق ولم يفطن للتفصيل الذي وقع في رواية معمر، وقد أخرج مسلم أيضا من طريق سماك بن الوليد عن ابن عباس" حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي نساءه دخلت المسجد" الحديث بطوله وفي آخره: "قال: وأنزل الله آية التخيير" فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهن فيه، ووقع ذلك صريحا في رواية عمرة عن عائشة قالت: "لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسائه أمر أن يخيرهن" الحديث أخرجه الطبري والطحاوي، واختلف الحديثان في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن يكون القضيتان جميعا سبب الاعتزال فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير بقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين، وسيأتي في "باب من خير نساءه" من كتاب الطلاق بيان الحكم فيمن خيرها زوجها إن شاء الله تعالى. وقال الماوردي: اختلف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ على قولين للعلماء أشبههما بقول الشافعي الثاني، ثم قال: إنه الصحيح. وكذا قال القرطبي: اختلف في التخيير هل كان في البقاء والطلاق أو كان بين الدنيا والآخرة انتهى. والذي يظهر الجمع بين القولين، لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر، وكأنهن خيرن بين الدنيا فيطلقهن وبين الآخرة فيمسكهن، وهو مقتضى سياق الآية. ثم ظهر لي أن محل القولين هل فوض إليهن الطلاق أم لا؟ ولهذا أخرج أحمد عن علي قال: "لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة" . قوله: "فلا عليك أن لا تعجلي" أي فلا بأس عليك في التأني وعدم العجلة حتى تشاوري أبويك. قوله: "حتى تستأمري أبويك" أي تطلبي منهما أن يبينا لك رأيهما في ذلك. ووقع في حديث جابر "حتى تستشيري أبويك" زاد محمد بن عمرو عن أبي سلمه عن عائشة "إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان " أخرجه أحمد والطبري، ويستقاد منه أن أم رومان كانت يومئذ موجودة، فيرد به

(8/521)


على من زعم أنها ماتت سنة ست من الهجرة، فإن التخيير كان في سنة تسع. قوله: "قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي"؟ في رواية محمد بن عمرو "فقلت: فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر أبوي أبا بكر وأم رومان، فضحك" وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه عند الطبري "ففرح" . قوله: "ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت" في رواية عقيل "ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة" زاد ابن وهب عن يونس في روايته: "فلم يكن ذلك طلاقا حين قاله لهن فاخترنه" أخرجه الطبري. وفي رواية محمد بن عمرو المذكورة "ثم استقرى الحجر - يعني حجر أزواجه - فقال: إن عائشة قالت كذا، فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت" . وقوله: "استقرى الحجر" أي تتبع، والحجر - بضم المهملة وفتح الجيم - جمع حجرة بضم ثم سكون، والمراد مساكن أزواجه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر المذكور أن عائشة لما قالت: "بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" قالت: "يا رسول الله وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، فقال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا وإنما بعثني معلما ميسرا" . وفي رواية معمر عند مسلم: "قال معمر: فأخبرني أيوب أن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال: إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا" وهذا منقطع بين أيوب وعائشة، ويشهد لصحته حديث جابر والله أعلم. وفي الحديث ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه وحلمه عنهن وصبره على ما كان يصدر منهم من إدلال وغيره مما يبعثه عليهن الغيرة. وفيه فضل عائشة لبداءته بها، كذا قرره النووي، لكن روى ابن مردويه من طريق الحسن عن عائشة أنها طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا، فأمر الله نبيه أن يخير نساءه: أما عند الله تردن أم الدنيا؟ فإن ثبت هذا وكانت هي السبب في التخيير فلعل البداءة بها لذلك، لكن الحسن لم يسمع من عائشة فهو ضعيف، وحديث جابر في أن النسوة كن يسألنه النفقة أصح طريقا منه، وإذا تقرر أن السبب لم يتحد فيها وقدمت في التخيير دل على المراد، لا سيما مع تقديمه لها أيضا في البداءة بها في الدخول عليها. وفيه أن صغر السن مظنة لنقص الرأي، قال العلماء: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تستأمر أبويها خشية أن يحملها صغر السن على اختيار الشق الآخر، لاحتمال أن لا يكون عندها من الملكة ما يدفع ذلك العارض، فإذا استشارت أبويها أوضحا لها ما في ذلك من المفسدة وما في مقابله من المصلحة، ولهذا لما فطنت عائشة لذلك قالت: "قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه" ووقع في رواية عمرة عن عائشة في هذه القصة "وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثتي" وهذا شاهل للتأويل المذكور، وفيه منقبة عظيمة لعائشة وبيان كمال عقلها وصحة رأيها مع صغر سنها، وأن الغيرة تحمل المرأة الكاملة الرأي والعقل على ارتكاب ما لا يليق بحالها لسؤالها النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخبر أحدا من أزواجه بفعلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما علم أن الحامل لها على ذلك ما طبع عليه النساء من الغيرة ومحبة الاستبداد دون ضرائرها لم يسعفها بما طلبت من ذلك. "تنبيه" : وقع في النهاية والوسيط التصريح بأن عائشة أرادت أن يختار نساؤه الفراق، فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق فذاك وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك، وذكر بعض العلماء أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم تخيير أزواجه واستند إلى هذه القصة، ولا دلالة فيها على الاختصاص. نعم ادعى بعض من قال: إن التخيير طلاق أنه في حق الأمة، واختص هو صلى الله عليه وسلم بأن ذلك في حقه ليس بطلاق، وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الطلاق إن شاء تعالى. واستدل به بعضهم على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا فتزوجها وهي فاطمة بنت الضحاك لعموم قوله: ثم فعل إلخ. قوله: "تابعه موسى بن أعين عن معمر عن الزهري أخبرني أبو سلمة" يعني عن عائشة،

(8/522)


وصل النسائي من طريق محمد بن موسى بن أعين حدثنا أبي فذكره. قوله: "وقال عبد الرزاق وأبو سفيان المعمري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة" ما رواية عبد الرزاق فوصلها مسلم وابن ماجه من طريقه، وأخرجها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وقصر من قصر تخريجها على ابن ماجه. وأما رواية أبي سفيان المعمري فأخرجها الذهلي في الزهريات وتابع معمرا على عروة جعفر بن برقان، ولعل الحديث كان عند الزهري عنهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وإلى هذا مال الترمذي. وقد رواه عقيل وشعب عن الزهري عن عائشة بغير واسطة كما قدمته، والله أعلم.

(8/523)


باب {ويخفي في نفسك ما الله مبدية وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}
...
6- باب {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
4787- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَة"
[الحديث 4787- طرفه في: 7420]
قوله: "باب {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش. قوله: "حدثنا معلى بن منصور" هو الرازي، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع، وقد قال في "التاريخ الصغير" : دخلنا عليه سنة عشر، فكأنه لم يكثر عنه ولهذا حدث عنه في هذين الموضعين بواسطة. قوله: "حدثنا ثابت" كذا قال معلى بن منصور عن حماد، وتابعه محمد بن أبي بكر المقدمي وعارم وغيرهما. وقال الصلت بن مسعود وروح بن عبد المؤمن وغيرهما:"عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس" فلعل لحماد فيه إسنادين. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن أيوب صاحب البصري عن حماد بن زيد بالإسنادين معا. قوله: "إن هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة" هكذا اقتصر على هذا القدر من هذه القصة، وقد أخرجه في التوحيد من وجه آخر عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا لكتم هذه الآية" قال: "وكانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:"الحديث. وأخرجه أحمد عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد بهذا الإسناد بلفظ: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة فجاءه زيد يشكوها إليه، فقال له: " أمسك عليك زوجك واتق الله" ، فنزلت إلى قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} قال: يعني زينب بنت جحش" . وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقا واضحا حسنا ولفظه: "بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدا" . وعنده من طريق علي بن زيد عن علي بن الحصين

(8/523)


بن علي قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وقد أطنب الترمذي الحكيم في تحسين هذه الرواية وقال: إنها من جواهر العلم المكنون. وكأنه لم يقف على تفسير السدي الذي أوردته، وهو أوضح سياقا وأصح إسنادا إليه لضعف علي بن زيد بن جدعان. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء زيد بن حارثة فقال: يا رسول الله إن زينب اشتد علي لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" ، قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها ويخشى قالة الناس. ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنا. ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم. وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية والله أعلم، وقد أخرج الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية" وإذ تقول للذي أنعم الله عليه - يعني بالإسلام - وأنعمت عليه - بالعتق - أمسك عليك زوجك" إلى قوله: "قدرا مقدورا" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية، وكان تبناه وهو صغير. قلت: حتى صار رجلا يقال له زيد ابن محمد، فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {وَمَوَالِيكُمْ}. قال الترمذي: روي عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة إلى قوله: "لكتم هذه الآية" ولم يذكر ما بعده. قلت: وهذا القدر أخرجه مسلم كما قال الترمذي، وأظن الزائد بعده مدرجا في الخبر، فإن الراوي له عن داود لم يكن بالحافظ. وقال ابن العربي: إنما قال عليه الصلاة والسلام لزيد: "أمسك عليك زوجك" اختبارا لما عنده من الرغبة فيها أو عنها، فلما أطلعه زيد على ما عنده منها من النفرة التي نشأت من تعاظمها عليه وبذاءة لسانها أذن له في طلاقها، وليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع الآمر به والله أعلم. وروى أحمد ومسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لزيد: "اذكرها علي" ، قال: فانطلقت فقلت: يا زينب، أبشري، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن" وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى.

(8/524)


باب {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك}
...
7- باب {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُرْجِئُ تُؤَخِّرُ أَرْجِئْهُ أَخِّرْهُ
4788- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(8/524)


قَالَتْ كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللاَتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُولُ أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ مَا أُرَى رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاك"
[الحديث 4788- طرفه في: 5113]
4789- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فَقُلْتُ لَهَا مَا كُنْتِ تَقُولِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَقُولُ لَهُ إِنْ كَانَ ذَاكَ إِلَيَّ فَإِنِّي لاَ أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْكَ أَحَدًا تَابَعَهُ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ سَمِعَ عَاصِمًا"
قوله: "باب قوله: {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} كذا للجميع، وسقط لفظ: "باب" لغير أبي ذر، وحكى الواحدي عن المفسرين أن هذه الآية نزلت عقب نزول آية التخيير، وذلك أن التخيير لما وقع أشفق بعض الأزواج أن يطلقهن ففوضن أمر القسم إليه، فأنزلت: {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ} الآية. قوله: "قال ابن عباس: ترجي تؤخر" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. قوله: "أرجه أخره" هذا من تفسير الأعراف والشعراء، ذكره هنا استطرادا. وقد وصله ابن أبي حاتم أيضا من طريق عطاء عن ابن عباس قال في قوله: "أرجه وأخاه" قال: أخره وأخاه. قوله: "حدثنا زكريا بن يحيى" هو الطائي وقيل: البلخي، وقد تقدم بيان ذلك في العيدين. قوله: "حدثنا أبو أسامة قال هشام: حدثنا" هو من تقديم المخبر على الصيغة وهو جائز. قوله: "كنت أغار" كذا وقع بالغين المعجمة من الغيرة ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن بشر عن هشام بن عروة بلفظ: "كانت تعير اللاتي وهبن أنفسهن" بعين مهملة وتشديد. قوله: "وهبن أنفسهن" هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة، ويأتي في النكاح حديث سهل بن سعد "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك" الحديث، وفيه قصة الرجل الذي طلبها قال: "التمس ولو خاتما من حديد" ومن حديث أنس "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي ابنة - فذكرت من جمالها - فآثرتك بها. فقال: قد قبلتها . فلم تزل تذكر حتى قالت: لم تصدع قط. فقال: لا حاجة لي في ابنتك" وأخرجه أحمد أيضا، وهذه امرأة أخرى بلا شك. وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم، وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، فإن البخاري أشار إليه معلقا. ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبي عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح. وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له. ومنهن زينب بنت خزيمة، جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح. ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف. ويعارضه حديث

(8/525)


سماك عن عكرمة عن ابن عباس "لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له" أخرجه الطبري وإسناده حسن، والمواد أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان مباحا له لأنه راجع إلى إرادته لقوله تعالى. {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ، وقد بينت عائشة في هذا الحديث سبب نزول قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} وأشارت إلى قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} وروى ابن مردويه من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس أيضا قال: فرض عليهم أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين قوله: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" أي ما أرى الله إلا موجدا لما تريد بلا تأخير، منزلا لما تحب وتختار. وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أي تؤخرهن بغير قسم، وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وغيرهم. وأخرج الطبري أيضا عن الشعبي في قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قال: كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحهن، وهذا شاذ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات كما تقدم. وقيل: المراد بقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أنه كان هم بطلاق بعضهن، فقلن له لا تطلقنا واقسم لنا ما شئت، فكان يقسم لبعضهن قسما مستويا، وهن اللاتي آواهن، ويقسم للباقي ما شاء وهن اللاتي أرجأهن. فحاصل ما نقل في تأويل "ترجي" أقوال: أحدها تطلق وتمسك، ثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من شئت. وحديث الباب يؤيد هذا والذي قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة. وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يرج أحدا منهن، بمعنى أنه لم يعتزل، وهو قول الزهري: "ما أعلم أنه أرجأ أحدا من نسائه" أخرجه ابن أبي حاتم، وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية. قوله: "يستأذن المرأة في اليوم" أي الذي يكون فيه نوبتها إذا أراد أن يتوجه إلى الأخرى. قوله: "تابعه عباد بن عباد سمع عاصما" وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق يحيي بن معين عن عباد بن عباد، ورويناه في الجزء الثالث من حديث يحيي بن معين رواية أبي بكر المروزي عنه من طريق المصريين إلى المروزي. "تكميل" : اختلف في المنفي في قوله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية وهي قوله: "لا تحل لك النساء من بعد" هل المراد بعد الأوصاف المذكورة فكان يحل له صنف دون صنف؟ أو بعد النساء الموجودات عند التخيير؟ على قولين، وإلى الأول ذهب أبي بن كعب ومن وافقه أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وإلى الثاني ذهب ابن عباس ومن وافقه وأن ذلك وقع مجازاة لهن على اختيارهن إياه، نعم الواقع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجدد له تزوج امرأة بعد القصة المذكورة، لكن ذلك لا يرفع الخلاف. وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء" وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة رضي الله عنها مثله.

(8/526)


8- باب {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} يُقَالُ إِنَاهُ إِدْرَاكُهُ أَنَى يَأْنِي أَنَاةً فَهُوَ آنٍ

(8/526)


{لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} إِذَا وَصَفْتَ صِفَةَ الْمُؤَنَّثِ قُلْتَ قَرِيبَةً وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا وَبَدَلًا وَلَمْ تُرِدْ الصِّفَةَ نَزَعْتَ الْهَاءَ مِنْ الْمُؤَنَّثِ وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى
4790- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَاب"
4791- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ
[الحديث 4791- أطرافه في: 4792، 4793، 4794، 5154، 5163، 5166، 5168، 5170، 5171، 5466، 6238، 6226، 6271، 7421]
4792- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ آيَةِ الْحِجَابِ لَمَّا أُهْدِيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا الْقَوْمَ فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ ثُمَّ يَرْجِعُ وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إِلَى قَوْلِهِ { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فَضُرِبَ الْحِجَابُ وَقَامَ الْقَوْم"
4793- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بُنِيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ قَالَ: "ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ" وَبَقِيَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" فَقَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا ثَلاَثَةٌ مِنْ رَهْطٍ فِي الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحَيَاءِ فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا

(8/527)


نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَاب"
4794- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ صَبِيحَةَ بِنَائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُنَّ وَيَدْعُونَ لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ رَأَى رَجُلَيْنِ جَرَى بِهِمَا الْحَدِيثُ فَلَمَّا رَآهُمَا رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلاَنِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا مُسْرِعَيْنِ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ بِخُرُوجِهِمَا أَمْ أُخْبِرَ فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَاب"
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4795- حدثني زكريا بن يحيى حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن"
قوله: "باب قوله: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} كذا لأبي ذر والنسفي، وساق غيرهما الآية كلها. قوله: "يقال: إناه إدراكه، أنى يأنى أناة فهو آن" أنى بفتح الألف والنون مقصور، ويأتي بكسر النون، وأناة بفتح الهمزة والنون مخففا وآخره هاء تأنيث بغير مد مصدر، قال أبو عبيدة في قوله: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي إدراكه وبلوغه، ويقال: أنى يأنى أنيا أي بلغ وأدرك، قال الشاعر:
تمحضت المنون له بنوم ... أنى، ولكل حاملة تمام
وقوله: "أنيا" بفتح الهمزة وسكون النون مصدر أيضا. وقرأ الأعمش وحده "آناه" بمد أوله بصيغة الجمع مثل آناء الليل ولكن بغير همز في آخره. قوله: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} إذا وصفت صفة المؤنث قلت: قريبة، وإذا جعلته ظرفا وبدلا ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث، وكذلك لفظها في الواحد والاثنين والجمع المذكر والأنثى" هكذا وقع هذا الكلام هنا لأبي ذر والنسفي، وسقط لغيرهما وهو أوجه، لأنه وإن اتجه ذكره في هذه السورة لكن ليس هذا محله، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} مجازه مجاز

(8/528)


الظرف هاهنا، ولو كان وصفا للساعة لكان "قريبة" وإذا كانت ظرفا فإن لفظها في الواحد وفي الاثنين والجمع من المذكر والمؤنث واحد بغير هاء وبغير جمع وبغير تثنية، وجوز غيره أن يكون المراد بالساعة اليوم فلذلك ذكره أو المراد شيئا قريبا أو زمانا قريبا أو التقدير قيام الساعة فحذف قيام وروعيت الساعة في تأنيث "تكون" وروعي المضاف المحذوف في تذكير "قريبا" وقيل قريبا كثر استعماله استعمال الظروف فهو ظرف في موضع الخبر. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. أحدها حديث أنس عن عمر قال: "قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب" وهو طرف من حديث أوله: "وافقت ربي في ثلاث" وقد تقدم بتمامه في أوائل الصلاة وفي تفسير البقرة. ثانيها: حديث أنس في قصة بناء النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ونزول آية الحجاب، أورده من أربعة طرق عن أنس بعضها أتم من بعض، وقوله: "لما أهديت" أي لما زينتها الماشطة وزفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم الصغاني أن الصواب "هديت" بغير ألف، لكن توارد النسخ على إثباتها يرد عليه، ولا مانع من استعمال الهدية في هذا استعارة. قوله: "لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا" في رواية الزهري عن أنس كما سيأتي في الاستئذان قال: "أنا أعلم الناس بشأن الحجاب وكان في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح بها عروسا فدعا القوم" وفي رواية أبي قلابة عن أنس قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب. لما أهديت زينب بنت جحش إلى النبي صلى الله عليه وسلم صنع طعاما" وفي رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس أنه كان الداعي إلى الطعام قال: "فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، قال: فدعوت حتى ما أجد أحدا" وفي رواية حميد "فأشبع المسلمين خبزا ولحما" ووقع في رواية الجعد بن عثمان عن أنس عند مسلم، وعلقه البخاري قال: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله، فصنعت له أم سليم حيسا، فذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع لي فلانا وفلانا، وذهبت فدعوتهم زهاء ثلاثمائة رجل" فذكر الحديث في إشباعهم من ذلك، وقد تقدمت الإشارة إليه في "علامات النبوة" ويجمع بينه وبين رواية حميد بأنه صلى الله عليه وسلم أولم عليه باللحم والخبز، وأرسلت إليه أم سليم الحيس. وفي رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم حتى امتد النهار" الحديث أخرجه مسلم. قوله: "قلت: يا رسول الله والله ما أجد أحدا، قال: فارفعوا طعامكم" زاد الإسماعيلي من طريق جعفر بن مهران عن عبد الوارث فيه: "قال: وزينب جالسة في جانب البيت، قال: وكانت امرأة قد أعطيت جمالا، وبقي في البيت ثلاثة" . قوله: "ثم جلسوا يتحدثون" في رواية أبي قلابة: "فجعل يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون" . قوله: "وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر" في رواية عبد العزيز "وبقي ثلاثة رهط" وفي رواية حميد "فلما رجع إلى بيته رأى رجلين" ووافقه بيان بن عمرو عن أنس عند الترمذي، وأصله عند المصنف أيضا، ويجمع بين الروايتين بأنهم أول ما قام وخرج من البيت كانوا ثلاثة وفي آخر ما رجع توجه واحد منهم في أثناء ذلك فصاروا اثنين، وهذا أولى من جزم ابن التين بأن إحدى الروايتين وهم، وجوز الكرماني أن يكون التحديث وقع من اثنين منهم فقط والثالث كان ساكتا، فمن ذكر الثلاثة لحظ الأشخاص ومن ذكر الاثنين لحظ سبب العقود، ولم أقف على تسمية أحد منهم. قوله: "فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا" هكذا وقع الجزم في هذه الرواية بأنه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وكذا في رواية الجعد المذكورة، واتفقت رواية عبد العزيز وحميد على

(8/529)


أن أنسا كان يشك في ذلك، ولفظ حميد "فلا أدري ألا أخبرته بخروجهما أم أخبر" وفي رواية عبد العزيز عن أنس "فما أدري أخبرته أو أخبر" وهو مبني للمجهول أي أخبر بالوحي، وهذا الشك قريب من شك أنس في تسمية الرجل الذي سأل الدعاء بالاستسقاء، فإن بعض أصحاب أنس جزم عنه بأنه الرجل الأول وبعضهم ذكر أنه سأله عن ذلك فقال: لا أدري كما تقدم في مكانه، وهو محمول على أنه كان يذكره ثم عرض له الشك فكان يشك فيه ثم تذكر فجزم. قوله: "فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية" زاد أبو قلابة في روايته {إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلى قوله: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فضرب الحجاب. وفي رواية عبد العزيز "حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب" وعند الترمذي من رواية عمرو بن سعيد عن أنس "فلما أرخى الستر دوني ذكرت ذلك لأبي طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلن فيه قرآن، فنزلت آية الحجاب" . قوله في رواية عبد العزيز "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم" في رواية حميد "ثم خرج إلى أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن ويسلمن عليه ويدعو لهن ويدعون له" وفي رواية عبد العزيز أنهن قلن له: "كيف وجدت أهلك بارك الله لك" . قوله: "فتقرى" بفتح القاف وتشديد الراء بصيغة الفعل الماضي، أي تتبع الحجرات واحدة واحدة، يقال منه قريت الأرض إذا تتبعتها أرضا بعد أرض وناسا بعد ناس. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة" في رواية حميد "رأى رجلين جرى بهما الحديث فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبي الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيته وثبا مسرعين" ومحصل القصة أن الذين حضروا الوليمة جلسوا يتحدثون، واستحيي النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه، فلما ألهاهم الحديث عن ذلك قام وخرج فخرجوا بخروجه، إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث، وفي غضون ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام على نسائه، وهم في شغل بالهم، وكان أحدهم في أثناء ذلك أفاق من غفلته فخرج وبقي الاثنان، فلما طال ذلك ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله فرآهما فرجع فرأياه لما رجع، فحينئذ فطنا فخرجا، فدخل النبي، وأنزلت الآية، فأرخى الستر بينه وبين أنس خادمه أيضا ولم يكن له عهد بذلك. "تنبيه" : ظاهر الرواية الثانية أن الآية نزلت قبل قيام القوم. والأولى وغيرها أنها نزلت بعد، فيجمع بأن المراد أنها نزلت حال قيامهم أي أنزلها الله وقد قاموا. ووقع في رواية الجعد "فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلى قوله: {مِنَ الْحَقِّ} "وفي الحديث من الفوائد مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في "الموطا" أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها؛ وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها. انتهى. وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد

(8/530)


الحجاب. وسيأتي في آخر الحديث الذي يليه مزيد بيان لذلك. قوله: "وقال ابن أبي مريم: أنبأنا يحيى حدثني حميد سمعت أنسا" مراده بذلك أن عنعنة حميد في هذا الحديث غير مؤثرة لأنه ورد عنه التصريح بالسماع لهذا الحديث ومنه، ويحيى المذكور هو ابن أيوب الغافقي المصري، وابن أبي مريم من شيوخ البخاري واسمه سعيد بن الحكم، ووقع في بعض النسخ من رواية أبي ذر "وقال إبراهيم بن أبي مريم" وهو تغيير فاحش، وإنما هو سعيد. الحديث الثالث حديث عائشة "خرجت سودة - أي بنت زمعة أم المؤمنين - بعدما ضرب الحجاب لحاجتها" وقد تقدم في كتاب الطهارة من طريق هشام بن عروة عن أبيه ما يخالف ظاهره رواية الزهري هذه عن عروة. قال الكرماني: فإن قلت: وقع هنا أنه كان بعدما ضرب الحجاب، وتقدم في الوضوء أنه كان قبل الحجاب، فالجواب: لعله وقع مرتين. قلت: بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني. والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح يقوله له عليه الصلاة والسلام: "احجب نساءك" وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعا للمشقة ورفعا للحرج. وقد اعترض بعض الشراح بأن إيراد الحديث المذكور في الباب ليس مطابقا، بل إيراده في عدم الحجاب أولى. وأجيب بأنه أحال على أصل الحديث كعادته، وكأنه أشار إلى أن الجمع بين الحديثين ممكن، والله أعلم. وقد وقع في رواية مجاهد عن عائشة لنزول آية الحجاب سبب آخر أخرجه النسائي بلفظ: "كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قعب، فمر عمر فدعاه فأكل، فأصاب إصبعه إصبعي فقال: حس - أو أوه - لو أطاع فيكن ما رأتكن عين. فنزل الحجاب" ويمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها أطلقت نزول الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب. وقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس قال: "دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه فقال للرجل: لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل" ، فقال له عمر: يا رسول الله لو اتخذت حجابا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب" .

(8/531)


باب {إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما لا جناح عليهن في آبائهن ....}
...
9- باب {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}
4796- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ فَقال النبي

(8/531)


صلى الله عليه وسلم: " وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَقَالَ ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ" قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَب"
قوله: "باب قوله {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ} - إلى قوله: {شَهِيدًا} كذا لأبي ذر، وساق غيره الآيتين جميعا ثم ذكر حديث عائشة في قصة أفلح أخي أبي القعيس، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في الرضاع. ومطابقته للترجمة من قوله: " {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} إلخ" فإن ذلك من جملة الآيتين، وقوله في الحديث: "ائذني له فإنه عمك" مع قوله في الحديث الآخر "العم صنو الأب" وبهذا يندفع اعتراض من زعم أنه ليس في الحديث مطابقة للترجمة أصلا، وكأن البخاري رمز بإيراد هذا الحديث إلى الرد على من كره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبي أنه قيل لهما: لم لم يذكر العم والخال في هذه الآية؟ فقالا: لأنهما ينعتاها لأبنائهما، وكرها لذلك أن تضع خمارها عند عمها أو خالها. وحديث عائشة في قصة أفلح يرد عليهما. وهذا من دقائق ما في تراجم البخاري.

(8/532)


10- باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ صَلاَةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ وَصَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ الدُّعَاءُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلُّونَ يُبَرِّكُونَ لَنُغْرِيَنَّكَ لَنُسَلِّطَنَّكَ
4798- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
4798- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا التَّسْلِيمُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ وَقَالَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيم"
[الحديث 4798- طرفه في: 6358]

(8/532)


قوله: باب قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية" كذا لأبي ذر، وساقها غيره إلى {تَسْلِيمًا} . قوله: "قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء" أخرجه ابن أبي حاتم. ومن طريق آدم بن أبي إياس "حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع هو ابن أنس بهذا" وزاد في آخره: "له" . قوله: "وقال ابن عباس: يصلون يبركون" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ويصلون على النبي" قال: يبركون على النبي، أي يدعون له بالبركة، فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخص منه. وقد سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان التحية والانقياد، فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم، والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد لم يضف إليهم دفعا للإبهام. والعلم عند الله. قوله: "لنغرينك: لنسلطنك" كذا وقع هذا هنا، ولا تعلق له بالآية وإن كان من جملة السورة، فلعله من الناسخ، وهو قول ابن عباس. ووصله الطبري أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عنه بلفظ: "لنسلطنك عليهم" وقال أبو عبيدة مثله، وكذا قال السدي. قوله: "سعيد بن يحيي" هو الأموي. قوله: "قيل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه" في حديث أبي سعيد الذي بعد هذا "قلنا: يا رسول الله" والمراد بالسلام ما علمهم إياه في التشهد من قولهم: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" والسائل عن ذلك هو كعب بن عجرة نفسه، أخرجه ابن مردويه من طريق الأجلح عن الحكم بن أبي ليلى عنه. وقد وقع السؤال عن ذلك أيضا لبشير بن سعد والد النعمان بن بشير، كذا وقع في حديث أبي مسعود عند مسلم بلفظ: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك"؟ وروى الترمذي من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: "لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} الآية، قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة"؟. قوله: "فكيف الصلاة عليك"؟ في حديث أبي سعيد "فكيف نصلي عليك"؟ زاد أبو مسعود في روايته: "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان بهذه الزيادة. قوله: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" في حديث أبي سعيد "على محمد عبدك ورسولك" . قوله: "كما صليت على آل إبراهيم" أي تقدمت منك الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فنسأل منك الصلاة على محمد وعلى آل محمد بطريق الأولى، لأن الذي يثبت للفاضل يثبت للأفضل بطريق الأولى، وبهذا يحصل الانفصال عن الإيراد المشهور من أن شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى، ومحصل الجواب أن التشبيه ليس من باب إلحاق الكامل بالأكمل بل من باب التهييج ونحوه، أو من بيان حال ما لا يعرف بما يعرف، لأنه فيما يستقبل، والذي يحصل لمحمد صلى الله عليه وسلم من ذلك أقوى وأكمل. وأجابوا بجواب آخر على تقدير أنه من باب الإلحاق. وحاصل الجواب أن التشبيه وقع للمجموع بالمجموع، لأن مجموع آل إبراهيم أفضل من مجموع آل محمد، لأن في آل إبراهيم الأنبياء بخلاف آل محمد. ويعكر على هذا الجواب التفصيل الواقع في غالب طرق الحديث. وقيل في الجواب أيضا: إن ذلك كان قبل أن يعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أفضل من إبراهيم وغيره من الأنبياء، وهو مثل ما وقع عند مسلم عن أنس "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، قال ذاك إبراهيم" . قوله: "على آل إبراهيم" كذا فيه في الموضعين، وسأذكر تحرير ذلك في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. وفي آخر حديث أبي سعيد المذكور "والسلام كما قد علمتم" . قوله في حديث أبي سعيد "قال أبو صالح عن الليث" يعني بالإسناد المذكور قبل. قوله: "على محمد وعلى

(8/533)


آل محمد كما باركت على آل إبراهيم" يعني أن عبد الله بن يوسف لم يذكر آل إبراهيم عن الليث وذكرها أبو صالح عنه في الحديث المذكور، وهكذا أخرجه أبو نعيم من طريق يحيي بن بكير عن الليث. قوله: "حدثنا ابن أبي حازم" هو عبد العزيز بن سلمة بن دينار. قوله: "والدراوردي" هو عبد العزيز بن محمد. قوله: "عن يزيد" هو ابن عبد الله بن شداد بن الهاد شيخ الليث فيه، ومراده أنهما روياه بإسناد الليث، فذكر آل إبراهيم كما ذكره أبو صالح عن الليث. واستدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم من أجل قوله فيه: "وعلى آل محمد" وأجاب من منع بأن الجواز مقيد بما إذا وقع تبعا، والمنع إذا وقع مستقلا، والحجة فيه أنه صار شعارا للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يشاركه غيره فيه، فلا يقال قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم: وإن كان معناه صحيحا، ويقال: صلى الله على النبي وعلى صديقه أو خليفته ونحو ذلك. وقريب من هذا أنه لا يقال: قال محمد عز وجل وإن كان معناه صحيحا، لأن هذا الثناء صار شعار الله سبحانه لا يشاركه غيره فيه. ولا حجة لمن أجاز ذلك منفردا فيما وقع من قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ولا في قوله: "اللهم صل على آل أبي أوفى" ولا في قول امرأة جابر "صل علي وعلى زوجي، فقال: اللهم صل عليهما" فإن ذلك كله وقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء، وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك. ويقوي المنع بأن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم صار شعارا لأهل الأهواء يصلون على من يعظمونه من أهل البيت وغيرهم. وهل المنع في ذلك حرام أو مكروه أو خلاف الأولى؟ حكى الأوجه الثلاثة النووي في "الأذكار" وصحح الثاني. وقد روى إسماعيل بن إسحاق في كتاب "أحكام القرآن" له بإسناد حسن عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب "أما بعد فإن ناسا من الناس التمسوا عمل الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناسا من القصاص أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبي، فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين، ويدعوا ما سوى ذلك" ثم أخرج عن ابن عباس بإسناد صحيح قال: "لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للمسلمين والمسلمات الاستغفار" وذكر أبو ذر أن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان في السنة الثانية من الهجرة، وقيل من ليلة الإسراء.

(8/534)


11- باب {لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}
4799- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}
قوله: باب {لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} ذكر فيه طرفا من قصة موسى مع بني إسرائيل" ، وقد تقدم بسنده مطولا في أحاديث الأنبياء مع شرحه مستوفى، وقد روى "أحمد بن منيع في مسنده" والطبري وابن أبي حاتم بإسناد قوي عن ابن عباس عن علي قال: "صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته، كان ألين لنا منك وأشد حبا فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته فمرت به على مجالس بني إسرائيل، فعلموا بموته" قال الطبري: يحتمل أن يكون هذا المراد بالأذى في قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا

(8/534)


مُوسَى} . قلت: وما في الصحيح أصح من هذا، لكن لا مانع أن يكون للشيء سببان فأكثر كما تقدم تقريره غير مرة.

(8/535)


34- سورة سَبَإٍ
يُقَالُ {مُعَاجِزِينَ} مُسَابِقِينَ {بِمُعْجِزِينَ} بِفَائِتِينَ مُعَاجِزِيَّ مُسَابِقِيَّ {سَبَقُوا} فَاتُوا {لاَ يُعْجِزُونَ} لاَ يَفُوتُونَ يَسْبِقُونَا يُعْجِزُونَا وَقَوْلُهُ {بِمُعْجِزِينَ} بِفَائِتِينَ وَمَعْنَى مُعَاجِزِينَ مُغَالِبِينَ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صَاحِبِهِ مِعْشَارٌ عُشْرٌ يُقَالُ الأُكُلُ الثَّمَرُ بَاعِدْ وَبَعِّدْ وَاحِدٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لاَ يَعْزُبُ} لاَ يَغِيبُ {سَيْلَ الْعَرِمِ} السُّدُّ مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السُّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ وَحَفَرَ الْوَادِيَ فَارْتَفَعَتَا عَنْ الْجَنْبَيْنِ وَغَابَ عَنْهُمَا الْمَاءُ فَيَبِسَتَا وَلَمْ يَكُنْ الْمَاءُ الأَحْمَرُ مِنْ السُّدِّ وَلَكِنْ كَانَ عَذَابًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ الْعَرِمُ الْمُسَنَّاةُ بِلَحْنِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَقَالَ غَيْرُهُ الْعَرِمُ الْوَادِي {السَّابِغَاتُ} الدُّرُوعُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُجَازَى} يُعَاقَبُ {أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} بِطَاعَةِ اللَّهِ {مَثْنَى وَفُرَادَى} وَاحِدٌ وَاثْنَيْنِ {التَّنَاوُشُ} الرَّدُّ مِنْ الآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مِنْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَهْرَةٍ {بِأَشْيَاعِهِمْ} بِأَمْثَالِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَالْجَوَابِ} كَالْجَوْبَةِ مِنْ الأَرْضِ الْخَمْطُ الأَرَاكُ وَالأَثَلُ الطَّرْفَاءُ الْعَرِمُ الشَّدِيدُ
قوله. "سورة سبأ - {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"سقط لفظ: "سورة والبسملة" لغير أبي ذر. وهذه السورة سميت بقوله فيها: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآية، قال ابن إسحاق وغيره: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ووقع عند الترمذي وحسنه من حديث فروة بن مسيك قال: "أنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ، أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن ستة وتشاءم أربعة" الحديث. قال: "وفي الباب عن ابن عباس" . قلت. حديث ابن عباس وفروة صححهما الحاكم. وأخرج ابن أبي حاتم في حديث فروة زيادة أنه قال: "يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية، وإني أخشى أن يرتدوا فأقاتلهم، قال: ما أمرت فيهم بشيء، فنزلت: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآيات. فقال له رجل: يا رسول الله، وما سبا" فذكره. وأخرج ابن عبد البر في "الأنساب" له شاهدا من حديث تميم الداري. وأصله قصة سبأ. وقد ذكرها ابن إسحاق مطولة في أول السيرة النبوية. وأخرج بعضها ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن الشهيد عن عكرمة، وأخرجها أيضا من طريق السدي مطولا. قوله: "معاجزين مسابقين، بمعجزين بفائتين، معاجزي مسابقي، سبقوا فاتوا، لا يعجزون لا يفوتون، يسبقونا يعجزونا. قوله: بمعجزين بفائتين ومعنى معاجزين مغالبين يريد كل واحد منهما أن يظهر عجز صاحبه" أما قوله معاجزين مسابقين فقال أبو عبيدة في قوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي مسابقين، يقال: ما أنت بمعجزي أي سابقي. وهذا اللفظ أي {مُعَاجِزِينَ} على إحدى القراءتين، وهي قراءة الأكثر في موضعين من هذه السورة وفي سورة الحج، والقراءة الأخرى لابن كثير وأبي عمرو "معجزين" بالتشديد في المواضع الثلاثة وهي بمعناها، وقيل: معنى معاجزين معاندين

(8/535)


ومغالبين، ومعنى معجزين ناسبين غيرهم إلى العجز. وأما قوله: "بمعجزين" فلعله أشار إلى قوله في سورة العنكبوت {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} وقد أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير نحوه. وأما قوله: "معاجزي مسابقي" فسقط من رواية الأصيلي وكريمة وثبت عندهما "معاجزين مغالبين" وتكرر لهما بعد، وقد ظهر أنه بقية كلام أبي عبيدة كما قدمته. وأما قوله: "سبقوا إلخ" فقال أبو عبيدة في سورة الأنفال في قوله: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} مجازه فاتوا "أنهم لا يعجزون" أي لا يفوتون. وأما قوله: {يَسْبِقُونَا} فأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} أي يعجزونا. وأما قوله: "بمعجزين بفائتين" فكذا وقع مكررا في رواية أبي ذر وحده، وسقط للباقين. وأما قوله: "معاجزين مغالبين إلخ. فقال الفراء: معناه معاندين. وذكر ابن أبي حاتم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {مُعَاجِزِينَ} قال: مراغمين. وكلها بمعنى. قوله: "معشار: عشر" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} أي عشر ما أعطيناهم. وقال الفراء: المعنى وما بلغ أهل مكة معشار الذين أهلكناهم من قبلهم من القوة والجسم والولد والعدد، والمعشار العشر. قوله: "يقال الأكل الثمرة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى : {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} قال: الخمط هو كل شجر ذي شوك، والأكل الجني أي بفتح الجيم مقصور وهو بمعنى الثمرة. قوله: "باعد وبعد واحد" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} مجازه مجاز الدعاء، وقرأه قوم "بعد" يعني بالتشديد. قلت: قراءة باعد للجمهور، وقرأه "بعد" أبو عمرو وابن كثير وهشام. قوله: "وقال مجاهد: لا يعزب لا يغيب" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه بهذا. قوله: "سيل العرم السد" كذا للأكثر بضم المهملة وتشديد الدال، ولأبي ذر عن الحموي الشديد بمعجمة وزن عظيم. قوله: "فشقه" كذا للأكثر بمعجمة قبل القاف الثقيلة، وذكر عياض أن في رواية أبي ذر "فبثقه" بموحدة ثم مثلثة قبل القاف الخفيفة، قال: وهو الوجه، تقول بثقت النهر إذا كسرته لتصرفه عن مجراه. قوله: "فارتفعتا عن الجنبتين" كذا للأكثر بفتح الجيم والنون الخفيفة بعدها موحدة ثم مثناة فوقانية ثم تحتانية ثم نون، ولأبي ذر عن الحموي بتشديد النون بغير موحدة تثنيه جنة. واستشكل هذا الترتيب لأن السياق يقتضي أن يقول: ارتفع الماء على الجنتين، وارتفعت الجنتان عن الماء. وأجيب بأن المراد من الارتفاع الزوال أي ارتفع اسم الجنة منهما، فالتقدير: فارتفعت الجنتان عن كونهما جنتين. وتسمية ما بدلوا به جنتين على سبيل المشاكلة. قوله: "ولم يكن الماء الأحمر من السد" كذا للأكثر بضم المهملة وتشديد الدال، وللمستملي من السيل، وعند الإسماعيلي من السيول. وهذا الأثر عن مجاهد وصله الفريابي أيضا وقال: "السد" في الموضعين فقال: "فشقه" بالمعجمة والقاف الثقيلة. وقال: "على الجنتين" تثنية جنة كما للأكثر في المواضع كلها. قوله: "وقال عمرو بن شرحبيل؛ العرم المسناة بلحن أهل اليمن. وقال غيره. العرم الوادي" أما قول عمرو فوصله سعيد بن منصور عن شريك عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة وهو عمرو بن شرحبيل فذكره سواء، واللحن اللغة، والمسناة بضم الميم وفتح المهملة وتشديد النون، وضبط في أصل الأصيلي، بفتح الميم وسكون المهملة، قال ابن التين: المراد بها ما يبنى في عرض الوادي ليرتفع السيل ويفيض على الأرض" وكأنه أخذ من عرامة الماء وهو ذهابه كل مذهب" . وقال الفراء: العرم المسناة وهي مسناة كانت تحبس الماء على ثلاثة أبواب منها، فيسيبون من ذلك الماء من الباب الأول ثم الثاني ثم الآخر، ولا ينفذ حتى يرجع الماء السنة

(8/536)


المقبلة، وكانوا أنعم قوم، فلما أعرضوا عن تصديق الرسل وكفروا بثق الله عليهم تلك المسناة، فغرقت أرضهم ودقت الرمل بيوتهم ومزقوا كل ممزق، حنى صار تمزيقهم عند العرب مثلا يقولون: "تفرقوا أيدي سبا" . وأما قول غيره: فأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه قال: العرم اسم الوادي، وقيل: العرم اسم الجرذ الذي خرب السد، وقيل: هو صفة السيل مأخوذ من العرامة، وقيل: اسم المطر الكثير. وقال أبو حاتم: هو جمع لا واحد له من لفظه. وقال أبو عبيدة: سيل العرم واحدتها عرمة، وهو بناء يحبس به الماء يبنى فيشرف به على الماء في وسط الأرض، ويترك فيه سبيل للسفينة، فتلك العرمات واحدتها عرمة. قوله: "السابغات الدروع" قال أبو عبيدة في قوله: {أنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا واسعة طويلة. قوله: "وقال مجاهد: يجازي يعاقب" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عنه، ومن طريق طاوس قال: هو المناقشة في الحساب، ومن نوقش الحساب عذب، وهو الكافر لا يغفر له.
" تنبيه " : قيل: إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله من جهة الحصر في الكفر، فمفهومه أن غير الكفر بخلاف ذلك. ومثله {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وقيل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، وقيل: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، وقيل: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} وقيل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية، وقيل: آية الدين، وقيل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} وهذا الأخير نقله مسلم في صحيحه عن عبد الله بن المبارك عقب حديث الإفك، وفي كتاب الإيمان من "مستدرك الحاكم" عن ابن عباس قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قوله: "أعظكم بواحدة: بطاعة الله، مثنى وفرادى واحد واثنين" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. قوله: "التناوش: الرد من الآخرة إلى الدنيا" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ "وأنى لهما التناوش" قال: رد من مكان بعيد من الآخرة إلى الدنيا. وعند الحاكم من طريق التميمي عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال: يسألون الرد، وليس بحين رد. قوله: "وبين ما يشتهون: من مال أو ولد أو زهرة" وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله، ولم يقل. "أو زهرة" . قوله: "بأشياعهم: بأمثالهم" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: كما فعل بأشياعهم من قبل قال الكفار من قبلهم. قوله: "وقال ابن عباس: كالجوابي كالجوبة من الأرض" تقدم هذا في أحاديث الأنبياء، قيل: الجوابي في اللغة جمع جابية وهو الحوض الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع، وأما الجوبة من الأرض فهي الموضع المطمئن فلا يستقيم تفسير الجوابي بها، وأجيب باحتمال أن يكون فسر الجابية بالجوبة ولم يرد أن اشتقاقهما واحد. قوله: "الخمط الأراك، والأثل الطرفاء؛ العرم الشديد" سقط الكلام الأخير للنسفي، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا كله مفرقا.

(8/537)


1- باب {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
4800- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا

(8/537)


مُسْتَرِقُ السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوْ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُقَالُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنْ السَّمَاء"
قوله: "باب {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار. قوله: "إذا قضى الله الأمر في السماء" في حديث النواس بن سمعان عند الطبراني مرفوعا: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء بذلك صعقوا وخروا سجدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهله ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمر" . قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا" بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه وهو مصدر بمعنى خاضعين. قوله: "كأنه" أي القول المسموع "سلسلة على صفوان" هو مثل قوله في بدء الوحي: "صلصلة كصلصلة الجرس" وهو صوت الملك بالوحي، وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة . وقرأ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} الآية" وأصله عند أبي داود وغيره، وعلقه المصنف موقوفا، ويأتي في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قال الخطابي: الصلصلة صوت الحديد إذا تحرك وتداخل، وكأن الرواية وقعت له بالصاد، وأراد أن التشبيه في الموضعين بمعنى واحد، فالذي في بدء الوحي هذا والذي هنا جر السلسلة من الحديد إلى الصفوان الذي هو الحجر الأملس يكون الصوت الناشئ عنهما سواء. قوله: "على صفوان" زاد في سورة الحجر عن علي بن عبد الله "قال غيره: - يعني غير سفيان - ينفذهم ذلك" في حديث ابن عباس عند ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه "فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا" وعند مسلم والترمذي من طريق علي بن الحسين بن علي عن ابن عباس عن رجال من الأنصار أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون لهذا إذا رمي به في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول مات عظيم أو يولد عظيم، فقال: إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح سماء الدنيا، ثم يقولون لحملة العرش: ماذا قال ربكم" الحديث. وليس عند الترمذي عن رجال من الأنصار، وسيأتي مزيد فيه في كتاب التوحيد. قوله: "ومسترقو السمع" في رواية علي عند أبي ذر "ومسترق" بالإفراد وهو فصيح. قوله: "هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان" أي ابن عيينة "بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه" أي فرق. وفي رواية علي "ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض" وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه "كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون منه الوحي" يعني يلقيها، زاد علي عن سفيان "حتى ينتهي إلى الأرض فيلقى". قوله: "على لسان الساحر أو الكاهن" في رواية الجرجاني "على لسان الآخر" بدل الساحر وهو تصحيف. وفي رواية علي "الساحر والكاهن" وكذا قال سعيد بن منصور عن سفيان. قوله: "فربما

(8/538)


أدرك الشهاب إلخ" يقتضي أن الأمر في ذلك يقع على حد سواء، والحديث الآخر يقتضي أن الذي يسلم منهم قليل بالنسبة إلى من يدركه الشهاب. ووقع في رواية سعيد بن منصور عن سفيان في هذا الحديث: "فيرمي هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى يلقى على فم ساحر أو كاهن". قوله: "فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" زاد علي بن عبد الله عن سفيان كما تقدم في تفسير الحجر "فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا الكلمة التي سمعت من السماء" وفي حديث ابن عباس المذكور "فيقول يكون العام كذا وكذا فيسمعه الجن فيخبرون به الكهنة فتخبر الكهنة الناس فيجدونه" وسيأتي بقية شرح هذا القدر في أواخر كتاب الطب إن شاء الله تعالى.
" تنبيه " : وقع في تفسير سورة الحجر في آخر هذا الحديث عن علي بن عبد الله "قلت لسفيان: إن إنسانا روى عنك عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قرأ فرغ - بضم الفاء وبالراء المهملة الثقيلة وبالغين المعجمة - فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو - يعني ابن دينار - فلا أدري سمعه هكذا أم لا" وهذه القراءة رويت أيضا عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزاي والعين المهملة، وقرأها ابن عامر مبنيا للفاعل ومعناه بالزاي والمهملة أدهش الفزع عنهم، ومعنى التي بالراء والغين المعجمة ذهب عن قلوبهم ما حل فيها "فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو فلا أدري سمعه أم لا. قال سفيان: وهي قراءتنا" قال الكرماني: فإن قيل كيف جازت القراءة إذا لم تكن مسموعة فالجواب لعل مذهبه جواز القراءة بدون السماع إذا كان المعنى صحيحا. قلت: هذا وإن كان محتملا لكن إذا وجد احتمال غيره فهو أولى، وذلك محمل قول سفيان: "لا أدري سمعه أم لا" على أن مراده سمعه من عكرمة الذي حدثه بالحديث لا أنه شك في أنه هل سمعه مطلقا، فالظن به أن لا يكتفي في نقل القرآن بالأخذ من الصحف بغير سماع. وأما قول سفيان: "وهي قراءتنا" فمعناه أنها وافقت ما كان يختار من القراءة به؛ فيجوز أن ينسب إليه كما نسب لغيره.

(8/539)


باب {إن هو إلا نذير بين يدي عذاب شديد}
...
2- باب {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
4801- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: "يَا صَبَاحَاهْ" فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب} "
قوله: باب قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ذكر فيه طرفا من حديث ابن عباس في نزول قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وقد تقدم شرحه مستوفى في سورة الشعراء.

(8/539)


35- سورة الْمَلاَئِكَةِ
قَالَ مُجَاهِدٌ {الْقِطْمِيرُ} لِفَافَةُ النَّوَاةِ {مُثْقَلَةٌ} مُثَقَّلَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الْحَرُورُ} بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ

(8/539)


36- سورة يس
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَعَزَّزْنَا} شَدَّدْنَا {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} كَانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسُلِ {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} لاَ يَسْتُرُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الآخَرِ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ {سَابِقُ النَّهَارِ} يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَيْنِ {نَسْلَخُ} نُخْرِجُ أَحَدَهُمَا مِنْ الآخَرِ وَيَجْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا {مِنْ مِثْلِهِ} مِنْ الأَنْعَامِ {فَكِهُونَ} مُعْجَبُونَ {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} عِنْدَ الْحِسَابِ وَيُذْكَرُ عَنْ عِكْرِمَةَ {الْمَشْحُونِ} الْمُوقَرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {طَائِرُكُمْ} مَصَائِبُكُمْ {يَنْسِلُونَ} يَخْرُجُونَ {مَرْقَدِنَا} مَخْرَجِنَا {أَحْصَيْنَاهُ} حَفِظْنَاهُ {مَكَانَتُهُمْ} وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ
قوله: "سورة يس" سقط هذا لأبي ذر هنا والصواب إثباته. قوله: "وقال مجاهد: فعززنا شددنا" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد. قوله: "يا حسرة على العباد، وكان حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل" وصله الفريابي كذلك، وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: {يا حسرة العباد" بالإضافة. قوله: "أن تدرك القمر إلخ، وقوله سابق النهار إلخ، وقوله نسلخ نخرج إلخ" سقط كله لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "من مثله من الأنعام" وصله الفريابي أيضا من طريق مجاهد، وعن ابن عباس قال: المراد بالمثل هنا السفن، ورجح لقوله بعد: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} إذ الغرق لا يكون في الأنعام. قوله: "فكهون معجبون" في رواية غير أبي ذر "فاكهون" وهي القراءة المشهورة، والأولى رويت عن يعقوب الحضرمي، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد: فاكهون معجبون. قال أبو عبيدة: من قرأها فاكهون جعله كثير الفاكهة، قال الحطيئة:
ودعوتني وزعمت أنك ... لابن في الصيف تامر
أي عندك لبن كثير وتمر كثير، وأما فكهون فهي قراءة أبي جعفر وشيبة وهي بوزن فرحون، ومعناه

(8/540)


مأخوذ من الفاكهة وهي التلذذ والتنعم. قوله: " {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} عند الحساب" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. قوله: "ويذكر عن عكرمة المشحون الموقر" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء، وجاء مثله عن ابن عباس، وصله الطبري من طريق سعيد بن جبير عنه بإسناد حسن. قوله: "سورة يس - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر هنا، وسقط لغيره. قوله: "وقال ابن عباس: طائركم عند الله مصائبكم" وتقدم في أحاديث الأنبياء وللطبري من وجه آخر عن ابن عباس قال: طائركم أعمالكم. وقال أبو عبيدة: طائركم أي حظكم من الخير والشر. قوله: "ينسلون يخرجون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. قوله: "مرقدنا مخرجنا. وقوله: أحصيناه حفظناه. وقوله: مكانتهم ومكانهم واحد" سقط هذا كله لأبي ذر وسيأتي تفسير "أحصيناه" في كتاب التوحيد. وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} يقول: لأهلكناهم في مساكنهم. وقال أبو عبيدة في قوله: {لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} المكان والمكانة واحد.

(8/541)


1- باب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
4802- حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال ثم كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم غروب الشمس فقال: " يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
4803- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْش"
قوله: "باب قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ذكر فيه حديث أبي ذر" كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أين تغرب الشمس؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب تسجد تحت العرش، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} إلى آخر الآية" هكذا أورده مختصرا وأخرجه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "تذهب حتى تنتهي تحت لعرش عند ربها" وزاد: "ثم تستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها وتستشفع وتطلب، فإذا كان ذلك قيل اطلعي من مكانك، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وقد ذكر نحو هذه الزيادة من غير طريق أبي نعيم كما سأنبه عليه. قوله في الرواية الثانية" سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: مستقرها تحت العرش" كذا رواه وكيع عن الأعمش مختصرا، وهو بالمعنى، فإن في الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استفهمه " أتدري أين تغرب الشمس؟ فقال: الله ورسوله أعلم" . قوله: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش" في رواية أبي معاوية عن الأعمش كما سيأتي في التوحيد فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها، وكأنها

(8/541)


قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها. ثم قرأ "وذلك مستقر لها" . قال: وهي قراءة عبد الله. وروى عبد الرزاق من طريق وهب عن جابر عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية قال: مستقرها أن تطلع فيردها ذنوب بني آدم، فإذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها، فتقول: إن السير بعد، وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ، فتحبس ما شاء الله. ثم يقال: اطلعي من حيث غربت، قال فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها. وأما قوله: "تحت العرش" فقيل هو حين محاذاتها. ولا يخالف هذا قوله: "وجدها تغرب في عين حمئة" فإن المراد بها نهاية مدرك البصر إليها حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب. وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة، وقيل إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن، ويحتمل أن يكون المعنى أو علم ما سألت عنه من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه ابتداء أمور العالم ونهايتها فيقطع دوران الشمس وتستقر عند ذلك ويبطل فعلها، وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها. قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها ومقابل الاستقرار المسير الدائم المعبر عنه بالجري. والله أعلم.

(8/542)


37- سورة الصَّافَّاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ} بَعِيدٍ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ { وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} يُرْمَوْنَ {وَاصِبٌ} دَائِمٌ {لاَزِبٌ} لاَزِمٌ {تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ} يَعْنِي الْحَقَّ الْكُفَّارُ تَقُولُهُ لِلشَّيْطَانِ {غَوْلٌ} وَجَعُ بَطْنٍ {يُنْزَفُونَ} لاَ تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ {قَرِينٌ} شَيْطَانٌ {يُهْرَعُونَ} كَهَيْئَةِ الْهَرْوَلَةِ {يَزِفُّونَ} النَّسَلاَنُ فِي الْمَشْيِ {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلاَئِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} سَتُحْضَرُ لِلْحِسَابِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الْمَلاَئِكَةُ {صِرَاطِ الْجَحِيمِ} سَوَاءِ الْجَحِيمِ وَوَسَطِ الْجَحِيمِ {لَشَوْبًا} يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ بِالْحَمِيمِ {مَدْحُورًا} مَطْرُودًا {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} يُذْكَرُ بِخَيْرٍ وَيُقَالُ {يَسْتَسْخِرُونَ} يَسْخَرُونَ بَعْلًا رَبًّا
قوله: "سورة الصافات {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}". قوله: "وقال مجاهد ويقذفون بالغيب من مكان بعيد من كل مكان، ويقذفون من كل جانب. دحورا يرمون. واصب دائم. لازب لازم" سقط هذا كله لأبي ذر، وقد تقدم بعضه في بدء الخلق. وروى الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "ويقذفون بالغيب من مكان" يقولون هو ساحر هو كاهن هو شاعر وفي قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} قال: لازم. وقال أبو عبيدة في قوله: "ولهم عذاب واصب أي دائم وفي قوله: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} هي بمعنى اللازم قال النابغة" ولا يحسبون الشر ضربة لازب" أي لازم. قوله: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} ، يعني الحق، الكفار تقوله للشياطين "ووقع في رواية الكشميهني: "يعني الجن" بجيم ثم نون، ونسبه عياض للأكثر. وقد وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ

(8/542)


الْيَمِينِ}، قال الكفار تقوله للشياطين" ولم يذكر الزيادة، فدل على أنه شرح من المصنف. ولكل من الروايتين وجه، فمن قال: "يعني الجن" أراد بيان المقول له وهم الشياطين، ومن قال: "الحق" بالمهملة والقاف أراد تفسير لفظ اليمين أي كنتم تأتوننا من جهة الحق فتلبسوه علينا، ويؤيده تفسير قتادة قال: يقول الإنس للجن: كنتم تأتوننا عن اليمين، أي من طريق الجنة تصدوننا عنها. قوله: "غول وجع بطن، ينزفون لا تذهب عقولهم، قرين شيطان" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله الفريابي عن مجاهد كذلك. قوله: "يهرعون كهيئة الهرولة" وصله الفريابي عن مجاهد كذلك. قوله: "يزفون النسلان في المشي" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله عبد بن حميد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "فأقبلوا إليه يزفون" قال: الوزيف النسلان انتهى - والنسلان بفتحتين الإسراع مع تقارب الخطأ، وهو دون السعي. قوله: "وبين الجنة نسبا إلخ" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "وقال ابن عباس: لنحن الصافون الملائكة" وصله الطبري، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "صراط الجحيم سواء الجحيم ووسط الجحيم، لشوبا يخلط طعامهم ويساط بالحميم، مدحورا مطرودا" سقط هذا كله لأبي ذر وقد تقدم في بدء الخلق، قال بعض الشراح: أراد أن يفسر "دحورا" التي في الصافات ففسر مدحورا التي في سورة الإسراء. قوله: "بيض مكنون اللؤلؤ المكنون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وقال أبو عبيدة في قوله كأنهن بيض مكنون أي مصون، وكل شيء صنته فهو مكنون، وكل شيء أضمرته في نفسك فقد أكننته. قوله: "وتركنا عليه في الآخرين يذكر بخير" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "الأسباب السماء" سقط هذا لغير أبي ذر، وثبت للنسفي بلفظ: "ويقال: "وقد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "، يقال يستسخرون يسخرون" ثبت هذا أيضا للنسفي وأبي ذر فقط. وقال أبو عبيدة: يستسخرون ويسخرون سواء. قوله: "بعلا ربا" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس أنه أبصر رجلا يسوق بقرة فقال: من بعل هذا؟ قال فدعاه فقال: من أنت؟ فقال من أهل اليمين، قال: هي لغة {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} أي ربا، وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:"من هذا الوجه مختصرا إلخ، ولمح المصنف بهذا القدر من قصة إلياس، وقد ذكرت خبره في أحاديث الأنبياء عند ذكر إدريس.

(8/543)


1- باب {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ}
4804- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
4805- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَب"
قوله: "باب قوله: وإن يونس لمن المرسلين" ذكر فيه حديث ابن مسعود "لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من

(8/543)


يونس بن متى" وحديث أبي هريرة " من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء ولله الحمد

(8/544)


38- سُورَةُ "ص"
4806- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ السَّجْدَةِ فِي "ص" قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ فِيهَا"
4807- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةٍ فِي "ص" فَقَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ فَقَالَ أَوَ مَا تَقْرَأُ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلاَم فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عُجَابٌ} عَجِيبٌ {الْقِطُّ} الصَّحِيفَةُ هُوَ هَا هُنَا صَحِيفَةُ الْحِسَابِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فِي عِزَّةٍ} مُعَازِّينَ {الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} مِلَّةُ قُرَيْشٍ {الاخْتِلاَقُ} الْكَذِبُ {الأَسْبَابُ} طُرُقُ السَّمَاءِ فِي أَبْوَابِهَا قَوْلُهُ {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} يَعْنِي قُرَيْشًا {أُولَئِكَ الأَحْزَابُ} الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ {فَوَاقٍ} رُجُوعٍ {قِطَّنَا} عَذَابَنَا {اتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا} أَحَطْنَا بِهِمْ {أَتْرَابٌ} أَمْثَالٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَيْدُ الْقُوَّةُ} فِي الْعِبَادَةِ {الأَبْصَارُ} الْبَصَرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} مِنْ ذِكْرِ {طَفِقَ مَسْحًا} يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا {الأَصْفَادِ} الْوَثَاق"
قوله: "سورة "ص" – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة فقط للنسفي، واقتصر الباقون على "ص" ، وحكمها حكم الحروف المقطعة أوائل السور، وقد قرأها عيسى بن عمر بكسر الدال فقيل الدرج وقيل بل هي عند فعل أمر من المصاداة وهي المعارضة، كأنه قيل عارض القرآن بعملك، والأول هو المشهور. وسيأتي مزيد بيان في أسماء السورة في أول غافر. قوله: "حدثنا شعبة عن العوام" هو ابن حوشب، كذا قال أكثر أصحاب شعبة. وقال أمية بن خالد عنه "عن منصور وعمرو بن مرة وأبي حصين ثلاثتهم عن مجاهد" فكأن لشعبة فيه مشايخ. قوله: "عن مجاهد" كذا قال أكثر أصحاب العوام بن حوشب. وقال أبو سعيد الأشج "عن أبي خالد الأحمر وحفص بن غياث عن العوام عن سعيد بن جبير" بدل مجاهد، أخرجه ابن خزيمة. فلعل للعوام فيه شيخين. وقد تقدم في تفسير الأنعام من طريق سليمان الأحول عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي "ص" سجدة؟ قال نعم، ثم تلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قال هو منهم، فالحديث محفوظ لمجاهد، فرواية أبي سعيد الأشج شاذة. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" قال الكلاباذي وابن طاهر: هو الذهلي نسب إلى جده. وقال غيرهما: يحتمل أن يكون محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي فإنه من هذه الطبقة. قوله: "فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم" سقط "فسجدها داود" من رواية غير أبي ذر؛ وهذا أصرح في الرفع من رواية شعبة وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالسجود في "ص" في كتاب سجود التلاوة مستوفي، واستدل بهذا على أن شرع من

(8/544)


قبلنا شرع لنا وهي مسألة مشهورة في الأصول وقد تعرضنا لها في مكان آخر. قوله: "عجاب عجيب" هو قول أبي عبيدة قال: والعرب تحول فعيلا إلى فعال بالضم وهو مثل طويل وطوال، قال الشاعر "تعدو به سلهبة سراعة" أي سريعة، وقرأ عيسى بن عمر ونقلت عن علي عجاب بالتشديد وهو مثل كبار في قوله: "مكروا مكرا كبارا" وهو أبلغ من كبار بالتخفيف وكبار المخفف أبلغ من كبير. قوله: "القط الصحيفة هو هاهنا صحيفة الحسنات" في رواية الكشميهني: "الحساب" وكذا في رواية النسفي، وذكر بعض الشراح بالعكس، قال أبو عبيدة: القط الكتاب والجمع قطوط وقططة كقرد وقرود وقردة، وأصله من قط الشيء أي قطعه والمعنى قطعة مما وعدتنا به، ويطلق على الصحيفة قط لأنها قطعة تقطع،. وكذلك الصك، ويقال للجائزة أيضا قط لأنها قطعة من العطية، وأكثر استعماله في الكتاب، وسيأتي له تفسير آخر قريبا. وعند عبد بن حميد من طريق عطاء أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث. قوله: "وقال مجاهد في عزة" أي "معازين" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: "في عزة" قال في حمية، ونقل عن الكسائي في رواية أنه قرأ: {في غرة" بالمعجمة والراء، وهي قراءة الجحدري وأبي جعفر. قوله: "الملة الآخرة ملة قريش. الاختلاق الكذب" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد في قوله: "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" قال: ملة قريش {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} كذب وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "الملة الآخرة" قال النصرانية. وعن السدي نحوه. وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن الكلبي، قال وقال قتادة: دينهم الذي هم عليه قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} ، يعني قريشا "سقط لفظ: "قوله:"لغير أبي ذر، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} قال قريش، وقوله جند خبر مبتدأ محذوف أي هم، وما مزيدة أو صفة لجند وهنالك مشار به إلى مكان المراجعة، ومهزوم صفة لجند أي سيهزمون بذلك المكان، وهو من الإخبار بالغيب لأنهم هزموا بعد ذلك بمكة، لكن يعكر على هذا ما أخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: وعده الله وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها ببدر، فعلى هذا فهنالك ظرف للمراجعة فقط ومكان الهزيمة لم يذكر. قوله: "الأسباب طرق السماء في أبوابها" وصله الفريابي من طريق بلفظ: "طرق السماء أبوابها" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الأسباب هي أبواب السماء. وقال أبو عبيدة: العرب تقول للرجل إذا كان ذا دين ارتقى فلان في الأسباب. قوله: "أولئك الأحزاب: القرون الماضية" وصله الفريابي عن مجاهد. قوله: "فواق رجوع" وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ليس لها مثنوية وهي بمعنى قول مجاهد. وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي ما لها من فواق يقول ليس لهم إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا. وقال أبو عبيدة من فتحها أي الفاء قال ما لها من راحة، ومن ضمها جعلها من فواقي ناقة وهو ما بين الحلبتين، والذي قرأ بضم الفاء حمزة والكسائي والباقون بفتحها. وقال قوم: المعنى بالفتح وبالضم واحد مثل قصاص الشعر يقال بضم القاف وبفتحها. قوله: {قِطَّنَا} عذابنا وصله الفريابي من طريق مجاهد أيضا، ولا منافاة بينه وبين ما تقدم فإنه محمول على أن المراد بقولهم قطنا أي نصيبنا من العذاب. وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {قِطَّنَا} قال نصيبنا من العذاب وهو شبيه قولهم {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية، وقول الآخرين "ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" وقد أخرج الطبري

(8/545)


من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال قوله قطنا أي رزقنا، ومن طريق سعيد بن جبير قال نصيبنا من الجنة، ومن طريق السدي نحوه. ثم قال وأولي الأقوال بالصواب أنهم سألوا تعجيل كتبهم بنصيبهم من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده في الآخرة أن يعجل لهم ذلك في الدنيا استهزاء منهم وعنادا. قوله: "الصافنات صفن الفرس إلخ" وقوله الجياد السراع وقوله {جَسَداً} شيطانا وقوله رخاء الرخاء الطيب وقوله حيث أصاب حيث شاء وقوله فامتن أعط وقوله بغير حساب بغير حرج ثبت هذا كله للنسفي هنا وسقط للباقين وقد تقدم جميعه في ترجمة سليمان بن داود عليهما السلام من أحاديث الأنبياء. قوله: "اتخذناهم سخريا أحطنا بهم" قال الدمياطي في حواشيه لعله أحطناهم، وتلقاه عن عياض فإنه قال أحطنا بهم كذا وقع ولعله أحطناهم وحذف مع ذلك القول الذي هذا تفسيره وهو أم زاغت عنهم الأبصار انتهى وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق مجاهد بلفظ أخطأناهم أم هم في النار لا نعلم مكانهم. وقال ابن عطية المعنى ليسوا معنا أم هم معنا لكن أبصارنا تميل عنهم. وقال أبو عبيدة من قرأها اتخذناهم أي بهمزة قطع جعلها استفهاما وجعل أم جوابا ومن لم يستفهم فتحها على القطع، ومعنى أم معنى بل ومثله أم أنا خير من هذا الذي هو مهين انتهى والذي قرأها بهمزة وصل أبو عمرو وحمزة والكسائي. قوله: "أتراب أمثال" وصله الفريابي كذلك قال أبو عبيدة الأتراب جمع ترب وهو بكسر أوله من يولد في زمن واحد. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال أتراب مستويان. قوله: "وقال ابن عباس الأيد القوة في العباد" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله داود ذا الأيد قال القوة، ومن طريق مجاهد قال القوة في الطاعة وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {ذَا الْأَيْدِ} ذا القوة في العبادة. قوله: "الأبصار البصر في أمر الله" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله أولي الأيدي والأبصار قال أولي القوة في العبادة والفقه في الدين. ومن طريق منصور عن مجاهد قال الأبصار العقول.
" تنبيه " : الأبصار وردت في هذه السورة عقب الأيدي لا عقب الأيد لكن في قراءة ابن مسعود أولي الأيد والأبصار من غير ياء فلعل البخاري فسره على هذه القراءة. قوله: {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} إلى آخره" سقط هذا لأبي ذر وقد تقدم في ترجمة سليمان بن داود من أحاديث الأنبياء. قوله: "الأصفاد الوثاق" سقط هذا أيضا لأبي ذر وقد تقدم في ترجمة سليمان أيضا

(8/546)


2- باب {هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
4808- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ {رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا"
قوله: "باب قوله {هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} تقدم شرحه في ترجمة سليمان عليه السلام من أحاديث الأنبياء. قوله: "تفلت على البارحة أو كلمة نحوها" يحتمل أن يكون الشك في لفظ التفلت أو في لفظ البارحة وقد تقدم ذلك في أوائل كتاب الصلاة. قوله: "فذكرت قول أخي سليمان" تقدم الكلام عليه في ترجمة

(8/546)


سليمان من أحاديث الأنبياء. وأما ما أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال في قوله لا ينبغي لأحد من بعدي لا أسلبه كما سلبته أول مرة، وظاهر حديث الباب يرد عليه وكأن سبب تأويل قتادة هذا هكذا طعن بعض الملاحدة على سليمان ونسبته في هذا إلى الحرص على الاستبداد بنعمة الدنيا وخفي عليه أن ذلك كان بإذن له من الله وأن تلك كانت معجزته كما اختص كل نبي بمعجزة دون غيره والله أعلم. قوله: "قال روح فرده خاسئا" روح هو ابن عبادة أحد رواته وكأن المراد أن هذه الزيادة وقعت في روايته دون رواية رفيقه، وقد ذكرت ما في ذلك من البحث في أوائل كتاب الصلاة وذكرت ما يتعلق برؤية الجن في ترجمة سليمان عليه السلام من أحاديث الأنبياء

(8/547)


3- باب {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ}
حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال ثم دخلنا على عبد الله بن مسعود قال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وسأحدثكم عن الدخان إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشا إلى الإسلام فأبطؤوا عليه فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " فأخذتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الميتة والجلود حتى جعل الرجل يري بينه وبين السماء دخانا من الجوع قال الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال فدعوا {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ َنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أفيكشف العذاب يوم القيامة} قال فكشف ثم عادوا في كفرهم فأخذهم الله يوم بدر قال الله تعالى: {يوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
"باب قوله {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} ذكر فيه حديث ابن مسعود في قصة الدخان وقد تقدم قريبا في تفسير سورة الروم ويأتي في تفسير الدخان وتقدم ما يتعلق منه بالاستسقاء في بابه

(8/547)


39- سورة الزُّمَرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {ذِي عِوَجٍ} لَبْسٍ {وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ} مَثَلٌ لآلِهَتِهِمْ الْبَاطِلِ وَالإِلَهِ الْحَقِّ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} بِالأَوْثَانِ {خَوَّلْنَا} أَعْطَيْنَا {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} الْقُرْآنُ {وَصَدَّقَ بِهِ} الْمُؤْمِنُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ وَقَالَ غَيْرُهُ {مُتَشَاكِسُونَ}

(8/547)


1- باب {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
4810- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ يَعْلَى إِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} وَنَزَلَتْ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} "
قوله باب قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية" ذكر فيه حديث ابن

(8/549)


عباس "أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا" . قوله: "أن ابن جريج أخبرهم، قال يعلى" أي: قال قال يعلى - و "قال:"تسقط خطأ وتثبت لفظا، ويعلى هذا هو ابن مسلم كما وقع عند مسلم من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج في هذا الحديث بعينه بلفظ: "أخبرني مسلم بن يعلى صلى الله عليه وسلم 0 وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية حجاج هذا لكن وقع عندهما "عن يعلى" غير منسوب كما وقع عند البخاري. وزعم بعض الشراح أنه وقع عند أبي داود فيه: "يعلى بن حكيم" ولم أر ذلك في شيء من نسخه، وليس في البخاري من رواية يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سوى حديث واحد وهو من رواية غير ابن جريج عن يعلى والله أعلم. ويعلى بن مسلم بصري الأصل سكن مكة مشهور بالرواية عن سعيد بن جبير وبرواية ابن جبير عنه، وقد روى يعلى بن حكيم أيضا عن سعيد بن جبير وروى عنه ابن جريج، ولكن ليس هو المراد هنا. قوله: "لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة" في رواية الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس أن السائل عن ذلك هو وحشي بن حرب قاتل حمزة وأنه لما قال ذلك نزلت: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} الآية فقال: هذا شرط شديد، فنزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} الآية. وروى ابن إسحاق في "السيرة" قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص أن نهاجر إلى المدينة" فذكر الحديث في قصتهم ورجوع رفيقه فنزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية قال فكتبت بها إلى هشام. قوله: "ونزل قل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في رواية الطبراني" فقال الناس يا رسول الله إنا أصبنا ما أصاب وحشي، فقال هي للمسلمين عامة" وروى أحمد والطبراني في "الأوسط" من حديث ثوبان قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب أن لي بهذه الآية الدنيا وما فيها {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهمْ} الآية. فقال رجل: ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: ومن أشرك ثلاث مرات" واستدل بعموم هذه الآية على غفران جميع الذنوب كبيرها وصغيرها سواء تعلقت بحق الآدميين أم لا، والمشهور عند أهل السنة أن الذنوب كلها تغفر بالتوبة، وأنها تغفر لمن شاء الله ولو مات على غير توبة، لكن حقوق الآدميين إذا تاب صاحبها من العود إلى شيء من ذلك تنفعه التوبة من العود، وأما خصوص ما وقع منه فلا بد له من رده لصاحبه أو محاللته منه. نعم في سعة فضل الله ما يمكن أن يعرض صاحب الحق عن حقه ولا يعذب العاصي بذلك، ويرشد إليه عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والله أعلم
ـــــــ
(1) لعله يعلى بن مسلم

(8/550)


2- باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
4811- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ

(8/550)


قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} "
[الحديث 4811- طرفه في: 7414، 7415، 7451، 7513]
قوله: "باب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ذكر فيه حديث عبد الله وهو ابن مسعود" قال جاء حبر" بفتح المهملة وبكسرها أيضا، ولم أقف على اسمه. قوله: "إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع الحديث" يأتي شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى، قال ابن التين: تكلف الخطابي في تأويل الإصبع وبالغ حتى جعل ضحكه صلى الله عليه وسلم تعجبا وإنكارا لما قال الحبر، ورد ما وقع في الرواية الأخرى "فضحك صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا" بأنه على قدر ما فهم الراوي. قال النووي: وظاهر السياق أنه ضحك تصديقا له بدليل قراءته الآية التي تدل على صدق ما قال الحبر، والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه، فإن كل ما يستلزم النقص من ظاهرها غير مراد. وقال ابن فورك: يحتمل أن يكون المراد بالإصبع إصبع بعض المخلوقات، وما ورد في بعض طرقه: "أصابع الرحمن" يدل على القدرة والملك. قوله: "حتى بدت نواجذه" أي أنيابه، وليس ذلك منافيا للحديث الآخر أن ضحكه كان تبسما كما سيأتي في تفسير الأحقاف

(8/551)


باب {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}
...
3- باب {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
4812- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْض"
قوله: "باب قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} لما وقع ذكر الأرض مفردا حسن تأكيده، بقوله: "جميعا" إشارة إلى أن المراد جميع الأراضي. حديث أبي هريرة "يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض" ؟ وسيأتي شرحه أيضا مستوفي في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(8/551)


باب {ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}
...
4- باب {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
4813- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٌ بِالْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَذَلِكَ كَانَ أَمْ بَعْدَ النَّفْخَة"
4814- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الإِنْسَانِ إِلاَّ عَجْبَ ذَنَبِهِ فِيهِ

(8/551)


40- سُورَةُ الْمُؤْمِنِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَجَازُهَا مَجَازُ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَيُقَالُ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِقَوْلِ شُرَيْحِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيِّ:
يُذَكِّرُنِي حاميم وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلاَ تَلاَ حاميم قَبْلَ التَّقَدُّمِ
الطَّوْلِ التَّفَضُّلُ دَاخِرِينَ خَاضِعِينَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِلَى النَّجَاةِ} الإِيمَانُ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ يَعْنِي الْوَثَنَ {يُسْجَرُونَ} تُوقَدُ بِهِمْ النَّارُ {تَمْرَحُونَ} تَبْطَرُونَ وَكَانَ الْعَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ فَقَالَ رَجُلٌ لِمَ تُقَنِّطْ النَّاسَ قَالَ وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وَيَقُولُ {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ مَنْ عَصَاه"
4815- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ

(8/553)


عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} "
قوله: "سورة المؤمن. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: حم مجازها مجاز أوائل السور" ويقال بل هو اسم، لقول شريح بن أبي أوفى العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ووقع في رواية أبي ذر: وقال البخاري "ويقال إلخ" وهذا الكلام لأبي عبيدة في "مجاز القرآن" ولفظه: حم مجازها مجاز أوائل السور. وقال بعضهم بل هو اسم، وهو يطلق المجاز ويريد به التأويل أي تأويل حم تأويل أوائل السور، أي أن الكل في الحكم واحد، فمهما قيل مثلا في ألم يقال مثله في حم. وقد اختلف في هذه الحروف المقطعة التي في أوائل السور على أكثر من ثلاثين قولا ليس هذا موضع بسطها. وأخرج الطبري من طريق الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الم، وحم، والمص، وص: فواتح افتتح بها. وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد قال: فواتح السور كلها ق وص وطسم وغيرها هجاء مقطوع. والإسناد الأول أصح. وأما قوله: "ويقال بل هو اسم" فوصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: حم اسم من أسماء القرآن. وقال ابن التين: لعله يريد على قراءة عيسى بن عمر بفتح الحاء والميم الثانية من ميم، ويحتمل أن يكون عيسى فتح لالتقاء الساكنين. قلت: والشاهد الذي أنشد يوافق قراءة عيسى. وقال الطبري: الصواب من القراءة عندنا في جميع حروف فواتح السور السكون لأنها حروف هجاء لا أسماء مسميات. وروى ابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "ص" وأشباهها قسم، أقسم الله بها، وهو من أسماء الله. وشريح بن أبي أوفى الذي نسب إليه البيت المذكور وقع في رواية القابسي شريح ابن أبي أوفى وهو خطأ. ولفظ أبي عبيدة "وقال بعضهم بل هو اسم، واحتجوا بقول شريح بن أبي أوفى العبسي" فذكر البيت. وروى هذه القصة عمر بن شبه في "كتاب الجمل" له من طريق داود بن أبي هند قال: كان على محمد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل عمامة سوداء، فقال علي: لا تقتلوا صاحب العمامة السوداء، فإنما أخرجه بره بأبيه، فلقيه شرخ بن أبي أوفى فأهوى له بالرمح فتلاحم فقتله. وحكى أيضا عن ابن إسحاق أن الشعر المذكور للأشتر النخعي. وقال وهو الذي قتل محمد بن طلحة. وذكر أبو مخنف أنه لمدلج بن كعب السعدي ويقال كعب بن مدلج، وذكر الزبير بن بكار أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر، قال المرزباني: هو الثبت. وأنشد له البيت المذكور وأوله:
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا ... عليا، ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني حم البيت. ويقال إن الشعر لشداد بن معاوية العبسي، ويقال اسمه حديد من بني أسد بن خزيمة حكاه

(8/554)


الزبير، وقيل عبد الله بن معكبر، وذكر الحسن بن المظفر النيسابوري في. "كتاب مأدبة الأدباء" قال: كان شعار أصحاب علي يوم الجمل حم، وكان شريح بن أبي أوفى مع علي، فلما طعن شريح محمدا قال حم، فأنشد "شريح الشعر. قال: وقيل بل قال محمد لما طعنه شريح" أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله "فهذا معنى قوله: "يذكرني حم" أي بتلاوة الآية المذكورة لأنها من حم.
" تكملة " : حم جمع على حواميم قال أبو عبيدة على غير قياس. وقال الفراء ليس هذا الجمع من كلام العرب. ويقال كأن مراد محمد بن طلحة بقوله أذكرك حم أي قوله تعالى في حم عسق {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} الآية، كأنه يذكره بقرابته ليكون ذلك دافعا له عن قتله. قوله: "الطول التفضل" هو قول أبي عبيدة وزاد تقول العرب للرجل إنه لذو طول على قومه أي ذو فضل عليهم، وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ذي الطول" قال: ذي السعة والغنى، ومن طريق عكرمة قال: ذي المنن، ومن طريق قتادة قال: ذي النعماء. قوله: "داخرين خاضعين" هو قول أبي عبيدة، وروى الطبري من طريق السدي في قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين. قوله: "وقال مجاهد إلى النجاة إلى الإيمان" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. قوله: "ليس له دعوة يعني الوثن" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد بلفظ الأوثان. قوله: "يسجرون توقد بهم النار" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد بهذا. قوله: "تمرحون تبطرون" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ يبطرون ويأشرون. قوله: "وكان العلاء بن زياد يذكر النار" هو بتشديد الكاف أي يذكر الناس النار أي يخوفهم بها. قوله: "فقال رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "لم" بكسر اللام للاستفهام "تقنط" بتشديد النون، وأراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى الآية الأخرى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا" فنهاهم عن القنوط من رحمته مع قوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} استدعاء منهم الرجوع عن الإسراف والمبادرة إلى التوبة قبل الموت. وأبو العلاء هذا هو العلاء بن زياد البصري تابعي زاهد قليل الحديث، وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، ومات قديما سنة أربع وتسعين. حديث عروة بن الزبير "قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنعه المشركون" وقد تقدم شرحه في أوائل السيرة النبوية

(8/555)


41- سورة حم السَّجْدَةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَعْطِيَا {قَالَتَا} أَتَيْنَا طَائِعِينَ أَعْطَيْنَا وَقَالَ الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ {أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إِلَى قَوْلِهِ {دَحَاهَا} فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ ثُمَّ قَالَ {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ {طَائِعِينَ} فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَقَالَ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {عَزِيزًا حَكِيمًا}{سَمِيعًا بَصِيرًا} فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى فَقَالَ {فَلاَ

(8/555)


أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} فِي النَّفْخَةِ الأُولَى ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ} حَدِيثًا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لأَهْلِ الإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لاَ يُكْتَمُ حَدِيثًا وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيَةَ وَخَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ وَالآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {دَحَاهَا} وَقَوْلُهُ {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَجُعِلَتْ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخُلِقَتْ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئاً إِلاَّ أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْمِنْهَالِ بِهَذَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} مَحْسُوبٍ أَقْوَاتَهَا أَرْزَاقَهَا فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ {نَحِسَاتٍ} مَشَائِيمَ {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قَرَنَّاهُمْ بِهِمْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ اهْتَزَّتْ بِالنَّبَاتِ وَرَبَتْ ارْتَفَعَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا حِينَ تَطْلُعُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي أَيْ بِعَمَلِي أَنَا مَحْقُوقٌ بِهَذَا وَقَالَ غَيْرُهُ {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قَدَّرَهَا سَوَاءً فَهَدَيْنَاهُمْ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَقَوْلِهِ {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وَكَقَوْلِهِ {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ الإِرْشَادُ بِمَنْزِلَةِ أَصْعَدْنَاهُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} يُوزَعُونَ يُكَفُّونَ مِنْ أَكْمَامِهَا قِشْرُ الْكُفُرَّى هِيَ الْكُمُّ وَقَالَ غَيْرُهُ وَيُقَالُ لِلْعِنَبِ إِذَا خَرَجَ أَيْضًا كَافُورٌ وَكُفُرَّى وَلِيٌّ حَمِيمٌ الْقَرِيبُ مِنْ مَحِيصٍ حَاصَ عَنْهُ أَيْ حَادَ مِرْيَةٍ وَمُرْيَةٌ وَاحِدٌ أَيْ امْتِرَاءٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} هِيَ وَعِيدٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الإِسَاءَةِ فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمَهُمْ اللَّهُ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
قوله: "سورة حم السجدة. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال طاوس عن ابن عباس {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}"أعطينا وصله الطبري وابن أبي حاتم بإسناد على شرط البخاري في الصحة، ولفظ الطبري في قوله: "ائتيا" قال أعطيا وفي قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا} قالتا أعطينا. وقال عياض: ليس أتي هنا بمعنى أعطى، وإنما هو من الإتيان وهو المجيء بمعنى الانفعال للوجود، بدليل الآية نفسها. وبهذا فسره المفسرون أن معناه جيئا بما خلقت فيكما وأظهراه، قالتا أجبنا. وروي ذلك عن ابن عباس قال وقد روي عن سعيد بن جبير نحو ما ذكره المصنف، ولكنه يخرج على تقريب المعنى أنهما لما أمرتا بإخراج

(8/556)


ما فيهما من شمس وقمر ونهر ونبات وغير ذلك وأجابتا إلى ذلك كان كالإعطاء، فعبر بالإعطاء عن المجيء بما أودعتاه. قلت. فإذا كان موجها وثبتت به الرواية فأي معنى لإنكاره عن ابن عباس، وكأنه لما رأى عن ابن عباس أنه فسره بمعنى المجيء نفى أن يثبت عنه أنه فسره بالمعنى الآخر، وهذا عجيب، فما المانع أن يكون له في الشيء قولان بل أكثر، وقد روى الطبري من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله عز وجل للسماوات اطلعي الشمس والقمر والنجوم. وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، قالتا أتينا طائعين. وقال ابن التين: لعل ابن عباس قرأها آتينا بالمد ففسرها على ذلك. قلت: وقد صرح أهل العلم بالقراآت أنها قراءته، وبها قرأ صاحباه مجاهد وسعيد بن جبير. وقال السهيلي في أماليه: قيل إن البخاري وقع له في أي من القرآن وهم، فإن كان هذا منها وإلا فهي قراءة بلغته، وجهه أعطيا الطاعة كما يقال فلان يعطى الطاعة لفلان، قال: وقد قرئ {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} بالمد والقصر، والفتنة ضد الطاعة. وإذا جاز في إحداهما جاز في الأخرى انتهى وجوز بعض المفسرين أن آتينا بالمد بمعنى الموافقة، وبه جزم الزمخشري. فعلى هذا يكون المحذوف مفعولا واحدا والتقدير: لتوافق كل منكما الأخرى، قالتا توافقنا. وعلى الأول يكون قد حذف مفعولان والتقدير: أعطيا من أمركما الطاعة من أنفسكما قالتا أعطيناه الطاعة. وهو أرجح لثبوته صريحا عن ترجمان القرآن. قوله: "قالتا" قال ابن عطية أراد الفرقتين المذكورتين جعل السماوات سماء والأرضين أرضا. ثم ذكر لذلك شاهدا. وهي غفلة منه، فإنه لم يتقدم قبل ذلك إلا لفظ سماء مفرد ولفظ أرض مفرد، نعم قوله طائعين عبر بالجمع بالنظر إلى تعدد كل منهما، وعبر بلفظ جمع المذكر من العقلاء لكونهم عوملوا معاملة العقلاء في الإخبار عنهم، وهو مثل {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} . قوله: "وقال المنهال" هو ابن عمرو الأسدي مولاهم الكوفي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في قصة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وهو صدوق من طبقة الأعمش، وثقه ابن معين والنسائي والعجلي وغيرهم، وتركه شعبة لأمر لا يوجب فيه قدحا كما بينته في المقدمة، وهذا التعليق قد وصله المصنف بعد فراغه من سياق الحديث كما سأذكره. قوله: "عن سعيد" هو ابن جبير، وصرح به الأصيلي في روايته وكذا النسفي. قوله: "قال رجل لابن عباس" كأن هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج وكان يجالس ابن عباس بمكة ويسأله ويعارضه، ومن جملة ما وقع سؤاله عنه صريحا ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة قال: "سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} {فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} "وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} - {وهاؤم اقرءوا كتابيه} "الحديث بهذه القصة حسب، وهي إحدى القصص المسئول عنها في حديث الباب. وروى الطبراني من حديث الضحاك بن مزاحم قال: "قدم نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر في نفر من رءوس الخوارج مكة" فإذا هم بابن عباس قاعدا قريبا من زمزم والناس قياما يسألونه، فقال له نافع بن الأزرق: أتيتك لأسألك، فسأله عن أشياء كثيرة من التفسير، ساقها في ورقتين. وأخرج الطبري من هذا الوجه بعض القصة ولفظه: "أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: قول الله {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} و قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقال: أني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت لهم أين ابن عباس فألقي عليه متشابه القرآن؟ فأخبرهم أن الله تعالى إذا جمع الناس يوم القيامة قال المشركون: إن الله لا يقبل إلا من وحده، فيسألهم فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين،

(8/557)


قال فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم" انتهى وهذه القصة إحدى ما ورد في حديث الباب، فالظاهر أنه المبهم فيه. قوله: "إني أجد في القرآن أشياء تختلف على" أي تشكل وتضطرب، لأن بين ظواهرها تدافعا. زاد عبد الرزاق في رواية عن معمر عن رجل عن المنهال بسنده "فقال ابن عباس: ما هو، أشك في القرآن؟ قال: ليس بشك ولكنه اختلاف، فقال: هات ما اختلف عليك من ذلك، قال: أسمع الله يقول. وحاصل ما وقع السؤال في حديث الباب أربعة مواضع: الأول نفي المسائلة يوم القيامة وإثباتها، الثاني كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه، الثالث خلق السماوات والأرض أيهما تقدم، الرابع الإتيان بحرف "كان" الدال على الماضي مع أن الصفة لازمة. وحاصل جواب ابن عباس عن الأول أن نفي المسائلة فيما قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد ذلك، وعن الثاني أنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق أيديهم وجوارحهم، وعن الثالث أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة ثم خلق السماء فسواها في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين فتلك أربعة أيام للأرض، فهذا الذي جمع به ابن عباس بين قوله تعالى في هذه الآية وبين قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} هو المعتمد، وأما ما أخرجه عبد الرزاق من طريق أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رفعه قال: "خلق الله الأرض في يوم الأحد وفي يوم الاثنين، وخلق الجبال وشقق الأنهار وقدر في كل أرض قوتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان وتلا الآية إلى قوله: {فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} قال في يوم الخميس ويوم الجمعة الحديث، فهو ضعيف لضعف أبي سعيد وهو البقال، وعن الرابع بأن "كان" وإن كانت للماضي لكنها لا تستلزم الانقطاع؛ بل المراد أنه لم يزل كذلك، فأما الأول فقد جاء فيه تفسر آخر أن نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عدا ذلك، وهذا منقول عن السدي أخرجه الطبري، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن نفي المساءلة عند النفخة الأولى وإثباتها بعد النفخة الثانية، وقد تأول ابن مسعود نفي المساءلة على معنى آخر وهو طلب بعضهم من بعض العفو، فأخرج الطبري من طريق زاذان قال: "أتيت ابن مسعود فقال: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة فينادي: ألا إن هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق قبله فليأت، قال فتود المرأة يومئذ أن يثبت لها حق على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" . ومن طريق أخرى قال: "لا يسأل أحد يومئذ بنسب شيئا ولا يتساءلون به ولا يمت برحم، وأما الثاني فقد تقدم بسطه من وجه آخر عند الطبري، والآية الأخرى التي ذكرها ابن عباس وهي قوله: {اللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقد ورد ما يؤيده من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم أثناء حديث وفيه: "ثم يلقى الثالث فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ويثنى ما استطاع، فيقول: الآن نبعث شاهدا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه" وأما الثابت فأجيب بأجوبة أيضا منها أن "ثم" بمعنى الواو فلا إيراد، وقيل المراد ترتيب الخبر لا المخبر به كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، وقيل على بابها لكن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في الزمان، وقيل خلق بمعنى قدر. وأما الرابع وجواب ابن عباس عنه فيحتمل كلامه أنه أراد أنه سمي نفسه غفورا رحيما، وهذه التسمية مضت لأن التعلق انقضى، وأما الصفتان فلا يزالان كذلك لا ينقطعان لأنه تعالى إذا أراد المغفرة أو الرحمة في الحال أو الاستقبال وقع مراده، قاله الكرماني. قال: ويحتمل أن يكون ابن عباس أجاب بجوابين أحدهما أن التسمية هي التي كانت وانتهت والصفة لا نهاية لها، والآخر أن معنى

(8/558)


"كان" الدوام فإنه لا يزال كذلك. ويحتمل أن يحمل السؤال على مسلكين والجواب على رفعهما كأن يقال: هذا اللفظ مشعر بأنه في الزمان الماضي كان غفورا رحيما مع أنه لم يكن هناك من يغفر له أو يرحم، وبأنه ليس في الحال كذلك لما يشعر به لفظ كان، والجواب عن الأول بأنه كان في الماضي يسمى به، وعن الثاني بأن كان تعطى معنى الدوام، وقد قال النحاة. كان لثبوت خبرها ماضيا دائما أو منقطعا. قوله: "فلا يختلف" بالجزم للنهي، وقد وقع في رواية ابن أبي حاتم من طريق مطرف عن المنهال بن عمرو وفي آخره: "قال فقال له ابن عباس: هل بقي في قلبك شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا نزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه".
" تنبيه " : وقع في السياق " و السَّمَاءُ بَنَاهَا" والتلاوة {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} كذا زعم بعض الشراح، والذي في الأصل من رواية أبي ذر "والسماء وما بناها" وهو على وفق التلاوة، لكن قوله بعد ذلك "إلى قوله:{دحاها} يدل على أن المراد الآية التي فيها {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} . قوله: "حدثنيه يوسف بن عدي" أي ابن أبي زريق التيمي الكوفي نزيل مصر، وهو أخو زكريا بن عدي، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث. وقد وقع في رواية القابسي "حدثنيه عن يوسف" بزيادة "عن" وهي غلط. وسقط قوله: "وحدثنيه إلخ" من رواية النسفي، وكذا من رواية أبي نعيم عن الجرجاني عن الفربري، وثبت ذلك عند جمهور الرواة عن الفربري، لكن ذكر البرقاني في "المصافحة" بعد أن أخرج الحديث من طريق محمد ابن إبراهيم البوشنجي "حدثنا أبو يعقوب يوسف بن عدي" فساقه بتمامه قال: "وقال لي محمد بن إبراهيم الأردستاني قال: شاهدت نسخة من كتاب البخاري في هامشها" حدثنيه محمد بن إبراهيم حدثنا يوسف بن عدي "قال البرقاني: ويحتمل أن يكون هذا من صنيع من سمعه من البوشنجي فإن اسمه محمد بن إبراهيم، قال: ولم يخرج البخاري ليوسف ولا لعبيد الله بن عمرو ولا لزيد بن أبي أنيسة حديثا مسندا سواه، وفي مغايرة البخاري سياق الإسناد عن ترتيبه المعهود إشارة إلى أنه ليس على شرطه وإن صارت صورته صورة الموصول، وقد صرح ابن خزيمة في صحيحه بهذا الاصطلاح وأن ما يورده بهذه الكيفية ليس على شرط صحيحه وخرج على من يغير هذه الصيغة المصطلح عليها إذا أخرج منه شيئا على هذه الكيفية. فزعم بعض الشراح أن البخاري سمعه أولا مرسلا وآخرا مسندا فنقله كما سمعه، وهذا بعيد جدا، وقد وجدت للحديث طريقا أخرى أخرجها الطبري من رواية مطرف من طريق عن المنهال بن عمرو بتمامه، فشيخ معمر المبهم يحتمل أن يكون مطرفا أو زيد بن أبي أنيسة أو ثالثا. قوله: "وقال مجاهد لهم أجر غير ممنون: محسوب" سقط هذا من رواية النسفي، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد به، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال: غير منقوص، وهو بمعنى قول مجاهد محسوب، والمراد أنه يحسب فيحصى فلا ينقص منه شيء. قوله: "أقواتها أرزاقها" أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن بلفظ: "قال وقال قتادة جبالها وأنهارها ودوابها وثمارها" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} قال: من المطر. وقال أبو عبيدة: أقواتها واحدها قوت وهي الأرزاق. قوله: "في كل سماء أمرها مما أمر به" وصله الفريابي بلفظ: "مما أمر به وأراده" أي من خلق الرجوم والنيرات وغير ذلك. قوله: "نحسات مشائيم" وصله الفريابي من طريق مجاهد به. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "ريحا صرصرا: باردة. نحسات: مشومات" وقال أبو عبيدة: الصرصر هي الشديدة الصوت العاصفة، نحسات: ذوات نحوس أي مشائيم. قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} تتنزل عليهم الملائكة عند الموت "كذا في رواية أبي ذر والنسفي وطائفة، وعند

(8/559)


الأصيلي: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قرناهم بهم تتنزل عليهم الملائكة عند الموت" وهذا هو وجه الكلام وصوابه، وليس تتنزل عليهم تفسيرا لقيضنا. وقد أخرج الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قال شياطين. وفي قوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} قال عند الموت "وكذلك أخرجه الطبري مفرقا في موضعيه، ومن طريق السدي قال: تتنزل عليهم الملائكة عند الموت، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تتنزل عليهم الملائكة وذلك في الآخرة. قلت: ويحتمل الجمع بين التأويلين فإن حالة الموت أول أحوال الآخرة في حق الميت، والحاصل من التأويلين أنه ليس المراد تتنزل عليهم في حال تصرفهم في الدنيا. د قوله: "اهتزت بالنبات، وربت ارتفعت من أكمامها حين تطلع" كذا لأبي ذر والنسفي. وفي رواية غيرهما إلى قوله: "ارتفعت" وهذا هو الصواب، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد إلى قوله: "ارتفعت" وزاد: "قبل أن تنبت" . قوله: "ليقولن هذا لي أي بعلمي أنا محقوق بهذا" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا ولكن لفظه: "بعملي" بتقديم المهم على اللام وهو الأشبه، واللام في ليقولن جواب القسم، وأما جواب الشرط فمحذوف، وأبعد من قال اللام جواب الشرط والفاء محذوفة منه لأن ذلك شاذ مختلف في جوازه في الشعر، ويحتمل أن يكون قوله: "هذا لي" أي لا يزول عني. قوله: "وقال غيره سواء للسائلين قدرها سواء" سقط "وقال غيره:"لغير أبي ذر والنسفي وهو أشبه، فإنه معنى قول أبي عبيدة. وقال في قوله سواء للسائلين: نصبها على المصدر. وقال الطبري: قرأ الجمهور سواء بالنصب وأبو جعفر بالرفع ويعقوب بالجر، فالنصب على المصدر أو على نعت الأقوات، ومن رفع فعلى القطع، ومن خفض فعلى نعت الأيام أو الأربعة. قوله: "فهديناهم دللناهم على الخير والشر "ك قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وكقوله: "هديناه السبيل" والهدى الذي هو الإرشاد بمنزلة أسعدناه، ومن ذلك قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . كذا لأبي ذر والأصيلي ولغيرهما: "أصعدناه" بالصاد المهملة، قال السهيلي: هو بالصاد أقرب إلى تفسير أرشدناه من أسعدناه بالسين المهملة، لأنه إذا كان بالسين كان من السعد والسعادة، وأرشدت الرجل إلى الطريق وهديته السبيل بعيد من هذا التفسير، فإذا قلت أصعدناهم بالصاد خرج اللفظ إلى معنى الصعدات في قوله: "إياكم والقعود على الصعدات" وهي الطرق، وكذلك أصعد في الأرض إذا سار فيها على قصد، فإن كان البخاري قصد هذا وكتبها في نسخته بالصاد التفاتا إلى حديث الصعدات فليس بمنكر انتهى. والذي عند البخاري إنما هو بالسين كما وقع عند أكثر الرواة عنه، وهو منقول من "معاني القرآن" قال في قوله تعالى :{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} يقال دللناهم على مذهب الخير ومذهب الشر كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ثم ساق عن علي في قوله: "وهديناه النجدين" قال: الخير والشر، قال: وكذلك قوله: "إنا هديناه السبيل" قال: والهدى على وجه آخر وهو الإرشاد، ومثله قولك أسعدناه من ذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} في كثير من القرآن. قوله: "يوزعون يكفون" قال أبو عبيدة في قوله: "فهم يوزعون" : أي يدفعون، وهو من وزعت. وأخرج الطبري من طريق السدي في قوله: "فهم يوزعون" قال: عليهم وزعة ترد أولاهم على أخراهم. قوله: "من أكمامها: قشر الكفرى الكم" كذا لأبي ذر، ولغيره هي الكم، زاد الأصيلي: واحدها هو قول الفراء بلفظه. وقال أبو عبيدة في قوله: "من أكمامها" : أي أوعيتها واحدها كمة وهو ما كانت فيه، وكم وكمة واحد، والجمع أكمام، وأكمة. "تنبيه" : كاف الكم مضمومة ككم القميص وعليه يدل كلام أبي عبيدة وبه جزم

(8/560)


الراغب، ووقع في الكشاف بكسر الكاف فإن ثبت فلعلها لغة فيه دون كم القميص. قوله: "وقال غيره: ويقال للعنب إذا خرج أيضا: كافور وكفرى" ثبت هذا في رواية المستملي وحده، والكفرى بضم الكاف وفتح الفاء وبضمها أيضا والراء مثقلة مقصور، وهو وعاء الطالع وقشره الأعلى قاله الأصمعي وغيره، قالوا: ووعاء كل شيء كافوره. وقال الخطابي: قول الأكثرين الكفرى الطلع بما فيه، وعن الخليل أنه الطلع. قوله: "ولي حميم: القريب" كذا للأكثر، وعند النسفي: وقال معمر فذكره، ومعمر هو ابن المثنى أبو عبيدة وهذا كلامه، قال في قوله: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قال: ولي قريب. قوله: "من محيص حاص عنه حاد عنه" قال أبو عبيدة في قوله: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} يقال حاص عنه أي عدل وحاد. وقال في موضع آخر "من محيص" أي من معدل. قوله: "مرية ومرية واحد" أي بكسر الميم وضمها أي امتراء، هو قول أبي عبيدة أيضا، وقراءة الجمهور بالكسر، وقرأ الحسن البصري بالضم. قوله: "وقال مجاهد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الوعيد" في رواية الأصيلي هو وعيد، وقد وصله عبد بن حميد من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} قال: هذا وعيد. وأخرجه عبد الرزاق من وجهين آخرين عن مجاهد. وقال أبو عبيدة: لم يأمرهم بعمل الكفر، وإنما هو توعد. قوله: "وقال ابن عباس {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم" سقط {كأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} من رواية أبي ذر وحده وثبت للباقين، وقد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة إلخ، ومن طريق عبد الكريم الجزري عن مجاهد {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : السلام

(8/561)


1- باب {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}
4816- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} الآيَةَ قَالَ كَانَ رَجُلاَنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ ثَقِيفَ أَوْ رَجُلاَنِ مِنْ ثَقِيفَ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ فَأُنْزِلَتْ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ} الآيَةَ
[الحديث 4816- طرفاه في: 4817، 7521]
قوله باب قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ} الآية قال الطبري: اختلف في معنى قوله: {تَسْتَتِرُونَ} ثم أخرج من طريق السدي قال: تستخفون، ومن طريق مجاهد قال: تتقون، ومن طريق شعبة عن قتادة قال: ما كنتم تظنون أن يشهد عليكم إلخ. قوله: "عن ابن مسعود: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أي قال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} . قوله: "كان رجلان من قريش وختن لهما من ثقيف أو رجلان

(8/561)


من ثقيف وختن لهما من قريش" هذا الشك من أبي معمر رواية عن ابن مسعود وهو عبد الله بن سخبرة، وقد أخرجه عبد الرزاق من طريق وهب بن ربيعة عن ابن مسعود بلفظ: "ثقفي وختناه قرشيان" ولم يشك. وأخرج مسلم من طريق وهب هذه ولم يسق لفظها، وأخرجه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: "ثلاثة نفر" ولم ينسبهم، وذكر ابن بشكوال في "المبهمات" من طريق "تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي" أحد الضعفاء بإسناده عن ابن عباس قال: القرشي الأسود بن عبد يغوث الزهري والثقفيان الأخنس بن شريق والآخر لم يسم، وراجعت التفسير المذكور فوجدته قال في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} قال: جلس رجلان عند الكعبة أحدهما من ثقيف وهو الأخنس بن شريق والآخر من قريش وهو الأسود بن عبد يغوث، فذكر الحديث. وفي تنزيل هذا على هذا ما لا يخفى. وذكر الثعلبي وتبعه البغوي أن الثقفي عبد ياليل بن عمرو بن عمير والقرشيان صفوان وربيعة ابنا أمية بن خلف. وذكر إسماعيل بن محمد التيمي في تفسيره أن القرشي صفوان بن أمية والثقفيان ربيعة وحبيب ابنا عمرو، فالله أعلم

(8/562)


2- باب {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ}
4817- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ أَحَدُهُمْ أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ قَالَ الْآخَرُ يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلاَ يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا وَقَالَ الآخَرُ إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} الآيَةَ وَكَانَ سُفْيَانُ يُحَدِّثُنَا بِهَذَا فَيَقُولُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ أَوْ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَوْ حُمَيْدٌ أَحَدُهُمْ أَوْ اثْنَانِ مِنْهُمْ ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى مَنْصُورٍ وَتَرَكَ ذَلِكَ مِرَارًا غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَة"
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِه"
قوله: "باب {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} الإشارة في قوله: {وَذَلِكُمْ} لما تقدم من صنيع الاستتار ظنا منهم أنهم يخفى عملهم عند الله. وهو مبتدأ والخبر أرداكم، وظنكم بدل من ذلكم. ثم ذكر فيه الحديث الذي قبله من طريق أخرى. قوله: "اجتمع البيت" أي عند الكعبة. قوله: "كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم" كذا للأكثر بإضافة بطون لشحم وإضافة قلوب لفقه وتنوين كثيرة وقليلة. وفي رواية سعيد بن منصور والترمذي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود "كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم" وذكره بعض الشراح بلفظ إضافة شحم إلى كثيرة وبطونهم بالرفع على أنه المبتدأ أي بطونهم كثيرة الشحم والآخر مثله وهو محتمل، وقد أخرجه ابن مردويه من وجه آخر بلفظ: "عظيمة بطونهم قليل فقههم" وفيه إشارة إلى أن الفطنة قلما تكون مع البطنة، قال الشافعي: ما رأيت سمينا عاقلا إلا محمد بن الحسن. قوله: "لئن كان يسمع بعضه

(8/562)


لقد سمع كله" أي لأن نسبة جميع المسموعات إليه واحدة فالتخصيص تحكم، وهذا يشعر بأن قائل ذلك كان أفطن أصحابه، وأخلق به أن يكون الأخنس بن شريق لأنه أسلم بعد ذلك، وكذا صفوان بن أمية. قوله: "وكان سفيان يحدثنا بهذا فيقول: حدثنا منصور أو ابن أبي نجيح أو حميد أحدهم أو اثنان منهم، ثم ثبت على منصور وترك ذلك مرارا غير واحدة" هذا كلام الحميدي شيخ البخاري فيه، وقد أخرجه عنه في كتاب التوحيد قال: "حدثنا سفيان حدثنا منصور عن مجاهد" فذكره مختصرا ولم يذكر مع منصور أحدا. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة عن منصور وحده به. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن منصور" لسفيان فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن خلاد عن يحيى القطان عن سفيان الثوري عن سليمان وهو الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة عن ابن مسعود، وكأن البخاري ترك طريق الأعمش للاختلاف عليه قيل عنه هكذا، وقيل عنه عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود أخرجه الترمذي بالوجهين.

(8/563)


42- سُورَةُ حم عسق
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {عَقِيمًا} الَّتِي لاَ تَلِدُ {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الْقُرْآنُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} لاَ خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} ذَلِيلٍ وَقَالَ غَيْرُهُ {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} يَتَحَرَّكْنَ وَلاَ يَجْرِينَ فِي الْبَحْرِ {شَرَعُوا} ابْتَدَعُوا
قوله: "سورة حم عسق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "ويذكر عن ابن عباس عقيما التي لا تلد" وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بلفظ {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} قال: لا يلقح. وذكره باللفظ المعلق بلفظ جويبر عن الضحاك عن ابن عباس وفيه ضعف وانقطاع، فكأنه لم يجزم به لذلك. قوله: " {رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} : القرآن" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا، وروى الطبري من طريق السدي قال في قوله: { رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} قال: وحيا. ومن طريق قتادة عن الحسن في قوله: "روحا من أمرنا" قال: رحمة. قوله: "وقال مجاهد يذرؤكم فيه نسل بعد نسل" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "يذرؤكم فيه" قال نسلا بعد نسل من الناس والأنعام، وروى الطبري من طريق السدي في قوله: "يذرؤكم" قال: يخلقكم. قوله: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لا خصومة بيننا وبينكم، وصله الفريابي عن مجاهد بهذا، وروى الطبري من طريق السدي في قوله: {جَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: هم أهل الكتاب قالوا للمسلمين: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم. قوله: "{مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}: ذليل" وصله الفريابي عن مجاهد بهذا، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، ومن طريق قتادة ومن طريق السدي في قوله: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال: يسارقون النظر، وتفسير مجاهد هو بلازم هذا. قوله: "شرعوا ابتدعوا" هو قول أبي عبيدة. قوله: " {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} : يتحركن ولا يجرين في البحر" وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال سفن هذا البحر تجري بالريح فإذا أمسكت عنها الريح ركدت، وقوله: يتحركن أي يضربن بالأمواج، ولا يجرين في البحر بسكون الريح، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من زعم أن "لا" سقطت في قوله: "يتحركن"

(8/563)


قال: لأنهم فسروا {رَوَاكِدَ} بسواكن، وتفسير {رَوَاكِدَ} بسواكن قول أبي عبيدة، ولكن السكون والحركة في هذا أمر نسبي

(8/564)


1- بَاب {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
4818- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ طَاوُسًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلاَّ كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ فَقَالَ إِلاَّ أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ
حديث طاوس "عن ابن عباس سئل عن تفسيرها، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت" أي أسرعت في التفسير. وهذا الذي جزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس مرفوعا فأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت قالوا يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ الحديث، وإسناده ضعيف، وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح. والمعنى إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش خاصة، والقربى قرابة العصوبة والرحم، فكأنه قال احفظوا للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. ثم ذكر ما تقدم عن عكرمة في سبب نزول (1) وقد جزم بهذا التفسير جماعة من المفسرين واستندوا إلى ما ذكرته عن ابن عباس من الطبراني وابن أبي حاتم، وإسناده واه فيه ضعيف ورافضي. وذكر الزمخشري هنا أحاديث ظاهر وضعها، ورده الزجاج بما صح عن ابن عباس من رواية طاوس في حديث الباب، وبما نقله الشعبي عنه، وهو المعتمد. وجزم بأن الاستثناء منقطع. وفي سبب نزولها قول آخر ذكره الواحدي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وليس بيده شيء، فجمع له الأنصار مالا فقالوا: يا رسول الله إنك ابن أختنا، وقد هدانا الله بك، وتنوبك النوائب وحقوق وليس لك سعة، فجمعنا لك من أموالنا ما تستعين به علينا، فنزلت. وهذه من رواية الكلبي ونحوه من الضعفاء. وأخرج من طريق مقسم عن ابن عباس أيضا قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنصار شيء فخطب فقال ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي الحديث، وفيه فجثوا على الركب وقالوا أنفسنا وأموالنا لك فنزلت. وهذا أيضا ضعيف ويبطله أن الآية مكية والأقوى في سبب نزولها صلى الله عليه وسلم عن قتادة قال: قال المشركون لعل محمدا يطلب أجرا على ما يتعاطاه فنزلت. وزعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة، ورده الثعلبي بأن الآية دالة على الأمر بالتودد إلى الله بطاعته أو باتباع نبيه أو صلة رحمه بترك أذيته أو صلة أقاربه من أجله وكل ذلك مستمر الحكم غير منسوخ، والحاصل أن سعيد بن جبير ومن وافقه كعلي بن الحسين والسدي وعمرو بن شعيب فيما أخرجه الطبري عنهم حملوا الآية على أمر المخاطبين بأن يواددوا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم،
ـــــــ
(1) بياض بأصله.

(8/564)


وابن عباس حملها على أن يواددوا النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القرابة التي بينهم وبينه، فعلى الأول الخطاب عام لجميع المكلفين، وعلى الثاني الخطاب خاص بقريش. ويؤيد ذلك أن السورة مكية. وقد قيل إن هذه الآية نسخت بقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ويحتمل أن يكون هذا عاما خص بما دلت عليه آية الباب، والمعنى أن قريشا كانت تصل أرحامها، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعوه فقال: صلوني كما تصلون غيري من أقاربكم. وقد روى سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال: أكثروا علينا في هذه الآية، فكتبت إلى ابن عباس أسأله عنها فكتب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب في قريش، لم يكن حي من أحياء قريش إلا ولده، فقال الله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ المَوَدَةَ فِي القُرْبَىَ" تودوني بقرابتي منكم، وتحفظوني في ذلك. وفيه قول ثالث أخرجه أحمد من طريق مجاهد عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} على ما جئتكم به من البينات والهدى إلا أن تقربوا إلى الله بطاعته، وفي إسناده ضعف. وثبت عن الحسن البصري نحوه، والأجر على هذا مجاز. وقوله: "القربى" هو مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة، والمراد في أهل القربى، وعبر بلفظ: "في" دون اللام كأنه جعلهم مكانا للمودة ومقرا لها، كما يقال لي في آل فلان هوى أي هم مكان هواي، ويحتمل أن تكون "في" سببية، وهذا على أن الاستثناء متصل، فإن كان منقطعا فالمعنى لا أسألكم عليه أجرا قط، ولكن أسألكم أن تودوني بسب قرابتي فيكم

(8/565)


43- سورة حم الزُّخْرُفِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {عَلَى أُمَّةٍ} عَلَى إِمَامٍ {وَقِيلَهُ يَا رَبِّ} تَفْسِيرُهُ أَيَحْسِبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَلاَ نَسْمَعُ قِيلَهُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} لَوْلاَ أَنْ جَعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ كُفَّارًا لَجَعَلْتُ لِبُيُوتِ الْكُفَّارِ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ وَهِيَ دَرَجٌ وَسُرُرَ فِضَّةٍ مُقْرِنِينَ مُطِيقِينَ آسَفُونَا أَسْخَطُونَا يَعْشُ يَعْمَى وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ} أَيْ تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ لاَ تُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} سُنَّةُ الأَوَّلِينَ مُقْرِنِينَ يَعْنِي الإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ {يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ} الْجَوَارِي جَعَلْتُمُوهُنَّ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ف {َكَيْفَ تَحْكُمُونَ} {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يَعْنُونَ الأَوْثَانَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ الأَوْثَانُ إِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فِي عَقِبِهِ وَلَدِهِ مُقْتَرِنِينَ يَمْشُونَ مَعًا سَلَفًا قَوْمُ فِرْعَوْنَ سَلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ {مَثَلاً} : عِبْرَةً {يَصِدُّونَ} يَضِجُّونَ {مُبْرِمُونَ} مُجْمِعُونَ {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ غَيْرُهُ {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الْعَرَبُ تَقُولُ نَحْنُ مِنْكَ الْبَرَاءُ وَالْخَلاَءُ وَالْوَاحِدُ وَالاثْنَانِ وَالْجَمِيعُ مِنْ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ يُقَالُ فِيهِ بَرَاءٌ لأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَوْ قَالَ بَرِيءٌ لَقِيلَ فِي الاثْنَيْنِ بَرِيئَانِ وَفِي الْجَمِيعِ بَرِيئُونَ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّنِي بَرِيءٌ بِالْيَاءِ وَ {الزُّخْرُفُ}: الذَّهَبُ {مَلاَئِكَةً يَخْلُفُونَ} يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قوله: "سورة حم الزخرف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قوله: "على أمة على إمام" كذا للأكثر. وفي رواية أبي

(8/565)


ذر "وقال مجاهد فذكره" والأول أولى وهو قول أبي عبيدة وروى عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {عَلَى أُمَّةٍ} قال: على ملة: وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {عَلَى أُمَّةٍ} أي على دين، ومن طريق السدي مثله. قوله: "وقيله يا رب تفسيره أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ولا نسمع قيلهم" قال ابن التين: هذا التفسير أنكره بعضهم، وإنما يصح لو كانت التلاوة "وقيلهم" وقال أبو عبيدة: وقيله منصوب في قول أبي عمرو بن العلاء على نسمع سرهم ونجواهم وقيله، قال وقال غيره: هي في موضع الفعل، أي ويقول. وقال غيره: هذا التفسير محمول على أنه أراد تفسير المعنى، والتقدير ونسمع قيله فحذف العامل، لكن يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجمل كثيرة. وقال الفراء: من قرأ وقيله فنصب تجوز من قوله نسمع سرهم ونجواهم ونسمع قيلهم؛ وقد ارتضى ذلك الطبري وقال: قرأ الجمهور وقيله بالنصب عطفا على قوله {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} والتقدير ونسمع قيله يا رب، وبهذا يندفع اعتراض ابن التين وإلزامه بل يصح والقراءة وقيله بالإفراد، قال الطبري: وقراءة الكوفيين وقيله بالجر على معنى وعنده علم الساعة وعلم قيله، قال: وهما قراءتان صحيحتا المعنى، وسيأتي أواخر هذه السورة أن ابن مسعود قرأ: "وقال الرسول يا رب" في موضع وقيله يا رب. وقال بعض النحويين: المعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون؛ وفيه أيضا الفصل بين المتعاطفين بجمل كثيرة. قوله: "وقال ابن عباس: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلخ" وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بلفظه مقطعا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أمة واحدة كفارا، وروى الطبري من طريق عوف عن الحسن في قوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: كفارا يميلون إلى الدنيا. قال: وقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل، فكيف لو فعل. قوله: "مقرنين مطيقين" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قال: مطيقين. وهو بالقاف. ومن طريق للسدي مثله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} لا في الأيدي ولا في القوة. قوله: "آسفونا أسخطونا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} قال: أسخطونا. وقال عبد الرزاق سمعت ابن جريح يقول: {آسَفُونَا} أغضبونا. وعن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه مثله وأورده في قصة له مع عروة بن محمد السعدي عامل عمر بن عبد العزيز على اليمن. قوله: "يعش يعمى" وصله ابن أبي حاتم من طريق شبيب عن بشر عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} قال: يعمى. وروى الطبري من طريق السدي قال: {وَمَنْ يَعْشُ} أي يعرض. ومن طريق سعيد عن قتادة مثله. قال الطبري: من فسر يعش بمعنى يعمى فقراءته بفتح الشين. وقال ابن قتيبة قال أبو عبيدة قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} بضم الشين أي تظلم عينه. وقال الفراء. يعرض عنه، قال: ومن قرأ يعش بفتح الشين أراد تعمى عينه، قال: ولا أرى القول إلا قول أبي عبيدة، ولم أر أحدا يجيز عشوت عن الشيء أعرضت عنه، إنما يقال تعاشيت عن كذا تغافلت عنه ومثله تعاميت. وقال غيره: عشى إذا مشى ببصر ضعيف مثل عرج مشى مشية الأعرج. قوله: "وقال مجاهد أفنضرب عنكم الذكر صفحا أي تكذبون بالقرآن ثم لا تعاقبون عليه"؟ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: أفحسبتم أن نصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به. قوله: "ومضى مثل الأولين: سنة الأولين" وصله الفريابي عن مجاهد

(8/566)


في قوله: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} قال سنتهم، وسيأتي له تفسير آخر قريبا. قوله: "مقرنين يعني الإبل والخيل والبغال" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه وزاد: والحمير. وهذا تفسير المراد بالضمير في قوله له، وأما لفظ: "مقرنين" فتقدم معناه قريبا. قوله: "أو من ينشأ في الحلية الجواري، يقول جعلتموهن للرحمن ولدا فكيف تحكمون" وصله االفريابي عن مجاهد بلفظه والمعنى أنه تعالى أنكر على الكفرة الذين زعموا أن الملائكة بنات الله فقال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} وأنتم تمقتون البنات وتنفرون منهن حتى بالغتم في ذلك فوأدتموهن، فكيف تؤثرون أنفسكم بأعلى الجزأين وتدعون له الجزء الأدنى مع أن صفة هذا الصنف الذي هو البنات أنها تنشأ في الحلية والزينة المفضية إلى نقص العقل وعدم القيام بالحجة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} قال: البنات {وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِين} قال فما تكلمت المرأة تريد أن تكلم بحجة لها إلا تكلمت بحجة عليها.
" تنبيه " : قرأ ينشأ بفتح أوله مخففا الجمهور، وحمزة والكسائي وحفص بضم أوله مثقلا، والجحدري مثله مخففا. قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، يعنون الأوثان. يقول الله تعالى: ما لهم بذلك من علم الأوثان إنه لا يعلمون" وصله الفريابي من طريق، مجاهد في قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} قال: الأوثان. قال الله {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ما تعلمون قدرة الله على ذلك والضمير في قوله ما لهم بذلك من علم للكفار أي ليس لهم علم بما ذكروه من المشيئة ولا برهان معهم على ذلك إنما يقولونه ظنا وحسبانا، أو الضمير للأوثان ونزلهم منزلة من يعقل ونفى عنهم علم ما يصنع المشركون من عبادتهم. قوله: "في عقبه ولده" وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، والمراد بالولد الجنس حتى يدخل فيه ولد الولد وإن سفل. وقال عبد الرزاق في عقبه لا يزال في ذريته من يوحد الله عز وجل. قوله: "مقترنين يمشون معا" وصله الفريابي عن مجاهد في قوله: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يمشون معا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يعني متتابعين. قوله: "سلفا قوم فرعون. سلفا لكفار أمة محمد" وصله الفريابي من طريق مجاهد قال: هم قوم فرعون كفارهم سلفا لكفار أمة محمد. قوله: "ومثلا عبرة" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه وزاد: "لمن بعدهم" . قوله: "يصدون يضجون" وصله الفريابي والطبري عن مجاهد بلفظه، وهو قول أبي عبيدة وزاد: ومن ضمها فمعناه يعدلون. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ومن طريق آخر عن ابن عباس ومن طريق سعيد عن قتادة في قوله: "يصدون" قال: يضجون. وقال عبد الرزاق عن معمر عن عاصم أخبرني زر هو ابن حبيش أن ابن عباس كان يقرؤها "يصدون" يعني بكسر الصاد يقول: يضجون. قال عاصم: وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقرؤها بضم الصاد، فبالكسر معناه يضج وبالضم معناه يعرض. وقال الكسائي: هما لغتان بمعنى وأنكر بعضهم قراءة الضم، واحتج بأنه لو كانت كذاك لكانت عنه لا منه. وأجيب بأن المعنى منه أي من أجله فيصح الضم، وروى الطبري من طريق أبي يحيى عن ابن عباس أنه أنكر على عبيد بن عمير قراءته يصدون بالضم. قوله: "مبرمون مجمعون" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه وزاد إن كادوا شرا كدناهم مثله. قوله: "أول العابدين أول المؤمنين" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ: "أول المؤمنين بالله فقولوا ما شئتم" وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} يقول: فأنا أول من عبد الله وحده وكفر بما تقولون. وروى الطبري من طريق محمد بن ثور عن معمر بسنده قال: "قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده

(8/567)


وكذبكم" وسيأتي له بعد هذا تفسير آخر. قوله: "وقال غيره إنني براء مما تعبدون، العرب تقول: نحن منك البراء والخلاء، الواحد والاثنان والجميع من المذكر والمؤنث سواء يقال فيه براء لأنه مصدر، ولو قيل بريء لقيل في الاثنين بريئان وفي الجميع بريئون" قال أبو عبيدة: قوله: "إنني براء" مجازها لغة عالية يجعلون الواحد والاثنين والثلاثة من المذكر والمؤنث على لفظ واحد، وأهل نجد يقولون: أنا بريء وهي بريئة ونحن براء. قوله: "وقرأ عبد الله إنني بريء بالياء" وصله الفضل بن شاذان في "كتاب القراءات" بإسناده عن طلحة ابن مصرف عن يحيى بن وثاب عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. قوله: "والزخرف الذهب" قال عبد الله بن حميد حدثنا هاشم بن القاسم عن شعبة عن الحكيم عن مجاهد قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيتها في قراءة عبد الله أي ابن مسعود "أو يكون لك بيت من ذهب" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "وزخرفا" قال الذهب. وعن معمر عن الحسن مثله. قوله: "ملائكة في الأرض يخلفون يخلف بعضهم بعضا" أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وزاد في آخره: مكان ابن آدم.

(8/568)


باب {ونادوا يا مالك ليقضي علينا ربك}
...
1- باب {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
4819- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} وَقَالَ قَتَادَةُ {مَثَلاً لِلآخِرِينَ} عِظَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ غَيْرُهُ {مُقْرِنِينَ} ضَابِطِينَ يُقَالُ فُلاَنٌ مُقْرِنٌ لِفُلاَنٍ ضَابِطٌ لَهُ وَالأَكْوَابُ الأَبَارِيقُ الَّتِي لاَ خَرَاطِيمَ لَهَا وَقَالَ قَتَادَةُ فِي {أُمِّ الْكِتَابِ} جُمْلَةِ الْكِتَابِ أَصْلِ الْكِتَابِ {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ مَا كَانَ فَأَنَا أَوَّلُ الآنِفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} وَيُقَالُ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الْجَاحِدِينَ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ
قوله: "باب قوله {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} ظاهرها أنهم بعدما طال إبلاسهم تكلموا، والمبلس الساكت بعد اليأس من الفرج، فكان فائدة الكلام بعد ذلك حصول بعض فرج لطول العهد، أو النداء يقع قبل الإبلاس لأن الواو لا تستلزم ترتيبا. قوله: "عمرو" هو ابن دينار. قوله: "عن صفوان بن يعلى عن أبيه" هو يعلى بن أمية المعروف بابن منية. قوله: "يقرأ على المنبر ونادوا يا مالك" كذا للجميع بإثبات الكاف وهي قراءة الجمهور، وقرأ الأعمش "ونادوا يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي، وتقدم في بدء الخلق أنها قراءة ابن مسعود، قال عبد الرزاق قال الثوري: في حرف ابن مسعود "ونادوا يا مال" يعني بالترخيم، وبه جزم ابن عيينة. ويذكر عن بعض السلف أنه لما سمعها قال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم؟ وأجيب باحتمال أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وشدة ما هم فيه. قوله: "وقال قتادة مثلا للآخرين عظة لمن بعدهم" قال عبد الرزاق. عن معمر عن قتادة في قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} قال أغضبونا {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} قال إلى النار {وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} قال: عظة للآخرين. قوله: "وقال غيره: مقرنين ضابطين، يقال: فلان مقرن لفلان ضابط له" هو قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الكميت "ولستم

(8/568)


للصعاب مقرنينا" . قوله: "والأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها" هو قول أبي عبيدة بلفظه، وروى الطبري من طريق السدي قال: الأكواب الأباريق التي لا آذان لها. قوله وقال قتادة "في أم الكتاب" جملة الكتاب، أصل الكتاب "قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} قال: في أصل الكتاب وجملته. قوله: "أول العابدين أي ما كان فأنا أول الآنفين، وهما لغتان رجل عابد وعبد" وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول لم يكن للرحمن ولد. ومن طريق سعيد عن قتادة قال: هذه كلمة في كلام العرب، إن كان للرحمن ولد أي أن ذلك لم يكن. ومن طريق زيد بن أسلم قال: هذا معروف من قول العرب: إن كان هذا الأمر قط. أي ما كان. ومن طريق السدي "إن" بمعنى لو أي لو كان للرحمن ولد كنت أول من عبده بذلك لكن لا ولد له، ورجحه الطبري. وقال أبو عبيدة إن بمعنى ما في قول، والفاء بمعنى الواو، أي ما كان للرحمن ولد وأنا أول العابدين. وقال آخرون: معناه. إن كان للرحمن في قولكم ولد فأنا أول العابدين أي الكافرين بذلك والجاحدين لما قلتم، والعابدين من عبد بكسر الباء يعبد بفتحها، قال الشاعر:
أولئك قومي إن هجوني هجوتهم ... وأعبد أن أهجو كليبا بدارم
أي أمتنع. وأخرج الطبري أيضا عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب: عبد معناه استنكف، ثم ساق قصة عن عمر في ذلك. وقال ابن فارس: عبد بفتحتين بمعنى عابد. وقال الجوهري: العبد بالتحريك الغضب. قوله: "وقرأ عبد الله: وقال الرسول يا رب" تقدمت الإشارة إلى إسناد قراءة عبد الله وهو ابن مسعود. وأخرج الطبري من وجهين عن قتادة في قوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} قال: هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: "ويقال أول العابدين: أول الجاحدين، من عبد يعبد" وقال ابن التين كذا ضبطوه ولم أر في اللغة عبد بمعنى جحد انتهى. وقد ذكرها الفربري. "تنبيه" : ضبطت عبد يعبد هنا بكسر الموحدة في الماضي وفتحها في المستقبل

(8/569)


باب {أفنضرب الذكر عنكم صفحا إن كنتم قوما مسرفين}
...
2- باب {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} مُشْرِكِينَ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حَيْثُ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ لَهَلَكُوا {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} عُقُوبَةُ الأَوَّلِينَ {جُزْءًا} عِدْلاً
قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} : مشركين، والله لو أن هذا القرآن رفع حيث رده أوائل هذه الأمة لهلكوا" وصله ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظه وزاد: ولكن الله عاد عليهم بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه. قوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} ، عقوبة الأولين" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بهذا. قوله: "جزءا عدلا" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بهذا، وهو بكسر العين. وكذا أخرجه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مثله، وأما أبو عبيدة فقال جزءا أي نصيبا، وقيل جزءا إناثا، تقول جزأت المرأة إذا أتت بأنثى

(8/569)


44- سُورَةُ حم الدُّخَانِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {رَهْوًا} طَرِيقًا يَابِسًا وَيُقَالُ رَهْوًا سَاكِنًا {عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} عَلَى مَنْ بَيْنَ

(8/569)


1- باب {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قَالَ قَتَادَةُ فَارْتَقِبْ فَانْتَظِرْ
4820- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَضَى خَمْسٌ الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ
قوله: "باب {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، فارتقب فانتظر" كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "وقال قتادة فارتقب فانتظر" وقد وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عن قتادة به. قوله: "عن الأعمش عن مسلم" هو ابن صبيح بالتصغير أبو الضحى كما صرح به في الأبواب التي بعده، وقد ترجم لهذا الحديث ثلاث تراجم بعد هذا وساق الحديث بعينه مطولا ومختصرا، وقد تقدم أيضا في تفسير الفرقان مختصرا وفي تفسير الروم وتفسير "ص" مطولا، ويحيى الراوي فيه عن أبي معاوية وفي الباب الذي يليه عن وكيع هو ابن موسى البلخي، وقوله في الطريق الأولى "حتى أكلوا العظام" زاد في الرواية التي بعدها "والميتة" وفي التي تليها "حتى أكلوا الميتة" وفي التي بعدها "حتى أكلوا العظام والجلود" وفي رواية فيها "حتى أكلوا الجلود والميتة" وقع في جمهور الروايات "الميتة" بفتح الميم وبالتحتانية ثم المثناة، وضبطها بعضهم بنون مكسورة ثم تحتانية ساكنة وهمزة وهو الجلد أول ما يدبغ، والأول أشهر

(8/571)


2- باب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
4821- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ قَالَ: لِمُضَرَ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا فَنَزَلَتْ {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فَلَمَّا أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قَالَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْر"
قوله بعد قوله {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال فأتى رسول الله" كذا بضم الهمزة على البناء للمجهول،

(8/571)


3- باب {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}
4822- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لاَ تَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنْ الْجَهْدِ حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجُوعِ {قَالُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فَقِيلَ لَهُ إِنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
قوله في الباب الثاني "عن مسروق قال دخلت على عبد الله" أي ابن مسعود. قوله: "إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم" تقدم سبب قول ابن مسعود هذا في سورة الروم من وجه آخر عن الأعمش ولفظه: "عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة فقال: يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ففزعنا، فأتيت ابن مسعود وكان متكئا فغضب فجلس فقال: من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. وقد جرى البخاري على عادته في إيثار الخفي على الواضح، فإن هذه السورة كانت أولى بإيراد هذا السياق من سورة الروم لما تضمنته من ذكر الدخان، لكن هذه طريقته يذكر الحديث في موضع ثم يذكره في الموضع اللائق به عاريا عن الزيادة اكتفاء بذكرها في الموضع الآخر، شحذا للأذهان وبعثا على مزيد الاستحضار، وهذا الذي أنكره ابن مسعود قد جاء عن علي، فأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم من طريق الحارث عن علي قال: "آية الدخان لم تمض بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفح الكافر حتى ينفد". ثم أخرج

(8/572)


عبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة قال: "دخلت على ابن عباس يوما فقال لي: لم أنم البارحة حتى أصبحت، قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشينا الدخان قد خرج" وهذا أخشى أن يكون تصحيفا وإنما هو الدجال بالجيم الثقيلة واللام، ويؤيد كون آيه الدخان لم تمض ما أخرجه مسلم من حديث أبي شريحة رفعه: " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، الدخان، والدابة" وروى الطبري من حديث ربعي عن حذيفة مرفوعا في خروج الآيات والدخان" قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية قال: أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيخرج من منخريه وأذنيه ودبره" وإسناده ضعيف أيضا. وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد نحوه وإسناده ضعيف أيضا، وأخرجه مرفوعا بإسناد أصلح منه، وللطبري من حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة " الحديث، ومن حديث ابن عمر نحوه وإسنادهما ضعيف أيضا، لكن تضافر هذه الأحاديث يدل على أن لذلك أصلا، ولو ثبت طريق حديث حذيفة لاحتمل أن يكون هو القاص المراد في حديث ابن مسعود.

(8/573)


4- باب {أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} الذِّكْرُ وَالذِّكْرَى وَاحِدٌ
4823- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ فَكَانَ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَكَانَ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ ثُمَّ قَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} حَتَّى بَلَغَ {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى يَوْمَ بَدْر"
قوله: "الذكرى" هو والذكر سواء.

(8/573)


5- بَاب {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}
4824- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَخَذَتْهُمْ السَّنَةُ حَتَّى حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْجُلُودَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنْ الأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ أَيْ مُحَمَّدُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا ثُمَّ قَالَ: "تَعُودُونَ بَعْدَ هَذَا" فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ ثُمَّ قَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إِلَى {عَائِدُونَ} أَنَكْشِفُ عَنْهُمْ عَذَابَ الآخِرَةِ فَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَقَالَ

(8/573)


6- بَاب {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
4825- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ اللِّزَامُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَالْقَمَرُ وَالدُّخَان"
قوله في الرواية الأخيرة "أخبرنا محمد" هو ابن جعفر غندر. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "حتى حصت" بمهملتين أي جردت وأذهبت، يقال سنة حصاء أي جرداء لا غيث فيها. قوله: "فقال أحدهم" كذا قاله في موضعين أي أحد الرواة، ولم يتقدم في سياق السدوسي موضع واحد فيه اثنان سليمان ومنصور، فحق العبارة أن يقول قال أحدهما لكن تحمل على تلك اللغة. قوله: "وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان" وقع في الرواية التي قبلها "فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجوع" ولا تدافع بينهما لأنه يحمل على أنه كان مبدؤه من الأرض ومنتهاه ما بين السماء والأرض، ولا معارضة أيضا بين قوله: "يخرج من الأرض" وبين قوله: "كهيئة الدخان" لاحتمال وجود الأمرين بأن يخرج من الأرض بخار كهيئة الدخان من شدة حرارة الأرض ووهجها من عدم الغيث، وكانوا يرون بينهم وبين السماء مثل الدخان من فرط حرارة الجوع، والذي كان يخرج من الأرض بحسب تخيلهم ذلك من غشاوة أبصارهم من فرط الجوع، أو لفظ: "من - الجوع" صفة الدخان أي يرون مثل الدخان الكائن من الجوع.

(8/574)


سورة الجاثية
...
45- سورة حم الْجَاثِيَةِ
{جاثية} : مُسْتَوْفِزِينَ عَلَى الرُّكَبِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {نَسْتَنْسِخُ} نَكْتُبُ {نَنْسَاكُمْ} نَتْرُكُكُمْ
4826- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار"
[الحديث 4826- طرفاه في: 6181، 7491]
قوله: "سورة حم الجاثية. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، ولغيره: "الجاثية" حسب. قوله: "جاثية مستوفزين على الركب" كذا لهم، وهو قول مجاهد وصله الطبري من طريقه. وقال أبو عبيدة في قوله: "جاثية" قال على الركب. ويقال استوفز في قعدته إذا قعد منتصبا قعودا غير مطمئن. قوله: "نستنسخ نكتب" كذا لأبي ذر، ولغيره: وقال مجاهد فذكر. وقد أخرج ابن أبي حاتم معناه عن مجاهد. قوله: "ننساكم نترككم" هو قول أبي عبيدة، وقد وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} قال: اليوم نترككم كما تركتم. وأخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أيضا، وهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، لأن من نسى فقد ترك بغير عكس. قوله: "يؤذيني ابن آدم" كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه الطبري

(8/574)


46- سورة الأَحْقَافِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تُفِيضُونَ} تَقُولُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَثَرَةٍ وَأُثْرَةٍ وَأَثَارَةٍ بَقِيَّةٌ مِنْ عِلْمٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ} لَسْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ وَقَالَ غَيْرُهُ {أَرَأَيْتُمْ} هَذِهِ الأَلِفُ إِنَّمَا هِيَ تَوَعُّدٌ إِنْ صَحَّ مَا تَدَّعُونَ لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ {أَرَأَيْتُمْ} بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ إِنَّمَا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَبَلَغَكُمْ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ خَلَقُوا شَيْئًا
قوله: "سورة حم الأحقاف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال بعضهم أثرة وأثرة وأثارة من علم" قال أبو عبيدة في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي بقية من علم، ومن قال أثرة أي بفتحتين فهو مصدر أثره يأثره فذكره. قال الطبري: قرأ الجمهور "أو أثارة" بالألف، وعن أبي عبد الرحمن السلمي "أو أثرة" بمعنى أو خاصة من علم أوتيتموه وأوثرتم به على غيركم. قلت: وبهذا فسره الحسن وقتادة،

(8/575)


قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله: أو أثرة من علم" قال: أثرة شيء يستخرجه فيثيره. قال وقال قتادة: أو خاصة من علم. وأخرج الطبري من طريق أبي سلمة عن ابن عباس في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: خط كانت تخطه العرب في الأرض. وأخرجه أحمد والحاكم وإسناده صحيح. ويروى عن ابن عباس: جودة الخط، وليس بثابت. وحمل بعض المالكية الخط هنا على المكتوب، وزعم أنه أراد الشهادة على الخط إذا عرفه، والأول هو الذي عليه الجمهور، وتمسك به بعضهم في تجويد الخط، ولا حجة فيه لأنه إنما جاء على ما كانوا يعتمدونه، فالأمر فيه ليس هو لإباحته. قوله: "وقال ابن عباس "بدعا من الرسل "ما كنت بأول الرسل" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وللطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وقال أبو عبيدة مثله قال: ويقال ما هذا مني ببدع أي ببديع. وللطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: إن الرسل قد كانت قبلي. قوله: "تفيضون تقولون" كذا لأبي ذر، وذكره غيره في أول السورة عن مجاهد، وقد وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله: "وقال غيره أرأيتم هذه الألف إنما هي توعد إن صح ما تدعون لا يستحق أن يعبد، وليس قوله أرأيتم برؤية العين إنما هو أتعلمون أبلغكم أن ما تدعون من دون الله خلقوا شيئا" هذا كله سقط لأبي ذر.

(8/576)


1- باب {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
4827- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْحِجَازِ اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا فَقَالَ خُذُوهُ فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا فَقَالَ مَرْوَانُ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فَقَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي"
قوله: "باب {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} - إلى قوله: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى آخرها، وأف قرأها الجمهور بالكسر، لكن نونها نافع وحفص عن عاصم، وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن - وهي رواية عن عاصم - بفتح الفاء بغير تنوين. قوله: "عن يوسف بن ماهك" بفتح الهاء وبكسرها ومعناه القمير تصغير القمر، ويجوز صرفه وعدمه كما سيأتي. قوله: "كان مروان على الحجاز: أي أميرا على المدينة من قبل معاوية. وأخرج الإسماعيلي والنسائي من طريق محمد بن زياد هو الجمحي قال: "كان مروان عاملا على المدينة" . قوله: "استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له" في رواية الإسماعيلي من الطريق المذكورة" فأراد معاوية أن يستخلف يزيد - يعني ابنه - فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم، فذكر يزيد، ودعا إلى بيعته وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر ". قوله: "فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا" قيل قال له: بيننا وبينكم ثلاث، مات

(8/576)


رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ولم يعهدوا. كذا قال بعض الشراح وقد اختصره فأفسده، والذي في رواية الإسماعيلي: فقال عبد الرحمن ما هي إلا هرقلية. وله من طريق شعبة عن محمد بن زياد: فقال مروان سنة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر. ولابن المنذر من هذا الوجه: أجئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم؟ ولأبي يعلى وابن أبي حاتم من طريق إسماعيل بن أبي خالد "حدثني عبد الله المدني قال: كنت في المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين رأيا حسنا في يزيد، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: هرقلية. إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده" . قوله: "فقال خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا" أي امتنعوا من الدخول خلفه إعظاما لعائشة. وفي رواية أبي يعلى "فنزل مروان عن المنبر حتى أتى باب عائشة فجعل يكلمها وتكلمه ثم انصرف" . قوله: "فقال مروان إن هذا الذي أنزل الله فيه" في رواية أبي يعلى "قال مروان: اسكت، ألست الذي قال الله فيه. فذكر الآية، فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" . قوله: "فقالت عائشة" في رواية محمد بن زياد: فقالت كذب مروان. قوله: "ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري" أي الآية التي في سورة النور في قصة أهل الإفك وبراءتها مما رموها به. وفي رواية الإسماعيلي: فقالت عائشة كذب والله ما نزلت فيه. وفي رواية له: والله ما أنزلت إلا في فلان ابن فلان الفلاني. في رواية له: لو شئت أن أسميه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه. وأخرج عبد الرزاق من طريق ميناء أنه سمع عائشة تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر وقالت: إنما نزلت في فلان ابن فلان سمت رجلا. وقد شغب بعض الرافضة فقال: هذا يدل على أن قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ليس هو أبا بكر، وليس كما فهم هذا الرافضي، بل المراد بقول عائشة فينا أي في بني أبي بكر، ثم الاستثناء من عموم النفي وإلا فالمقام يخصص، والآيات التي في عذرها في غاية المدح لها، والمراد نفي إنزال ما يحصل به الذم كما في قصة قوله: "والذي قال لوالديه" إلى آخره. والعجب مما أورده الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر. وقد تعقبه الزجاج فقال: الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق، وإلا فعبد الرحمن قد أسلم فحسن إسلامه وصار من خيار المسلمين. وقد قال الله في هذه الآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} إلى آخر الآية فلا يناسب ذلك عبد الرحمن وأجاب المهدوي عن ذلك بأن الإشارة بأولئك للقوم الذين أشار إليهم المذكور بقوله: "وقد خلت القرون من قبلي" فلا يمتنع أن يقع ذلك من عبد الرحمن قبل إسلامه ثم يسلم بعد ذلك، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن مجاهد قال: نزلت في عبد الله بن أبي بكر الصديق، قال ابن جريج: وقال آخرون في عبد الرحمن بن أبي بكر. قلت: والقول في عبد الله كالقول في عبد الرحمن فإنه أيضا أسلم وحسن إسلامه. ومن طريق أسباط عن السدي قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال لأبويه - وهما أبو بكر وأم رومان - وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان يعني مشايخ قريش ممن قد مات، فأسلم بعد فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} . قلت: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسنادا وأولى بالقبول. وجزم مقاتل في تفسيره أنها نزلت في عبد الرحمن. وأن قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} نزلت في ثلاثة من كفار قريش، والله أعلم.

(8/577)


2- باب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَارِضٌ السَّحَابُ
4828- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّم"
4829- قَالَتْ وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا"
[الحديث 4828- طرفه في: 6092]
قوله: "باب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية" ساقها غير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس: عارض السحاب" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: الريح إذا أثارت سحابا قالوا هذا عارض. قوله: "حدثنا أحمد" كذا لهم. وفي رواية أبي ذر "حدثنا أحمد بن عيسى". قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن الحارث، وأبو النضر هو سالم المدني، ونصف هذا الإسناد الأعلى مدنيون والأدنى مصريون. قوله: "حتى أرى منه لهواته" بالتحريك جمع لهاة وهي اللحمة المتعلقة في أعلى الحنك، ويجمع أيضا على لهي بفتح اللام مقصور. قوله: "إنما كان يتبسم" لا ينافي هذا ما جاء في الحديث الآخر "أنه ضحك حتى بدت نواجذه" لأن ظهور النواجذ - وهي الأسنان التي في مقدمة الفم أو الأنياب - لا يستلزم ظهور اللهاة. قوله: "عرفت الكراهية في وجهه" عبرت عن الشيء الظاهر في الوجه بالكراهة لأنه ثمرتها. ووقع في رواية عطاء عن عائشة في أول هذا الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" . وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه" الحديث أخرجه مسلم بطوله، وتقدم في بدء الخلق من قوله: "كان إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر" وقد تقدم لهذا الدعاء شواهد من حديث أنس وغيره في أواخر الاستسقاء. قوله: "عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض" ظاهر هذا أن الذين عذبوا بالريح غير الذين قالوا ذلك، لما تقرر أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأول، لكن ظاهر آية الباب على أن الذين عذبوا بالريح هم الذين قالوا هذا عارض، ففي هذه السورة "واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف" الآيات وفيها "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم" وقد أجاب الكرماني عن الإشكال بأن هذه القاعدة المذكورة إنما تطرد إذا لم يكن في السياق قرينة تدل على أنها عين الأول، فإن كان هناك قرينة كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} فلا. ثم قال: ويحتمل أن عادا قومان قوم بالأحقاف وهم أصحاب العارض وقوم غيرهم، قلت: ولا يخفى بعده. لكنه محتمل، فقد قال تعالى في سورة النجم {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} فإنه يشعر بأن ثم عادا أخرى. وقد أخرج قصة عاد الثانية أحمد بإسناد حسن عن

(8/578)


الحارث بن حسان البكري قال: "خرجت أنا والعلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث - وفيه - فقلت: أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد، قال: وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث ولكنه يستطعمه، فقلت: إن عادا قحطوا، فبعثوا قيل بن عنز إلى معاوية بن بكر بمكة يستسقى لهم، فمكث شهرا في ضيافته تغنيه الجرادتان، فلما كان بعد شهر خرج لهم فاستسقى لهم، فمرت بهم سحابات فاختار السوداء منها، فنودي: خذها رمادا رمدا، لا تبق من عاد أحدا" وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه بعضه، والظاهر أنه في قصة عاد الأخيرة لذكر مكة فيه، وإنما بنيت بعد إبراهيم حين أسكن هاجر وإسماعيل بواد غير ذي زرع، فالذين ذكروا في سورة الأحقاف هم عاد الأخيرة ويلزم عليه أن المراد بقوله تعالى: {أَخَا عَادٍ} نبي آخر غير هود. والله أعلم.

(8/579)


47- سورة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{أَوْزَارَهَا} آثَامَهَا حَتَّى لاَ يَبْقَى إِلاَّ مُسْلِمٌ {عَرَّفَهَا} بَيَّنَهَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وَلِيُّهُمْ {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أَيْ جَدَّ الأَمْرُ {فَلاَ تَهِنُوا} لاَ تَضْعُفُوا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَضْغَانَهُمْ} حَسَدَهُمْ {آسِنٍ} مُتَغَيِّرٍ
قوله: "سورة محمد صلى الله عليه وسلم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كذا لابن ذر، ولغيره {الَّذِينَ كَفَرُوا} حسب. قوله: "أوزارها آثامها حتى لا يبقى إلا مسلم" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قال: حتى لا يكون شرك، قال: والحرب من كان يقاتله، سماهم حربا. قال ابن التين: لم يقل هذا أحد غير البخاري. والمعروف أن المراد بأوزارها السلاح، وقيل حتى ينزل عيسى بن مريم انتهى. وما نفاه قد علمه غيره؛ قال ابن قرقول: هذا التفسير يحتاج إلى تفسير، وذلك لأن الحرب لا آثام لها، فلعله كما قال الفراء آثام أهلها، ثم حذف وأبقى المضاف إليه، أو كما قال النحاس: حتى تضع أهل الآثام فلا يبقى مشرك انتهى. ولفظ الفراء الهاء في أوزارها لأهل الحرب أي آثامهم، ويحتمل أن يعود على الحرب والمراد بأوزارها سلاحها انتهى. فجعل ما ادعى ابن التين أنه المشهور احتمالا. قوله: "عرفها: بينها" قال أبو عبيدة في قوله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} بينها لهم وعرفهم منازلهم. قوله: "وقال مجاهد: {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وليهم" كذا لغير أبي ذر وسقط له، وقد وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. قوله: "فإذا عزم الأمر أي جد الأمر" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "فلا تهنوا: فلا تضعفوا" وصله ابن أبي حاتم من طريقه كذلك. قوله: "وقال ابن عباس: أضغانهم حسدهم" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} قال: أعمالهم، خبثهم والحسد. قوله: "آسن متغير" كذا لغير أبي ذر هنا، وسيأتي في أواخر السورة.

(8/579)


1- باب {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
4830- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ

(8/579)


48- سورة الْفَتْحِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ بُورًا هَالِكِينَ {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} السَّحْنَةُ وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ التَّوَاضُعُ {شَطْأَهُ} فِرَاخَهُ {فَاسْتَغْلَظَ} غَلُظَ {سُوقِهِ} السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ وَيُقَالُ {دَائِرَةُ السَّوْءِ} كَقَوْلِكَ رَجُلُ السَّوْءِ وَدَائِرَةُ السُّوءِ الْعَذَابُ {تُعَزِّرُوهُ} تَنْصُرُوهُ {شَطْأَهُ} شَطْءُ السُّنْبُلِ تُنْبِتُ الْحَبَّةُ عَشْرًا أَوْ ثَمَانِيًا وَسَبْعًا فَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَآزَرَهُ} قَوَّاهُ وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ خَرَجَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَوَّاهُ بِأَصْحَابِهِ كَمَا قَوَّى الْحَبَّةَ بِمَا يُنْبِتُ مِنْهَا"
قوله: "سورة الفتح. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: بورا هالكين" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وسقط لغير أبي ذر. وقال أبو عبيدة: ويقال بار الطعام أي هلك، ومنه قول عبد الله بن الزبعرى:
يا رسول الله المليك إن لساني ... رائق ما فتقت إذ أنا بور
أي هالك. قوله: "سيماهم في وجوههم: السحنة" وفي رواية المستملي والكشميهني والقابسي "السجدة" والأول أولى، فقد وصله ابن أبي حاتم من طريق الحاكم عن مجاهد كذلك، والسحنة بالسين وسكون الحاء المهملتين وقيده ابن السكن والأصيلي بفتحهما قال عياض وهو الصواب عند أهل اللغة، وهو لين البشرة والنعمة، وقيل الهيئة،

(8/581)


وقيل الحال انتهى. وجزم ابن قتيبة بفتح الحاء أيضا وأنكر السكون وقد أثبته الكسائي والفراء. وقال العكبري: السحنة بفتح أوله وسكون ثانية لون الوجه. ولرواية المستملي ومن وافقه توجيه لأنه يريد بالسجدة أثرها في الوجه يقال لأثر السجود في الوجه سجدة وسجادة، ووقع في رواية النسفي "المسحة" . قوله: "وقال منصور عن مجاهد: التواضع" وصله علي بن المديني عن جرير عن منصور، ورويناه في "الزهد" لابن المبارك وفي "تفسير عبد بن حميد" وابن أبي حاتم عن سفيان وزائدة كلاهما عن منصور عن مجاهد قال: هو الخشوع، زاد في رواية زائدة "قلت ما كنت أراه إلا هذا الأثر الذي في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون" . قوله: "شطأه فراخه، فاستغلظ غلظ، سوقه الساق حاملة الشجرة" قال أبو عبيدة في قوله: "كزرع أخرج شطأه" أخرج فراخه، يقال قد أشطأه الزرع فآزره ساواه صار مثل الأم، فاستغلظ غلظ، فاستوى على سوقه الساق حاملة الشجر. وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "كزرع أخرج شطأه" قال: ما يخرج بجنب الحقلة فيتم وينمى، وبه في قوله: "على سوقه" قال: على أصوله. قوله: "شطأه شطء السنبل تنبت الحبة عشرا أو ثمانيا وسبعا فيقوى بعضه ببعض فذاك قوله تعالى: {فَآزَرَهُ} قواه، ولو كانت واحدة لم تقم على ساق، وهو مثل ضربه الله للنبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده ثم قواه بأصحابه كما قوى الحبة بما ينبت منها"1 . قوله: "دائرة السوء كقولك رجل السوء، ودائرة السوء العذاب" هو قول أبي عبيدة قال المعنى تدور عليهم.
" تنبيه " : قرأ الجمهور السوء بفتح السين في الموضعين، وضمها أبو عمرو وابن كثير. قوله: "يعزروه ينصروه" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "ويعزروه" قال: ينصروه، وقد تقدم في الأعراف "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه" وهذه ينبغي تفسيرها بالتوقير فرارا من التكرار، والتعزير يأتي بمعنى التعظيم والإعانة والمنع من الأعداء، ومن هنا يجيء التعزير بمعنى التأديب لأنه يمنع الجاني من الوقوع في الجناية، وهذا التفسير على قراءة الجمهور، وجاء في الشواذ عن ابن عباس "يعزروه" بزاءين من العزة. ثم ذكر في الباب خمسة أحاديث: الحديث الأول:
ـــــــ
(1) كذا بالنسخ ولم يذكر المؤلف هنا شيئا ولعله كان بيض له فتركه النساخ

(8/582)


1- بَاب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}
4833- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا

(8/582)


فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} "
4834- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ الْحُدَيْبِيَة"
4835- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَحْكِيَ لَكُمْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَعَلْت"
قوله: "عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر" هذا السياق صورته الإرسال، لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر بدليل قوله في أثنائه "قال عمر فحركت بعيري إلخ" وإلى ذلك أشار القابسي، وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر" أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: "لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان" انتهي. ورواية ابن غزوان - وهو عبد الرحمن أبو نوح المعروف بقراد - قد أخرجها أحمد عنه، واستدركها مغلطاي على البزار ظانا أنه غير ابن غزوان، وأورده الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق هذين ومن طريق يزيد بن أبي حكيم ومحمد بن حرب وإسحاق الحنيني أيضا، فهؤلاء خمسة رووه عن مالك بصريح الاتصال، وقد تقدم في المغازي أن الإسماعيلي أيضا أخرج طريق ابن عثمة، وكذا أخرجها الترمذي، وجاء في رواية الطبراني من طريق عبد الرحمن بن أبي علقمة عن ابن مسعود أن السفر المذكور هو عمرة الحديبية، وكذا في رواية معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس قال: "لما رجعنا من الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة فنزلت: {وسيأتي حديث سهل بن حنيف في ذلك قريبا. واختلف في المكان الذي نزلت فيه: فوقع عند محمد بن سعد بضجنان وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة، وعند الحاكم في "الإكليل" بكراع الغميم، وعن أبي معشر بالجحفة، والأماكن الثلاثة متقاربة. قوله: "فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه" يستفاد منه أنه ليس لكل كلام جواب، بل السكوت قد يكون جوابا لبعض الكلام. وتكرير عمر السؤال إما لكونه خشي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه أو لأن الأمر الذي كان يسأل عنه كان مهما عنده، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بعد ذلك، وإنما ترك إجابته أولا لشغله بما كان فيه من نزول الوحي. قوله: "ثكلت" بكسر الكاف "أم عمر" في رواية الكشميهني: "ثكلتك أم عمر" والثكل فقدان المرأة ولدها، دعا عمر على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح، ويحتمل أن يكون لم يرد الدعاء على نفسه حقيقة وإنما هي من الألفاظ التي تقال عند الغضب من غير قصد معناها. قوله: "نزرت" بزاي ثم راء بالتخفيف والتثقيل والتخفيف أشهر، أي ألححت عليه قاله ابن فارس والخطابي. وقال الداودي: معنى المثقل أقللت كلامه إذا سألته ما لا يجب أن يجيب عنه، وأبعد من فسر نزرت براجعت. قوله: "فما نشبت" بكسر المعجمة بعدها موحدة ساكنة، أي لم أتعلق بشيء غير ما ذكرت. قوله: "أن سمعت صارخا يصرخ بي" لم أقف على اسمه. قوله: "لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" أي لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح، قال ابن العربي: أطلق المفاضلة

(8/583)


بين المنزلة التي أعطيها وبين ما طلعت عليه الشمس، ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى ثم يزيد أحدهما على الآخر، ولا استواء بين تلك المنزلة والدنيا بأسرها. وأجاب ابن بطال بأن معناه أنها أحب إليه من كل شيء لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة فأخرج الخبر عن ذكر الشيء بذكر الدنيا إذ لا شيء سواها إلا الآخرة. وأجاب ابن العربي بما حاصله: أن أفعل قد لا يراد بها المفاضلة كقوله: {خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ولا مفاضلة بين الجنة والنار، أو الخطاب وقع على ما استقر في أنفس أكثر الناس فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها أو أنها المقصودة فأخبر بأنها عنده خير مما يظنون أن لا شيء أفضل منه انتهى. ويحتمل أن يراد المفاضلة بين ما دلت عليه وبين ما دل عليه غيرها من الآيات المتعلقة به فرجحها، وجميع الآيات وإن لم تكن من أمور الدنيا لكنها أنزلت لأهل الدنيا فدخلت كلها فيما طلعت عليه الشمس. قوله سمعت قتادة عن أنس "إنا فتحنا لك فتحا مبينا قال: الحديبية" هكذا أورده مختصرا، وقد أخرجه في المغازي بأتم من هذا، وبين أن بعض الحديث عن أنس موصول وبعضه عن عكرمة مرسل، وسمي ما وقع في الحديبية فتحا لأنه كان مقدمة الفتح وأول أسبابه، وقد تقدم شرح ذلك مبينا في كتاب المغازي. الحديث الثالث. قوله: "عن عبد الله بن مغفل" بالمعجمة والفاء وزن محمد. قوله: "فرجع فيها" أي ردد صوته بالقراءة، وقد أورده في التوحيد من طريق أخرى بلفظ: "كيف ترجيعه؟ قال: إإإ ثلاث مرات" قال القرطبي: هو محمول على إشباع المد في موضعه، وقيل كان ذلك بسبب كونه راكبا فحصل الترجيع من تحريك الناقة. وهذا فيه نظر لأن في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: "وهو يقرأ قراءة لينة، فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن" وكذا أخرجه أبو عبيدة في "فضائل القرآن" عن أبي النضر عن شعبة، وسأذكر تحرير هذه المسألة في شرح حديث: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" .

(8/584)


باب {ليغفر الله لك ماتقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما}
...
3 - بَاب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}
4836- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ هُوَ ابْنُ عِلاَقَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: "أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"
4837- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ سَمِعَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: "أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا" فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَع"
"قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه" وقد تقدم شرحه في صلاة الليل من كتاب الصلاة. قوله: "أنبأنا حيوة" هو ابن شريح المصري، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن النوفلي المعروف بيتيم عرروة، ونصف هذا الإسناد مصريون ونصفه مدنيون، وقد تقدم شرحه في صلاة الليل. قوله: "فلما كثر لحمه" أنكره الداودي وقال: المحفوظ "فلما بدن" أي كبر فكأن الراوي

(8/584)


تأوله على كثرة اللحم انتهى. وتعقبه أيضا ابن الجوزي فقال: لم يصفه أحد بالسمن أصلا، ولقد مات صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز الشعير في يوم مرتين، وأحسب بعض الرواة لما رأى "بدن" ظنه كثر لحمه، وليس كذلك وإنما هو بدن تبدينا أي أسن، قاله أبو عبيدة. قلت: وهو خلاف الظاهر، وفي استدلاله بأنه لم يشبع من خبز الشعير نظر، فإنه يكون من جملة المعجزات. كما في كثرة الجماع وطوافه في الليلة الواحدة على تسع وإحدى عشرة مع عدم الشبع وضيق العيش، وأي فرق بين تكثير المني مع الجوع وبين وجود كثرة اللحم في البدن مع قلة الأكل؟ وقد أخرج مسلم من طريق عبد الله بن عروة عن عائشة قالت: "لما بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالسا" لكن يمكن تأويل قوله: "ثقل" أي ثقل عليه حمل لحمه وإن كان قليلا لدخوله في السن. قوله: "صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع" في رواية هشام بن عروة عن أبيه "قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع" أخرجاه، وقد تقدم في آخر أبواب تقصير الصلاة، وأخرجا من طريق أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن عائشة بلفظ: "فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم ثم ركع" ولمسلم من طريق عمرة عن عائشة "فإذا أراد أن يركع قام فقرأ قدر ما يقرأ إنسان أربعين آية" وقد روى مسلم من طريق عبد الله بن شقيق عن عائشة في صفة تطوعه صلى الله عليه وسلم وفيه: "وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد" وهذا محمول على حالته الأولى قبل أن يدخل في السن جميعا بين الحديثين، وقد تقدم بيان ذلك والبحث فيه في صلاة الليل، وكثير من فوائده أيضا في آخر أبواب تقصير الصلاة.

(8/585)


3- بَاب {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}
4838- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قَالَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا"
قوله "بَاب {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} "قوله "حدثنا عبد الله بن مسلمة" كذا في رواية أبي ذر وأبي على بن الموطأ ووقع ثم غيرهما عبد منسوب فتردد فيه أبو مسعود بين أن يكون عبد الله بن رجاء وعبد الله بن صالح كاتب الليث وقال أبو على الجياني عندي أنه عبد الله بن صالح ورجح هذا المزي وحده بأن البخاري أخرج هذا الحديث بعينه في كتاب الأدب المفرد عن عبد الله بن صالح عن عبد العزيز قلت لكن لا يلزم من ذلك الجزم به وما المانع أن يكون له في الحديث الواحد شيخان عن شيخ واحد وليس الذي وقع في الأدب بأرجح مما وقع الجزم به في رواية أبي علي وأبي ذر وهما حافظان وقد أخرج البخاري في باب التكبير إذا علا شرفا من كتاب الحج حديثا قال فيه حدثنا عبد منسوب حدثنا عبد العزيز

(8/585)


ابن أبي سلمة كذا منسوب وتردد فيه أبو مسعود بين الرجلين الذين تردد فيهما في حديث الباب لكن وقع في رواية أبي على بن الموطأ حدثنا عبد الله بن يوسف فتعين المصير إليه لأنها زيادة من حافظ في الرواية فتقدم على من فسره بالظن قوله عن هلال بن أبي هلال تقدم القول فيه في أوائل البيوع قوله عن عبد الله بن عمرو بن العاص تقدم بيان الاختلاف فيه على عطاء بن يسار في البيوع أيضا وتقدم في تلك الرواية سبب تحديث عبد الله بن عمرو به وأنهم سألوه عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال أجل أنه لموصوف ببعض صفته في القرآن وللدارمي من طريق أبي صالح ذكوان عن كعب قال في السطر الأول محمد رسول الله عبدي المختار قوله إن هذه الآية التي في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا أي شاهدا على الأمة ومبشرا للمطيعين بالجنة وللعصاة بالنار أو شاهدا والجواب قبله بالإبلاغ قوله وحرزا بكسر المهملة وسكون الراء بعدها زاي أي حصنا والاميين هم العرب وقد تقدم شرح ذلك في البيوع قوله سميتك المتوكل أي على الله لقناعته باليسير والصبر على ما كان يكره قوله ليس كذا وقع بصيغة الغيبة على طريق الالتفات ولو جرى على النسق الأول لقال لست قوله بلفظ ولا غليظ هو موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ولا يعارض من قوله تعالى: {اغْلُظْ عَلَيْهِمْ} لأن النفي محمول على طبعه الذي جبل عليه والأمر محمول على المعالجة أو النفي بالنسبة للمؤمنين والأمر بالنسبة للكفار والمنافقين كما هو مصرح به في نفس الآية قوله ولا سحاب كذا فيه بالسين المهملة وهي لغة أثبتها الفراء وغيره وبالصاد أشهر وقد تقدم ذلك أيضا قوله ولا يدفع السيئه بالسيئة هو مثل قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} زاد في رواية كعب مولده بمكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام قوله وإن يقبضه أي يميته قوله حتى يقيم به أي حتى ينفي الشرك ويثبت التوحيد والملة العوجاء ملة الكفر قوله فيفتح بها أي بكلمة التوحيد أعينا عميا أي عن الحق وليس هو على حقيقته ووقع في رواية القابسي أعين عمي بالإضافة وكذا الكلام في الآذان والقلوب وفي مرسل جبير بن نفير بإسناد صحيح ثم الدارمي ليس بوهن ولا كسل ليختن قلوبا غلفا ويفتح أعينا عميا ويسمع أذانا صما ويقيم ألسنة عوجاء حتى يقال لا إله إلا الله وحده تنبيه قيل أني بجمع القلة في قوله أعين للإشارة إلى أن المؤمنين أقل من الكافرين وقيل بل جمع القلة قد يأتي في موضع الكثرة وبالعكس كقوله {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} والأول أولى ويحتمل أن يكون هو نكتة العدول إلى جمع القلة أو للمؤاخاة في قوله آذانا وقد ترد القلوب على المعنى الأول وجوابه أنه لم يسمع للقلوب جمع قلة كما لم يسمع للآذان جمع كثرة

(8/586)


4- بَاب {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ}
4839- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَفَرَسٌ لَهُ مَرْبُوطٌ فِي الدَّارِ فَجَعَلَ يَنْفِرُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا وَجَعَلَ يَنْفِرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآن"

(8/586)


قوله "بَاب {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} ذكر في حديث البراء في نزول السكينة سيأتي بتمامه في فضائل القرآن مع شرحه إن شاء الله تعالى.

(8/587)


5- بَاب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
4840- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَة"
4841- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ صُهْبَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ إِنِّي مِمَّنْ شَهِدَ الشَّجَرَةَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَذْفِ "
[الحديث 4841- طرفاه في: 5479، 6220]
4842- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَل"
يَأْخُذُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ
4843-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ "
4844- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا يَعْلَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} فَقَالَ عَلِيٌّ نَعَمْ فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ يَعْنِي الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ قَالَ: بَلَى قَالَ فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا" فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْح"
قوله "بَاب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث جابر" كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة "وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب المغازي. قوله: "علي بن عبد الله" هو ابن المديني كذا للأكثر، ووقع في رواية المستملي "علي بن سلمة" وهو اللبقي بفتح اللام والموحدة ثم قاف خفيفة وبه جزم الكلاباذي. قوله: "عن عبد الله بن المغفل المزني ممن شهد الشجرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف" بخاء معجمة أي الرمي بالحصى بين إصبعين، وسيأتي الكلام عليه في الأدب. قوله: "وعن عقبة بن صهبان سمعت عبد الله بن مغفل المزني في البول في المغتسل" كذا للأكثر وزاد في رواية الأصيلي وكذا لأبي ذر عن السرخسي

(8/587)


"يأخذ منه الوسواس" وهذان الحديثان المرفوع والموقوف الذي عقبه به لا تعلق لهما بتفسير هذه الآية بل ولا هذه السورة، وإنما أورد الأول لقول الراوي فيه: "ممن شهد الشجرة" فهذا القدر هو المتعلق بالترجمة، ومثله ما ذكره بعده عن ثابت بن الضحاك وذكر المتن بطريق التبع لا القصد. وأما الحديث الثاني فأورده لبيان التصريح بسماع عقبة بن صهبان من عبد الله بن مغفل، وهذا من صنيعه في غاية الدقة وحسن التصرف فلله دره. وهذا الحديث قد أخرجه أبو نعيم في المستخرج والحاكم من طريق يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن مغفل قال: "نهي - أو زجر - أن يبال في المغتسل" وهذا يدل على أن زيادة ذكر الوسواس التي عند الأصيلي ومن وافقه في هذه الطريق وهم. نعم أخرج أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من طريق أشعث عن الحسن عن عبد الله بن مغفل رفعه: "لا يبولن أحدكم في مستحمه، فإن عامة الوسواس منه" قال الترمذي غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أشعث، وتعقب بأن الطبري أخرجه من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن أيضا، وهذا التعقب وارد على الإطلاق، وإلا فإسماعيل ضعيف. قوله: "عن خالد" هو الحذاء. قوله: "عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك وكان من أصحاب الشجرة" هكذا ذكر القدر الذي يحتاج إليه من هذا الحديث ولم يسق المتن، ويستفاد من ذلك أنه لم يجر على نسق واحد في إيراد الأشياء التبعية، بل تارة يقتصر على موضع الحاجة من الحديث وتارة يسوقه بتمامه، فكأنه يقصد التفنن بذلك. وقد تقدم لحديث ثابت المذكور طريق أخرى في غزوة الحديبية. قوله: "حدثنا يعلى" هو ابن عبيد الطنافسي. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن سياه" بمهملة مكسورة ثم تحتانية خفيفة وآخر هاء منونة، تقدم في أواخر الجزية. قوله: "أتيت أبا وائل أساله" لم يذكر المسئول عنه، وبينه أحمد في روايته عن يعلى بن عبيد ولفظه: "أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي - يعني الخوارج - قال: كنا بصفين فقال رجل" فذكره. قوله: "فقال كنا بصفين" هي مدينة قديمة على شاطئ الفرات بين الرقة ومنبج كانت بها الواقعة المشهورة بين علي ومعاوية. قوله: "فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله" ساق أحمد إلى أخر الآية. هذا الرجل هو عبد الله بن الكواء، ذكره الطبري، وكان سبب ذلك أن أهل الشام لما كاد أهل العراق يغلبونهم أشار عليهم عمرو بن العاص برفع المصاحف والدعاء إلى العمل بما فيها، وأراد بذلك أن تقع المطاولة فيستريحوا من الشدة التي وقعوا فيها فكان كما ظن، فلما رفعوها وقالوا بيننا وبينكم كتاب الله، وسمع من بعسكر علي وغالبهم ممن يتدين، قال قائلهم ما ذكر؛ فأذعن علي إلى التحكيم موافقة لهم واثقا بأن الحق بيده. وقد أخرج النسائي هذا الحديث عن أحمد بن سليمان عن يعلى بن عبيد بالإسناد الذي أخرجه البخاري فذكر الزيادة نحو ما أخرجها أحمد، وزاد بعد قوله كنا بصفين "قال فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل المصحف إلى علي فادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك، فأتي به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله، فقال علي: أنا أولى بذلك بيننا. كتاب الله، فجاءته الخوارج - ونحن يومئذ نسميهم القراء - وسيوفهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ننتظر بهؤلاء القوم، ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف" . قوله: "فقال علي نعم" زاد أحمد والنسائي: "أنا أولى بذلك" أي بالإجابة إذا دعيت إلى العمل بكتاب الله لأنني واثق بأن الحق بيدي. قوله: "وقال سهل بن حنيف اتهموا أنفسكم" أي في هذا الرأي لأن كثيرا منهم أنكروا التحكيم وقالوا لا حكم إلا لله، فقال على كلمة حق أريد

(8/588)


بها باطل، وأشار عليهم كبار الصحابة بمطاوعة علي وأن لا يخالف ما يشير به لكونه أعلم بالمصلحة، وذكر لهم سهل بن حنيف ما وقع لهم بالحديبية وأنهم رأوا يومئذ أن يستمروا على القتال ويخالفوا ما دعوا إليه من الصلح ثم ظهر أن الأصلح هو الذي كان شرع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وسيأتي ما يتعلق بهذه القصة في كتاب استتابة المرتدين إن شاء الله تعالى، وسبق ما يتعلق بالحديبية مستوفى في كتاب الشروط.

(8/589)


49- سورة الْحُجُرَاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لاَ تُقَدِّمُوا} لاَ تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ {امْتَحَنَ} أَخْلَصَ {وَلاَ تَنَابَزُوا} يُدْعَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ {يَلِتْكُمْ} يَنْقُصْكُمْ أَلَتْنَا نَقَصْنَا
قوله: "سورة الحجرات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، واقتصر غيره على الحجرات حسب. والحجرات بضمتين جمع حجرة بسكون الجيم والمراد بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال مجاهد: لا تقدموا لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه" وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، ورويناه في كتاب "ذم الكلام" من هذا الوجه.
" تنبيه " : ضبط أبو الحجاج البناسي "تقدموا" بفتح القاف والدال وهي قراءة ابن عباس وقراءة يعقوب الحضرمي وهي التي ينطبق عليها هذا التفسير، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا فأنزلها الله، قال وقال الحسن: هم ناس من المسلمين ذبحوا قبل الصلاة يوم النحر فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة. قوله: "امتحن أخلص" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه بلفظه، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: أخلص الله قلوبهم فيما أحب. قوله: "ولا تنابزوا: يدعي بالكفر بعد الإسلام" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ: "لا يدعو الرجل بالكفر وهو مسلم:"وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} قال: لا يطعن بعضكم على بعض {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} قال: لا تقل لأخيك المسلم: يا فاسق يا منافق. وعن الحسن قال: كان اليهودي يسلم فيقال له يا يهودي. فنهوا عن ذلك. وللطبري من طريق عكرمة نحوه. وروى أحمد وأبو داود من طريق الشعبي حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: "فينا نزلت: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله لقبان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: إنه يغضب منه، فنزلت" . قوله: "يَلِتْكُمْ ينقصكم، ألتنا نقصنا" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه، وبه في قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال: ما نقصنا الآباء للأبناء. "تنبيه" : هذا الثاني من سورة الطور ذكره هنا استطرادا، وإنما يتناسب ألتنا مع الآية الأخرى على قراءة أبي عمرو هنا فإنه قرأ: {لا يألتكم} بزيادة همزة، والباقون بحذفها، وهو من لات يليت قاله أبو عبيدة، قال وقال رؤبة:
وليلة ذات ندا سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
وتقول العرب: ألاتني حقي وألاتني عن حاجتي أي صرفني. وأما قوله: "وما ألتناهم" فهو من ألت يألت أي نقص.

(8/589)


1 - باب {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآيَةَ تَشْعُرُونَ تَعْلَمُونَ وَمِنْهُ الشَّاعِرُ
4845- حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ وَأَشَارَ الآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ لاَ أَحْفَظُ اسْمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ مَا أَرَدْتَ إِلاَّ خِلاَفِي قَالَ مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْر"
4846- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ مُوسَى فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: "إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة"
قوله: "باب {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية" كذا للجميع. قوله: "تشعرون تعلمون ومنه الشاعر" هو كلام أبي عبيدة. قوله: "حدثنا يسرة" بفتح الياء الأخيرة والمهملة وجد جميل بالجيم وزن عظيم ونافع بن عمر هو الجمحي المكي، وليس هو نافع مولى ابن عمر، ونبه الكرماني هنا على شيء لا يتخيله من له أدنى إلمام بالحديث والرجال فقال: ليس هذا الحديث ثلاثيا لأن عبد الله بن أبي مليكة تابعي. قوله: "كاد الخيران" كذا للجميع بالمعجمة بعدها تحتانية ثقيلة وحكى بعض الشراح رواية بالمهملة وسكون الموحدة. "يهلكان" كذا لأبي ذر. وفي رواية: "يهلكا" بحذف النون؛ قال ابن التين كذا وقع بغير نون وكأنه نصب بتقدير أن انتهى. وقد أخرجه أحمد عن وكيع عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "أن يهلكا" وهو بكسر اللام ونسبها ابن التين لرواية أبي ذر، ثم هذا السياق صورته الإرسال لكن ظهر في آخره أن ابن أبي مليكة حمله عن عبد الله بن الزبير، وسيأتي في الباب الذي بعده التصريح بذلك ولفظه عن ابن أبي مليكة "أن عبد الله بن الزبير أخبرهم" فذكره بكماله. قوله: "رفعا أصواتهما حين قدم عليه ركب بني تميم" في رواية أحمد "وفد بني تميم" وكان قدومهم سنة تسع بعد أن أوقع عيينة بن حصن ببني العنبر وهم بطن من بني تميم، ذكر ذلك أبو الحسن المدائني قوله: "فأشار أحدهما" هو عمر، بينه ابن جريج في الرواية التي في الباب بعده، ووقع عند الترمذي من رواية مؤمل بن إسماعيل عن نافع بن عمر بلفظ: "إن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر لا تستعمله يا رسول

(8/590)


الله" الحديث. وهذا يخالف رواية ابن جريج، وروايته أثبت من مؤمل بن إسماعيل والله أعلم. قوله: "بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع" الأقرع لقب واسمه فيما نقل ابن دريد فراس بن حابس بن عقال بكسر المهملة وتخفيف القاف ابن محمد بن سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي، وكانت وفاة الأقرع بن حابس في خلافة عثمان. قوله: "وأشار الآخر" هو أبو بكر، بينه ابن جريج في روايته المذكورة برجل آخر فقال نافع: لا أحفظ اسمه، سيأتي في الباب الذي بعده من رواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة أنه القعقاع بن معبد بن زرارة أي ابن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي. قال الكلبي في "الجامع" : كان يقال له تيار الفرات لجوده، قلت: وله ذكر في غزوة حنين، أورده البغوي في "الصحابة" بإسناد صحيح. قوله: "ما أردت إلا خلافي" أي ليس مقصودك إلا مخالفة قولي. وفي رواية أحمد "إنما أردت خلافي" وهذا هو المعتمد. وحكى ابن التين أنه وقع هنا "ما أردت إلى خلافي" بلفظ حرف الجر، و "ما" في هذا استفهامية "وإلى" بتخفيف اللام، والمعنى أي شيء قصدت منتهيا إلى مخالفتي. وقد وجدت الرواية التي ذكرها ابن التين في بعض النسخ لأبي ذر عن الكشميهني. قوله: "فارتفعت أصواتهما" في رواية ابن جريج "فتماريا" حتى ارتفعت أصواتهما. قوله: "فأنزل الله" في رواية ابن جريج "فنزل في ذلك" . قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية" زاد وكيع كما سيأتي في الاعتصام "إلى قوله:{عظيم" وفي رواية ابن جريج "فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب. قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة {لا تُقَدِّمُوا} ولكن لما اتصل بها قوله: "لا ترفعوا" تمسك عمر منها بخفض صوته، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم، والذي يختص بهم قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: يا محمد إن مدحي زين وإن شتمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل" ، ونزلت" . قلت: ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها، فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق، ولعل البخاري استشعر ذلك فأورد قصة ثابت بن قيس عقب هذا ليبين ما أشرت إليه من الجمع، ثم عقب ذلك كله بترجمة "باب قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} إشارة إلى قصة جفاة الأعراب من بني تميم، لكنه لم يذكر في الترجمة حديثا كما سأبينه قريبا، وكأنه ذكر حديث ثابت لأنه هو الذي كان الخطيب لما وقع الكلام في المفاخرة بين بني تميم المذكورين كما أورده ابن إسحاق في المغازي مطولا. قوله: "فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه" في رواية وكيع في الاعتصام "فكان عمر بعد ذلك إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه" . قلت وقد أخرج ابن المنذر من طريق محمد بن عمرو بن علقمة أن أبا بكر الصديق قال مثل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل، وقد أخرجه الحاكم موصولا من حديث أبي هريرة نحوه، وأخرجه ابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبي بكر قال: "لما نزلت لا ترفعوا أصواتكم الآية قال أبو بكر: قلت يا رسول الله آليت أن لا أكلمك إلا كأخي السرار" . قوله: "ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر" قال مغلطاي: يحتمل أنه أراد بذلك أبا بكر عبد الله بن الزبير أو أبا بكر عبد الله بن أبي مليكة فإن أبا مليكة له ذكر في الصحابة. قلت: وهذا بعيد عن الصواب، بل قرينة ذكر عمر ترشد إلى أن مراده أبو بكر

(8/591)


الصديق. وقد وقع في رواية الترمذي قال: "وما ذكر ابن الزبير جده" وقد وقع في رواية الطبري من طريق مؤمل بن إسماعيل عن نافع بن عمر فقال في آخره: "وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر" وفيه تعقب على من عد في الخصائص النبوية أن أولاد بنته ينسبون إليه لقوله: " إن ابني هذا سيد" وقد أنكره القفال على ابن القاص وعده القضاعي فيما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء، وفيه نظر فقد احتج بن يحيى بن يعمر بأن عيسى نسب إلى إبراهيم وهو ابن بنته، وهو استدلال صحيح، وإطلاق الأب على الجد مشهور، وهو مذهب أبي بكر الصديق كما تقدم في المناقب. قوله: "افتقد ثابت بن قيس" تقدم شرحه مستوفى في أواخر علامات النبوة. قوله: "فقال رجل يا رسول الله" هو سعد بن معاذ بينه حماد بن سلمة في روايته لهذا الحديث عن أنس، وقيل هو عاصم بن عدي، وقيل أبو مسعود، والأول المعتمد. قوله: "أنا أعلم لك علمه" أي أعلم لأجلك علما متعلقا به. قول "فقال موسى" هو ابن أنس راوي الحديث عن أنس.

(8/592)


2- باب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}
4847- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ وَقَالَ عُمَرُ بَلْ أَمِّرْ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إِلَى أَوْ إِلاَّ خِلاَفِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حَتَّى انْقَضَتْ الآيَةُ
قوله: "باب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} ذكر فيه حديث ابن الزبير وقد تقدم شرحه في الذي قبله، وروى الطبري من طريق مجاهد قال: هم أعراب بني تميم. ومن طريق أبي إسحاق عن البراء قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن حمدي زين وإن ذمي شين، فقال: ذاك الله تبارك وتعالى"وروى من طريق معمر عن قتادة مثله مرسلا وزاد: "فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية" . ومن طريق الحسن نحوه. قوله: "عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة" كذا قال حجاج بن محمد تقدم في التفسير من طريق هشام ابن يوسف عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة بالعنعنة، وتابعه هشام بن يوسف، وأخرجه ابن المنذر من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج فزاد فيه رجلا قال: "أخبرني رجل أن ابن أبي ملكية أخبره" فيحمل على أن ابن جريج حمله عن ابن أبي ملكية بواسطة، ثم لقيه فسمعه منه

(8/592)


باب {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خير لهم}
...
باب {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}
قوله: "باب قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} هكذا في جميع الروايات الترجمة بغير حديث، وقد أخرج الطبري والبغوي وابن أبي عاصم في كتبهم في الصحابة من طريق موسى بن عقبة عن أبي سلمة قال: "حدثني الأقرع بن حابس التميمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، اخرج إلينا، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الحديث:"وسياقه لابن جرير، قال ابن منده: الصحيح عن أبي سلمة أن الأقرع مرسل،

(8/592)


50- سورة ق
{رَجْعٌ بَعِيدٌ} رَدٌّ {فُرُوجٍ} فُتُوقٍ وَاحِدُهَا فَرْجٌ {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَرِيدَاهُ فِي حَلْقِهِ وَالْحَبْلُ حَبْلُ الْعَاتِقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ} مِنْ عِظَامِهِمْ {تَبْصِرَةً} بَصِيرَةً {حَبَّ الْحَصِيدِ} الْحِنْطَةُ {بَاسِقَاتٍ} الطِّوَالُ {أَفَعَيِينَا} أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ {وَقَالَ قَرِينُهُ} الشَّيْطَانُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ {فَنَقَّبُوا} ضَرَبُوا {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ {رَقِيبٌ عَتِيدٌ} رَصَدٌ {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} الْمَلَكَانِ كَاتِبٌ وَشَهِيدٌ شَهِيدٌ شَاهِدٌ بِالْغَيْبِ {مِنْ لُغُوبٍ} النَّصَبُ وَقَالَ غَيْرُهُ {نَضِيدٌ} الْكُفُرَّى مَا دَامَ فِي أَكْمَامِهِ وَمَعْنَاهُ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ {وَإِدْبَارِ النُّجُومِ} {وَأَدْبَارِ السُّجُودِ} كَانَ عَاصِمٌ يَفْتَحُ الَّتِي فِي ق وَيَكْسِرُ الَّتِي فِي الطُّورِ وَيُكْسَرَانِ جَمِيعًا وَيُنْصَبَانِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَوْمَ الْخُرُوجِ} يَوْمَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْبَعْثِ مِنْ الْقُبُورِ
قوله: "سورة ق. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر، وروي عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ق اسم من أسماء القرآن. وعن ابن جريج عن مجاهد قال: جبل محيط بالأرض، وقيل هي القاف من قوله قضي الأمر، دلت على بقية الكلمة كما قال الشاعر "قلت لها قفي لنا قالت قاف" .
قوله: "رجع بعيد: رد" هو قول أبي عبيدة بلفظه. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج قال: أنكروا البعث فقالوا من يستطيع أن يرجعنا ويحيينا. قوله: "فروج: فتوق واحدها فرج" أي بسكون الراء، هو قول أبي عبيدة بلفظه، وروى الطبري من طريق مجاهد قال. الفرج الشق. قوله: "من حبل الوريد وريداه في حلقه، والحبل حبل العاتق" سقط هذا لغير أبي ذر، وهو قول أبي عبيدة بلفظه وزاد: فأضافه إلى الوريد كما يضاف الحبل إلى العاتق. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:{مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} قال من عرق العنق. قوله: "وقال مجاهد: ما تنقص الأرض منهم من عظامهم" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح بهذا، وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يعني الموتى تأكلهم الأرض إذا ماتوا. وعن جعفر بن سليمان عن عوف عن الحسن: أي من أبدانهم. "تنبيه" : زعم ابن التين أنه وقع في البخاري بلفظ: "من أعظامهم" ثم استشكله وقال: الصواب من عظامهم. وفعل بفتح الفاء وسكون العين لا يجمع على أفعال إلا نادرا. قوله: "تبصرة بصيرة" وصله الفريابي عن مجاهد هكذا. وقاله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {تَبْصِرَةً} قال: نعمة من الله عز وجل. قوله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} الحنطة "وصله الفريابي أيضا عنه. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هو البر والشعير. قوله: {بَاسِقَاتٍ} الطوال" وصله

(8/593)


الفريابي أيضا كذلك. وروى الطبري من طريق عبد الله بن شداد قال بسوقها طولها في قامة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يعني طولها. قوله: {أَفَعَيِينَا} أفأعيي علينا" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "رقيب عتيد رصد" وصله الفريابي أيضا كذلك. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يكتب كل ما تكلم به من خير وشر. ومن طريق سعيد بن أبي عروبة قال: قال الحسن وقتادة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} أي ما يتكلم به من شيء إلا كتب عليه. وكان عكرمة يقول: إنما ذلك في الخير والشر قوله: "سائق وشهيد: الملكان كاتب وشهيد" وصله الفريابي كذلك. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن قال: سائق يسوقها وشهيد يشهد عليها بعملها. وروى نحوه بإسناد موصول عن عثمان. قوله: "وقال قرينه الشيطان الذي قيض له" وصله الفريابي أيضا؛ وقال عبد الرزاق عن قتادة نحو. قوله: "فنقبوا ضربوا" وصله الفريابي أيضا وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول "فنقبوا في البلاد" قال: أثروا. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَنَقَّبُوا} طافوا وتباعدوا، قال امرؤ القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
قوله: "أو ألقى السمع: لا يحدث نفسه بغيره" وصله الفريابي أيضا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: هو رجل من أهل الكتاب ألقى السمع أي استمع للقرآن وهو شهيد على ما في يديه من كتاب الله أنه يجد النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا، قال معمر وقال الحسن: هو منافق استمع ولم ينتفع. قوله: "حين أنشأكم وأنشأ خلقكم" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق، وهو بقية تفسير قوله: "أفعيينا" وحقه أن يكتب عندها. قوله: "شهيد شاهد بالغيب" في رواية الكشميهني: "بالقلب" ووصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ الأكثر. قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} من نصب" وصله الفريابي كذلك، وتقدم في بدء الخلق أيضا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: قالت اليهود إن الله خلق الخلق في ستة أيام وفرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . قوله: "وقال غيرهم نضيد: الكفري ما دام في أكمامه، ومعناه منضود بعضه على بعض، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد" هو قول أبي عبيدة بمعناه. قوله: {وأدبار النجوم} وأدبار السجود" كان عاصم يفتح التي في ق ويكسر التي في الطور ويكسران جميعا وينصبان" هو كما قال، ووافق عاصما أبو عمرو وابن عامر والكسائي على الفتح هنا، وقرأ الباقون بالكسر هنا، وقرأ الجمهور بالفتح في الطور وقرأها بالكسر عاصم على ما نقل المصنف؛ ونقلها غيره في الشواذ، فالفتح جمح دبر والكسر مصدر أدبر يدبر إدبارا، ورجح الطبري الفتح فيهما. قوله: "وقال ابن عباس يوم الخروج يوم يخرجون إلى البعث من القبور" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس بلفظه، وتقدم في الجنائز نحوه.

(8/594)


1- باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
4848- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَط"
[الحديث 4848- طرفاه في: 6661، 1384]

(8/594)


4849- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أَبُو سُفْيَانَ "يُقَالُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَيَضَعُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُولُ قَطْ قَط"
[الحديث 4849- طرفاه في: 4850، 7449]
4850- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَتْ الْجَنَّةُ مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا"
قوله: "باب قوله {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} اختلف النقل عن قول جهنم {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} فظاهر أحاديث الباب أن هذا القول منها لطلب المزيد، وجاء عن بعض السلف انه استفهام إنكار كأنها تقول ما بقي في موضع للزيادة، فروى الطبري من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أي هل من مدخل قد امتلأت؟ ومن طريق مجاهد نحوه، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس وهو ضعيف ورجح الطبري أنه لطلب الزيادة على ما دلت عليه الأحاديث المرفوعة. وقال الإسماعيلي: الذي قاله مجاهد موجه، فيحمل على أنها قد تزاد وهي عند نفسها لا موضع فيها للمزيد. قوله في حديث أنس "يلق في النار وتقول هل من مزيد" في رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "لا تزال جهنم يلقى فيها" أخرجه أحمد ومسلم. قوله: "حتى يضع قدمه فيها" كذا في رواية شعبة. وفي رواية سعيد "حتى يضع رب العزة فيها قدمه" . قوله: "فتقول قط قط" في رواية سعيد "فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك" وفي رواية سليمان التيمي عن قتادة "فتقول قد قد" بالدال بدل الطاء، وفي حديث أبي هريرة "فيضع الرب عليها قدمه فتقول قط قط" وفي الرواية التي تليها "فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض" وفي حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى "وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي فتقول قدني قدني" وقوله: "قط قط" أي حسبي حسبي، وثبت بهذا التفسير عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة، وقط بالتخفيف ساكنا، ويجوز الكسر بغير إشباع، ووقع في بعض النسخ عن أبي ذر "قطي قطي" بالإشباع و "قطني" بزيادة نون مشبعة. ووقع في حديث أبي سعيد ورواية سليمان التيمي بالدال بدل الطاء وهي لغة أيضا، كلها بمعنى يكفي. وقيل قط صوت جهنم. والأول هو الصواب عند الجمهور. ثم رأيت في

(8/595)


تفسير ابن مردويه من وجه آخر عن أنس ما يؤيد الذي قبله ولفظه: "فيضعها عليها فتقطقط كما يقطقط السقاء إذا امتلا" انتهى. فهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن في سنده موسى بن مطير وهو متروك. واختلف في المراد بالقدم فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله1 وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك فقال: المراد إذلال جهنم، فإنها "إذا بالغت في الطغيان وطلب المزيد أذلها الله فوضعها تحت القدم، وليس المراد حقيقة القدم، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء في ضرب الأمثال ولا تريد أعيانها، كقولهم رغم أنفه وسقط في يده. وقيل المراد بالقدم الفرط السابق أي يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب، قال الإسماعيلي: القدم قد يكون اسما لما قدم كما يسمى ما خبط من ورق خبطا، فالمعنى ما قدموا من عمل. وقيل المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين فالضمير للمخلوق معلوم، أو يكون هناك مخلوق اسمه قدم، أو المراد بالقدم الأخير لأن القدم آخر الأعضاء فيكون المعنى حتى يضع الله في النار آخر أهلها فيها ويكون الضمير للمزيد. وقال ابن حبان في صحيحه بعد إخراجه: هذا من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عصى الله فيها فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة المذكورة فتمتلئ لأن العرب تطلق القدم على الموضع، قال تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} يريد موضع صدق. وقال الداودي: المراد بالقدم قدم صدق وهو محمد، والإشارة بذلك إلى شفاعته، وهو المقام المحمود فيخرج من النار من كان في قلبه شيء من الإيمان. وتعقب بأن هذا منابذ لنص الحديث لأن فيه يضع قدمه بعد أن قالت هل من مزيد، والذي قاله مقتضاه أنه ينقص منها، وصريح الخبر أنها تنزوي بما يجعل فيها لا يخرج منها. قلت: ويحتمل أن يوجه بأن من يخرج منها يبدل عوضهم من أهل الكفر كما حملوا عليه حديث أبي موسى في صحيح مسلم: "يعطي كل مسلم رجلا من اليهود والنصارى فيقال: هذا فداءك من النار" فإن بعض العلماء قال: المراد بذلك أنه يقع عند إخراج الموحدين، وأنه يجعل مكان كل واحد منهم واحدا من الكفار بأن يعظم حتى يسد مكانه ومكان الذي خرج، وحينئذ فالقدم سبب للعظم المذكور، فإذا وقع العظم حصل الملء الذي تطلبه. ومن التأويل البعيد قول من قال: المراد بالقدم قدم إبليس، وأخذه من قوله: "حتى يضع الجبار فيها قدمه" وإبليس أول من تكبر فاستحق أن يسمى متجبرا وجبارا، وظهور بعد هذا يغني عن تكلف الرد عليه. وزعم ابن الجوزي أن الرواية التي جاءت بلفظ: "الرجل" تحريف من بعض الرواة لظنه أن المراد بالقدم الجارحة فرواها بالمعنى فأخطأ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالرجل إن كانت محفوظة الجماعة كما تقول رجل من جراد، فالتقدير يضع فيها جماعة، وأضافهم إليه إضافة اختصاص. وبالغ ابن فورك فجزم بأن الرواية بلفظ: "الرجل" غير ثابتة عند أهل النقل، وهو مردود لثبوتها في الصحيحين. وقد أولها غيره بنحو ما تقدم في القدم فقيل رجل بعض المخلوقين، وقيل إنها اسم مخلوق من المخلوقين، وقيل إن الرجل تستعمل في الزجر كما تقول وضعته تحت رجلي، وقيل إن الرجل تستعمل في طلب الشيء على سبيل الجد كما تقول قام في هذا الأمر على رجل. وقال أبو الوفاء بن عقيل: تعالى الله عن أنه لا يعمل أمره في
ـــــــ
(1) وهذا هو الصواب الذي كان عليه سلف الأمة من الصحابة إلى أئمة المتبوعين، وباب التأويل هو الذي دخل منه جميع أصحاب مذاهب الضلال إلى ضلالاتهم، والغيب قد استأثر الله بعلمه، وكما قال الإمام مالك في الاستواء "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" .

(8/596)


النار حتى يستعين عليها بشيء من ذاته أو صفاته وهو القائل للنار "كوني بردا وسلاما" فمن يأمر نارا أججها غيره أن تنقلب عن طبعها وهو الإحراق فتنقلب كيف يحتاج في نار يؤججها هو إلى استعانة انتهى. ويفهم جوابه من التفصيل الواقع ثالث أحاديث الباب حيث قال فيه: "ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار" فذكر الحديث وقال فيه: "ولا يظلم الله من خلقه أحدا" فإن فيه إشارة إلى أن الجنة يقع امتلاؤها بمن ينشئوهم الله لأجل ملئها، وأما النار فلا ينشئ لها خلقا بل يفعل فيها شيئا عبر عنه بما ذكر يقتضي لها أن ينضم بعضها إلى بعض فتصير ملأى ولا تحتمل مزيدا، وفيه دلالة على أن الثواب ليس موقوفا على العمل بل ينعم الله بالجنة على من لم يعمل خيرا قط كما في الأطفال. قوله: "حدثنا محمد بن موسى القطان" هو الواسطي، وأبو سفيان الحميري أدركه البخاري بالسن ولم يلقه. قوله: "حدثنا عوف" لأبي سفيان فيه سند آخر أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمر الجزائري عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة مطولا، وقوله: "رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان" القائل ذلك محمد ابن موسى الراوي عنه. وقال يوقفه من الرباعي وهو لغة والفصيح يقفه من الثلاثي، والمعنى أنه كان يرويه في أكثر الأحوال موقوفا ويرفعه أحيانا، وقد رفعه غيره أيضا. قوله: "أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة" وقع في مصنف عبد الرزاق في آخره: "قال معمر واخبرني أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله" وأخرجه مسلم بالوجهين. قوله: "تحاجت" أي تخاصمت. قوله: "بالمتكبرين والمتجبرين" قيل هما بمعنى، وقيل المتكبر المتعاظم بما ليس فيه والمتجبر الممنوع الذي لا يوصل إليه وقيل الذي لا يكترث بأمر. قوله: "ضعفاء الناس وسقطهم" بفتحتين أي المحتقرون بينهم الساقطون من أعينهم، هذا بالنسبة إلى ما عند الأكثر من الناس، وبالنسبة إلى ما عند الله هم عظماء رفعاء الدرجات، لكنهم بالنسبة إلى ما عند أنفسهم لعظمة الله عندهم وخضوعهم له في غاية التواضع لله والذلة في عباده، فوصفهم بالضعف والسقط بهذا المعنى صحيح، أو المراد بالحصر في قول الجنة "إلا ضعفاء الناس" الأغلب، قال النووي: هذا الحديث على ظاهره، وإن الله يخلق في الجنة والنار تمييزا يدركان به ويقدران على المراجعة والاحتجاج، ويحتمل أن يكون بلسان الحال، وسيأتي مزيدا لهذا في "باب قوله إن رحمة الله قريب من المحسنين" من كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(8/597)


باب {وسبح بحمد ربك قيل طلوع الشمس وقبل الغروب}
...
2- باب {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
4851- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
4852- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يُسَبِّحَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا يَعْنِي قَوْلَهُ {وَأدْبَارَ السُّجُودِ} "

(8/597)


قوله: "باب قوله فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" كذا لأبي ذر في الترجمة، وفي سياق الحديث، ولغيره "وسبح" بالواو فيهما وهو الموافق للتلاوة فهو الصواب، وعندهم أيضا: "وقبل الغروب" وهو الموافق لآية السورة. أورد فيه حديث جرير "إنكم سترون ربكم" الحديث وفي آخره: "ثم قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وهذه الآية في طه. قال الكرماني: المناسب لهذه السورة "وقبل الغروب" لا غروبها. قلت: لا سبيل إلى التصرف في لفظ الحديث، وإنما أورد الحديث هنا لاتحاد دلالة الآيتين وقد تقدم في الصلاة، وكذا وقع هنا في نسخة من وجه آخر عن إسماعيل بن أبي خالد بلفظ: "ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وسيأتي شرح حديث جرير في التوحيد إن شاء الله تعالى. ومضى منه شيء في فضل وقت العصر من المواقيت. قوله: "عن مجاهد قال قال ابن عباس: أمره أن يسبح" يعني أمر الله نبيه. وأخرجه الطبري من طريق ابن علية عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "قال ابن عباس في قوله: "فسبحه وأدبار السجود" قال: هو التسبيح بعد الصلاة" . قوله: "في أدبار الصلوات كلها" يعني قوله وأدبار السجود، كذا لهم وروى الطبري من وجه آخر عن ابن عباس قال: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود" وإسناده ضعيف، لكن روى ابن المنذر من طريق أبي تميم الجيشاني قال: "قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : هما الركعتان بعد المغرب" وأخرجه الطبري من طرق عن علي وعن أبي هريرة وغيرهما مثله. وأخرج ابن المنذر عن عمر مثله. وأخرج الطبري من طريق كريب بن يزيد أنه كان إذا صلى الركعتين بعد الفجر والركعتين بعد المغرب قرأ أدبار النجوم وأدبار السجود، أي بهما.

(8/598)


سورة الذاريات
...
51- سورة وَالذَّارِيَاتِ
قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَم {الذَّارِيَاتُ} الرِّيَاحُ وَقَالَ غَيْرُهُ تَذْرُوهُ تُفَرِّقُهُ {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ وَيَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ { فَرَاغَ} فَرَجَعَ {فَصَكَّتْ} فَجَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ بِهِ جَبْهَتَهَا وَ {الرَّمِيمُ} نَبَاتُ الأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ {لَمُوسِعُونَ} أَيْ لَذُو سَعَةٍ وَكَذَلِكَ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرَهُ} يَعْنِي الْقَوِيَّ {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} الذَّكَرَ وَالأُنْثَى وَاخْتِلاَفُ الأَلْوَانِ حُلْوٌ وَحَامِضٌ فَهُمَا زَوْجَانِ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} مَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ إِلَيْهِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلاَّ لِيُوَحِّدُونِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا فَفَعَلَ بَعْضٌ وَتَرَكَ بَعْضٌ وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لأَهْلِ الْقَدَرِ وَ{الذَّنُوبُ} الدَّلْوُ الْعَظِيمُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ صَرَّةٍ صَيْحَةٍ {ذَنُوبًا} سَبِيلا {الْعَقِيمُ} الَّتِي لاَ تَلِدُ وَلاَ تُلْقِحُ شَيْئًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ {الْحُبُكُ} اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا {فِي غَمْرَةٍ} فِي ضَلاَلَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ وَقَالَ غَيْرُهُ {تَوَاصَوْا} تَوَاطَئُوا وَقَالَ {مُسَوَّمَةً} مُعَلَّمَةً مِنْ السِّيمَا {قُتِلَ الإِنْسَانُ} لُعِن"
قوله: "سورة والذاريات. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، والواو للقسم،

(8/598)


والفاءات بعدها عاطفات من عطف المتغايرات وهو الظاهر، وجوز الزمخشري أنها من عطف الصفات، وأن الحاملات وما بعدها من صفات الريح. قوله: "قال على الرياح" كذا لهم، ولأبي ذر. وقال علي: الذاريات الرياح، وهو عند الفريابي عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن علي، وأخرجه ابن عيينة في تفسيره أتم من هذا عن ابن أبي الحسين "سمعت أبا الطفيل قال: سمعت ابن الكواء يسأل علي بن أبي طالب عن الذاريات ذروا قال: الرياح، وعن الحاملات وقرا، قال: السحاب، وعن الجاريات يسرا، قال: السفن، وعن المدبرات أمرا قال: الملائكة" وصححه الحاكم من وجه آخر عن أبي الطفيل. وابن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو اسمه عبد الله، وهذا التفسير مشهور عن علي. وأخرج عن مجاهد وابن عباس مثله، وقد أطنب الطبري في تخريج طرقه إلى علي، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن أبي الطفيل قال: "شهدت عليا وهو يخطب وهو يقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل أنزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل. فقال ابن الكواء وأنا بينه وبين علي وهو خلفي فقال: ما الذاريات ذروا؟ فذكر مثله وقال فيه: ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا" وفيه سؤاله عن أشياء غير هذا، وله شاهد مرفوع أخرجه البزار وابن مردويه بسند لين عن عمر. قوله: "وقال غيره تذروه تفرقه" هو قول أبي عبيدة، قال في سورة الكهف في قوله: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تفرقه، ذروته وأذريته. وقال في تفسير الذاريات الرياح، وناس يقولون المذريات ذرت وأذرت. قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} تأكل وتشرب في مدخل واحد ويخرج من موضعين" أي القبل والدبر، وهو قول الفراء. قال في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} يعني أيضا آيات، إن أحدكم يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من موضعين، ثم عنفهم فقال: أَفَلا تُبْصِرُونَ} ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} قال فيما يدخل من طعامكم وما يخرج. وأخرج الطبري من طريق محمد بن المريفع عن عبد الله بن الزبير في هذه الآية قال: سبيل الغائط والبول. قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي لعنوا، كذا في بعض النسخ، وقد تقدم في كتاب البيوع. وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: لعن الكذابون. وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: الكذابون. قوله: "فراغ فرجع" هو قول الفراء وزاد: والروغ وإن جاء بهذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه لذهابه ومجيئه. وقال أبو عبيدة في قوله: "فراغ" أي عدل. قوله: "فصكت: فجمعت أصابعها فضربت به جبهتها" في رواية ابن ذر "سمعت" بغير فاء وهو قول الفراء بلفظه. ولسعيد بن منصور من طريق الأعمش عن مجاهد في قوله: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} قال ضربت بيدها على جبهتها وقالت يا ويلتاه. وروى الطبري من طريق السدي قال: ضربت وجهها عجبا. ومن طريق الثوري: وضعت يدها على جبهتها تعجبا. قوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} من معه لأنهم من قومه "هو قول قتادة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه. وقال الفراء وثبت هذا هنا للنسفي وحده. قوله: "والرميم نبات الأرض إذا يبس وديس" هو قول الفراء، وديس بكسر الدال وسكون التحتانية بعدها مهملة من الدوس وهو وطء الشيء بالقدم حتى يفتت ومنه دياس الأرض. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الرميم الشجر. وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الرميم الهالك. قوله: "لموسعون أي لذو سعة، وكذلك على الموسع قدره" يعني في قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} أي من يكون ذا سعة،

(8/599)


قال الفراء {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي لذو سعة لخلقنا، وكذا قوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} يعني القوي. وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح قال: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قال أن نخلق سماء مثلها. قوله: "زوجين الذكر والأنثى واختلاف الألوان حلو وحامض فهما زوجان" هو قول الفراء أيضا ولفظه: الزوجان من جميع الحيوان الذكر والأنثى، ومن سوى ذلك اختلاف ألوان النبات وطعوم الثمار بعض حلو وبعض حامض. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي معناه. وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} قال: الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والجن والإنس. قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} : من الله إليه" أي من معصيته إلى طاعته أو من عذابه إلى رحمته، هو قول الفراء أيضا. قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} في رواية أبي ذر {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلا ليوحدون، هو قول الفراء، ونصره ابن قتيبة في "مشكل القرآن" له. وسبب الحمل على التخصيص وجود من لا يعبده، فلو حمل على ظاهره لوقع التنافي بين العلة والمعلول. قوله: "وقال بعضهم خلقهم ليفعلوا ففعل بعض وترك بعض، وليس فيه حجة لأهل القدر" هو كلام الفراء أيضا، وحاصل التأويلين أن الأول محمول على أن اللفظ العام مراد به الخصوص، وأن المراد أهل السعادة من الجن والإنس، والثاني باق على عمومه لكن بمعنى الاستعداد، أي خلقهم معدين لذلك لكن منهم من أطاع ومنهم من عصي، وهو كقولهم الإبل مخلوقة للحرث أي قابلة لذلك، لأنه قد يكون فيها ما لا يحرث. وأما قوله: "وليس فيه حجة لأهل القدر" فيريد المعتزلة، لأن محصل الجواب أن المراد بالخلق خلق التكليف لا خلق الجبلة، فمن وفقه عمل لما خلق له ومن خذله خالف، والمعتزلة احتجوا بالآية المذكورة على أن إرادة الله لا تتعلق به، والجواب أنه لا يلزم من كون الشيء معللا بشيء أن يكون ذلك الشيء مرادا وأن لا يكون غيره مرادا، ويحتمل أن يكون مراده بقوله: "وليس فيه حجة لأهل القدر" أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد وأن تكون معلولة فقال: لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه، أو لأنهم احتجوا بها على أن أفعال العباد مخلوقة لهم لإسناد العبادة إليهم فقال: لا حجة لهم في ذلك لأن الإسناد من جهة الكسب، وفي الآية تأويلات أخرى يطول ذكرها. وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: خلقهم للعبادة، فمن العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع. قوله: "والذنوب الدلو العظيم" هو قول الفراء لكن قال: "العظيمة" وزاد: ولكن العرب تذهب بها إلى الحظ والنصيب. وقال أبو عبيدة: الذنوب النصيب، وأصله من الدلو، والذنوب والسجل واحد، والسجل أقل ملإ من الدلو قوله: "وقال مجاهد ذنوبا سبيلا" وقع هذا مؤخرا عن الذي بعده لغير أبي ذر والذي عنده أولى، وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} قال: سجلا من العذاب مثل عذاب أصحابهم. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن مجاهد في قوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً} قال: سبيلا. قال وقال ابن عباس: سجلا، وهو بفتح المهملة وسكون الجيم. ومن طريق ابن جريج عن عطاء مثله وأنشد عليه شاهدا. قوله: "صرة صيحة" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة في قوله: "صرة" شدة صوت، يقال أقبل فلان يصطر أي يصوت صوتا شديدا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: أقبلت ترن. قوله: "العقيم التي لا

(8/600)


تلد" زاد أبو ذر "ولا تلقح شيئا" أخرج ابن المنذر من طريق الضحاك قال: العقيم التي لا تلد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: العقيم التي لا تنبت. وأخرج الطبري والحاكم من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: الريح العقيم التي لا تلقح شيئا. قوله: "وقال ابن عباس والحبك استواؤها وحسنها" تقدم في بدء الخلق. وأخرجه الفريابي عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ومن طريق سفيان أخرجه الطبري وإسناده صحيح لأن سماع الثوري من عطاء بن السائب كان قبل الاختلاط. وأخرجه الطبري من وجه آخر صحيح عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: ذات الخلق الحسن وللطبري من طريق عوف عن الحسن قال: حبكت بالنجوم. ومن طريق عمران بن جدير: سئل عكرمة عن قوله: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: ذات الخلق الحسن، ألم تر إذا نسج إذا نسج الثوب قال: ما أحسن ما حبكه. قوله: "في غمرة: في ضلالتهم يتمادون" كذا للأكثر، ولأبي ذر {فِي غَمْرَتِهِمْ} والأول أولى لوقوعه في هذه السورة، وأما الثاني فهو في سورة الحجر، لكن قوله في ضلالتهم يؤيد الثاني وكأنه ذكره كذلك هنا للاشتراك في الكلمة وقد وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} قال: في ضلالتهم يتمادون. ووقع في رواية النسفي "في صلاتهم أو ضلالتهم" بالشك والأول تصحيف. قوله: "وقال غيره تواصوا به تواطئوا" سقط هذا لأبي ذر، وقد أخرجه ابن المنذر من طريق أبي عبيدة في قوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} تواطئوا عليه وأخذه بعضهم عن بعض، وإذا كانت شيمة غالبة على قوم قيل كأنما تواصوا به. وروى الطبري من طرق عن قتادة قال: هل أوصى الأول الأخر منهم بالتكذيب؟. قوله: "وقال غيره مسومة معلمة من السيما" هو قول أبي عبيدة، ووصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مُسَوَّمَةً} قال: معلمة. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {مُسَوَّمَةً} قال مختومة بلون أبيض وفيه نقطة سوداء وبالعكس. قوله: "قتل الإنسان لعن" سقط هذا لغير أبي ذر، وقد تقدم تفسير قتل بلعن في أوائل السورة. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: هي مثل التي في عبس {قُتِلَ الْأِنْسَانُ} .
" تنبيه " : لم يذكر البخاري في هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيها على شرطه حديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من طريق أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني أنا الرزاق ذو القوة المتين} " قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان.

(8/601)


52- سورة وَالطُّورِ
وَقَالَ قَتَادَةُ {مَسْطُورٍ} مَكْتُوبٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الطُّورُ} الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ {رَقٍّ مَنْشُورٍ} صَحِيفَةٍ {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} سَمَاءٌ {الْمَسْجُورِ} الْمُوقَدِ وَقَالَ الْحَسَنُ تُسْجَرُ حَتَّى يَذْهَبَ مَاؤُهَا فَلاَ يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَلَتْنَاهُمْ} نَقَصْنَا وَقَالَ غَيْرُهُ {تَمُورُ} تَدُورُ {أَحْلاَمُهُمْ} الْعُقُولُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبَرُّ اللَّطِيفُ {كِسْفًا} قِطْعًا {الْمَنُونُ} الْمَوْتُ وَقَالَ غَيْرُهُ {يَتَنَازَعُونَ} يَتَعَاطَوْنَ.
قوله: "سورة الطور. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، واقتصر الباقون على والطور، والواو للقسم

(8/601)


وما بعدها عاطفات أو للقسم أيضا. قوله: "وقال قتادة: مسطور مكتوب" سقط هذا من رواية أبي ذر وثبت لهم في التوحيد، وقد وصله المصنف في كتاب خلق أفعال العباد من طريق سعيد عن قتادة. قوله: "وقال مجاهد: الطور الجبل بالسريانية" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا؛ قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: قوله والطور قال جبل يقال له الطور. وعمن سمع عكرمة مثله. وقال أبو عبيدة: الطور الجبل في كلام العرب. وفي المحكم: الطور الجبل، وقد غلب على طور سيناء جبل بالشام، وهو بالسريانية طوري بفتح الراء والنسبة إليه طوري وطوراني. قوله: "رق منشور صحيفة" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "وكتاب مسطور، في رق منشور" قال صحف ورق. قوله: "منشور" قال: صحيفة. قوله: "والسقف المرفوع سماء" سقط هذا لأبي ذر، وتقدم في بدء الخلق. قوله: "والمسجور الموقد" في رواية الحموي والنسفي "الموقر" بالراء والأول هو الصواب، وقد وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:"والطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال: "الموقد" بالدال. وأخرج الطبري من طريق سعيد بن المسيب قال: قال علي لرجل من اليهود أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراه إلا صادقا. ثم تلا: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} وعن زيد بن أسلم قال: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} الموقد {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أوقدت. ومن طريق شمر بن عطية قال: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} التنور المسجور، قال: وفيه قول آخر، قال أبو عبيدة: المسجور المملوء وأخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة مثله، ورجحه الطبري. قوله: "وقال الحسن: تسجر حتى يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة" وصله الطبري من طريق سعيد عن قتادة عن الحسن في قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} فذكره، فبين الحسن أن ذلك يقع يوم القيامة، وأما اليوم فالمراد بالمسجور الممتلئ. ويحتمل أن يطلق عليه ذلك باعتبار ما يئول إليه حاله. قوله: "وقال مجاهد: ألتناهم نقصناهم" وقد تقدم في الحجرات. وأخرج عبد الرزاق مثله عن ابن عباس بإسناد صحيح، وعن معمر عن قتادة قال: ما ظلمناهم. قوله: "وقال غيره تمور تدور" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال في قوله تعالى: {وْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} قال: مورها تحركها. وأخرج الطبري من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {يوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} قال: تدور دورا. قوله: "أحلامهم: العقول" هو قول زيد بن أسلم، ذكره الطبري عنه. وقال الفراء: الأحلام في هذا الموضع العقول والألباب. قوله: "وقال ابن عباس: البر اللطيف" سقط هذا لأبي ذر هنا وثبت لهم في التوحيد، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وسيأتي الكلام عليه في التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "كسفا قطعا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ولابن أبي حاتم من طريق قتادة مثله، ومن طريق السدي قال: عذابا. وقال أبو عبيدة "كسفا" الكسف جمع كسفة مثل السدر جمع سدرة. وهذا يضعف قول من رواه بالتحريك فيهما، وقد قيل إنها قراءة شاذة وأنكرها بعضهم وأثبتها أبو البقاء العكبري وغيره. قوله: "المنون الموت" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {رَيْبَ الْمَنُونِ} قال: الموت. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: المنون حوادث الدهر. وذكر ابن إسحاق في السيرة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس: أن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة قال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء، فإنما هو واحد منهم. فأنزل

(8/602)


الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} وهذا كله يؤيد قول الأصمعي: أن المنون واحد لا جمع له، ويبعد قول الأخفش أنه جمع لا واحد له. وأما قول الداودي: أن المنون جمع منية فغير معروف، مع بعده من الاشتقاق. قوله: "وقال غيره يتنازعون: يتعاطون" هو قول أبي عبيدة وصله ابن المنذر من طريقه وزاد: أي يتداولون. قال الشاعر "نازعته الراح حتى وقفه الساري"
1- باب 4853- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ" فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُور"
4854- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثُونِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} قَالَ كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ قَالَ سُفْيَانُ فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ زَادَ الَّذِي قَالُوا لِي".
قوله: "عن أم سلمة قالت. شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي" أي أنها كانت ضعيفة لا تقدر على الطواف ماشية، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "قال حدثوني عن الزهري" اعترضه الإسماعيلي بما أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة "سمعت الزهري قال:"فصرحا عنه بالسماع، وهما ثقتان. قلت: وهو اعتراض ساقط؛ فإنهما ما أوردا من الحديث إلا القدر الذي ذكره الحميدي عن سفيان أنه سمعه من الزهري، بخلاف الزيادة التي صرح الحميدي عنه بأنه لم يسمعها من الزهري، وإنما بلغته عنه بواسطة. قوله: "كاد قلبي يطير" قال الخطابي كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، وذلك من قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} قيل معناه ليسوا أشد خلقا من خلق السموات والأرض لأنهما خلقتا من غير شيء، أي هل خلقوا باطلا لا يؤمرون ولا ينهون؟ وقيل المعنى أم خلقوا من غير خالق؟ وذلك لا يجوز فلا بد لهم من خالق، وإذا أنكروا الخالق فهم الخالقون لأنفسهم، وذلك في الفساد والبطلان أشد، لأن ما لا وجود له كيف يخلق، وإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا. ثم قال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي إن جاز لهم أن يدعوا خلق أنفسهم فليدعوا خلق السموات والأرض، وذلك لا يمكنهم، فقامت الحجة. ثم قال: {بَلْ لا يُوقِنُونَ} فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان وهو عدم اليقين الذي هو موهبة من الله ولا يحصل إلا بتوفيقه، فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام. انتهي. ويستفاد من قوله فلما بلغ

(8/603)


هذه الآية أنه استفتح من أول السورة، وظاهر السياق أنه قرأ إلى آخرها، وقد تقدم البحث في ذلك في صفة الصلاة

(8/604)


53- سورة وَالنَّجْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذُو مِرَّةٍ} ذُو قُوَّةٍ {قَابَ قَوْسَيْنِ } حَيْثُ الْوَتَرُ مِنْ الْقَوْسِ {ضِيزَى} عَوْجَاءُ {وَأَكْدَى} قَطَعَ عَطَاءَهُ {رَبُّ الشِّعْرَى} هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ {الَّذِي وَفَّى} وَفَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ {أَزِفَتْ الآزِفَةُ} اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ {سَامِدُونَ} الْبَرْطَمَةُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ يَتَغَنَّوْنَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ {أَفَتُمَارُونَهُ} أَفَتُجَادِلُونَهُ وَمَنْ قَرَأَ أَفَتَمْرُونَهُ يَعْنِي أَفَتَجْحَدُونَهُ وَقَالَ {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} بَصَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا طَغَى} وَمَا جَاوَزَ مَا رَأَى {فَتَمَارَوْا} كَذَّبُوا وَقَالَ الْحَسَنُ {إِذَا هَوَى} غَابَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَغْنَى وَأَقْنَى} أَعْطَى فَأَرْضَى
قوله: "سورة والنجم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كذا لأبي ذر، وللباقين والنجم حسب، والمراد بالنجم الثريا في قول مجاهد أخرجه ابن عيينة في تفسيره عن ابن أبي نجيح عنه. وقال أبو عبيدة: النجم والنجوم، ذهب إلى لفظ الواحد وهو بمعنى الجميع قال الشاعر "وباتت تعد النجم في مستجره" قال الطبري: هذا القول له وجه، ولكن ما أعلم أحدا من أهل التأويل قاله، والمختار قول مجاهد. ثم روى من وجه آخر عن مجاهد أن المراد به القرآن إذا نزل. ولابن أبي حاتم بلفظ: النجم نجوم القرآن. قوله: "وقال مجاهد: ذو مرة ذو قوة" وصله الفريابي بلفظ "شديد القوي ذو مرة" قوة جبريل. وقال أبو عبيدة ذو مرة أي شدة وإحكام. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ذُو مِرَّةٍ} قال: ذو خلق حسن. قوله: "قاب قوسين حيث الوتر من القوس" سقط هذا لأبي ذر ووصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظه. وقال أبو عبيدة قاب قوسين أي قدر قوسين أو أدنى أو أقرب. قوله: "ضيزي عوجاء" وصله الفريابي أيضا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ضيزي جائرة. وأخرج الطبري من وجه ضعيف عن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة: ناقصة، تقول ضأزته حقه نقصته. قوله: "وأكدي قطع عطاءه" وصله الفريابي بلفظ: "اقتطع عطاءه" وروى الطبري من هذا الوجه عن مجاهد أن الذي نزلت فيه هو الوليد بن المغيرة ومن طريق أخرى منقطعة عن ابن عباس أعطي قليلا أي أطاع قليلا ثم انقطع. وأخرج ابن مردويه من وجه لين عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أعطي قليلا ثم قطع ذلك. وقال أبو عبيدة: مأخوذ من الكدية بالضم وهو أن يحفر حتى ييأس من الماء. قوله: "رب الشعري هو مرزم الجوزاء" وصله الفريابي بلفظه. وأخرج الطبري من طريق خصيف عن مجاهد قال: الشعري الكوكب الذي خلف الجوزاء كانوا يعبدونه وأخرج الفاكهي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في خزاعة وكانوا يعبدون الشعري، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: كان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم الذي يقال له الشعري. وأخرجه الطبري من وجه آخر عن مجاهد قال: النجم الذي يتبع الجوزاء. وقال أبو حنيفة الدينوري في "كتاب الأنواء" : الغدرة والشعري العبور والجوزاء في نسق واحد وهن نجوم مشهورة، قال: وللشعري

(8/604)


ثلاثة أزمان إذا رؤيت غدوة طالعة فذاك صميم الحر، وإذا رؤيت عشاء طالعة فذاك صميم البرد، ولها زمان ثالث وهو وقت نوئها. وأحد كوكبي الذراع المقبوضة هي الشعري الغميصاء وهي تقابل الشعري العبور والمجرة بينهما، ويقال لكوكبها الآخر الشمالي المرزم مرزم الذراع، وهما مرزمان هذا وآخر في الجوزاء، وكانت العرب تقول انحدر سهيل فصار يمانيا فتبعته الشعري فعبرت إليه المجرة وأقامت الغميصاء فبكت عليه حتى غمصت عينها والشعريان الغميصاء والعبور يطلعان معا. وقال ابن التين: المرزم بكسر الميم وسكون الراء وفتح الزاي نجم يقابل الشعري من جهة القبلة لا يفارقها وهو الهنعة. قوله: "الذي وفي وفي ما فرض عليه" وصله الفريابي بلفظه، وروى سعيد بن منصور عن عمرو بن أوس قال: وفي أي بلغ. وروى ابن المنذر من وجه آخر عن عمرو بن أوس قال كان الرجل يؤخذ بذنب غيره حتى جاء إبراهيم فقال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ومن طريق هذيل بن شرحبيل نحوه، وروى الطبري بإسناد ضعيف عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى، لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وروى عبد بن حميد بإسناد ضعيف عن أبي أمامة مرفوعا: وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار. قوله: "أزفت الآزفة اقتربت الساعة" سقط هذا لأبي ذر هنا ويأتي في الرقاق، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. وقال أبو عبيدة: دنت القيامة. قوله: "سامدون: البرطمة" كذا لهم وفي رواية الحموي والأصيلي والقابسي "البرطنة" بالنون بدل الميم. "وقال عكرمة يتغنون بالحميرية" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} قال: من هذا القرآن. {أَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال: البرطمة. قال وقال عكرمة: السامدون يتغنون بالحميرية، ورواه الطبري من هذا الوجه عن مجاهد قال: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم غضابا مبرطمين. قال وقال عكرمة هو الغناء بالحميرية. وروى ابن عيينة في تفسيره عن ابن أبي نجيح عن عكرمة في قوله: {أَنْتُمْ سَامِدُونَ} هو الغناء بالحميرية يقولون: أسمد لنا أي غن لنا. وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" وعبد الرزاق من وجهين آخرين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال: الغناء. قال عكرمة وهي بلغة أهل اليمن، إذا أراد اليماني أن يقول تغن قال اسمد. لفظ عبد الرزاق. وأخرجه من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال: لاهون. وعن معمر عن قتادة قال: غافلون. ولابن مردويه من طريق محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: معرضون.
" تنبيه " : البرطمة بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح الطاء المهملة الإعراض. وقال ابن عيينة: البرطمة هكذا ووضع ذقنه في صدره. قوله: "وقال إبراهيم أفتمارونه: أفتجادلونه" وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم النخعي به، وجاء عن إبراهيم بهذا الإسناد فيه القراءة التي بعد هذه. قوله: "ومن قرأ أفتمرونه يعني أفتجحدونه" كذا لهم. وفي رواية الحموي "أفتجحدون" بغير ضمير، وقد وصله الطبري أيضا عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقرأ: {أَفَتُمَارُونَهُ} يقول: أفتجحدونه فكأن إبراهيم قرأ بهما معا وفسرهما، وقد صرح بذلك سعيد بن منصور في روايته المذكورة عن هشيم، قال الطبري: وهكذا قرأ ابن مسعود وعامة قراء أهل الكوفة، وقرأها الباقون وبعض الكوفيين "أفتمارونه" أي تجادلونه. قلت: قرأها من الكوفيين عاصم كالجمهور. وقال الشعبي: كان شريح يقرأ: {أَفَتُمَارُونَهُ} ومسروق يقرأ: {أفتمرونه" ، وجاء عن الشعبي أنه قرأها كذلك لكن بضم التاء. قوله: "ما زاغ

(8/605)


البصر بصر محمد صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي ذر "وقال ما زاغ إلخ" ولم يعين القائل، وهو قول الفراء. وقال في قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} : بصر محمد يقلبه يمينا وشمالا. وأخرج الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} قال: رأى محمد جبريل في صورة الملك. ومسألة الرؤية مشهورة سيأتي ذكرها في شرح حديث عائشة في هذه السورة. قوله: "وما طغى وما جاوز ما رأى" لا رواية الكشميهني: "ولا بدل" وما هو بقية كلام الفراء أيضا ولفظه: "وما جاوز: . وروى الطبري من طريق مسلم البطين عن ابن عباس في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} ما ذهب يمينا ولا شمالا {وَمَا طَغَى} ما جاوز ما أمر به. قوله: "فتماروا كذبوا" كذا لهم، ولم أر في هذه السورة "فتماروا" وإنما فيها "أفتمارونه" وقد تقدم ما فيها، وفي آخرها تتمارى. ولعله انتقال من بعض النساخ لأن هذه اللفظة في السورة التي تلي هذه، وهي قوله: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} ، وحكى الكرماني عن بعض النسخ هنا "تتمارى تكذب" ولم أقف عليه، وهو بمعنى ما تقدم. ثم ظهر لي بعد ذلك أنه اختصر كلام الفراء، وذلك أنه قال في قوله تعالى: {بِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} قال: فبأي نعمة ربك تكذب أنها ليست منه، وكذلك قوله: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} كذبوا بالنذر. قوله: "وقال الحسن: إذا هوى غاب" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه. قوله: "وقال ابن عباس: أغنى وأقنى أعطى فأرضى" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وأخرج الفريابي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أقني قنع. ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قال: أخدم. وقال أبو عبيدة: أقنى جعل له قنية أي أصول مال، قال وقالوا: أقنى أرضى، يشير إلى تفسير ابن عباس، وتحقيقه أنه حصل له قنية من الرضا.

(8/606)


باب حديث عائشة عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه
...
1- باب 4855- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلاَثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآيَةَ وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَم فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْن"
قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى. قوله: "عن عامر" هو الشعبي. قوله: "عن مسروق" في رواية الترمذي زيادة قصة في سياقه، فأخرج من طريق مجالد عن الشعبي قال: "لقي ابن عباس كعبا بعرفة فسأله عن شيء فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال له كعب إن الله قسم رؤيته وكلامه" هكذا في سياق الترمذي، وعند عبد الرزاق من هذا الوجه" فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول إن محمدا رأى ربه مرتين، فكبر كعب وقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين. قال مسروق: فدخلت على عائشة فقلت هل رأى محمد ربه" الحديث. ولابن مردويه من طريق إسماعيل بن أبي خالد

(8/606)


عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن كعب مثله، قال - يعني الشعبي - فأتى مسروق عائشة فذكر الحديث فظهر بذلك سبب سؤال مسروق لعائشة عن ذلك. قوله: "يا أمتاه" أصله يا أم والهاء للسكت فأضيف إليها ألف الاستغاثة فأبدلت تاء وزيدت هاء السكت بعد الألف. ووقع في كلام الخطابي إذا نادوا قالوا يا أمة عند السكت، وعند الوصل يا أمة بالمثناة، فإذا فتحوا للندبة قالوا يا أمتاه والهاء للسكت. وتعقبه الكرماني بأن قول مسروق يا أمتاه ليس للندبة إذ ليس هو تفجعا عليها، وهو كما قال. قوله: "هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قالت: لقد قف شعري" أي قام من الفزع، لما حصل عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك، قال النضر بن شميل القف بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد ينقبض عند الفزع فيقوم الشعر لذلك. قوله: "أين أنت من ثلاث"؟ أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاثة؟ وكان ينبغي لك أن تكون مستحضرها ومعتقدا كذب من يدعي وقوعها. قوله: "من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب" تقدم في بدء الخلق من رواية القاسم ابن محمد عن عائشة "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم" ولمسلم من حديث مسروق المذكور من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي "فقد أعظم على الله الفرية" . قوله: "ثم قرأت: لا تدركه الأبصار" قال النووي تبعا لغيره: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع ولو كان معها لذكرته، وإذا اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية. انتهي. وجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه: النفي لا يوجب علما، ولم تحك عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم ير ربه، وإنما تأولت الآية. انتهى. وهو عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق في الطريق المذكورة قال مسروق "وكنت متكئا فجلست فقلت. ألم يقل الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إنما هو جبريل" وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بهذا الإسناد "فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: " لا إنما رأيت جبريل منهبطا" نعم احتجاج عائشة بالآية المذكورة خالفها فيه ابن عباس، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: "رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول: "لا تدركه الأبصار"؟ قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين" وحاصله أن المراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه لا نفي أصل رؤياه. واستدل القرطبي في "المفهم" لأن الإدراك لا ينافي الرؤية بقوله تعالى حكاية عن أصحاب موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا} وهو استدلال عجيب لأن متعلق الإدراك في آية الأنعام البصر، فلما نفي كان ظاهره نفي الرؤية، بخلاف الإدراك الذي في قصة موسى، ولولا وجود الإخبار بثبوت الرؤية ما ساغ العدول عن الظاهر. ثم قال القرطبي: الأبصار في الآية جمع محلى بالألف واللام فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فيكون المراد الكفار بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي انتهي. وهو استدلال جيد. وقال عياض: رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة

(8/607)


عقلا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأما في الدنيا فقال مالك: إنما لم ير سبحانه في الدنيا لأنه باق، والباقي لا يرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة، فإذا قدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع. قلت: ووقع في صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبي أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت، فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا فقد امتنعت سمعا، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه. وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه فذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها، وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه. وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به كعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه. ثم اختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه؟ وعن أحمد كالقولين. قلت: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، فمن ذلك ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟ وأخرجه ابن خزيمة بلفظ: "إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة" الحديث. وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس: هل رأى محمد ربه؟ فأرسل إليه أن نعم. ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: رأي ربه بفؤاده مرتين. وله من طريق عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه، إنما رآه بقلبه. وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب. ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة بخلقها في العين، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال: "رأى محمد ربه" ، وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "نور أني أراه" ولأحمد عنه، قال: "رأيت نورا" ولابن خزيمة عنه قال: "رآه بقلبه ولم يره بعينه" . وبهذا يتبين مراد أبي ذر بذكره النور أي النور حال بين رؤيته له ببصره، وقد رجح القرطبي في "المفهم" قول الوقف في هذه المسألة وعزاه الجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، قال وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي وجنح ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" إلى ترجيح الإثبات وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين مرة بعينه ومرة بقلبه، وفيما أوردته من ذلك مقنع. وممن أثبت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد فروى الخلال في "كتاب السنة" عن المروزي قلت لأحمد إنهم يقولون إن عائشة قالت: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية" فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي،

(8/608)


قول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها. وقد أنكر صاحب "الهدى" على من زعم أن أحمد قال رأى ربه بعيني رأسه قال: وإنما قال مرة رأى محمد ربه وقال مرة بفؤاده. وحكى عنه بعض المتأخرين رآه بعيني رأسه وهذا من تصرف الحاكي، فإن نصوصه موجودة. ثم قال ينبغي أن يعلم الفرق بين قولهم كان الإسراء مناما وبين قولهم كان بروحه دون جسده فإن بينهما فرقا، فإن الذي يراه النائم قد يكون حقيقة بأن تصعد الروح مثلا إلى السماء، وقد يكون من ضرب المثل أن يرى النائم ذلك وروحه لم تصعد أصلا، فيحتمل من قال أسرى بروحه ولم يصعد جسده أراد أن روحه عرج بها حقيقة فصعدت ثم رجعت وجسده باق في مكانه خرقا للعادة، كما أنه في تلك الليلة شق صدره والتأم وهو حي يقظان لا يجد بذلك ألما انتهى. وظاهر الأخبار الواردة في الإسراء تأبى الحمل على ذلك، بل أسرى بجسده وروحه وعرج بهما حقيقة في اليقظة لا مناما ولا استغراقا، والله أعلم. وأنكر صاحب "الهدى" أيضا على من زعم أن الإسراء تعدد واستند إلى استبعاد أن يتكرر قوله: "ففرض عليه خمسين صلاة وطلب التخفيف" إلى آخر القصة فإن دعوى التعدد تستلزم أن قوله تعالى "أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" أن فرضية الخمسين وقعت بعد أن وقع التخفيف، ثم وقع سؤال التخفيف والإجابة إليه وأعيد "أمضيت فريضتي" إلى آخره، انتهى. وما أظن أحدا ممن قال بالتعدد يلتزم إعادة مثل ذلك يقظة، بل يجوز وقوع مثل ذلك مناما ثم وجوده يقظة كما في قصة المبعث، وقد تقدم تقريرها. ويجوز تكرير إنشاء الرؤية ولا تبعد العادة تكرير وقوعه كاستفتاح السماء وقول كل نبي ما نسب إليه، بل الذي يظن أنه تكرر مثل حديث أنس رفعه: "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر فقعدت في أحدهما وقعد جبريل في الأخرى فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلى جبريل كأنه جلس لأجلي وفتح بابا من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم وإذا دونه الحجاب وفوقه الدر والياقوت، فأوحى إلى عبده ما أوحى" أخرجه البزار وقال: تفرد به الحارث بن عمير وكان بصريا مشهورا. قلت: وهو من رجال البخاري. قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} هو دليل ثان استدلت به عائشة على ما ذهبت إليه من نفي الرؤية، وتقريره أنه سبحانه وتعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه، وهي الوحي بأن يلقى في روعه ما يشاء، أو يكلمه بواسطة من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا فيبلغه عنه، فيستلزم ذلك انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم. والجواب أن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقا قاله القرطبي، قال: وعامة ما يقتضي نفي تكليم الله على غير هذه الأحوال الثلاثة، فيجوز أن التكليم لم يقع حالة الرؤية. قوله: "ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا إلخ" تقدم شرح ذلك واضحا في تفسير سورة لقمان. قوله: "ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: {يا أيها الرسول بلغ..} الآية" يأتي شرحه في كتاب التوحيد. قوله: "ولكن رأى جبريل في صورته مرتين" في رواية الكشمهيني "ولكنه" وهذا جواب عن أصل السؤال الذي سأل عنه مسروق كما تقدم بيانه وهو قوله: "ما كذب الفؤاد ما رأي" وقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ولمسلم من وجه آخر عن مسروق أنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء. وله في رواية داود بن أبي هند "رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض،"وللنسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود "أبصر جبريل ولم يبصر ربه"

(8/609)


باب {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} حَيْثُ الْوَتَرُ مِنْ الْقَوْسِ
4856- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ زِرًّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاح"
قوله: "باب {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} حيث الوتر من القوس" تقدم هذا التفسير قريبا عن مجاهد، وثبتت هذه الترجمة لأبي ذر وحده، وهي عند الإسماعيلي أيضا. والقاب ما بين القبضة والسية من القوس، قال الواحدي: هذا قول جمهور المفسرين أن المراد القوس التي يرمي بها. قال: وقيل المراد بها الذراع لأنه يقاس بها الشيء. قلت: وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: القاب القدر، والقوسين الذراعان. ويؤيده أنه لو كان المراد به القوس التي يرمى بها لم يمثل بذلك ليحتاج إلى التثنية، فكان يقال مثلا: قاب رمح أو نحو ذلك. وقد قيل إنه على القلب والمراد: فكان قابي قوس، لأن القاب ما بين المقبض إلى السية، فلكل قوس قابان بالنسبة إلى خالفته. وقوله: "أو أدنى" أي أقرب. قال الزجاج: خاطب الله العرب بما ألفوا، والمعنى فيما تقدرون أنتم عليه، والله تعالى عالم بالأشياء على ما هي عليه لا تردد عنده. وقيل "أو" بمعنى "بل" والتقرير بل هو أقرب من القدر المذكور، وسيأتي بيان الاختلاف في معنى قوله: "فتدلى" في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن له زياد، وسليمان هو الشيباني، وزر هو ابن حبيش. قوله: "عن عبد الله فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، قال حدثنا ابن مسعود أنه رأى جبريل" هكذا أوره، والمراد بقوله: "عن عبد الله" وهو ابن مسعود أنه قال في تفسير هاتين الآيتين ما سأذكره، ثم استأنف فقال: "حدثنا ابن مسعود" وليس المراد أن ابن مسعود حدث عبد الله كما هو ظاهر السياق، بل عبد الله هو ابن مسعود. وقد أخرجه في الباب الذي يليه من وجه آخر عن الشيباني فقال: سألت زرا عن قوله، فذكره. ولا إشكال في سياقه. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق سليمان بن داود الهاشمي عن عبد الواحد بن زياد عن الشيباني قال: "سألت زر بن حبيش عن قول الله {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فقال: قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فذكره

(8/610)


باب {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}
4857- حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاح"
قول "باب قول تعالى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر وحده، وهي عند الإسماعيلي أيضا وأورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الذي قبله. قوله: "أن محمد" الضمير للعبد المذكور في قوله تعالى: {إِلَى عَبْدِهِ} ووقع عند أبي ذر "أن محمدا رأى جبريل" وهذا أوضح في المراد. والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب

(8/610)


في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى أي جبريل إلى عبده أي عبد الله محمد لأنه يرى أن الذي دنا فتدلى هو جبريل، وأنه هو الذي أوحى إلى محمد. وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى عبده محمد، ومنهم من قال: إلى جبريل. قوله: "له ستمائة جناح" زاد عاصم عن زر في هذا الحديث: "يتناثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت" أخرجه النسائي وابن مردويه، ولفظ النسائي: "يتناثر منها تهاويل الدر والياقوت"

(8/611)


باب {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
4858- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قَالَ رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفُق"
قوله: "باب {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر والإسماعيلي، واختلف في الآيات المذكورة فقيل: المراد بها جميع ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وحديث الباب يدل على أن المراد صفة جبريل. قوله: "عن عبد الله بن مسعود لقد رأى" أي في تفسير هذه الآية. قوله: "رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق" هذا ظاهره يغاير التفسير السابق أنه رأى جبريل، ولكن يوضح المراد ما أخرجه النسائي والحاكم من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: "أبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض" فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل والصفة التي كان عليها، وقد وقع في رواية محمد بن فضيل عند الإسماعيلي وفي رواية ابن عيينة عند النسائي كلاهما عن الشيباني عن زر عن عبد الله أنه رأى جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق، والمراد أن الذي سد الأفق الرفرف الذي فيه جبريل، فنسب جبريل إلى سد الأفق مجازا. وفي رواية أحمد والترمذي وصححها من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رأى جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة، ويؤيده قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ} وأصل الرفرف ما كان من الديباج رقيقا حسن الصنعة، ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء فعطف وثني فهو رفرف، ويقال رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما. وقال بعض الشراح: يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته فصارت تشبه الرفرف، كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد.

(8/611)


2- بَاب {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَتَ وَالْعُزَّى}
4859- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ {اللاَتَ وَالْعُزَّى} كَانَ اللاَتُ رَجُلاً يَلُتُّ سَوِيقَ الْحَاج"
4860-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّق"
[الحديث 4860- أرافه في: 6107، 6301، 6650]

(8/611)


3- باب {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}
4861- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ إِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ بِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لاَ يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ سُفْيَانُ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ نَزَلَتْ فِي الأَنْصَارِ كَانُوا هُمْ وَغَسَّانُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ مِثْلَهُ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ وَمَنَاةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا لاَ نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ نَحْوَه"
قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} سقط "باب" لغير أبي ذر، وقد تقدم شرح مناة في سورة البقرة، وقرأ ابن كثير وابن محيصن "مناءة" بالمد والهمز. قوله: "قلت لعائشة رضي الله عنها فقالت" كذا أورده مختصرا، وتقدم في تفسير البقرة بيان ما قال، وأنه سأل عن وجوب السعي بين الصفا والمروة مع قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية وجواب عائشة له وفيه قولها إلى آخره. قوله: "من أهل المناة" أي لأجل مناة، في رواية غير أبي ذر "بمناة" بالموحدة بدل اللام، أي أهل عندها أو أهل باسمها.
قوله: "قال سفيان مناة بالمشلل" بفتح المعجمة واللام الثقيلة ثم لام ثانية، وهو موضع من قديد من ناحية البحر، وهو الجبل الذي يهبط منه إليها. قوله: "من قديد" بالقاف والمهملة مصغر، هو مكان معروف بين مكة والمدينة. قوله: "وقال عبد الرحمن بن خالد" أي ابن مسافر "عن ابن شهاب" هو الزهري، وصله الذهلي والطحاوي من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الرحمن بطوله. قوله: "نزلت في الأنصار كانوا هم وغسان قبل أن يسلموا يهلون لمناة مثله" أي مثل حديث ابن عيينة الذي قبله. وأخرج الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: "نصب عمرو بن لحي مناة على ساحل البحر مما يلي قديد يحجونها ويعظمونها إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة. قوله: "وقال معمر إلخ" وصله الطبري عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق مطولا، وقد تقدم الحديث بطوله من وجه آخر عن الزهري في كتاب الحج. قوله: "صنم بين مكة والمدينة" قد تقدم بيان مكانه، وهو بين مكة والمدينة كما قال. قوله: "تعظيما لمناة نحوه" بقيته عند الطبري "فهل علينا من حرج أن نطوف بهما" الحديث

(8/613)


وفيه: "قال الزهري فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر حديثه عن رجال من أهل العلم، وفي آخره:"نزلت في الفريقين كليهما: من طاف ومن لم يطف"

(8/614)


4- باب {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
4862- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عُلَيَّةَ ابْنَ عَبَّاس"
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ قَالَ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلاَّ رَجُلاً رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَف"
قوله: "باب {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} في رواية الأصيلي: "واسجدوا" وهو غلط. قوله: "سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، تابعه ابن طهمان عن أيوب" في رواية أبي ذر إبراهيم بن طهمان. قوله: "ولم يذكر ابن علية ابن عباس" أما متابعة إبراهيم بن طهمان فوصلها الإسماعيلي من طريق حفص بن عبد الله النيسابوري عنه بلفظ: "أنه قال حين نزلت السورة التي يذكر فيها النجم سجد لها الإنس والجن" وقد تقدم ذكرها في سجود التلاوة، وأما حديث ابن علية فالمراد به أنه حدث به عن أيوب فأرسله، وأخرجه ابن أبي شيبة عنه، وهو مرسل، وليس ذلك بقادح لاتفاق ثقتين عن أيوب على وصله وهما عبد الوارث وإبراهيم بن طهمان. قوله: "والجن والإنس" إنما أعاد الجن والإنس مع دخولهم في المسلمين لنفي توهم اختصاص ذلك بالإنس، وسأذكر ما فيه في الكلام على الحديث الذي بعده. قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم قلت: والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض، والثاني يخالفه سياق ابن مسعود حيث زاد فيه أن الذي استثناه منهم أخذ كفا من حصى فوضع جبهته عليه فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، قال: وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحة له عقلا ولا نقلا، انتهى. ومن تأمل ما أوردته من ذلك في تفسير سورة الحج عرف وجه الصواب في هذه المسألة بحمد الله تعالى. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود، وأبو أحمد المذكور في إسناده هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري. قوله: "أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم، قال فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي لما فرغ من قراءتها، وقد قدمت في تفسير الحج من حديث ابن عباس بيان ذلك والسبب فيه. ووقع في رواية زكريا عن أبي إسحاق في أول هذا الحديث: "أن أول سورة استعان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ على الناس النجم" وله من رواية زهير بن معاوية"

(8/614)


أول سورة قرأها على الناس النجم" . قوله: "إلا رجلا" في رواية شعبة في سجود القرآن "فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى" وهذا ظاهره تعميم سجودهم، لكن روى النسائي بإسناد صحيح عن المطلب بن أبي وداعة قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فسجد وسجد من عنده، وأبيت أن أسجد" ولم يكن يومئذ أسلم "قال المطلب: فلا أدع السجود فيها أبدا" فيحمل تعميم ابن مسعود على أنه بالنسبة إلى من اطلع عليه. قوله: "كفا من تراب" في رواية شعبة "كفا من حصى أو تراب" . قوله: "فسجد عليه" في رواية شعبة "فرفعه إلى وجهه فقال: يكفيني هذا" . قوله: "فرأيته بعد ذلك قتل كافرا" في رواية شعبة "قال عبد الله بن مسعود: فلقد رأيته بعد قتل كافرا" . قوله: "وهو أمية بن خلف" لم يقع ذلك في رواية شعبة، وقد وافق إسرائيل على تسميته زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عند الإسماعيلي وهذا هو المعتمد، وعند ابن سعد أن الذي لم يسجد هو الوليد بن المغيرة قال: وقيل سعيد بن العاص بن أمية، قال وقال بعضهم كلاهما جميعا، وجزم ابن بطال في "باب سجود القرآن" بأنه الوليد، وهو عجيب منه مع وجود التصريح بأنه أمية بن خلف ولم يقتل ببدر كافرا من الذين سموا عنده غيره. ووقع في تفسير ابن حبان أنه أبو لهب، وفي "شرح الأحكام لابن بزيزة" أنه منافق، ورد بأن القصة وقعت بمكة بلا خلاف ولم يكن النفاق ظهر بعد، وقد جزم الواقدي بأنها كانت في رمضان سنة خمس، وكانت المهاجرة الأولى إلى الحبشة خرجت في شهر رجب فلما بلغهم ذلك رجعوا فوجدوهم على حالهم من الكفر فهاجروا الثانية، ويحتمل أن يكون الأربعة لم يسجدوا، والتعميم في كلام ابن مسعود بالنسبة إلى ما اطلع عليه كما قلته في المطلب، لكن لا يفسر الذي في حديث ابن مسعود إلا بأمية لما ذكرته، والله أعلم

(8/615)


54- سورة اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
قَالَ مُجَاهِدٌ {مُسْتَمِرٌّ} ذَاهِبٌ {مُزْدَجَرٌ} مُتَنَاهٍ {وَازْدُجِرَ} فَاسْتُطِيرَ جُنُونًا {دُسُرٍ} أَضْلاَعُ السَّفِينَةِ {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يَقُولُ كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنْ اللَّهِ {مُحْتَضَرٌ} يَحْضُرُونَ الْمَاءَ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ {مُهْطِعِينَ} النَّسَلاَنُ الْخَبَبُ السِّرَاعُ وَقَالَ غَيْرُهُ {فَتَعَاطَى} فَعَاطَهَا بِيَدِهِ فَعَقَرَهَا {الْمُحْتَظِرِ} كَحِظَارٍ مِنْ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ {ازْدُجِرَ} افْتُعِلَ مِنْ زَجَرْتُ كُفِرَ فَعَلْنَا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا جَزَاءً لِمَا صُنِعَ بِنُوحٍ وَأَصْحَابِهِ {مُسْتَقِرٌّ} عَذَابٌ حَقٌّ يُقَالُ الأَشَرُ الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ
"سورة اقتربت الساعة. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"كذا لأبي ذر، ولغيره "اقتربت الساعة" حسب، وتسمى أيضا سورة القمر. قوله: "وقال مجاهد مستمر ذاهب" وصله الفريابي من طريقه ولفظه: "في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: رأوه منشقا فقالوا هذا سحر ذاهب" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس فذكر الحديث المرفوع، وفي آخره: "تلا الآية إلى قوله: "سحر مستمر" قال: يقول ذاهب، ومعنى ذاهب أي سيذهب ويبطل، وقيل سائر. قوله: "مزدجر متناهي" وصله الفريابي بلفظه عن مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} قال: هذا القرآن. ومن طريق عمر بن عبد العزيز قال: "أحل فيه الحلال وحرم فيه

(8/615)


الحرام" وقوله: "متناهي" بصيغة الفاعل أي غاية في الزجر لا مزيد عليه. قوله: "وازدجر استطير جنونا" وصله الفريابي بلفظه عن مجاهد فيكون من كلامهم معطوفا على قولهم مجنون، وقيل هو من خبر الله عن فعلهم أنهم زجروه. قوله: "دسر أضلاع السفينة" وصله الفريابي بلفظه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وروى ابن المنذر وإبراهيم الحربي في "الغريب" من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس قال: الألواح ألواح السفينة، والدسر معاريضها التي تشد بها السفينة. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ودسر" قال: المسامير. وبهذا جزم أبو عبيدة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الألواح مقاذيف السفينة والدسر دسرت بمسامير. قوله: "لمن كان كفر يقول كفر له جزاء من الله" وصله الفريابي بلفظ: "لمن كان كفر بالله" وهو يشعر بأنه قرأها كفر بفتحتين على البناء للفاعل، وسيأتي توجيه الأول. قوله: "محتضر يحضرون الماء" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: "يحضرون الماء إذا غابت الناقة" قوله: "وقال ابن جبير مهطعين النسلان، الخبب السراع" وصله ابن أبي حاتم من طريق شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في قوله: "مهطعين إلى الداع" قال: هو النسلان. وقد تقدم ضبط النسلان في تفسير الصافات. وقوله: "الخبب" بفتح المعجمة والموحدة بعدها أخرى تفسير النسلان، والسراع تأكيد له. وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله مهطعين قال: ناظرين. وقال أبو عبيدة: المهطع المسرع. قوله: "وقال غيره فتعاطى فعاطى بيده فعقرها" في رواية غير أبي ذر "فعاطها" قال ابن التين: لا أعلم لقوله فعاطها وجها، إلا أن يكون من المقلوب لأن العطو التناول، فكأنه قال: تناولها بيده. قلت: ويؤيده ما روى ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس "فتعاطى فعقر" تناول فعقر. قوله: "المحتظر كحظار من الشجر محترق" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله، ومن طريق سعيد بن جبير قال: التراب يسقط من الحائط. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "كهشيم المحتظر" قال: كرماد محترق. وروى الطبري من طريق زيد بن أسلم قال: "كانت العرب تجعل حظارا على الإبل والمواشي من يبس الشوك" فهو المراد من قوله كهشيم المحتظر. وروى الطبري من طريق سعيد بن جبير قال: هو التراب المتناثر من الحائط. "تنبيه" : حظار بكسر المهملة وبفتحها والظاء المشالة خفيفة. قوله: "وازدجر افتعل من زجرت" هو قول الفراء، وزاد بعده: صارت تاء الافتعال فيه دالا. قوله: "كفر فعلنا به وبهم ما فعلنا جزاء لما صنع بنوح وأصحابه" هو كلام الفراء بلفظه، وزاد: يقول أغرقوا لنوح أي لأجل نوح، وكفر أي أجحد. ومحصل الكلام أن الذي وقع بهم من الغرق كان جزاء لنوح وهو الذي كفر أي جحد، وكذب فجوزي بذلك لصبره عليهم، وقد قرأ حميد الأعرج {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} بفتحتين فاللام في لمن على هذا لقوم نوح. قوله: "مستقر عذاب حق" هو قول الفراء، وعند ابن أبي حاتم بمعناه عن السدي، وعند عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "عذاب مستقر" استقر بهم إلى نار جهنم. ولابن أبي حاتم من طريق مجاهد قال: "وكل أمر مستقر" قال يوم القيامة. ومن طريق ابن جريج قال: مستقر بأهله. قوله: "ويقال الأشر المرح والتجبر" قال أبو عبيدة في قوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} قال: الأشر المرح والتجبر. وربما كان من النشاط، وهذا على قراءة الجمهور. وقرأ أبو جعفر بفتح المعجمة وتشديد الراء أفعل تفضيل من الشر، وفي الشواذ قراءة أخرى، والمراد بقوله غدا يوم القيامة.

(8/616)


1- باب {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا}
4864- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةً دُونَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْهَدُوا"
4865- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فَقَالَ لَنَا: "اشْهَدُوا اشْهَدُوا"
4866- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4867- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَر"
4868- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْن"
قوله: "باب {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. ثم ذكر حديث انشقاق القمر من وجهين عن ابن مسعود وفيه: "فرقتين" ومن حديث ابن عباس "انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم:"وبكر فيه هو ابن مضر، وجعفر هو ابن ربيعة. ومن حديث أنس "سال أهل مكة أن يريهم آية، وقد تقدم شرحه. ومن وجه آخر عن أنس" انشق القمر فرقتين "وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في أوائل السيرة النبوية. قوله: "باب {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. ثم ذكر حديث انشقاق القمر من وجهين عن ابن مسعود وفيه: "فرقتين" ومن حديث ابن عباس "انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم:"وبكر فيه هو ابن مضر، وجعفر هو ابن ربيعة. ومن حديث أنس "سال أهل مكة أن يريهم آية، وقد تقدم شرحه. ومن وجه آخر عن أنس "انشق القمر فرقتين" وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في أوائل السيرة النبوية.

(8/617)


2- باب {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قَالَ قَتَادَةُ أَبْقَى اللَّهُ سَفِينَةَ نُوحٍ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ
4869- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

(8/617)


باب { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ يَسَّرْنَا هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ
4870- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّه كَانَ يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

(8/617)


باب {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
4871- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا سَأَلَ الأَسْوَدَ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَوْ مُذَّكِرٍ فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} دَالاً"

(8/618)


3- باب {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
4872- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} الآيَةَ

(8/618)


4- باب {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} إِلَى {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
4873- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
4874- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
قوله: "باب {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} زاد غير أبي ذر الآية التي بعدها، وهي التي تناسب قول قتادة المذكور فيه. قوله: "قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أوائل هذه الأمة" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بلفظه وزاد: "على الجودي" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: "أبقى الله السفينة في أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة نظرا، وكم من سفينة بعدها فصارت رمادا" . قوله: "عن الأسود" في الرواية التي بعده ما يدل على سماع أبي إسحاق له منه. قوله: "أنه كان يقرأ فهل من مدكر" أي بالدال المهملة، وسبب ذكر ذلك أن بعض السلف قرأها بالمعجمة، وهو منقول أيضا عن قتادة. ثم ذكر المصنف لهذا الحديث خمس تراجم في كل ترجمة آية من هذه السورة، ومدار الجميع على أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد، وساق في الجميع الحديث المذكور ليبين أن لفظ: "مدكر" في الجميع واحد. وقد تكرر في هذه السورة قوله: "فهل من مدكر" بحسب تكرر القصص من أخبار الأمم استدعاء لأفهام السامعين ليعتبروا. وقال في الأولى "وقال مجاهد يسرنا هونا قراءته" وقال في الثانية عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الأسود: فهل من مدكر أو مذكر؟ أي بمعجمة أو مهملة، فذكر الحديث وفي آخره: "دالا" أي مهملة. ولفظ الثالث والرابع كالأول، ولفظ الخامس عن عبد الله "قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم من مذكر - أي بالمعجمة - فقال: فهل من مدكر" أي بالمهلة. وأثر مجاهد وصله الفريابي وسيأتي في التوحيد، وقوله: "مدكر" أصله مذتكر بمثناة بعد ذال معجمة، فأبدلت التاء دالا مهملة ثم أهملت المعجمة لمقاربتها ثم أدغمت، وقوله في الطريق الرابع "حدثنا محمد حدثنا غندر" كذا وقع محمد غير منسوب وهو ابن المثنى أو ابن بشار أو ابن الوليد البسري، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن بشار بندار، وقوله

(8/618)


5- باب قَوْلُهُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
4875- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لاَ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ "فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
قوله: "باب قوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس في قصة بدر، وقد تقدم بيانه في المغازي وقوله: "حدثنا محمد بن حوشب" هو محمد بن عبد الله نسب لجده، وثبت كذلك لغير أبي ذر. وقوله: "ح وحدثني محمد حدثنا عفان بن مسلم:"كذا للأكثر، ومحمد هو الذهلي وسقط لابن السكن فصار عن البخاري حدثنا عفان. "تنبيه" : هذا من مرسلات ابن عباس لأنه لم يحضر القصة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة" أن عمر قال: لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية، فكأن ابن عباس حمل ذلك عن عمر، وكأن عكرمة حمله عن ابن عباس عن عمر، وقد أخرج مسلم من طريق سماك بن الوليد عن ابن عباس: حدثني عمر ببعضه.

(8/619)


6- بَاب {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يَعْنِي مِنْ الْمَرَارَةِ
4876- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
[الحديث4876- طرفه في:4993]
4877- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: " أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا" فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
قوله: {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يعني من المرارة هو قول الفراء، قال في هذه الآية: معناه أشد عليهم من عذاب يوم بدر، وأمر من المرارة. قوله: "يوسف بن ماهك" تقدم ذكره قريبا في

(8/619)


55- سورة الرَّحْمَنِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بِحُسْبَانٍ} كَحُسْبَانِ الرَّحَى وَقَالَ غَيْرُهُ {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} يُرِيدُ لِسَانَ الْمِيزَانِ وَالْعَصْفُ بَقْلُ الزَّرْعِ إِذَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ فَذَلِكَ الْعَصْفُ {وَالرَّيْحَانُ} رِزْقُهُ {وَالْحَبُّ} الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ وَالرَّيْحَانُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ الرِّزْقُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ {وَالْعَصْفُ} يُرِيدُ الْمَأْكُولَ مِنْ الْحَبِّ وَالرَّيْحَانُ النَّضِيجُ الَّذِي لَمْ يُؤْكَلْ وَقَالَ غَيْرُهُ الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ الْعَصْفُ التِّبْنُ وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْعَصْفُ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ تُسَمِّيهِ النَّبَطُ هَبُورًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ وَالْمَارِجُ اللَّهَبُ الأَصْفَرُ وَالأَخْضَرُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} لِلشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ مَشْرِقٌ وَمَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مَغْرِبُهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ {لاَ يَبْغِيَانِ} لاَ يَخْتَلِطَانِ {الْمُنْشَآتُ} مَا رُفِعَ قِلْعُهُ مِنْ السُّفُنِ فَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قَلْعُهُ فَلَيْسَ بِمُنْشَأَةٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {كَالْفَخَّارِ} كَمَا يُصْنَعُ الْفَخَّارُ الشُّوَاظُ لَهَبٌ مِنْ نَارٍ {وَنُحَاسٌ} النُّحَاسُ الصُّفْرُ يُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَيُعَذَّبُونَ بِهِ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَتْرُكُهَا {مُدْهَامَّتَانِ} سَوْدَاوَانِ مِنْ الرِّيِّ {صَلْصَالٍ} طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ وَيُقَالُ مُنْتِنٌ يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ يُقَالُ صَلْصَالٌ كَمَا يُقَالُ صَرَّ الْبَابُ عِنْدَ الإِغْلاَقِ وَصَرْصَرَ مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي كَبَبْتُهُ {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} َقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ بِالْفَاكِهَةِ وَأَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهَا تَعُدُّهَا فَاكِهَةً كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ أَعَادَ الْعَصْرَ تَشْدِيدًا لَهَا كَمَا أُعِيدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ وَمِثْلُهَا {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} ثُمَّ قَالَ {وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وَقَدْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوَّلِ قَوْلِهِ {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} وَقَالَ غَيْرُهُ {أَفْنَانٍ} أَغْصَانٍ {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} مَا يُجْتَنَى قَرِيبٌ وَقَالَ الْحَسَنُ {فَبِأَيِّ آلاَءِ} نِعَمِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يَعْنِي الْجِنَّ وَالإِنْسَ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كُلَّ يَوْمٍ {هُوَ فِي شَأْنٍ} يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بَرْزَخٌ} حَاجِزٌ {الأَنَامُ} الْخَلْقُ {نَضَّاخَتَانِ} فَيَّاضَتَانِ {ذُو الْجَلاَلِ} ذُو الْعَظَمَةِ وَقَالَ

(8/620)


غَيْرُهُ {مَارِجٌ} خَالِصٌ مِنْ النَّارِ يُقَالُ مَرَجَ الأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ إِذَا خَلاَهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيُقَالُ مَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ مَرِيجٍ مُلْتَبِسٌ {مَرَجَ} اخْتَلَطَ {الْبَحْرَانِ} مِنْ مَرَجْتَ دَابَّتَكَ تَرَكْتَهَا {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} سَنُحَاسِبُكُمْ لاَ يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ يُقَالُ لاَتَفَرَّغَنَّ لَكَ وَمَا بِهِ شُغْلٌ يَقُولُ لاَخُذَنَّكَ عَلَى غِرَّتِك"
قوله: "سورة الرحمن" كذا لهم، زاد أبو ذر البسملة، والأكثر عدوا {الرَّحْمَنِ} آية وقالوا هو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدا محذوف الخبر، وقيل تمام الآية "علم القرآن" وهو الخبر. قوله: "وقال مجاهد بحسبان كحسبان الرحى" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد تقدم في بدء الخلق بأبسط منه. قوله: "وقال غيره" وأقيموا الوزن "يريد لسان الميزان" سقط "وقال غيره:"لغير أبي ذر، وهذا كلام الفراء بلفظه، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي المغيرة قال: "رأى ابن عباس رجلا يزن قد أرجح، فقال: أقم اللسان، كما قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} . وأخرج ابن المنذر من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} قال: اللسان. قوله: "والعصف بقل الزرع إذا قطع منه شيء قبل أن يدرك فذلك العصف، والريحان رزقه، والحب الذي يؤكل منه، والريحان في كلام العرب الرزق" هو كلام الفراء أيضا لكن ملخصا، ولفظه: العصف فيما ذكروا بقل الزرع لأن العرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه شيئا قبل أن يدرك، والباقي مثله لكن قال: والريحان رزقه وهو الحب إلخ، وزاد في آخره: قال ويقولون خرجنا نطلب ريحان الله. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطعوا رءوسه فهو يسمى العصف إذا يبس. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس: العصف أول ما يخرج الزرع بقلا. قوله: "وقال بعضهم: العصف يريد المأكول من الحب، والريحان النضيج الذي لم يؤكل" هو بقية كلام الفراء بلفظه. ولابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: العصف البر والشعير، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الريحان حين يستوي الزرع على سوقه ولم يسنبل. قوله: "وقال غيره: العصف ورق الحنطة" كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: وقال مجاهد العصف ورق الحنطة، والريحان الرزق. وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه مفرقا قال: العصف ورق الحنطة، والريحان الرزق. قوله: "وقال الضحاك: العصف التبن" وصله ابن المنذر من طريق الضحاك بن مزاحم أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "وقال أبو مالك: العصف أول ما ينبت، تسميه النبط هبورا" وصله عبد بن حميد من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك بهذا، وأبو مالك هو الغفاري كوفي تابعي ثقة، قال أبو زرعة: لا يعرف اسمه. وقال غيره: اسمه غزوان بمعجمتين، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع. والنبط بفتح النون والموحدة ثم طاء مهملة هم أهل الفلاحة من الأعاجم؛ وكانت أماكنهم بسواد العراق والبطائح، وأكثر ما يطلق على أهل الفلاحة، ولهم فيها معارف اختصوا بها، وقد جمع أحمد بن وحشية في "كتاب الفلاحة" من ذلك أشياء عجيبة. وقوله: "هبورا" بفتح الهاء وضم الموحدة الخفيفة وسكون الواو بعدها راء هو دقاق الزرع بالنبطية، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} قال: هو الهبور.
" تنبيه " : قرأ الجمهور {وَالرَّيْحَانُ} بالضم عطفا على الحب، وقرأ

(8/621)


حمزة والكسائي بالخفض عطفا على العصف، وذكر الفراء أن هذه الآية في مصاحف أهل الشام "والحب ذا العصف" بعد الذال المعجمة ألف، قال ولم أسمع أحدا قرأ بها، وأثبت غيره أنها قراءة ابن عامر، بل المنقول عن ابن عامر نصب الثلاثة الحب وذا العصف والريحان فقيل عطف على الأرض لأن معنى وضعها جعلها فالتقدير وجعل الحب إلخ أو نصبه بخلق مضمرة، قال الفراء: ونظير ما وقع في هذا الموضع ما وقع في مصاحف أهل الكوفة "والجار ذا القربى والجار الجنب" قال ولم يقرأ بها أيضا أحد انتهى. وكأنه نفي المشهور، وإلا فقد قرئ بها أيضا في الشواذ. قوله: "والمارج اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا الإسناد، وسيأتي له تفسير آخر. قوله: "وقال بعضهم عن مجاهد رب المشرقين إلخ" وصله الفريابي أيضا. وأخرج ابن المنذر من طريق علي ابن أبي طلحة، وسعيد بن منصور من طريق أبي ظبيان كلاهما عن ابن عباس قال: للشمس مطلع في الشتاء ومغرب، ومطلع في الصيف ومغرب. وأخرج عبد الرزاق من طريق عكرمة مثله وزاد قوله: "ورب المشارق والمغارب" لها في كل يوم مشرق ومغرب، ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس قال: {الْمَشْرِقَيْنِ} مشرق الفجر ومشرق الشفق، "والمغربين" مغرب الشمس ومغرب الشفق. قوله: "لا يبغيان لا يختلطان" وصله الفريابي من طريق مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينهما من البعد ما لا يبغي كل واحد منهما على صاحبه، وتقدير قوله على هذا: يلتقيان، أي أن يلتقيا، وحذف "أن" سائغ، وهو كقوله ومن آياته يريكم البرق، وهذا يقوي قول من قال: أن المراد بالبحرين بحر فارس وبحر الروم لأن مسافة ما بينهما ممتدة، والحلو - وهو بحر النيل أو الفرات مثلا - يصب في الملح، فكيف يسوغ نفي اختلاطهما أو يقال بينهما بعد؟ لكن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} يرد على هذا، فلعل المراد بالبحرين في الموضعين مختلف. ويؤيده قول ابن عباس هنا: قوله تعالى في هذا الموضع {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} فإن اللؤلؤ يخرج من بحر فارس والمرجان يخرج من بحر الروم، وأما النيل فلا يخرج منه لا هذا ولا هذا. وأجاب من قال: المراد من الآيتين متحد، والبحران هنا العذب والملح بأن معنى قوله منهما أي من أحدهما كما في قوله تعال {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} وحذف المضاف سائغ، وقيل بل قوله: "منهما" على حاله، والمعنى أنهما يخرجان من الملح في الموضع الذي يصل إليه العذب، وهو معلوم عند الغواصين، فكأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد قيل يخرج منهما. وقد اختلف في المراد بالمرجان فقيل: هو المعروف بين الناس الآن، وقيل: اللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان صغاره، وقيل بالعكس. وعلى هذا يكون المراد بحر فارس فإنه هو الذي يخرج منه اللؤلؤ، والصدف يأوي إلى المكان الذي ينصب فيه الماء العذب كما تقدم، والله أعلم. قوله: "المنشئات ما رفع قلعه من السفن، فأما ما لم يرفع قلعه فليس بمنشئات" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظه، لكن قال: "منشأة" بالإفراد، والقلع بكسر القاف وسكون اللام ويجوز فتحها، ومنشئات بفتح الشين المعجمة في قراءة الجمهور اسم مفعول، وقرأ حمزة وعاصم في رواية لأبي بكر عنه بكسرها أي المنشئة هي للسير، ونسبة ذلك إليها مجازية. قوله: "وقال مجاهد كالفخار كما يصنع الفخار" وصله الفريابي من طريقه. قوله: "الشواظ لهب من نار" تقدم في صفة النار من بدء الخلق وكذا تفسير النحاس. قوله: {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} يهم بالمعصية فيذكر الله عز وجل فيتركها "وصله الفريابي وعبد الرزاق جميعا من طريق منصور عن مجاهد بلفظ: إذا هم بمعصية يذكر مقام الله

(8/622)


عليه فيتركها. قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} سوداوان من الري" وصله الفريابي، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "صلصال: طين خلط برمل فصلصل إلخ" تقدم في أول بدء الخلق، وسقط لأبي ذر هنا. قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} . قال بعضهم: ليس الرمان والنخل بالفاكهة، وأما العرب فإنها تعدهما فاكهة كقوله عز وجل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} إلخ" قال شيخنا ابن الملقن: البعض المذكور هو أبو حنيفة. وقال الكرماني قيل أراد به أبا حنيفة. قلت: بل نقل البخاري هذا الكلام من كلام الفراء ملخصا ولفظه: قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} قال بعض المفسرين: ليس الرمان ولا النخل من الفاكهة، قال: وقد ذهبوا في ذلك مذهبا. قلت: فنسبه الفراء لبعض المفسرين وأشار إلى توجيهه ثم قال: ولكن العرب تجعل ذلك فاكهة، وإنما ذكرا بعد الفاكهة كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ} إلخ" والحاصل أنه من عطف الخاص على العام كما في المثالين اللذين ذكرهما. واعترض بأن قوله هنا فاكهة نكرة في سياق الإثبات فلا عموم، وأجيب بأنها سيقت في مقام الامتنان فتعم، أو المراد بالعام هنا ما كان شاملا لما ذكر بعده. وقد وهم بعض من تكلم على البخاري فنسب البخاري للوهم، وما علم أنه تبع في ذلك كلام إمام من أئمة اللسان العربي. وقد وقع لصاحب "الكشاف" نحو ما وقع للفراء وهو من أئمة الفن البلاغي فقال: فإن قلت لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت: اختصاصا وبيانا لفضلهما كأنهما - لما كان لهما من المزية - جنسان آخران كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بعد الملائكة. قوله: "وقال غيره أفنان أغصان، وجني الجنتين دان ما يجتني قريب" سقط هذا لأبي ذر هنا، وقد تقدم في صفة الجنة. قوله: "وقال الحسن: فبأي آلاء نعمه" وصله الطبري من طريق سهل السراج عن الحسن. قوله: "وقال قتادة: وربكما تكذبان يعني الجن والإنس" وصله ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. قوله: "وقال أبو الدرداء:"كل يوم هو في شأن "يغفر ذنبا ويكشف كربا ويرفع قوما ويضع آخرين" وصله المصنف في "التاريخ" وابن حبان في "الصحيح" وابن ماجه وابن أبي عاصم والطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا، وأخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق أم الدرداء عن أبي الدرداء موقوفا، وللمرفوع شاهد آخر عن ابن عمر أخرجه البزار، وآخر عن عبد الله بن منيب أخرجه الحسن بن سفيان والبزار وابن جرير والطبراني. قوله: "وقال ابن عباس: برزخ حاجز، الأنام الخلق، نضاختان فياضتان" تقدم كله في بدء الخلق. قوله: "ذو الجلال العظمة" هو من كلام ابن عباس، وسيأتي في التوحيد، وقرأ الجمهور ذو الجلال الأولى بالواو صفة للوجه، وفي قراءة ابن مسعود ذي الجلال بالياء صفة للرب، وقرأ الجمهور الثانية كذلك إلا ابن عامر فقرأها أيضا بالواو وهي في مصحف الشام كذلك. قوله: "وقال غيره مارج خالص من النار، يقال مرج الأمير رعيته إذا خلاهم يعدو بعضهم على بعض إلخ" سقط قوله: "مريج مختلط" من رواية أبي ذر وقوله: "مرج اختلط" في رواية غير أبي ذر "مرج البحرين اختلط البحران" ، وقد تقدم جميع ذلك في صفة النار من بدء الخلق. قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} سنحاسبكم، لا يشغله شيء عن شيء "هو كلام أبي عبيدة أخرجه ابن المنذر من طريقه. وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو وعيد من الله لعباده وليس بالله شغل، وهو معروف في كلام العرب يقال: لأتفرغن لك، وما به شغل، كأنه يقول لآخذنك على غرة

(8/623)


1- باب {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}
4878- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ

(8/623)


عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْن"
[الحديث 4878- طرفاه في: 4880، 7444]
قوله: "باب قوله {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} سقط باب قوله: "لغير أبي ذر، قال الترمذي الحكيم: المراد بالدون هنا القرب، أي وقربهما جنتان أي هما أدنى إلى العرش وأقرب، وزعم أنهما أفضل من اللتين قبلهما. وقال غيره: معنى دونهما بقربهما، وليس فيه تفضيل. وذهب الحليمي إلى أن الأوليين أفضل من اللتين بعدهما، ويدل عليه تفاوت ما بين الفضة والذهب. وقد روى ابن مردويه من طريق حماد عن أبي عمران في هذا الحديث قال: من ذهب للسابقين ومن فضة للتابعين. وفي رواية ثابت عن أبي بكر: من ذهب للمقربين ومن فضة لأصحاب اليمين. قول "العمي" بفتح المهملة وتشديد الميم، وأبو عمران الجوني بفتح الجيم وسكون الواو بعدها نون هو عبد الملك بن حبيب. قوله: "عن أبيه" هو أبو موسى الأشعري. قوله: "جنتان من فضة" وفي رواية الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني في أول هذا الحديث: جنان الفردوس أربع ثنتان من ذهب إلخ. قوله: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلخ" يأتي البحث فيه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقوله في جنة عدن متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال من القوم، فكأنه قال كائنين في جنة عدن

(8/624)


2- باب {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُورُ السُّودُ الْحَدَقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَقْصُورَاتٌ مَحْبُوسَاتٌ قُصِرَ طَرْفُهُنَّ وَأَنْفُسُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ قَاصِرَاتٌ لاَ يَبْغِينَ غَيْرَ أَزْوَاجِهِنَّ
4879- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُون"
4880- وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ كَذَا آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْن"
قول "باب {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أي محبوسات، ومن ثم سموا البيت الكبير قصرا لأنه يحبس من فيه. قوله: "وقال ابن عباس حور سود الحدق" في رواية ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس: الحور سواد الحدقة. قوله: "وقال مجاهد: مقصورات محبوسات، قصرن طرفهن وأنفسهن على أزواجهن، قاصرات لا يبغين غير أزواجهن" وصله الفريابي وتقدم في بدء الخلق. قوله: "عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه" هو أبو موسى الأشعري. قوله: "إن في الجنة خيمة" أي المراد بقوله في الآية "في الخيام" والخيام جمع خيمة، والمذكور في الحديث صفتها. قوله: "مجوفة" أي واسعة الجوف. قوله: "في كل زاوية منها أهل" في رواية مسلم: "أهل

(8/624)


للمؤمن" . قوله: "ستون ميلا" تقدم الكلام عليه في صفة الجنة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الخيمة ميل في ميل، والميل ثلث الفرسخ. قوله: "يطوف عليهم المؤمنون" قال الدمياطي: صوابه المؤمن بالإفراد وأجيب بجواز أن يكون من مقابلة المجموع بالمجموع. قوله: "وجنتان من فضة "هذا معطوف على شيء محذوف تقديره هذا للمؤمن، أو هو من صنيع الراوي. وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "جنتان إلخ" وقد تقدم شرح ذلك في الباب الذي قبله

(8/625)


56- سورة الْوَاقِعَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {رُجَّتْ} زُلْزِلَتْ {بُسَّتْ} فُتَّتْ لُتَّتْ كَمَا يُلَتُّ السَّوِيقُ {الْمَخْضُودُ} الْمُوقَرُ حَمْلاً وَيُقَالُ أَيْضًا لاَ شَوْكَ لَهُ {مَنْضُودٍ} الْمَوْزُ وَالْعُرُبُ الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ {ثُلَّةٌ} أُمَّةٌ {يَحْمُومٍ} دُخَانٌ أَسْوَدُ {يُصِرُّونَ} يُدِيمُونَ {الْهِيمُ} الإِبِلُ الظِّمَاءُ {لَمُغْرَمُونَ} لَمَلُومُونَ {مَدِينِينَ} مُحَاسَبِينَ {رَوْحٌ} جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ {وَرَيْحَانٌ} الرِّزْقُ {وَنُنْشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ وَقَالَ غَيْرُهُ {تَفَكَّهُونَ} تَعْجَبُونَ {عُرُبًا} مُثَقَّلَةً وَاحِدُهَا عَرُوبٌ مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ يُسَمِّيهَا أَهْلُ مَكَّةَ الْعَرِبَةَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ الْغَنِجَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ الشَّكِلَةَ وَقَالَ فِي {خَافِضَةٌ} لِقَوْمٍ إِلَى النَّارِ وَ {رَافِعَةٌ} إِلَى الْجَنَّةِ {مَوْضُونَةٍ} مَنْسُوجَةٍ وَمِنْهُ وَضِينُ النَّاقَةِ وَالْكُوبُ لاَ آذَانَ لَهُ وَلاَ عُرْوَةَ وَالأَبَارِيقُ ذَوَاتُ الآذَانِ وَالْعُرَى {مَسْكُوبٍ} جَارٍ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ {مُتْرَفِينَ} مُمَتَّعِينَ {مَا تُمْنُونَ} مِنْ النُّطَفِ يَعْنِي هِيَ النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ {لِلْمُقْوِينَ} لِلْمُسَافِرِينَ وَالْقِيُّ الْقَفْرُ {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَيُقَالُ بِمَسْقِطِ النُّجُومِ إِذَا سَقَطْنَ وَمَوَاقِعُ وَمَوْقِعٌ وَاحِدٌ {مُدْهِنُونَ} مُكَذِّبُونَ مِثْلُ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فَسَلاَمٌ لَكَ أَيْ مُسَلَّمٌ لَكَ إِنَّكَ {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وَأُلْغِيَتْ إِنَّ وَهُوَ مَعْنَاهَا كَمَا تَقُولُ أَنْتَ مُصَدَّقٌ مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ إِذَا كَانَ قَدْ قَالَ إِنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ وَقَدْ يَكُونُ كَالدُّعَاءِ لَهُ كَقَوْلِكَ فَسَقْيًا مِنْ الرِّجَالِ إِنْ رَفَعْتَ السَّلاَمَ فَهُوَ مِنْ الدُّعَاءِ {تُورُونَ} تَسْتَخْرِجُونَ أَوْرَيْتُ أَوْقَدْتُ {لَغْوًا} بَاطِلًا {تَأْثِيمًا} كَذِبًا.
قوله: "سورة الواقعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سقطت البسملة لغير أبي ذر، والمراد بالواقعة القيامة. قوله: "وقال مجاهد رجت زلزلت" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "بست: سمعت ولتت كما يلت السويق" وصله الفريابي من طريق مجاهد بنحوه، وعند أبي عبيدة بست كالسويق المبسوس بالماء. وعند ابن أبي حاتم من طريق منصور عن مجاهد قال: لتت لتا، ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال: فتت فتا. قوله: "المخضود لا شوك له" كذا لأبي ذر، ولغيره: المخضود الموقر حملا، ويقال أيضا إلخ تقدم بيانه في صفة الجنة من بدء الخلق. قوله: "منضود الموز: سقط هذا لأبي ذر، وقد

(8/625)


تقدم في صفة الجنة أيضا. قوله: "والعرب المحببات إلى أزواجهن" تقدم في صفة أهل الجنة أيضا. وقال ابن عيينة في تفسيره: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {عُرُباً أَتْرَاباً} قال: هي المحببة إلى زوجها. قوله: "ثلة أمة" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وقال أبو عبيدة: الثلة الجماعة، والثلة البقية. وعند ابن أبي حاتم من طريق ميمون بن مهران في قوله: "ثلة" قال: كثير. قوله: "يحموم دخان أسود" وصله الفريابي أيضا كذلك، وأخرجه سعيد بن منصور والحاكم من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} : من شدة سواده، يقال أسود يحموم فهو وزن يفعول من الحمم. قوله: "يصرون يديمون" وصله الفريابي أيضا لكن لفظه: "يدمنون" بسكون الدال بعدها ميم ثم نون، وعند ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: يقيمون. قوله: "الهيم الإبل الظماء" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في البيوع. قوله: "لمغرمون لملزمون" وصله ابن أبي حاتم من طريق شعبة عن قتادة، وعند الفريابي من طريق مجاهد: ملقون للشر. قوله: "مدينين محاسبين" تقدم في تفسير الفاتحة. قوله: "روح جنة ورخاء" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في صفة الجنة. قوله: "وريحان الرزق" تقدم في تفسير الرحمن قريبا. قوله: "وقال غيره تفكهون تعجبون" هو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم، قال ويقال: معناه تندمون. قلت: وهو قول مجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه ابن المنذر من طريق الحسن مثله، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هو شبه المتندم. قلت: تفكه بوزن تفعل وهو كتأثم أي ألقى الإثم، فمعنى تفكه أي ألقى عنه الفاكهة، وهو حال من دخل في الندم والحزن. قوله: "عربا مثقلة واحدها عروب إلى قوله الشكلة" سقط هنا لأبي ذر، وتقدم في صفة الجنة. قوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} ، أي في أي خلق نشاء" تقدم في بدء الخلق، وسقط "فيما لا تعلمون" هنا لأبي ذر. قوله: "وفرش مرفوعة بعضها فوق بعض" هو قول مجاهد، وتقدم أيضا في صفة الجنة. قوله: "والكوب إلخ وكذا قوله مسكوب جار" سقط كله لأبي ذر هنا، وتقدم في صفة الجنة. قوله: "موضوبة منسوجة، ومنه وضين الناقة" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في صفة الجنة أيضا. قوله: "وقال في "خافضة" لقوم إلى النار و" رافعة" لقوم إلى الجنة" قال الفراء في قوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قال: خافضة لقوم إلى النار، رافعة لقوم إلى الجنة. وعن محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرتفعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا منخفضين، وأخرجه سعيد بن منصور. وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قال: شملت القريب والبعيد، حتى خفضت أقواما في عذاب الله ورفعت أقواما في كرامة الله. وروى ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس نحوه، ومن طريق عثمان بن سراقة عن خاله عمر بن الخطاب نحوه، ومن طريق السدي قال: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين. قوله: "مترفين متنعمين" كذا للأكثر بمثناة قبل النون وبعد العين ميم، وللكشميهني: "متمتعين" بميم قبل المثناة من التمتع، كذا في رواية النسفي والأول هو الذي وقع في "معاني القرآن للفراء" ومنه نقل المصنف. ولابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: منعمين. قوله: "ما تمنون هي النطف يعني في أرحام النساء" تقدم في بدء الخلق، قال الفراء: قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} يعني النطف إذا قذفت في أرحام النساء، أأنتم تخلقون تلك النطف أم نحن. قوله: {لِلْمُقْوِينَ} للمسافرين والقي القفر" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق أيضا. قوله: "بمواقع النجوم بمحكم القرآن" قال الفراء:

(8/626)


حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن المنهال بن عمرو قال: قرأ عبد الله {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قال: بمحكم القرآن، وكان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما. وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قال: بمنازل النجوم. قال وقال الكلبي: هو القرآن أنزل نجوما انتهي. ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم من طريق حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزل القرآن جميعا ليلة القدر إلى السماء، ثم فصل فنزل في السنين، وذلك قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} . قوله: "ويقال بمسقط النجوم إذا سقطن ومواقع وموقع واحد" هو كلام الفراء أيضا بلفظه، ومراده أن مفادهما واحد وإن كان أحدهما جميعا والآخر مفردا، لكن المفرد المضاف كالجمع في إفادة التعدد، وقرأها بلفظ الواحد حمزة والكسائي وخلف" وقال أبو عبيدة: مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب" . قوله: "مدهنون مكذبون مثل: لو تدهن فيدهنون" قال الفراء في قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} : أي مكذبون، وكذلك في قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي لو تكفر فيكفرون، كل قد سمعته قد أدهن أي كفر. وقال أبو عبيدة مدهنون واحدها مدهن وهو المداهن. قوله: {فَسَلامٌ لَكَ} أي مسلم لك. إنك من أصحاب اليمين وألغيت إن وهو معناها كما تقول أنت مصدق ومسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل" هو كلام الفراء بلفظه لكن قال: أنت مصدق مسافر بغير واو وهو الوجه، والتقدير أنت مصدق أنك مسافر، ويؤيد ما قال الفراء ما أخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: تأتيه الملائكة من قبل الله، سلام لك من أصحاب اليمين: تخبره أنه من أصحاب اليمين. قوله: "وقد يكون كالدعاء له كقولك فسقيا من الرجال، إن رفعت السلام فهو من الدعاء" هو كلام الفراء أيضا بلفظه، لكنه قال: "وإن رفعت السلام فهو دعاء" . قوله: "تورون تستخرجون، أوريت أوقدت" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في صفة النار من بدء الخلق. قوله: "لغوا باطلا، تأثيما كذبا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "لغوا" باطلا. وفي قوله: {وَلا تَأْثِيماً} قال: كذبا

(8/627)


1- بَاب {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
4881- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
قوله "بَاب {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} "ذكر فيه حديث أبي هريرة "إن في الجنة شجرة" وقد تقدم شرحه في صفة الجنة من بدء الخلق

(8/627)


57- سورة الْحَدِيدِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ} مُعَمَّرِينَ فِيهِ {مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} مِنْ الضَّلاَلَةِ إِلَى الْهُدَى {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} جُنَّةٌ وَسِلاَحٌ {مَوْلاَكُمْ} أَوْلَى بِكُمْ {لِئَلاَ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُقَالُ {الظَّاهِرُ} عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {وَالْبَاطِنُ} عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {أَنْظِرُونَا} انْتَظِرُونَا

(8/627)


58- سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُحَادُّونَ} يُشَاقُّونَ اللَّهَ {كُبِتُوا} أُخْزُوا مِنْ الْخِزْيِ {اسْتَحْوَذَ} غَلَبَ
قوله: "سورة المجادلة" كذا للإسماعيلي وأبي نعيم، وللنسفي المجادلة، وسقط لغيرهم. قوله: {يُحَادُّونَ} يشاقون" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {يُحَادُّونَ اللَّهَ} قال: يعادون الله ورسوله. قوله: {كُبِتُوا} أخزنوا" كذا لأبي ذر. وفي رواية النسفي أحزنوا وكأنها بالمهملة والنون، ولابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة خزوا كما خزي الذين من قبلهم، ومن طريق مقاتل بن حيان أخزوا. وقال أبو عبيدة: كبتوا أهلكوا. قوله: "استحوذ غلب" أي غلبهم الشيطان، هو قول أبي عبيدة، وحكى عن قراءة عمر رضي الله عنه استحاذ بوزن استقام.
" تنبيه " : لم يذكر في تفسير الحديد حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود "لم يكن بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أربع سنين" أخرجه مسلم من طريق عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبيه عن عمه، وكذا سورة المجادلة ولم يخرج فيها حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث التي ظاهر منها زوجها، وقد أخرجه النسائي، وأورد منه البخاري طرفا في كتاب التوحيد معلقا

(8/628)


59- سُورَةُ الْحَشْرِ. الْجَلاَءَ الإِخْرَاجُ مِنْ أَرْضٍ
1- باب4882- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو

(8/628)


2- باب {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} نَخْلَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً
4884- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}
قوله: "باب قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} نخلة ما لم تكن عجوة أو برنية" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} أي من نخلة، وهي من الألوان ما لم تكن عجوة أو برنية إلا أن الواو ذهبت بكسر اللام، وعند الترمذي من حديث ابن عباس "اللينة النخلة" في أثناء حديث، وروى سعيد بن منصور من طريق عكرمة قال: اللينة ما دون العجوة. وقال سفيان: هي شديدة الصفرة تنشق عن النوى.

(8/629)


باب قوله {ما أفاء الله على رسوله}
...
3- باب {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}
4885- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ

(8/629)


4- باب {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
4886حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ قَالَتْ فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ قَالَ فَاذْهَبِي فَانْظُرِي فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا فَقَالَ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتُهَا"
[الحديث 4886- أطرافه في: 4887، 5931، 5939، 5943، 5948]
4887- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ ذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ فَقَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَ حَدِيثِ مَنْصُور"
قوله: "باب {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أي وما أمركم به فافعلوه، لأنه قابله بقوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود قال: "لعن الله الواشمات" سيأتي شرحه في كتاب اللباس. قوله: "فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب" لا يعرف اسمها، وقد أدركها عبد الرحمن بن عباس كما في الطريق التي بعده. قوله: "أما قرأت {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت بلى، قال فإنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "قد نهى" بفتح الهاء وإنما ضبطت هذا خشية أن يقرأ بضم النون وكسر الهاء على البناء للمجهول على أن الهاء في إنه ضمير الشان لكن السياق يرشد إلى ما قررته، وفي هذا الجواب نظر، لأنها استشكلت اللعن ولا يلزم من مجرد النهي لعن من لم يمتثل، لكن يحمل على أن المراد في الآية وجوب امتثال قول الرسول، وقد نهى عن هذا الفعل، فمن فعله فهو ظالم، وفي القرآن لعن الظالمين. ويحتمل أن يكون ابن مسعود سمع اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم كما في بعض طرقه. قوله:

(8/630)


"أهلك يفعلونه" هي زينب بنت عبد الله الثقفية. قوله: "فلم تر من حاجتها شيئا" أي من الذي ظنت أن زوج ابن مسعود تفعله. وقيل كانت المرأة رأت ذلك حقيقة وإنما ابن مسعود أنكر عليها فأزالته، فلهذا لما دخلت المرأة لم تر ما كانت رأت قبل ذلك. قوله: "ما جامعتها" يحتمل أن يكون المراد بالجماع الوطء، أو الاجتماع وهو أبلغ، ويؤيده قوله في رواية الكشميهني: "ما جامعتنا" وللإسماعيلي: "ما جامعتني" . واستدل بالحديث على جواز لعن من اتصف بصفة لعن رسول الله صلى الله عليه وسلممن اتصف بها لأنه لا يطلق ذلك إلا على من يستحقه، وأما الحديث الذي أخرجه مسلم فإنه قيد فيه بقوله: "ليس بأهل" أي عندك، لأنه إنما لعنه لما ظهر له من استحقاقه، وقد يكون عند الله بخلاف ذلك، فعلى الأول يحمل قوله: "فاجعلها له زكاة ورحمة" وعلى الثاني فيكون لعنه زيادة في شقوته. وفيه أن المعين على المعصية يشارك فاعلها في الإثم.

(8/631)


5- باب {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ}
4888- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِم"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أي استوطنوا المدينة، وقيل نزلوا، فعلى الأول يختص بالأنصار وهو ظاهر قول عمر، وعلى الثاني يشملهم ويشمل المهاجرين السابقين. ذكر فيه طرفا من قصة عمر عند مقتله وقد تقدم المناقب. قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أي استوطنوا المدينة، وقيل نزلوا، فعلى الأول يختص بالأنصار وهو ظاهر قول عمر، وعلى الثاني يشملهم ويشمل المهاجرين السابقين. ذكر فيه طرفا من قصة عمر عند مقتله وقد تقدم المناقب.

(8/631)


6- باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ. الْخَصَاصَةُ الْفَاقَةُ الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِالْخُلُودِ وَالْفَلاَحُ الْبَقَاءُ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ عَجِّلْ وَقَالَ الْحَسَنُ حَاجَةً حَسَدًا
4889- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي الْجَهْدُ فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ" فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا قَالَتْ وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ قَالَ فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ ضَحِكَ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
قوله: "باب قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية. الخصاصة فاقة" ولغير أبي ذر "الفاقة" وهو قول

(8/631)


60- سورة الْمُمْتَحِنَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} لاَ تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ فَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أُمِرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِرَاقِ نِسَائِهِمْ كُنَّ كَوَافِرَ بِمَكَّةَ
قوله: "سورة الممتحنة" سقطت البسملة لجميعهم، والمشهور في هذه التسمية فتح الحاء، وقد تكسر وبه جزم السهيلي، فعلى الأول هي صفة المرأة التي نزلت السورة بسببها، والمشهور فيها أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقيل سعيدة بنت الحارث، وقيل أميمة بنت بشر، والأول هو المعتمد كما سيأتي إيضاحه في كتاب النكاح. ومن كسر جعلها صفة للسورة كما قيل لبراءة الفاضحة. قوله: "وقال مجاهد: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لا تعذبنا بأيديهم إلخ" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه بلفظه وزاد: "ولا بعذاب من عندك" وزاد في آخره: "ما أصابهم مثل هذا" وكذا أخرجه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه، والطبري من طريق أخرى عن ورقاء عن عيسى عن ابن أبي نجيح كذلك، فاتفقوا كلهم على أنه موقوف عن مجاهد. وأخرج الحاكم مثل هذا من طريق آدم بن أبي إياس عن ورقاء فزاد فيه ابن عباس وقال: صحيح على شرط مسلم، وما أظن زيادة ابن عباس فيه إلا وهما لاتفاق أصحاب ورقاء على عدم ذكره. وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لا تسلطهم علينا فيفتنونا" وهذا بخلاف تفسير مجاهد، وفيه تقوية لما قلته. وأخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قال: لا تظهرهم علينا فيفتنونا يرون أنهم إنما ظهروا علينا بحقهم، وهذا يشبه تأويل مجاهد. قوله: "بعصم الكوافر، أمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بفراق نسائهم كن كوافر بمكة" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وأخرجه الطبري من طريقه أيضا ولفظه: "أمر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بطلاق نسائهم كوافر بمكة قعدن مع الكفار، ولسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال: نزلت في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فتكفر فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برئ منها انتهى. والكوافر جمع كافرة والعصم جمع عصمة. وقال أبو علي الفارسي قال لي الكرخي: الكوافر في الآية يشمل الرجال والنساء، قال فقلت له: النحاة لا يجيزون هذا إلا في نساء جمع كافرة، قال: أليس يقال طائفة كافرة انتهى. وتعقب بأنه لا يجوز كافرة وصفا للرجال إلا مع ذكر الموصوف فتعين الأول. والله أعلم.

(8/633)


1- باب {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
4890- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبَ عَلِيٍّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا" فَذَهَبْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ فَقَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ

(8/633)


2- باب {إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}
4891- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَايَعْتُكِ كَلاَمًا وَلاَ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ مَا يُبَايِعُهُنَّ إِلاَّ بِقَوْلِهِ: "قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذَلِكِ" تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَة"
قوله: "باب {إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} اتفقوا على نزولها بعد الحديبية، وأن سببها ما تقدم من الصلح بين قريش والمسلمين على أن من جاء من قريش إلى المسلمين يردونه إلى قريش، ثم استثنى الله من ذلك النساء بشرط الامتحان. قوله: "حدثي إسحاق أنبأنا يعقوب" في رواية غير أبي ذر "حدثنا يعقوب" فأما إسحاق فهو ابن منصور وكلام أبي نعيم يشعر بأنه ابن إبراهيم، وأما يعقوب بن إبراهيم فهو ابن سعد، وابن أخي ابن شهاب اسمه محمد ابن عبد الله بن مسلم. قوله: "قال عروة قالت عائشة" هو موصول بالإسناد المذكور، وسيأتي الكلام على شرحه في أواخر النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "قد بايعتك. كلاما" أي يقول ذلك كلاما فقط، لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة. قوله: "ولا والله" فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية. فعند ابن خزيمة وابن حبان والبزار والطبري وابن مردويه من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة قال: "فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهم اشهد" وكذا الحديث الذي بعده حيث قال فيه: "قبضت منا امرأة يدها" فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن، ويمكن الجواب عن الأول بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة، وعن الثاني بأن المراد بقبض اليد التأخر عن القبول، أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في "المراسيل" عن الشعبي "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده وقال: لا أصافح النساء " وعند عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلا نحوه، وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي

(8/636)


حازم كذلك. وأخرج ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بكير عنه عن أبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه:"ويحتمل التعدد. وقد أخرج الطبراني أنه بايعهن بواسطة عمر، وروى النسائي والطبري من طريق محمد بن المنكدر" أن أميمة بنت رقيقة - بقافين مصغر - أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع، فقلن يا رسول الله ابسط يدك نصافحك، قال، إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن، فأخذ علينا حتى بلغ: ولا يعصينك في معروف، فقال: فيما طقتن واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا" وفي رواية الطبري "ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة" وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي، وفي المغازي لابن إسحاق عن أبان بن صالح "أنه كان يغمس يده في إناء فيغمسن أيديهن فيه" . قوله: "تابعه يونس ومعمر وعبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري" أما متابعة يونس فيأتي الكلام عليها في كتاب الطلاق، وأما متابعة معمر فوصلها المؤلف في الأحكام، أما متابعة عبد الرحمن بن إسحاق فوصلها ابن مردويه من طريق خالد بن عبد الله الواسطي عنه. قوله: "وقال إسحاق بن راشد عن الزهري عن عروة وعمرة" يعني عن عائشة، جمع بينهما، وصله الذهلي في "الزهريات" عن عتاب بن بشير عن إسحاق بن راشد به، وفي هذا الحديث أن المحنة المذكورة في قوله: "فامتحنوهن" هي أن يبايعهن بما تضمنته الآية المذكورة. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يمتحن من هاجر من النساء: بالله ما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ورسوله" وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه وزاد: "ولا خرج بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك" ، وعند ابن مردويه وابن أبي حاتم والطبراني من حديث ابن عباس نحوه وسنده ضعيف، ويمكن الجمع بين التحليف والمبايعة والله أعلم. وذكر الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المرأة من المشركين كانت إذا غضبت على زوجها قالت: والله لأهاجرن إلى محمد، فنزلت: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} .

(8/637)


3- باب {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}
4892- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ يَدَهَا فَقَالَتْ أَسْعَدَتْنِي فُلاَنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا"
4893- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قَالَ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاء"
4894- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَاهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ

(8/637)


تَسْرِقُوا وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ وَأَكْثَرُ لَفْظِ سُفْيَانَ قَرَأَ الآيَةَ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي الآيَةِ
4895- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمٍ أَخْبَرَهُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ شَهِدْتُ الصَّلاَةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلاَلٍ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: "أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ" فَقَالَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ قَالَ: "فَتَصَدَّقْنَ" وَبَسَطَ بِلاَلٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلاَل"
قوله: "باب {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} سقط "باب" لغير أبي ذر، وذكر فيه أربعة أحاديث. قوله: "عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية" كذا قال عبد الوارث عن أيوب. وقال سفيان بن عيينة" عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية" أخرجه النسائي، فكأن أيوب سمعه منهما جميعا، وقد تقدم شرح هذا في الجنائز. قوله: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا" أن لا يشركن بالله شيئا "ونهانا عن النياحة" في رواية مسلم من طريق عاصم عن حفصة عن أم عطية قالت "لما نزلت هذه الآية" يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا - ولا يعصينك في معروف" كان منه النياحة" . قوله: "فقبضت امرأة يدها" في رواية عاصم "فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد من أن أسعدهم" لم أعرف آل فلان المشار إليهم. وفي رواية النسائي: "قلت إن امرأة أسعدتني في الجاهلية" ولم أقف على اسم المرأة. وتبين أن أم عطية في رواية عبد الوارث أبهمت نفسها. قوله: "أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها" وللنسائي في رواية أيوب "فأذهب فأسعدها ثم أجيئك فأبايعك" والإسعاد قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في البكاء والمساعدة عليه، ويقال إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه عند التعاون على ذلك. قوله: "فانطلقت ورجعت، فبايعها" في رواية عاصم فقال: "إلا آل فلان" وفي رواية النسائي: "قال فاذهبي فأسعديها، قالت: فذهبت فساعدتها ثم جئت فبايعت" قال النووي: هذا محمول على أن الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، ولا تحل النياحة لها ولا لغيرها في غير آل فلان كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخص من العموم من شاء بما شاء، فهذا صواب الحكم في هذا الحديث. كذا قال، وفيه نظر إلا إن ادعى أن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا، وفيه بعد،

(8/638)


وإلا فليدع مشاركتهم لها في الخصوصية، وسأبين ما يقدح في خصوصية أم عطية بذلك. ثم قال: واستشكل القاضي عياض وغيره هذا الحديث وقالوا فيه أقوالا عجيبة، ومقصودي التحذير من الاغترار بها، فإن بعض المالكية قال: النياحة ليست بحرام، لهذا الحديث، وإنما المحرم ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية من شق جيب وخمش خد ونحو ذلك، قال: والصواب ما ذكرناه أولا وأن النياحة حرام مطلقا وهو مذهب العلماء كافة انتهى. وقد تقدم في الجنائز النقل عن غير هذا المالكي أيضا أن النياحة ليست بحرام، وهو شاذ مردود، وقد أبداه القرطبي احتمالا ورده بالأحاديث الواردة في الوعيد على النياحة، وهو دال على شدة التحريم، لكن لا يمتنع أن يكون النهي أولا ورد بكراهة التنزيه، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم فيكون الإذن لمن ذكر وقع في الحالة الأولى لبيان الجواز ثم وقع التحريم فورد حينئذ الوعيد الشديد. وقد لخص القرطبي بقية الأقاويل التي أشار إليها النووي، منها دعوى أن ذلك قبل تحريم النياحة، قال: وهو فاسد لمساق حديث أم عطية هذا، ولولا أن أم عطية فهمت التحريم لما استثنت. قلت: ويؤيده أيضا أن أم عطية صرحت بأنها من العصيان في المعروف وهذا وصف المحرم. ومنها أن قوله: "إلا آل فلان" ليس فيه نص على أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء والبكاء الذي لا نياحة معه. قال وهذا أشبه مما قبله. قلت: بل يرد عليه ورود التصريح بالنياحة كما سأذكره، ويرد عليه أيضا أن اللقاء والبكاء المجرد لم يدخل في النهي كما تقدم في الجنائز تقريره، فلو وقع الاقتصار عليه لم يحتج إلى تأخير المبايعة حتى تفعله. ومنها يحتمل أن يكون أعاد "إلا آل فلان" على سبيل الإنكار كما قال لمن استأذن عليه فقال له: من ذا؟ فقال: أنا. فقال: أنا أنا. فأعاد عليه كلامه منكرا عليه. قلت: ويرد عليه [ما ورد] على الأول. ومنها أن ذلك خاص بأم عطية، قال: وهو فاسد فإنها لا تختص بتحليل شيء من المحرمات انتهى. ويقدح في دعوى تخصيصها أيضا ثبوت ذلك لغيرها، ويعرف منه أيضا الخدش في الأجوبة الماضية، فقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس قال: "لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء فبايعهن أن لا يشركن بالله شيئا الآية قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني وقد مات أخوها" الحديث. وأخرج الترمذي من طريق شهر بن حوشب عن أم سلمة الأنصارية وهي أسماء بنت يزيد قالت: "قلت يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي ولا بد من قضائهن، فأبى قالت: فراجعته مرارا فأذن لي، ثم لم أنح بعد" . وأخرج أحمد والطبري من طريق مصعب بن نوح قال: "أدركت عجوزا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأخذ علينا ولا ينحن، فقال عجوز: يا نبي الله إن ناسا كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وإنهم قد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أن أسعدهم، قال: فاذهبي فكافئيهم. قالت: فانطلقت فكافأتهم. ثم إنها أتت فبايعته" وظهر من هذا كله أن أقرب الأجوبة أنها كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحريم والله أعلم. قوله: "حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي" هو جرير بن حازم. قوله: "سمعت الزبير" في رواية الإسماعيلي: "الزبير بن خريت" وهو بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة قوله: "في قوله: "ولا يعصينك في معروف" قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء" أي على النساء. وقوله: "فبايعهن" في السياق حذف تقديره: فإن بايعن على ذلك، أو فإن اشترطن ذلك على أنفسهن فبايعهن. واختلف في الشرط فالأكثر على أنه النياحة كما سبق، وقد تقدم عند مسلم ما يدل لذلك. وأخرج الطبري من طريق زهير بن محمد قال في قوله: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} لا يخلو الرجل

(8/639)


بامرأة. وقد جمع بينهما قتادة، فأخرج الطبري عنه قال: "أخذ عليهن أن لا ينحن ولا يحدثن الرجال، فقال عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أضيافا وإنا نغيب عن نسائنا، فقال: ليس أولئك عنيت" وللطبري من حديث ابن عباس المقدم ذكره "إنما أنبئكن بالمعروف الذي لا يعصينني فيه، لا تخلون بالرجال وحدانا، ولا تنحن نوح الجاهلية" ومن طريق أسيد بن أبي أسيد البراد عن امرأة من المبايعات قالت: "كان فيما أخذ علينا أن لا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخمش وجها، ولا ننشر شعرا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا" . قوله: "قال الزهري حدثناه" هو من تقديم الاسم على الصيغة، والضمير للحديث الذي يريد أن يذكره. قوله: "وقرأ آية النساء" أي آية بيعة النساء وهي "يا أيها النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا" الآية، وقد قدمت في كتاب الإيمان بيان وقت هذه المبايعة. قوله: "وأكثر لفظ سفيان قرأ الآية" وللكشميهني: "قرأ في الآية" والأول أولى. قوله: "ومن أصاب منها" أي من الأشياء التي توجب الحد، في رواية الكشميهني: "من ذلك شيئا" . قوله: "تابعه عبد الرزاق عن معمر" زاد المستملي: "في الآية" ، ووصله مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عقب رواية سفيان وقال له آخره:"وزاد الحديث: فتلا علينا آية النساء أن لا يشركن بالله شيئا" وقد تقدم شرحه ومباحثه في كتاب الإيمان مستوفى. وقوله: "ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن" فيه عدة أقوال: منها أن المراد بما بين الأيدي ما يكتسب بها وكذا الأرجل، الثاني هما كناية عن الدنيا والآخرة، وقيل عن الأعمال الظاهرة والباطنة، وقيل الماضي والمستقبل، وقيل ما بين الأيدي كسب العبد بنفسه وبالأرجل كسبه بغيره، وقيل غير ذلك. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا هارون بن معروف حدثنا عبد الله بن وهب قال وأخبرني ابن جريج" قلت: نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين بالنسبة لابن جريج، فإنه يروي عن ابن جريج بواسطة رجل واحد كأبي عاصم ومحمد بن عبد الله الأنصاري ومكي بن إبراهيم وغيرهم، نزل فيه درجة بالنسبة لابن وهب فإنه يروي عن جميع من أصحابه كأحمد بن صالح وأحمد بن عيسى وغيرها، وكأن السبب فيه تصريح ابن جريج في هذه الطريق النازلة بالإخبار. وقد أخرج البخاري طرفا من هذا الحديث في كتاب العيدين عن أبي عاصم عن ابن جريج بالعلو، وهو من أوله إلى قوله: "قبل الخطبة" وصرح فيه ابن جريج بالخبر، فلعله لم يكن بطوله عند ابن أبي عاصم ولا عند من لقيه من أصحاب ابن وهب، وقد علاه أبو ذر في روايته فقال: "حدثنا علي الحربي حدثنا ابن أبي داود حدثنا محمد بن مسلمة حدثنا ابن وهب" ، ووقع للبخاري بعلو في العيدين لكنه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، وتقدم شرحه هناك مستوفى، وقول ابن وهب "وأخبرني ابن جريج" معطوف على شيء محذوف.

(8/640)


سورة الصف : باب {يأتي من بعدي اسمة أحمد}
...
61- سورة الصَّفِّ
بسم الله الرحمن الرحيم: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} مَنْ يَتَّبِعُنِي إِلَى اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مَرْصُوصٌ} مُلْصَقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَقَالَ يَحْيَى بِالرَّصَاصِ
1- باب {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
4896- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ

(8/640)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِب"
قوله: "سورة الصف – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة الحواريين. وأخرج الطبري من طريق معمر عن قتادة أن الحواريين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من قريش، فسمى العشرة المشهورين إلا سعيد بن زيد وحده وحمزة وجعفر بن أبي طالب وعثمان بن مظعون. وقد وقع لنا سماع هذه السورة مسلسلا في حديث ذكر في أوله سبب نزولها وإسناده صحيح قل أن وقع في المسلسلات مثله مع مزيد علوه. قوله: "وقال مجاهد "من أنصاري إلى الله" من يتبعني إلى الله" في رواية الكشميهني: "من تبعني إلى الله" بصيغة الماضي. وقد وصله الفريابي بلفظ: "من يتبعني" وقال أبو عبيدة: إلى بمعنى في، أي من أنصاري في الله؟ قوله: "وقال ابن عباس مرصوص ملصق بعضه إلى بعض" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ببعض" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قول {كأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } : مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض فعلى تفسير ابن عباس هو من التراص أي التضام مثل تراص الأسنان أو من الملائم الأجزاء المستوى. قوله: "وقال يحيى بالرصاص" كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما: "وقال غيره:"وجزم أبو ذر بأنه يحيى بن زياد ابن عبد الله الفراء وهو كلامه في "معاني القرآن" ولفظه في قوله: {كأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} : يريد بالرصاص حثهم على القتال ورجح الطبري الأول. والرصاص بفتح الراء ويجوز كسرها. قوله: {أْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} في رواية أبي ذر "باب يأتي من بعدي" حديث جبير بن مطعم، وقد تقدم شرحه مستوفى أوائل السيرة النبوية.

(8/641)


سورة الجمعة: باب قوله {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}
...
62- سورة الْجُمُعَةِ
قوله: "سورة الجمعة – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، وتقدم ضبطه في كتاب الصلاة.
1- باب قَوْلُهُ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} وَقَرَأَ عُمَرُ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
4897- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ قُلْتُ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلاَثًا وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ: " لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ أَوْ رَجُلٌ مِنْ هَؤُلاَء"
[الحديث 4897- طرفه في: 4868]
4898- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخْبَرَنِي ثَوْرٌ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاَء"

(8/641)


قوله: "باب قوله {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي لم يلحقوا بهم، ويجوز في آخرين أن يكون منصوبا عطفا على الضمير المنصوب في يعلمهم، وأن يكون مجرورا عطفا على الأميين. قوله: "وقرأ عمر: فامضوا إلى ذكر الله" ثبت هذا هنا في رواية الكشميهني وحده، وروى الطبري عن عبد الحميد بن بيان عن سفيان عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: "ما سمعت عمر يقرؤها قط: فامضوا" ومن طريق مغيرة عن إبراهيم قال: "قيل لعمر إن أبى بن كعب يقرؤها فاسعوا، قال: أما إنه أعلمنا وأقرؤنا للمنسوخ، وإنما هي فامضوا" وأخرجه سعيد بن منصور فبين الواسطة بين إبراهيم وعمر وأنه خرشة بن الحر فصح الإسناد. وأخرجا أيضا من طريق إبراهيم عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها "فامضوا" ويقول: لو كان "فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي. وأخرجه الطبراني ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع. وللطبراني أيضا من طريق قتادة قال: هي في حرف ابن مسعود "فامضوا" قال: وهي كقوله: "إن سعيكم لشتى". وقال أبو عبيدة: معنى فاسعوا أجيبوا وليس من العدو. قوله: "حدثنا عبد العزيز: كذا لهم غير منسوب، قال الجياني: وكلام الكلاباذي يقتضى أنه ابن أبي حازم سلمة بن دينار، قال: والذي عندي أنه الدراوردي لأن مسلما أخرجه عن قتيبة عن الدراوردي عن ثور. قلت: وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا عن قتيبة، وأورده الإسماعيلي وأبو نعيم مستخرجيهما من طريق قتيبة، وجزم أبو مسعود أن البخاري أخرجه "عن عبد الله بن عبد الوهاب أنبأنا عبد العزيز الدراوردي" كذا فيه، وتبعه المزي، وظاهره أن البخاري نسبه ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيح، ولم أقف على رواية عبد العزيز بن أبي حازم لهذا الحديث في شيء من المسانيد، ولكن يؤيده أن البخاري لم يخرج للدراوردي إلا متابعة أو مقرونا، وهو هنا كذلك فإنه صدره برواية سليمان بن بلال ثم تلاه برواية عبد العزيز. قوله: "عن ثور" هو ابن يزيد المدني، وأبو الغيث بالمعجمة والمثلثة اسمه سالم. قوله: "فأنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم" كأنه يريد أنزلت عليه هذه الآية من سورة الجمعة، وإلا فقد نزل منها قبل إسلام أبي هريرة الأمر بالسعي، ووقع في رواية الدراوردي عن ثور عند مسلم: "نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ وآخرين منهم" . قوله: "قال قلت من هم يا رسول الله" في رواية السرخسي "قالوا من هم يا رسول الله" وفي رواية الإسماعيلي: "فقال له رجل" وفي رواية الدراوردي "قيل من هم" وفي رواية عبد الله بن جعفر عن ثور عند الترمذي "فقال رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا" ولم أقف على اسم السائل. قوله: "فلم يراجعوه" كذا في نسختي من طريق أبي ذر، وفي غيرها "فلم يراجعه" وهو الصواب، أي لم يراجع النبي صلى الله عليه وسلم السائل، أي لم يعد عليه جوابه حتى سأله ثلاث مرات. ووقع ذلك صريحا في رواية الدراوردي قال: "فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأل مرتين أو ثلاثا" وفي رواية ابن وهب عن سليمان بن بلال "حتى سأله ثلاث مرات" بالجزم، وكذا في رواية عبد الله بن جعفر. قوله: "وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان" في رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة "يده على فخذ سلمان" . قوله: "لو كان الإيمان عند الثريا" هي نجم معروف تقدم ذكره في تفسير سورة النجم. قول "لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء" هذا الشك من سليمان بن بلال. بدليل الرواية التي أوردها بعده من غير شك مقتصرا على قوله: "رجال من هؤلاء" وهي عند مسلم والنسائي كذلك، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية ابن وهب عن سليمان بلفظ: "لناله رجال من هؤلاء" أيضا بغير شك. وعبد العزيز المذكور هو الدراوردي كما جزم به أبو نعيم والجياني ثم المزي، 

=وقد أخرجه مسلم عن قتيبة عن الدراوردي، وجزم الكلاباذي بأنه ابن أبي حازم، والأول أولى فإن الحديث مشهور عن الدراوردي، ولم أر في شيء من المسانيد من حديث أبي حازم، والدراوردي قد أخرج له البخاري في المتابعات غير هذا. قوله: "من أبناء فارس" قيل إنهم من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام بن نوح وأنه ولد بضعة عشر رجلا كلهم كان فارسا شجاعا فسموا الفرس للفروسية، وقيل في نسبهم أقوال أخرى. وقال صاعد في الطبقات كان أولهم على دين نوح، ثم دخلوا في دين الصابئة في زمن طمهورث فداموا على ذلك أكثر من ألفي سنة، ثم تمجسوا على يد زرادشت. وقد أطنب أبو نعيم في أول "تاريخ أصبهان" في تخريج طرق هذا الحديث، أعني حديث: "لو كان الدين عند الثريا" ووقع في بعض طرقه عند أحمد بلفظ: "لو كان العلم عند الثريا" وفي بعض طرقه عند أبي نعيم عن أبي هريرة أن ذلك عند نزول قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} ويحتمل أن يكون ذلك صدر عند نزول كل من الآيتين. وقد أخرج مسلم الحديث مجردا عن السب من رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رفعه: "لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه" ، وأخرجه أبو نعيم من طريق سليمان التيمي حدثني شيخ من أهل الشام عن أبي هريرة نحوه وزاد في آخره: "برقة قلوبهم" ، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن التيمي عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي بالزيادة، ومن طريق أخرى من هذا الوجه فزاد فيه: "يتبعون سنتي، ويكثرون الصلاة علي" قال القرطبي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عيانا، فإنه وجد منهم من اشتهر ذكره من حفاظ الآثار والعناية بها ما لم يشاركهم فيه كثير من أحد غيرهم. واختلف أهل النسب في أصل فارس فقيل إنهم ينتهي نسبهم إلى جيومرت وهو آدم، وقيل إنه من ولد يافث بن نوح، وقيل من ذرية لاوي ابن سام بن نوح، وقيل هو فارس بن ياسور بن سام، وقيل هو من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام، وقيل إنهم من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والأول أشهر الأقوال عندهم، والذي يليه أرجحها عند غيرهم

  باب {وإذا رأو تجارة أو لهوا}
...
2- باب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا}
4899- حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَارَ النَّاسُ إِلاَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
قوله: "باب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} كذا لأبي ذر، ولغير "وإذا رأوا تجارة" حسب. قال ابن عطية: قال انفضوا إليها ولم يقل إليهما اهتماما بالأهم إذ كانت هي سبب اللهو من غير عكس. كذا قيل، وفيه نظر لأن العطف بأو لا يثنى معه الضمير، لكن يمكن أن يدعى أن "أو" هنا بمعنى الواو على تقدير أن تكون أو على بابها، فحقه أن يقول جيء بضمير التجارة دون ضمير اللهو للمعنى الذي ذكره، وقد تقدم بيان اختلاف النقلة في سبب انفضاضهم في كتاب الجمعة. قوله: "حدثني حفص بن عمر" هو الحوضي. قوله: "حدثنا حصين" بالتصغير هو ابن عبد الرحمن. قوله: "عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر" يعني كلاما عن جابر، وقد تقدم في الصلاة من طريق زائدة عن حصين عن سالم وحده قال: "حدثنا جابر" والاعتماد على سالم، وأما أبو سفيان واسمه  طلحة ابن نافع فليس على شرطه، وإنما أخرج له مقرونا، وقد تقدم له حديث في مناقب سعد بن معاذ قرنه بسالم أيضا. وأخرج له حديثين آخرين في الأشربة مقرونين بأبي صالح عن جابر، وهذا جميع ماله عنده. قوله: "أقبلت عير" بكسر المهملة وسكون التحتانية تقدم الكلام عليها في كتاب الجمعة مع بقية شرح هذا الحديث ولله الحمد. قوله: "فثار الناس إلا اثنا عشر رجلا" وقع عند الطبري من طريق قتادة "إلا اثني عشر رجلا وامرأة" وهو أصح مما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "لم يبق معه إلا رجلان وامرأة" ووقع في الكشاف أن الذين بقوا ثمانية أنفس وقيل أحد عشر وقيل اثنا عشر وقيل أربعون، والقولان الأولان لا أصل لهما فيما وقفت عليه، وقد مضى استيفاء القول في هذا أيضا في كتاب الجمعة.

  سورة المنافقين: باب قوله {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله...}
...
63- سورة المنافقين. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب قوله {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ -إِلَى- لَكَاذِبُونَ}
4900- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ لِي عَمِّي مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْد "
[الحديث 4900- أطرافه في: 4901، 4902، 4903، 4904]
"باب قوله {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الآية" وساق غير أبي ذر الآية إلى قوله: {لَكَاذِبُونَ} . قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي، ولإسرائيل فيه إسناد آخر أخرجه الترمذي والحاكم من طريقه عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن زيد بن أرقم. قوله: "عن زيد بن أرقم" سيأتي بعد بابين من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق تصريحه بسماعه له من زيد. قوله: "كنت في غزاة" زاد بعد باب من وجه آخر عن إسرائيل "مع عمي" وهذه الغزاة وقع في رواية محمد ابن كعب عن زيد بن أرقم عند النسائي أنها غزوة تبوك، ويؤيده قوله في رواية زهير المذكورة "في سفر أصاب الناس فيه شدة" وأخرج عبد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل منه حتى يصلي فيه، فلما كان غزوة تبوك نزل منزلا فقال عبد الله بن أبي "فذكر القصة، والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة بني المصطلق، وسيأتي قريبا في حديث جابر ما يؤيده، وعند ابن عائذ وأخرجه الحاكم في "الإكليل" من طريقه ثم من طريق أبي الأسود عن عروة أن القول الآتي ذكره صدر من عبد الله بن أبي بعد أن قفلوا. قوله: "فسمعت عبد الله بن أبي" هو ابن سلول رأس النفاق، وقد تقدم خبره في تفسير براءة. قوله: "يقول لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله" هو كلام عبد الله بن أبي، ولم يقصد الراوي بسياقه التلاوة، وغلط بعض الشراح فقال هذا وقع في قراءة ابن مسعود وليس في المصاحف المتفق عليها فيكون على سبيل البيان من ابن مسعود. قلت: ولا يلزم من كون عبد الله بن أبي قالها قبل أن ينزل القرآن بحكاية جميع كلامه. قوله: "ولئن رجعنا" كذا للأكثر، وللكشميهني: "ولو رجعنا" والأول أولى، وبعد الواو محذوف تقديره سمعته يقول، ووقع في الباب الذي بعده "وقال لئن رجعنا" وهو يؤيد ما قلته. وفي رواية محمد بن كعب عن زيد بعد باب "وقال أيضا لئن رجعنا" وسيأتي في حديث جابر سبب قول عبد الله بن أبي ذلك. قوله: "فذكرت ذلك لعمي أو لعمر" كذا بالشك، وفي سائر الروايات الآتية لعمي بلا شك، وكذا عند الترمذي من طريق أبي سعد الأزدي عن زيد، ووقع عند الطبراني وابن مردويه أن المراد بعمه سعد بن عبادة وليس عمه حقيقة وإنما هو سيد قومه الخزرج، وعم زيد بن أرقم الحقيقي ثابت بن قيس له صحبة، وعمه زوج أمه عبد الله بن رواحة خزرجي أيضا. ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة أن مثل ذلك وقع لأوس بن أرقم فذكره لعمر بن الخطاب سبب الشك في ذكر عمر، وجزم الحاكم في "الإكليل" أن هذه الرواية وهم والصواب زيد بن أرقم. قلت: ولا يمتنع تعدد المخبر بذلك عن عبد الله بن أبي، إلا أن القصة مشهورة لزيد بن أرقم، وسيأتي من حديث أنس قريبا ما يشهد لذلك. قوله: "فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم" أي ذكره عمي، وكذا في الرواية التي بعد هذه. ووقع في رواية ابن أبي ليلى عن زيد "فأخبرت به النبي صلى الله عليه وسلم:"وكذا في مرسل قتادة، فكأنه أطلق الإخبار مجازا، لكن في مرسل الحسن عن عبد الرزاق "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شبه عليك " فعلى هذا لعله راسل بذلك أولا على لسان عمه ثم حضر هو فأخبر. قوله: "فحلفوا ما قالوا" في رواية زهير "فأجهد يمينه" والمراد به عبد الله بن أبي، وجمع باعتبار من معه. ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة "فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فسأله، فحلف بالله ما قال من ذلك شيئا" . قوله: "فكذبني" بالتشديد، في رواية زهير "فقالوا كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهذا بالتخفيف ورسول الله بالنصب على المفعولية، وقد تقدم تحقيقه في الكلام على حديث أبي سفيان في قصة هرقل. وفي رواية ابن أبي ليلى عن زيد عند النسائي: "فجعل الناس يقولون: أتى زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب" . قوله: "وصدقه" وفي الرواية التي بعدها فصدقهم، وفد مضى توجيهها. قوله: "فأصابني هم" في رواية زهير" فوقع في نفسي شدة" وفي رواية أبي سعد الأزدي عن زيد "فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد" وفي رواية محمد بن كعب "فرجعت إلى المنزل فنمت" زاد الترمذي في روايته: "فنمت كئيبا حزينا" وفي رواية ابن أبي ليلى "حتى جلست في البيت مخافة إذا رآني الناس أن يقولوا كذبت" . قوله: "فقال لي عمي ما أردت إلى أن كذبك" كذا للأكثر، وذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني: فقال لي عمر. قال الجياني: والصواب "عمى" كما عند الجماعة، انتهى. وقد ذكرت قبل ذلك ما يقتضي احتمال ذلك. قوله: "ومقتك" في رواية لمحمد بن كعب "فلامني الأنصار" ، وعند النسائي من طريقه "ولامني قومي" . قوله: "فأنزل الله" في رواية محمد بن كعب "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بالوحي. وفي رواية زهير "حتى أنزل الله" وفي رواية أبي الأسود عن عروة "فبينما هم يسيرون أبصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه فنزلت: {وفي رواية أبي سعد قال:"فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقت برأسي من الهم أتاني فعرك بأذني

(8/645)


وضحك في وجهي، فلحقني أبو بكر فسألني فقلت له، فقال: أبشر. ثم لحقني عمر مثل ذلك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين" . قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} زاد آدم إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} - إلى قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} "وهو يبين أن رواية محمد بن كعب مختصرة حيث اقتصر فيها على قوله: "ونزل: هم الذين يقولون لا تنفقوا الآية" لكن وقع عند النسائي من طريقه" فنزلت {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} حتى بلغ: {لئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} . قوله: "إن الله قد صدقك يا زيد" وفي مرسل الحسن "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام فقال: وفت أذنك يا غلام" مرتين. زاد زهير في روايته: "فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم" وسيأتي شرحه بعد ثلاثة أبواب. وفي الحديث من الفوائد ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر أتباعهم والاقتصار على معاتباتهم وقبول أعذارهم وتصديق أيمانهم وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك، لما في ذلك من التأنيس والتأليف. وفيه جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يعد نميمة مذمومة إلا إن قصد بذلك الإفساد المطلق، وأما إذا كانت فيه مصلحة ترجح على المفسدة فلا.

(8/646)


2- باب {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يَجْتَنُّونَ بِهَا
4901- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يَقُولُ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَقَالَ أَيْضًا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إِلَى قَوْلِهِ {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك"
قوله: "باب قوله {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يَجْتَنُّونَ بِهَا قال عبد بن حميد" حدثني شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {اتَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُنّةً} قال يجتنون أنفسهم" وأخرجه الطبري وجه آخر عن ابن أبي نجيح باللفظ الذي ذكره المصنف. حديث زيد بن أرقم، وقد تقدم شرحه في الذي قبله مستوفى.

(8/646)


باب قوله {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}
...
3- باب {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}
4902- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ أَيْضًا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْبَرْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَمَنِي الأَنْصَارُ وَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَا قَالَ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ

(8/646)


باب {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسِبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
4903- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لأَصْحَابِهِ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَقَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ قَالُوا كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقِي فِي {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَقَوْلُهُ {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قَالَ كَانُوا رِجَالاً أَجْمَلَ شَيْء"
قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى {يُؤْفَكُونَ} ذكر فيه حديث زيد بن أرقم من رواية زهير عن أبي إسحاق نحو رواية إسرائيل عنه كما تقدم بيان ذلك. وقال في آخره: حتى أنزل الله عز وجل تصديقي إذا جاءك المنافقون، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم. قوله: "وقوله {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قال كانوا رجالا أجمل شيء" هذا تفسير لقوله: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} وخشب مسندة تمثيل لأجسامهم، ووقع هذا في نفس الحديث وليس مدرجا، فقد أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن عمرو بن خالد شيخ البخاري فيه بهذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن زهير.
" تنبيه " : قرأ الجمهور "خشب" بضمتين، وأبو عمرو والأعمش والكسابي بإسكان الشين.

(8/647)


باب {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون عنك وهم مستكبرون}
...
4- باب {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} حَرَّكُوا اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ لَوَيْتُ
4904- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يَقُولُ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا وَكَذَّبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُمْ فَأَصَابَنِي غَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي وَقَالَ عَمِّي مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وَأَرْسَلَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك "
قوله: "باب قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} إلى قوله: {مُسْتَكْبِرُونَ} كذا لأبي ذر وساق غيره الآية كلها. في مرسل سعيد بن جبير" وجاء عبد الله بن أبي فجعل يعتذر، فقال الله النبي صلى الله عليه وسلم: تب فجعل يلوي رأسه فنزلت" . قوله: "حركوا استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ بالتخفيف من لويت" يعني لووا وهي قراءة نافع، وقرأ الباقون بالتثقيل. ثم ذكر حديث زيد بن أرقم من وجه آخر كما مضى بيانه. ووقع لأكثر الرواة مختصرا من أثنائه، وساقه أبو ذر تاما إلا قوله: "وصدقهم" . وقد تعقبه الإسماعيلي بأنه ليس في السياق الذي أورده خصوص ما ترجم به، والجواب أنه جرى على عادته في الإشارة إلى أصل الحديث، ووقع في مرسل الحسن "فقال قوم لعبد الله بن أبي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت. وكذا أخرج عبد بن حميد من طريق قتادة، وعن طريق مجاهد، ومن طريق عكرمة أنها نزلت في عبد الله بن أبي.

(8/648)


باب قوله {سواء أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم...}
...
5- باب قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
4905- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فِي جَيْشٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ" فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ فَعَلُوهَا أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"

(8/648)


وَكَانَتْ الأَنْصَارُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ قَالَ سُفْيَانُ فَحَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرًا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "أنزلت هذه الآية بعد التي في التوبة: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ". قوله: "قال عمرو" وقع في آخر الباب: "قال سفيان فحفظته من عمرو قال فذكره" ووقع رواية الحميدي الآتية بعد باب "حفظناه من عمرو" . قوله: "كنا في غزاة، قال سفيان مرة في جيش" وسمى ابن إسحاق هذه الغزوة غزوة بني المصطلق، وكذا وقع عند الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان قال: يرون أن هذه الغزاة غزاة بني المصطلق، وكذا في مرسل عروة الذي سأذكره. قوله: "فكسع رجل" الكسع يأتي تفسيره بعد باب، والمشهور فيه أنه ضرب الدبر باليد أو بالرجل. ووقع عند الطبري من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن جابر "أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله" وذلك عند أهل اليمن شديد، والرجل المهاجري هو جهجاه بن قيس ويقال ابن سعيد الغفاري، وكان مع عمر بن الخطاب يقود له فرسه، والرجل الأنصاري هو سنان بن وبرة الجهني حليف الأنصار. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مرسلا أن الأنصاري كان حليفا لهم من جهينة، وأن المهاجري كان من غفار، وسماهما ابن إسحاق في المغازي عن شيوخه. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عقيل عن الزهري عن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت أنهما أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع وهي التي هدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر فاقتتل رجلان فاستعلى المهاجري على الأنصاري، فقال حليف الأنصار: يا معشر الأنصار، فتداعوا إلى أن حجز بينهم، فانكفأ كل منافق إلى عبد الله بن أبي فقالوا: كنت ترجي وتدفع، فصرت لا تضر ولا تنفع، فقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكر القصة بطولها، وهو مرسل جيد. واتفقت هذه الطرق على أن المهاجري واحد. ووقع في حديث أبي الزبير عن جابر عند مسلم: "اقتتل غلامان من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ أدعوى الجاهلية ، قالوا: لا، إن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، فقال: لا بأس، ولينصرن الرجل أخاه ظالما أو مظلوما" الحديث. ويمكن تأويل هذه الرواية بأن قوله: "من المهاجرين" بيان لأحد الغلامين، والتقدير اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فحذف لفظ غلام من الأول ويؤيده قوله في بقية الخبر "فقال المهاجري" فأفرده، فتتوافق الروايات. ويستفاد من قوله: "لا بأس" جواز القول المذكور بالقصد المذكور والتفصيل المبين، لا على ما كانوا عليه في الجاهلية من نصرة من يكون من القبيلة مطلقا، وقد تقدم شرح قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" مستوفى في "باب أعن أخاك" من كتاب المظالم. قوله: "يا للأنصار" بفتح اللام وهي للاستغاثة أي أغيثوني، وكذا قول الآخر يا للمهاجرين. قوله: "دعوها فإنها منتنة" أي دعوة الجاهلية. وأبعد من قال المراد الكسعة. ومنتنة بضم الميم وسكون النون وكسر المثناة من النتن أي أنها كلمة قبيحة خبيثة، وكذا ثبتت في بعض الروايات. قوله: "فعلوها"؟ هو استفهام بحذف الأداة أي

(8/649)


افعلوها أي الأثرة أي شركناهم فيما نحن فيه فأرادوا الاستبداد به علينا. وفي مرسل قتادة "فقال رجل منهم عظيم النفاق: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك" وعند ابن إسحاق: فقال عبد الله بن أبي أقد فعلوها؟ نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلاليب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. قوله: "فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنقه" في مرسل قتادة "فقال عمر: مر معاذا أن يضرب عنقه" وإنما قال ذلك لأن معاذا لم يكن من قومه. قوله: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" أي أتباعه، ويجوز في "يتحدث" الرفع على الاستئناف والكسر على جواب الأمر. وفي مرسل قتادة "فقال لا والله لا يتحدث الناس" زاد ابن إسحاق "فقال مر به معاذ بن بشر بن وقش فليقتله، فقال: لا ولكن أذن بالرحيل، فراح في ساعة ما كان يرحل فيها، فلقيه أسيد بن حضير فسأله عن ذلك فأخبره فقال: فأنت يا رسول الله الأعز وهو الأذل" . قال وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فقال بل ترفق به وتحسن صحبته. قال فكان بعد ذلك إذا أحدث الحديث كان قومه هم الذين ينكرون عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "كيف ترى" ؟ ووقع في مرسل عكرمة عند الطبري "أن عبد الله بن عبد الله بن أبي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله، قال: لا تقتل أباك" . قوله: "ثم إن المهاجرين كثروا بعد" هذا مما يؤيد تقدم القصة، ويوضح وهم من قال إنها كانت بتبوك لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيرا جدا، وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار. والله أعلم.

(8/650)


باب {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا}
...
6- باب قَوْلُهُ {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} يَنْفَضُّوا يَتَفَرَّقُوا
باب {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ}
4906- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ فَكَتَبَ إِلَيَّ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَبَلَغَهُ شِدَّةُ حُزْنِي يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ" وَشَكَّ ابْنُ الْفَضْلِ فِي أَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ فَسَأَلَ أَنَسًا بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِه"
قوله: "باب قوله {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} كذا لهم وزاد أبو ذر "الآية" . قوله: "ينفضوا يتفرقوا" سقط هذا لأبي ذر، قال أبو عبيد في قوله: {حَتَّى يَنْفَضُّوا} حتى يتفرقوا. ووقع في رواية زهير سبب قول عبد الله بن أبي ذلك وهو قوله: "خرجنا في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله ابن أبي لا تنفقوا الآية" فالذي يظهر أن قوله: {لاَ تُنْفِقُوا} كان سببه الشدة التي أصابتهم، وقوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} سببه مخاصمة المهاجري والأنصاري كما تقدم في حديث جابر. قوله: "الكسع أن تضرب بيدك على شيء أو برجلك، ويكون أيضا إذا رميته بسوء" كذا لأبي ذر عن الكشميهني وحده، وحق هذا أن يذكر قبل

(8/650)


الباب، أو في الباب الذي يليه، لأن الكسع إنما وقع في حديث جابر. قال ابن التين: الكسع أن تضرب بيدك على دبر شيء أو برجلك. وقال القرطبي: أن تضرب عجز إنسان بقدمك. وقيل الضرب بالسيف على المؤخر. وقال ابن القطاع: كسع القوم ضرب أدبارهم بالسيف، وكسع الرجل ضرب دبره بظهر قدمه، وكذا إذا تكلم فأثر كلامه بما ساءه ونحوه في "تهذيب الأزهري" . قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس. قوله: "حدثني عبد الله بن الفضل" أي ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، تابعي صغير مدني ثقة ماله في البخاري عن أنس إلا هذا الحديث، وهو من أقران موسى بن عقبة الراوي عنه. قوله: "حزنت على من أصيب بالحرة" هو بكسر الزاي من الحزن، زاد الإسماعيلي من طريق محمد بن فليح عن موسى بن عقبة "من قومي" وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين، وسببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد ابن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد1 فأمر الأنصار عليهم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر وأمر المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيع العدوي، وأرسل إليهم يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش كثير فهزمهم واستباحوا المدينة وقتلوا ابن حنظلة وقتل من الأنصار شيء كثير جدا، وكان أنس يومئذ بالبصرة فبلغه ذلك فحزن على من أصيب من الأنصار، فكتب إليه زيد بن أرقم وكان يومئذ بالكوفة يسليه، ومحصل ذلك أن الذي يصير إلى مغفرة الله لا يشتد الحزن عليه، فكان ذلك تعزية لأنس فيهم. قوله: "وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار" رواه النضر بن أنس عن زيد بن أرقم مرفوعا: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار" أخرجه مسلم من طريق قتادة عنه من غير شك. وللترمذي من رواية علي بن زيد عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم أنه كتب إلى أنس بن مالك يعزيه فيمن أصيب من أهله وبني عمه يوم الحرة، فكتب إليه: إني أبشرك ببشرى من الله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للأنصار ولذراري الأنصار ولذراري ذراريهم" . قوله: "فسأل أنسا بعض من كان عنده" هذا السائل لم أعرف اسمه، ويحتمل أن يكون النضر بن أنس فإنه روى حديث الباب عن زيد بن أرقم كما ترى، وزعم ابن التين أنه وقع عند القابسي: فسأل أنس بعض بالنصب وأنس بالرفع على أنه الفاعل، والأول هو الصواب، قال القابسي: الصواب أن المسئول أنس. قوله: "أوفى الله له بأذنه" أي بسمعه، وهو بضم الهمزة والذال المعجمة ويجوز فتحهما، أي أظهر صدقه فيما أعلم به، والمعنى أوفى صدقه. وقد تقدم في الكلام على حديث جابر أن في مرسل الحسن "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأذنه فقال: وفي الله بأذنك يا غلام" كأنه جعل أذنه ضامنة بتصديق ما ذكرت أنها سمعت، فلما نزل القرآن بتصديقه صارت كأنها وافية بضمانها.
" تكميل " : وقع في رواية الإسماعيلي في آخر هذا الحديث من رواية محمد بن فليح عن موسى بن عقبة "قال ابن شهاب سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب: لئن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير، فقال زيد: قد والله صدق، ولأنت شر من الحمار. ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحده القائل، فأنزل الله على رسوله {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الآية، فكان مما أنزل الله في هذه الآية تصديقا لزيد انتهى. وهذا مرسل جيد. وكأن البخاري حذفه لكونه على غير شرطه، ولا مانع من نزول الآيتين في القصتين في تصديق زيد
ـــــــ
(1) بلغهم ذلك من الدعاة الذين بثهم عبد الله بن مطيع داعية عبد الله بن الزبير، وهذه الدعايات كانت مغرضة ولأجل المزاحمة على الملك، كما صارحهم بذلك عبد الله بن عمر ومحمد بن علي بن أبي طالب وزين العابدين علي بن الحسين، ونصحوهم بالكف عن ذلك لما يترتب عليه من سوء العواقب، وأخبرهم أن ذلك مخالف لآداب الإسلام وسننه.

(8/651)


7- باب {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}
4907- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا هَذَا" فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ" قَالَ جَابِرٌ وَكَانَتْ الأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَوَقَدْ فَعَلُوا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه"
قوله: "باب {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى {يَعْلَمُونَ} . ذكر فيه حديث جابر الماضي، وقد تقدم شرحه قبل بباب، ولعله أشار بالترجمة إلى ما وقع في آخر الحديث المذكور، فإن الترمذي لما أخرجه عن ابن أبي عمر عن أبي سفيان بإسناد حديث الباب قال في آخره: "وقال غير عمرو: فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي: والله لا ينقلب أبي إلى المدينة حتى تقول إنك أنت الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل" وهذه الزيادة أخرجها ابن إسحاق في المغازي عن شيوخه، وذكرها أيضا الطبري من طريق عكرمة

(8/652)


64- سورة التَّغَابُنِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} : هُوَ الَّذِي إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ رَضِيَ وَعَرَفَ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ التَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ.
قوله: "سورة التغابن والطلاق" كذا لأبي ذر، ولم يذكر غيره: "والطلاق" بلى اقتصروا على التغابن وأفردوا الطلاق بترجمة، وهو الأليق لمناسبة ما تقدم. قوله: "وقال علقمة عن عبد الله: ومن يؤمن بالله يهد قلبه إلخ" أي يهتدي إلى التسليم فيصبر ويشكر. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن علقمة مثله، لكن لم يذكر ابن مسعود. وكذا أخرجه الفريابي عن الثوري وعبد بن حميد عن عمر بن سعد عن الثوري عن الأعمش، والطبري من طريق عن الأعمش، نعم أخرجه البرقاني من وجه آخر فقال: "عن علقمة قال: شهدنا عنده - يعني عند عبد الله - عرض المصاحف، فأتى على هذه الآية {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال: هي المصيبات تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم ويرضى" وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المعنى يهدي قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قوله: "وقال مجاهد التغابن غبن أهل الجنة أهل

(8/652)


النار" كذا لأبي ذر عن الحموي وحده وقد وصله الفريابي وعبد بن حميد من طريق مجاهد وغبن بفتح المعجمة والموحدة وللطبري من طريق شعبة عن قتادة يوم التغابن يوم غبن أهل النار أي لكون أهل الجنة بايعوا على الإسلام بالجنة فربحوا وأهل النار امتنعوا من الإسلام فخسروا، فشبهوا بالمتبايعين يغبن أحدهما الآخر في بيعه، ويؤيد ذلك ما سيأتي في الرقاق من طريق الأعرج عن أبي هريرة رفعه: "لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل أحد النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة" .

(8/653)


65- سورة الطَّلاَقِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَبَالَ أَمْرِهَا} : جَزَاءَ أَمْرِهَا
1- باب 4908- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل"
[الحديث 4908- أطرافه في: 5251، 5252، 5253، 5258، 5264، 5332، 7160]
قوله: "سورة الطلاق" كذا لهم، وسقط لأبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: وبال أمرها جزاء أمرها" كذا لهم، وسقط لأبي ذر أيضا، وصله عبد بن حميد أيضا من طريقه. قوله: "إن ارتبتم: إن لم تعلموا أتحيض أم لا تحيض، فاللائي قعدن عن الحيض واللائي لم يحضن بعد فعدتهن ثلاثة أشهر" كذا لأبي ذر عن الحموي وحده عقب قول مجاهد في التغابن، وقد وصله الفريابي بلفظه من طريق مجاهد، ولابن المنذر من طريق أخرى عن مجاهد "التي كبرت والتي لم تبلغ" . قوله: "أنه طلق امرأته" في رواية الكشميهني: "أنه طلق امرأة له" وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى.

(8/653)


باب {وأولات الأحما لأجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}
...
2- باب {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}
قوله: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ وَاحِدُهَا ذَاتُ حَمْلٍ
4909- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ آخِرُ الأَجَلَيْنِ قُلْتُ أَنَا {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلاَمَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا فَقَالَتْ قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا"
[الحديث 4909- طرفه في: 5318]

(8/653)


66- سورة التَّحْرِيمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
1- باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4911- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ حَكِيمٍ هُوَ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ الثَّقَفِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي الْحَرَامِ يُكَفَّرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الحديث 4911- طرفه في: 5266]
4912- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ قَالَ: "لاَ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لاَ تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا"
[الحديث 4912- أطرافه في: 5216، 5267، 5268، 5431، 5599، 5614، 5682، 6691، 6972]
قوله: "سورة التحريم – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر ولغيره التحريم ولم يذكروا البسملة. قوله: "باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية" سقط "باب" لغير أبي ذر وساقوا الآية إلى "رحيم" . قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن ابن حكيم" هو يعلى بن حكيم، ووقع في رواية الأصيلي عن أبي زيد المروزي بأن أحمد الجرجاني يحيى عن ابن حكيم لم يسمه عن سعيد بن جبير وذكر أبو علي الحياني أنه وقع في رواية أبي علي بن السكن مسمى فقال فيه: "عن يحيى عن يعلى بن حكيم" قال: ووقع في رواية أبي ذر عن السرخسي" هشام عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير" قال الجياني: وهو خطأ فاحش. قلت: سقط عليه لفظة "عن" بين يحيى وابن حكيم، قال: ورواية ابن السكن رافعة للنزاع. قلت: وسماه يحيى بن أبي كثير في رواية معاوية بن سلام عنه كما سيأتي في كتاب الطلاق. قوله: "عن سعيد بن جبير" زاد في رواية معاوية المذكورة أنه أخبره أنه سمع ابن عباس. قوله: "في الحرام يكفر" أي إذا قال لامرأته أنت علي حرام لا تطلق وعليه كفارة يمين. وفي رواية معاوية المذكورة "إذا حرم امرأته ليس بشيء" وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الطلاق. وقوله في هذه الطريق "يكفر" ضبط بكسر الفاء أي يكفر من وقع ذلك منه، ووقع في رواية ابن السكن وحده "يمين تكفر" وهو بفتح الفاء وهذا أوضح في المراد، والغرض من حديث ابن عباس قوله فيه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ =

28.

مجلد  28. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فإن فيه إشارة إلى سبب نزول أول هذه السورة، وإلى قوله فيها {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقد وقع في بعض حديث ابن عباس عن عمر في القصة الآتية في الباب الذي يليه "فعاتبه الله في ذلك وجعل له كفارة اليمين" واختلف في المراد بتحريمه، ففي حديث عائشة ثاني حديثي الباب أن ذلك بسبب شربه صلى الله عليه وسلم العسل عند زينب بنت جحش، فإن في آخره: "ولن أعود له وقد حلفت " وسيأتي شرح حديث عائشة مستوفى في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: "حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمته وقال: هي علي حرام" . فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله" ووقعت هذه القصة مدرجة عند ابن إسحاق في حديث ابن عباس عن عمر الآتي في الباب الذي يليه كما سأبينه. وأخرج الضياء في "المختارة" من مسند الهيثم بن كليب ثم من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لحفصة: لا تخبري أحدا أن أم إبراهيم علي حرام" ، قال فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وأخرج الطبراني في عشرة النساء وابن مردويه من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية بيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي دون نسائك "فذكر نحوه. وللطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "دخلت حفصة بيتها فوجدته يطأ مارية، فعاتبته" فذكر نحوه. وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا، وقد روي النسائي من طريق حماد عن ثابت عن أنس هذه القصة مختصرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية

(8/657)


باب {تبتغي مرضات أزواجك ... قد فرض الله لكم تحله أيمانكم}
...
2- باب {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ.... قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
4913- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَالَ فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ قَالَ فَقُلْتُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لاَرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقُلْتُ لَهَا مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ فَقَالَتْ لِي عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ فَقُلْتُ تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ

(8/657)


رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا فَقَدْ امْتَلاَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ فَإِذَا صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ افْتَحْ افْتَحْ فَقُلْتُ جَاءَ الْغَسَّانِيُّ فَقَالَ بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَأَخَذْتُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي قَالَ عُمَرُ فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَة"
قوله: "باب {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} كذا لهم بإسقاط بعض الآية الأولى وحذف بقية الثانية وكملها أبو ذر. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب" فذكر الحديث بطوله في قصة اللتين تظاهرتا، وقد ذكره في النكاح مختصرا من هذا الوجه ومطولا من وجه آخر، وتقدم طرف منه في كتاب العلم وفي هذه الطريق هنا من الزيادة مراجعة امرأة عمر له ودخوله على حفصة بسبب ذلك بطوله، ودخول عمر على أم سلمة. وذكر في آخر الأخرى قصة اعتزاله صلى الله عليه وسلم نساءه، وفي آخر حديث عائشة في التخيير، وسيأتي الكلام على ذلك كله مستوفى في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الطريق "ثم قال عمر رضي الله عنه: والله أن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل" قرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته: قيل لا بد من اللام للتأكيد. وقوله في هذه الطريق "لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو برفع حب على أنه بدل من فاعل أعجب، ويجوز النصب على أنه مفعول من أجله أي من أجل حبه لها، وقوله فيه: "قرظا مصبورا" أي مجموعا مثل الصبرة، وعند الإسماعيلي: "مصبوبا" بموحدتين.

(8/658)


3- باب {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/658)


4914- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلاَمِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَة"
قوله: "باب {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} - إلى - {الخبير} " كذا لأبي ذر وساق غيره الآية. قوله: "فيه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثها المذكور قبل بباب. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وذكر طرفا من الحديث الذي في الباب قبله

(8/659)


4- باب {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} صَغَوْتُ وَأَصْغَيْتُ مِلْتُ لِتَصْغَى لِتَمِيلَ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عَوْنٌ تَظَاهَرُونَ تَعَاوَنُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} أَوْصُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَدِّبُوهُمْ
4915- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَكَثْتُ سَنَةً فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مَوْضِعًا حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ حَاجًّا فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرَانَ ذَهَبَ عُمَرُ لِحَاجَتِهِ فَقَالَ أَدْرِكْنِي بِالْوَضُوءِ فَأَدْرَكْتُهُ بِالإِدَاوَةِ فَجَعَلْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَرَأَيْتُ مَوْضِعًا فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلاَمِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَة"
قوله: "باب {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} صغوت وأصغيت ملت، لتصغى لتميل" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول أبي عبيدة، قال في قوله: "ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة" : لتميل، من صغوت إليه ملت إليه، وأصغوت إليه مثله. وقال في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي عدلت ومالت. قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عون" كذا لهم، واقتصر أبو ذر من سياق الآية على قوله: "ظهير: عون" وهو تفسير الفراء. قوله: "تظاهرون تعاونون" كذا لهم، وفي بعض النسخ تظاهرا تعاونا، وهو تفسير الفراء أيضا قال في قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} تعاونا عليه. قوله: "وقال مجاهد: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} ، أوصوا أهليكم بتقوى الله وأدبوهم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "أوصوا أهليكم بتقوى الله" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصيته" وعند سعيد بن منصور عن الحسن نحوه، وروى الحاكم من طريق ربعي بن حراش عن علي في قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال: "علموا أهليكم خيرا" ورواته ثقات.
" تنبيه " : وقع في جميع النسخ التي وقفت عليها "أوصوا" بفتح الألف وسكون الواو بعدها صاد مهملة من الإيصاء، وسقطت هذه اللفظة للنسفي، وذكرها ابن التين بلفظ: "قوا أهليكم أو قفوا أهليكم" ونسب عياض هذه الرواية هكذا للقابسي وابن السكن، قال: وعند الأصيلي أوصوا أنفسكم وأهليكم انتهى. قال ابن التين: قال القابسي صوابه "أوفقوا" قال ونحو ذلك ذكر النحاس، ولا أعرف للألف من أو

(8/659)


ولا للفاء من قوله فقوا وجها، قال ابن التين: ولعل المعنى أوقفوا بتقديم القاف على الفاء أي أوقفوهم عن المعصية، قال: لكن الصواب على هذا حذف الألف لأنه ثلاثي من وقف، قال: ويحتمل أن يكون أوفقوا يعني بفتح الفاء وضم القاف لا تعصوا فيعصوا مثل لا تزن فيزن أهلك وتكون "أو" على هذا للتخيير، والمعنى إما أن تأمروا أهليكم بالتقوى أو فاتقوا أنتم فيتقوا هم تبعا لكم انتهى، وكل هذه التكلفات نشأت عن تحريف الكلمة، وإنما هي "أوصوا" بالصاد والله حديث ابن عباس عن عمر أيضا في قصة المتظاهرين، وسيأتي شرحه

(8/660)


باب {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا}
...
5 - بَاب {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}
4916- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
قوله " {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية ذكر فيه طرفا من حديث أنس عن عمر في موافقاته، واقتصر منه على قصة الغيرة، وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل الصلاة تاما، وذكرنا كل موافقة منها في بابها، وسيأتي ما يتعلق بالغيرة في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(8/660)


67- سورة { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
{التَّفَاوُتُ} الاخْتِلاَفُ وَالتَّفَاوُتُ وَالتَّفَوُّتُ وَاحِدٌ {تَمَيَّزُ} تَقَطَّعُ {مَنَاكِبِهَا} جَوَانِبِهَا {تَدَّعُونَ} وَتَدْعُونَ وَاحِدٌ مِثْلُ تَذَّكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ وَ {يَقْبِضْنَ} يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صَافَّاتٍ} بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ وَنُفُورٌ الْكُفُورُ
قوله: "سورة {بَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} سقطت البسملة للجميع. قوله: "التفاوت الاختلاف، والتفاوت والتفوت واحد" هو قول الفراء قال: وهو مثل تعهدته وتعاهدته. وأخرج سعيد بن منصور من طريق إبراهيم عن علقمة أنه كان يقرأ: {من تفوت} وقال الفراء: هي قراءة ابن مسعود وأصحابه، والتفاوت الاختلاف يقول: هل ترى في خلق الرحمن من اختلاف؟ وقال ابن التين: قياس متفاوت فليس متباينا، وتفوت فات بعضه بعضا. قوله: "تميز تقطع" هو قول الفراء قال في قوله تكاد تميز من الغيظ أي تقطع عليهم غيظا. قوله: "مناكبها جوانبها" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي جوانبها، وكذا قال الفراء. قوله: "تدعون وتدعون واحد، مثل تذكرون وتذكرون" هو قول الفراء قال في قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} يريد تدعون بالتخفيف، وهو مثل تذكرون وتذكرون، قال والمعنى واحد، وأشار إلى أنه لم يقرأ بالتخفيف. وقال أبو عبيدة في قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي تدعون به وتكذبون. قوله: "يقال غورا غائرا، يقال لا تناله

(8/660)


سورة {ن والقلم وما يسطرون}
...
68- سورة ن وَالْقَلَمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقَالَ قَتَادَةُ {حَرْدٍ} جِدٍّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَتَخَافَتُونَ} يَنْتَجُونَ السِّرَارَ وَالْكَلاَمَ الْخَفِيَّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَضَالُّونَ} أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا وَقَالَ غَيْرُهُ {كَالصَّرِيمِ} كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنْ اللَّيْلِ وَاللَّيْلِ انْصَرَمَ مِنْ النَّهَارِ وَهُوَ أَيْضًا كُلُّ رَمْلَةٍ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ وَالصَّرِيمُ أَيْضًا الْمَصْرُومُ مِثْلُ قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ
قوله: "سورة ن والقلم – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، والمشهور في ن أن حكمها حكم أوائل السور في الحروف المتقطعة، وبه جزم الفراء، وقيل: بل المراد بها الحوت، وجاء ذلك في حديث ابن عباس أخرجه الطبراني مرفوعا قال: "أول ما خلق الله القلم والحوت، قال اكتب قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة" . ثم قرأ ن والقلم، فالنون الحوت والقلم القلم" . قوله: "وقال قتادة حرد جد في أنفسهم" هو بكسر الجيم وتشديد الدال الاجتهاد والمبالغة في الأمر، قال ابن التين: وضبط في بعض الأصول بفتح الجيم، قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كانت الجنة لشيخ، وكان يمسك قوته سنة ويتصدق بالفضل، وكان بنو ينهونه عن الصدقة، فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يقول: على جد من أمرهم؛ قال معمر وقال الحسن: على فاقة. وأخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عكرمة قال: هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة، فذكر نحوه إلى أن قال: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} قال: أمر مجتمع. وقد قيل في حرد إنها اسم الجنة، وقيل اسم قريتهم، وحكى أبو عبيدة فيه أقوالا أخرى: القصد والمنع والغضب والحقد. قوله: "وقال ابن عباس: يتخافتون ينتجون السرار والكلام الخفي" ثبت هذا لأبي ذر وحده هنا، وثبت

(8/661)


للباقين في كتاب التوحيد. قوله: "وقال ابن عباس: إنا لضالون أضللنا مكان جنتنا" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أضللنا مكان جنتنا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أخطأنا الطريق، ما هذه جنتنا. "تنبيه" : زعم بعض الشراح أن الصواب في هذا أن يقال ضللنا بغير ألف، تقول: ضللت الشيء إذا جعلته في مكان ثم لم تدر أين هو، وأضللت الشيء إذا ضيعته انتهى. والذي وقع في الرواية صحيح المعنى، عملنا عمل من ضيع، ويحتمل أن يكون بضم أول أضللنا. قوله: "وقال غيره: كالصريم، كالصبح انصرم من الليل والليل انصرم من النهار" قال أبو عبيدة: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} النهار انصرم من الليل والليل انصرم من النهار. وقال الفراء: الصريم الليل المسود. قوله: "وهو أيضا كل رملة انصرمت من معظم الرمل" هو قول أبي عبيدة أيضا قال: وكذلك الرملة تنصرم من معظم الرمل فيقال: صريمة، وصريمة أمرك قطعه. قوله: "والصريم أيضا المصروم مثل قتيل ومقتول" هو محصول ما أخرجه ابن المنذر من طريق شيبان عن قتادة في قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} : كأنها قد صرمت. والحاصل أن الصريم مقول بالاشتراك على معان يرجع جميعها إلى انفصال شيء عن شيء، ويطلق أيضا على الفعل فيقال: صريم بمعنى مصروم. "تكميل" : قال عبد الرزاق عن معمر: أخبرني تميم بن عبد الرحمن أنه سمع سعيد بن جبير يقول: هي يعني الجنة المذكورة أرض باليمن يقال لها: صرفان، بينها وبين صنعاء ستة أميال. قوله: {تدهن فيدهنون} ترخص فيرخصون" كذا للنسفي وحده هنا وسقط للباقين، وقد رأيته أيضا في "المستخرج" لأبي نعيم، وهو قول ابن عباس: أخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق عكرمة قال: تكفر فيكفرون. وقال الفراء: المعنى تلين فيلينون. وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة. قوله: "مكظوم وكظيم مغموم" كذا للنسفي وحده هنا وسقط للباقين، ورأيته أيضا في "مستخرج أبي نعيم" ، وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} من الغم مثل كظيم. وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله مكظوم قال: مغموم.

(8/662)


1- باب {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}
4917- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَةٌ مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاة"
4918- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِر"
[الحديث 4918- طرفاه في: 6071، 6657]
قوله: "باب {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} اختلف في الذي نزلت فيه، فقيل: هو الوليد بن المغيرة وذكره يحيى بن سلام في تفسيره، وقيل: الأسود بن عبد يغوث ذكره سنيد بن داود في تفسيره، وقبل الأخنس بن شريق وذكره السهيلي عن القتيبي، وحكى هذين القولين الطبري فقال: يقال: هو الأخنس، وزعم قوم أنه الأسود وليس به، وأبعد

(8/662)


من قال إنه عبد الرحمن بن الأسود فإنه يصغر عن ذلك، وقد أسلم وذكر في الصحابة. قوله: "حدثنا محمود بن غيلان" في رواية المستملي: "محمد" وكأنه الذهلي. قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى" هو من شيوخ المصنف، وربما حدث عنه بواسطة كالذي هنا. قوله: "عن أبي حصين عن مجاهد" لإسرائيل فيه طريق أخرى أخرجها الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى أيضا والإسماعيلي من طريق وكيع كلاهما عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. وأخرجه الطبري من طريق شريق عن أبي إسحاق بهذا الإسناد وقال: الذي يعرف بالشر. سعيد بن جبير المذكورة "يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها" وللطبري من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. وقال أبو عبيدة: الزنيم المعلق في القوم ليس منهم قال الشاعر: "زنيم ليس يعرف من أبوه" . وقال حسان "وأنت زنيم نيط في آل هاشم" قال: ويقال للتيس زنيم له زنمتان. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن معبد بن خالد" هو الجدلي بضم الجيم والمهملة وتخفيف اللام، كوفي ثقة، ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في كتاب الزكاة وثالث يأتي في الطب. قوله: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف" بكسر العين وبفتحها وهو أضعف. وفي رواية الإسماعيلي: "مستضعف" وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم الضعفاء المغلوبون، وله من حديث سراقة بن مالك: الضعفاء المغلوبون. ولأحمد من حديث حذيفة: الضعيف المستضعف ذو الطمرين لا يؤبه له. والمراد بالضعيف من نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا، والمستضعف المحتقر لخموله في الدنيا. قوله: "عتل" بضم المهملة والمثناة بعدها لام ثقيلة قال الفراء: الشديد الخصومة. وقيل الجافي عن الموعظة. وقال أبو عبيدة: العتل الفظ الشديد من كل شيء، وهو هنا الكافر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: العتل الفاحش الآثم. وقال الخطابي: العتلي الغليظ العنيف. وقال الداودي: السمين العظيم العنق والبطن. وقال الهروي: الجموع المنوع. وقيل: القصير البطن قلت: وجاء فيه حديث عند أحمد من طريق عبد الرحمن بن غنم وهو مختلف في صحته قال: سئل رسول صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم قال: هو الشديد الخلق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، الرحيب الجوف. قوله: "جواظ" بفتح الجيم وتشديد الواو وآخره معجمة الكثير اللحم المختال في مشيه حكاه الخطابي. وقال ابن فارس: قيل هو الأكول، وقيل الفاجر. وأخرج هذا الحديث أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بهذا الإسناد مختصرا. "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري" قال: والجواظ الفظ الغليظ انتهى وتفسير الجواظ لعله من سفيان، والجعظري بفتح الجيم والظاء المعجمة بينهما عين مهملة وآخره راء مكسورة ثم تحتانية ثقيلة قيل: هو الفظ الغليظ، وقيل: الذي لا يمرض، وقيل: الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن عمر أنه تلا قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} إلى {زَنِيمٍ} فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر"

(8/663)


2- باب {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}
حدثنا آدم حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "سمعت

(8/633)


69- سورة الْحَاقَّةِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} : يُرِيدُ فِيهَا الرِّضَا {الْقَاضِيَةَ} الْمَوْتَةَ الأُولَى الَّتِي مُتُّهَا لَمْ أُحْيَ بَعْدَهَا {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَحَدٌ يَكُونُ لِلْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوَتِينَ نِيَاطُ الْقَلْبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَغَى كَثُرَ وَيُقَالُ بِالطَّاغِيَةِ بِطُغْيَانِهِمْ وَيُقَالُ طَغَتْ عَلَى الْخَزَّانِ كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ
قوله: "سورة الحاقة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، والحاقة من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنها حقت لكل قوم أعمالهم. قال قتادة: أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه. قوله: "حسوما متتابعة" كذا للنسفي وحده هنا، وهو قول أبي عبيدة. وأخرج الطبراني ذلك عن ابن مسعود موقوفا بإسناد حسن وصححه الحاكم. قوله: "وقال ابن جبير" عيشة راضية" . يريد فيها الرضا" وقال أبو عبيدة: معناه مرضية، قال وهو مثل ليل نائم. قوله: "وقال ابن جبير أرجائها ما لم ينشق منها، فهم على حافتيه، كقولك على أرجاء البئر" كذا للنسفي وحده هنا، وهو عند أبي نعيم أيضا، وتقدم أيضا في بدء الخلق قوله: "واهية وهيها تشققها" كذا للنسفي وحده هنا وهو عند أبي نعيم أيضا، وتقدم أيضا في بدء الخلق. قوله: "والقاضية الموتة الأولى التي متها لم أحي بعدها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ثم أحيي بعدها" والأول أصح وهو قول الفراء، قال في قوله: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يقول: ليت الموتة الأولى التي متها لم أحي بعدها. قوله: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، أحد يكون للجميع والواحد" هو قول الفراء، قال أبو عبيدة في قوله: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} جمع صفته على صفة الجميع لان أحدا يقع على الواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى. قوله: "وقال ابن عباس: الوتين نياط القلب" بكسر النون وتخفيف التحتانية هو حبل الوريد، وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، والفريابي والأشجعي والحاكم كلهم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده قوي لأنه من رواية الثوري عن عطاء وسمعه منه قبل الاختلاط. وقال أبو عبيدة مثله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الوتين

(8/664)


حبل القلب. قوله: "قال ابن عباس: طغى كثر" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: بلغنا أنه طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا. قوله: "ويقال بالطاغية: بطغيانهم" هو قول أبي عبيدة وزاد: "كفرهم" . وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} بالذنوب. قوله: "ويقال طغت على الخزان كما طغى الماء على قوم نوح" لم يظهر لي فاعل طغت لأن الآية في حق ثمود وهم قد أهلكوا بالصيحة، ولو كانت عادا لكان الفاعل الريح وهي لها الخزان، وتقدم في أحاديث الأنبياء أنها عتت على الخزان. وأما الصيحة فلا خزان لها، فلعله انتقال من عتت إلى طغت. وأما قوله: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} فروى سعيد بن منصور من طريق السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس في قوله: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} قال: طغى على خزانه فنزل بغير كيل ولا وزن. قوله: "وغسلين ما يسيل من صديد أهل النار" كذا ثبت للنسفي وحده عقب قوله: "القاضية" وهو عند أبي نعيم أيضا، وهو كلام الفراء قال في قوله: {وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} يقال إنه ما يسيل من صديد أهل النار. قوله: "وقال غيره {مِنْ غِسْلِينٍ} كل شيء غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، فعلين من الغسل مثل الجرح والدبر" كذا للنسفي وحده هنا وقد تقدم في بدء الخلق. أعجاز نخل أصولها كذا للنسفي وحده هنا وهو عند أبي نعيم أيضا؛ وقد تقدم أيضا في أحاديث الأنبياء. قوله: "باقية بقية" كذا للنسفي وحده وعند أبي نعيم أيضا، وقد تقدم أحاديث الأنبياء.
" تنبيه " : لم يذكر في تفسير الحاقة حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" أخرجه أبو داود وابن أبي حاتم من رواية إبراهيم بن طهمان عن محمد بن المنكدر وإسناده على شرط الصحيح.

(8/665)


70- سورة {سَأَلَ سَائِلٌ}
الْفَصِيلَةُ أَصْغَرُ آبَائِهِ الْقُرْبَى إِلَيْهِ يَنْتَمِي مَنْ انْتَمَى لِلشَّوَى الْيَدَانِ وَالرِّجْلاَنِ وَالأَطْرَافُ وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ يُقَالُ لَهَا شَوَاةٌ وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْتَلٍ فَهُوَ شَوًى عِزِينَ وَالْعِزُونَ الْحِلَقُ وَالْجَمَاعَاتُ وَوَاحِدُهَا عِزَةٌ
قول "سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} سقطت البسملة للجميع. قوله: "الفصيلة أصغر آبائه القربى إليه ينتمي" هو قول الفراء. وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة، ثم الفصيلة فخذه التي تؤويه. وقال عبد الرزاق عن معمر: بلغني أن فصيلته أمه التي أرضعته. وأغرب الداودي فحكى أن الفصيلة من أسماء النار. قوله: "للشوى: اليدان والرجلان والأطراف، وجلدة الرأس يقال لها شواة، وما كان غير مقتل فهو شوى" هو كلام الفراء بلفظه أيضا. وقال أبو عبيدة: الشوى واحدتها شواة وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، قال: وسمعت رجلا من أهل المدينة يقول اقشعرت شواتي، قلت له ما معناه؟ قال: جلدة رأسي، والشوى قوائم الفرس يقال: عبل الشوى، ولا يراد في هذا الرأس لأنهم وصفوا الخيل بأسالة الخدين ورقة الوجه. قوله: "عزين والعزون الحلق والجماعات واحدها عزة" أي بالتخفيف كذا لأبي ذر، وسقط لفظ: "الحلق" لغير أبي ذر والصواب إثباته وهو كلام الفراء بلفظه، والحلق بفتح الحاء المهملة على المشهور ويجوز كسرها. وقال أبو عبيدة: عزين جماعة عزة مثل ثبة وثبين وهي جماعات في تفرقة. قوله: "يوفضون الإيفاض الإسراع" كذا للنسفي هنا وحده وهو كلام الفراء. وقد تقدم في

(8/665)


الجنائز. قوله: "وقرأ الأعمش وعاصم إلى نصب" أي إلى شيء منصوب يستبقون إليه، وقراءة زيد بن ثابت "إلى نصب" وكان النصب الآلهة التي كانت تعبد وكل صواب، والنصب واحد والنصب مصدر، ثبت هذا هنا للنسفي، وذكره أبو نعيم أيضا. وقد تقدم بعضه في الجنائز. وهو قول الفراء بلفظه وزاد: في قراءة بن ثابت برفع النون، وبعد قوله التي كانت تعبد من الأحجار قال: النصب والنصب واحد وهو مصدر والجمع أنصاب انتهى، يريد أن الذي بضمتين واحد لا جمع مثل حقب واحد الأحقاب.

(8/666)


71- سورة نُوحٍ
{أَطْوَارًا} طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا يُقَالُ عَدَا طَوْرَهُ أَيْ قَدْرَهُ وَالْكُبَّارُ أَشَدُّ مِنْ الْكِبَارِ وَكَذَلِكَ جُمَّالٌ وَجَمِيلٌ لأَنَّهَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً وَكُبَّارٌ الْكَبِيرُ وَكُبَارًا أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ رَجُلٌ حُسَّانٌ وَجُمَّالٌ وَحُسَانٌ مُخَفَّفٌ وَجُمَالٌ مُخَفَّفٌ دَيَّارًا مِنْ دَوْرٍ وَلَكِنَّهُ فَيْعَالٌ مِنْ الدَّوَرَانِ كَمَا قَرَأَ عُمَرُ الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَهِيَ مِنْ قُمْتُ وَقَالَ غَيْرُهُ دَيَّارًا أَحَدًا {تَبَارًا} هَلاَكًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مِدْرَارًا} يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَقَارًا عَظَمَةً
قوله: "سورة نوح" سقطت البسملة للجميع. قوله: "أطوارا طورا كذا وطورا كذا" تقدم في بدء الخلق. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر. قوله: "يقال عدا طوره أي قدره" تقدم في بدء الخلق أيضا. قوله: "والكبار أشد من الكبار، وكذلك جمال وجميل لأنها أشد مبالغة؛ وكذلك كبار الكبير، وكبار أيضا بالتخفيف" قال أبو عبيدة في قوله {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} قال مجازها كبير والعرب تحول لفظة كبير إلى فعال مخففة ثم يثقلون ليكون أشد مبالغة، فالكبار أشد من الكبار، وكذا يقال للرجل الجميل لأنه أشد مبالغة. قوله: "والعرب تقول رجل حسان وجمال وحسان مخفف وجمال مخفف" قال الفراء في قوله {مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} : الكبار الكبير وكبار أيضا بالتخفيف، والعرب تقول عجب وعجاب ورجل حسان وجمال بالتثقيل وحسان وجمال بالتخفيف في كثير من أشباهه. قوله: "ديارا من دور، ولكنه فيعال من الدوران" أي أصله ديوار فأدغم ولو كان أصله فعالا لكان دوارا، وهذا كلام الفراء بلفظه. وقال غيره: أصل ديار دوار، والواو إذا وقعت بعد تحتانية ساكنة بعدها فتحة قلبت ياء مثل أيام وقيام. قوله: "كما قرأ عمر الحي القيام وهي من قمت" هو من كلام الفراء أيضا، وقد أخرج أبو عبيدة في فضائل القرآن من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر أنه صلى العشاء الآخرة فاستفتح آل عمران فقرأ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طرق عن عمر أنه قرأها كذلك، وأخرجها عن ابن مسعود أيضا. قوله: "وقال غيره ديارا أحدا" هو قول أبي عبيدة وزاد: يقولون ليس بها ديار ولا عريب. "تنبيه" : لم يتقدم ذكر من يعطف عليه قوله: "وقال غيره:"فيحتمل أن يكون كان في الأصل منسوبا لقائل فحذف اختصارا من بعض النقلة، وقد عرفت أنه الفراء. قوله: "تبارا هلاكا" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وقال ابن عباس مدرارا يتبع بعضه بعضا" وصله ابن أبي حاتم من علي بن أبي طلحة

(8/666)


عن ابن عباس به. قوله: "وقارا عظمة" وصله سعيد بن منصور وابن أبي حاتم من طريق مسلم البطين بن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قال: ما تعرفون لله حق عظمته.

(8/667)


1- باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ}
4920- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَارَتْ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لآلِ ذِي الْكَلاَعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَت"
قوله: "باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "ابن جريج وقال عطاء" كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف، وقد بينه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج قال في قوله تعالى {وَدًّا وَلاَ سُواعًا} الآية قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونهم وقال عطاء كان ابن عباس إلخ. قوله: "عن ابن عباس" قيل هذا منقطع لأن عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج فقال: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس. وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء فنظر فيه. وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في "العلل" عن علي بن المديني قال: سألت يحيى القطان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف. فقلت: إنه يقول أخبرنا. قال: لا شيء، إنما هو كتاب دفعه إليه انتهى. وكان ابن جريج يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة. وقال الإسماعيلي أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر عن "تفسير ابن جريج" كلاما معناه أنه كان يقول عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، فطال على الوراق أن يكتب الخراساني كل حديث فتركه فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح انتهى. وأشار بهذا إلى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني ونبه عليها أبو على الجياني في "تقييد المهمل" قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول قال لي ابن جريج سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران ثم قال: اعفني من هذا. قال قال هشام فكان بعد إذا قال قال عطاء عن ابن عباس قال عطاء الخراساني. قال هشام: فكتبنا ثم مللنا، يعني كتبنا الخراساني. قال ابن المديني وإنما بينت هذا لأن محمد بن ثور كان يجعلها - يعني في روايته عن ابن جريج - عن عطاء عن ابن عباس فيظن أنه عطاء بن أبي رباح. وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ولم يقل الخراساني، وأخرجه عبد الرزاق كما تقدم فقال الخراساني. وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفي عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني وعن عطاء ابن أبي رباح جميعا؛ ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في

(8/667)


باب آخر من الأبواب أو في المذاكرة، وإلا فكيف يخفي على البخاري ذلك مع تشدده ما شرط الاتصال واعتماده غالبا في العلل على علي بن المديني شيخه وهو الذي نبه على هذه القصة. ومما يؤيد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة وإنما ذكر بهذا الإسناد موضعين هذا وآخر في النكاح، ولو كان خفي عليه لاستكثر من إخراجها لأن ظاهرها أنها على شرطه. قوله: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد" في رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد. وقال أبو عبيدة: وزعموا أنهم كانوا مجوسا وأنها غرقت في الطوفان، فلما نضب الماء عنها أخرجها إبليس فبثها في الأرض انتهى. وقوله كانوا مجوسا غلط، فإن المجوسية كلمة حدثت بعد ذلك بدهر طويل، وإن كان الفرس يدعون خلاف ذلك. وذكر السهيلي في "التعريف" أن يغوث هو ابن شيث بن آدم فيما قيل، وكذلك سواع وما بعده وكانوا يتبركون بدعائهم، فلما مات منهم أحد مثلوا صورته تمسحوا بها إلى زمن مهلائيل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؟ من قبل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك انتهى. وما ذكر مما نقله تلقاه من "تفسير بقي بن مخلد1 فإنه ذكر فيه نحو ذلك على ما نبه عليه ابن عسكر في ذيله، وفيه أن تلك الأسماء وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي، وعن عروة بن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرهم به، وهكذا أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق محمد بن كعب القرظي قال: كان لآدم خمس بنين فسماهم قال: وكانوا عبادا. فمات رجل منهم فحزنوا عليه. فجاء الشيطان فصوره لهم ثم قال للآخر إلى آخر القصة، وفيها: فعبدوها حتى بعث الله نوحا. ومن طريق أخرى أن الذي صوره لهم رجل من ولد قابيل بن آدم. وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن الكلبي قال: كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن، فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة. ثم ائت سيف جدة، تجد بها أصناما معدة. ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفي عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب؛ وعمرو بن ربيعة هو عمرو بن لحي كما تقدم. قوله: "أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل" قال ابن إسحاق: وكان لكلب بن وبرة بن قضاعة. قلت: وبرة هو ابن تغلب بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ودومة بضم الدال، الجندل بفتح الجيم وسكون النون مدينة من الشام مما يلي العراق، وود بفتح الواو وقرأها نافع وحده بضمها "وأما سواع فكانت لهذيل" زاد أبو عبيدة بن مدركة بن إلياس بن مضر؛ وكانوا بقرب مكة. وقال ابن إسحاق: كان سواع بمكان لهم يقال له رهاط بضم الراء وتخفيف الهاء من أرض الحجاز من جهة الساحل. قوله: "وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف" في مرسل قتادة "فكانت لبني غطيف بن مراد" وهو غطيف بن عبد الله بن ناجية بن مراد. وروي الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: كانت أنعم من طيئ وجرش ابن مذحج اتخذوا يغوث لجرش. قوله: "بالجرف" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني بفتح الحاء وسكون الواو، وله عن الكشميهني الجرف بضم الجيم والراء وكذا في مرسل قتادة، وللنسفي بالجون بجيم ثم واو ثم نون، زاد غير أبي ذر: عند سبأ. قوله: "وأما
ـــــــ
(1) كذا في نسخة، وفي أخرى: "ابن خالد".

(8/668)


يعوق فكانت لهمدان "قال أبو عبيدة: لهذا الحي من همدان ولمراد بن مذحج، وروي الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: كانت خيوان بطن من همدان اتخذوا يعوق بأرضهم1. قوله: "وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع" في مرسل قتادة "لذي الكلاع من حمير" زاد الفاكهي من طريق أبي إسحاق "اتخذوه بأرض حمير" . قوله: "ونسر، أسماء قوم صالحين من قوم نوح" كذا لهم، وسقط لفظ: "ونسر" لغير أبي ذر وهو أولى، وزعم بعض الشراح أن قوله: "ونسر" غلط، وكذا قرأت بخط الصدفي في هامش نسخته. ثم قال هذا الشارح: والصواب وهي قلت: ووقع في رواية محمد بن ثور بعد قوله: "وأما نسر فكانت لآل ذي الكلاع" قال: "ويقال هذه أسماء قوم صالحين" وهذا أوجه الكلام وصوابه؛ وقال بعض الشراح: محصل ما قيل في هذه الأصنام قولان: أحدهما أنها كانت في قوم نوح، والثاني أنها كانت أسماء رجال صالحين إلى آخر القصة. قلت: بل مرجع ذلك إلى قول واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك. قوله: "فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم" كذا لهم، ولأبي ذر والكشميهني: "ونسخ العلم" أي علم تلك الصور بخصوصها. وأخرج الفاكهي من طريق عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء، فمات رجل منهم فجزع عليه فجعل لا يصبر عنه؛ فاتخذ مثالا على صورته فكلما اشتاق إليه نظره ثم مات ففعل به كما فعل حتى تتابعوا على ذلك فمات الآباء، فقال الأبناء. ما أتخذ آباؤنا هذه إلا أنها كانت آلهتهم، فعبدوها. وحكى الواقدي قال: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة طائر، وهذا شاذ والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها. والله أعلم
ـــــــ
(1) انظر الكتاب العاشر من (الإكليل لهمداني) ص56 فقيه آل خيوان بن زيد بن مالك بن جشم بن حاشد من همدان وعبادتهم للصنم يعوق، وكان في قرية ببلاد همدا باليمن.

(8/669)


72- سورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِبَدًا أَعْوَانًا
1- باب 4921 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالَ مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ مَا حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ قَالَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلَةَ وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ

(8/669)


فَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ} "
قوله: "سورة قل أوحى" كذا لهم. ويقال لها سورة الجن. قوله: "قال ابن عباس: لبدا أعوانا" هو عند الترمذي في آخر حديث ابن عباس المذكور في هذا الباب، ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هكذا، وقراءة الجمهور بكسر اللام وفتح الباء وهشام وحده بضم اللام وفتح الموحدة فالأولى جمع لبدة بكسر ثم سكون نحو قربة وقرب، واللبدة واللبد الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض وبه سمي اللبد المعروف والمعنى كادت الجن يكونون عليه جماعات متراكبة مزدحمين عليه كاللبدة، وأما التي بضم اللام فهي جمع لبدة بضم ثم سكون مثل غرفة وغرف والمعنى أنهم كانوا جمعا كثيرا كقوله تعالى {مَالاً لُبَداً} أي كثيرا وروى عن أبي عمرو أيضا بضمتين فقيل هي جمع لبود مثل صبر وصبور، وهو بناء مبالغة وقرأ ابن محيصن بضم ثم سكون فكأنها مخففة من التي قبلها. وقرأ الجحدري بضمة ثم فتحة مشددة جمع لا بد كسجد وساجد، وهذه القراءات كلها راجعة إلى معنى واحد وهو أن الجن تزاحموا على النبي صلى الله عليه وسلم لما استمعوا القرآن وهو المعتمد. وروي عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبدت الإنس والجن وحرصوا على أن يطفئوا هذا النور الذي أنزله الله تعالى، وهو لما اللفظ واضح القراءة المشهورة لكنه في المعنى مخالف. قوله: "بخسا نقصا" ثبت هذا للنسفي وحده، وتقدم في بدء الخلق. قوله: "عن أبي بشر" هو جعفر بن أبي وحشية. قوله: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا اختصره البخاري هنا وفي صفة الصلاة، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني عن معاذ بن المثنى عن مسدد شيخ البخاري فيه فزاد في أوله "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق" إلخ، وهكذا أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة بالسند الذي أخرجه به البخاري، فكأن البخاري حذف هذه اللفظة عمدا لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن، فكان ذلك مقدما على نفي ابن عباس. وقد أشار إلى ذلك مسلم فأخرج عقب حديث ابن عباس هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن" ويمكن الجمع بالتعدد كما سيأتي. قوله: "في طائفة من أصحابه" تقدم في أوائل المبعث في "باب ذكر الجن" أن ابن إسحاق وابن سعد ذكرا أن ذلك كان ذي القعدة سنة عشر من المبعث لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ثم رجع منها، ويؤيده قوله في هذا الحديث: "إن الجن رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر" والصلاة المفروضة إنما شرعت ليلة الإسراء والإسراء كان على الراجح قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث فتكون القصة بعد الإسراء، لكنه مشكل من جهة أخرى، لأن محصل ما في الصحيح كما تقدم في بدء الخلق وما ذكره ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف لم يكن معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة، وهنا قال أنه انطلق في طائفة من أصحابه، فلعلها كانت وجهة أخرى. ويمكن الجمع بأنه لما رجع لاقاه بعض أصحابه في أثناء الطريق فرافقوه. قوله: "عامدين" أي قاصدين. قوله: "إلى سوق عكاظ" بضم المهملة وتخفيف الكاف وآخره ظاء معجمة بالصرف وعدمه، قال اللحياني الصرف لأهل

(8/670)


الحجاز وعدمه لغة تميم، وهو موسم معروف للعرب. بل كان من أعظم مواسمهم، وهو نخل في واد بين مكة والطائف وهو إلى الطائف أقرب بينهما عشرة أميال، وهو وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء اليمن. وقال البكري: أول ما أحدثت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ولم تزل سوقا إلى سنة تسع وعشرين ومائة، فخرج الخوارج الحرورية فنهبوها فتركت إلى الآن، كانوا يقيمون به جميع شوال يتبايعون ويتفاخرون وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم كقول حسان:
سأنشر إن حييت لكم كلاما ... ينشر في المجامع من عكاظ
وكان المكان الذي يجتمعون به منه يقال له الابتداء، وكانت هناك صخور يطوفون حولها. ثم يأتون مجنة فيقيمون بها عشرين ليلة من ذي القعدة. ثم يأتون ذا المجاز، وهو خلف عرفة فيقيمون به إلى وقت الحج، وقد تقدم في كتاب الحج شيء من هذا. وقال ابن التين: سوق عكاظ من إضافة الشيء إلى نفسه، كذا قال، وعلى ما تقدم من أن السوق كانت تقام بمكان من عكاظ يقال له الابتداء لا يكون كذلك. قوله: "وقد حيل" بكسر الحاء المهملة وسكون التحتانية بعدها لام أي حجز ومنع على البناء للمجهول. قوله: "بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب" بضمتين جمع شهاب، وظاهر هذا أن الحيلولة وإرسال الشهب وقع في هذا الزمان المقدم ذكره والذي تضافرت به الأخبار أن ذلك وقع لهم من أول البعثة النبوية، وهذا مما يؤيد تغاير زمن القصتين، وأن مجيء الجن لاستماع القرآن كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بسنتين، ولا يعكر على ذلك إلا قوله في هذا الخبر إنهما رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر، لأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل فرض الصلوات ليلة الإسراء فإنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يصلي قطعا، وكذلك أصحابه لكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا؟ فيصح على هذا قول من قال: إن الفرض أولا كان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ونحوها من الآيات، فيكون إطلاق صلاة الفجر في حديث الباب باعتبار الزمان لا لكونها إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، فتكون قصة الجن متقدمة من أول المبعث. وهذا الموضع مما لم ينبه عليه أحد ممن وقفت على كلامهم في شرح هذا الحديث. وقد أخرج الترمذي والطبري حديث الباب بسياق سالم من الإشكال الذي ذكرته من طريق أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانت الجن تصعد إلى السماء الدنيا يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أضعافا، فالكلمة تكون حقا وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك" وأخرجه الطبري أيضا وابن مردويه وغيرها من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير مطولا وأوله "كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي" الحديث: "فبينما هم كذلك إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فدحرت الشياطين من السماء، ورموا بالكواكب، فجعل لا يصعد أحد منهم إلا احترق، وفزع أهل الأرض لما رأوا من الكواكب ولم تكن قبل ذلك فقالوا: هلك أهل السماء كان أهل الطائف أول من تفطن لذلك فعمدوا إلى أموالهم فسيبوها وإلى عبيدهم فعتقوها، فقال لهم رجل: ويلكم لا تهلكوا أموالكم، فإن معالمكم من الكواكب التي تهتدون بها لم يسقط منها شيء، فأقلعوا. وقال إبليس: حدث في الأرض حدث، فأتى من كل أرض بتربة فشمها، فقال لتربة تهامة: هاهنا حدث الحدث، فصرف إليه نفرا من الجن، فهم الذين استمعوا القرآن" وعند أبي داود في" كتاب

(8/671)


المبعث "من طريق الشعبي أن الذي قال لأهل الطائف ما قال هو عبد ياليل ابن عمرو، وكان قد عمى، فقال لهم: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي يرمي بها هي التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو من حدث فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فلم يلبثوا أن سمعوا بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه الطبري من طريق السدي مطولا، وذكر ابن إسحاق نحوه مطولا بغير إسناد في "مختصر ابن هشام" ، زاد في رواية يونس بن بكير فساق سنده بذلك عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة ابن الأخنس أنه حدثه عن عبد الله بن عبد الله أنه حدثه أن رجلا من ثقيف يقال له عمرو بن أمية كان من أدهى العرب، وكان أول من فزع لما رمى بالنجوم من الناس، فذكر نحوه. وأخرجه ابن سعد من وجه آخر عن يعقوب ابن عتبة قال: أول العرب فزع من رمى النجوم ثقيف، فأتوا عمرو بن أمية. وذكر الزبير بن بكار في النسب نحوه بغير سياقه، ونسب القول المنسوب لعبد ياليل لعتبة بن ربيعه، فلعلهما تواردا على ذلك. فهذه الأخبار تدل على أن القصة وقعت أول البعثة وهو المعتمد، وقد استشكل عياض وتبعه القرطبي والنووي وغيرهما من حديث الباب موضعا آخر ولم يتعرضوا لما ذكرته، فقال عياض: ظاهر الحديث أن الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لإنكار الشياطين له وطلبهم سببه، ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ومرجوعا إليها في حكمهم، حتى قطع سببها بأن حيل بين الشياطين وبين استراق السمع، كما قال تعالى في هذه السورة {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} وقوله تعالى {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وقد جاءت أشعار العرب باستغراب رميها وإنكاره إذ لم يعهدوه قبل المبعث، وكان ذلك أحد دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. يؤيده ما ذكر في الحديث من إنكار الشياطين. قال وقال بعضهم: لم تزل الشهب يرمي بها مد كانت الدنيا، واحتجوا بما جاء في أشعار العرب من ذلك قال: وهذا مروى عن ابن عباس والزهري، ورفع فيه ابن عباس حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الزهري لمن اعترض عليه بقوله {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} قال: غلظ أمرها وشدد انتهى. وهذا الحديث الذي أشار إليه أخرجه مسلم من طريق الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن رجال من الأنصار قالوا "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون لهذا إذا رمى به في الجاهلية" ؟ الحديث. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: سئل الزهري عن النجوم أكان يرمي بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذ جاء الإسلام غلظ وشدد. وهذا جمع حسن. ومحتمل أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رمى بها في الجاهلية" أي جاهلية المخاطبين، ولا يلزم أن يكون ذلك قبل المبعث فإن المخاطب بذلك الأنصار، وكانوا قبل إسلامهم في جاهلية، فإنهم لم يسلموا إلا بعد المبعث ثلاث عشرة سنة. وقال السهيلي: لم يزل القذف بالنجوم قديما، وهو موجود في أشعار قدماء الجاهلية كأوس بن حجر وبشر بن أبي حازم وغيرهما. وقال القرطبي: يجمع بأنها لم تكن يرمي بها قبل المبعث رميا يقطع الشياطين عن استراق السمع، ولكن كانت ترمى تارة ولا ترمى أخرى، وترمي من جانب ولا ترمي من جميع الجوانب، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} انتهى. ثم وجدت عن وهب بن منبه ما يرفع الإشكال ويجمع بين مختلف الأخبار قال: كان إبليس يصعد إلى السماوات كلهن يتقلب فيهن كيف شاء لا يمنع منذ أخرج آدم إلى أن رفع عيسى، فحجب حينئذ من أربع سماوات، فلما بعث نبينا حجب من الثلاث فصار يسترق السمع هو وجنوده ويقذفون بالكواكب. ويؤيده ما روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لم تكن

(8/672)


السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد حرست حرسا شديدا ورجمت الشياطين، فأنكروا ذلك. ومن طريق السدي قال: إن السماء لم تكن تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين ظاهر، وكانت الشياطين قد اتخذت مقاعد يسمعون فيها ما يحدث، فلما بعث محمد رجموا. وقال الزين بن المنير: ظاهر الخبر أن الشهب لم تكن يرمى بها، وليس كذلك؛ لما دل عليه حديث مسلم. وأما قوله تعالى {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} فمعناه أن الشهب كانت ترمي فتصيب تارة ولا تصيب أخرى، وبعد البعثة أصابتهم إصابة مستمرة فوصفوها لذلك بالرصد، لأن الذي يرصد الشيء لا يخطئه، فيكون المتجدد دوام الإصابة لا أصلها. وأما قول السهيلي: لولا أن الشهاب قد يخطئ الشيطان لم يتعرض له مرة أخرى، فجوابه أنه يجوز أن يقع التعرض مع تحقق الإصابة لرجاء اختطاف الكلمة وإلقائها قبل إصابة الشهاب، ثم لا يبالي المختطف بالإصابة لما طبع عليه من الشر كما تقدم. وأخرج العقيلي وابن منده وغيرهما وذكره أبو عمر بغير سند من طريق لهب - بفتحتين ويقال بالتصغير - ابن مالك الليثي قال: ذكرت عن النبي صلى الله عليه وسلم لكهانة فقلت: نحن أول من عرف حراسة السماء ورجم الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا عند كاهن لنا يقال له خطر بن مالك - وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتان وستة وثمانون سنة - فقلنا: يا خطر، هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها، فإنا فزعنا منها وحفنا سوء عاقبتها؟ الحديث، وفيه: فانقض نجم عظيم من السماء، فصرخ الكاهن رافعا صوته:
أصابه أصابه ... خامره عذابه ... أحرقه شهابه
الأبيات، وفي الخبر أنه قال أيضا:
قد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب يتلف ذي سلطان ... من أجل مبعوث عظيم الشان
وفيه أنه قال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس
الحديث بطوله، قال أبو عمر: سنده ضعيف جدا، ولولا فيه حكم لما ذكرته لكونه علما من أعلام النبوة والأصول. فإن قيل إذا كان الرمي بها غلظ وشدد بسبب نزول الوحي فهلا انقطع بانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نشاهدها الآن يرمى بها؟ فالجواب يؤخذ من حديث الزهري المتقدم، ففيه عند مسلم قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا ترمي لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرا أخبر أهل السماوات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون به إلى أوليائهم. فيؤخذ من ذلك أن سبب التغليظ والحفظ لم ينقطع لما يتجدد من الحوادث التي تلقي بأمره إلى الملائكة، فإن الشياطين مع شدة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث لم ينقطع طمعهم في استراق السمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بما بعده، وقد قال عمر لغيلان بن سلمة لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق السمع سمعت بأنك ستموت فألقت إليك ذلك الحديث، أخرجه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم السمع استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقصدون استماع الشيء مما يحدث فلا يصلون إلى ذلك إلا إن اختطف أحدهم بخفة حركته خطفة فيتبعه الشهاب، فإن أصابه قبل أن يلقيها لأصحابه فاتت وإلا سمعوها وتداولوها، وهذا يرد على قول السهيلي

(8/673)


المقدم ذكره. قوله: "قال ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث" الذي قال لهم ذلك هو إبليس كما تقدم في رواية أبي إسحاق المتقدمة قريبا. قوله: "فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها" أي سيروا فيها كلها، ومنه قوله تعالى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وفي رواية نافع بن جبير عن ابن عباس عند أحمد "فشكوا ذلك إلى إبليس، فبث جنوده، فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي برحبة في نخلة" . قوله: "فانطلق الذين توجهوا" قيل كان هؤلاء المذكورون من الجن على دين اليهود، ولهذا قالوا "أنزل من بعد موسى" وأخرج ابن مردويه من طريق عمر بن قيس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم كانوا تسعة، ومن طريق النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس كانوا سبعة من أهل نصيبين، وعند ابن أبي حاتم من طريق مجاهد نحوه لكن قال: كانوا أربعة من نصيبين وثلاثة من حران، وهم حسا ونسا وشاصر وماضر والأدرس ووردان والأحقب. ونقل السهيلي في "التعريف" أن ابن دريد ذكر منهم خمسة: شاصر وماضر ومنشي وناشي والأحقب. قال وذكر يحيى بن سلام وغيره قصة عمرو بن جابر وقصة سرق وقصة زوبعة قال: فإن كانوا سبعة فالأحقب لقب أحدهم لا اسمه. واستدرك عليه ابن عسكر ما تقدم عن مجاهد قال: فإذا ضم إليهم عمرو وزوبعة وسرق وكان الأحقب لقبا كانوا تسعة. قلت: هو مطابق لرواية عمر بن قيس المذكورة. وقد روى ابن مردويه أيضا من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: كانوا اثنى عشر ألفا من جزيرة الموصل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لابن مسعود: أنظرني حتى آتيك. وخط عليه خطا. الحديث. والجمع بين الروايتين تعدد القصة، فإن الذين جاءوا أولا كان سبب مجيئهم ما ذكر في الحديث من إرسال الشهب، وسبب مجيء الذين في قصة ابن مسعود أنهم جاءوا لقصد الإسلام وسماع القرآن والسؤال عن أحكام الدين، وقد بينت ذلك في أوائل المبعث في الكلام على حديث أبي هريرة، وهو من أقوى الأدلة على تعدد القصة فإن أبا هريرة إنما أسلم بعد الهجرة، والقصة الأولى كانت عقب المبعث، ولعل من ذكر في القصص المفرقة كانوا ممن وفد بعد، لأنه ليس في كل قصة منها إلا أنه كان ممن وفد، وقد ثبت تعدد وفودهم. وتقدم في بدء الخلق كثير مما يتعلق بأحكام الجن والله المستعان. قوله: "نحو تهامة" بكسر المثناة اسم لكل مكان غير عال من بلاد الحجاز، سميت بذلك لشدة حرها اشتقاقا من التهم بفتحتين وهو شدة الحر وسكون الريح، وقيل من تهم الشيء إذا تغير، قيل لها ذلك لتغير هوائها. قال البكري: حدها من جهة الشرق ذات عرق، ومن قبل الحجاز السرج بفتح المهملة وسكون الراء بعدها جيم قرية من عمل الفرع بينها وبين المدينة اثنان وسبعون ميلا. قوله: "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي إسحاق: فانطلقوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وهو عامد" كذا هنا، وتقدم في صفة الصلاة بلفظ: "عامدين" ونصب على الحال من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه، أو ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، وهو أظهر لمناسبة الرواية التي هنا. قوله: "بنخلة" بفتح النون وسكون المعجمة موضع بين مكة والطائف، قال البكري: على ليلة من مكة. وهي التي ينسب إليها بطن نخل. ووقع في رواية مسلم بنخل بلا هاء والصواب إثباتها. قوله: "يصلي بأصحابه صلاة الفجر" لم يختلف علي ابن عباس في ذلك، ووقع في رواية عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قال الزبير - أو ابن الزبير - كان ذلك بنخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء، وخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال: قال الزبير فذكره، وزاد: فقرأ {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} . وكذا أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا منقطع، والأول أصح. قوله: "تسمعوا له" أي قصدوا لسماع القرآن وأصغوا إليه. قوله: "فهنالك" هو

(8/674)


ظرف مكان والعامل فيه قالوا. وفي رواية: "فقالوا" والعامل فيه رجعوا. قوله: "رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا" قال الماوردي: ظاهر هذا أنهم آمنوا عند سماع القرآن، قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى فيها دلائل على أنه النبي المبشر به، وكلا الأمرين في الجن محتمل. والله أعلم. قوله: "وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم. {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} " زاد الترمذي "قال ابن عباس: وقول الجن لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا، قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته يسجدون بسجوده، قال فتعجبوا من طواعية أصحابه له قالوا لقومهم ذلك" . قوله: "وإنما أوحي إليه قول الجن" هذا كلام ابن عباس، كأنه تقرر فيه ما ذهب إليه أولا أنه صلى الله عليه وسلم لم يجتمع بهم، وإنما أوحى الله إليه بأنهم استمعوا، ومثله قوله تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية. ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم حين استمعوا أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك كما تقدم تقريره. وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن وأنهما لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان. وفيه أن الصلاة في الجماعة شرعت قبل الهجرة. وفيه مشروعيتها في السفر. والجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وأن الاعتبار بما قضى الله للعبد من حسن الخاتمة لا بما ظهر منه من الشر ولو بلغ ما بلغ، لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم كونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الحدث الحادث من جهتها. ومع ذلك فغلب عليهم ما قضى لهم من السعادة بحسن الخاتمة، ونحو ذلك قصة سحرة فرعون، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى.

(8/675)


73- سورة الْمُزَّمِّلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَتَبَتَّلْ أَخْلِصْ وَقَالَ الْحَسَنُ {أنْكَالًا} قُيُودًا {مُنْفَطِرٌ بِهِ} مُثْقَلَةٌ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَثِيبًا مَهِيلاً} الرَّمْلُ السَّائِلُ {وَبِيلاً} شَدِيدًا
قوله: "سورة المزمل والمدثر" كذا لأبي ذر، واقتصر الباقون على المزمل وهو أولى، لأنه أفرد المدثر بعد بالترجمة. والمزمل بالتشديد أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، وقد جاءت قراءة أبي بن كعب على الأصل. قوله: "وقال مجاهد وتبتل أخلص" وصله الفريابي وغيره، وقد تقدم في كتاب قيام الليل. قوله: "وقال الحسن: أنكالا قيودا" وصله عبد بن حميد والطبري من طريق الحسن البصري. وقال أبو عبيدة: الأنكال واحدها نكل بكسر النون وهو القيد، وهذا هو المشهور. وقيل النكل الغل. قوله: {مُنْفَطِرٌ بِهِ} مثقلة به" وصله عبد بن حميد من وجه آخر عن الحسن البصري في قوله {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} قال: مثقلة به يوم القيامة ووصله الطبري وابن أبي حاتم من طريقه بلفظ: "مثقلة موقوة" ولابن أبي حاتم من طريق أخرى عن مجاهد {مُنْفَطِرٌ بِهِ} تنفطر من ثقل ربها تعالى. وعلى هذا فالضمير لله، ومحتمل أن يكون الضمير ليوم القيامة. وقال أبو عبيدة: أعاد الضمير مذكرا لأن مجاز السماء مجاز السقف، يريد قوله منفطر، ويحتمل أن يكو على حذف والتقدير شيء منفطر. قوله: "وقال ابن عباس: كثيبا مهيلا الرمل السائل" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وأخرجه

(8/675)


الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس ولفظه: المهيل إذا أخذت منه شيئا يتبعك آخره، والكثيب الرمل. وقال الفراء: الكثيب الرمل والمهيل الذي تحرك أسفله فينهال عليك أعلاه. قوله: "وبيلا شديدا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة مثله.
" تنبيه " : لم يورد المصنف في سورة المزمل حديثا مرفوعا، وقد أخرج مسلم حديث سعيد بن هشام عن عائشة فيما يتعلق منها بقيام الليل وقولها فيه: "فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضته" ويمكن أن يدخل في قوله تعالى في آخرها {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} حديث ابن مسعود "إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر" وسيأتي في الرقاق.

(8/676)


74- سورة الْمُدَّثِّرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {عَسِيرٌ} شَدِيدٌ {قَسْوَرَةٌ} رِكْزُ النَّاسِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَكُلُّ شَدِيدٍ قَسْوَرَةٌ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْقَسْوَرَةُ قَسْوَرٌ الأَسَدُ الرِّكْزُ الصَّوْتُ {مُسْتَنْفِرَةٌ} نَافِرَةٌ مَذْعُورَةٌ
قوله: "سورة المدثر - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، قرأ أبي بن كعب بإثبات المثناة المفتوحة بغير إدغام كما تقدم في المتزمل، وقرأ عكرمة فيهما بخفيف الزاي والدال اسم فاعل. قوله: "قال ابن عباس: عسير شديد" وصله ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس به. قوله: "قسورة ركز الناس وأصواتهم" وصله سفيان بن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: هو ركز الناس، قال سفيان: يعني حسهم وأصواتهم. قوله: "وقال شديد قسورة" زاد النسفي: وقسور. وسيأتي القول فيه مبسوطا. قوله: "وقال أبو هريرة: القسور قسور الأسد، الركز الصوت" سقط قوله: "الركز الصوت" لغير أبي ذر، وقد وصله عبد بن حميد من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أبو هريرة إذا قرأ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: الأسد. وهذا منقطع بين زيد وأبي هريرة. وقد أخرجه من وجهين آخرين عن زيد بن أسلم عن ابن سيلان عن أبي هريرة وهو متصل، ومن هذا الوجه أخرجه البزار، وجاء عن ابن عباس أنه بالحبشية، أخرجه ابن جرير من طريق يوسف بن مهران عنه قال: القسورة الأسد بالعربية، وبالفارسية شير، وبالحبشية قسورة. وأخرج الفراء من طريق عكرمة أنه قيل له: القسورة بالحبشية الأسد، فقال: القسورة الرماة والأسد بالحبشية عنبسة. وأخرجه ابن أبي حازم عن ابن عباس، وتفسيره بالرماة أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم من حديث أبي موسى الأشعري، ولسعيد من طريق ابن أبي حمزة قلت لابن عباس: القسورة الأسد؟ قال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب، هم عصب الرجال. قوله: "مستنفرة نافر مذعورة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أي مذعورة، ومستنفرة نافرة، يريد أن لها معنيين وهما على القراءتين، فقد قرأها الجمهور بفتح الفاء وقرأها عاصم والأعمش بكسرها.
1- باب 4922- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قُلْتُ يَقُولُونَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ فَقَالَ

(8/676)


جَابِرٌ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
قوله: "حدثني يحيى" هو ابن موسى البلخي أو ابن جعفر. قوله: "عن علي بن المبارك" هو الهنائي بضم ثم نون خفيفة ومد. بصرى ثقة مشهور، ما بينه وبين عبد الله ابن المبارك المشهور قرابة.

(8/677)


2- بَاب {قُمْ فَأَنْذِرْ}
4923- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ قَالاَ حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ.." مِثْلَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَك"
قوله: "حدثني محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره" هو أبو داود الطيالسي أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي عروبة حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدى وأبو داود قالا حدثنا حرب بن شداد به. قوله: "عن أبي سلمة" كذا قال أكثر الرواة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وقال شيبان بن عبد الرحمن: عن يحيى عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن جابر، أخرجه النسائي من طريق آدم بن أبي إياس عن شيبان، وهكذا ذكره البخاري في "التاريخ" عن آدم، ورواه سعد بن حفص عن شيبان كرواية الجماعة وهو المحفوظ. قوله: "مثل حديث عثمان بن عمر عن علي بن المبارك" لم يخرج البخاري رواية عثمان بن عمر التي أحال رواية حرب بن شداد عليها، وهي عند محمد بن بشار شيخ البخاري فيه أخرجه أبو عروبة في "كتاب الأوائل" قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر أنبأنا علي بن المبارك، وهكذا أخرجه مسلم والحسن بن سفيان جميعا عن أبي موسى محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر

(8/677)


3- باب {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
4924- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حَرْبٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ لاَ أُخْبِرُكَ إِلاَّ بِمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جَاوَرْتُ فِي حِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا

(8/677)


4- باب {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}
4925- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب .ح. وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن "عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحكي فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي إّ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإّذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه

(8/678)


رعبا. فرجعت فقلت: زملوني زملوني. فدثروني. فأنزل الله تعالى : {يا أيها المدثر _ إلى _ والرجز فاهجر} قبل أن تفرض الصلاة. وهي الأوثان"
قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ذكر فيه حديث جابر المذكور، لكن من رواية الزهري عن أبي سلمة، وأورده بإسنادين من طريق عقيل ومعمر، وساقه على لفظ معمر، وساق لفظ عقيل في الباب الذي يليه. ووقع في آخر الحديث {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قبل أن تفرض الصلاة، وكأنه أشار بقوله: "قبل أن تفرض الصلاة" إلى أن تطهير الثياب كان مأمورا به قبل أن تفرض الصلاة وأخرج ابن المنذر من طريق محمد بن سيرين قال: اغسلها بالماء، وعلى هذا حمله ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج من وجه آخر عنه قال: فطهر من الإثم. ومن طريق عن قتادة والشعبي وغيرهما نحوه. ومن وجه ثالث عن ابن عباس قال: لا تلبسها على غدرة ولا فجرة. ومن طريق طاوس قال: شمر. ومن طريق منصور - قال وعن مجاهد مثله - قال: أصلح عملك. وأخرجه سعيد بن منصور أيضا عن طريق منصور عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن أبي رزين مثله. وأخرج ابن المنذر من طريق الحسن قال: خلقك فحسنه. وقال الشافعي رحمه الله: قبل في قوله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} صل في ثياب طاهره، وقيل غير ذلك، والأول أشبه. انتهى. ويؤيد ما أخرج ابن المنذر في سبب نزولها من طريق زيد بن مرثد قال: "ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزور فنزلت. ويجوز أن يكون المراد جميع ذلك.

(8/679)


5- باب {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} يُقَالُ الرِّجْزُ وَالرِّجْسُ: الْعَذَابُ
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب سمعت أبا سلمة قال: "أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فبينا أنا أمشي إّذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإّذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى {ياأيها المدثر قم فأنذر _ إلى قوله _ فاهجر} . قال أبو سلمة: والرجز الأوثان. ثم حمى الوحي وتتابع"
قوله: {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} يقال الرجز والرجس العذاب" هو قول أبي عبيدة، وقد تقدم في الذي قبله أن الرجز الأوثان، وهو تفسير معنى، أي أهجر أسباب الرجز أي العذاب وهي الأوثان. وقال الكرماني: فسر المفرد بالجمع لأنه اسم جنس، وبين ما في سياق رواية الباب أن تفسيرها بالأوثان من قول أبي سلمة، وعند ابن مردويه من طريق محمد بن كثير عن معمر عن الزهري في هذا الحديث: والرجز بضم الراء، وهي قراءة حفص عن عاصم، قال أبو عبيدة: هما بمعنى، ويروى عن مجاهد والحسن بالضم اسم الصنم وبالكسر اسم العذاب

(8/679)


سورة القيامة: باب {لا تحرك به لسانك لتعجل به}
...
75- سورة الْقِيَامَةِ
1- بَاب {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} سَوْفَ أَتُوبُ سَوْفَ أَعْمَلُ {لاَ وَزَرَ} لاَ حِصْنَ {سُدًى} هَمَلاً

(8/679)


باب {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
4928- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يَخْشَى أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أَنْ تَقْرَأَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ يَقُولُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَنْ نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِك"
قوله: "باب {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور من رواية إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة أتم من رواية ابن عيينة، وقد استغربه الإسماعيلي فقال: كذا أخرجه عن عبيد الله بن موسى، ثم أخرجه هو من طريق أخرى عن عبيد الله المذكور بلفظ {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قال كان يحرك به لسانه مخافة أن ينفلت

(8/681)


عنه، فيحتمل أن يكون ما بعد هذا من قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} إلى آخره معلقا عن ابن عباس بغير هذا الإسناد، وسيأتي الحديث في الباب الذي بعده أتم سياقا.

(8/682)


باب {فإذا قرأنه فاتبع قرآنه}
...
2- باب {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأْنَاهُ بَيَّنَّاهُ فَاتَّبِعْ اعْمَلْ بِهِ
4929- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى تَوَعُّدٌ"
قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال ابن عباس: قرأناه بيناه، فاتبع اعمل به" هذا التفسير رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم، وسيأتي في الباب عن ابن عباس تفسيره بشيء آخر. قوله: "إذا نزل جبريل عليه" في رواية أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة كما تقدم في بدء الوحي "كان يعالج من التنزيل شدة" وهذه الجملة توطئة لبيان السبب في النزول، وكانت الشدة تحصل له عند نزول الوحي لثقل القول كما تقدم في بدء الوحي من حديث عائشة، وتقدم من حديثها في قصة الإفك "فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء" وفي حديثها في بدء الوحي أيضا: "وهو أشده علي" لأنه يقتضي الشدة في الحالتين المذكورتين لكن إحداهما أشد من الأخرى. قوله: "وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه" اقتصر أبو عوانة على ذكر الشفتين وكذلك إسرائيل، واقتصر سفيان على ذكر اللسان، والجميع مراد إما لأن التحريكين متلازمان غالبا، أو المراد يحرك فمه المشتمل على الشفتين واللسان، لكن لما كان اللسان هو الأصل في النطق اقتصر في الآية عليه. قوله: "فيشتد عليه" ظاهر هذا السياق أن السبب في المبادرة حصول المشقة التي يجدها عند النزول، فكان يتعجل بأخذه لتزول المشقة سريعا. وبين في رواية إسرائيل أن ذلك كان خشية أن ينساه حيث قال: "فقيل له لا تحرك به لسانك تخشى أن ينفلت" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء عن الحسن "كان يحرك به لسانه يتذكره، فقيل له إنا سنحفظه عليك" وللطبري من طريق الشعبي "كان إذا نزل عليه عجل يتكلم به من حبه إياه، وظاهره أنه كان يتكلم بما يلقى إليه منه أولا فأولا من شدة حبه إياه، فأمر أن يتأنى إلى أن ينقضي النزول. ولا بعد في تعدد السبب. ووقع في رواية أبي عوانة" قال ابن عباس: فأنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما" وقال سعيد "أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما" فأطلق في خبر ابن عباس وقيد بالرؤية في خبر سعيد لأن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ المبعث النبوي، ولم يكن ابن عباس ولد حينئذ، ولكن لا مانع أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد فيراه ابن عباس حينئذ، وقد ورد ذلك صريحا عند أبي داود الطيالسي مسنده عن أبي عوانة بسنده بلفظ: "قال ابن عباس: فأنا أحرك لك شفتي كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" . وأفادت هذه الرواية إبراز الضمير في رواية البخاري حيث قال فيها "فأنا أحركهما" ولم يتقدم للشفتين ذكر، فعلمنا أن ذلك من تصرف الرواة.

(8/682)


قوله: "فأنزل الله" أي بسبب ذلك. واحتج بهذا من جوز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وجوز الفخر الرازي أن يكون أذن له في الاستعجال إلى وقت ورود النهي عن ذلك فلا يلزم وقوع الاجتهاد في ذلك، والضمير في "به" عائد على القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكن القرآن يرشد إليه، بل دل عليه سياق الآية. قوله: "علينا أن نجمعه في صدرك" كذا فسره ابن عباس وعبد الرزاق عن معمر عن قتادة تفسيره بالحفظ، ووقع في رواية أبي عوانة "جمعه لك في صدرك" ورواية جرير أوضح. وأخرج الطبري عن قتادة أن معنى جمعه تأليفه. قوله: "وقرآنه" زاد في رواية إسرائيل "أن تقرأه" أي أنت. ووقع في رواية الطبري "وتقرأه بعد" قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي قرأه عليك الملك "فاتبع قرآنه، فإذا أنزلناه فاستمع" هذا تأويل آخر لابن عباس غير المنقول عنه في الترجمة. وقد وقع في رواية ابن عيينة مثل رواية جرير. وفي رواية إسرائيل نحو ذلك. وفي رواية أبي عوانة "فاستمع وأنصت" ولا شك أن الاستماع أخص من الإنصات لأن الاستماع الإصغاء والإنصات السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء، وهو مثل قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والحاصل أن لابن عباس في تأويل قوله تعالى: { أَنْزَلْنَاهُ} وفي قوله: "فَاسْتَمِعْ" قولين. وعند الطبري من طريق قتادة في قوله استمع: اتبع حلاله واجتنب حرامه. ويؤيد ما وقع في حديث الباب قوله في آخر الحديث: "فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه، والضمير في قوله: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} لجبريل، والتقدير: فإذا انتهت قراءة جبريل فاقرأ أنت. قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينا أن نبينه بلسانك" في رواية إسرائيل "على لسانك" . وفي رواية أبي عوانة "أن تقرأه" وهي بمثناة فوقانية، واستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة، ونص عليه الشافعي، لما تقتضيه "ثم" من التراخي. وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب وتبعوه، وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له وظهوره على لسانه فلا، قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل، يقال بأن الكوكب إذا ظهر، قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض. وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين الإظهار والتفصيل وغير ذلك، لأن قوله: "بيانه" جنس مضاف فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك، وقد تقدم كثير من مباحث هذا الحديث في بدء الوحي وأعيد بعضه هنا استطرادا

(8/683)


76- سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ مَعْنَاهُ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ وَهَلْ تَكُونُ جَحْدًا وَتَكُونُ خَبَرًا وَهَذَا مِنْ الْخَبَرِ يَقُولُ كَانَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ {أَمْشَاجٍ} الأَخْلاَطُ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ الدَّمُ وَالْعَلَقَةُ وَيُقَالُ إِذَا خُلِطَ مَشِيجٌ كَقَوْلِكَ خَلِيطٌ وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ وَيُقَالُ {سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً} وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ {مُسْتَطِيرًا} مُمْتَدًّا الْبَلاَءُ وَالْقَمْطَرِيرُ الشَّدِيدُ يُقَالُ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ وَالْعَبُوسُ وَالْقَمْطَرِيرُ وَالْقُمَاطِرُ وَالْعَصِيبُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الأَيَّامِ فِي الْبَلاَءِ وَقَالَ الْحَسَنُ النُّضْرَةُ فِي

(8/683)


الْوَجْهِ وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَرَائِكِ} السُّرُرُ وَقَالَ الْبَرَاءُ {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا وَقَالَ مَعْمَرٌ أَسْرَهُمْ شِدَّةُ الْخَلْقِ وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتَبٍ وَغَبِيطٍ فَهُوَ مَأْسُورٌ
قوله: "سورة هل أتى على الإنسان - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "يقال معناه أتى على الإنسان، و "هل" تكون جحدا وتكون خبرا، وهذا من الخبر "كذا للأكثر وفي بعض، النسخ" وقال يحيى "وهو صواب لأنه قول يحيى بن زياد الفراء بلفظه، وزاد: لأنك تقول هل وعظمتك، هل أعطيتك؟ تقرره بأنك وعظته وأعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ والتحرير أن "هل" للاستفهام، لكن تكون تارة للتقرير وتارة للإنكار، فدعوى زيادتها لا يحتاج إليه. وقال أبو عبيدة "هل أتى" معناه قد أتى وليس باستفهام. وقال غيره: بل هي للاستفهام التقريري، كأنه قيل لمن أنكر البعث {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فيقول: نعم، فيقال: فالذي أنشأه - بعد أن لم يكن - قادر على إعادته. ونحوه {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي فتعلمون أن من أنشأ قادر على أن يعيد. قوله: "يقول كان شيئا فلم يكن مذكورا، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن ينفخ فيه الروح" هو كلام الفراء أيضا، وحاصله انتفاء الموصوف بانتفاء صفته. ولا حجة فيه للمعتزلة في دعواهم أن المعدوم شيء. قوله: "أمشاج الأخلاط: ماء المرأة وماء الرجل الدم والعلقة، ويقال إذا خلط مشيج كقولك خليط، وممشوج مثل مخلوط" هو قول الفراء قال في قوله: "أمشاج نبتليه" : وهو ماء المرأة وماء الرجل، والدم والعلقة، ويقال للشيء من هذا إذا خلط مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: من الرجل الجلد والعظم، ومن المرأة الشعر والدم، ومن طريق الحسن: من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيض. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمشاج قال مختلفة الألوان. ومن طريق ابن جريج عن مجاهد قال: أحمر وأسود. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الأمشاج إذا اختلط الماء والدم ثم كان علقة ثم كان مضغة. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: الأمشاج العروق. قوله: "سلاسلا وأغلالا" في رواية أبي ذر "ويقال سلاسلا وأغلالا" . قوله: "ولم يجر بعضهم" هو بضم التحتانية وسكون الجيم وكسر الراء بغير إشباع علامة للجزم، وذكر عياض أن في رواية الأكثر بالزاي بدل الراء ورجح الراء وهو الأوجه، والمراد أن بعض القراء أجرى سلاسلا وبعضهم لم يجرها أي لم يصرفها، وهذا اصطلاح قديم يقولون للاسم المصروف مجرى. والكلام المذكور للفراء، قال في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً} كتبت سلاسل بالألف وأجراها بعض القراء مكان الألف التي في آخرها، ولم يجر بعضهم واحتج بأن العرب قد ثبت الألف في النصب وتحذفها عند الوصل، قال: وكل صواب انتهى. ومحصل ما جاء من القراءات المشهورة في سلاسل التنوين وعدمه، ومن لم ينون منهم من يقف بألف وبغيرها، فنافع والكسائي وأبو بكر بن عياش وهشام بن عمار قرءوا بالتنوين، والباقون بغير تنوين، فوقف أبو عمرو بالألف ووقف حمزة بغير ألف، وجاء مثله في رواية عن ابن كثير، وعن حفص وابن ذكوان الوجهان، أما من نون فعلى لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف حكاها الكسائي والأخفش وغيرهما، أو على مشاكلة أغلالا.

(8/684)


وقد ذكر أبو عبيدة أنه رآها في إمام أهل الحجاز والكوفة "سلاسلا" بالألف، وهذه حجة من وقف بالألف اتباعا للرسم، وما عدا ذلك واضح. والله أعلم. قوله: "مستطيرا ممتدا البلاء" هو كلام الفراء أيضا وزاد: والعرب تقول استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال. وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: استطار والله شره حتى ملأ السماء والأرض. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "مستطيرا" قال: فاشيا. قوله: "والقمطرير الشديد، يقال يوم قمطرير ويوم قماطر، والعبوس والقمطرير والقماطر والعصيب أشد ما يكون من الأيام في البلاء" هو كلام أبي عبيدة بتمامه. وقال الفراء: قمطرير أي شديد، ويقال يوم قمطرير ويوم قماطر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: القمطرير تقبيض الوجه، قال معمر وقال يوم الشديد. قوله: "وقال الحسن: النضرة في الوجه والسرور في القلب" سقط هذا هنا لغير النسفي والجرجاني، وقد تقدم ذلك في صفة الجنة. قوله: "وقال ابن عباس: الأرائك السرر" ثبت هذا للنسفي والجرجاني، وقد تقدم أيضا في صفة الجنة. قوله: "وقال البراء: وذللت قطوفها يقطفون كيف شاءوا" ثبت هذا للنسفي وحده أيضا، وقد وصله سعيد بن منصور عن شريك عن أبي إسحاق عن البراء في قوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا. ومن طريق مجاهد: إن قام ارتفعت وإن قعد تدلت. ومن طريق قتادة: لا يرد أيديهم شوك ولا بعد. قوله: "وقال مجاهد: سلسبيلا حديد الجرية" ثبت هذا للنسفي وحده، وتقدم في صفة الجنة. قوله: "وقال معمر أسرهم شدة الخلق، وكل شيء شددته من قتب وغبيط فهو مأسور" سقط هذا لأبي ذر عن المستملي وحده، ومعمر المذكور هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، وظن بعضهم أنه ابن راشد فزعم أن عبد الرزاق أخرجه في تفسيره عنه، ولفظ أبي عبيدة: أسرهم شدة خلقهم، ويقال للفرس شديد الأسر أي شديد الخلق وكل شيء إلى آخر كلامه. وأما عبد الرزاق فإنما أخرج عن معمر بن راشد عن قتادة في قوله: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قال: خلقهم، وكذا أخرجه الطبري من طريق محمد بن ثور عن معمر.
" تنبيه " : لم يورد في تفسير "هل أتى" حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن عباس في قراءتها في صلاة الصبح يوم الجمعة. وقد تقدم في الصلاة.

(8/685)


77- سورة وَالْمُرْسَلاَتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {جِمَالاَتٌ} حِبَالٌ {ارْكَعُوا} صَلُّوا {لاَ يَرْكَعُونَ} لاَ يُصَلُّونَ وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ يَنْطِقُونَ} {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} فَقَالَ إِنَّهُ ذُو أَلْوَانٍ مَرَّةً يَنْطِقُونَ وَمَرَّةً يُخْتَمُ عَلَيْهِم"
1- باب 49300- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا"
4931حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا وَعَنْ إِسْرَائِيلَ

(8/685)


عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ وَتَابَعَهُ أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ فَتَلَقَّيْنَاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ اقْتُلُوهَا قَالَ فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا قَالَ فَقَالَ وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا"
قوله: "سورة والمرسلات" كذا لأبي ذر، وللباقين والمرسلات حسب. وأخرج الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: "المرسلات عرفا الملائكة أرسلت بالمعروف" . قوله: "جمالات حبال" في رواية أبي ذر. وقال مجاهد "جمالات" حبال. ووقع عند النسفي والجرجاني في أول الباب: وقال مجاهد "كفاتا" أحياء يكونون فيها وأمواتا يدفنون فيها. "فراتا" عذبا. {جِمَالاَتٌ} حبال الجسور، وهذا الأخير وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. ووقع عند ابن التين: قول مجاهد جمالات جمال يريد بكسر الجيم وقيل بضمها إبل سود واحدها جمالة، وجمالة جمع جمل مثل حجارة وحجر، ومن قرأ جمالات ذهب به إلى الحبال الغلاظ. وقد قال مجاهد في قوله: "حتى يلج الجمل في سم الخياط" : هو حبل السفينة، وعن الفراء: الجمالات ما جمع من الحبال، قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ في الأصل بضم الجيم. قلت: هي قراءة نقلت عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة، وعن ابن عباس أيضا جمالة بالإفراد مضموم الأول أيضا، وسيأتي تفسيرها عن ابن عباس بنحو ما قال مجاهد في آخر السورة. وأما تفسير {كِفَاتاً} فتقدم في الجنائز، وقوله: {فُرَاتاً} عذبا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا قال أبو عبيدة. قوله: "وقال مجاهد: اركعوا صلوا، لا يركعون لا يصلون" سقط لا يركعون لغير أبي ذر، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} قال: صلوا. قوله: "وسئل ابن عباس" لا ينطقون، والله ربنا ما كنا مشركين، اليوم نختم على أفواههم "فقال: إنه ذو ألوان، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم" سقط لفظ: "على أفواههم" لغير أبي ذر، وهذا تقدم شيء من معناه في تفسير فصلت. وأخرج عبد بن حميد من طريق علي بن زيد عن أبي الضحى أن نافع بن الأزرق وعطية أتيا ابن عباس فقالا: يا ابن عباس، أخبرنا عن قول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} قال: ويحك يا ابن الأزرق إنه يوم طويل وفيه مواقف، تأتي عليهم ساعة لا ينطقون، ثم يؤذن لهم فيختصمون، ثم يكون ما شاء الله يحلفون ويجحدون، فإذا فعلوا ذلك ختم الله على أفواههم، وتؤمر جوارحهم فتشهد على أعمالهم بما صنعوا ثم تنطق ألسنتهم فيشهدون على أنفسهم بما صنعوا، وذلك قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} . وروى ابن مردويه من حديث عبد الله بن الصامت قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أرأيت قول الله {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} ؟ فقال: إن يوم القيامة له حالات وتارات، في حال لا ينطقون وفي حال ينطقون، ولابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة

(8/686)


قال: إنه يوم ذو ألوان. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وعبيد الله بن موسى هو من شيوخ البخاري لكنه أخرج عنه هذا بواسطة. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية جرير "في غار" ووقع في رواية حفص بن غياث كما سيأتي "بمنى" وهذا أصح مما أخرج الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي وائل عن ابن مسعود قال: "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم على حراء" . قوله: "فخرجت" في رواية حفص بن غياث الآتية "إذ وثبت" . قوله: "فابتدرناها" في رواية الأسود "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقتلوها، فابتدرناها" . قوله: "فسبقتنا" أي باعتبار ما آل إليه أمرها، والحاصل أنهم أرادوا أن يسبقوها فسبقتهم، وقوله: "فابتدرناها" أي تسابقنا أينا يدركها، فسبقتنا كلنا. وهذا هو الوجه والأول احتمال بعيد. قوله: "عن منصور بهذا، وعن إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم" يريد أن يحيى بن آدم زاد لإسرائيل فيه شيخا وهو الأعمش. قوله: "وتابعه أسود بن عامر عن إسرائيل" وصله الإمام أحمد عنه به، قال الإسماعيلي: وافق إسرائيل على هذا شيبان والثوري وورقاء وشريك، ثم وصله عنهم. قوله: "وقال حفص وأبو معاوية وسليمان بن قرم عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود" يريد أن الثلاثة خالفوا رواية إسرائيل عن الأعمش في شيخ إبراهيم، فإسرائيل يقول: عن الأعمش عن علقمة، وهؤلاء يقولون: الأسود. وسيأتي في آخر الباب أن جرير بن عبد الحميد وافقهم عن الأعمش. فأما رواية حفص وهو ابن غياث فوصلها المصنف، وستأتي بعد باب. وأما رواية أبي معاوية فتقدم بيان من وصلها في بدء الخلق. وكذا رواية سليمان بن قرم، وهو بفتح القاف وسكون الراء بصري ضعيف الحفظ، وتفرد أبو داود الطيالسي بتسمية أبيه معاذا، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق. قوله: "وقال يحيى بن حماد أخبرنا أبو عوانة عن مغيرة" يعني ابن مقسم "عن إبراهيم عن علقمة" يريد أن مغيرة وافق إسرائيل في شيخ إبراهيم وأنه علقمة، ورواية يحيى بن حماد هذه وصلها الطبراني قال حدثنا محمد ابن عبد الله الحضرمي حدثنا الفضل بن سهل حدثنا يحيى بن حماد به ولفظه: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فأنزلت عليه والمرسلات" الحديث. وحكى عياض أنه وقع في بعض النسخ "وقال حماد أنبأنا أبو عوانة" وهو غلط. قوله: "وقال ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله" يريد أن للحديث أصلا عن الأسود من غير طريق الأعمش ومنصور، ورواية ابن إسحاق هذه وصلها أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي إسحاق "حدثني عبد الرحمن بن الأسود" وأخرجها ابن مردويه من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن إسحاق ولفظه: "نزلت والمرسلات عرفا بحراء ليلة الحية، قالوا: وما ليلة الحية؟ قال: خرجت حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها، فتغيبت في جحر، فقال: دعوها" الحديث. ووقع في بعض النسخ "وقال أبو إسحاق" وهو تصحيف والصواب "ابن إسحاق" وهو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي. الحديث المذكور عن قتيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بتمامه

(8/687)


2- باب {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ}
4932- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ قَالَ كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلاَثَةَ أَذْرُعِ أَوْ أَقَلَّ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَر"
[الحديث 4923- طرفه في:4933]

(8/687)


قوله: "باب قوله {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي قدر القصر. قوله: "كنا نرفع الخشب بقصر" بكسر الموحدة والقاف وفتح الصاد المهملة وتنوين الراء وبالإضافة أيضا وهو بمعنى الغاية والقدر، تقول قصرك وقصاراك من كذا ما اقتصرت عليه. قوله: "ثلاثة أذرع أو أقل" في الرواية التي بعد هذه "أو فوق ذلك" وهي رواية المستملي وحده. قوله: "فنرفعه للشتاء فنسميه القصر" بسكون الصاد وبفتحها، وهو على الثاني جمع قصرة أي كأعناق الإبل ويؤيده قراءة ابن عباس كالقصر بفتحتين، وقيل هو أصول الشجر، وقيل أعناق النخل. وقال ابن قتيبة: القصر البيت، ومن فتح أراد أصول النخل المقطوعة، شبهها بقصر الناس أي أعناقهم، فكأن ابن عباس فسر قراءته بالفتح بما ذكر. وأخرج أبو عبيد من طريق هارون الأعرج عن حسين المعلم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} بفتحتين، قال هارون: وأنبأنا أبو عمرو أن سعيدا وابن عباس قرءا كذلك، وأسنده أبو عبيد عن ابن مسعود أيضا بفتحتين. وأخرج ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن عبد الرحمن بن عابس "سمعت ابن عباس كانت العرب تقول في الجاهلية اقصروا لنا الحطب، فيقطع على قدر الذراع والذراعين" وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن مسعود في قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: ليست كالشجر والجبال، ولكنها مثل المدائن والحصون.

(8/688)


3- باب {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ}
4933- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ} قَالَ كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلاَثَةَ أَذْرُعٍ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَرَ {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} حِبَالُ السُّفُنِ تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَال"
قوله: "باب قوله {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} ذكر فيه الحديث الذي قبله من طريق يحيى وهو القطان أخبرنا سفيان وهو الثوري. قوله: "ثلاثة أذرع" زاد المستملي روايته: "أو فوق ذلك" . قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} حبال السفن تجمع "أي يضم بعضها إلى بعض ليقوى" حتى تكون كأوساط الرجال "قلت هو من تتمة الحديث، وقد أخرجه عبد الرزاق عن الثوري بإسناده وقال في آخره: "وسمعت ابن عباس يسأل عن قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} قال: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال" . وفي رواية قيس بن الربيع عن عبد الرحمن بن عباس: هي القلوص التي تكون في الجسور، والأول هو المحفوظ

(8/688)


4- باب {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ}
4934- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لاَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوهَا فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا" قَالَ عُمَرُ حَفِظْتُهُ مِنْ أَبِي فِي غَارٍ بِمِنًى"

(8/688)


78-سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}
قَالَ مُجَاهِدٌ {لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} لاَ يَخَافُونَهُ {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لاَ يُكَلِّمُونَهُ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ {صَوَابًا} حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَهَّاجًا} مُضِيئًا وَقَالَ غَيْرُهُ {غَسَّاقًا} غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَغْسِقُ الْجُرْحُ يَسِيلُ كَأَنَّ الْغَسَاقَ وَالْغَسِيقَ وَاحِدٌ {عَطَاءً حِسَابًا} جَزَاءً كَافِيًا أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي أَيْ كَفَانِي"
قوله: "سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} قرأ الجمهور "عم" بميم فقط، وعن ابن كثير رواية بالهاء وهي هاء السكت أجرى الوصل مجرى الوقف، وعن أبي بن كعب وعيسى بن عمر بإثبات الألف على الأصل وهي لغة نادرة، ويقال لها أيضا سورة النبأ. قوله: {لا يَرْجُونَ حِسَاباً} لا يخافونه" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "وقال مجاهد" فذكره. وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} لا يكلمونه إلا أن يأذن لهم" كذا للمستملي، وللباقين "لا يملكونه" والأول أوجه، وسأبينه في الذي بعده. قوله: "صوابا: حقا في الدنيا وعمل به" ووقع لغير أبي ذر نسبة هذا إلى ابن عباس كالذي بعده، وفيه نظر فإن الفريابي أخرجه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} قال: كلاما "إلا من قال صوابا" قال: حقا في الدنيا وعمل به. قوله: "وقال ابن عباس {ثَجَّاجاً} منصبا" ثبت هذا للنسفي وحده وقد تقدم في المزارعة. قوله: "ألفافا ملتفة" ثبت هذا للنسفي وحده، وهو قول أبي عبيدة. قوله: "وقال ابن عباس {وَهَّاجاً} مضيئا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "{دِهَاقاً} ممتلئا {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} نواهد" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "وقال غيره {وَغَسَّاقاً} غسقت عينه" سقط هذا لغير أبي ذر وقد تقدم في بدء الخلق. وقال أبو عبيدة: يقال تغسق عينه أي تسيل. ووقع عند النسفي والجرجاني "وقال معمر فذكره" ، ومعمر هو أبو عبيدة ابن المثنى المذكور. قوله: "ويغسق الجرح يسيل، كأن الغساق والغسيق واحد" تقدم بيان ذلك في بدء الخلق، وسقط هنا لغير أبي ذر. قوله: "عطاء حسابا جزاء كافيا، أعطاني ما أحسبني أي كفاني" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} أي جزاء، ويجيء حسابا كافيا، وتقول أعطاني ما أحسبني أي كفاني. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {عَطَاءً حِسَاباً} قال: كثيرا.

(8/689)


1 - باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} زُمَرًا
4935- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا

(8/689)


سورة النازعات
...
79- سورة وَالنَّازِعَاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الآيَةَ الْكُبْرَى} عَصَاهُ وَيَدُهُ يُقَالُ النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرَةُ سَوَاءٌ مِثْلُ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِيلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّخِرَةُ الْبَالِيَةُ وَالنَّاخِرَةُ الْعَظْمُ الْمُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ فَيَنْخَرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَافِرَةِ الَّتِي أَمْرُنَا الأَوَّلُ إِلَى الْحَيَاةِ وَقَالَ غَيْرُهُ أَيَّانَ مُرْسَاهَا مَتَى مُنْتَهَاهَا وَمُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي"
قوله: "سورة والنازعات" كذا للجميع. قوله: "زجرة صيحة" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله عبد بن حميد من طريقه. قوله: "وقال مجاهد {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} هي الزلزلة" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله عبد بن حميد من طريقه بلفظ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} وهي الزلزلة. قوله: "وقال مجاهد: الآية الكبرى عصاه ويده" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "سمكها بناءها بغير عمد" ثبت هذا هنا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "طغى عصى" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد به. قوله: "الناخرة والنخرة سواء مثل الطامع والطمع والباخل والبخيل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عِظَاماً نَخِرَةً} ناخرة ونخرة سواء. وقال الفراء مثله، قال: وهما قراءتان أجودهما ناخرة. ثم أسند عن ابن الزبير أنه قال على المنبر: ما بال صبيان يقرءون نخرة؟ إنما هي ناخرة. قلت: قرأها نخرة بغير ألف جمهور القراء، وبالألف الكوفيون لكن بخلف عن عاصم.
" تنبيه " : قوله: "والباخل والبخيل" في رواية الكشميهني بالنون والحاء المهملة فيهما، ولغيره بالموحدة والمعجمة وهو الصواب، وهذا الذي ذكره الفراء قال: هو بمعنى الطامع والطمع والباخل والبخل. وقوله: "سواء" أي في أصل المعنى، وإلا ففي نخرة: مبالغة ليست في ناخرة. قوله: "وقال بعضهم النخرة البالية، والناخرة العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فينخر" قال الفراء: فرق بعض المفسرين بين الناخرة والنخرة فقال: النخرة البالية، والناخرة العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فينخر. والمفسر المذكور هو ابن الكلبي، فقال أبو الحسن الأثرم الراوي عن أبي عبيدة: سمعت ابن الكلبي يقول: نخرة ينخر فيها الريح، وناخرة بالية. وأنشد لرجل من فهم يخاطب فرسه في يوم ذي قار حين تحاربت العرب والفرس:
أقدم نجاح إنها الأساورة ... فإنما قصرك ترب الساهرة
ثم تعود بعدها في الحافرة ... من بعدما كنت عظاما ناخرة

(8/690)


أي بالية. قوله: "الساهرة وجه الأرض" كأنها سميت بهذا الاسم لأن فيها الحيوان نومهم وسهرهم. ثبت هذا هنا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق، وهو قول الفراء بلفظه. قوله: "وقال ابن عباس: الحافرة إلى أمرنا الأول، إلى الحياة" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "الحافرة" يقول: الحياة وقال الفراء: الحافرة يقول إلى أمرنا الأول، إلى الحياة. والعرب تقول أتيت فلانا ثم رجعت عل حافري أي من حيث جئت، قال: وقال بعضهم الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فسماها الحافرة أي المحفورة، كماء دافق أي مدفوق. قوله: "الراجفة النفخة الأولى، تتبعها الرادفة النفخة الثانية" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} النفخة الأولى "تتبعها الرادفة" النفخة الثانية. قوله: "وقال غيره {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى منتهاها؟ ومرسى السفينة حيث تنتهي" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى منتهاها. قال: ومرساها منتهاها إلخ ثم ساق حديث سهل بن سعد "بعثت والساعة - بالرفع والنصب - كهاتين" وسيأتي شرحه في الرقاق. قوله: "قال ابن عباس: أغطش أظلم" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق.
1- باب 4936- حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى ملكا تلي الإبهام: "بعثت أنا والساعة كهاتين" الطَّامَّةُ تَطِمُّ عَلَى كُلِّ شَيْء"
[الحديث 4936- طرفاه في: 5301، 6503]
قوله: "الطامة تطم كل شيء" ووقع هذا للنسفي مقدما قبل باب، وهو قول الفراء قال في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} هي القيامة تطم كل شيء. ولابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس: الطامة هي الساعة طمت كل داهية.

(8/691)


80- سورة عَبَسَ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} كَلَحَ وَأَعْرَضَ وَقَالَ غَيْرُهُ {مُطَهَّرَةٍ} لاَ يَمَسُّهَا إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ وَهُمْ الْمَلاَئِكَةُ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} جَعَلَ الْمَلاَئِكَةَ وَالصُّحُفَ مُطَهَّرَةً لأَنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا التَّطْهِيرُ فَجُعِلَ التَّطْهِيرُ لِمَنْ حَمَلَهَا أَيْضًا {سَفَرَةٍ} الْمَلاَئِكَةُ وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ سَفَرْتُ أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ وَجُعِلَتْ الْمَلاَئِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَقَالَ غَيْرُهُ تَصَدَّى تَغَافَلَ عَنْهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا يَقْضِ لاَ يَقْضِي أَحَدٌ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَرْهَقُهَا تَغْشَاهَا شِدَّةٌ مُسْفِرَةٌ مُشْرِقَةٌ {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبَةٍ أَسْفَارًا كُتُبًا تَلَهَّى تَشَاغَلَ يُقَالُ وَاحِدُ الأَسْفَارِ سِفْرٌ
4937- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَان"

(8/691)


قوله: "سورة عبس - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "عبس وتولى: كلح وأعرض" أما تفسير عبس فهو لأبي عبيدة، وأما تفسير تولى فهو في حديث عائشة الذي سأذكره بعد، ولم يختلف السلف في أن فاعل عبس هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأغرب الداودي فقال. هو الكافر. وأخرج الترمذي والحاكم من طريق يحيى بن سعيد الأموي وابن حبان من طريق عبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى فقال: يا رسول الله أرشدني - وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين - فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر فيقول له: أترى بما أقول باسا؟ فيقول: لا. فنزلت عبس وتولى" قال الترمذي: حسن غريب، وقد أرسله بعضهم عن عروة لم يذكر عائشة. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن الذي كان يكلمه أبي بن خلف. وروى سعيد بن منصور من طريق أبي مالك أنه أمية بن خلف. وروى ابن مردويه من حديث عائشة أنه كان يخاطب عتبة وشيبة ابني ربيعة. ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: عتبة وأبو جهل وعياش. ومن وجه آخر عن عائشة: كان في مجلس فيه ناس من وجوه المشركين منهم أبو جهل وعتبة، فهذا يجمع الأقوال. قوله: "مطهرة لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة" في رواية غير أبي ذر. وقال غيره مطهرة إلخ وكذا للنسفي، وكان قال قبل ذلك: وقال مجاهد. فذكر الأثر الآتي ثم قال: وقال غيره. قوله: "وهذا مثل قوله فالمدبرات أمرا" هو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} مرفوعة مطهرة، لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة، وهذا مثل قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} . قوله: "جعل الملائكة والصحف مطهرة لأن الصحف يقع عليها التطهير فجعل التطهير لمن حملها أيضا" . هو قول الفراء أيضا. قوله: "وقال مجاهد: الغلب الملتفة، والأب ما يأكل الأنعام" وقع في رواية النسفي وحده هنا، وقد تقدم في صفة الجنة. قوله: "سفرة الملائكة واحدهم سافر، سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم" هو قول الفراء بلفظه، وزاد: قال الشاعر:
وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغش إن مشيت
وقد تمسك به من قال إن جميع الملائكة رسل الله، وللعلماء في ذلك قولان، الصحيح أن فيهم الرسل وغير الرسل، وقد ثبت أن منهم الساجد فلا يقوم والراكع فلا يعتدل، الحديث. واحتج الأول بقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} وأجيب بقول الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} . قوله: "تصدى تغافل عنه" في رواية النسفي "وقال غيره إلخ" وسقط منه شيء. والذي قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي تتعرض له، تلهى تغافل عنه، فالساقط لفظ تتعرض له ولفظ تلهى، وسيأتي تفسير تلهى على الصواب، وهو بحذف إحدى التاءين في اللفظتين والأصل تتصدى وتتلهى، وقد تعقب أبو ذر ما وقع في البخاري فقال: إنما يقال تصدى للأمر إذا رفع رأسه إليه، فأما تغافل فهو تفسير تلهى. وقال ابن التين: قيل تصدى تعرض. وهو اللائق بتفسير الآية لأنه لم يتغافل عن المشركين إنما تغافل عن الأعمى. قوله: "وقال مجاهد: لما يقض لا يقضي أحد ما أمر به" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "لا يقضي أحد أبدا ما افترض عليه" . قوله: "وقال ابن عباس: ترهقها قترة تغشاها شدة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. وأخرج الحاكم من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}

(8/692)


قال: يصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين، وذلك قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ َرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} . قوله: "مسفرة مشرقة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة أيضا. قوله: "بأيدي سفرة قال ابن عباس: كتبة، أسفارا كتبا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "بأيدي سفرة" قال: كتبة واحدها سافر، وهي كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} قال: كتبا، وقد ذكر عبد الرزاق من طريق معمر عن قتادة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قال: كتبة. وقال أبو عبيدة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي كتبة، واحدها سافر. قوله: "تلهى تشاغل" تقدم القول فيه. قوله: "يقال واحد الأسفار سفر" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الأسفار واحدها سفر، وهي الكتب العظام. قوله: "فأقبرها، يقال أقبرت الرجل جعلت له قبرا، وقبرته دقنته" قال الفراء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } جعله مقبورا، ولم يقل قبره لأن القابر هو الدافن. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَأَقْبَرَهُ} أمر بأن يقبر، جعل له قبرا، والذي يدفن بيده هو القابر. قوله: "عن سعد بن هشام" أي ابن عامر الأنصاري، لأبيه صحبة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وآخر معلق في المناقب. قوله: "مثل" بفتحتين أي صفته، وهو كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} . قوله: "وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة" قال ابن التين: معناه كأنه مع السفرة فيما يستحقه من الثواب. قلت: أراد بذلك تصحيح التركيب، وإلا فظاهره أنه لا ربط بين المبتدأ الذي هو مثل والخبر الذي هو مع السفرة، فكأنه قال: المثل بمعنى الشبيه فيصير كأنه قال: شبيه الذي يحفظ كائن مع السفرة فكيف به. وقال الخطابي: كأنه قال صفته وهو حافظ له كأنه مع السفرة، وصفته وهو عليه شديد أن يستحق أجرين. قوله: "ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران" قال ابن التين اختلف هل له ضعف أجر الذي يقرأ القرآن حافظا أو يضاعف له أجره وأجر الأول أعظم؟ قال: وهذا أظهر، ولمن رجح الأول أن يقول: الأجر على قدر المشقة

(8/693)


3 - سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
{انْكَدَرَتْ} انْتَثَرَتْ وَقَالَ الْحَسَنُ {سُجِّرَتْ} ذَهَبَ مَاؤُهَا فَلاَ يَبْقَى قَطْرَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْمَسْجُورُ الْمَمْلُوءُ وَقَالَ غَيْرُهُ {سُجِرَتْ} أَفْضَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا وَ {الْخُنَّسُ} تَخْنِسُ فِي مُجْرَاهَا تَرْجِعُ وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ تَنَفَّسَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ وَالضَّنِينُ يَضَنُّ بِهِ وَقَالَ عُمَرُ {النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ قَرَأَ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} {عَسْعَسَ} أَدْبَرَ.
قوله: "سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة التكوير. قوله: {سُجِّرَتْ} يذهب ماؤها فلا يبقى قطرة "تقدم في تفسير سورة الطور، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بهذا. قوله:"وقال مجاهد: المسجور المملوء" تقدم في تفسير سورة الطور أيضا. قوله: "وقال غيره: سجرت أفضى بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا" هو معنى قول السدي، أخرجه ابن أبي حاتم من طريقه بلفظ {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي فتحت وسيرت. قوله: "انكدرت انتثرت" قال الفراء

(8/693)


في قوله تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} يريد انتثرت، وقعت في وجه الأرض. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} قال: تناثرت. قوله: "كشطت أي غيرت، وقرأ عبد الله قشطت، مثل الكافور والقافور، والقسط والكسط" ثبت هذا للنسفي وحده وذكره غيره في الطب، وهو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} يعني نزعت وطويت، وفي قراءة عبد الله - يعني ابن مسعود - قشطت بالقاف، والمعنى واحد، والعرب تقول القافور والكافور والقسط والكسط، إذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغة كما يقال حدث وحدت والأتاني والأثاني. قوله: "والخنس تخنس في مجراها ترجع، وتكنس تستتر في بيوتها تكنس الظباء" قال الفراء في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} : وهي النجوم الخمسة تخنس في مجراها ترجع، وتكنس تستتر في بيوتها كما تكنس الظباء في المغاير وهي الكناس، قال: والمراد بالنجوم الخمسة بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري، وأسند هذا الكلام ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي ميسرة عن عمرو بن شرحبيل قال: قال لي ابن مسعود ما الخنس؟ قال قلت: أظنه بقر الوحش. قال: وأنا أظن ذلك. وعن معمر عن الحسن قال: هي النجوم تخنس بالنهار، والكنس تسترهن إذا غبن. قال وقال بعضهم: الكنس الظباء. وروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن علي قال: هن الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى. ومن طريق مغيرة قال: سئل مجاهد عن هذه الآية فقال: لا أدري. فقال إبراهيم: لم لا تدري؟ قال: سمعنا أنها بقر الوحش، وهؤلاء يروون عن علي أنها النجوم. قال: إنهم يكذبون على علي. وهذا كما يقولون إن عليا قال: لو أن رجلا وقع من فوق بيت على رجل فمات الأعلى ضمن الأسفل. قوله: "تنفس ارتفع النهار" هو قول الفراء أيضا. قوله: "والظنين المتهم والضنين يضن به" هو قول أبي عبيدة، وأشار إلى القراءتين، فمن قرأها بالظاء المشالة فمعناها ليس بمتهم، ومن قرأها بالساقطة فمعناها البخيل. وروى الفراء عن قيس بن الربيع عن عاصم عن ورقاء قال: أنتم تقرءون بضنين ببخيل، ونحن نقرأ بظنين بمتهم. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: الظنين المتهم، والضنين البخيل. وروى ابن أبي حاتم بسند صحيح: كان ابن عباس يقرأ بضنين، قال: والضنين والظنين سواء، يقول ما هو بكاذب، والظنين المتهم والضنين البخيل. قوله: "وقال عمر: النفوس زوجت، يزوج نظيره من أهل الجنة والنار. ثم قرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وصله عبد بن حميد والحاكم وأبو نعيم في "الحلية" وابن مردويه من طريق الثوري وإسرائيل وحماد بن سلمة وشريك كلهم عن سماك بن حرب سمعت النعمان بن بشير سمعت عمر يقول في قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} : هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة، والرجل يزوج نظيره من أهل النار. ثم قرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وهذا إسناد متصل صحيح، ولفظ الحاكم: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة والنار: الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح. وقد رواه الوليد بن أبي ثور عن سماك بن حرب فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقصر به فلم يذكر فيه عمر، جعله من مسند النعمان، أخرجه ابن مردويه، وأخرجه أيضا، من وجه آخر عن الثوري كذلك، والأول هو المحفوظ. وأخرج الفراء من طريق عكرمة قال: يقرن الرجل بقرينه الصالح في الدنيا، ويقرن الرجل الذي كان يعمل السوء في الدنيا بقرينه الذي كان يعينه في النار. قوله: {عَسْعَسَ} أدبر وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. وقال أبو عبيدة: قال بعضهم {عَسْعَسَ} أقبلت

(8/694)


ظلماؤه. وقال بعضهم: بل معناه ولي، لقوله بعد ذلك {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} . وروى أبو الحسن الأثرم بسند له عن عمر قال: إن شهرنا قد عسعس، أي أدبر. وتمسك من فسره بأقبل بقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} قال الخليل: أقسم بإقبال الليل وإدباره.
" تنبيه " : لم يورد فيها حديثا مرفوعا، وفيها حديث جيد أخرجه أحمد والترمذي والطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر رفعه: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} لفظ أحمد.

(8/695)


82- سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ {فُجِّرَتْ} فَاضَتْ وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ {فَعَدَلَكَ} بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالتَّشْدِيدِ وَأَرَادَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا قَبِيحٌ أَوْ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ
قوله: "سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ويقال لها أيضا سورة الانفطار. قوله: "انفطارها انشقاقها" ثبت هذا للنسفي وحده وهو قول الفراء. قوله: "ويذكر عن ابن عباس بعثرت يخرج من فيها من الموتى" ثبت هذا أيضا للنسفي وحده، وهو قول الفراء أيضا، وقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: بعثرت أي بحثت. قوله: "وقال غيره: انتثرت. بعثرت حوضي: جعلت أسفله أعلاه" ثبت هذا للنسفي أيضا وحده وتقدم في الجنائز. قوله: "وقال الربيع بن خثيم: فجرت فاضت" قال عبد بن حميد حدثنا مؤمل وأبو نعيم قالا: حدثنا سفيان هو ابن سعيد الثوري عن أبيه عن أبي يعلى هو منذر الثوري عن الربيع بن خثيم به، قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري مثله وأتم منه، والمنقول عن الربيع "فجرت" بتخفيف الجيم وهو اللائق بتفسيره المذكور. قوله: "وقرأ الأعمش وعاصم فعدلك بالتخفيف، وقرأه أهل الحجاز بالتشديد" قلت: قرأ أيضا بالتخفيف حمزة والكسائي وسائر الكوفيين، وقرأ أيضا بالتثقيل من عداهم من قراءة الأمصار. قوله: "وأراد معتدل الخلق، ومن خفف يعني في أي صورة شاء: إما حسن وإما قبيح أو طويل أو قصير" هو قول الفراء بلفظه إلى قوله بالتشديد، ثم قال: فمن قرأ بالتخفيف فهو والله أعلم يصرفك في أي صورة شاء إما حسن إلخ، ومن شدد فإنه أراد والله أعلم جعلك معتدلا معتدل الخلق. قال: وهو أجود القراءتين في العربية وأحبهما إلي. وحاصل القراءتين أن التي بالتثقيل من التعديل، والمراد التناسب، وبالتخفيف من العدل وهو الصرف إلى أي صفة أراد.
" تنبيه " : لم يورد فيها حديث مرفوعا، ويدخل فيها حديث ابن عمر المنبه عليه في التي قبلها.

(8/695)


83- سُورَةُ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ بَلْ رَانَ ثَبْتُ الْخَطَايَا ثُوِّبَ جُوزِيَ وَقَالَ غَيْرُهُ الْمُطَفِّفُ لاَ يُوَفِّي غَيْرَهُ
قوله: "سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} بسم الله الرحمن الرحيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. أخرج النسائي وابن ماجه

(8/695)


باب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
4938- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ"
[الحديث 4938- طرفه في:6531]
قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} زاد في رواية ابن وهب "يوم القيامة" . قوله: "في رشحه" بفتحتين أي عرقه لأنه يخرج من البدن شيئا بعد شيء كما يرشح الإناء المتحلل الأجزاء. ووقع في رواية سعيد بن داود "حتى إن العرق يلجم أحدهم إلى أنصاف أذنيه" . قوله: "إلى أنصاف أذنيه" هو من إضافة الجميع إلى الجميع حقيقة ومعنى، لأن لكل واحد أذنين. وقد روى مسلم من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما"

(8/696)


84- سُورَةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
قَالَ مُجَاهِدٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ يَأْخُذُ كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَسَقَ جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا.

(8/696)


1- باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
4939- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي يُونُسَ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلاَّ هَلَكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَك"
قوله: "باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وله في هذا الحديث شيخ آخر بإسناد آخر وهو مذكور في هذا الباب، وعثمان بن الأسود أي ابن أبي موسى المكي مولى بني جمح، ووقع عند القابسي عثمان الأسود صفة لعثمان وهو خطأ، واشتمل ما ساقه المصنف على ثلاثة أسانيد: عثمان عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وتابعه أيوب عن عثمان، وخالفهما أبو يونس فأدخل بين ابن أبي مليكة وعائشة رجلا وهو القاسم بن محمد، وهو محمول على أن ابن أبي مليكة حمله عن القاسم ثم سمعه من عائشة أو سمعه أولا من عائشة ثم استثبت القاسم إذ في رواية القاسم زيادة ليست عنده. وقد استدرك الدار قطني هذا الحديث لهذا الاختلاف، وأجيب بما ذكرناه، ونبه الجياني على خبط لأبي زيد المروزي في هذه الأسانيد قال: سقط عنده ابن أبي مليكة من الإسناد الأول ولا بد منه، وزيد عنده القاسم بن محمد الإسناد الثاني وليس فيه وإنما هو في رواية أبي يونس. وقال الإسماعيلي: جمع البخاري بين الأسانيد الثلاثة ومتونها مختلفة. قلت: وسأبين ذلك وأوضحه في كتاب الرقاق مع بقية الكلام على الحديث، وتقدمت بعض مباحثه في أواخر كتاب العلم

(8/697)


2- باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}
4940- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ حَالاً بَعْدَ حَالٍ قَالَ هَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم" أي الخطاب له، وهو على قراءة فتح الموحدة وبها قرأ ابن كثير والأعمش والأخوان. وقد أخرج الطبري الحديث المذكور عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم بلفظ: "أن ابن عباس كان يقرأ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يعني نبيكم حالا بعد حال" وأخرجه أبو عبيد في "كتاب القراءات" عن هشيم وزاد: يعني بفتح الباء، قال الطبري: قرأها ابن مسعود وابن عباس وعامة قراء أهل مكة والكوفة بالفتح، والباقون بالضم على أنه خطاب للأمة، ورجحها أبو عبيدة لسياق ما قبلها وما بعدها. ثم أخرج عن الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم قالوا {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يعني حالا بعد حال، ومن طريق الحسن أيضا وأبي العالية ومسروق قال: السماوات. وأخرج الطبري أيضا والحاكم من حديث ابن مسعود إلى قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: السماء. وفي لفظ للطبري عن ابن مسعود قال: المراد أن السماء تصير مرة كالدهان، ومرة تشقق ثم تحمر ثم تنفطر. ورجح الطبري الأول وأصل الطبق الشدة، والمراد بها هنا ما يقع من الشدائد يوم القيامة. والطبق ما طابق غيره، يقال ما هذا بطبق كذا أي لا يطابقه. ومعنى قوله: "حالا بعد حال" أي حال مطابقة للتي قبلها في الشدة، أو هو جمع طبقة وهي المرتبة، أي هي طبقات بعضها أشد من بعض، وقيل المراد اختلاف أحوال المولود منذ يكون جنينا إلى أن يصير إلى أقصى العمر، فهو قبل أن يولد جنين، ثم إذا ولد صبي، فإذا فطم غلام، فإذا بلغ سبعا يافع، فإذا بلغ عشرا حزور، فإذا بلغ خمس عشرة قمد، فإذا بلغ خمسا وعشرين عنطنط، فإذا بلغ ثلاثين صمل، فإذا بلغ أربعين كهل، فإذا بلغ خمسين شيخ، فإذا بلغ ثمانين هم، فإذا بلغ تسعين فان.

(8/698)


85- سُورَةُ الْبُرُوجِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الأُخْدُودِ} شَقٌّ فِي الأَرْضِ {فَتَنُوا} عَذَّبُوا
قوله: "سورة البروج" تقدم في أواخر الفرقان تفسير البروج. قوله: "وقال مجاهد: الأخدود شق في الأرض" وصله الفريابي بلفظ: "شق بنجران كانوا يعذبون الناس فيه:"وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما من حديث صهيب قصة أصحاب الأخدود مطولة، وفيه قصة الغلام الذي كان يتعلم من الساحر، فمر بالراهب فتابعه على دينه، فأراد الملك قتل الغلام لمخافته دينه فقال: إنك لن تقدر على قتلي حتى تقول إذا رميتني بسم الله رب الغلام، ففعل، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخد لهم الملك الأخاديد في السكك وأضرم فيها النيران ليرجعوا إلى دينه. وفيه قصة الصبي الذي قال لأمه: أصبري فإنك على الحق، صرح برفع القصة بطولها حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب. ومن طريقه أخرجه مسلم والنسائي وأحمد. ووقفها معمر عن ثابت، ومن طريقه أخرجها الترمذي، وعنده في آخره: يقول الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} إلى - { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ". قوله: "فتنوا عذبوا"

(8/698)


وصله الفريابي من طريقه، وهذا أحد معاني الفتنة، ومثله {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يعذبون. قوله: "وقال ابن عباس: الودود الحبيب، المجيد الكريم" ثبت هذا للنسفي وحده، ويأتي في التوحيد. وأخرج الصبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قال: الودود الحبيب. وفي قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} يقول: الكريم

(8/699)


86- سُورَةُ الطَّارِقِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذَاتِ الرَّجْعِ} سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ {ذَاتِ الصَّدْعِ} تَتَصَدَّعُ بِالنَّبَاتِ
قوله: "سورة الطارق: هو النجم وما أتاك ليلا فهو طارق" ثم فسره فقال: "النجم الثاقب المضيء، يقال أثقب نارك للموقد" ثبت هذا للنسفي وأبي نعيم وسيأتي للباقين في كتاب الاعتصام. وهو كلام الفراء قال في قوله تعالى: {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} إلخ" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الثاقب المضيء. وأخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. قوله: "وقال مجاهد: الثاقب الذي يتوهج" ثبت هذا لأبي نعيم عن الجرجاني، ووصله الفريابي والطبري من طريق مجاهد بهذا. وأخرج الطبري من طريق السدي قال: هو النجم الذي يرمي به، ومن طريق عبد الرحمن بن زيد قال: النجم الثاقب الثريا. قوله: {ذَاتِ الرَّجْعِ} سحاب يرجع بالمطر، وذات الصدع الأرض تتصدع بالنبات" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} قال: يعني ذات السحاب تمطر ثم ترجع بالمطر. وفي قوله: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} ذات النبات. وللحاكم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله: {ذَاتِ الرَّجْعِ} المطر بعد المطر. وإسناده صحيح. قوله: "وقال ابن عباس: لقول فصل لحق" وقع هذا للنسفي، وسيأتي في التوحيد بزيادة. قوله: "لما عليها حافظ: إلا عليها حافظ" وصله ابن أبي حاتم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده صحيح، لكن أنكره أبو عبيدة وقال: لم نسمع لقول "لما" بمعنى "إلا "شاهدا في كلام العرب. وقرئت لما بالتخفيف والتشديد: فقرأها ابن عامر وعاصم وحمزة بالتشديد. وأخرج أبو عبيدة عن ابن سيرين أنه أنكر التشديد على من قرأ به.
" تنبيه " : لم يورد في الطارق حديثا مرفوعا، وقد وقع حديث جابر في قصة معاذ "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفتان يا معاذ؟ يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها" . الحديث أخرجه النسائي هكذا، ووصله في الصحيحين.

(8/699)


86- سُورَةُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
وقال مجاهد: {قدر فهدى} قدر للإنسان الشقاء والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها
4941- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعَلاَ يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ

(8/699)


88- سُورَةُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} النَّصَارَى وَقَالَ مُجَاهِدٌ {عَيْنٍ آنِيَةٍ} بَلَغَ إِنَاهَا وَحَانَ شُرْبُهَا حَمِيمٍ آنٍ بَلَغَ إِنَاهُ {لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} شَتْمًا وَيُقَالُ الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ الضَّرِيعَ إِذَا يَبِسَ وَهُوَ سُمٌّ {بِمُسَيْطِرٍ} بِمُسَلَّطٍ وَيُقْرَأُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِيَابَهُمْ} مَرْجِعَهُمْ
قوله: "سورة هل أتاك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، وسقطت البسملة للباقين، ويقال لها أيضا سورة الغاشية. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء يوم القيامة. قوله: "وقال ابن عباس عاملة ناصبة النصارى" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس وزاد: اليهود، وذكر الثعلبي من رواية أبي الضحى عن ابن عباس قال: الرهبان. قوله: "وقال مجاهد {عَيْنٍ آنِيَةٍ} بلغ إناها وحان شربها. {حَمِيمٍ آنٍ} بلغ إناه" وصله الفريابي من طريق مجاهد مفرقا في مواضعه. قوله: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} شتما" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لا تسمع فيها باطلا ولا مأثما، وهذا على قراءة الجمهور بفتح تسمع بمثناة فوقية، وقرأها الجحدري بتحتانية كذلك، وأما أبو عمرو وابن كثير فضما التحتانية، وضم نافع أيضا لكن بفوقانية قوله: "ويقال الضريع نبت يقال له الشبرق تسمية أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سم" هو كلام الفراء بلفظه، والشبرق بكسر المعجمة

(8/700)


بعدها موحدة، قال الخليل بن أحمد: هو نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر. وأخرج الطبري من طريق، عكرمة ومجاهد قال: الضريع الشبرق. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الضريع شجر من نار. ومن طريق سعيد بن جبير قال: الحجارة. وقال ابن التين كأن الضريع مشتق من الضارع وهو الذليل، وقيل هو السلا بضم المهملة وتشديد اللام وهو شوك النخل. قوله: "بمسيطر بمسلط" قال أبو عبيدة في قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر} : بمسلط، قال: ولم نجد مثلها إلا مبيطر أي بالموحدة، قال: لم نجد لهما ثالثا. كذا قال، وقد قدمت في تفسير سورة المائدة زيادات عليها. قال ابن التين: أصله السطر، والمعنى أنه لا يتجاوز ما هو فيه. قال وإنما كان ذلك وهو بمكة قبل أن يهاجر ويؤذن له في القتال. قوله: "ويقرأ بالصاد والسين" قلت: قراءة الجمهور بالصاد. وفي رواية عن ابن كثير بالسين وهي قراءة هشام. قوله: "وقال ابن عباس: إيابهم مرجعهم" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وذكره ابن أبي حاتم عن عطاء، ولم يجاوز به.
" تنبيه " : لم يذكر فيها حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث جابر رفعه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث، وفي آخره: "وحسابهم على الله" ثم قرأ : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر} إلى آخر السورة، أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وإسناده صحيح

(8/701)


89- سُورَةُ وَالْفَجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْوَتْرُ اللَّهُ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} يَعْنِي الْقَدِيمَةَ وَالْعِمَادُ أَهْلُ عَمُودٍ لاَ يُقِيمُونَ {سَوْطَ عَذَابٍ} الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ {أَكْلاً لَمّاً} السَّفُّ وَ {جَمّاً} الْكَثِيرُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ السَّمَاءُ شَفْعٌ وَالْوَتْرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ غَيْرُهُ {سَوْطَ عَذَابٍ} كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ {لَبِالْمِرْصَادِ} إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {تَحَاضُّونَ} تُحَافِظُونَ وَتَحُضُّونَ تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ {الْمُطْمَئِنَّةُ} الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ وَقَالَ الْحَسَنُ {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللَّهِ وَاطْمَأَنَّ اللَّهُ إِلَيْهَا وَرَضِيَتْ عَنْ اللَّهِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَمَرَ بِقَبْضِ رُوحِهَا وَأَدْخَلَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَقَالَ غَيْرُهُ {جَابُوا} نَقَبُوا مِنْ جِيبَ الْقَمِيصُ قُطِعَ لَهُ جَيْبٌ يَجُوبُ الْفَلاَةَ يَقْطَعُهَا {لَمًّا} لَمَمْتُهُ أَجْمَعَ أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ
قوله: "سورة والفجر - وقال مجاهد: إرم ذات العماد يعني القديم، والعماد أهل عمود لا يقيمون" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ إرم القديمة، وذات العماد أهل عماد لا يقيمون: وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: إرم قبيلة من عاد، قال: والعماد كانوا أهل عمود أي خيام، انتهى. وإرم هو ابن سام بن نوح، وعاد ابن عوص بن إرم. وقيل إرم اسم المدينة، وقيل أيضا إن المراد بالعماد شدة أبدانهم وإفراط طولهم وقد أخرج ابن مردويه من طريق المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} قال: " كان الرجل يأتي الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: إرم اسم أبيهم.

(8/701)


ومن طريق مجاهد قال: إرم أمه. ومن طريق قتادة قال: كنا نتحدث أن إرم قبيلة. ومن طريق عكرمة قال: إرم هي دمشق. ومن طريق عطاء الخراساني قال: إرم الأرض. ومن طريق الضحاك قال: الأرم الهلاك. يقال أرم بنو فلان أي هلكوا. ومن طريق شهر بن حوشب نحوه، وهذا على قراءة شاذة قرئت "بعاد أرم" بفتحتين والراء ثقيلة على أنه فعل ماض، و "ذات" بفتح التاء على المفعولية أي أهلك الله ذات العماد، وهو تركيب قلق. وأصح هذه الأقوال الأول أن إرم اسم القبيلة وهم إرم بن سام بن نوح، وعاد هم بنو عاد بن عوص بن إرم، وميزت عاد بالإضافة لإرم عن عاد الأخيرة، وقد تقدم في تفسير الأحقاف أن عادا قبيلتان، ويؤيده قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} . وأما قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} فقد فسره مجاهد بأنها صفة القبيلة، فإنهم كانوا أهل عمود أي خيام. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: {ذَاتِ الْعِمَادِ} القوة. ومن طريق ثور بن زيد قال: قرأت كتابا قديما "أنا شداد بن عاد، أنا الذي رفعت ذات العماد، أنا الذي شددت بذراعي بطن واد" وأخرج ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة قصة مطولة جدا أنه خرج في طلب إبل له، وأنه وقع في صحاري عدن، وأنه وقع على مدينة في تلك الفلوات فذكر عجائب ما رأى فيها، وأن معاوية لما بلغه خبره أحضره إلى دمشق وسأل كعبا عن ذلك فأخبره بقصة المدينة ومن بناها وكيفية ذلك مطولا جدا، وفيها ألفاظ منكرة، وراويها عبد الله بن قلابة لا يعرف، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة. قوله: {سوط عذاب} الذي عذبوا به" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ ما عذبوا به. ولابن أبي حاتم من طريق قتادة: كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب، وسيأتي له تفسير آخر. قوله: {أكْلاً لَمّاً} السف، وجما الكثير" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: السف لف كل شيء. ويحبون المال حبا جما قال الكثير. وسيأتي بسط الكلام على السف في شرح حديث أم زرع في النكاح قوله: "وقال مجاهد: كل شيء خلقه فهو شفع، السماء شفع، والوتر الله" تقدم في بدء الخلق بأتم من هذا. وقد أخرج الترمذي من حديث عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال: "هي الصلاة، بعضها شفع، وبعضها وتر " ورجاله ثقات إلا أن فيه راويا مبهما، وقد أخرجه الحاكم من هذا الوجه فسقط من روايته المبهم فاغتر فصححه. وأخرج النسائي من حديث جابر رفعه قال: "العشر عشر الأضحى، والشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة" وللحاكم من حديث ابن عباس قال: الفجر فجر النهار، وليال عشر عشر الأضحى. ولسعيد بن منصور من حديث ابن الزبير أنه كان يقول: الشفع قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} والوتر اليوم الثالث.
" تنبيه " : قرأ الجمهور الوتر بفتح الواو، وقرأها الكوفيون سوى عاصم بكسر الواو واختارها أبو عبيد. قوله: "وقال غيره سوط عذاب كلمة تقولها العرب لكل نوع من العذاب يدخل فيه السوط" هو كلام الفراء. وزاد في آخره: جرى به الكلام. لأن السوط أصل ما كانوا يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذ كان عندهم هو الغاية. قوله: "لبالمرصاد: إليه المصير" هو قول الفراء أيضا، والمرصاد مفعال من المرصد وهو مكان الرصد، وقرأ ابن عطية بما يقتضيه ظاهر اللفظ؛ فجوز أن يكون المرصاد بمعنى الفاعل أي الراصد، لكن أتى فيه بصيغة المبالغة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء في فصيح الكلام، وإن سمع ذلك نادرا في الشعر، وتأويله على ما يليق بجلال الله واضح فلا حاجة للتكلف. وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: بمرصاد أعمال بني آدم. قوله: "تحاضون تحافظون، وتحضون تأمرون بإطعامه" قال الفراء: قرأ الأعمش وعاصم بالألف وبمثناة مفتوحة أوله، ومثله لأهل المدينة لكن بغير

(8/702)


ألف، وبعضهم "يحاضون" بتحتانية أوله، والكل صواب. كانوا يحاضون يحافظون، ويحضون يأمرون بإطعامه انتهى. وأصل تحاضون تتحاضون فحذفت إحدى التاءين، والمعنى لا يحض بعضكم بعضا. وقرأ أبو عمرو بالتحتانية في يكرمون ويحضون وما بعدهما، وبمثل قراءة الأعمش قرأ يحيى بن وثاب والأخوان وأبو جعفر المدني، وهؤلاء كلهم بالمثناة فيها وفي يكرمون فقط، ووافقهم على المثناة فيهما ابن كثير ونافع وشيبة، لكن بغير ألف يحضون. قوله: "المطمئنة المصدقة بالثواب" قال الفراء {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} بالإيمان، المصدقة بالثواب والبعث. وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عباس قال: المطمئنة المؤمنة. قوله: "وقال الحسن {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله واطمأن الله إليه، ورضيت عن الله ورضي الله عنه، فأمر بقبض روحها وأدخله الله الجنة وجعله من عباده الصالحين" وقع في رواية الكشميهني: "واطمأن الله إليها ورضي الله عنها وأدخلها الله الجنة" بالتأنيث في المواضع الثلاثة، وهو أوجه. وللآخر وجه وهو عود الضمير على الشخص. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق الحسن قال: إن الله تعالى إذا أراد قبض روح عبده المؤمن واطمأنت النفس إلى الله واطمأن الله إليها ورضيت عن الله ورضي عنها، أمر بقبضها فأدخلها الجنة وجعلها من عباده الصالحين. أخرجه مفرقا، وإسناد الاطمئنان إلى الله من مجاز المشاكلة، والمراد به لازمه من إيصال الخير ونحو ذلك. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: المطمئنة إلى ما قال الله والمصدقة بما قال الله تعالى. قوله: "وقال غيره" جابوا "نقبوا، من جيب القميص قطع له جيب. يجوب الفلاة" أي "يقطعها" . ثبت هذا لغير أبي ذر. وقال أبو عبيدة في قوله: "جابوا" البلاد: نقبوها، ويجوب البلاد يدخل فيها ويقطعها. وقال الفراء {جَابُوا الصَّخْرَ} فرقوه فاتخذوه بيوتا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {جَابُوا الصَّخْرَ} نقبوا الصخر. قوله: "لما: لممته أجمع أتيت على آخره" سقط هذا لأبي ذر وهو قول أبي عبيدة بلفظه وزاد: {حُبّاً جَمّاً} كثيرا شديدا.
" تنبيه " : لم يذكر في الفجر حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود رفعه في قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قال: "يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" . أخرجه مسلم والترمذي.

(8/703)


90- سُورَةُ {لاَ أُقْسِمُ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} بِمَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنْ الإِثْمِ {وَوَالِدٍ} آدَمَ {وَمَا وَلَدَ} {لُبَدًا} كَثِيرًا وَ {النَّجْدَيْنِ} الْخَيْرُ وَالشَّرُّ {مَسْغَبَةٍ} مَجَاعَةٍ {مَتْرَبَةٍ} السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ يُقَالُ {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فَلَمْ يَقْتَحِمْ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فَسَّرَ الْعَقَبَةَ فَقَالَ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} {في كبد} في شدة.
قوله: "سورة {لاَ أُقْسِمُ} ويقال لها أيضا سورة البلد، واتفقوا على أن المراد بالبلد مكة شرفها الله تعالى. قوله: "وقال مجاهد {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} مكة، ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: يقول لا تؤاخذ بما عملت فيه وليس عليك فيه ما على الناس. وقد أخرجه الحاكم من طريق منصور عن مجاهد فزاد فيه عن ابن عباس بلفظ: أحل الله له أن يصنع فيه ما شاء. ولابن مردويه من

(8/703)


طريق عكرمة عن ابن عباس: يحل لك أن تقاتل فيه. وعلى هذا فالصيغة للوقت الحاضر والمراد الآتي لتحقق وقوعه، لأن السورة مكية والفتح بعد الهجرة بثمان سنين. قوله: "ووالد آدم وما ولد" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا، وقد أخرجه الحاكم من طريق مجاهد أيضا وزاد فيه: عن ابن عباس. قوله: "في كبد في شدة خلق" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق مجاهد بلفظ: حملته أمه كرها ووضعته كرها، ومعيشة في نكد وهو يكابد ذلك. وأخرجه الحاكم من طريق سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله وزاد: في ولادته ونبت أسنانه وسرره وختانه ومعيشته. قوله: {لِبَداً} كثيرا وصله الفريابي بهذا، وهي بتخفيف الموحدة، وشددها أبو جعفر وحده. وقد تقدم تفسيرها في تفسير سورة الجن. والنجدين الخير والشر، وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ سبيل الخير وسبيل الشر، يقول: عرفناه. وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: النجدين سبيل الخير والشر، وصححه الحاكم، وله شاهد عند ابن مردويه من حديث أبي هريرة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما هما النجدان، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" . قوله: "مسغبة مجاعة" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ جوع، ومن وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذي مجاعة. وأخرجه ابن أبي حاتم كذلك. ومن طريق قتادة قال: يوم يشتهي فيه الطعام. قوله: "متربة الساقط في التراب" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ المطروح في التراب ليس له بيت. وروى الحاكم من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس قال: المطروح الذي ليس له بيت. وفي لفظ: المتربة الذي لا يقيه من التراب شيء وهو كذلك لسعيد بن منصور، ولابن عيينة من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: هو الذي ليس بينه وبين الأرض شيء. قوله: "يقال: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فلم يقتحم العقبة في الدنيا. ثم فسر العقبة فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: للنار عقبة دون الجنة، فلا اقتحم العقبة. ثم أخبر عن اقتحامها فقال: فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} إلخ" بلفظ الأصل، وزاد بعد قوله مسغبة: مجاعة، ذا متربة: قد لزق بالتراب. وأخرج سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال: إن من الموجبات إطعام المؤمن السغبان.
" تنبيه " : قرأ فك وأطعم بالفعل الماضي فيهما ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وقرأ باقي السبعة فك بضم الكاف والإضافة وإطعام عطفا عليها. قوله: "مؤصدة مطبقة" هو قول أبي عبيدة، وقد تقدم في صفة النار من بدء الخلق، ويأتي في حديث آخر في تفسير الهمزة.
" تنبيه " : لم يذكر في سورة البلد حديثا مرفوعا ويدخل فيها حديث البراء قال: "جاء أعرابي فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة أو فك الرقبة. قال: أو ليستا بواحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها" أخرجه أحمد وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه وصححه ابن حبان.

(8/704)


91- سُورَةُ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
وقال مجاهد: {وَضُحَاهَا} ضوؤها {إِذَا تَلاهَا} تبعها و {طَحَاهَا ـ دَحَاهَا ـ دَسَّاهَا} أغواها {فَأَلْهَمَهَا} عرفها الشقاء والسعادة وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بِطَغْوَاهَا} بِمَعَاصِيهَا {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} عُقْبَى أَحَدٍ

(8/704)


4942- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ وَذَكَرَ النِّسَاءَ فَقَالَ يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنْ الضَّرْطَةِ وَقَالَ لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ" وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّام"
قوله: "سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: {وَضُحَاهَا} ضوءها. {إِذَا تَلاهَا} تبعها. و {طَحَاهَا} {دَحَاهَا} . و {دَسَّاهَا} أغواها" ثبت هذا كله للنسفي وحده، وقد تقدم لهم في بدء الخلق مفرقا إلا قوله: {دَسَّاهَا} فأخرجه الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وقد أخرج الحاكم من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس جميع ذلك قوله: {فَأَلْهَمَهَا} عرفها الشقاء والسعادة "ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرجه الطبري من طريق مجاهد قوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} عقبي أحد" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "ولا يخاف عقباها" : الله لا يخاف عقبى أحد، وهو مضبوط بفتح الألف والمهملة، وفي بعض النسخ بسكون الخاء المعجمة بعدها ذال معجمة، قال الفراء: قرأ أهل البصرة والكوفة بالواو وأهل المدينة بالفاء" فلا يخاف" فالواو صفة العاقر أي عقر ولم يخف عاقبة عقرها، أو المراد لا يخاف الله أن يرجع بعد إهلاكها، فالفاء على هذا أجود، والضمير في عقباها للدمدمة أو لثمود أو للنفس المقدم ذكرها، والدمدمة الهلاك العام. قوله: {بِطَغْوَاهَا} معاصيها" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: "معصيتها" وهو الوجه. والطغوى بفتح الطاء والقصر الطغيان، ويحتمل في الباء أن تكون للاستعانة وللسبب، أو المعنى كذبت بالعذاب الناشئ عن طغيانها. قوله: "هشام" هو ابن عروة بن الزبير. قوله: "عبد الله بن زمعة" أي ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى صحابي مشهور، وأمه قريبة أخت أم سلمة أم المؤمنين، وكان تحته زينب بنت أم سلمة. وقد تقدم في قصة ثمود من أحاديث الأنبياء أنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وأنه يشتمل على ثلاثة أحاديث. قوله: "وذكر الناقة" أي ناقة صالح، والواو عاطفة على شيء محذوف تقديره: فخطب فذكر كذا وذكر الناقة. قوله: "والذي عقر" كذا هنا بحذف المفعول، وتقدم بلفظ: "عقرها" أي الناقة. قوله: {إِذِ انْبَعَثَ} تقدم في أحاديث الأنبياء بلفظ انتدب، تقول ندبته إلى كذا فانتدب له أي أمرته فامتثل. قوله: "عزيز: أي قليل المثل. قوله: "عارم" بمهملتين أي صعب على من يرومه كثير الشهامة والشر. قوله: "منيع" أي قوي ذو منعة أي رهط يمنعونه من الضيم، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء بلفظ: "ذو منعة" وتقدم بيان اسمه وسبب عقره الناقة. قوله: "مثل أبي زمعة" يأتي في الحديث الذي بعده. قوله: "وذكر النساء" أي وذكر في خطبته النساء استطرادا إلى ما يقع من أزواجهن. قوله: "يعمد" بكسر الميم وسيأتي شرحه في كتاب النكاح. قوله: "ثم وعظهم في ضحكهم" في رواية الكشميهني: "في ضحك" بالتنوين وقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل؟ يأتي الكلام عليه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو معاوية إلخ" وصله إسحاق بن راهويه في مسنده قال: أنبأنا أبو معاوية،

(8/705)


فذكر الحديث بتمامه وقال في آخره: "مثل أبي زمعة عم الزبير بن العوام" كما علقه البخاري سواء. وقد أخرجه أحمد عن أبي معاوية لكن لم يقل في آخره: "عم الزبير بن العوام" قوله: "عم الزبير بن العوام" هو عم الزبير مجازا لأنه الأسود بن المطلب بن أسد، والعوام بن خويلد بن أسد. فنزل ابن العم منزلة الأخ فأطلق عليه عما بهذا الاعتبار، كذا جزم الدمياطي باسم أبي زمعة هنا وهو المعتمد وقال القرطبي في "المفهم" : يحتمل أن المراد بأبي زمعة الصحابي الذي بايع تحت الشجرة يعني وهو عبيد البلوي، قال: ووجه تشبيهه به إن كان كذلك أنه كان في عزة ومنعة في قومه كما كان ذلك الكافر، قال: ويحتمل أن يريد غيره ممن يكنى أبا زمعة من الكفار. قلت: وهذا الثاني هو المعتمد، والغير المذكور هو الأسود، وهو جد عبد الله بن زمعة راوي هذا الخبر، لقوله في نفس الخبر "عم الزبير بن العوام" وليس بين البلوي وبين الزبير نسب. وقد أخرج الزبير بن بكار هذا الحديث في ترجمة الأسود بن المطلب من طريق عامر بن صالح عن هشام بن عروة وزاد: "قال فتحدث بها عروة وأبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة جالس، فكأنه وجد منها، فقال له عروة: يا ابن أخي، والله ما حدثنيها أبوك إلا وهو يفخر بها، وكان الأسود أحد المستهزئين، ومات على كفره بمكة، وقتل ابنه زمعة يوم بدر كافرا أيضا

(8/706)


92- سُورَةُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بِالْخَلَفِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَرَدَّى} مَاتَ وَ {تَلَظَّى} تَوَهَّجُ وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ تَتَلَظَّى
قوله: "سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: وكذب بالحسنى بالخلف" وصله ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عكرمة عنه وإسناده صحيح قوله: "وقال مجاهد تردى مات. وتلظى توهج" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {إِذَا تَرَدَّى} إذا مات. وفي قوله: {نَاراً تَلَظَّى} توهج. قوله: "وقرأ عبيد بن عمير تتلظى" وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة وداود العطار كلاهما عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ: {نارا تتلظى} وقال الفراء: حدثنا ابن عيينة عن عمرو قال: "فاتت عبيد بن عمير ركعة من المغرب، فسمعته يقرأ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} "وهذا إسناد صحيح، ولكن رواه سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن ابن عيينة بهذا السند فالله أعلم، وهي قراءة زيد بن علي وطلحة بن مصرف أيضا، وقد قيل إن عبيد بن عمير قرأها بالإدغام في الوصل لا في الابتداء؛ وهي قراءة البزي من طريق ابن كثير

(8/706)


1- باب {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}
4943- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّأْمَ فَسَمِعَ بِنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَتَانَا فَقَالَ أَفِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ فَقُلْنَا نَعَمْ قَالَ فَأَيُّكُمْ أَقْرَأُ فَأَشَارُوا إِلَيَّ فَقَالَ اقْرَأْ فَقَرَأْتُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} قَالَ أَنْتَ سَمِعْتَهَا مِنْ فِي صَاحِبِكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأَنَا سَمِعْتُهَا مِنْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَؤُلاَءِ يَأْبَوْنَ عَلَيْنَا"

(8/706)


2- باب {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}
4944- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُلُّنَا قَالَ فَأَيُّكُمْ أَحْفَظُ فَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ قَالَ كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ عَلْقَمَةُ {وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} قَالَ أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَكَذَا وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَاللَّهِ لاَ أُتَابِعُهُم"
قوله: "باب {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} حدثنا عمر" هو ابن حفص بن غياث، ووقع لأبي ذر حدثنا عمر ابن حفص. قوله: "قدم أصحاب عبد الله" أي ابن مسعود" على أبي الدرداء، فطلبهم فوجدهم فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا: كلنا. قال: فأيكم أحفظ؟ وأشاروا إلى علقمة" هذا صورته الإرسال، لأن إبراهيم ما حضر القصة، وقد وقع في رواية سفيان عن الأعمش في الباب الذي قبله "عن إبراهيم عن علقمة" فتبين أن الإرسال في هذا الحديث، ووقع رواية الباب عند أبي نعيم أيضا ما يقتضي أن إبراهيم سمعه من علقمة. وقوله في آخره "وهؤلاء يريدونني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى. والله لا أتابعهم" ووقع في رواية داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة في هذا الحديث: "وإن هؤلاء يريدونني أن أزول عما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون لي: اقرأ وما خلق الذكر والأنثى، وإني والله لا أطيعهم" أخرجه مسلم وابن مردويه. وفي هذا بيان واضح أن قراءة ابن مسعود كانت كذلك، والذي وقع في غير هذه الطريق أنه قرأ: {والذي خلق الذكر والأنثى" كذا في كثير من كتب القراءات الشاذة، وهذه القراءة لم يذكرها أبو عبيد إلا عن الحسن البصري، وأما ابن مسعود فهذا الإسناد المذكور في الصحيحين عنه من أصح الأسانيد يروي به الأحاديث. قوله: "كيف سمعته" أي ابن مسعود "يقرأ والليل إذ يغشى؟ قال علقمة: والذكر والأنثى" في رواية سفيان "فقرأت والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" وهذا صريح في أن ابن مسعود كان يقرؤها كذلك. وفي رواية إسرائيل عن مغيرة في المناقب "والليل إذا يغشى والذكر والأنثى" بحذف {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} كذا في رواية أبي ذر وأثبتها الباقون. قوله: "وهؤلاء" أي أهل الشام" يريدونني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى، والله لا أتابعهم" هذا أبين من الرواية التي قبلها حيث قال: "وهؤلاء يأبون علي" ثم هذه القراءة لم تنقل إلا عمن ذكر هنا، ومن عداهم قرءوا {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وعليها استقر الأمر مع قوة إسناد ذلك إلى أبي الدرداء ومن ذكر معه، ولعل هذا مما نسخت تلاوته ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء ومن ذكر معه. والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وعن ابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء ولم يقرأ أحد منهم بهذا، فهذا مما يقوى أن التلاوة بها نسخت.

(8/707)


باب {فأما من أعطى واتقى}
...
3- بَاب قَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
4945- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ فَقَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إِلَى قَوْلِهِ {لِلْعُسْرَى}
حديث علي قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وكتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" الحديث ذكره في خمسة تراجم أخرى لا يأتي في هذه السورة كلها من طريق الأعمش إلا الخامس، فمن طريق منصور، كلاهما عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، وصرح في الترجمة الأخيرة بسماع الأعمش له من سعد، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب القدر إن شاء الله تعالى

(8/708)


باب {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . "فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب قوله {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر والنسفي، وسقط لفظ: "باب" من التراجم كلها لغير أبي ذر

(8/708)


4- بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
4946- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ قَالَ شُعْبَةُ وَحَدَّثَنِي بِهِ مَنْصُورٌ فَلَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ.

(8/708)


5- بَاب {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}
4947- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ

(8/708)


6 - بَاب {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}
4948- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ

(8/709)


7- بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
4949- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ.

(8/709)


93- سُورَةُ {وَالضُّحَى} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِذَا سَجَى} اسْتَوَى وَقَالَ غَيْرُهُ {سَجَى} أَظْلَمَ وَسَكَنَ {عَائِلاً} ذُو عِيَالٍ
قوله: "سورة والضحى - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد إذا سجى: استوى" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا. قوله: "وقال غيره سجى أظلم وسكن" قال الفراء في قوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} قال: الضحى النهار كله، والليل إذا سجى إذا أظلم وركد في طوله، تقول بحر ساج وليل ساج إذا سكن. وروى الطبري من طريق قتادة في قوله: {إِذَا سَجَى} قال: إذا سكن بالخلق. قوله: "عائلا ذو عيال" هو قول أبي عبيدة. وقال الفراء: معناه فقيرا، وقد وجدتها في مصحف عبد الله "عديما" ، والمراد أنه أغناه بما أرضاه، لا بكثرة المال

(8/709)


1- باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
4950- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لاَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قَوْلُهُ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} تُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ
قوله: "باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر، وذكر في سبب نزولها حديث جندب، وأن ذلك سبب شكواه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت في صلاة الليل أن الشكوى المذكورة لم ترد بعينها، وأن من فسرها بأصبعه التي دميت لم يصب. ووجدت الآن في الطبراني بإسناد فيه من لا يعرف أن سبب نزولها وجود جرو كلب تحت سريره صلى الله عليه وسلم لم يشعر به فأبطأ عنه جبريل لذلك، وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، بل شاذ، مردود بما في الصحيح والله أعلم. وورد لذلك سبب ثالث وهو ما أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فتغير بذلك فقالوا: ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير قال: "فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني، فجاء جبريل بسورة والضحى". وذكر سليمان التيمي في السيرة التي جمعها ورواها محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "وفتر الوحي، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع. ولكن الله قلاه. فأنزل الله: والضحى وألم نشرح بكمالهما" وكل هذه الروايات لا تثبت، والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك ما بينته. وقد أوضحت ذلك في التعبير ولله الحمد. ووقع في سيرة ابن إسحاق في سبب نزول والضحى شيء آخر، فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتا عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره، وتكلم المشركون: فنزل جبريل بسورة والضحى، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} انتهى. وذكر سورة الضحى هنا بعيد، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربا فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الأخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البعث، وإنما كان بعد ذلك بمدة والله أعلم. قوله: "سمعت جندب بن سفيان" هو البجلي. قوله: "فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك تركك" هي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب. وقد تقدم بيان ذلك في كتاب قيام الليل. وأخرجه الطبري من طريق المفضل بن صالح عن الأسود بن قيس بلفظ: "فقالت امرأة من أهله" ومن وجه آخر عن الأسود بن قيس بلفظ: "حتى قال المشركون" ولا مخالفة لأنهم قد يطلقون لفظ الجمع ويكون القائل أو الفاعل واحدا، بمعنى أن الباقين راضون بما وقع من ذلك الواحد. قوله: "قربك" بكسر الراء، يقال يقربه بفتح الراء متعديا، ومنه {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} ، وأما

(8/710)


قرب بالضم فهو لازم. تقول قرب الشيء أي دنا. وقد بينت هناك أنه وقع في رواية أخرى عند الحاكم "فقالت خديجة" وأخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الله بن شداد "فقالت خديجة ولا أرى ربك" ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه "فقالت خديجة لما ترى من جزعه" وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل عبرت - لكونها كافرة - بلفظ شيطانك، وخديجة عبرت - لكونها مؤمنة - بلفظ ربك أو صاحبك. وقالت أم جميل شماتة وخديجة توجعا.

(8/711)


2- باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
تقرأ بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد ما تركك ربك. وقال ابن عباس: ما تركك وما أبغضك
4951- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبًا الْبَجَلِيَّ قَالَتْ امْرَأَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُرَى صَاحِبَكَ إِلاَّ أَبْطَأَكَ فَنَزَلَتْ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
قوله: "باب قوله {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} "كذا ثبتت هذه الترجمة في رواية المستملي، وهو تكرار بالنسبة إليه لا بالنسبة للباقين لأنهم لم يذكروها في الأولى. قوله: "تقرأ بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد ما تركك ربك" أما القراءة بالتشديد فهي قراءة الجمهور، وقرأ بالتخفيف عروة وابنه هشام وابن أبي عليه. وقال أبو عبيدة "ما ودعك" يعني بالتشديد من التوديع و "ما ودعك" يعني بالتخفيف من ودعت انتهى، ويمكن تخريج كونهما بمعنى واحد على أن التوديع مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. قوله: "وقال ابن عباس: ما تركك وما أبغضك" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. قوله: "في الرواية الأخيرة: "قالت امرأة: يا سول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأك" هذا السياق يصلح أن يكون خطاب خديجة، دون الخطاب الأول فإنه يصلح أن يكون خطاب حمالة الحطب لتعبيرها بالشيطان والترك ومخاطبتها بمحمد، بخلاف هذه فقالت: صاحبك. وقالت أبطأ. وقالت يا رسول الله. وجوز الكرماني أن يكون من تصرف الرواة، وهو موجه لأن مخرج الطريقين واحد. وقوله: "أبطأك" أي صيرك بطيئا في القراءة، لأن بطأه في الإقراء يستلزم بطء الآخر في القراءة، ووقع في رواية أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة "إلا أبطأ عنك".

(8/711)


94- سُورَةُ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وِزْرَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْقَضَ أَثْقَلَ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْرِ يُسْرًا آخَرَ كَقَوْلِهِ {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَانْصَبْ فِي حَاجَتِكَ إِلَى رَبِّكَ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ
قوله: "سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، وللباقين "ألم نشرح" حسب. قوله: "وقال مجاهد: وزرك في الجاهلية" وصله الفريابي من طريقه، و "في الجاهلية" متعلق بالوزر، أي الكائن في الجاهلية وليس متعلقا بوضع. قوله: "أنقض أتقن" قال عياض: كذا في جميع النسخ "أتقن" بمثناة وقاف ونون، وهو وهم

(8/711)


95- سورة والتين
وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ يُقَالُ {فَمَا يُكَذِّبُكَ} فَمَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِأَنَّ النَّاسَ يُدَانُونَ بِأَعْمَالِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب"
1- باب 4952- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ تَقْوِيمٍ الْخَلْق"
قوله: "سورة والتين" وقال مجاهد: هو التين والزيتون الذي يأكل الناس" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "والتين والزيتون" قال: الفاكهة التي تأكل الناس. "وطور سينين" الطور الجبل وسينين المبارك. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس مثله، ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: التين مسجد نوح الذي بني على الجودي. ومن طريق الربيع بن أنس قال: التين جبل عليه التين والزيتون جبل عليه الزيتون. ومن طريق قتادة: الجبل الذي عليه دمشق. ومن طريق محمد بن كعب قال: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء. ومن طريق قتادة: جبل عليه بيت المقدس. قوله: "تقويم: خلق" كذا ثبت لأبي نعيم، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قال: أحسن خلق. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس بإسناد حسن قال: أعدل خلق. قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلا من آمن" كذا ثبت للنسفي وحده وقد تقدم لهم في بدء الخلق. وأخرج الحاكم من طريق عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} قال: الذين قرءوا القرآن. قوله: "يقال فما يكذبك فما الذي يكذبك بأن الناس يدانون بأعمالهم كأنه قال: ومن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "تدالون" بلام بدل النون الأولى، والأول هو الصواب، كذا هو في كلام الفراء بلفظه وزاد في آخره: بعدما تبين له كيفية خلقه. قال ابن التين: كأنه جعل "ما" لمن يعقل وهو بعيد. وقيل: المخاطب بذلك الإنسان المذكور، قيل هو على طريق الالتفات وهذا عن مجاهد، أي ما الذي جعلك كاذبا؟ لأنك إذا كذبت بالجزاء صرت كاذبا، لأن كل مكذب بالحق فهو كاذب. وأما تعقب ابن التين قول الفراء جعل "ما" لمن يعقل وهو بعيد، فالجواب أنه ليس ببعيد فيمن أبهم أمره، ومنه {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} قوله: "أخبرني عدي" هو ابن ثابت الكوفي. قوله: "فقرأ في العشاء بالتين" تقدم شرحه في صفة الصلاة. وقد كثر سؤال بعض الناس: هل قرأ بها في الركعة الأول أو الثانية؟ أو قرأ فيهما معا كأن يقول أعادها في الثانية؟ وعلى أن يكون قرأ غيرها فهل عرف؟ وما كنت أستحضر لذلك جوابا، إلى أن رأيت في" كتاب الصحابة لأبي علي بن السكن" في ترجمة زرعة بن خليفة رجل من أهل اليمامة أنه قال: "سمعنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة بالتين والزيتون وإنا أنزلناه في ليلة القدر" فيمكن إن

(8/713)


كانت هي الصلاة التي عين البراء بن عازب أنها العشاء أن يقال قرأ في الأولى بالتين وفي الثانية بالقدر، ويحصل بذلك جواب السؤال. ويقوى ذلك أنا لا نعرف في خبر من الأخبار أنه قرأ بالتين والزيتون إلا في حديث البراء ثم حديث زرعة هذا

(8/714)


96- سُورَةُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ اكْتُبْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ الإِمَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاجْعَلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ خَطًّا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {نَادِيَهُ} عَشِيرَتَهُ {الزَّبَانِيَةَ} الْمَلاَئِكَةَ وَقَالَ مَعْمَرٌ {الرُّجْعَى} الْمَرْجِعُ {لَنَسْفَعَنْ} قَالَ لَنَأْخُذَنْ وَلَنَسْفَعَنْ بِالنُّونِ وَهِيَ الْخَفِيفَةُ سَفَعْتُ بِيَدِهِ أَخَذْت"
قوله: "سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال صاحب الكشاف: ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أنها أول سورة نزلت، وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب. كذا قال. والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول. وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. قوله: "وقال قتيبة حدثنا حماد عن يحيى بن عتيق عن الحسن قال: اكتب في المصحف في أول الإمام بسم الله الرحمن الرحيم واجعل بين السورتين خطا" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "حدثنا قتيبة" وقد أخرجه ابن الضريس في "فضائل القرآن" حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بهذا، وحماد هو ابن زيد، وشيخه بصري ثقة من طبقة أيوب مات قبله، ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع. وقوله: "في أول الإمام" أي أم الكتاب، وقوله: "خطا" قال الداودي إن أراد خطا فقط بغير بسملة فليس بصواب لاتفاق الصحابة على كتابة البسملة بين كل سورتين إلا براءة وإن أراد بالإمام إمام كل سورة فيجعل الخط مع البسملة فحسن فكان ينبغي أن يستثنى براءة. وقال الكرماني: معناه اجعل البسملة في أوله فقط، واجعل بين كل سورتين علامة للفاصلة، وهو مذهب حمزة من القراء السبعة. قلت: المنقول ذلك عن حمزة في القراءة لا في الكتابة، قال: وكأن البخاري أشار إلى أن هذه السورة لما كان أولها مبتدأ بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أراد أن يبين أنه لا تجب البسملة في أول كل سورة. بل من قرأ البسملة في أول القرآن كفاه في امتثال هذا الأمر. نعم استنبط السهيلي من هذا الأمر ثبوت البسملة في أول الفاتحة لأن هذا الأمر هو أول شيء نزل من القرآن فأولى مواضع امتثاله أول القرآن. قوله: "وقال مجاهد: ناديه عشيرته" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وهو تفسير معنى، لأن المدعو أهل النادي والنادي المجلس المتخذ للحديث. قوله: "الزبانية الملائكة" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مثله. قوله: "وقال معمر الرجعي المرجع" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره: "وقال معمر" فصار كأنه من قول مجاهد والأول هو الصواب، وهو كلام أبي عبيدة في "كتاب المجاز: ولفظه {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} قال: المرجع والرجوع. قوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذن، ولنسفعن بالنون وهي الخفيفة، سفعت بيده أخذت" هو كلام أبي عبيدة أيضا ولفظه: و "لنسفعن" إنما يكتب بالنون لأنها نون خفيفة انتهى. وقد روي عن أبي عمرو بتشديد النون، والموجود في مرسوم المصحف بالألف، والسفع القبض على الشيء بشدة، وقيل أصله الأخذ بسفعة الفرس أي سواد ناصيته، ومنه قولهم: به سفعة من غضب، لما يعلو لون الغضبان من التغير، ومنه امرأة سفعاء.

(8/714)


باب كان أول مابدىء به صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
...
1- باب 4953- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ سَلْمَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ قَالَ وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَ أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا -ذَكَرَ حَرْفاً- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ" قَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ أُوذِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4954- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَفَرِقْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَهِيَ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْي"

(8/715)


قوله: "باب حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب. وحدثني سعيد بن مروان" الإسناد الأول قد ساق البخاري المتن به في أول الكتاب، وساق في هذا الباب المتن بالإسناد الثاني، وسعيد بن مروان هذا هو أبو عثمان البغدادي نزيل نيسابور من طبقة البخاري، شاركه في الرواية عن أبي نعيم وسليمان بن حرب ونحوهما، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، ومات قبل البخاري بأربع سنين. ولهم شيخ آخر يقال الله أبو عثمان سعيد بن مروان الرهاوي، حدث عنه أبو حاتم وابن أبي رزمة وغيرهما، وفرق البخاري في "التاريخ" بينه وبين البغدادي، ووهم من زعم أنهما واحد وآخرهم الكرماني. ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة بكسر الراء وسكون الزاي. واسم أبي رزمة غزوان، وهو مروزي من طبقة أحمد بن حنبل، فهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، ومع ذلك فحدث عنه بواسطة، وليس له عنده سوى هذا الموضع. وقد حدث عنه أبو داود بلا واسطة. وشيخه أبو صالح سلمويه اسمه سليمان بن صالح الليثي المروزي يلقب سلمويه، ويقال اسم أبيه داود، وهو من طبقة الراوي عنه من حيث الرواية إلا أنه تقدمت وفاته، وكان من أخصاء عبد الله بن المبارك والمكثرين عنه. وقد أدركه البخاري بالسن لأنه مات سنة عشر ومائتين، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث. وعبد الله هو ابن المبارك الإمام المشهور، وقد نزل البخاري في حديثه في هذا الإسناد درجتين، وفي حديث الزهري ثلاث درجات، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في أوائل هذا الكتاب، وسأذكر هنا ما لم يتقدم ذكره مما اشتمل عليه من سياق هذه الطريق وغيرها من الفوائد. قوله: "أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة" قال النووي: هذا من مراسيل الصحابة، لأن عائشة لم تدرك هذه القصة فتكون سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي. وتعقبه من لم يفهم مراده فقال: إذا كان يجوز أنها سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجزم بأنها من المراسيل؟ والجواب أن مرسل الصحابي ما يرويه من الأمور التي لم يدرك زمانها، بخلاف الأمور التي يدرك زمانها فإنها لا يقال إنها مرسلة، بل يحمل على أنه سمعها أو حضرها ولو لم يصرح بذلك، ولا تختص هذا بمرسل الصحابي بل مرسل التابعي إذا ذكر قصة لم يحضرها سميت مرسلة، ولو جاز في نفس الأمر أن يكون سمعها من الصحابي الذي وقعت له تلك القصة. وأما الأمور التي يدركها فيحمل على أنه سمعها أو حضرها، لكن بشرط أن يكون سالما من التدليس والله أعلم. ويؤيد أنها سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قولها في أثناء هذا الحديث:"فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. قال فأخذني" إلى آخره. فقوله قال فأخذني فغطني ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك فتحمل بقية الحديث عليه. قوله: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة" زاد في رواية عقيل كما تقدم في بدء الوحي "من الوحي" أي في أول المبتدآت من إيجاد الوحي الرؤيا، وأما مطلق ما يدل على نبوته فتقدمت له أشياء مثل تسليم الحجر كما ثبت في صحيح مسلم وغير ذلك، و "ما" في الحديث نكرة موصوفة، أي أول شيء. ووقع صريحا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ. ووقع في مراسيل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه صلى الله عليه وسلم هو جبريل ولفظه: "أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل "اقرأ باسم ربك" : أرأيتك الذي كنت أحدثك إني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن" . قوله: "من الوحي" يعني إليه وهو إخبار عما رآه من دلائل نبوته من غير أن يوحي بذلك إليه وهو أول ذلك مطلقا ما سمعه من بحيرا الراهب، وهو عند الترمذي بإسناد قوي عن أبي موسى، ثم ما سمعه عند بناء الكعبة حيث قيل له "اشدد عليك إزارك"

(8/716)


وهو في صحيح البخاري من حديث جابر، وكذلك تسليم الحجر عليه وهو عند مسلم من حديث جابر بن سمرة. قوله: "الصالحة" قال ابن المرابط هي التي ليست ضغثا ولا من تلبيس الشيطان ولا فيها ضرب مثل مشكل، وتعقب الأخير بأنه إن أراد بالمشكل ما لا يوقف على تأويله فمسلم وإلا فلا. قوله: "فلق الصبح" يأتي في سورة الفلق قريبا. قوله: "ثم حبب إليه الخلاء" هذا ظاهر في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يحبب إليه الخلاء، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقا على الرؤيا الصادقة، والأول أظهر. قوله: "الخلاء" بالمد المكان الخالي، ويطلق على الخلوة، وهو المراد هنا. قوله: "فكان يلحق بغار حراء" كذا في هذه الرواية، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "فكان يخلو" وهي أوجه. وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "فكان يجاوز: . قوله: "الليالي ذوات العدد" في رواية ابن إسحاق أنه كان يعتكف شهر رمضان. قوله: "قال والتحنث التعبد" هذا ظاهر في الإدراج، إذ لو كان من بقية كلام عائشة لجاء فيه قالت، وهو يحتمل أن يكون من كلام عروة أو من دونه، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، لكن في رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "فيطعم من يرد عليه من المساكين" وجاء عن بعض المشايخ أنه كان يتعبد بالتفكر، ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدا، فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة كما وقع للخليل عليه السلام حيث قال: "إني ذاهب إلى ربي" ، وهذا يلتفت إلى مسألة أصولية، وهو أنه صلى الله عليه وسلم هل كان قبل أن يوحي إليه متعبدا بشريعة نبي قبله؟ قال الجمهور: لا، لأنه لو كان تابعا لاستبعد أن يكون متبوعا، ولأنه لو كان لنقل من كان ينسب إليه. وقيل نعم واختاره ابن الحاجب، واختلفوا في عيينة على ثمانية أقوال: أحدها آدم حكاه ابن برهان، الثاني نوح حكاه الآمدي، الثالث إبراهيم ذهب إليه جماعة واستدلوا بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ، الرابع موسى، الخامس عيسى، السادس بكل شيء بلغه عن شرع نبي من الأنبياء وحجته {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، السابع الوقف واختاره الآمدي، ولا يخفى قوة الثالث ولا سيما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم والله أعلم. وهذا كله قبل النبوة، وأما بعد النبوة فقد تقدم القول فيه في تفسير سورة الأنعام. قوله: "إلى أهله" يعني خديجة وأولاده منها، وقد سبق في تفسير سورة النور في الكلام على حديث الإفك تسمية الزوجة أهلا، ويحتمل أن يريد أقاربه أو أعم. قوله: "ثم يرجع إلى خديجة فيتزود" خص خديجة بالذكر بعد إذ عبر بالأهل إما تفسيرا بعد إبهام، وإما إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. قوله: "فيتزود لمثلها" في رواية الكشميهني: "بمثلها" بالموحدة، والضمير لليالي أو للخلوة أو للعبادة أو للمرات. أي السابقة، ثم يحتمل أن يكون المراد أنه يتزود ويخلو أياما، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما إلى أن ينقضي الشهر. ويحتمل أن يكون المراد أن يتزود لمثلها إذا حال الحول وجاء ذلك الشهر الذي جرت عادته أن يخلو فيه، وهذا عندي أظهر، ويؤخذ منه إعداد الزاد للمختلي إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله لبعد مكان اختلائه من البلد مثلا، وأن ذلك لا يقدح في التوكل وذلك لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك. قوله: "وهو في غار حراء" جملة في موضع الحال. قوله: "فجاءه الملك" هو جبريل كما جزم به السهيلي، وكأنه أخذه من كلام ورقة المذكور في حديث الباب. ووقع عند البيهقي في "الدلائل" فجاءه الملك فيه، أي في غار حراء، كذا عزاه شيخنا البلقيني للدلائل فتبعته، ثم وجدته بهذا اللفظ في كتاب التعبير فعزوه له أولى.
" تنبيه " : إذا علم أنه

(8/717)


كان يجاوز في غار حراء في شهر رمضان وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان ويعكر على قول ابن إسحاق أنه بعث على رأس الأربعين مع قوله إنه شهر في رمضان ولد، ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أو لا في شهر رمضان وحينئذ نبئ وأنزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار وأنزلت عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} فيحمل قول ابن إسحاق "على رأس الأربعين" أي عند المجيء بالرسالة، والله أعلم. قوله: "اقرا" يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد ذلك، ويحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة أي قل اقرأ، وإن كان الجواب ما أنا بقارئ فعلى ما فهم من ظاهر اللفظ، وكأن السر في حذفها لئلا يتوهم أن لفظ قل من القرآن، ويؤخذ منه جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وأن الأمر على الفور، لكن يمكن أن يجاب بأن الفور فهم من القرينة. قوله: "ما أنا بقارئ" وقع عند ابن إسحاق في مرسل عبيد بن عمير "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ" قال السهيلي قال بعض المفسرين: إن قوله: {ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حيث قال له "اقرا" . قوله: "فغطني" تقدم بيانه في بدء الوحي، ووقع في "السيرة لابن إسحاق" فغتني بالمثناة بدل الطاء وهما بمعنى والمراد غمني وصرح بذلك ابن أبي شيبة في مرسل عبد الله بن شداد وذكر السهيلي أنه روى سأبي1 بمهملة ثم همزة مفتوحة ثم موحدة أو مثناة وهما جميعا بمعنى الخنق، وأغرب الداودي فقال: معنى فغطني صنع بي شيئا حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية. والحكمة في هذا الغط شغله عن الالتفات لشيء آخر أو لإظهار الشدة والجد في الأمر تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه، فلما ظهر أنه صبر على ذلك ألقى إليه، وهذا وإن كان بالنسبة إلى علم الله حاصل لكن لعل المراد إبرازه للظاهر بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وقيل ليختبر هل يقول من قبل نفسه شيئا فلما لم يأت بشيء دل على أنه لا يقدر عليه وقيل أراد أن يعلمه أن القراءة ليست من قدرته ولو أكره عليها، وقيل: الحكمة فيه أن التخيل والوهم والوسوسة ليست من صفات الجسم؛ فلما وقع ذلك لجسمه علم أنه من أمر الله. وذكر بعض من لقيناه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. قوله: "فغطني الثالثة" يؤخذ منه أن من يريد التأكيد في أمر وإيضاح البيان فيه أن يكرره ثلاثا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما سبق في كتاب العلم، ولعل الحكمة في تكرير الإقراء الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ الوحي بسببه في ثلاث: القول، والعمل، والنية. وأن الوحي يشتمل على ثلاث: التوحيد، والأحكام والقصص. وفي تكرير الغط الإشارة إلى الشدائد الثلاث التي وقعت له وهي: الحصر في الشعب، وخروجه في الهجرة وما وقع له يوم أحد. وفي الإرسالات الثلاثة إشارة إلى حصول التيسير له عقب الثلاث المذكورة: في الدنيا والبرزخ، والآخرة. قوله: "فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} هذا القدر من هذه السورة هو الذي نزل أولا، بخلاف بقية السورة فإنما نزل بعد ذلك بزمان. وقد قدمت في تفسير المدثر بيان الاختلاف في أول ما نزل، والحكمة في هذه الأولية أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن: ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله، وهذا بخلاف الفن البديعي المسمى العنوان فإنهم عرفوه بأن يأخذ المتكلم في فن فيؤكده بذكر مثال سابق، وبيان كونها اشتملت على مقاصد
ـــــــ
(1) كذا في طبعة بولاق، ولعله "دأني" أو غير ذلك.

(8/718)


القرآن أنها تنحصر في علوم التوحيد والأحكام والأخبار، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، وفي هذه الإشارة إلى الأحكام وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل، وفي هذا إشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} استدل به السهيلي على أن البسملة يؤمر بقراءتها أول كل سورة، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون آية من كل سورة، كذا قال، وقرره الطيبي فقال: قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قدم الفعل الذي هو متعلق الباء لكون الأمر بالقراءة أهم، وقوله: "اقرا" أمر بإيجاد القراءة مطلقا، وقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} حال، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك: وأصح تقاديره قل باسم الله ثم اقرأ، قال فيؤخذ منه أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة انتهى. لكن لا يلزم من ذلك أن تكون مأمورا بها، فلا تدل على أنها آية من كل سورة، وهو كما قال، لأنها لو كان للزم أن تكون آية قبل كل آية وليس كذلك. وأما ما ذكره القاضي عياض عن أبي الحسن بن القصار من المالكية أنه قال: في هذه القصة رد على الشافعي في قوله إن البسملة آية من كل سورة، قال: لأن هذا أول سورة أنزلت وليس في أولها البسملة، فقد تعقب بأن فيها الأمر بها وإن تأخر نزولها. وقال النووي: ترتيب آي السور في النزول لم يكن شرطا، وقد كانت الآية تنزل فتوضع في مكان قبل التي نزلت قبلها ثم تنزل الأخرى فتوضع قبلها، إلى أن استقر الأمر في آخر عهده صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب، ولو صح ما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس "أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة والبسملة قبل قوله: {اقرأ} لكان أولى في الاحتجاج، لكن في إسناده ضعف وانقطاع، وكذا حديث أبي ميسرة "أن أول ما أمر به جبريل قال له: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين" هو مرسل وإن كان رجاله ثقات، والمحفوظ أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأن نزول الفاتحة كان بعد ذلك. قوله: "ترجف بوادره" في رواية الكشميهني: "فؤاده" وقد تقدم بيان ذلك في بدء الوحي، وترجف عندهم بمثناة فوقانية ولعلها في رواية: "يرجف فؤاده" بالتحتانية. قوله: "زملوني زملوني" كذا للأكثر مرتين، كذا تقدم في بدء الوحي، ووقع لأبي ذر هنا مرة واحدة. والتزميل التلفيف. وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، وجرت العادة بسكون الرعدة بالتلفيف. ووقع في مرسل عبيد بن عمير "أنه صلى الله عليه وسلم خرج فسمع صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي في ناحية آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك" وسيأتي في التعبير أن مثل ذلك وقع له عند فترة الوحي، وهو المعتمد، فإن إعلامه بالإرسال وقع ب قوله: {قمْ فَأَنْذِرْ} . قوله: "فزملوه حتى ذهب عنه الروع" بفتح الراء أي الفزع، وأما الذي بضم الراء فهو موضع الفزع من القلب. قوله: "قال لخديجة: أي خديجة، ما لي لقد خشيت" في رواية الكشميهني: "قد خشيت" . قوله: "فأخبرها الخبر" تقدم في بدء الوحي بلفظ: "فقاله لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت" وقوله: "وأخبرها الخبر" جملة معترضة بين القول والمقول، وقد تقدم في بدء الوحي ما قالوه في متعلق الخشية المذكورة. وقال عياض: هذا وقع له أول ما رأى التباشير في النوم ثم في اليقظة، وسمع الصوت قبل لقاء الملك، فأما بعد مجيء الملك فلا يجوز عليه الشك ولا يخشى من تسلط الشيطان. وتعقبه النووي بأنه خلاف صريح الشفاء، فإنه قال بعد أن غطه الملك وأقرأه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، قال: إلا أن يكون أراد أن قوله: "خشيت على نفسي" وقع منه إخبارا عما حصل له أولا لا أنه حالة إخبارها بذلك جازت فيتجه، والله أعلم. قوله:

(8/719)


"كلا أبشر" بهمزة قطع ويجوز الوصل، وأصل البشارة في الخير. وفي مرسل عبيد بن عمير "فقالت أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" . قوله: "لا يخزيك الله" بخاء معجمة وتحتانية. ووقع في رواية معمر في التعبير "يحزنك" بمهملة ونون ثلاثيا ورباعيا، قال اليزيدي: أحزنه لغة تميم، وحزنه لغة قريش، وقد نبه على هذا الضبط مسلم. والخزي الوقوع في بلية وشهرة بذلة، ووقع عند ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم مرسلا" أن خديجة قالت: أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاء؟ قال: نعم. فجاءه جبريل، فقال: يا خديجة، هذا جبريل. قالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت فتحول إلى اليمنى كذلك، ثم قالت: فتحول فاجلس في حجري كذلك، ثم ألقت خمارها وتحسرت وهو في حجرها وقالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت: اثبت، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان" . وفي رواية مرسلة عند البيهقي في "الدلائل" أنها ذهبت إلى عداس وكان نصرانيا فذكرت له خبر جبريل فقال: هو أمين الله بينه وبين النبيين، ثم ذهبت إلى ورقة. قوله: "فانطلقت به إلى ورقة" في مرسل عبيد بن عمير أنها أمرت أبا بكر أن يتوجه معه، فيحتمل أن يكون عند توجيهها أو مرة أخرى. قوله: "ماذا ترى"؟ في رواية ابن منده في "الصحابة" من طريق سعيد بن جبير "عن ابن عباس عن ورقة ابن نوفل قال: قلت يا محمد أخبرني عن هذا الذي يأتيك، قال: يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر" قوله: "وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله" هكذا وقع هنا وفي التعبير، وقد تقدم القول فيه في بدء الوحي، ونبهت عليه هنا لأني نسيت هذه الرواية هناك لمسلم فقط تبعا للقطب الحلبي، قال النووي: العبارتان صحيحتان. والحاصل أنه تمكن حتى صار يكتب من الإنجيل أي موضع شاء بالعربية وبالعبرانية، قال الداودي: كتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية هذا الكتاب الذي هو بالعربي. قوله: "اسمع من ابن أخيك" أي الذي يقول. قوله: "أنزل على موسى" كذا هنا على البناء للمجهول، وقد تقم في بدء الوحي "أنزل الله" ووقع في مرسل أبي ميسرة "أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد وهذا أصرح ما جاء في إسلام ورقة أخرجه ابن إسحاق. وأخرج الترمذي عن عائشة" أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ورقة: كان ورقة صدقك. ولكنه مات قبل أن تظهر، فقال: رأيته في المنام وعليه ثياب بيض" ، ولو كان من أهل النار لكان لباسه غير ذلك. وعند البزار والحاكم عن عائشة مرفوعا: "لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين" وقد استوعبت ما ورد فيه في ترجمته ترجمة من كتابي في الصحابة، وتقدم بعض خبره في بدء الوحي، وتقدم أيضا ذكر الحكمة في قول ورقة "ناموس موسى" ولم يقل عيسى مع أنه كان تنصر، وأن ذلك ورد في رواية الزبير بن بكار بلفظ: "عيسى" ولم يقف بعض من لقيناه على ذلك فبالغ في الإنكار على النووي ومن تبعه بأنه ورد في غير الصحيحين بلفظ: "ناموس عيسى" وذكر القطب الحلبي في وجه المناسبة لذكر موسى دون عيسى أن النبي صلى الله عليه وسلم لعله لما ذكر لورقة مما نزل عليه من اقرأ ويا أيها المدثر ويا أيها المزمل فهم ورقة من ذلك أنه كلف بأنواع من التكاليف فناسب ذكر موسى لذلك، لأن الذي أنزل على عيسى إنما كان مواعظ. كذا قال، وهو متعقب فإن نزول {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} و {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} إنما نزل بعد فترة الوحي كما تقدم بيانه في تفسير المدثر، والاجتماع بورقة كان في أول البعثة. وزعم أن الإنجيل كله مواعظ متعقب أيضا، فإنه منزل أيضا على الأحكام الشرعية وإن كان

(8/720)


معظمها موافقا لما في التوراة، لكنه نسخ منها أشياء بدليل قوله تعالى: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} قوله: "فيها" أي أيام الدعوة قاله السهيلي. وقال المازري: الضمير للنبوة، ويحتمل أن يعود للقصة المذكورة. قوله: "ليتني أكون حيا ذكر حرفا" كذا في هذه الرواية، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "إذ يخرجك قومك" ويأتي في رواية معمر في التعبير بلفظ: "حين يخرجك" وأبهم موضع الإخراج والمراد به مكة، وقد وقع في حديث عبد الله بن عدي في السنن "ولولا أني أخرجوني منك ما خرجت" يخاطب مكة. قوله: "يومك" أي وقت الإخراج، أو وقت إظهار الدعوة، أو وقت الجهاد. وتمسك ابن القيم الحنبلي بقوله في الرواية التي في بدء الوحي" ثم لم ينشب ورقة أن توفي" يرد ما وقع في السيرة النبوية لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال والمشركون يعذبونه وهو يقول أحد أحد فيقول: أحد والله يا بلال، لئن قتلوك لاتخذت قبرك حنانا، هذا والله أعلم وهم، لأن ورقة قال: "وإن أدركني يومك حيا لأنصرنك نصرا مؤزرا" فلو كان حيا عند ابتداء الدعوة لكان أول من استجاب وقام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم كقيام عمر وحمزة. قلت: وهذا اعتراض ساقط، فإن ورقة إنما أراد بقوله: "فإن يدركني يومك حيا أنصرك" اليوم الذي يخرجوك فيه، لأنه قال ذلك عنه عند قوله: "أو مخرجي هم" وتعذيب بلال كان بعد انتشار الدعوة، وبين ذلك وبين إخراج المسلمين من مكة للحبشة ثم للمدينة مدة متطاولة.
" تنبيه " : زاد معمر بعد هذا كلاما يأتي ذكره في كتاب التعبير. قوله: "قال محمد بن شهاب" هو موصول بالإسنادين المذكورين في أول الباب، وقد أخرج البخاري حديث جابر هذا بالسند الأول من السندين المذكورين هنا في تفسير سورة المدثر. قوله: "فأخبرني" هو عطف على شيء، والتقدير قال ابن شهاب فأخبرني عروة بما تقدم، وأخبرني أبو سلمة بما سيأتي. قوله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه: بينا أنا أمشي" هذا يشعر بأنه كان في أصل الرواية أشياء غير هذا المذكور، وهذا أيضا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدركه زمان القصة فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي آخر حضرها والله أعلم. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو يحدث عن فترة الوحي" وقع في رواية عقيل في بدء الوحي غير مصرح بذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في تفسير المدثر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت" وزاد مسلم في روايته: "جاورت بحراء شهرا" . قوله: "سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري " يؤخذ منه جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها، وقد ترجم له المصنف في الأدب، ويستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة لثبوت النهي عنه كما تقدم في الصلاة من حديث أنس، وروى ابن السني بإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال: أمرنا أن لا نتبع أبصارنا الكواكب إذا انقضت. ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير "فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي " وفي رواية مسلم بعد قوله شيئا "ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي" . قوله: " فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي" كذا له بالرفع، وهو على تقدير حذف المبتدأ، أي فإذا صاحب الصوت هو الملك الذي جاءني بحراء وهو جالس، ووقع عند مسلم: "جالسا" بالنصب وهو على الحال، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير "فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض" . قوله: "ففزعت منه1 "
ـــــــ
(1) الذي في المتن "ففرقت منه"

(8/721)


كذا في رواية ابن المبارك عن يونس. وفي رواية ابن وهب عند مسلم: "فجئثت" . وفي رواية عقيل في بدء الوحي "فرعبت" ، وفي روايته في تفسير المدثر "فجئثت" وكذا لمسلم وزاد: "فجئثت منه فرقا" . وفي رواية معمر فيه: "فجئثت" وهذه اللفظة بضم الجيم، وذكر عياض أنه وقع للقابسي بالمهملة قال: وفسره بأسرعت، قال: ولا يصح مع قوله: "حتى هويت" أي سقطت من الفزع. قلت: ثبت في رواية عبد الله بن يوسف عن الليث في ذكر الملائكة من بدء الخلق ولكنها بضم المهملة وكسر المثلثة بعدها مثناة تحتانية ساكنة ثم مثناة فوقانية، ومعناها إن كانت محفوظة سقطت على وجهي حتى صرت كمن حثى عليه التراب. قال النووي: وبعد الجيم مثلثتان في رواية عقيل ومعمر. وفي رواية يونس بهمزة مكسورة ثم مثلثة وهي أرجح من حيث المعنى، قال أهل اللغة: جئت الرجل فهو مجئوت إذا فزع، وعن الكسائي جئث وجثث فهو مجئوث ومجثوث أي مذعور. قوله: "فقلت زملوني زملوني" في رواية يحيى بن أبي كثير "فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا" وكأنه رواها بالمعنى، والتزميل والتدثير يشتركان في الأصل وإن كانت بينهما مغايرة في الهيئة. ووقع في رواية مسلم: "فقلت دثروني، فدثروني وصبوا علي ماء" ويجمع بينهما بأنه أمرهم فامتثلوا. وأغفل بعض الرواة ذكر الأمر بالصب، والاعتبار بمن ضبط، وكأن الحكمة في الصب بعد التدثر طلب حصول السكون لما وقع في الباطن من الانزعاج، أو أن العادة أن الرعدة تعقبها الحمى، وقد عرف من الطب النبوي معالجتها بالماء البارد. قوله: "فنزلت {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يعرف من اتحاد الحديثين في نزول يا أيها المدثر عقب قوله دثروني وزملوني أن المراد بزملوني دثروني، ولا يؤخذ من ذلك نزول يا أيها المزمل حينئذ لأن نزولها تأخر عن نزول يا أيها المدثر بالاتفاق، لأن أول يا أيها المدثر الأمر بالإنذار وذلك أول ما بعث، وأول المزمل الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن فيقتضي تقدم نزول كثير من القرآن قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير المدثر أنه نزل من أولها إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وفيها محصل ما يتعلق بالرسالة، ففي الآية الأولى المؤانسة بالحالة التي هو عليها من التدثر إعلاما بعظيم قدره، وفي الثانية الأمر بالإنذار قائما وحذف المفعول تفخيما، والمراد بالقيام إما حقيقته أي قم من مضجعك، أو مجازه أي قم مقام تصميم، وأما الإنذار فالحكمة في الاقتصار عليه هنا فإنه أيضا بعث مبشرا لأن ذلك كان أول الإسلام، فمتعلق الإنذار محقق؛ فلما أطاع من أطاع نزلت: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وفي الثانية تكبير الرب تمجيدا وتعظيما، ويحتمل الحمل على تكبير الصلاة كما حمل الأمر بالتطهير على طهارة البدن والثياب كما تقدم البحث فيه وفي الآية الرابعة، وأما الخامسة فهجران ما ينافي التوحيد وما يئول إلى العذاب، وحصلت المناسبة بين السورتين المبتدأ بهما النزول فيما اشتملتا عليه من المعاني الكثيرة باللفظ الوجيز وفي عدة ما نزل من كل منهما ابتداء والله أعلم. قوله:"قال أبو سلمة: وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون" تقدم شرح ذلك في تفسير المدثر، وتقدم الكثير من شرح حديث عائشة وجابر في بدء الوحي، وبقيت منهما فوائد أخرتها إلى كتاب التعبير ليأخذ كل موضع ساقهما المصنف فيه مطولا بقسط من الفائدة. قوله: "ثم تتابع الوحي" أي استمر نزوله.

(8/722)


2- بَاب قَوْلُهُ {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
4955- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(8/722)


قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
قوله "بَاب قَوْلُهُ {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ذكر فيه طرفا من الحديث الذي قبله برواية عقيل عن بن شهاب واختصره جدا قال أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة وفي رواية الكشميهني الصادقة قال فجاءه الملك فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم وهذا في غاية الإجحاف ولا أظن يحيى بن بكير حدث البخاري به هكذا ولا كان له هذا التصرف وإنما هذا صنيع البخاري وهو دال على أنه كان التابعين الاختصار من الحديث إلى هذه الغاية.

(8/723)


3- بَاب قَوْلُهُ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
4956- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
قوله "باب قوله" {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} "حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري ح. وقال الليث حدثني عقيل قال قال محمد أخبرني عروة" أما رواية معمر فسيأتي بتمامها في أول التعبير، وأما رواية الليث فوصلها المصنف في بدء الوحي، ثم في الذي قبله، ثم في التعبير، أخرجه في المواضع الثلاثة عن يحيى بن بكير عن الليث. فأما في بدء الوحي فأفرده، وأما في الذي قبله فاختصره جدا، وساقه قبله بتمامه لكن قرنه برواية يونس وساقه على لفظ يونس، وأما التعبير فقرنه برواية معمر وساقه على لفظ معمر أيضا، ولكن لم يقع في شيء من المواضع المذكورة" حدثني عقيل قال قال محمد "وإنما في بدء الوحي" عن عقيل عن ابن شهاب" وكذا في بقية المواضع، وكذا ذكره عن عبد الله بن يوسف عن الليث في الباب الذي بعد هذا، وذكره في بدء الخلق عنه عن الليث بلفظ: "حدثني عقيل عن ابن شهاب" ورواه أبو صالح عبد الله بن صالح عن الليث" حدثني عقيل قال قال محمد بن شهاب" فساقه بتمامه، وقد ذكر المصنف متابعة أبي صالح في بدء الوحي، وبينت هناك من وصلها ولله الحمد.

(8/723)


باب {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
4957- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} "كذا لأبي ذر، وسقطت الترجمة لغيره، وأورد طرفا من حديث بدء الوحي عن عبد الله بن يوسف عن الليث مقتصرا منه على قوله: "فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال: زملوني زملوني ، فذكر الحديث:"كذا فيه، وقد ذكر من الحديث في ذكر الملائكة من بدء الخلق حديث جابر مقتصرا عليه.

(8/723)


4- باب {كَلاَ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}
4958- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لاَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَهُ لاَخَذَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ" تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
قوله: "باب {كَلاَ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} "سقط لغير أبي ذر "باب" ومن "ناصية" إلى آخره. قوله: "عن عبد الكريم الجزري" هو ابن مالك وهو ثقة، وفي طبقته عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف. قوله: "قال أبو جهل" هذا مما أرسله ابن عباس، لأنه لم يدرك زمن قول أبي جهل ذلك، لأن مولده قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وقد أخرج ابن مردويه بإسناد ضعيف عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن العباس بن عبد المطلب قال: "كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: إن لله علي إن رأيت محمدا ساجدا" فذكر الحديث. قوله: "لو فعله لأخذته الملائكة" وقع عند البلاذري" نزل اثنا عشر ملكا من الزبانية رءوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض" وزاد الإسماعيلي في آخره من طريق معمر عن عبد الكريم الجزري "قال ابن عباس لو تمنى اليهود الموت لماتوا، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" . وأخرج النسائي من طريق أبي حازم عن أبي هريرة نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره: "فلم يفجأهم منه إلا وهو - أي أبو جهل - ينكص على عقبيه ويتقي بيده، فقيل له، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" وإنما شدد الأمر في حق أبي جهل، ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط حيث طرح سلي الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي كما تقدم شرحه في الطهارة لأنهما وان اشتركا في مطلق الأذية حالة صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوى أهل طاعته وبإرادة وطء العنق الشريف، وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك، ولأن سلي الجزور لم يتحقق نجاستها، وقد عوقب عقبة بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه وعلى من شاركه في فعله فقتلوا يوم بدر. قوله: "تابعه عمرو بن خالد عن عبيد الله عن عبد الكريم" أما عمرو بن خالد فهو من شيوخ البخاري وهو الحراني ثقة مشهور، وأما عبيد الله فهو ابن عمرو الرقي، وعبد الكريم هو الجزري المذكور، وهذه المتابعة وصلها علي بن عبد العزيز البغوي في "منتخب المسند" له عن عمرو بن خالد بهذا؛ وقد أخرجه ابن مردويه من طريق زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو بالسند المذكور ولفظه بعد قوله لو فعل لأخذته الملائكة "عيانا ولو أن اليهود" إلى آخر الزيادة التي ذكرتها من عند الإسماعيلي، وزاد بعد قوله لماتوا "ورأوا مقاعدهم من النار"

(8/724)


97- سُورَةُ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}
يُقَالُ الْمَطْلَعُ هُوَ الطُّلُوعُ وَالْمَطْلِعُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْلَعُ مِنْهُ أَنْزَلْنَاهُ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْقُرْآنِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ وَالْمُنْزِلُ هُوَ اللَّهُ وَالْعَرَبُ تُوَكِّدُ فِعْلَ الْوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ

(8/724)


قوله سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} في رواية غير أبي ذر "سورة القدر" . قوله: "يقال المطلع هو الطلوع، والمطلع الموضع الذي يطلع منه" قال الفراء: المطلع بفتح اللام، وبكسرها قرأ يحيى بن وثاب، والأول أولى لأن المطلع بالفتح هو الطلوع وبالكسر الموضع والمراد هنا الأول انتهى. وقرأ بالكسر أيضا الكسائي والأعمش وخلف وقال الجوهري: طلعت الشمس مطلعا ومطلعا أي بالوجهين. قوله: "أنزلناه الهاء كناية عن القرآن" أي الضمير راجع إلى القرآن وإن لم يتقدم له ذكر. قوله: "إنا أنزلناه خرج مخرج الجميع، والمنزل هو الله تعالى. والعرب تؤكد فعل الرجل الواحد فتجعله بلفظ الجميع ليكون أثبت وأوكد" هو قول أبي عبيدة، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" نسبته إليه قال: قال معمر، وهو اسم أبي عبيدة كما تقدم غير مرة. وقوله: "ليكون أثبت وأوكد" قال ابن التين: النحاة يقولون بأنه للتعظيم. بقوله المعظم عن نفسه ويقال عنه، انتهى. وهذا هو المشهور أن هذا جمع التعظيم.
" تنبيه " : لم يذكر في سورة القدر حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث: "من قام ليلة القدر" وقد تقدم في أواخر الصيام.

(8/725)


98- سُورَةُ {لَمْ يَكُنْ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{مُنْفَكِّينَ} زَائِلِينَ {قَيِّمَةٌ} الْقَائِمَةُ {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ
قوله: "سورة {لَمْ يَكُنْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة القيمة، وسورة البينة. قوله: "منفكين زائلين" هو قول أبي عبيدة. قوله: "قيمة القائمة دين القيمة أضاف الدين إلى المؤنث" هو قول أبي عبيدة بلفظه. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان قال: القيمة الحساب المبين.
1- باب 4959- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ وَسَمَّانِي قَالَ نَعَمْ فَبَكَى"
2- باب 4960- حدثنا حسان بن حسان حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال أبي: آلله سماني لك قال الله سماك لي فجعل أبي يبكي قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه {مْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
قوله: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} كذا في رواية شعبة، وبين في رواية همام أن تسمية السورة لم يحمله قتادة عن أنس فإنه قال في آخر الحديث:"قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} "وسقط بيان ذلك من رواية سعيد بن أبي عروبة، هذا ما في هذه الطرق الثلاثة التي أخرجها البخاري وقد أخرجه الحاكم وأحمد والترمذي من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب نفسه مطولا ولفظه: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال فقرأ عليه {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} . والجمع بين الروايتين حمل المطلق على المقيد لقراءته لم يكن دون غيرها، فقيل: الحكمة في تخصيصها بالذكر لأن فيها {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} ، وفي تخصيص أبي

(8/725)


بن كعب التنويه به في أنه أقرأ الصحابة، فإذا قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم منزلته كان غيره بطريق التبع له، وقد تقدم في المناقب مزيد كلام في ذلك.
3- باب 4961- حَدَّثَنَا أحمد بن أبي داوود أَبُو جَعْفَرٍ الْمُنَادِي حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ قَالَ أَاللَّهُ سَمَّانِي لَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاه"
قوله: "حدثني أحمد بن أبي داود أبو جعفر المنادي" كذا وقع عند الفريابي عن البخاري، والذي وقع عند النسفي" حدثني أبو جعفر المنادي" حسب، فكأن تسميته من قبل الفربري. فعلى هذا لم يصب من وهم البخاري فيه، وكذا من قال إنه كان يرى أن محمدا وأحمد شيء واحد، وقد ذكر ذلك الخطيب عن اللالكائي احتمالا، قال: واشتبه على البخاري، قال: وقيل كان لأبي جعفر أخ اسمه أحمد، قال: وهو باطل والمشهور أن اسم أبي جعفر هذا محمد وهو ابن عبيد الله بن يزيد وأبو داود كنية أبيه، وليس لأبي جعفر في البخاري سوى هذا الحديث، وقد عاش بعد البخاري ستة عشر عاما، ولكنه عمر وعاش مائة سنة وسنة وأشهرا، وقد سمع منه هذا الحديث بعينه من لم يدرك البخاري وهو أبو عمرو بن السماك فشارك البخاري في روايته عن ابن المنادي هذا الحديث وبينهما في الوفاة ثمان وثمانون سنة، وهو من لطيف ما وقع من نوع السابق واللاحق. قوله: "أن أقرئك" أي أعلمك بقراءتي عليك كيف تقرأ حتى لا تتخالف الروايتان، وقيل: الحكمة فيه لتحقق قوله تعالى فيها {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} . قوله: "فذرفت" بفتح الراء وقبلها الذال معجمة، أي تساقطت بالدموع، وقد تقدم شرح الحديث في مناقب أبي بن كعب.

(8/726)


سورة {إذا زلزلت الأرض زلزالها}: باب قوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}
...
99- سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب قَوْلُهُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
يُقَالُ {أَوْحَى لَهَا} أَوْحَى إِلَيْهَا وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ
حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له فهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر قال ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة:

(8/726)


{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(8/727)


2- بَاب {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
4963- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: " لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
قوله: "سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" : "باب قوله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلخ" سقط "باب قوله:"لغير أبي ذر. قوله: "أوحي لها يقال أوحي لها وأوحي إليها ووحى لها ووحى إليها واحد" قال أبو عبيدة في قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} : قال العجاج: أوحي لها القرار فاستقرت. وقيل اللام بمعنى من أجل والموحى إليه محذوف أي أأوحي إلى الملائكة من أجل الأرض، والأول أصوب. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "أوحي لها أوحي إليها" ثم ذكر فيه حديث أبي هريرة "الخيل لثلاثة" وفي آخره: "فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر" الحديث، ثم ساقه من وجه آخر عن مالك بسنده المذكور مقتصرا على القصة الآخرة، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الجهاد.

(8/727)


سورة العاديات والقارعة
...
100- سُورَةُ وَالْعَادِيَاتِ والقارعة
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْكَنُودُ الْكَفُورُ يُقَالُ {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} رَفَعْنَا بِهِ غُبَارًا {لِحُبِّ الْخَيْرِ} مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْخَيْرِ {لَشَدِيدٌ} لَبَخِيلٌ وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ شَدِيدٌ حُصِّلَ مُيِّزَ
قوله: "والعاديات والقارعة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "والعاديات" حسب، والمراد بالعاديات الخيل، وقيل الإبل. قوله: "وقال مجاهد: الكنود الكفور" وصله الفريابي عن مجاهد بهذا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مثله، ويقال إنه بلسان قريش الكفور وبلسان كنانة البخيل وبلسان كندة العاصي، وروى الطبراني من حديث أبي أمامة رفعه: "الكنود الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده ". قوله: "يقال فأثرن به نقعا رفعن به غبارا" هو قول أبي عبيدة والمعنى أن الخيل التي أغارت صباحا أثرن به غبارا. والضمير في" به" للصبح، أي أثرن به وقت الصبح. وقيل للمكان، وهو وإن لم يجر له ذكر لكن دلت عليه الإثارة. وقيل الضمير للعدو الذي دلت عليه العاديات. وعند البزار والحاكم من حديث ابن عباس قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فلبثت شهرا لا يأتيه خبرها، فنزلت: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} ضبحت بأرجلها {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} قدحت الحجارة فأورت بحوافرها {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} صبحت القوم بغارة {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} التراب {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} صبحت القوم جميعا" وفي إسناده ضعف، وهو مخالف لما روى ابن مردويه بإسناد أحسن منه عن ابن عباس قال: "سألني رجل عن العاديات فقلت: الخيل، قال فذهب إلى علي فسأله فأخبره بما قلت، فدعاني فقال لي: إنما العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة" الحديث. وعند سعيد بن منصور من طريق حارثة بن مضرب قال:

(8/727)


101- سُورَةُ الْقَارِعَةِ
{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ {كَالْعِهْنِ} كَأَلْوَانِ الْعِهْنِ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَالصُّوفِ
قوله: "سورة القارعة" كذا لغير أبي ذر، واكتفى بذكرها مع التي قبلها. قوله: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا. كذلك الناس يجول بعضهم في بعض" هو كلام الفراء، قال في قوله {كَالْفَرَاشِ} يريد كغوغاء الجراد إلخ. وقال أبو عبيدة: الفراش طير لا ذباب ولا بعوض، والمبثوث المتفرق، وحمل الفراش على حقيقته أولى، والعرب تشبه بالفراش كثيرا كقول جرير:
إن الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى
وصفهم بالحرص والتهافت: وفي تشبيه الناس يوم البعث بالفراش مناسبات كثيرة بليغة، كالطيش والانتشار والكثرة والضعف والذلة والمجيء بغير رجوع والقصد إلى الداعي والإسراع وركوب بعضهم بعضا والتطاير إلى النار. قوله: "كالعهن كألوان العهن" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول الفراء قال: كالعهن لأن ألوانها مختلفة كالعهن وهو الصوف. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: كالعهن كالصوف. قوله: "وقرأ عبد الله كالصوف" سقط هذا لأبي ذر. وهو بقية كلام الفراء، قال: في قراءة عبد الله - يعني ابن مسعود "كالصوف المنفوش" .

(8/728)


102- سُورَةُ {أَلْهَاكُمْ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {التَّكَاثُرُ} مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ
قوله: "سورة {أَلْهَاكُمْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، ويقال لها سورة التكاثر. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي هلال قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونها المقبرة. قوله: "وقال ابن عباس: التكاثر من الأموال والأولاد" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس.
" تنبيه " لم يذكر في هذه السورة حديثا مرفوعا وسيأتي في الرقاق من حديث أبي بن كعب ما يدخل فيها

(8/728)


103- سُورَةُ {وَالْعَصْرِ}
وَقَالَ يَحْيَى: "الْعَصْرُ" الدَّهْرُ، أَقْسَمَ بِهِ

(8/728)


104- سُورَةُ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحُطَمَةُ} اسْمُ النَّارِ مِثْلُ سَقَرَ وَ لَظَى
قوله: "سورة {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، ويقال لها أيضا سورة الهمزة، والمراد الكثير الهمز، وكذا اللمز. وأخرج سعيد بن منصور من حديث ابن عباس أنه سئل عن الهمزة قال: المشاء بالنميمة، المفرق بين الإخوان. قوله: "الحطمة اسم النار، مثل سقر ولظى" هو قول الفراء، قال في قوله: {لَيُنْبَذَنَّ} أي الرجل وماله، "في الحطمة" اسم من أسماء النار، كقوله جهنم وسقر ولظى.
وقال أبو عبيدة: يقال للرجل الأكول حطمة، أي الكثير الحطم.

(8/729)


105- سُورَةُ {أَلَمْ تَرَ}
قال مجاهد: {أَلَمْ تَرَ} أَلَمْ تَعْلَمْ. وقَالَ مُجَاهِدٌ {أَبَابِيلَ} مُتَتَابِعَةً مُجْتَمِعَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مِنْ سِجِّيلٍ} هِيَ سَنْكِ وَكِلْ
قوله: "سورة {أَلَمْ تَرَ} "كذا لهم، ويقال لها أيضا سورة الفيل. قوله: "ألم تر ألم تعلم" كذا لغير أبي ذر. وللمستملي ألم تر. قال مجاهد: ألم تر ألم تعلم، والصواب الأول فإنه ليس من تفسير مجاهد. وقال الفراء: ألم تخبر عن الحبشة والفيل، وإنما قال ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم يدرك قصة أصحاب الفيل لأنه ولد في تلك السنة. قوله: "أبابيل: متتابعة مجتمعة" وصله الفريابي عن مجاهد في قوله أبابيل قال: شتى متتابعة. وقال الفراء: لا واحد لها. وقيل: واحدها أبالة بالتخفيف، وقيل بالتشديد، وقيل أبول كعجول وعجاجيل. قوله: "وقال ابن عباس: من سجيل هي سنك وكل" وصله الطبري من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس قال: سنك وكل، طين وحجارة. وقد تقدم في تفسير سورة هود، ووصله ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن عكرمة، وروى الطبري من طريق عبد الرحمن بن سابط قال: هي بالأعجمية سنك وكل. ومن طريق حصين عن عكرمة قال: كانت ترميهم بحجارة معها نار، قال: فإذا أصابت أحدهم خرج به الجدري، وكان أول يوم رئي فيه الجدري.

(8/729)


106- سُورَةُ {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لإِيلاَفِ} أَلِفُوا ذَلِكَ فَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَ {آمَنَهُمْ} مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِمْ فِي حَرَمِهِمْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لإِيلاَفِ لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ
قوله: سورة لإِيلاف" قيل اللام متعلقة بالقصة التي في السورة التي قبلها ويؤيده أنهما في مصحف أبي بن كعب سورة واحدة. وقيل متعلقة بشيء مقدر أي أعجب لنعمتي على قريش. قوله: "وقال مجاهد: لإيلاف ألفوا ذلك فلا يشق عليهم في الشتاء والصيف، وآمنهم من خوف قال: من كل عدو في حرمهم" وأخرج ابن مردويه من أوله إلى قوله والصيف من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس. قوله: "وقال ابن عيينة لإيلاف: لنعمتي على قريش" هو كذلك في تفسير ابن عيينة رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه، ولابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. "تنبيهان" الأول قرأ الجمهور لإيلاف بإثبات الياء إلا ابن عامر فحذفها، واتفقوا على إثباتها في قوله: {إِيلافِهِمْ} إلا في رواية عن ابن عامر فكالأول، وفي أخرى عن ابن كثير بحذف الأولى التي بعد اللام أيضا.
وقال الخليل بن أحمد: دخلت الفاء في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا} لما في السياق من معنى الشرط، أي فإن لم يعبدوا رب هذا البيت لنعمته السالفة فليعبدوه للائتلاف المذكور. الثاني لم يذكر في هذه السورة ولا التي قبلها حديثا مرفوعا، فأما سورة الهمزة ففي صحيح ابن حبان من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يحسب أن ماله أخلده" يعني بفتح السين وأما سورة الفيل ففيها من حديث المسور الطويل في صلح الحديبية. قوله: "حبسها حابس الفيل" قد تقدم شرحه مستوفى في الشروط، وفيها حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله حبس عن مكة الفيل" الحديث. وأما هذه السورة فلم أر فيها حديثا مرفوعا صحيحا.

(8/730)


107- سُورَةُ {أَرَأَيْتَ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يَدُعُّ} يَدْفَعُ عَنْ حَقِّهِ يُقَالُ هُوَ مِنْ دَعَعْتُ يُدَعُّونَ يُدْفَعُونَ سَاهُونَ لاَهُونَ وَ {الْمَاعُونَ} الْمَعْرُوفَ كُلُّهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ الْمَاعُونُ الْمَاءُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَعْلاَهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَأَدْنَاهَا عَارِيَّةُ الْمَتَاعِ
قوله: "سورة {أَرَأَيْتَ} " كذا لهم، ويقال لها أيضا سورة الماعون. قال الفراء: قرأ ابن مسعود "أرأيتك الذي يكذب" قال: والكاف صلة، والمعنى في إثباتها وحذفها لا يختلف، كذا قال، لكن التي بإثبات الكاف قد تكون بمعنى أخبرني، والتي بحذفها الظاهر أنها من رؤية البصر. قوله: "وقال مجاهد: يدع يدفع عن حقه، يقال هو من دععت، يدعون يدفعون" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} أي يدفعون، يقال دععت في قفاه أي دفعت. وفي رواية أخرى {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قال وقال بعضهم: يدع اليتيم مخففة، قلت: وهي قراءة الحسن وأبي رجاء ونقل عن علي أيضا. وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: يدع يدفع اليتيم عن حقه. وفي قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} قال: يدفعون. قوله: "ساهون لاهون" وصله الطبري أيضا من طريق مجاهد في قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} . قال: لاهون. وقال الفراء كذلك فسرها ابن عباس، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وجاء ذلك في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن مردويه من رواية مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأله

(8/730)


عن هذه الآية قال: أو ليس كنا نفعل ذلك، الساهي هو الذي يصليها لغير وقتها. قوله: "والماعون المعروف كله. وقال بعض العرب: الماعون الماء. وقال عكرمة: أعلاها الزكاة المفروضة وأدناها عارية المتاع" أما القول الأول فقال الفراء قال بعضهم: أن الماعون المعروف كله، حتى ذكر القصعة والدلو والفأس ولعله أراد ابن مسعود فإن الطبري أخرج من طريق سلمة بن كهيل عن أبي المغيرة سأل رجل ابن عمر عن الماعون، قال: المال الذي لا يؤدى حقه. قال قلت: إن ابن مسعود يقول هو المتاع الذي يتعاطاه الناس بينهم، قال: هو ما أقول لك. وأخرجه الحاكم أيضا وزاد في رواية أخرى عن ابن مسعود: هو الدلو والقدر والفأس. وكذا أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن مسعود بلفظ: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر" وإسناده صحيح إلى ابن مسعود. وأخرجه البزار والطبراني من حديث ابن مسعود مرفوعا صريحا. وأخرج الطبراني من حديث أم عطية قالت: ما يتعاطاه الناس بينهم. وأما القول الثاني فقال الفراء سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء، وأنشد "يصب صبيرة الماعون صبا" . قلت: وهذا يمكن تأويله وصبيرة جبل باليمن معروف وهو بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة وآخره راء، وأما قول عكرمة فوصله سعيد بن منصور بإسناد إليه باللفظ المذكور. وأخرج الطبري والحاكم من طريق مجاهد عن على مثله.
" تنبيه " لم يذكر المصنف في تفسير هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود المذكور قبل.

(8/731)


108- سُورَةُ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَانِئَكَ عَدُوَّكَ
1- باب 4964- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفاً فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَر"
4965- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَتْ نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُوم" رَوَاهُ زَكَرِيَّاءُ وَأَبُو الأَحْوَصِ وَمُطَرِّفٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
4966- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاه"
[الحديث 4966- طرفه في: 6578]
قوله: "سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} "هي سورة الكوثر. وقد قرأ ابن محيصن إنا أنطيناك الكوثر بالنون، وكذا قرأها طلحة بن مصرف. والكوثر فوعل من الكثرة سمي بها النهر لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره.

(8/731)


قوله: {شَانِئَكَ} عدوك في رواية المستملي: وقال ابن عباس. وقد وصله ابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كذلك. واختلف الناقلون في تعيين الشانئ المذكور فقيل هو العاصي بن وائل، وقيل أبو جهل، وقيل عقبة بن أبي معيط. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: الأول حديث أنس وقد تقدم شرحه في أوائل المبعث في قصة الإسراء في أواخرها، ويأتي بأوضح من ذلك في أواخر كتاب الرقاق. وقوله: "لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر. هكذا اقتصر على بعضه. وساقه البيهقي من طريق إبراهيم بن الحسن عن آدم شيخ البخاري فيه فزاد بعد قوله الكوثر" والذي أعطاك ربك، فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكا أذفر" وأورده البخاري بهذه الزيادة في الرقاق من طريق همام عن أبي هريرة. الثاني حديث عائشة، وأبو عبيدة رواية عنها هو ابن عبد الله بن مسعود. قوله: "عن عائشة قال سألتها" في رواية النسائي: "قلت لعائشة" . قوله: "عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} " في رواية النسائي: "ماء الكوثر" . قوله: "هو نهر أعطيه نبيكم" زاد النسائي: "في بطنان الجنة. قلت ما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها" انتهى. وبطنان بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون، ووسط بفتح المهملة والمراد به أعلاها أي أرفعها قدرا، أو المراد أعدلها. قوله: "شاطئاه" أي حافتاه. قوله: "در مجوف" أي القباب التي على جوانبه. قوله: "رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف عن أبي إسحاق" أما زكريا فهو ابن أبي زائدة، وروايته عند علي ابن المديني عن يحيى بن زكريا عن أبيه، ولفظه قريب من لفظ أبي الأحوص. وأما رواية أبي الأحوص وهو سلام ابن سليم فوصلها أبو بكر بن أبي شيبة عنه ولفظه: "الكوثر نهر بفناء الجنة شاطئاه در مجوف؛ وفيه من الأباريق عدد النجوم" وأما رواية مطرف وهو ابن طريف بالطاء المهملة فوصلها النسائي من طريقه، وقد بينت ما فيها من زيادة. حديث ابن عباس من رواية أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه أنه قال في الكوثر" هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال قلت لسعيد بن جبير عنه أنه قال في الكوثر: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه" . هذا تأويل من سعيد بن جبير جمع به بين حديثي عائشة وابن عباس، وكأن الناس الذين عناهم أبو بشر أبو إسحاق وقتادة ونحوهما ممن روي ذلك صريحا أن الكوثر هو النهر، وقد أخرج الترمذي من طريق ابن عمر رفعه: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت" الحديث قال: إنه حسن صحيح. وفي صحيح مسلم من طريق المختار بن فلفل عن أنس "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفا إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على سورة. فقرأ. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" الحديث. وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس إنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره إن المراد به نهر في الجنة، لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه. وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالا أخرى غير هذين تزيد على العشرة، منها قول عكرمة: الكوثر النبوة، وقول الحسن: الكوثر القرآن، وقيل تفسيره، وقيل الإسلام، وقيل إنه التوحيد، وقيل كثرة الأتباع، وقيل الإيثار، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة،

(8/732)


وقيل المعجزات؛ وقيل إجابة الدعاء، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس. وسيأتي مزيد بسط في أمر الكوثر وهل الحوض النبوي هو أو غيره في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(8/733)


109- سُورَةُ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
يُقَالُ {لَكُمْ دِينُكُمْ} الْكُفْرُ {وَلِيَ دِينِ} الإِسْلاَمُ وَلَمْ يَقُلْ دِينِي لأَنَّ الآيَاتِ بِالنُّونِ فَحُذِفَتْ الْيَاءُ كَمَا قَالَ يَهْدِينِ وَ يَشْفِينِ وَقَالَ غَيْرُهُ {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الْآنَ وَلاَ أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي {وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}
قوله: "سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "وهي سورة الكافرين، ويقال لها أيضا المقشقشة أي المبرئة من النفاق. قوله: "يقال لكم دينكم الكفر، ولي دين الإسلام. ولم يقل ديني لأن الآيات بالنون فحذفت الياء كما فال يهدين ويشفين" هو كلام الفراء بلفظه. قوله: "وقال غيره: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلخ" سقط "وقال غيره:"لأبي ذر والصواب إثباته لأنه ليس من بقية كلام الفراء بل هو كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ": كأنهم دعوه إلى أن يعبد آلهتهم ويعبدون إلهه فقال: لا أعبد ما تعبدون في الجاهلية، ولا أنتم عابدون ما أعبد في الجاهلية والإسلام، ولا أنا عابد ما عبدتم الآن، أي لا أعبد الآن ما تعبدون ولا أجيبكم فيما بقي أن أعبد ما تعبدون وتعبدون ما أعبد انتهى. وقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس قال: "قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: كف عن آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فنزلت وفي إسناده أبو خلف عبد الله بن عيسى، وهو ضعيف.
" تنبيه " لم يورد في هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد" أخرجه مسلم، وقد ألزمه الإسماعيلي بذلك حيث قال في تفسير والتين والزيتون لما أورد البخاري حديث البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها في العشاء" قال الإسماعيلي: ليس لإيراد هذا معنى هنا، وإلا للزمه أن يورد كل حديث وردت فيه قراءته لسورة مسماة في تفسير تلك السورة.

(8/733)


سورة {إذا جاء نصر الله والفتح}
...
110- سُورَةُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب 4967- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلاَّ يَقُولُ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"
2- باب 4968- حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن.

(8/733)


باب {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا}
...
3- باب قَوْلُهُ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}
4969- حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس ثم أن عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قالوا فتح المدائن والقصور قال ما تقول يا بن عباس قال أجل أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه"
قوله: "باب قوله {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} "ذكر فيه حديث ابن عباس أن عمر سألهم عن قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وسأذكر شرحه في الباب الذي يليه.

(8/734)


4- باب قَوْلُهُ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}
تَوَّابٌ عَلَى الْعِبَادِ وَالتَّوَّابُ مِنْ النَّاسِ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ
4970- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ

(8/734)


111- سُورَةُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تباب: خسران، تتبيب: تدمير.

(8/736)


1- باب 4971- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: "يَا صَبَاحَاهْ" فَقَالُوا مَنْ هَذَا فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهَذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وَقَدْ تَبَّ هَكَذَا قَرَأَهَا الأَعْمَشُ يَوْمَئِذ"
قوله: "سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب واسمه عبد العزى. وأمه خزاعية. وكني أبا لهب إما بابنه لهب، وإما بشدة حمرة وجنته. وقد أخرج الفاكهي من طريق عبد الله بن كثير قال: إنما سمي أبا لهب لأن وجهه كان يتلهب من حسنه انتهى. ووافق ذلك ما آل إليه أمره من أنه سيصلى نارا ذات لهب، ولهذا ذكر في القرآن بكنيته دون اسمه، ولكونه بها أشهر، ولأن في اسمه إضافة إلى الصنم. ولا حجة فيه لمن قال بجواز تكنية المشرك على الإطلاق، بل محل الجواز إذا لم يقتض ذلك التعظيم له أودعت الحاجة إليه. قال الواقدي: كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان السبب في ذلك أن أبا طالب لاحى أبا لهب فقعد أبو لهب على صدر أبي طالب فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بضبعي أبي لهب فضرب به الأرض، فقال له أبو لهب: كلانا عمك، فلم فعلت بي هذا؟ والله لا يحبك قلبي أبدا. وذلك قبل النبوة. وقال له إخوته لما مات أبو طالب: لو عضدت ابن أخيك لكنت أولى الناس بذلك. ولقيه فسأله عمن مضى من آبائه فقال: إنهم كانوا على غير دين، فغضب، وتمادى على عداوته. ومات أبو لهب بعد وقعة بدر، ولم يحضرها بل أرسل عنه بديلا، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما. قوله: {وَتَبَّ} : خسر. تباب: خسران "وقع في رواية ابن مردويه في حديث الباب من وجه آخر عن الأعمش في آخر الحديث قال: "فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، قال يقول: خسر وتب" أي خسر وما كسب يعني ولده "وقال أبو عبيدة في قوله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} قال: في هلكة. قوله: "تتبيب تدمير" قال أبو عبيدة في قوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي تدمير وإهلاك. قوله: "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين" كذا وقع في رواية أبي أسامة عن الأعمش، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة الشعراء مع بقية مباحث هذا الحديث وفوائده.

(8/737)


2- باب {وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
4972- حدثنا محمد بن سلام أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى: "يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونني قالوا نعم قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا لك فأنزل الله عز وجل {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها"

(8/737)


قوله: "باب قوله {وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} "ذكر فيه الحديث الذي قبله من وجه آخر. وقوله فيه: "فهتف" أي صاح. وقوله: "يا صباحاه" أي هجموا عليكم صباحا.

(8/738)


3- باب قَوْلُهُ {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}
قوله: "باب قوله {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} "ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور مختصرا، مقتصرا على قوله: "قال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا، فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} "وقد قدمت أن عادة المصنف غالبا إذا كان للحديث طرق أن لا يجمعها في باب واحد، بل يجعل لكل طريق ترجمة تليق به، وقد يترجم بما يشتمل عليه الحديث وإن لم يسقه في ذلك الباب اكتفاء بالإشارة، وهذا من ذلك.

(8/738)


4- باب قَوْلِهِ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {حَمَّالَةُ الْحَطَبِ} تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} يُقَالُ مِنْ مَسَدٍ لِيفِ الْمُقْلِ وَهِيَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي فِي النَّارِ
قوله: "باب {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} " قال أبو عبيدة: كان عيسى بن عمر يقرأ: {حَمَّالَةُ الْحَطَبِ} " بالنصب ويقول هو ذم لها. قلت: وقرأها بالنصب أيضا من الكوفيين عاصم. واسم امرأة أبي لهب العوراء وتكنى أم جميل، وهي بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية، وتقدم لها ذكر في تفسير والضحى، يقال إن اسمها أروى والعوراء لقب، ويقال لم تكن عوراء وإنما قيل لها ذلك لجمالها. وروى البزار بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} جاءت امرأة أبي لهب، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو تنحيت، قال: " إنه سيحال بيني وبينها" ، فأقبلت فقالت: يا أبا بكر هجاني صاحبك، قال: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يفوه به. قالت: إنك لمصدق. فلما ولت قال أبو بكر: ما رأتك. قال: "ما زال ملك يسترني حتى ولت" . وأخرجه الحميدي وأبو يعلى وابن أبي حاتم من حديث أسماء بنت أبي بكر بنحوه. وللحاكم من حديث زيد بن أرقم" لما {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قيل لامرأة أبي لهب: إن محمدا هجاك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا، أو رأيت في جيدي حبلا" . قوله: "وقال مجاهد: حمالة الحطب تمشي بالنميمة" وصله الفريابي عنه. وأخرج سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيرين قال: كانت امرأة أبي لهب تنم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين. وقال الفراء: كانت تنم فتحرش فتوقد بينهم العداوة، فكنى عن ذلك بحملها الحطب. قوله: "في جيدها حبل من مسد يقال من مسد ليف المقل، وهي السلسلة التي في النار" قلت هما قولان حكاهما الفراء في قوله تعالى: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: هي السلسلة التي في النار، ويقال المسد ليف المقل. وأخرج الفريابي من طريق مجاهد قال في قوله: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: من حديد. قال أبو عبيدة. في عنقها حبل من نار، والمسد عند العرب حبال من ضروب.

(8/738)


112- سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ لاَ يُنَوَّنُ {أَحَدٌ} أَيْ وَاحِدٌ
1- باب 4974- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ"
قوله: "سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ويقال لها أيضا سورة الإخلاص، وجاء في سبب نزولها من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب "إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فنزلت. أخرجه الترمذي والطبري وفي آخره قال: "لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ولا شيء يموت إلا يورث، وربنا لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوا أحد، شبه ولا عدل" وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن أبي العالية مرسلا وقال: هذا أصح، وصحح الموصول ابن خزيمة والحاكم، وله شاهد من حديث جابر عند أبي يعلى والطبري والطبراني في الأوسط. قوله: "يقال لا ينون أحد أي واحد" كذا اختصره، والذي قاله أبو عبيدة: الله أحد لا ينون، كفوا أحد أى واحد انتهى. وهمزة أحد بدل من واو لأنه من الوحدة، وهذا بخلاف أحد المراد به العموم فإن همزته أصلية. وقال الفراء: الذي قرأ بغير تنوين يقول النون نون إعراب إذا استقبلتها الألف واللام حذفت، وليس ذلك بلازم انتهى. وقرأها بغير تنوين أيضا نصر بن عاصم ويحيى بن أبي إسحاق، ورويت عن أبي عمرو أيضا، وهو كقول الشاعر "عمرو العلى هشم الثريد لقومه" الأبيات. وقول الآخر "ولا ذاكر الله إلا قليلا" وهذا معنى قول الفراء" إذا استقبلها" أي إذا أتت بعدها. وأغرب الداودي فقال: إنما حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهي لغة. كذا قال. قوله: "حدثنا أبو الزناد" لشعيب بن أبي حمزة فيه إسناد آخر أخرجه المصنف من حديث ابن عباس كما تقدم في تفسير سورة البقرة. قوله: "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى" تقدم في بدء الخلق من رواية سفيان الثوري عن أبي الزناد بلفظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أراه يقول الله عز وجل" والشك فيه من المصنف فيما أحسب. قوله: "قال الله تعالى كذبني ابن آدم" سأذكر شرحه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.

(8/739)


باب {الله الصمد}
...
2 - باب قَوْلُهُ {اللَّهُ الصَّمَدُ}
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا {الصَّمَدَ} قَالَ أَبُو وَائِلٍ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُودَدُهُ
4975- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤًا أَحَدٌ}كُفُؤًا وَكَفِيئًا وَكِفَاءً وَاحِدٌ"

(8/739)


قوله: "باب قوله {اللَّهُ الصَّمَدُ} "ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر. قوله: "والعرب تسمى أشرافها الصمد". وقال أبو عبيدة الصمد السيد الذي يصمد إليه ليس فوقه أحد، فعلى هذا هو فعل بفتحتين بمعنى مفعول، ومن ذلك قول الشاعر:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
قوله: "قال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده" ثبت هذا للنسفي هنا، وقد وصله الفريابي طريق الأعمش عنه، وجاء أيضا من طريق عاصم عن أبي وائل فوصله بذكر ابن مسعود فيه. قوله: "حدثنا إسحاق بن منصور" كذا للجميع، قال المزي في "الأطراف" : في بعض النسخ "حدثنا إسحاق بن نصر" قلت: وهي رواية النسفي، وهما مشهوران من شيوخ البخاري ممن حدثه عن عبد الرزاق. قوله: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك" في رواية أحمد عن عبد الرزاق "كذبني عبدي" . قوله: "وشتمني ولم يكن له ذلك" ثبت هنا في رواية الكشميهني، وكذا هو عند أحمد، وسقط بقية الرواة عن الفربري وكذا النسفي، والمراد به بعض بني آدم، وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان والدهرية ومن ادعى أن لله ولدا من العرب أيضا ومن اليهود والنصارى. قوله: "أما تكذيبه إياي أن يقول إني لن أعيده كما بدأته" كذا لهم بحذف الفاء في جواب "أما" وقد وقع في رواية الأعرج في الباب الذي قبله "فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني" وفي رواية أحمد "أن يقول فليعيدنا كما بدأنا" وهي من شواهد ورود صيغة أفعل بمعنى التكذيب، ومثله قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} ، وقع في رواية الأعرج في الباب قبله "وليس بأول الخلق بأهون من إعادته" وقد تقدم الكلام على لفظ: "أهون" في بدء الخلق وقول من قال إنها بمعنى هين وغير ذلك من الأوجه. قوله: "وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد" في رواية الأعرج "وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد" قوله: {ولم يكن لي كفوا أحد} كذا للأكثر، وهو وزان ما قبله. ووقع للكشميهني: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ} وهو التفات، وكذا في رواية الأعرج "ولم يكن لي" بعد قوله: "لم يلد" وهو التفات أيضا. ولما كان الرب سبحانه واجب الوجود لذاته قديما موجودا قبل وجود الأشياء وكان كل مولود محدثا انتفت عنه الوالدية، ولما كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه حتى يكون له من جنسه صاحبة فتتوالد انتفت عنه الولدية، ومن هذا قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} وقد تقدم في تفسير البقرة حديث ابن عباس بمعنى حديث أبي هريرة هذا، لكن قال في آخره: "فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا" بدل قوله: "وأنا الأحد الصمد إلخ" وهو محمول على أن كلا من الصحابيين حفظ في آخره ما لم يحفظ الآخر. ويؤخذ منه أن من نسب غيره إلى أمر لا يليق به يطلق عليه أنه شتمه، وسبق في كتاب بدء الخلق تقرير ذلك. قوله: "كفوا وكفيئا وكفاء واحد" أي بمعنى واحد وهو قول أبي عبيدة، والأول بضمتين والثاني بفتح الكاف وكسر الفاء بعدها تحتانية ثم الهمزة والثالث بكسر الكاف ثم المد. وقال الفراء: كفوا يثقل ويخفف، أي يضم ويسكن. قلت: وبالضم قرأ الجمهور، وفتح حفص الواو بغير همز. وبالسكون قرأ حمزة وبهمز في الوصل ويبدلها واوا في الوقف، ومراد أبي عبيدة أنها لغات لا قراءات نعم روي في الشواذ عن سليمان بن علي العباسي أنه قرأ بكسر ثم مد، وروي عن نافع مثله لكن بغير مد. ومعنى الآية أنه لم يماثله أحد ولم يشاكله، أو المراد نفي الكفاءة في النكاح نفيا للمصاحبة، والأول أولى، فإن سياق الكلام لنفي المكافأة عن ذاته تعالى.

(8/740)


113- سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْفَلَقُ} الصُّبْحُ وَ {غَاسِقٍ} اللَّيْلُ {إِذَا وَقَبَ} غُرُوبُ الشَّمْسِ يُقَالُ أَبْيَنُ مِنْ فَرَقِ وَفَلَقِ الصُّبْحِ وَقَبَ إِذَا دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَظْلَمَ
4976- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ وَعَبْدَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "قِيلَ لِي" فَقُلْتُ فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
[الحديث 4976-طرفه في: 4977]
قوله: "سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، وتسمى أيضا سورة الفلق. قوله: "وقال مجاهد: الفلق الصبح" وصله الفريابي من طريقه، وكذا قال أبو عبيدة. قوله: "وغاسق الليل إذا وقب غروب الشمس" وصله الطبري من طريق مجاهد بلفظ: "غاسق إذا وقب الليل إذا دخل" . قوله: "يقال أبين من فرق وفلق الصبح" هو قول الفراء ولفظه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق الصبح، وهو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح" . قوله: "وقب إذا دخل في كل شيء وأظلم" هو كلام الفراء أيضا، وجاء في حديث مرفوع أن الغاسق القمر، أخرجه الترمذي والحاكم من طريق أبي سلمة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، قال: هذا الغاسق إذا وقب " إسناده حسن. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عاصم" هو ابن بهدلة. القارئ وهو ابن أبي النجود. قوله: "وعبدة" هو ابن أبي لبابة بموحدتين الثانية خفيفة وضم أوله. قوله: "سألت أبي بن كعب" سيأتي في تفسير السورة التي بعدها بأتم من هذا السياق ويشرح ثم إن شاء الله تعالى.

(8/741)


114- سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْوَسْوَاسِ إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَهَبَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ
4977- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ح وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ قَالَ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ أُبَيٌّ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: " قِيلَ لِي" فَقُلْتُ قَالَ فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "وتسمى سورة الناس. قوله: "وقال ابن عباس: الوسواس إذا ولد خنسه الشيطان، فإذا ذكر الله عز وجل ذهب، وإذا لم يذكر الله ثبت على قلبه" كذا لأبي ذر، ولغيره: ويذكر عن ابن عباس، وكأنه أولى لأن إسناده إلى ابن عباس ضعيف، أخرجه الطبري والحاكم وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف ولفظه: "ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإذا عمل فذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس" ورويناه في الذكر لجعفر بن أحمد بن فارس من وجه آخر عن ابن عباس، وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال ولفظه: "يحط الشيطان فاه على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس" وأخرجه سعيد بن منصور من

(8/741)


وجه آخر عن ابن عباس ولفظه: "يولد الإنسان والشيطان جاثم على قلبه، فإذا عقل وذكر اسم الله خنس، وإذا غفل وسوس" وجاثم بجيم ومثلثة، وعقل الأولى بمهملة وقاف والثانية بمعجمة وفاء. ولأبي يعلى من حديث أنس نحوه مرفوعا وإسناده ضعيف، ولسعيد بن منصور من طريق عروة بن رويم قال: سأل عيسى عليه السلام ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم فأراه، فإذا رأسه مثل رأس الحية، واضع رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس. وإذا ترك مناه وحدثه. قال ابن التين ينظر في قوله خنسه الشيطان فإن المعروف في اللغة خنس إذا رجع وانقبض. وقال عياض: كذا في جميع الروايات وهو تصحيف وتغيير، ولعله كان فيه نخسه أي بنون ثم خاء معجمة ثم سين مهملة مفتوحات، لما جاء في حديث أبي هريرة - يعني الماضي في ترجمة عيسى عليه السلام - قال: لكن اللفظ المروي عن ابن عباس ليس فيه نخس، فلعل البخاري أشار إلى الحديثين معا، كذا قال وادعى فيه التصحيف، ثم فرع على ما ظنه من أنه نخس، والتفريع ليس بصحيح لأنه لو أشار إلى حديث أبي هريرة لم يخص الحديث بابن عباس، ولعل الرواية التي وقعت له باللفظ المذكور، وتوجيهه ظاهر، ومعنى يخنسه يقبضه أي يقبض عليه، وهو بمعنى قوله في الروايتين اللتين ذكرناهما عن ابن فارس وسعيد بن منصور، وقد أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس قال: الوسواس هو الشيطان، يولد المولود والوسواس على قلبه فهو يصرفه حيث شاء، فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل جثم على قلبه فوسوس. وقال الصغاني: الأولى خنسه مكان يخنسه قال: فإن سلمت اللفظة من التصحيف فالمعنى أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطعنه بإصبعه. قوله: "حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش، وحدثنا عاصم عن زر "القائل" وحدثنا عاصم" هو سفيان، وكأنه كان يجمعهما تارة ويفردهما أخرى وقد قدمت أن في رواية الحميدي التصريح بسماع عبدة وعاصم له من زر. قوله: "سألت أبي كعب قلت أبا المنذر" هي كنية أبي بن كعب، وله كنية أخرى أبو الطفيل. قوله: "يقول كذا وكذا" هكذا وقع هذا اللفظ مبهما، وكأن بعض الرواة أبهمه استعظاما له. وأظن ذلك من سفيان فإن الإسماعيلي أخرجه من طريقي عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبهام، كنت أظن أولا أن الذي أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه: "قلت لأبي إن أخاك يحكها من المصحف" وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" وكأن سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه. وقد أخرجه أحمد أيضا وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بلفظ: "إن عبد الله بن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه" وأخرج أحمد عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بلفظ: "إن عبد الله يقول في المعوذتين" وهذا أيضا فيه إبهام، وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: "كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول إنهما ليستا من كتاب الله. قال الأعمش: وقد حدثنا عاصم عن زر عن أبي بن كعب فذكر نحو حديث قتيبة الذي في الباب الماضي، وقد أخرجه البزار وفي آخره يقول: "إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما" قال البزار. ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأهما في الصلاة. قلت: هو في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر وزاد فيه ابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر "فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل" وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه المعوذتين وقال له: إذا أنت صليت فاقرأ بهما" وإسناده

(8/742)


صحيح ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فقرأ فيهما بالمعوذتين" وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الانتصار" وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئا إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، قال: فهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا. وهو تأويل حسن إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول إنهما ليستا من كتاب الله. نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمشى التأويل المذكور. وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيتهما، وإنما كان في صفة من صفاتهما انتهى. وغاية ما في هذا أنه أبهم ما بينه القاضي. ومن تأمل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع. وأما قول النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح، ففيه نظر، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل "المحلى": ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل. وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل. والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول. وقد قال ابن الصباغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة ولم يقل إنهم كفروا بذلك، وإنما لم يكفروا لأن الإجماع لم يكن يستقر. قال: ونحن الآن نكفر من جحدها. قال: وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوذتين، يعني أنه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك. وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال: إن قلنا إن كونهما من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرها، وإن قلنا إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة. وأجيب باحتمال أنه كان متوترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتوتر عند ابن مسعود فانحلت العقدة بعون الله تعالى. قوله: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قيل لي قل، فقلت. قال فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" القائل فنحن نقول إلخ هو أبي بن كعب. ووقع عند الطبراني في الأوسط أن ابن مسعود أيضا قال مثل ذلك، لكن المشهور أنه من قول أبي بن كعب فلعله انقلب على راوية. وليس في جواب أبي تصريح بالمراد، إلا أن في الإجماع على كونهما من القرآن غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الآحاد، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
" خاتمة " : اشتمل كتاب التفسير على خمسمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها، الموصول من ذلك أربعمائة حديث وخمسة وستون حديثا والبقية معلقة وما في معناه، المكرر من ذلك فيه وفيما مضى أربعمائة وثمانية وأربعون حديثا، والخالص منها مائة حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريج بعضها ولم يخرج أكثرها لكونها ليست ظاهرة في الرفع، والكثير منها من تفاسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهي ستة وستون حديثا: حديث أبي سعيد بن المعلى في الفاتحة، وحديث عمر "أبي أقرؤنا" وحديث ابن عباس "كذبني ابن آدم" وحديث أبي هريرة "لا تصدقوا أهل الكتاب" وحديث أنس "لم يبق ممن صلى القبلتين غيري" وحديث ابن عباس "كان في بني إسرائيل القصاص" وحديثه في تفسير {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، وحديث ابن

(8/743)


عمر في ذلك، وحديث البراء "لما نزل رمضان كانوا لا يقربون النساء" وحديث حذيفة في تفسير {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وحديث ابن عمر في {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، وحديث معقل بن يسار في نزول "ولا تعضلوهن" ، وحديث عثمان في نزول {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً }، وحديث ابن عباس في تفسيرها، وحديث ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها، وحديث ابن عباس عن عمر في {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} وحديث ابن عمر في {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} ، وحديث ابن عباس في {حَسْبُنَا اللَّهُ} ، وحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين" الحديث، ووقع في آخر حديث أسامة بن زيد في قصة عبد الله بن أبي، وحديث ابن عباس "كان المال للولد" وحديثه "كان إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته" وحديثه في {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وحديثه "كنت أنا وأمي من المستضعفين" ، وحديثه في نزول {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ، وحديثه في نزول {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} ، وحديث ابن مسعود في يونس بن متى، وحديث حذيفة في النفاق، وحديث عائشة في لغو اليمين، وحديثها عن أبيها في كفارة اليمين. وحديث جابر في نزول {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} ، وحديث ابن عمر في الأشربة، وحديث ابن عباس في نزول {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} ، وحديث الحر بن قيس مع عمر في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} ، وحديث ابن الزبير في تفسيرها، وحديث ابن عباس في تفسير "الصم البكم" ، وحديثه في تفسير {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} وحديث حذيفة "ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، وحديث ابن عباس في قصته مع ابن الزبير وفيه ذكر أبي بكر في الغار، وحديثه في تفسير {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ، وحديث ابن مسعود في {هَيْتَ لَكَ} و {بَلْ عَجِبْتَ} ، وحديث أبي هريرة في صفة مسترقي السمع، وحديث ابن عباس في تفسير "عضين" ، وحديث ابن مسعود في "الكهف ومريم من تلادى" ، وحديثه "كنا نقول للحي إذا كثروا" ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا} ، وحديث سعد بن أبي وقاص في "الأخسرين أعمالا" ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} ، وحديث عائشة في نزول {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}، وحديث ابن عباس في {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، وحديث أبي سعيد في الصلاة على النبي، وحديث ابن عباس في جواب "إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي" وحديث عائشة في تفسير {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} ، وحديث عبد الله بن مغفل في البول في المغتسل، وحديث ابن عباس في تفسير {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، وحديثه في تفسير "اللات" ، وحديث عائشة في نزول {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، وحديث أنس عن زيد بن أرقم في فضل الأنصار، وحديث ابن عباس في تفسير {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وحديثه في ذكر الأوثان التي كانت في قوم نوح، وحديثه في تفسير {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ، وحديثه في تفسير {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} ، وحديثه في تفسير {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} ، وحديث عائشة في تفسير ذكر الكوثر، وحديث ابن عباس في تفسيره بالخير الكثير، وحديث أبي بن كعب في المعوذتين. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم خمسمائة وثمانون أثرا تقدم بعضها في بدء الخلق وغيره، وهي قليلة، وقد بينت كل واحد منها في موضعها. ولله الحمد.
تم الجزء الثامن. ويليه – إن شاء الله – الجزء التاسع، وأوله "كتاب فضائل القرآن"

(8/744)


المجلد التاسع
كتاب فضائل القرآن
باب كيف نزل الوحي وأول مانزل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
66- كتاب فضائل القرآن".
1- باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْيُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُهَيْمِنُ الأَمِينُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ
4978، 4979- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ لَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ"
4980- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لِأُمِّ سَلَمَةَ مَنْ هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ فَلَمَّا قَامَ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ أَبِي: قُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ"
4981- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[الحديث 4981- طرفه في: 7274]
4982- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ"
4983- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلاَّ قَدْ تَرَكَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}

(9/3)


"كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ" ثبتت البسملة و "كتاب" لأبي ذر ووقع لغبره "فضائل القرآن" حسب "باب فضائل نزل الوحي وأول ما نزل" كذا لأبي ذر "نزل" بلفظ الفعل الماضي، ولغيره: "كيف قوله: "باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل" كذا لأبي ذر "نزل" بلفظ الفعل الماضي، ولغيره: "كيف نزول الوحي" بصيغة الجمع، وقد تقدم البحث في كيفية نزوله في حديث عائشة "إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي" في أول الصحيح، وكذا أول نزوله في حديثها "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة" لكن التعبير بأول ما نزل أخص من التعبير بأول ما بدئ لأن النزول يقتضي وجود من ينزل به، وأول ذلك مجيء الملك له عيانا مبلغا عن الله بما شاء من الوحي، وإيحاء الوحي أعم من أن يكون بإنزال أو بإلهام، سواء وقع ذلك في النوم أو في اليقظة. وأما انتزاع ذلك من أحاديث الباب فسأذكره إن شاء الله تعالى عند شرح كل حديث منها. قوله: "قال ابن عباس: المهيمن الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله" تقدم بيان هذا الأثر وذكر من وصله في تفسير سورة المائدة، وهو يتعلق بأصل الترجمة وهي فضائل القرآن، وتوجيه كلام ابن عباس أن القرآن تضمن تصديق جميع ما أنزل قبله، لأن الأحكام التي فيه إما مقررة لما سبق وإما ناسخة - وذلك يستدعي إثبات المنسوخ - وإما مجددة، وكل ذلك دال على تفضيل المجدد. ثم ذكر المصنف في الباب ستة أحاديث: الأول والثاني حديثا ابن عباس وعائشة معا.قوله: "عن شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن. قوله: "لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين" كذا للكشميهني، ولغيره: "وبالمدينة عشرا" بإبهام المعدود، وهذا ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم عاش ستين سنة إذا انضم إلى المشهور أنه بعث على رأس الأربعين، لكن يمكن أن يكون الراوي ألغى الكسر كما تقدم بيانه في الوفاة النبوية، فإن كل من روي عنه أنه عاش ستين أو أكثر من ثلاث وستين جاء عنه أنه عاش ثلاثا وستين، فالمعتمد أنه عاش ثلاثا وستين، وما يخالف ذلك إما أن يحمل على إلغاء الكسر في السنين، وإما على جبر الكسر في الشهور، وأما حديث الباب فيمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر، وهو أنه بعث على رأس الأربعين، فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثم فتر الوحي، ثم تواتر وتتابع، فكانت مدة تواتره وتتابعه بمكة عشر سنين من غير فترة، أو أنه على رأس الأربعين قرن به ميكائيل أو إسرافيل فكان يلقي إليه الكلمة أو الشيء مدة ثلاث سنين كما جاء من وجه مرسل، ثم قرن به جبريل فكان ينزل عليه بالقرآن مدة عشر سنين بمكة. ويؤخذ من هذا الحديث مما يتعلق بالترجمة أنه نزل مفرقا ولم ينزل جملة واحدة، ولعله أشار إلى ما أخرجه النسائي وأبو عبيد والحاكم من وجه آخر عن ابن عباس قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وقرأ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} الآية" وفي رواية للحاكم والبيهقي في الدلائل "فرق في السنين" وفي أخرى صحيحة لابن أبي شيبة والحاكم أيضا: "وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم: "وإسناده صحيح، ووقع في "المنهاج للحليمي" : أن جبريل كان ينزل منه من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى السماء الدنيا قدر ما ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة إلى ليلة القدر التي تليها، إلى أن أنزله كله في عشرين ليلة من عشرين سنة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وهذا أورده ابن الأنباري من طريق ضعيفة ومنقطعة أيضا وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقا هو الصحيح المعتمد وحكى الماوردي في تفسير ليلة القدر

(9/4)


أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وهذا أيضا غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة، كذا جزم به الشعبي فيما أخرجه عنه أبو عبيد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وسيأتي مزيد لذلك بعد ثلاثة أبواب. وقد تقدم في بدء الوحي أن أول نزول جبريل بالقرآن كان في شهر رمضان، وسيأتي في هذا الكتاب أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان، وفي ذلك حكمتان: إحداهما تعاهده، والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وأحكاما. وقد أخرج أحمد والبيهقي في "الشعب" عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت التوراة لست مضين من رمضان. والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان". وهذا كله مطابق لقوله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ولقوله تعالى :{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويستفاد من حديث الباب أن القرآن نزل كله بمكة والمدينة خاصة، وهو كذلك، لكن نزل كثير منه في غير الحرمين حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر حج أو عمرة أو غزاة، ولكن الاصطلاح أن كل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، سواء نزل في البلد حال الإقامة أو في غيرها حال السفر، وسيأتي مزيد لذلك في "باب تأليف القرآن". قوله: "حدثنا معتمر" هو ابن سليمان التيمي. قوله: "قال أنبئت أن جبريل" فاعل "قال: "هو أبو عثمان النهدي. قوله: "أنبئت" بضم أوله على البناء للمجهول، وقد عينه في آخر الحديث. ووقع عند مسلم في أوله زيادة حذفها البخاري عمدا لكونها موقوفة ولعدم تعلقها بالباب وهي: عن أبي عثمان عن سلمان قال: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق" الحديث موقوف، وقد أورده البرقاني في مستخرجه من طريق عاصم عن أبي عثمان عن سلمان مرفوعا. قوله: "فقال لأم سلمة: من هذا" ؟ فاعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، استفهم أم سلمة عن الذي كان يحدثه هل فطنت لكونه ملكا أو لا. قوله: "أو كما قال" يريد أن الراوي شك في اللفظ مع بقاء المعنى في ذهنه، وهذه الكلمة كثر استعمال المحدثين لها في مثل ذلك. قال الداودي. هذا السؤال إنما وقع بعد ذهاب جبريل، وظاهر سياق الحديث يخالفه. كذا قال، ولم يظهر لي ما ادعاه من الظهور، بل هو محتمل للأمرين. قوله: "قالت هذا دحية" أي ابن خليفة الكلبي الصحابي المشهور، وقد تقدم ذكره في حديث أبي سفيان الطويل في قصة هرقل أول الكتاب، وكان موصوفا بالجمال، وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم غالبا على صورته. قوله: "فلما قام" أي النبي صلى الله عليه وسلم أي قام ذاهبا إلى المسجد، وهذا يدل على أنه لم ينكر عليها ما ظنته من أنه دحية اكتفاء بما سيقع منه في الخطبة مما يوضح لها المقصود. قوله: "ما حسبته إلا إياه" هذا كلام أبي سلمة، وعند مسلم: "فقالت أم سلمة أيمن الله ما حسبته إلا إياه" وأيمن من حروف القسم، وفيها لغات قد تقدم بيانها. قوله: "حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بخبر جبريل أو كما قال" في رواية مسلم: "يخبرنا خبرنا" وهو تصحيف نبه عليه عياض، قال النووي: وهو الموجود في نسخ بلادنا. قلت: ولم أر هذا الحديث في شيء من المسانيد إلا من هذا الطريق فهو من غرائب الصحيح. ولم أقف في شيء من الروايات على بيان هذا الخبر في أي قصة، ويحتمل أن يكون في قصة بني قريظة، فقد وقع في "دلائل البيهقي" وفي

(9/5)


"الغيلانيات" من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه "عن عائشة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يكلم رجلا وهو راكب، فلما دخل قلت: من هذا الذي كنت تكلمه، قال: بمن تشبهينه؟ قلت: بدحية بن خليفة، قال: ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة". قوله: "قال أبي" بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة، والقائل هو معتمر بن سليمان، وقوله: "فقلت لأبي عثمان، أي النهدي الذي حدثه بالحديث، وقوله: "ممن سمعت هذا؟ قال من أسامة بن زيد" فيه الاستفسار عن اسم من أبهم من الرواة ولو كان الذي أبهم ثقة معتمدا، وفائدته احتمال أن لا يكون عند السامع كذلك، ففي بيانه رفع لهذا الاحتمال، قال عياض وغيره: وفي هذا الحديث أن للملك أن يتصور على صورة الآدمي. وأن له هو في ذاته صورة لا يستطيع الآدمي أن يراه فيها لضعف القوى البشرية إلا من يشاء الله أن يقويه على ذلك، ولهذا كان غالب ما يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل كما تقدم في بدء الوحي "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" ولم ير جبريل على صورته التي خلق عليها إلا مرتين كما ثبت في الصحيحين. ومن هنا يتبين وجه دخول حديث أسامة هذا في هذا الباب. قالوا وفيه فضيلة لأم سلمة ولدحية، وفيه نظر، لأن أكثر الصحابة رأوا جبريل في صورة الرجل لما جاء فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، ولأن اتفاق الشبه لا يستلزم إثبات فضيلة معنوية، وغايته أن يكون له مزية في حسن الصورة حسب، وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن قطن حين قال إن الدجال أشبه الناس به فقال: "أيضرني شبهه؟ قال: لا" قوله: "عن أبيه" هو أبو سعيد المقبري كيسان، وقد وقع سعيد المقبري الكثير من أبي هريرة وسمع من أبيه عن أبي هريرة، ووقع الأمران في الصحيحين، وهو دال على تثبت سعيد وتحريه. قوله: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطى" هذا دال على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة. من الآيات" أي المعجزات الخوارق. قوله: "ما مثله آمن عليه البشر" ما موصولة وقعت مفعولا ثانيا لأعطى، ومثله مبتدأ، وآمن خبره، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه، والمعنى أن كل نبي أعطى آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها، وعليه بمعنى اللام أو الباء الموحدة، والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يجحد فيعاند، كما قال الله تعالى :{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً} وقال الطيبي: الراجع إلى الموصول ضمير المجرور في عليه وهو حال، أي مغلوبا عليه في التحدي، والمراد بالآيات المعجزات وموقع المثل موقعه من قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} أي على صفته من البيان وعلو الطبقة في البلاغة. "تنبيه": قوله: "آمن" وقع في رواية حكاها ابن قرقول "أومن" بضم الهمز ثم واو. وسيأتي في كتاب الاعتصام. قال وكتبها بعضهم. بالياء الأخيرة بدل الواو. وفي رواية القابسي "أمن" بغير مد من الأمان، والأول هو المعروف. قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي" أي إن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل علي وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره، لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه كما كان السحر فاشيا عند فرعون فجاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره وكذلك إحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لكون

(9/6)


الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم بما لم تصل قدرتهم إليه، ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك. وقيل المراد أن القرآن ليس له مثل لا صورة ولا حقيقة، بخلاف غيره من المعجزات فإنها لا تخلو عن مثل. وقيل المراد أن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله صورة أو حقيقة، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". وقيل المراد أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل، وإنما هو كلام معجز لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيل منه التشبيه به، بخلاف غيره فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يقدر الساحر أن يخيل شبهه فيحتاج من يميز بينهما إلى نظر، والنظر عرضة للخطأ، فقد يخطئ الناظر فيظن تساويهما. وقيل المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وهذا أقوى المحتملات، وتكميله في الذي بعده. وقيل المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا. قلت: ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد؛ فإن محصلها لا ينافي بعضه بعضا. قوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رتب هذا الكلام على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة لكثرة فائدته وعموم نفعه، لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون، فعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجوى المذكورة على ذلك، وهذه الرجوى قد تحققت، فإنه أكثر الأنبياء تبعا، وسيأتي بيان ذلك واضحا في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وتعلق هذا الحديث بالترجمة من جهة أن القرآن إنما نزل بالوحي الذي يأتي به الملك لا بالمنام ولا بالإلهام. وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء: أحدها حسن تأليفه والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة، ثانيها صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظما ونثرا حتى حارت فيه عقولهم ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك وتقريعه لهم على العجز عنه، ثالثها ما اشتمل عليه من الإخبار عما مضى من أحوال الأمم السالفة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه بعضه إلا النادر من أهل الكتاب، رابعها الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبوي وبعضها بعده. ومن غير هذه الأربعة آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا أنهم لا يفعلونها فعجزوا عنها مع توفر دواعيهم على تكذيبه، كتمني اليهود الموت، ومنها الروعة التي تحصل لسامعه، ومنها أن قارئه لا يمل من ترداده وسامعه لا يمجه ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طراوة ولذاذة. ومنها أنه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها ولا تنتهي فوائدها. ا ه ملخصا من كلام عياض، وغيره. قوله: "حدثنا عمرو بن محمد" هو الناقد، وبذلك جزم أبو نعيم في "المستخرج". وكذا أخرجه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وغيره عن يعقوب بن إبراهيم. ووقع في الأطراف لخلف "حدثنا عمرو بن علي الفلاس" ورأيت في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري "حدثنا عمرو بن خالد" وأظنه تصحيفا، والأول هو المعتمد، فإن الثلاثة وإن كانوا

(9/7)


معروفين من شيوخ البخاري، لكن الناقد أخص من غيره بالرواية عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ورواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب من رواية الأقران، بل صالح بن كيسان أكبر سنا من ابن شهاب وأقدم سماعا، وإبراهيم بن سعد قد سمع من ابن شهاب كما سيأتي تصريحه بتحديثه له في الحديث الآتي بعد باب واحد. قوله: "إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "إن الله تابع على رسوله الوحي قبل وفاته" أي أكثر إنزاله قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، والسر في ذلك أن الوفود بعد فتح مكة كثروا وكثر سؤالهم عن الأحكام فكثر النزول بسبب ذلك. ووقع لي سبب تحديث أنس بذلك من رواية الدراوردي عن الإمامي عن الزهري "سألت أنس بن مالك: هل فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟ قال: أكثر ما كان وأجمه" أورده ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة محمد بن سعيد بن أبي مريم. قوله: "حتى توفاه أكثر ما كان الوحي" أي الزمان الذي وقعت فيه وفاته كان نزول الوحي فيه أكثر من غيره من الأزمنة. قوله: "ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد" فيه إظهار ما تضمنته الغاية في قوله: "حتى توفاه الله"، وهذا الذي وقع أخيرا على خلاف ما وقع أولا، فإن الوحي في أول البعثة فتر فترة ثم كثر، وفي أثناء النزول بمكة لم ينزل من السور الطوال إلا القليل، مما بعد الهجرة نزلت السور الطوال المشتملة على غالب الأحكام، إلا أنه كان الزمن الأخير من الحياة النبوية أكثر الأزمنة نزولا بالسبب المتقدم، وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة لتضمنه الإشارة إلى كيفية النزول. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، وقد تقدم شرح الحديث قريبا في سورة والضحى، ووجه إيراده في هذا الباب الإشارة إلى أن تأخير النزول أحيانا إنما كان يقع لحكمة تقتضي ذلك لا لقصد تركه أصلا، فكان نزوله على أنحاء شتى: تارة يتتابع، وتارة يتراخى. وفي إنزاله مفرقا وجوه من الحكمة: منها تسهيل حفظه لأنه لو نزل جملة واحدة على أمة أمية لا يقرأ غالبهم ولا يكتب لشق عليهم حفظه. وأشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله ردا على الكفار {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ - أي أنزلناه مفرقا - لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وبقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}. ومنها ما يستلزمه من الشرف له والعناية به لكثرة تردد رسول ربه إليه يعلمه بأحكام ما يقع له وأجوبة ما يسأل عنه من الأحكام والحوادث. ومنها أنه أنزل على سبعة أحرف، فناسب أن ينزل مفرقا، إذ لو نزل دفعة واحدة لشق بيانها عادة. ومنها أن الله قدر أن ينسخ من أحكامه ما شاء، فكان إنزاله مفرقا لينفصل الناسخ من المنسوخ أولى من إنزالهما معا. وقد ضبط النقلة ترتيب نزول السور كما سيأتي في "باب تأليف القرآن"ولم يضبطوا من ترتيب نزول الآيات إلا قليلا وقد تقدم في تفسير { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أنها أول سورة نزلت ومع ذلك فنزل من أولها أولا خمس آيات ثم نزل باقيها بعد ذلك وكذلك سورة المدثر التي نزلت بعدها نزل أولها أولا ثم نزل سائرها بعد وأوضح من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وصححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس عن عثمان قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الآيات فيقول :ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(9/8)


2- باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
4984- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ

(9/8)


3- باب جَمْعِ الْقُرْآنِ
4986- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا

(9/10)


4- باب كَاتِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4989- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنَ السَّبَّاقِ قَالَ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبِعْ الْقُرْآنَ فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} إِلَى آخِرِهِ"
4990- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوْ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
قوله: "باب كاتب النبي صلى الله عليه وسلم "قال ابن كثير: ترجم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر سوى حديث زيد بن ثابت وهذا عجيب، فكأنه لم يقع له على شرطه غير هذا. ثم أشار إلى أنه استوفى بيان ذلك في السيرة النبوية. قلت: لم أقف في شيء من النسخ إلا بلفظ: "كاتب" بالإفراد وهو مطابق لحديث الباب، نعم قد كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة غير زيد بن ثابت، أما بمكة فلجميع ما نزل بها لأن زيد بن ثابت إنما أسلم بعد الهجرة، وأما بالمدينة فأكثر ما كان يكتب زيد، ولكثرة تعاطيه ذلك أطلق عليه الكاتب بلام العهد كما في حديث البراء بن عازب ثاني حديثي الباب، ولهذا قال له أبو بكر: إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان زيد بن ثابت ربما غاب فكتب الوحي غيره. وقد كتب له قبل زيد ابن ثابت أبي بن كعب وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وممن كتب له في الجملة الخلفاء الأربعة والزبير بن العوام وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية وحنظلة بن الربيع الأسدي ومعيقيب بن أبي فاطمة وعبد الله بن الأرقم الزهري وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن رواحة في آخرين، وروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عباس عن عثمان بن عفان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا" الحديث. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: الأول حديث زيد بن ثابت في قصته مع أبي بكر في جمع القرآن، أورد منه طرفا، وغرضه منه قول أبي بكر لزيد "إنك كنت تكتب الوحي" وقد مضى البحث فيه مستوفى في الباب الذي قبله. الثاني حديث البراء وهو ابن عازب "لما نزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدا" وقد تقدم في تفسير سورة النساء بلفظ: "ادع لي فلانا" من رواية إسرائيل أيضا. وفي رواية غيره: "ادع لي زيدا" أيضا وتقدمت

(9/22)


القصة هناك من حديث زيد بن ثابت نفسه. ووقع هنا فنزلت مكانها {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله غير أولي الضرر} هكذا وقع بتأخير لفظ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} والذي في التلاوة {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قبل {والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقد تقدم على الصواب من وجه آخر عن إسرائيل.

(9/23)


5- باب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
4991- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"
4992- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
قوله: "باب أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة، فإن قيل فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه، فالجواب أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوهما. وقيل ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل المراد التسهيل والتيسير، ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعين في العشرات والسبعمائة في المئين ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. وذكر القرطبي عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولا ولم يذكر القرطبي منها سوى خمسة. وقال المنذري: أكثرها غير مختار، ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من صحيحه، وسأذكر ما انتهى إلي من أقوال العلماء في ذلك مع بيان المقبول منها والمردود إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث ابن عباس. قوله: "حدثنا سعيد بن عفير" بالمهملة والفاء مصعر، وهو سعيد بن كثير بن

(9/23)


عفير ينسب إلى جده، وهو من حفاظ المصريين وثقاتهم. قوله: "أن ابن عباس رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هذا مما لم يصرح ابن عباس بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه سمعه من أبي بن كعب، فقد أخرج النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب نحوه، والحديث مشهور عن أبي أخرجه مسلم وغيره من حديثه كما سأذكره. قوله: "أقرأني جبريل على حرف" في أول حديث النسائي عن أبي بن كعب "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فبينما أنا في المسجد إذ سمعت رجلا يقرؤها يخالف قراءتي" الحديث. ولمسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب قال: "كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما فقرأ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما قال فسقط في نفسي ولا إذ كنت في الجاهلية، فضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا، فقال لي يا أبي، أرسل إلى أن اقرأ القرآن على حرف" الحديث. وعند الطبري في هذا الحديث: "فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي، فضرب في صدري وقال: اللهم اخسأ عنه الشيطان". وعند الطبري من وجه آخر عن أبي أن ذلك وقع بينه وبين ابن مسعود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلاكما محسن قال أبي فقلت: ما كلانا أحسن ولا أجمل، قال فضرب في صدري" الحديث. وبين مسلم من وجه آخر عن أبي ليلى عن أبي المكان الذي نزل فيه ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فآتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف الحديث. وبين الطبري من هذه الطريق أن السورة المذكورة سورة النحل. قوله: "فراجعته" في رواية مسلم عن أبي "فرددت إليه أن هون على أمتي " وفي رواية له "إن أمتي لا تطيق ذلك". ولأبي داود من وجه آخر عن أبي "فقال لي الملك الذي معي: قل على حرفين، حتى بلغت سبعة أحرف". وفي رواية للنسائي من طريق أنس عن أبي بن كعب "أن جبريل وميكائيل أتياني فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل استزده" ولأحمد من حديث أبي بكرة نحوه. قوله: "فلم أزل أستزيده ويزيدني" في حديث أبي "ثم أتاه الثانية فقال على حرفين" ثم أتاه الثالثة فقال على ثلاثة أحرف، ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا" وفي رواية للطبري "على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة" وفي أخرى له "من قرأ حرفا منها فهو كما قرأ: {وفي رواية أبي داود "ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب" وللترمذي من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط" الحديث. وفي حديث أبي بكرة عند أحمد "كلها كاف شاف كقولك هلم وتعال ما لم تختم" الحديث. وهذه الأحاديث تقوى أن المراد بالأحرف اللغات أو القراءات، أي أنزل القرآن على سبع لغات أو قراءات، والأحرف جمع حرف مثل فلس وأفلس، فعلى الأول يكون المعنى على سبعة أوجه من اللغات لأن أحد معاني الحرف في اللغة الوجه كقوله تعال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وعلى الثاني يكون المراد من إطلاق الحرف على الكلمة مجازا لكونه بعضها. قوله: "إن المسور بن مخرمة" أي ابن نوفل الزهري، كذا رواه عقيل ويونس وشعيب وابن أخي الزهري عن الزهري، واقتصر مالك عنه على عروة فلم يذكر المسور في إسناده، واقتصر عبد

(9/24)


الأعلى عن معمر عن الزهري فيما أخرجه النسائي عن المسور بن مخرمة فلم يذكر عبد الرحمن، وذكره عبد الرزاق عن معمر أخرجه الترمذي، وأخرجه مسلم من طريقه لكن أحال به قال: كرواية يونس وكأنه أخرجه من طريق ابن وهب عن يونس فذكرهما، وذكره المصنف في المحاربة عن الليث عن يونس تعليقا. قوله: "وعبد الرحمن بن عبد" هو بالتنوين غير مضاف لشيء. قوله: "القاري" بتشديد الياء التحتانية نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة، والقارة لقب واسمه أثيع بالمثلثة مصغر ابن مليح بالتصغير وآخره مهملة ابن الهون بضم الهاء ابن خزيمة. وقيل بل القارة هو الديش بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها معجمة من ذرية أثيع المذكور، وليس هو منسوبا إلى القراءة، وكانوا قد حالفوا بني زهرة وسكنوا معهم بالمدينة بعد الإسلام، وكان عبد الرحمن من كبار التابعين، وقد ذكر في الصحابة لكونه أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، أخرج ذلك البغوي في مسند الصحابة بإسناد لا بأس به، ومات سنة ثمان وثمانين في قول الأكثر وقيل سنة ثمانين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في الأشخاص، وله عنده حديث آخر عن عمر في الصيام. قوله: "سمعت هشام بن حكيم" أي ابن حزام الأسدي، له ولأبيه صحبة، وكان إسلامهما يوم الفتح، وكان لهشام فضل، ومات قبل أبيه، وليس له في البخاري رواية. وأخرج له مسلم حديثا واحدا مرفوعا من رواية عروة عنه، وهذا يدل على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعلي، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر أو عمر. وأخرج ابن سعد عن معن بن عيسى عن مالك عن الزهري: كان هشام بن حكيم يأمر بالمعروف، فكان عمر يقول إذا بلغه الشيء: أما ما عشت أنا وهشام فلا يكون ذلك. قوله: "يقرأ سورة الفرقان" كذا للجميع، وكذا في سائر طرق الحديث في المسانيد والجوامع، وذكر بعض الشراح أنه وقع عند الخطيب في "المبهمات" سورة الأحزاب بدل الفرقان، وهو غلط من النسخة التي وقف عليها، فإن الذي في كتاب الخطيب الفرقان كما في رواية غيره. قوله: "فكدت أساوره" بالسين المهملة أي آخذ برأسه قاله الجرجاني. وقال غيره: "أواثبه" وهو أشبه، قال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
أي واثبتني، وفي بانت سعاد:
إذا يساور قرنا لا يحل له
أن يترك القرن إلا وهو مخذول
ووقع عند الكشميهني والقابسي في رواية شعيب الآتية بعد أبواب "أثاوره" بالمثلثة عوض المهملة، قال عياض: والمعروف الأول. قلت: لكن معناها أيضا صحيح، ووقع في رواية مالك "أن أعجل عليه". قوله: "فتصبرت" في رواية مالك "ثم أمهلته حتى انصرف" أي من الصلاة، لقوله في هذه الرواية: "حتى سلم". قوله: "فلببته بردائه" بفتح اللام وموحدتين الأولى مشددة والثانية ساكنة، أي جمعت عليه ثيابه عند لبته لئلا يتفلت مني. وكان عمر شديدا في الأمر بالمعروف، وفعل ذلك عن اجتهاد منه لظنه أن هشاما خالف الصواب، ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال له أرسله. قوله: "كذبت" فيه إطلاق ذلك على غلبة الظن، أو المراد بقوله كذبت أي أخطأت لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ. قوله: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها" هذا قاله عمر استدلالا على ما ذهب إليه من تخطئة هشام، وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته، بخلاف

(9/25)


هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه فإنه كان قد أتقن ما سمع، وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديما ثم لم يسمع ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشاما من مسلمة الفتح فكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلا في هذه الوقعة. قوله: "فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "كأنه لما لببه بردائه صار يجره به، فلهذا صار قائدا له، ولولا ذلك لكان يسوقه، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما وصلا إليه: أرسله. قوله: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" هذا أورده النبي صلى الله عليه وسلم تطمينا لعمر لئلا ينكر تصويب الشيئين المختلفين، وقد وقع عند الطبري من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال: "قرأ رجل فغير عليه عمر، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: ألم تقرئني يا رسول الله؟ قال: بلى، قال فوقع في صدر عمر شيء عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، قال فضرب في صدره وقال: أبعد شيطانا. قالها ثلاثا. ثم قال: يا عمر، القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة" ومن طريق ابن عمر "سمع عمر رجلا يقرأ: "فذكر نحوه ولم يذكر" فوقع في صدر عمر "لكن قال في آخره: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف". ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام، منها لأبي ابن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل كما تقدم، ومنها ما أخرجه أحمد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو "أن رجلا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو إنما هي كذا وكذا، فذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا فيه:" إسناده حسن، ولأحمد أيضا وأبي عبيد والطبري من حديث أبي جهم بن الصمة "أن رجلين اختلفا في آية من القرآن كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكر نحو حديث عمرو بن العاص. وللطبري والطبراني عن زيد بن أرقم قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعلى إلى جنبه - فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم فإنه حسن جميل" ولابن حبان والحاكم من حديث ابن مسعود "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم، فرحت إلى المسجد فقلت لرجل: اقرأها، فإذا هو يقرأ حروفا ما أقرؤها، فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، فتغير وجهه وقال: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، ثم أسر إلى علي شيئا، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم. قال فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه" وأصل هذا سيأتي في آخر حديث في كتاب فضائل القرآن. وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة بلغها أبو حاتم بن حبان إلى خمسة وثلاثين قولا. وقال المنذري: أكثرها غير مختار. قوله :{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي من المنزل. وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه للتيسير على القارئ، وهذا يقوي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش وكذلك عمر، ومع ذلك فقد اختلفت قراءتهما. نبه على ذلك ابن عبد البر، ونقل عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة. وذهب أبو عبيد وآخرون إلى أن المراد، اختلاف اللغات، وهو اختيار ابن عطية، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات. منها خمس بلغة

(9/26)


العجز من هوازن قال: والعجز سعد ابن بكر وجثم ابن بكر ونصر بن معاوية وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن. وقال لهم عليا هوازن، ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم. وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش، وكعب خزاعة قيل وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم. وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكره ابن قتيبة واحتج بقوله تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فعلى هذا فتكون اللغات السبع في بطون قريش، وبذلك جزم أبو علي الأهوازي وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بلى اللغات السبع مفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم. قال: وبعض اللغات أسعد بها من بعض وأكثر نصيبا وقيل: نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر نزل القرآن بلغة مضر. وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات. ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد كل ذلك مع اتفاق المعنى. وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة كما تقدم، وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا منهم. قلت: وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي إن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعا له، ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته "حتى حين" أي "حتى حين" وكتب إليه: إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل. وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة. قال ابن عبد البر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز. قال: وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل، قال أبو شامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما "نزلا بلسان قريش" أن ذلك كان أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرءوه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين. فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب به عمر إلى ابن مسعود لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة، فلتكن بلغة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما العربي المجبول على لغته فلو كلف قراءته بلغة قريش لعثر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته، ويشير إلى هذا قوله في حديث أبي كما تقدم "هون على أمتي" وقوله: "إن أمتي لا تطيق ذلك" ، وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالبا، وليس المراد كما تقدم أن كل لفظة منه تقرأ على سبعة أوجه قال ابن عبد البر: وهذا مجمع عليه، بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل

(9/27)


"عبد الطاغوت". وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، ورد عليه ابن الأنباري بمثل "عبد الطاغوت، ولا تقل لهما أف، وجبريل" ويدل على ما قرره أنه أنزل أولا بلسان قريش ثم سهل على الأمة أن يقرءوه بغير لسان قريش وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة كما تقدم في حديث أبي بن كعب "أن جبريل لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أضاة بني غفار فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك" الحديث أخرجه مسلم، وأضاة بني غفار هي بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخره تاء تأنيث، هو مستنقع الماء كالغدير، وجمعه أضا كعصا، وقيل بالمد والهمز مثل إناء، وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بني غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء لأنهم نزلوا عنده. وحاصل ما ذهب إليه هؤلاء أن معنى قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي أنزل موسعا على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه، كأنه قال أنزل على هذا الشرط أو على هذه التوسعة وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرءوه على حرف واحد لشق عليهم كما تقدم. قال ابن قتيبة في أول "تفسير المشكل" له: كان من تيسير الله أن أمر نبيه أن يقرأ كل قوم بلغتهم، فالهذلي يقرأ حتى حين يريد "حتى حين" والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز، قال ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته وما جرى عليه لسانه طفلا وناشئا وكهلا لشق عليه غاية المشقة، فيسر عليهم ذلك بمنه، ولو كان المراد أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه لقال مثلا أنزل سبعة أحرف، وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه أو وجهان أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة. وقال ابن عبد البر: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات، لما تقدم من اختلاف هشام وعمر ولغتهما واحدة، قالوا: وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل وتعال وهلم. ثم ساق الأحاديث الماضية الدالة على ذلك. قلت: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ مع اتفاق المعنى مع انحصار ذلك في سبع لغات، لكن لاختلاف القولين فائدة أخرى، وهي ما نبه عليه أبو عمرو الداني أن الأحرف السبعة ليست متفرقة في القرآن كلها ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلها، وهذا إنما يتأتى على القول بأن المراد بالأحرف اللغات، وأما قول من يقول بالقول الآخر فيتأتى ذلك في ختمة واحدة بلا ريب، بل يمكن على ذلك القول أن تصل الأوجه السبعة في بعض القرآن كما تقدم. وقد حمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور على الوجوه التي يقع بها التغاير في سبعة أشياء: الأول ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} بنصب الراء ورفعها. الثاني ما يتغير بتغير الفعل مثل {بعد بين أسفارنا} و {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} بصيغة الطلب والفعل الماضي. الثالث ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل "ثم ننشرها بالراء والزاي". الرابع ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} في قراءة على وطلع منضود. الخامس ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} في قراءة أبي بكر الصديق وطلحة بن مصرف وزين العابدين {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ}. السادس ما يتغير بزيادة أو نقصان كما تقدم في التفسير عن ابن مسعود وأبي الدرداء {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى -والذكر والأنثى} هذا في النقصان، وأما في الزيادة فكما تقدم في تفسير {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في

(9/28)


حديث ابن عباس "وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين". السابع ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل "العهن المنفوش" في قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير كالصوف المنفوش، وهذا وجه حسن لكن استبعده قاسم بن ثابت في "الدلائل" لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها. قال: وأما ما وجد من الحروف المتباينة المخرج المتفقة الصورة مثل "ننشرها وننشرها" فإن السبب في ذلك تقارب معانيها، واتفق تشابه صورتها في الخط. قلت: ولا يلزم من ذلك توهين ما ذهب إليه ابن قتيبة، لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقا، وإنما اطلع عليه بالاستقراء، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يخفى. وقال أبو الفضل الرازي: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف: الأول اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع أو تذكير وتأنيث. الثاني اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر، الثالث وجوه الإعراب، الرابع النقص والزيادة، الخامس التقديم والتأخير، السادس الإبدال، السابع اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار ونحو ذلك. قلت: وقد أخذ كلام ابن قتيبة ونقحه. وذهب قوم إلى أن السبعة الأحرف سبعة أصناف من الكلام، واحتجوا بحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا" أخرجه أبو عبيد وغيره، قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يثبت، لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ولم يلق ابن مسعود، وقد رده قوم من أهل النظر منهم أبو جعفر أحمد بن أبي، عمران. قلت: وأطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الرد على من قال به، وحاصله أنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة. وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان والحاكم، وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلا وقال هذا مرسل جيد، ثم قال: إن صح فمعنى قوله في هذا الحديث: "سبعة أحرف" أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد أن الكلمة الواحدة تقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تهوينا وتيسيرا، والشيء الواحد لا يكون حراما وحلالا في حالة واحدة. وقال أبو علي الأهوازي وأبو العلاء الهمداني: قوله زاجر وآمر استئناف كلام آخر، أي هو زاجر أي القرآن؛ ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد. ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه زاجرا وآمرا إلخ بالنصب أي نزل على هذه الصفة من الأبواب السبعة. وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف، أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله الله على هذه الأصناف لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب. قلت: ومما يوضح أن قوله زاجر وآمر إلخ ليس تفسيرا للأحرف السبعة ما وقع في مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس الأول من حديثي هذا الباب: قال ابن شهاب بلغني أن تلك الأحرف السبعة إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام، قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف

(9/29)


السبعة التي نزل بها القرآن هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيه إلا حرف واحد منها، مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني وهو المعتمد. وقد أخرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن أبي الطاهر بن أبي السرح قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل هلم وتعال وأقبل، أي ذلك قلت أجزأك. قال وقال لي ابن وهب مثله. والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي "تجري من تحتها الأنهار" في آخر براءة وفي غيره بحذف "من" وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة بعضها دون بعض، وعدة هاءات وعدة لامات ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين أو أعلم بذلك شخصا واحد وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلا؛ فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضا اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة، لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب بل على سبيل الرخصة. قلت: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "فاقرءوا ما تيسر منه" وقد قرر الطبري ذلك تقريرا أطنب فيه ووهى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة منهم أبو العباس بن عمار في "شرح الهداية" وقال: أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها، وضابطه ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه مثل "أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" ومثل "إذا جاء فتح الله والنصر" فهو من تلك القراءات التي تركت إن صح السند بها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآنا، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التأويل الذي قرن إلى التنزيل فصار يظن أنه منه. وقال البغوي في "شرح السنة" : المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف، فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم وقال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل. وقال ابن عمار أيضا: لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة، ووقع له أيضا في اقتصاره عن كل إمام على راويين أنه صار من سمع قراءة راو ثالث غيرهما أبطلها وقد تكون هي أشهر وأصح وأظهر وربما بالغ من لا يفهم فخطأ أو كفر. وقال أبو بكر بن العربي: ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي جعفر وشيبة والأعمش ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم. وكذا قال غير واحد منهم مكي بن أبي طالب وأبو العلاء الهمداني وغيرهم من أئمة القراء. وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويا، ثم ساق أسماءهم. واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس فكيف

(9/30)


يقتصر على السوسي والدوري وليس لهما مزية على غيرهما لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان والاشتراك في الأخذ، قال: ولا أعرف لهذا سببا إلا ما قضى من نقص العلم فاقتصر هؤلاء على السبعة ثم اقتصر من بعدهم من السبعة على النزر اليسير. وقال أبو شامة: لم يرد ابن مجاهد ما نسب إليه، بل أخطأ من نسب إليه ذلك، وقد بالغ أبو طاهر بن أبي هاشم صاحبه في الرد على من نسب إليه أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هشام: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، قال فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط، امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة. وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. ثم ساق نحو ما تقدم قال: وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين - كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي، جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق، والقاضي - قد ذكروا أضعاف هؤلاء قلت: اقتصر أبو عبيدة في كتابه على خمسة عشر رجلا من كل مصر ثلاثة أنفس فذكر من مكة ابن كثير وابن محيصن، وحميدا الأعرج ومن أهل المدينة: أبا جعفر وشيبة ونافعا ومن أهل البصرة، أبا عمرو، وعيسى بن عمر، وعبد الله بن أبي إسحاق، ومن أهل الكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصما، والأعمش ومن أهل الشام: عبد الله بن عامر، ويحيى بن الحارث. قال وذهب عني اسم الثالث ولم يذكر في الكوفيين حمزة، ولا الكسائي بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة ولم يجتمع عليه جماعتهم قال: وأما الكسائي فكان يتخير القراءات. فأخذ من قراءة الكوفيين بعضا وترك بعضا وقال بعد أن ساق أسماء من نقلت عنه القراءة من الصحابة والتابعين. فهؤلاء هم الذين يحكي عنهم عظم القراءة وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث، قال: ثم قام بعدهم بالقراءات قوم ليست لهم أسنانهم ولا تقدمهم غير أنهم تجردوا للقراءة واشتدت عنايتهم بها وطلبهم لها حتى صاروا بذلك أئمة يقتدي الناس بهم فيها فذكرهم، وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلا ولم يذكر فيهم ابن عامر ولا حمزة ولا الكسائي، وذكر الطبري في كتابه اثنين وعشرين رجلا، قال مكي: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوف على قراءة حمزة وعاصم وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك. فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدرا ومثلهم أكثر من عددهم أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا - مما يوافق خط المصحف - على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إماما واحدا، ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي

(9/31)


جعفر وشيبة وغيرهم، قال وممن اختار من القراءات كما اختار الكسائي أبو عبيد وأبو حاتم والمفضل وأبو جعفر الطبري وغيرهم وذلك واضح في تصانيفهم في ذلك، وقد صنف ابن جبير المكي وكان قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال إنه وجه بسبعة هذه الخمسة ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى البحرين لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرا، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف فاستبدلوا من غير البحرين واليمن قارئين يكمل بهما العدد فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد الخبر بها وهو أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة ولم يكن له فطنة فظن أن المراد بالقراءات السبع الأحرف السبعة، ولا سيما وقد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة فقالوا: قرأ بحرف نافع بحرف ابن كثير، فتأكد الظن بذلك، وليس الأمر كما ظنه، والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع ويستقيم وجهه في العربية ويوافق خط المصحف، وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه ونعني بالاتفاق كما قال مكي بن أبي طالب ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم، قال وربما أرادوا بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين، قال: وأصح القراءات سندا نافع وعاصم، وأفصحها أبو عمرو والكسائي. وقال ابن السمعاني1 في "الشافي" : التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك قال: وقد صنف غيره في السبع أيضا فذكر شيئا كثيرا من الروايات عنهم غير ما في كتابه، فلم يقل أحد إنه لا تجوز القراءة بذلك لخلو ذلك المصحف عنه. وقال أبو الفضل الرازي في "اللوائح" بعد أن ذكر الشبهة التي من أجلها ظن الأغبياء أن أحرف الأئمة السبعة هي المشار إليها في الحديث وأن الأئمة بعد ابن مجاهد جعلوا القراءات ثمانية أو عشرة لأجل ذلك قال: واقتفيت أثرهم لأجل ذلك وأقول: لو اختار إمام من أئمة القراء حروفا وجرد طريقا في القراءة بشرط الاختيار لم يكن ذلك خارجا عن الأحرف السبعة. وقال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة فعلى هذا الأصل بنى قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ قلت: وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل "التيسير" والشاطبية، وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك كأبي شامة وأبي حيان، وآخر من صرح بذلك السبكي فقال في "شرح المنهاج" عند الكلام على القراءة بالشاذ صرح كثير من الفقهاء بأن ما عدا السبعة شاذ توهما منه انحصار المشهور فيها، والحق أن الخارج عن السبعة على قسمين: الأول ما يخالف رسم المصحف فلا شك في أنه ليس بقرآن، والثاني ما لا يخالف رسم المصحف وهو على قسمين أيضا: الأول ما ورد من طريق غريبة فهذا ملحق بالأول، والثاني ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديما وحديثا فهذا لا وجه للمنع منه كقراءة يعقوب وأبي جعفر وغيرهما. ثم نقل كلام البغوي وقال: هو أولى من يعتمد عليه في ذلك، فإنه فقيه محدث مقرئ. ثم قال: وهذا التفصيل بعينه وارد في الروايات عن السبعة، فإن عنهم شيئا كثيرا من الشواذ وهو الذي لم يأت إلا
ـــــــ
1 في نسخة أخرى: قال إسماعيل الخ.

(9/32)


من طريق غريبة وإن اشتهرت القراءة من ذلك المنفرد. وكذا قال أبو شامة. ونحن وإن قلنا إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت وعنهم نقلت فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة: ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه. "فصل" لم أقف في شيء من طرق حديث عمر على تعيين الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. وقد زعم بعضهم فيما حكاه ابن التين أنه ليس في هذه السورة عند القراء خلاف فيما ينقص من خط المصحف سوى قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} وقرئ "سرجا" جمع سراج، قال: وباقي ما فيها من الخلاف لا يخالف خط المصنف. قلت: وقد تتبع أبو عمر بن عبد البر ما اختلف فيه القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، فأوردته ملخصا وزدت عليه قدر ما ذكره وزيادة على ذلك، وفيه تعقب على ما حكاه ابن التين في سبعة مواضع أو أكثر، قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} قرأ أبو الجوزاء وأبو السوار "أنزل" بألف. قوله: {عَلَى عَبْدِهِ} قرأ عبد الله بن الزبير وعاصم الجحدري "على عباده" ومعاذ أبو حليمة وأبو نهيك "على عبيده". قوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} قرأ طلحة بن مصرف ورويت عن إبراهيم النخعي بضم المثناة الأولى وكسر الثانية مبنيا للمفعول، وإذا ابتدأ ضم أوله. قوله: {مَلَكٌ فَيَكُونَ} قرأ عاصم الجحدري وأبو المتوكل ويحيى بن يعمر "فيكون" بضم النون. قوله: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} قرأ الأعمش وأبو حصين "يكون" بالتحتانية. قوله: {يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ الكوفيون سوى عاصم "نأكل" بالنون ونقله في الكامل عن القاسم وابن سعد وابن مقسم. قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} قرأ ابن كثير وابن عامر وحميد وتبعهم أبو بكر وشيبان عن عاصم وكذا محجوب عن أبي عمرو وورش "يجعل" برفع اللام والباقون بالجزم عطفا على محل جعل وقيل لإدغامها، وهذا يجري على طريقة أبي عمرو بن العلاء، وقرأ بنصب اللام عمر بن ذر وابن أبي عبلة وطلحة ابن سليمان وعبد الله بن موسى، وذكرها الفراء جوازا على إضمار إن ولم ينقلها، وضعفها ابن جني. قوله: {مَكَاناً ضَيِّقاً} قرأ ابن كثير والأعمش وعلى بن نصر ومسلمة بن محارب بالتخفيف، ونقلها عقبة بن يسار عن أبي عمرو أيضا. قوله: {مُقَرَّنِينَ} قرأ عاصم الجحدري ومحمد بن السميفع "مقرنون". قوله: {ثُبُوراً} قرأ المذكوران بفتح المثلثة. قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب والأعرج والجحدري وكذا الحسن وقتادة والأعمش على اختلاف عنهم بالتحتانية وقرأ الأعرج1 بكسر الشين، قال ابن جني وهي قوية في القياس متروكة في الاستعمال. قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قرأ ابن مسعود وأبو نهيك وعمر بن ذر " وما يعبدون من دوننا". قوله: {فَيَقُولُ} قرأ ابن عامر وطلحة ابن مصرف وسلام وابن حسان وطلحة بن سليمان وعيسى بن عمر وكذا الحسن وقتادة على اختلاف عنهما ورويت عن عبد الوارث عن أبي عمرو بالنون. قوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي} قرأ أبو عيسى الأسواري وعاصم الجحدري بضم الياء وفتح الغين. قوله: {أَنْ نَتَّخِذَ} قرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت والباقر وأخوه زيد وجعفر الصادق ونصر بن علقمة ومكحول وشيبة وحفص ابن حميد وأبو جعفر القارئ وأبو حاتم السجستاني والزعفران - وروى عن مجاهد - وأبو رجاء
ـــــــ
1 في نسخة الأعمش

(9/33)


والحسن بضم أوله وفتح الخاء على البناء للمفعول، وأنكرها أبو عبيد وزعم الفراء أن أبا جعفر تفرد بها. قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} حكى القرطبي أنها قرئت بالتخفيف. قوله: {بِمَا تَقُولُونَ} قرأ ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير والأعمش وحميد بن قيس وابن جريج وعمر بن ذر وأبو حيوة ورويت عن قنبل بالتحتانية. قوله: "فما يستطيعون" قرأ حفص في الأكثر عنه عن عاصم بالفوقانية وكذا الأعمش وطلحة بن مصرف وأبو حيوة. قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ} قرى "يذقه" بالتحتانية. قوله {إِلَّا إِنَّهُمْ} قرئ "أنهم" بفتح الهمزة والأصل لأنهم فحذفت اللام، نقل هذا والذي قبله من "إعراب السمين". قوله: {وَيَمْشُونَ} قرأ علي وابن مسعود وابنه عبد الرحمن وأبو عبد الرحمن السلمي بفتح الميم وتشديد الشين مبنيا للفاعل وللمفعول أيضا. قوله: {حِجْراً مَحْجُوراً} قرأ الحسن والضحاك وقتادة وأبو رجاء والأعمش "حجرا" بضم أوله وهي لغة، وحكى أبو البقاء الفتح عن بعض المصريين ولم أر من نقلها قراءة. قوله :{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ الكوفيون وأبو عمر والحسن في المشهور عنهما وعمرو بن ميمون ونعيم بن ميسرة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد ووافقهم عبد الوارث ومعاذ عن أبي عمرو وكذا محبوب وكذا الحمصي من الشاميين في نقل الهذلي. قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} قرأ الأكثر بضم النون وتشديد الزاي وفتح اللام الملائكة بالرفع، وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو ورويت عن معاذ أبي حليمة بتخفيف الزاي وضم اللام، والأصل تنزل الملائكة فحذفت تخفيفا، وقرأ أبو رجاء ويحيى بن يعمر وعمر بن ذر ورويت عن ابن مسعود ونقلها ابن مقسم عن المكي واختارها الهذلي بفتح النون وتشديد الزاي وفتح اللام على البناء للفاعل الملائكة بالنصب، وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو بالتخفيف الملائكة بالرفع على البناء للفاعل، ورويت عن الخفاف على البناء للمفعول أيضا، وقرأ ابن كثير في المشهور عنه وشعيب عن أبي عمرو "وننزل" بنونين الثانية خفيفة الملائكة بالنصب، وقرئ بالتشديد عن ابن كثير أيضا، وقرأ هارون عن أبي عمرو بمثناة أوله وفتح النون وكسر الزاي الثقيلة الملائكة بالرفع أي تنزل ما أمرت به، وروي عن أبي بن كعب مثله لكن بفتح الزاي وقرأ أبو السمال وأبو الأشهب كالمشهور عن ابن كثير لكن بألف أوله، وعن أبي بن كعب "نزلت: بفتح وتخفيف وزيادة مثناة في آخره، وعنه مثله لكن بضم أوله مشددا، وعنه "تنزلت: بمثناة في أوله وفي آخره بوزن تفعلت. قوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ أبو عمرو بفتح الياء الأخيرة من {لَيْتَنِي} قوله: {يَا وَيْلَتَى} قرأ الحسن بكسر المثناة بالإضافة، ومنهم من أمال. قوله: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} قرأ أبو عمرو وروح وأهل مكة - إلا رواية ابن مجاهد عن قنبل - بفتح الياء "من قومي". قوله:{لِنُثَبِّتَ}قرأ ابن مسعود بالتحتانية بدل النون، وكذا روى عن حميد ابن قيس وأبي حصين وأبي عمران الجوني. قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ} قرأ علي ومسلمة بن محارب" فدمرانهم" بكسر الميم وفتح الراء وكسر النون الثقيلة بينهما ألف تثنية، وعن علي بغير نون، والخطاب لموسى وهارون. قوله: {وَعَاداً وَثَمُودَ} قرأ حمزة ويعقوب وحفص وثمود بغير صرف. قوله: {أُمْطِرَتْ} قرأ معاذ أبو حليمة وزيد بن علي وأبو نهيك "مطرت" بضم أوله وكسر الطاء مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود "أمطروا" وعنه "أمطرناهم". قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ} قرأ أبو السمال وأبو العالية وعاصم الجحدري بضم السين، وأبو السمال أيضا مثله بغير همز. وقرأ علي وحفيده زين العابدين وجعفر بن محمد بن زين العابدين بفتح السين وتشديد الواو بلا همز. وكذا قرأ الضحاك لكن بالتخفيف. قوله: {هُزُواً} قرأ حمزة وإسماعيل بن جعفر والمفضل بإسكان الزاي

(9/34)


وحفص بالضم بغير همز. قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ} قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب "اختاره الله من بيننا". قوله: "عن آلهتنا" قرأ ابن مسعود وأبي عن عبادة آلهتنا. قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} قرأ ابن مسعود بمد الهمزة وكسر اللام والتنوين بصيغة الجمع، وقرأ الأعرج بكسر أوله وفتح اللام بعدها ألف وهاء تأنيث وهو اسم الشمس، وعنه بضم أوله أيضا. قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ الشامي بفتح السين. قوله: {أَوْ يَعْقِلُونَ} قرأ ابن مسعود "أو يبصرون" قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} قرأ ابن مسعود "جعل" قوله: " {الرِّيَاحِ} قرأ ابن كثير وابن محيصن والحسن "الريح" . قوله :" نشرا" اقرأ ابن عامر وقتادة وأبو رجاء وعمرو بن ميمون بسكون الشين، وتابعهم هارون الأعور وخارجة بن مصعب كلاهما عن أبي عمرو، وقرأ الكوفيون سوى عاصم وطائفة بفتح أوله ثم سكون، وكذا قرأ الحسن وجعفر بن محمد والعلاء بن شبابة، وقرأ عاصم بموحدة بدل النون، وتابعه عيسى الهمداني وأبان بن ثعلب، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في رواية وابن السميفع بضم الموحدة مقصور بوزن حبلى قوله: {لِنُحْيِيَ بِهِ} قرأ ابن مسعود "لننشر به". قوله :{مَيْتاً} قرأ أبو جعفر بالتشديد. قوله: {وَنُسْقِيَهُ} قرأ أبو عمرو وأبو حيوة وابن أبي عبلة بفتح النون، وهي رواية عن أبي عمرو وعاصم والأعمش. قوله: {وَأَنَاسِيَّ} قرأ يحيى بن الحارث بتخفيف آخره، وهي رواية عن الكسائي وعن أبي بكر بن عياش وعن قتيبة الميال وذكرها الفراء جوازا لا نقلا. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} قرأ عكرمة بتخفيف الراء. قوله: {لِيَذَّكَّرُوا} قرأ الكوفيون سوى عاصم بسكون الدال مخففا. قوله: {وَهَذَا مِلْحٌ } قرأ أبو حصين وأبو الجوزاء وأبو المتوكل وأبو حيوة وعمر بن ذر ونقلها الهذلي عن طلحة بن مصرف، ورويت عن الكسائي وقتيبة الميال بفتح الميم وكسر اللام، واستنكرها أبو حاتم السجستاني. وقال ابن جني يجوز أن يكون أراد مالح فحذف الألف تخفيفا قال: مع أن مالح ليست فصيحة. قوله: {وَحِجْراً} تقدم، قوله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ زيد بن علي بجر النون نعتا للحي، وابن معدان بالنصب قال على المدح. قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ المكيون والكسائي وخلف وأبان بن يزيد وإسماعيل بن جعفر، ورويت عن أبي عمرو وعن نافع "فسل به" بغير همز. قوله: "لما تأمرنا" قرأ الكوفيون بالتحتانية، لكن اختلف عن حفص، وقرأ ابن مسعود "لما تأمرنا به". قوله: "سراجا" قرأ الكوفيون سوى عاصم {سِرَاجاً} بضمتين، لكن سكن الراء الأعمش ويحيى بن وثاب وأبان بن ثعلب والشيرازي. قوله: "وقمر" قرأ الأعمش وأبو حصين والحسن ورويت عن عاصم بضم القاف وسكون الميم، وعن الأعمش أيضا فتح أوله. قوله: {أَنْ يُذْكَرَ} قرأ حمزة بالتخفيف وأبي بن كعب يتذكر ورويت عن علي وابن مسعود وقرأها أيضا إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف وعيسى الهمداني والباقر وأبوه وعبد الله بن إدريس ونعيم ابن ميسرة. قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} قرأ أبي بن كعب بضم العين وتشديد الموحدة، والحسن بضمتين بغير ألف وأبو المتوكل وأبو نهيك وأبو الجوزاء بفتح ثم كسر ثم تحتانية ساكنة قوله: {يَمْشُونَ} قرأ علي ومعاذ القارئ وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل وأبو نهيك وابن السميفع بالتشديد مبنيا للفاعل" وعاصم الجحدري وعيسى بن، عمر مبنيا للمفعول. قوله: {سُجَّداً} قرأ إبراهيم النخعي "سجودا". قوله: {وَمُقَاماً} قرأ أبو زيد بفتح الميم. قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ ابن عامر والمدنيون هي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي وعن الحسن وأبي رجاء ونعيم بن ميسرة والمفضل والأزرق والجعفي وهي رواية عن أبي بكر بضم أوله من الرباعي

(9/35)


وأنكرها أبو حاتم، وقرأ الكوفيون إلا من تقدم منهم وأبو عمرو في رواية بفتح أوله وضم التاء، وقرأ عاصم الجحدري وأبو حيوة وعيسى بن عمر وهي رواية عن أبي عمرو أيضا بضم أوله وفتح القاف وتشديد التاء والباقون بفتح أوله. وكسر التاء. قوله: {قَوَاماً} قرأ حسان بن عبد الرحمن صاحب عائشة بكسر القاف، وأبو حصين وعيسى بن عمر بتشديد الواو مع فتح القاف. قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} قرأ ابن مسعود وأبو رجاء "يلقى" بإشباع القاف، وقرأ عمر بن ذر بضم أوله وفتح اللام وتشديد القاف بغير إشباع. قوله: {يُضَاعِفُ} قرأ أبو بكر عن عاصم برفع الفاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وشيبة ويعقوب يضعف بالتشديد. وقرأ طلحة بن سليمان بالنون، "العذاب" بالنصب. قوله: {َيَخْلُدْ} قرأ ابن عامر والأعمش وأبو بكر عن عاصم بالرفع. وقرأ أبو حيوة بضم أوله وفتح الخاء وتشديد اللام، ورويت عن الجعفي عن شعبة ورويت عن أبي عمرو لكن بتخفيف اللام، وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ القارئ وأبو المتوكل وأبو نهيك وعاصم الجحدري بالمثناة مع الجزم على الخطاب. قوله: {فِيهِ مُهَاناً} قرأ ابن كثير بإشباع الهاء من "فيه:" حيث جاء، وتابعه حفص عن عاصم هنا فقط. قوله: "وذريتنا" قرأ أبو عمرو والكوفيون سوى رواية عن عاصم بالإفراد، والباقون بالجمع. قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ أبو الدرداء وابن مسعود وأبو هريرة وأبو المتوكل وأبو نهيك وحميد بن قيس وعمر بن ذر "قرأت" بصيغة الجمع. قوله: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} قرأ ابن مسعود "يجزون الجنة". قوله:"ويلقون فيها" قرأ الكوفيون سوى حفص وابن معدان بفتح أوله وسكون اللام، وكذا قرأ النميري عن المفضل. قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} قرأ ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير "فقد كذب الكافرون" وحكى الواقدي عن بعضهم تخفيف الذال. قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ} قرأ أبو السمال وأبو المتوكل وعيسى بن عمر وأبان بن تغلب بالفوقانية. قوله: {لِزَاماً} قرأ أبو السمال بفتح اللام أسنده أبو حاتم السجستاني عن أبي زيد عنه ونقلها الهذلي عن أبان بن تغلب. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن أورد بعض ما أوردته: هذا ما في سورة الفرقان من الحروف التي بأيدي أهل العلم بالقرآن. والله أعلم بما أنكر منها عمر على هشام وما قرأ به عمر، فقد يمكن أن يكون هناك حروف أخرى لم تصل إلي، وليس كل من قرأ بشيء نقل ذلك عنه، ولكن إن فات من ذلك بشيء فهو النزر اليسير. كذا قال، والذي ذكرناه يزيد على ما ذكره مثله أو أكثر، ولكنا لا نتقلد عهدة ذلك، ومع ذلك فنقول يحتمل أن تكون بقيت أشياء لم يطلع عليها، على أني تركت أشياء مما يتعلق بصفة الأداء من الهمز والمد والروم والإشمام ونحو ذلك. ثم بعد كتابتي هذا وإسماعه وقفت على الكتاب الكبير المسمى "بالجامع الأكبر والبحر الأزخر" تأليف شيخ شيوخنا أبي القاسم عيسى بن عبد العزيز اللخمي الذي ذكر أنه جمع فيه سبعة آلاف رواية من طريق غير ما لا يليق. وهو في نحو ثلاثين مجلدة، فالتقطت منه ما لم يتقدم ذكره من الاختلاف فقارب قدر ما كنت ذكرته أولا وقد أوردته على ترتيب السورة قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} قرأ أدهم السدوسي بالمثناة فوق قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} قرأ سعيد بن يوسف بكسر الهمزة وفتح اللام بعدها ألف قوله: {ويمشي} قرأ العلاء بن شبابة وموسى بن إسحاق بضم أوله وفتح الميم وتشديد الشين المفتوحة، ونقل عن الحجاج بضم أوله وسكون الميم وبالسين المهملة المكسورة وقالوا هو تصحيف. قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ} قرأ ابن أنعم بتحتانية أوله، وكذا محمد بن جعفر بفتح المثناة الأولى وسكون الثانية. قوله: "فلا يستطيعون" قرأ زهير بن

(9/36)


أحمد بمثناة من فوق. قوله: {جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ سالم بن عامر "جنات" بصيغة الجمع. قوله: {مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قرأ عبد الله بن سلام "مقرنين" بالتخفيف وقرأ سهل "مقرنون" بالتخفيف مع الواو. قوله: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} قرأ أبو هشام "أم جنات" بصيغة الجمع. قوله: {عِبَادِي هَؤُلاءِ} قرأها الوليد بن مسلم بتحريك الياء. قوله: {نسُوا الذِّكْرَ} قرأ أبو مالك بضم النون وتشديد السين. قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} قرأ ابن مسعود "فما يستطيعون لكم" وأبي بن كعب "فما يستطيعون لك" حكى ذلك أحمد بن يحيى بن مالك عن عبد الوهاب عن هارون الأعور، وروى عن ابن الأصبهاني عن أبي بكر بن عياش وعن يوسف بن سعيد عن خلف ابن تميم عن زائدة كلاهما عن الأعمش بزيادة "لكم" أيضا. قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} قرأ يحيى بن واضح. "ومن يكذب" بدل يظلم ووزنها، وقرأها أيضا هارون الأعور "يكذب" بالتشديد. قوله: {عَذَاباً كَبِيراً} قرأ شعيب عن أبي حمزة بالمثلثة بدل الموحدة. قوله: {لَوْلا أُنْزِلَ} قرأ جعفر بن محمد بفتح الهمزة والزاي ونصب الملائكة. قوله: {عُتُوّاً كَبِيراً} قرئ "عتيا" بتحتانية بدل الواو، وقرأ أبو إسحاق الكوفي "كثيرا" بالمثلثة بدل الموحدة. قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} قرأ عبد الرحمن بن عبد الله "ترون" بالمثناة من فوق. قوله: {وَيَقُولُونَ} قرأ هشيم عن يونس "وتقولون" بالمثناة من فوق أيضا. قوله :{وَقَدِمْنَا} قرأ سعيد بن إسماعيل بفتح الدال. قوله: "إلى ما عملوا من عمل " قرأ الوكيعي "من عمل صالح" بزيادة "صالح". قوله: {هَبَاءً} قرأ محارب بضم الهاء مع المد، وقرأ نصر بن يوسف بالضم والقصر والتنوين، وقرأ ابن دينار كذلك لكن بفتح الهاء. قوله: {مُسْتَقَرّاً} قرأ طلحة بن موسى بكسر القاف. قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ أبو ضمام "ويوم" بالرفع والتنوين، وأبو وجرة بالرفع بلا تنوين، وقرأ عصمة عن الأعمش يوم "يرون السماء تشقق" بحذف الواو وزيادة يرون. قوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} قرأ سليمان بن إبراهيم "الملك" بفتح الميم وكسر اللام. قوله: {الْحَقُّ} قرأ أبو جعفر بن بزيد بنصب الحق. قوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ عامر بن نصير "تخذت". قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} قرأ المعلى عن الجحدري بفتح النون والزاي مخففا، وقرأ زيد بن علي وعبيد الله بن خليد كذلك لكن مثقلا. قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قرأها الحسن بن محمد بن أبي سعدان عن أبيه بالرفع. قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} قرأ حامد الرمهرمزي "آيات" بالجمع. قوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} قرأ سورة بن إبراهيم "القريات" بالجمع، وقرأ بهرام "القرية" بالتصغير مثقلا. قوله: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} قرأ أبو حمزة عن شعبة بالمثناة من فوق فيهما. قوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ} قرأ عثمان بن المبارك بالمثناة من فوق فيهما قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ حمزة بن حمزة بضم التحتانية وفتح السين المهملة. قوله :{سُبَاتاً} قرأ يوسف بن أحمد بكسر المهملة أوله وقال: معناه الراحة. قوله: {جِهَاداً كَبِيراً} قرأ محمد بن الحنفية بالمثلثة. قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} قرأ ابن عرفة "مرج" بتشديد الراء. قوله: "هذا عذب" قرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان بكسر الذال المعجمة. قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَباً} قرأ الحجاج بن يوسف سببا بمهملة ثم موحدتين. قوله: {أَنَسْجُدُ} قرأ أبو المتوكل بالتاء المثناة من فوق. قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان عن أبيه "خلفه" بفتح الخاء وبالهاء ضمير يعود على الليل. قوله: {عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} قرأ ابن السميفع بضم الهاء. قوله: {قَالُوا سَلاماً} قرأ حمزة بن عروة سلما بكسر السين وسكون اللام. قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} قرأ جعفر بن إلياس بضم النون وقال: هو

(9/37)


اسم كان. قوله: {لا يَدْعُونَ} قرأ جعفر بن محمد بتشديد الدال. قوله: {وَلا يَقْتُلُونَ} قرأ ابن جامع بضم أوله وفتح القاف وتشديد التاء المكسورة، وقرأها معاذ كذلك لكن بألف قبل المثناة. قوله: {أَثَاماً} قرأ عبد الله بن صالح العجلي عن حمزة "إثما" بكسر أوله وسكون ثانيه بغير ألف قبل الميم، وروي عن ابن مسعود بصيغة الجمع {أَثَاماً} قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ} قرأ عبد الحميد عن أبي بكر وابن أبي عبلة وأبان وابن مجالد عن عاصم، وأبو عمارة والبرهمي عن الأعمش، بسكون الموحدة. قوله: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قرأ أبو المظفر بنون بدل الراء قوله: {ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} قرأ تميم بن زياد بفتح الذال والكاف. قوله: {بِآياتِ رَبِّهِمْ} قرأ سليمان بن يزيد "بآية" بالإفراد. قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ معروف بن حكيم "قرة عين" بالإفراد وكذا أبو صالح من رواية الكلبي عنه لكن قال: "قرات عين".
قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ} قرأ جعفر بن محمد "واجعل لنا من المتقين إماما". قوله :{يُجْزَوْنَ} قرأ أبي في رواية: "يجازون". قوله: {الغرفة} قرأ أبو حامد "الغرفات". قوله :{تحية} قرأ ابن عمير "تحيات" بالجمع. قوله: "وسلاما" قرأ الحارث "وسلما" في الموضعين. قوله: {مستقرا ومقاما} قرأ عمير بن عمران "ومقاما" بفتح الميم. قوله: {فقد كذبتم} قرأ عبد ربه بن سعيد بتخفيف الذال. فهذه ستة وخمسون موضعا ليس فيها من المشهور شيء، فليضف إلى ما ذكرته أولا فتكون جملتها نحوا من مائة وثلاثين موضعا، والله أعلم واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط المتقدمة، وهي شروط لا بد من اعتبارها، فمتى اختل شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة، وقد قرر ذلك أبو شامة في "الوجيز" تقريرا بليغا وقال: لا يقطع بالقراءة بأنها منزلة من عند الله إلا إذا اتفقت الطرق عن ذلك الإمام الذي قام بإمامة المصر بالقراءة وأجمع أهل عصره ومن بعدهم على إمامته في ذلك، قال: أما إذا اختلفت الطرق عنه فلا، فلو اشتملت الآية الواحدة على قراءات مختلفة مع وجود الشرط المذكور جازت القراءة بها بشرط أن لا يختل المعنى ولا يتغير الإعراب. وذكر أبو شامة في "الوجيز" أن فتوى وردت من العجم لدمشق سألوا عن قارئ يقرأ عشرا من القرآن فيخلط القراءات، فأجاب ابن الحاجب وابن الصلاح وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها. كمن يقرأ مثلا {فتلقى آدم من ربه كلمات} فلا يقرأ لابن كثير بنصب آدم ولأبي عمرو بنصب كلمات، وكمن يقرأ: {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون "خطاياتكم" بالرفع، قال أبو شامة: لا شك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز والله أعلم. وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكار ذلك حتى صرح بعضهم بتحريمه فظن كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معتمدا فتابعوهم وقالوا: أهل كل فن أدرى بفنهم، وهذا ذهول ممن قاله، فإن علم الحلال والحرام إنما يتلقى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة فإنه متى خلطها كان كاذبا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى كما قاله الشيخ محيي الدين، وذلك من الأولوية لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا، والله أعلم.

(9/38)


6- باب تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ
4993- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ

(9/38)


مَاهَكٍ قَالَ إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ لِمَ قَالَ لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ قَالَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ"
4994- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأَنْبِيَاءِ إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي"
4995- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَعَلَّمْتُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
4996- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلْقَمَةُ وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ حم الدُّخَانِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ"
قوله: "باب تأليف القرآن" أي جمع آيات السورة الواحدة، أو جمع السور مرتبة في المصحف. قوله: "أن ابن جريج أخبرهم قال وأخبرني يوسف" كذا عندهم، وما عرفت ماذا عطف عليه، ثم رأيت الواو ساقطة في رواية النسفي، وكذا ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث. قوله: "إذ جاءها عراقي" أي رجل من أهل العراق، ولم أقف على اسمه. قوله: "أي الكفن خير؟ قالت ويحك وما يضرك" ؟ لعل هذا العراقي كان سمع حديث سمرة المرفوع "البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم فإنها أطهر وأطيب" وهو عند الترمذي مصححا، وأخرجه أيضا عن ابن عباس: فلعل العراقي سمعه فأراد أن يستثبت عائشة في ذلك، وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال، فلهذا قال له عائشة: وما يضرك؟ تعني أي كفن كفنت فيه أجزأ. وقول ابن عمر الذي سأله عن دم البعوض مشهور حيث قال: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "أؤلف عليه القرآن، فإنه يقرأ غير مؤلف" قال ابن كثير: كأن قصة هذا العراقي كانت قبل أن يرسل عثمان المصحف إلى الآفاق، كذا قال وفيه نظر، فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق، فقد ذكر المزي أن روايته عن أبي بن كعب مرسلة وأبي عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح، وقد صرح يوسف في

(9/39)


هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي، والذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه كما سيأتي بيانه بعد الباب الذي يلي هذا، فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان. ولا شك أن تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره، فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف، وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور. ويدل على ذلك قولها له "وما يضرك أيه قرأت قبل" ويحتمل أن يكون أراد تفصيل آيات كل سورة لقوله في آخر الحديث: "فأملت عليه آي السور" أي آيات كل سورة كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا كذا آية، الأولى كذا الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه، والأول أظهر - ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين والله أعلم. قال ابن بطال: لا نعلم أحدا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة والحج قبل الكهف مثلا، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسا فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها وتذليلا للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه. وقال القاضي عياض في شرح حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران: هو كذلك في مصحف أبي بن كعب، وفيه حجة لمن يقول أن ترتيب السور اجتهاد وليس بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور العلماء واختاره القاضي الباقلاني قال: وترتيب السور ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التعليم فلذلك اختلفت المصاحف، فلما كتب مصحف عثمان رتبوه على ما هو عليه الآن، فلذلك اختلف ترتيب مصاحف الصحابة. ثم ذكر نحو كلام ابن بطال ثم قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من الله تعالى وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. قوله: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار" هذا ظاهره مغاير لما تقدم أن أول شيء نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وليس فيها ذكر الجنة والنار، فلعل "من" مقدرة أي من أول ما نزل، أو المراد سورة المدثر فإنها أول ما نزل بعد فترة الوحي وفي آخرها ذكر الجنة والنار، فلعل آخرها نزل قبل نزول بقية سورة اقرأ، فإن الذي نزل أولا من اقرأ كما تقدم خمس آيات فقط. قوله: "حتى إذا ثاب" بالمثلثة ثم الموحدة أي رجع. قوله: "نزل الحلال والحرام" أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: "ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها" وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف، وسيأتي بيان المراد بالمفصل في الحديث الرابع. قوله: "لقد نزل بمكة إلخ" أشارت بذلك إلى تقوية ما ظهر لها من الحكمة المذكورة، وقد تقدم نزول سورة القمر - وليس فيها شيء من الأحكام - على نزول سورة البقرة والنساء مع كثرة ما اشتملتا عليه من الأحكام، وأشارت بقولها "وأنا عنده" أي بالمدينة، لأن دخولها عليه إنما كان بعد الهجرة اتفاقا، وقد تقدم ذلك في مناقبها. وفي الحديث رد على النحاس في زعمه أن سورة النساء مكية مستندا إلى قوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} نزلت بمكة اتفاقا في قصة مفتاح الكعبة، لكنها حجة واهية، فلا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة بمكة

(9/40)


إذا نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية، بل الأرجح أن جميع ما نزل بعد الهجرة معدود من المدني. وقد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السور المكية. وقد أخرج ابن الضريس في "فضائل القرآن" من طريق عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس أن الذي نزل بالمدينة البقرة ثم الأنفال ثم الأحزاب ثم المائدة ثم الممتحنة والنساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمن ثم الإنسان ثم الطلاق ثم إذا جاء نصر الله ثم النور ثم المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم الجاثية ثم التغابن ثم الصف ثم الفتح ثم براءة، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن سورة الكوثر مدنية فهو المعتمد، واختلف في الفاتحة والرحمن والمطففين وإذا زلزلت والعاديات والقدر وأرأيت والإخلاص والمعوذتين، وكذا اختلف مما تقدم في الصف والجمعة والتغابن، وهذا بيان ما نزل بعد الهجرة من الآيات مما في المكي، فمن ذلك الأعراف: نزل بالمدينة منها {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} إلى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}". يونس: نزل منها بالمدينة {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} آيتان وقيل {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} آية، وقيل من رأس أربعين إلى آخرها مدني. هود: ثلاث آيات {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}". النخل {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} الآية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} إلى آخر السورة. الإسراء {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}". الكهف: مكية إلا أولها إلى {جُرُزا} وآخرها من {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}. مريم: آية السجدة. الحج: من أولها إلى {شَدِيدٌ} و " {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} و {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} و {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ}، و {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، و {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} وما بعدها، وموضع السجدتين و {هَذَانِ خَصْمَانِ}. الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى {رَحِيماً} ، الشعراء: آخرها من {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ}. القصص: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى {الْجَاهِلِينَ} و {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}. العنكبوت: من أولها إلى {ويعلم المنافقين}. لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}. ألم تنزيل: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً} وقيل من {تَتَجَافَى}. سبأ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}. الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} إلى {يَشْعُرُونَ}. المؤمن: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} والتي تليها. الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى} و {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ} إلى {شَدِيدٌ}. الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا}. الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وقوله: {فَاصْبِرْ}. ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ} إلى {لُغُوبٍ}. النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} إلى {اتَّقَى}. الرحمن: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. الواقعة: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}. ن: من {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {يَعْلَمُونَ} ومن {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى {الصَّالِحِينَ}. المرسلات: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} فهذا ما نزل بالمدينة من آيات من سور تقدم نزولها بمكة. وقد بين ذلك حديث ابن عباس عن عثمان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه الآيات فيقول: ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا". وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادرا، فقد اتفقوا على أن الأنفال مدنية، لكن قيل إن قوله تعالى :{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية نزلت بمكة ثم نزلت سورة الأنفال بالمدينة، وهذا غريب جدا. نعم نزل من السور المدنية التي تقدم ذكرها بمكة ثم نزلت سورة الأنفال بعد الهجرة في العمرة والفتح والحج

(9/41)


ومواضع متعددة في الغزوات كتبوك وغيرها أشياء كثيرة كلها تسمى المدني اصطلاحا والله أعلم. حديث ابن مسعود، تقدم شرحه في تفسير سبحان وفي الأنبياء، والغرض منه هنا أن هذه السور نزلن بمكة وأنها مرتبة في مصحف ابن مسعود كما هي في مصحف عثمان، ومع تقديمهن في النزول فهن مؤخرات في ترتيب المصاحف. والمراد بالعتاق وهو بكسر المهملة أنهن من قديم ما نزل." تعلمت سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم: "هو طرف من حديث تقدم شرحه في أحاديث الهجرة، والغرض منه أن هذه السورة متقدمة النزول، وهي في أواخر المصحف مع ذلك. قوله: "عن شقيق" هو ابن سلمة وهو أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه: وفي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش "سمعت أبا وائل" أخرجه الترمذي. قوله: "قال عبد الله" سيأتي في "باب الترتيل" بلفظ: "غدونا على عبد الله" وهو ابن مسعود. قوله: "لقد تعلمت النظائر" تقدم شرحه مستوفى في "باب الجمع بين سورتين في الصلاة" من أبواب صفة الصلاة، وفيه أسماء السور المذكورة، وأن فيه دلالة على أن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ولم يكن على ترتيب النزول، ويقال إن مصحف على كان على ترتيب النزول أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما سيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يعارض به جبريل في كل سنة. فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري، وفيه نظر، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول. نعم ترتيب بعض السور على بعض أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفا وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قال: "قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المبين فقرنتم بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه السورة ذات العدد، فإذا نزل عليه الشيء - يعني منها - دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكان قصتها شبيهة بها فظننت أنها منها. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ا ه. فهذا يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفا، ولما لم يفصح النبي صلى الله عليه وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه رضي الله تعالى عنه. ونقل صاحب" الإقناع "أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، قال: ولا يؤخذ بهذا. وكان من علامة ابتداء السورة نزول {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أول ما ينزل شيء منها كما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" وفي رواية: "فإذا نزلت بسم الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت" ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفا ما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: "كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف" فذكر الحديث وفيه: "فقال لنا رسول صلى الله عليه وسلم: طرأ علي حزبي من القرآن فأردت

(9/42)


أن لا أخرج حتى أقضيه. قال فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قلت: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة، بخلاف ما عداه فيحتمل أن يكون كان فيه تقديم وتأخير كما ثبت من حديث حذيفة "أنه صلى الله عليه وسلم قرأ النساء بعد البقرة قبل آل عمران" ويستفاد من هذا الحديث - حديث أوس - أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلث الأول فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات وبه جزم جماعة من الأئمة، وقد نقلنا الاختلاف في تحديده في "باب الجهر بالقراءة في المغرب" من أبواب صفة الصلاة، والله أعلم.

(9/43)


7- باب كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي"
4997- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"
4998- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَام الَّذِي قُبِضَ فِيهِ"
قوله: "باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم" بكسر الراء من العرض وهو بفتح العين وسكون الراء أي يقرأ، والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه. قوله: "وقال مسروق عن عائشة عن فاطمة قالت: أسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن" هذا طرف من حديث وصله بتمامه في علامات النبوة، وتقدم شرحه في "باب الوفاة النبوية" من آخر المغازي، وتقدم بيان فائدة المعارضة في الباب الذي قبله. والمعارضة مفاعلة من الجانبين كأن كلا منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع. قوله: "وأنه عارضني" في رواية السرخسي "وأني عارضني". قوله: "إبراهيم بن سعد عن الزهري" تقدم في الصيام من وجه آخر عن إبراهيم بن سعد قال أنبأنا الزهري، وإبراهيم بن سعد سمع من الزهري ومن صالح بن كيسان عن الزهري، وروايته على الصفتين تكررت في هذا الكتاب كثيرا وقد تقدمت فوائد حديث ابن عباس هذا في بدء الوحي فنذكر هنا نكتا مما لم يتقدم. قوله "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود

(9/43)


الناس" فيه احتراس بليغ لئلا يتخيل من قوله: "وأجود ما يكون في رمضان" أن الأجودية خاصة منه برمضان فيه فأثبت له الأجودية المطلقة أولا ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان. قوله: "وأجود ما يكون في رمضان" تقدم في بدء الوحي من وجه آخر عن الزهري بلفظ: "وكان أجود ما يكون في رمضان" وتقدم أن المشهور في ضبط أجود أنه بالرفع وأن النصب موجه، وهذه. الرواية مما تؤيد الرفع. قوله: "لأن جبريل كان يلقاه" فيه بيان سبب الأجودية المذكورة، وهي أبين من الرواية التي في بدء الوحي بلفظ: "وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل". قوله: "في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ" أي رمضان، وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه كذلك في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن ولا يختص ذلك برمضانات الهجرة، وإن كان صيام شهر رمضان إنما فرض بعد الهجرة لأنه كان يسمى رمضان قبل أن يفرض صيامه. قوله: "يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن" هذا عكس ما وقع في الترجمة لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن" فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر، ويؤيده ما وقع في رواية أبي هريرة آخر أحاديث الباب كما سأوضحه. وفي الحديث إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه، لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده، إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور، وكان في سنة عشر إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة قوله تعالى :{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنها نزلت يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم بها بالاتفاق، وقد تقدم في هذا الكتاب، وكأن الذي نزل في تلك الأيام لما كان قليلا بالنسبة لما تقدم اغتفر أمر معارضته، فيستفاد من ذلك أن القرآن يطلق على البعض مجازا، ومن ثم لا يحنث من حلف ليقرأن القرآن فقرأ بعضه، إلا إن قصد الجميع. واختلف في العرضة الأخيرة هل كانت بجميع الأحرف المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها؟ وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان جميع الناس أو غيره؟ وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة بن عمرو السلماني "أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة" ومن طريق محمد بن سيرين قال: "كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن - الحديث نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره -: فيرون أن قراءتنا أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة". وعند الحاكم نحوه من حديث سمرة وإسناده حسن، وقد صححه هو ولفظه: "عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، ويقولون إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة" ومن طريق مجاهد "عن ابن عباس قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد ابن ثابت، فقال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل، فلما كان في السنة التي قبض فيها عرضه عليه مرتين وكانت قراءة ابن مسعود آخرهما" وهذا يغاير حديث سمرة ومن وافقه، وعند مسدد في مسنده من طريق إبراهيم النخعي "أن ابن عباس سمع رجلا يقول: الحرف الأول، فقال: ما الحرف الأول؟ قال إن عمر بعث ابن مسعود إلى الكوفة معلما فأخذوا بقراءته فغير عثمان القراءة، فهم يدعون قراءة ابن مسعود الحرف الأول، فقال ابن عباس: إنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل" وأخرج النسائي من طريق أبي ظبيان قال: "قال لي ابن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد - يعني عبد الله بن مسعود - قال: بل هي الأخيرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض

(9/44)


على جبريل - الحديث وفي آخره - فحضر ذلك ابن مسعود فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل" وإسناده صحيح، ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين. فيصح إطلاق الآخرية على كل منهما. قوله: "أجود بالخير من الريح المرسلة" فيه جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ في ذلك منها، لأن الريح قد تسكن. وفيه الاحتراس لأن الريح منها العقيم الضارة ومنها المبشرة بالخير فوصفها بالمرسلة ليعين الثانية، وأشار إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً} 1 {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} ونحو ذلك، فالريح المرسلة تستمر مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان ديمة لا ينقطع، وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن الجود من النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ومن الريح مجاز فكأنه استعار للريح جودا باعتبار مجيئها بالخير فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة لطيفة، وهي أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد بالوصف من الأجودية إلا أنه تفوت فيه المبالغة لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح المرسلة مطلقا. وفي الحديث من الفوائد غير ما سبق تعظيم شهر رمضان لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه، ثم معارضته ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثر، نزول جبريل فيه. وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات والبركات ما لا يحصى، ويستفاد منه أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة. وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير. وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان هو لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ. وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزءا في جزء من الليلة، والسبب في ذلك ما كان يشتغل به في كل ليلة من سوى ذلك من تهجد بالصلاة ومن راحة بدن ومن تعاهد أهل، ولعله كان يعيد ذلك الجزء مرارا بحسب تعدد الحروف المأذون في قراءتها ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر، ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين لجاز أنه كان يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة ثم يعيده في بقية الليالي. وقد أخرج أبو عبيد من طريق داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي: قوله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أما كان ينزل عليه في سائر السنة؟ قال: بلى. ولكن جبريل كان يعارض مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء. ففي هذا إشارة إلى الحكمة في التقسيط الذي أشرت إليه لتفصيل ما ذكره من المحكم والمنسوخ. ويؤيده أيضا الرواية الماضية في بدء الخلق بلفظ: "فيدارسه القرآن" فإن ظاهره أن كلا منهما كان يقرأ على الآخر، وهي موافقة لقوله: "يعارضه" فيستدعي ذلك زمانا زائدا على ما لو قرأ الواحد، ولا يعارض ذلك قوله تعالى :{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} إذا قلنا إن "لا" نافية كما هو المشهور وقول الأكثر، لأن المعنى أنه إذا أقرأه فلا ينسى ما أقرأه، ومن جملة الإقراء مدارسة جبريل، أو المراد أن المنفي بقوله: {فَلا تَنْسَى} النسيان الذي لا ذكر بعده لا النسيان الذي يعقبه الذكر في الحال حتى لو قدر
ـــــــ
(1 )في الأصل "مبشرات" والتصحيح من سورة الأعراف57، وأما "مبشرات" فآية أرخى في سورة الروم 46.

(9/45)


أنه نسى شيئا فإنه يذكره إياه في الحال، وسيأتي مزيد بيان لذلك في "باب نسيان القرآن" إن شاء الله تعالى. وقد تقدمت بقية فوائد حديث ابن عباس في بدء الوحي. قوله: "حدثنا خالد بن يزيد" هو الكاهلي، وأبو بكر هو ابن عياش بالتحتانية والمعجمة. وأبو حصين بفتح أوله عثمان بن عاصم، وذكوان هو أبو صالح السمان. قوله: "كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم" كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول، وفي بعضها بفتح أوله بحذف الفاعل، فالمحذوف هو جبريل صرح به إسرائيل في روايته عن أبي حصين أخرجه الإسماعيلي ولفظه: "كان جبريل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان" وإلى هذه الرواية أشار المصنف في الترجمة. قوله: "القرآن كل عام مرة" سقط لفظ: "القرآن" لغير الكشميهني، زاد إسرائيل عند الإسماعيلي: "فيصبح وهو أجود بالخير من الريح المرسلة" وهذه الزيادة غريبة في حديث أبي هريرة، وإنما هي محفوظة من حديث ابن عباس. قوله: "فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه" في رواية إسرائيل "عرضتين" وقد تقدم ذكر الحكمة في تكرار العرض في السنة الأخيرة، ويحتمل أيضا أن يكون السر في ذلك أن رمضان من السنة الأولى لم يقع فيه مدارسة لوقوع ابتداء النزول في رمضان، ثم فتر الوحي ثم تتابع فوقعت المدارسة في السنة الأخيرة مرتين ليستوي عدد السنين والعرض. قوله: "وكان يعتكف في كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" ظاهره أنه اعتكف عشرين يوما من رمضان وهو مناسب لفعل جبريل حيث ضاعف عرض القرآن في تلك السنة، ويحتمل أن يكون السبب ما تقدم في الاعتكاف أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف عشرا فسافر عاما فلم يعتكف فاعتكف من قابل عشرين يوما، وهذا إنما يتأتى في سفر وقع في شهر رمضان "وكان رمضان من سنة تسع دخل وهو صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهذا بخلاف القصة المتقدمة في كتاب الصيام أنه شرع في الاعتكاف في أول العشر الأخير فلما رأى ما صنع أزواجه من ضرب الأخبية تركه ثم اعتكف عشرا في شوال، ويحتمل اتحاد القصة، ويحتمل أيضا أن تكون القصة التي في حديث الباب هي التي أوردها مسلم وأصلها عند البخاري من حديث أبي سعيد قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوز العشر التي في وسط الشهر، فإذا استقبل إحدى وعشرين رجع، فأقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها ثم قال: إني كنت أجاور هذه العشر الوسط ثم بدا لي أن أجاور العشر الأواخر، فجاور العشر الأخير" الحديث، ليكون المراد بالعشرين العشر الأوسط والعشر الأخير.

(9/46)


باب القراءة من أصحاب النبي صلى الله وعليه وسلم
...
8- باب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4999- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لاَ أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَالِمٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ"
5000- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ قَالَ شَقِيقٌ فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ فَمَا سَمِعْتُ رَادًّاً

(9/46)


يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ"
5001- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحْسَنْتَ وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ"
5002- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ"
5003- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ تَابَعَهُ الْفَضْلُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ"
5004- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَثُمَامَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ"
5005- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَيٍّ وَأُبَيٌّ يَقُولُ أَخَذْتُهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}"
قوله: "باب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي الذين اشتهروا بحفظ القرآن والتصدي لتعليمه، وهذا اللفظ كان في عرف السلف أيضا لمن تفقه في القرآن. وذكر فيه ستة أحاديث الأول عن عمرو هو ابن مرة، وقد نسبه المصنف في المناقب من هذا الوجه، وذهل الكرماني. فقال: هو عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي، وليس كما قال. قوله: "عن مسروق" جاء عن إبراهيم وهو النخعي فيه شيخ آخر أخرجه الحاكم من طريق أبي سعيد المؤدب عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وهو مقلوب فإن المحفوظ في هذا عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق كما تقدم في المناقب، ويحتمل أن يكون إبراهيم حمله عن شيخين والأعمش حمله عن شيخين. قوله: "خذوا القرآن من أربعة" أي تعلموه منهما، والأربعة المذكورون اثنان من المهاجرين وهما المبدأ بهما واثنان من الأنصار، وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ هو ابن جبل. وقد تقدم هذا الحديث في مناقب سالم مولى أبي حذيفة من هذا الوجه وفي أوله "ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه

(9/47)


بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرآن من أربعة فبدأ به" فذكر حديث الباب. ويستفاد منه محبة من يكون ماهرا في القرآن، وأن البداءة بالرجل في الذكر على غيره في أمر اشترك فيه مع غيره يدل على تقدمه فيه، وتقدم بقية شرحه هناك. وقال الكرماني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد الإعلام بما يكون بعده، أي أن هؤلاء الأربعة يبقون حتى ينفردوا بذلك، وتعقب بأنهم لم ينفردوا بل الذين مهروا في تجويد القرآن بعد العصر النبوي أضعاف المذكورين، وقد قتل سالم مولى أبي حذيفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة اليمامة، ومات معاذ في خلافة عمر، ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان، وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت إليه الرياسة في القراءة وعاش بعدهم زمانا طويلا، فالظاهر أنه أمر بالأخذ عنهم في الوقت الذي صدر فيه ذلك القول، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن، بل كان الذين يحفظون مثل الذين حفظوه وأزيد منهم جماعة من الصحابة، وقد تقدم في غزوة بئر معونة أن الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء وكانوا سبعين رجلا. قوله: "حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي" كذا للأكثر، وحكى الجياني أنه وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني "حدثنا حفص بن عمر حدثنا أبي" وهو خطأ مقلوب، وليس لحفص بن عمر أب يروي عنه في الصحيح، وإنما هو عمر بن حفص بن غياث بالغين المعجمة والتحتانية والمثلثة، وكان أبوه قاضي الكوفة، وقد أخرج أبو نعيم الحديث المذكور في "المستخرج" من طريق سهل بن بحر عن عمر بن حفص بن غياث ونسبه ثم قال: أخرجه البخاري عن عمر بن حفص. قوله: "حدثنا شقيق بن سلمة" في رواية مسلم والنسائي جميعا عن إسحاق عن عبدة عن الأعمش عن أبي وائل وهو شقيق المذكور، وجاء عن الأعمش فيه شيخ آخر أخرجه النسائي عن الحسن بن إسماعيل عن عبدة بن سليمان عنه عن أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم عن ابن مسعود، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون للأعمش فيه طريقان، وإلا فإسحاق وهو ابن راهويه أتقن من الحسن بن إسماعيل، مع أن المحفوظ عن أبي إسحاق فيه ما أخرجه أحمد وابن أبي داود من طريق الثوري وإسرائيل وغيرهما عن أبي إسحاق عن خمير بالخاء المعجمة مصغر عن ابن مسعود، فحصل الشذوذ في رواية الحسن بن إسماعيل في موضعين. قوله: "خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة" زاد عاصم عن بدر عن عبد الله "وأخذت بقية القرآن عن أصحابه" وعند إسحاق بن راهويه في روايته المذكورة في أوله {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ثم قال: على قراءة من تأمرونني أن أقرأ وقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث. وفي رواية النسائي وأبي عوانة وابن أبي داود من طريق ابن شهاب عن الأعمش عن أبي وائل قال: "خطبنا عبد الله بن مسعود على المنبر فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} غلوا مصاحفكم، وكيف تأمرونني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله" وفي رواية خمير بن مالك المذكورة بيان السبب في قول ابن مسعود هذا ولفظه: "لما أمر بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود فقال من استطاع - وقال في آخره - أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وفي رواية له فقال: "إني غال مصحفي، فمن استطاع أن يغل مصحفه فليفعل" وعند الحاكم من طريق أبي ميسرة قال: "رحت فإذا أنا بالأشعري وحذيفة وابن مسعود، فقال ابن مسعود: والله لا أدفعه - يعني مصحفه أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكره. قوله: "والله لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله" وقع في رواية عبدة وأبي شهاب جميعا عن الأعمش "أني أعلمهم بكتاب الله" بحذف "من" وزاد: "ولو أعلم

(9/48)


أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه" وهذا لا ينفي إثبات "من" فإنه نفى الأغلبية ولم ينف المساواة، وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الرابع. قوله: "وما أنا بخيرهم" يستفاد منه أن الزيادة في صفة من صفات الفضل لا تقتضي الأفضلية المطلقة، فالأعلمية بكتاب الله لا تستلزم الأعلمية المطلقة، بل يحتمل أن يكون غيره أعلم منه بعلوم أخرى فلهذا قال: "وما أنا بخيرهم" وسيأتي في هذا بحث في "باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه" إن شاء الله تعالى. قوله: "قال شقيق" أي بالإسناد المذكور: "فجلست في الحلق" بفتح المهملة واللام "فما سمعت رادا يقول غير ذلك" يعني لم يسمع من يخالف ابن مسعود يقول غير ذلك، أو المراد من يرد قوله ذلك. ووقع في رواية مسلم: "قال شقيق فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك ولا يعيبه" وفي رواية أبي شهاب "فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال:" وهذا يخصص عموم قوله: "أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: "بمن كان منهم بالكوفة ولا يعارض ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود فذكر نحو حديث الباب وفيه: "قال الزهري: فبلغني أن ذلك كرهه من قول ابن مسعود رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأنه محمول على أن الذين كرهوا ذلك من غير الصحابة الذين شاهدهم شقيق بالكوفة، ويحتمل اختلاف الجهة. فالذي نفى شقيق أن أحدا رده أو عابه وصف ابن مسعود بأنه أعلمهم بالقرآن، والذي أثبته الزهري ما يتعلق بأمره بغل المصاحف، وكأن مراد ابن مسعود بغل المصاحف كتمها وإخفاؤها لئلا تخرج فتعدم وكأن ابن مسعود رأى خلاف ما رأى عثمان ومن وافقه في الاقتصار على قراءة واحدة وإلغاء ما عدا ذلك، أو كان لا ينكر الاقتصار لما في عدمه من الاختلاف، بل كان يزيد أن تكون قراءته هي التي يعول عليها دون غيرها لما له من المزية في ذلك مما ليس لغيره كما يؤخذ ذلك من ظاهر كلامه، فلما فاته ذلك ورأى أن الاقتصار على قراءة زيد ترجيح بغير مرجح عنده اختار استمرار القراءة على ما كانت عليه، على أن ابن أبي داود ترجم "باب رضي ابن مسعود بعد ذلك بما صنع عثمان" لكن لم يورد ما يصرح بمطابقة ما ترجم به. قوله: "كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف" هذا ظاهره أن علقمة حضر القصة، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه، وأخرجه أبو نعيم من طريق يوسف القاضي عن محمد بن كثير فقال فيه: "عن علقمة قال: كان عبد الله بحمص" وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن الأعمش ولفظه: "عن عبد الله بن مسعود قال: كنت بحمص، فقرأت" فذكر الحديث، وهذا يقتضي أن علقمة لم يحضر القصة وإنما نقلها عن ابن مسعود، وكذا أخرجه أبو عوانة من طرق عن الأعمش ولفظه: "كنت جالسا بحمص" وعند أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش قال:" عن عبد الله أنه قرأ سورة يوسف" ورواية أبي معاوية عند مسلم لكن أحال بها. قوله:" فقال رجل ما هكذا أنزلت" لم أقف على اسمه، وقد قيل إنه نهيك بن سنان الذي تقدمت له مع ابن مسعود في القرآن قصة غير هذه، لكن لم أر ذلك صريحا. وفي رواية مسلم:" فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا، فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم: ما هكذا أنزلت: {فإن كان السائل هو القائل وإلا ففيه مبهم آخر. قوله:" فقال قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم:" فقلت ويحك، والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله:" ووجد منه ريح الخمر" هي جملة حالية، ووقع في رواية مسلم:" فبينما أنا أكلمه إذ وجدت منه ريح الخمر". قوله:" فضربه الحد" في رواية مسلم:" فقلت لا تبرح حتى أجلدك، قال فجلدته الحد" قال النووي: هذا محمول على أن ابن مسعود كانت

(9/49)


له ولاية إقامة الحدود نيابة عن الإمام، إما عموما وإما خصوصا، وعلى أن الرجل اعترف بشربها بلا عذر، وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها. وعلى أن التكذيب كان بإنكار بعضه جاهلا، إذ لو كذب به حقيقة لكفر، فقد أجمعوا على أن من جحد حرفا مجمعا عليه من القرآن كفر ا ه، والاحتمال الأول جيد، ويحتمل أيضا أن يكون قوله:" فضربه الحد" أي رفعه إلى الأمير فضربه فأسند الضرب إلى نفسه مجازا لكونه كان سببا فيه. وقال القرطبي: إنما أقام عليه الحد لأنه جعل له ذلك من له الولاية، أو لأنه رأى أنه قام عن الإمام بواجب، أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة فإنه وليها في زمن عمر وصدرا من خلافة عثمان انتهى، والاحتمال الثاني موجه، وفي الأخير غفلة عما في أول الخبر أن ذلك كان بحمص، ولم يلها ابن مسعود وإنما دخلها غازيا وكان ذلك في خلافة عمر. وأما الجواب الثاني عن الرائحة فيرده النقل عن ابن مسعود أنه كان يرى وجوب الحد بمجرد وجود الرائحة، وقد وقع مثل ذلك لعثمان في قصة الوليد بن عقبة، ووقع عند الإسماعيلي إثر هذا الحديث النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يقر ولم يشهد عليه. وقال القرطبي: في الحديث حجة على من يمنع وجوب الحد بالرائحة كالحنفية وقد قال به مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. قلت: والمسألة خلافية شهيرة، وللمانع أن يقول: إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك، ولما حكى الموفق في" المغني" الخلاف في وجوب الحد بمجرد الرائحة اختار أن لا يحد بالرائحة وحدها بل لا بد معها من قرينة كأن يوجد سكران أو يتقيأها، ونحوه أن يوجد جماعة شهروا بالفسق ويوجد معهم خمر ويوجد من أحدهم رائحة الخمر، وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهورا بإدمان شرب الخمر وقيل بنحو هذا التفصيل فيمن شك وهو في الصلاة هل خرج منه ريح أو لا فإن قارن ذلك وجود رائحة دل ذلك على وجود الحدث فيتوضأ وإن كان في الصلاة فلينصرف، ويحمل ما ورد من ترك الوضوء مع الشك على ما إذا تجرد الظن عن القرينة، وسيكون لنا عودة إلى هذه المسألة في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وأما الجواب عن الثالث فجيد أيضا، لكن يحتمل أن يكون ابن مسعود كان لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه من الكلام في حال سكره. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الرجل كذب ابن مسعود ولم يكذب بالقرآن، وهو الذي يظهر من قوله:" ما هكذا أنزلت: فإن ظاهره أنه أثبت إنزالها ونفى الكيفية التي أوردها ابن مسعود. وقال الرجل ذلك إما جهلا منه أو قلة حفظ أو عدم تثبت بعثه عليه السكر، وسيأتي مزيد بحث في ذلك في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. قوله:" حدثنا مسلم" هو أبو الضحى الكوفي، وقع كذلك في رواية أبي حمزة عن الأعمش عند الإسماعيلي، وفي طبقة مسلم هذا رجلان من أهل الكوفة يقال لكل منهما مسلم أحدهما يقال له الأعور والآخر يقال له البطين، فالأول هو مسلم بن كيسان والثاني مسلم بن عمران، ولم أر لواحد منهما رواية عن مسروق فإذا أطلق مسلم عن مسروق عرف أنه هو أبو الضحى، ولو اشتركوا في أن الأعمش روى عن الثلاثة. قوله:" قال عبد الله" في رواية قطبة عن الأعمش عند مسلم:" عن عبد الله بن مسعود". قوله:" والله" في رواية جرير عن الأعمش عند ابن أبي داود" قال عبد الله لما صنع بالمصاحف ما صنع: والله إلخ". قوله:" فيمن أنزلت" في رواية الكشميهني:" فيما أنزلت: {ومثله في رواية قطبة وجرير: قوله:" ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل" في رواية الكشميهني:" تبلغنيه" وهي رواية جرير. قوله:" لركبت إليه" تقدم في الحديث الثاني بلفظ:" لرحلت إليه" ولأبي عبيدة من طريق ابن سيرين" نبئت

(9/50)


أن ابن مسعود قال: لو أعلم أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته - أو قال - لتكلفت أن أتيه" وكأنه احترز بقوله تبلغنيه الإبل عمن لا يصل إليه على الرواحل إما لكونه كان لا يركب البحر فقيد بالبر أو لأنه كان جازما بأنه لا أحد يفوقه في ذلك من البشر فاحترز عن سكان السماء. وفي الحديث جواز ذكر الإنسان نفسه بما فيه من الفضيلة بقدر الحاجة، ويحمل ما ورد من ذم ذلك على من وقع ذلك منه فخرا أو إعجابا. حديث أنس، ذكره من وجهين قوله:" سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار" في رواية الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في أول الحديث:" افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقال الأوس: منا أربعة: من اهتز له العرش سعد بن معاذ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين خزيمة ابن ثابت، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومن حمته الدبر عاصم بن ثابت. فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم. فذكرهم. قوله:" وأبو زيد" تقدم في مناقب زيد بن ثابت من طريق شعبة عن قتادة" قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي" وتقدم بيان الاختلاف في اسم أبي زيد هناك وجوزت هناك أن لا يكون لقول أنس" أربعة" مفهوم، لكن رواية سعيد التي ذكرتها الآن من عند الطبري صريحة في الحصر، وسعيد ثبت في قتادة. ويحتمل مع ذلك أن مراد أنس" لم يجمعه غيرهم" أي من الأوس بقرينة المفاخرة المذكورة، ولم يرد نفي ذلك عن المهاجرين، ثم في رواية سعيد أن ذلك من قول الخزرج، ولم يفصح باسم قائل ذلك، لكن لما أورده أنس ولم يتعقبه كان كأنه قائل به ولا سيما وهو من الخزرج. وقد أجاب القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره عن حديث أنس هذا بأجوبة: أحدها أنه لا مفهوم له، فلا يلزم أن لا يكون غيرهم جمعه. ثانيها المراد لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها إلا أولئك. ثالثها لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته وما لم ينسخ إلا أولئك، وهو قريب من الثاني، رابعها أن المراد بجمعه تلقيه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بواسطة، بخلاف غيرهم فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة. خامسها أنهم تصدوا لإلقائه وتعليمه فاشتهروا به، وخفي حال غيرهم عمن عرف حالهم فحصر ذلك فيهم بحسب علمه، وليس الأمر في نفس الأمر كذلك، أو يكون السبب في خفائهم أنهم خافوا غائلة الرياء والعجب، وأمن ذلك من أظهره. سادسها المراد بالجمع الكتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظا عن ظهر قلب، وأما هؤلاء فجمعوه كتابة وحفظوه عن ظهر قلب. سابعها المراد أن أحدا لم يفصح بأنه جمعه بمعنى أكمل حفظه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أولئك، بخلاف غيرهم فلم يفصح بذلك لأن أحدا منهم لم يكمله إلا عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت آخر آية منه، فلعل هذه الآية الأخيرة وما أشبهها ما حضرها إلا أولئك الأربعة ممن جمع جميع القرآن قبلها، وإن كان قد حضرها من لم يجمع غيرها الجمع البين. ثامنها أن المراد بجمعه السمع والطاعة له والعمل بموجبه. وقد أخرج أحمد في الزهد من طريق أبي الزاهرية" أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال: اللهم غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع" وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف ولا سيما الأخير وقد أومأت قبل هذا إلى احتمال آخر، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين ومن جاء بعدهم، ويحتمل أن يقال: إنما اقتصر عليهم أنس لتعلق غرضه بهم، ولا يخفى بعده. والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم في المبعث أنه بنى مسجدا بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه

(9/51)


مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة منهما للآخر حتى قالت عائشة كما تقدم في الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشية. وقد صحح مسلم حديث:" يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وتقدمت الإشارة إليه، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض فيدل على أنه كان أقرأهم، وتقدم عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج النسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال:" جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأه في شهر" الحديث، وأصله في الصحيح وتقدم في الحديث الذي مضى ذكر ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وكل هؤلاء من المهاجرين، وقد ذكر أبو عبيد القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدا وابن مسعود وحذيفة وسالما وأبا هريرة وعبد الله بن السائب والعبادلة، ومن النساء عائشة وحفصة وأم سلمة، ولكن بعض هؤلاء إنما أكمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس، وعد ابن أبي داود في" كتاب الشريعة" من المهاجرين أيضا تميم بن أوس الداري وعقبة بن عامر" ومن الأنصار عبادة بن الصامت ومعاذا الذي يكنى أبا حليمة ومجمع بن حارثة وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد وغيرهم، وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وممن جمعه أيضا أبو موسى الأشعري ذكره أبو عمرو الداني، وعد بعض المتأخرين من القراء عمرو بن العاص وسعد بن عباد وأم ورقة. قوله:" تابعه الفضل بن موسى عن حسين بن واقد عن ثمامة عن أنس" هذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن الفضل بن موسى به، ثم أخرجه المصنف من طريق عبد الله بن المثنى" حدثني ثابت البناني وثمامة عن أنس قال مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة" فذكر الحديث، فخالف رواية قتادة من وجهين: أحدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة، ثانيهما ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب. فأما الأول فقد تقدم الجواب عنه من عدة أوجه، وقد استنكره جماعة من الأئمة. قال المازري: لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك لأن التقدير أن لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى طخا ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك. قال وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره. سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى، واستدل القرطبي على ذلك ببعض ما تقدم من أنه قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد، قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم. وأما الوجه الثاني من المخالفة فقال الإسماعيلي: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوزان في الصحيح مع تباينهما، بلى الصحيح أحدهما. وجزم البيهقي بأن ذكر أبي الدرداء وهم والصواب أبي بن كعب. وقال الداودي: لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظا. قلت: وقد أشار البخاري إلى عدم الترجيح إسرجيح باستواء الطرفين، فطريق قتادة على شرطه وقد وافقه عليها ثمامة في إحدى الروايتين عنه، وطريق ثابت أيضا على شرطه وقد وافقه عليها أيضا ثمامة في الرواية الأخرى، لكن مخرج الرواية عن ثابت وثمامة بموافقته،

(9/52)


وقد وقع عن عبد الله بن المثنى وفيه مقال وإن كان عند البخاري مقبولا لكن لا تعادل روايته رواية قتادة، ويرجح رواية قتادة حديث عمر في ذكر أبي بن كعب وهو خاتمة أحاديث الباب، ولعل البخاري أشار بإخراجه إلى ذلك لتصريح عمر بترجيحه لا القراءة على غيره، ويحتمل أن يكون أنس حدث بهذا الحديث في وقتين فذكره مرة أبي بن كعب ومرة بدله أبا الدرداء، وقد روى ابن أبي داود من طريق محمد بن كعب القرظي قال:" جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري" وإسناده حسن مع إرساله، وهو شاهد جيد لحديث عبد الله بن المثنى في ذكر أبي الدرداء وإن خالفه في العدد والمعدود، ومن طريق الشعبي قال:" جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة منهم أبو الدرداء ومعاذ وأبو زيد وزيد بن ثابت، وهؤلاء الأربعة هم الذين ذكروا في رواية عبد الله بن المثنى، وإسناده صحيح مع إرساله.فلله در البخاري ما أكثر اطلاعه. وقد تبين بهذه الرواية المرسلة قوة رواية عبد الله بن المثنى وأن لروايته أصلا والله أعلم. وقال الكرماني: لعل السامع كان يعتقد أن هؤلاء الأربعة لم يجمعوا وكان أبو الدرداء ممن جمع فقال أنس ذلك ردا عليه، وأتى بصيغة الحصر ادعاء ومبالغة، ولا يلزم منه النفي عن غيرهم بطريق الحقيقة والله أعلم. قوله:" وأبو زيد قال ونحن ورثناه" القائل ذلك هو أنس، وقد تقدم في مناقب زيد بن ثابت قال قتادة: قلت ومن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي، وتقدم في غزوة بدر من وجه آخر عن قتادة عن أنس قال:" مات أبو زيد وكان بدريا ولم يترك عقبا" وقال أنس: نحن، ورثناه. وقوله:" أحد عمومتي" يرد قول من سمي أبا زيد المذكور سعد بن عبيد بن النعمان أحد بني عمرو بن عوف لأن أنسا خزرجي وسعد بن عبيد أوسي، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون سعد بن عبيد ممن جمع ولم يطلع أنس على ذلك، وقد قال أبو أحمد العسكري: لم يجمعه من الأوس غيره. وقال محمد بن حبيب في" المجبر" : سعد بن عبيد ونسبه كان أحد من جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية الشعبي التي أشرت إليها المغايرة بين سعد بن عبيد وبين أبي زيد فإنه ذكرهما جميعا فدل، على أنه غير المراد في حديث أنس. وقد ذكر ابن أبي داود فيمن جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة وهو خزرجي وتقدم أنه يكنى أبا زيد، وسعد بن المنذر بن أوس بن زهير وهو خزرجي أيضا لكن لم أر التصريح بأنه يكنى أبا زيد، ثم وجدت عند أبي داود ما يرفع الإشكال من أصله، فإنه روى بإسناد على شرط البخاري إلى ثمامة عن أنس أن أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السكن، قال:" وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار أحد عمومتي ومات، ولم يدع عقبا، ونحن ورثناه" قال ابن أبي داود: حدثنا أنس بن خالد الأنصاري قال هو قيس بن السكن من زعوراء من بني عدي بن النجار، قال ابن أبي داود: مات قريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذهب علمه ولم يؤخذ عنه وكان عقبيا بدريا. قوله:" يحيى" هو القطان، وسفيان هو الثوري. قوله:" عن حبيب بن أبي ثابت" عند الإسماعيلي:" حدثنا حبيب". قوله:" أبي أقرؤنا" كذا للأكثر وبه جزم المزي في" الأطراف" فقال: ليس في رواية صدقة ذكر علي. قلت: وقد ثبت في رواية النسفي عن البخاري، فأول الحديث عنده" علي أقضانا، وأبي أقرؤنا" وقد ألحق الدمياطي في نسخته في حديث الباب ذكر علي وليس بجيد، لأنه ساقط من رواية الفربري التي عليها مدار روايته، وقد تقدم في تفسير البقرة عن عمرو بن علي عن يحيى القطان بسنده هذا وفيه ذكر علي عند الجميع. قوله:" من لحن أبي" أي من قراءته، ولحن القول فحواه ومعناه المراد به هنا القول. وكان أبي بن كعب

(9/53)


لا يرجع عما حفظه من القرآن الذي تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أخبره غيره أن تلاوته نسخت، لأنه إذا سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل عنده القطع به فلا يزول عنه بإخبار غيره أن تلاوته نسخت، وقد استدل عليه عمر بالآية الدالة على النسخ وهو من أوضح الاستدلال في ذلك، وقد تقدم بقية شرحه في التفسير.

(9/54)


9- باب فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
5006- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي قَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثُمَّ قَالَ أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لاَعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ"
5007- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَتْ إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ فَرَقَاهُ فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاَثِينَ شَاةً وَسَقَانَا لَبَنًا فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِي قَالَ لاَ مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الْكِتَابِ قُلْنَا لاَ تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ أَوْ نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِهَذَا"
قوله:" باب فضل فاتحة الكتاب" ذكر فيه حديثين: أحدهما حديث أبي سعيد بن المعلى في أنها أعظم سورة في القرآن، والمراد بالعظيم عظم القدر بالثواب المرتب على قراءتها وإن كان غيرها أطول منها، وذلك لما اشتملت عليه من المعاني المناسبة لذلك، وقد تقدم شرح ذلك مبسوطا في أول التفسير. ثانيهما حديث أبي سعيد الخدري في الرقية بفاتحة الكتاب، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الإجارة، وهو ظاهر الدلالة على فضل الفاتحة. قال القرطبي: اختصت الفاتحة بأنها مبدأ القرآن وحاوية لجميع علومه، لاحتوائها على الثناء على الله والإقرار بعبادته والإخلاص له وسؤال الهداية منه والإشارة إلى الاعتراف بالعجز عن القيام بنعمه، وإلى شأن المعاد وبيان عاقبة الجاحدين، إلى غير ذلك مما يقتضي أنها كلها موضع الرقية. وذكر الروياني في البحر أن البسملة أفضل آيات القرآن وتعقب بحديث آية الكرسي وهو الصحيح. قوله:" وقال أبو معمر حدثنا عبد الوارث إلخ" أراد بهذا التعليق

(9/54)


التصريح بالتحديث من محمد بن سيرين لهشام ومن معبد لمحمد، فإنه في الإسناد الذي ساقه أولا بالعنعنة في الموضعين، وقد وصله الإسماعيلي من طريق، محمد بن يحيى الذهلي عن أبي معمر كذلك، وذكر أبو علي الجياني أنه وقع عند القابسي عن أبي زيد السند إلى محمد بن سيرين" وحدثني معبد بن سيرين" بواو العطف قال والصواب حذفها.

(9/55)


10- باب فَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
5008- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ"
5009- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ"
5010- وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَّ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم :" صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ"
قوله:" باب فضل سورة البقرة" أورد فيه حديثين: الأول. قوله:" عن سليمان" هو الأعمش، ولشعبة فيه شيخ آخر وهو منصور أخرجه أبو داود عن حفص بن عمر عن شعبة عنه، وأخرجه النسائي من طريق يزيد بن زريع عن شعبة كذلك، وجمع غندر عن شعبة فأخرجه مسلم عن أبي موسى وبندار وأخرجه النسائي عن بشر بن خالد ثلاثتهم عن غندر، أما الأولان فقالا عنه عن شعبة عن منصور وأما بشر فقال عنه عن شعبة عن الأعمش وكذا أخرجه أحمد عن غندر. قوله:" عن عبد الرحمن" هو ابن يزيد النخعي. قوله:" عن أبي مسعود" في رواية أحمد عن غندر عن عبد الرحمن بن يزيد عن علقمة عن أبي مسعود وقال في آخره:" قال عبد الرحمن ولقيت أبا مسعود فحدثني به" وسيأتي نحوه للمصنف من وجه آخر في" باب كم يقرأ من القرآن" وأخرجه في" باب من لم ير بأسا أن يقول سورة كذا" من وجه آخر عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن وعلقمة جميعهما عن أبي مسعود، فكأن إبراهيم حمله عن علقمة أيضا بعد أن حدثه به عبد الرحمن عنه، كما لقي عبد الرحمن أبا مسعود فحمله عنه بعد أن حدثه به علقمة، وأبو مسعود هذا هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري الذي تقدم بيان حاله في غزوة بدر من المغازي، ووقع في رواية عبدوس بدله" ابن مسعود" وكذا عند الأصيلي عن أبي زيد المروزي1 وصوبه الأصيلي فأخطأ في ذلك بل هو تصحيف، قال أبو علي الجياني: الصواب" عن أبي مسعود" وهو عقبة بن
ـــــــ
1 في نسخة أخرى " من أبي أحمد الجرجاني "

(9/55)


عمرو. قلت: وقد أخرجه أحمد من وجه آخر عن الأعمش فقال فيه:" عن عقبة بن عمرو". قوله :" من قرأ بالآيتين" كذا اقتصر البخاري من المتن على هذا القدر، ثم حول السند إلى طريق منصور عن إبراهيم بالسند المذكور وأكمل المتن فقال :" من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" وقد أخرجه أحمد عن حجاج ابن محمد عن شعبة فقال فيه: " من سورة البقرة" لم يقل " آخر" فلعل هذا هو السر في تحويل السند ليسوقه على لفظ منصور. على أنه وقع في رواية غندر عند أحمد بلفظ:" من قرأ الآيتين الأخيرتين" فعلى هذا فيكون اللفظ الذي ساقه البخاري لفظ منصور، وليس بينه وبين لفظ الأعمش الذي حوله عنه مغايرة في المعنى والله أعلم. قوله:" من آخر سورة البقرة" يعني من قوله تعالى :{آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة، وآخر الآية الأولى {الْمَصِيرُ} ومن ثم إلى آخر السورة آية واحدة، وأما {مَا اكْتَسَبَتْ} فليست رأس آية باتفاق العادين. وقد أخرج علي بن سعيد العسكري في" ثواب القرآن" حديث الباب من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن علقمة بن قيس عن عقبة بن عمرو بلفظ:" من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتا: آمن الرسول إلى آخر السورة" ومن حديث النعمان بن بشير رفعه :" إن الله كتب كتابا أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة وقال في آخره: آمن الرسول" وأصله عند الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. ولأبي عبيد في" فضائل القرآن" من مرسل جبير بن نفير نحوه وزاد :" فأقرءوهما وعلموهكا أبناءكم ونساءكم، فإنهما قرآن وصلاة ودعاء". قوله:" كفتاه" أي أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن، وقيل أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقا سواء كان داخل الصلاة أم خارجها، وقيل معناه أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالا، وقيل معناه كفتاه كل سوء، وقيل كفتاه شر الشيطان، وقيل دفعتا عنه شر الإنس والجن، وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر، وكأنهما اختصتا بذلك لما تضمنتاه من الثناء على الصحابة بجميل انقيادهم إلى الله وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم، وذكر الكرماني عن النووي أنه قال: كفتاه عن قراءة سورة الكهف وآية الكرسي، كذا نقل عنه جازما به، ولم يقل ذلك النووي وإنما قال ما نصه: قيل معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات، ويحتمل من الجميع. هذا آخر كلامه. وكأن سبب الوهم أن عند النووي عقب هذا باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي فلعل النسخة التي وقعت للكرماني سقط منها لفظ باب وصحفت فضل فصارت وقيل، واقتصر النووي في" الأذكار" على الأول والثالث نقلا ثم قال: قلت ويجوز أن يراد الأولان انتهى. وعلى هذا فأقول: يجوز أن يراد جميع ما تقدم والله أعلم. والوجه الأول ورد صريحا من طريق عاصم عن علقمة عن أبي مسعود رفعه :" من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة" ويؤيد الرابع حديث النعمان بن بشير رفعه :" إن الله كتب كتابا وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا يقرآن في دار فيقربها الشيطان ثلاث ليال" أخرجه الحاكم وصححه، وفي حديث معاذ لما أمسك الجنى وآية ذلك " لا يقرأ أحد منكم خاتمة سورة البقرة فيدخل أحد منها بيته تلك الليلة" أخرجه الحاكم أيضا. الحديث الثاني حديث أبي هريرة، تقدم شرحه في الوكالة، وقوله في آخره :" صدقك وهو كذوب" هو من التتميم البليغ، لأنه لما أوهم مدحه بوصفه الصدق في قوله صدقك استدرك نفي الصدق عنه بصيغة مبالغة، والمعنى صدقك في هذا القول مع أن عادته الكذب المستمر، وهو كقولهم قد يصدق الكذوب، وقوله:" ذاك شيطان" كذا للأكثر، وتقدم في الوكالة أنه وقع هنا" ذاك الشيطان" واللام فيه للجنس أو العهد الذهني من الوارد

(9/56)


أن لكل آدمي شيطانا وكل به، أو اللام بدل من الضمير كأنه قال: ذاك شيطانك، أو المراد الشيطان المذكور في الحديث الآخر حيث قال في الحديث :" ولا يقربك شيطان" وشرحه الطيبي على هذا فقال: هو - أي قوله فلا يقربك شيطان - مطلق شائع في جنسه، والثاني فرد من أفراد ذلك الجنس. وقد استشكل الجمع بين هذه القصة وبين حديث أبي هريرة أيضا الماضي في الصلاة وفي التفسير وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال :" إن" شيطانا تفلت على البارحة" الحديث وفيه :" ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية" وتقرير الإشكال أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من إمساكه من أجل دعوة سليمان عليه السلام حيث قال: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قال الله تعالى :{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} ثم قال :{وَالشَّيَاطِينَ} وفي حديث الباب أن أبا هريرة أمسك الشيطان الذي رآه وأراد حمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد بالشيطان الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثقه هو رأس الشياطين الذي يلزم من التمكن منه التمكن منهم فيضاهي حينئذ ما حصل لسليمان عليه السلام من تسخير الشياطين فيما يريد والتوثق منهم، والمراد بالشيطان في حديث الباب إما شيطانه بخصوصه أو آخر في الجملة لأنه يلزم من تمكنه منه اتباع غيره من الشياطين في ذلك التمكن، أو الشيطان الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم بربطه تبدى له في صفته التي خلق عليها، وكذلك كانوا في خدمة سليمان عليه السلام على هيئتهم، وأما الذي تبدي لأبي هريرة في حديث الباب فكان على هيئة الآدميين فلم يكن في إمساكه مضاهاة لملك سليمان، والعلم عند الله تعالى

(9/57)


1- باب فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ
5011- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ"
قوله:" باب فضل الكهف" في رواية أبي الوقت" فضل سورة الكهف" وسقط لفظ:" باب" في هذا والذي قبله والثلاثة بعده لغير أبي ذر. قوله:" حدثنا زهير" هو ابن معاوية. قوله:" عن البراء" في رواية الترمذي من طريق شعبة عن أبي إسحاق" سمعت البراء". قوله:" كان رجل" قيل هو أسيد بن حضير كما سيأتي من حديثه نفسه بعد ثلاثة أبواب، لكن فيه أنه كان يقرأ سورة البقرة وفي هذا أنه كان يقرأ سورة الكهف وهذا ظاهره التعدد وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس لكن في سورة البقرة أيضا. وأخرج أبو داود من طريق مرسلة قال:" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح؛ قال: فلعله قرأ سورة البقرة. فسئل قال: قرأت سورة البقرة" ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة وسورة الكهف جميعا أو من كل منهما. قوله:" بشطنين" جمع شطن بفتح المعجمة وهو الحبل، وقيل بشرط طوله، وكأنه كان شديد الصعوبة. قوله:" وجعل فرسه ينفر" بنون وفاء ومهملة وقد وقع في رواية لمسلم:" ينقز" بقاف وزاي، وخطأه عياض، فإن كان من حيث الرواية فذاك وإلا فمعناها هنا واضح. قوله:" تلك السكينة" بمهملة وزن عظيمة، وحكى ابن قرقول والصغاني فيها كسر أولها والتشديد بلفظ المرادف للمدية؛ وقد نسبه ابن قرقول للحربي وأنه حكاه عن

(9/57)


بعض أهل اللغة. وتقرر لفظ السكينة في القرآن والحديث، فروى الطبري وغيره عن علي قال: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، وقيل لها رأسان، وعن مجاهد لها رأس كرأس الهر وعن الربيع بن أنس لعينها شعاع وعن السدي: السكينة طست من ذهب من الجنة يغسل فيها قلوب الأنبياء، وعن أبي مالك قال: هي التي ألقى فيها موسى الألواح والتوراة والعصا، وعن وهب بن منبه: هي روح من الله، وعن الضحاك بن مزاحم قال: هي الرحمة، وعنه هي سكون القلب وهذا اختيار الطبري، وقيل هي الطمأنينة، وقيل الوقار، وقيل الملائكة ذكره الصغاني. والذي يظهر أنها مقولة بالاشتراك على هذه المعاني، فيحمل كل موضع وردت فيه على ما يليق به، والذي يليق بحديث الباب هو الأول، وليس قول وهب ببعيد. وأما قوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فيحتمل الأول ويحتمل قول وهب والضحاك، فقد أخرج المصنف حديث الباب في تفسير سورة الفتح كذلك، وأما التي في قوله تعالى :{فيه سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فيحتمل قول السدي وأبي مالك. وقال النووي: المختار أنها شيء من المخلوقات فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة. قوله :" تنزلت" في رواية الكشميهني :" تنزل" بضم اللام بغير تاء والأصل تتنزل. وفي رواية الترمذي" نزلت مع القرآن أو على القرآن"

(9/58)


2- باب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ
5012- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي حَتَّى كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي قَالَ فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ قَالَ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}"
قوله:" باب فضل سورة الفتح" في رواية غير أبي ذر" فضل سورة الفتح" بغير" باب". قوله:" عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره" تقدم في غزوة الفتح وفي التفسير أن هذا السياق صورته الإرسال وأن الإسماعيلي والبزار أخرجاه من طريق محمد بن خالد ابن عثمة عن مالك بصريح الاتصال ولفظه:" عن أبيه عن عمر" ثم وجدته في التفسير من جامع الترمذي من هذا الوجه فقال:" عن أبيه سمعت عمر" ثم قال:" حديث حسن غريب" وقد رواه بعضهم عن مالك فأرسله فأشار إلى الطريق التي أخرجها البخاري وما وافقها، وقد بينت في المقدمة أن في أثناء السياق ما يدل على أنه من رواية أسلم عن عمر لقوله فيه:" قال عمر فحركت بعيري إلخ" وتقدمت بقية شرحه في تفسير سورة الفتح

(9/58)


3- باب {فَضْلِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِيهِ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5013- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي

(9/58)


14- باب فَضْلِ الْمُعَوِّذَاتِ
5016- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا"
5017- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المفضل عن عقيل عن بن شهاب عن عروة عن عائشة ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات"
[الحديث 5017- طرفاه في: 5748، 6319]
قوله:" باب فصل المعوذات" أي الإخلاص والفلق والناس، وقد كنت جوزت في" باب الوفاة النبوية" من كتاب المغازي أن الجمع فيه بناء على أن أقل الجمع اثنان، ثم ظهر من حديث هذا الباب أنه على الظاهر، وأن المراد بأنه كان يقرأ بالمعوذات أي السور الثلاث، وذكر سورة الإخلاص معهما تغليبا لما اشتملت عليه من صفة الرب وإن لم يصرح فيها بلفظ التعويذ. وقد أخرج أصحاب السنن الثلاثة أحمد وابن خزيمة وابن حبان من حديث عقبة بن عامر قال:" قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس تعوذ بهن، فإنه لم يتعوذ بمثلهن، اقرأ المعوذات دبر كل صلاة" فذكرهن. قوله:" كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات" الحديث تقدم في الوفاة النبوية من طريق عبد الله بن المبارك عن يونس عن ابن شهاب، وأحلت بشرحه على كتاب الطب، ورواية عقيل عن ابن شهاب في هذا الباب وإن اتحد سندها بالذي قبله من ابن شهاب فصاعدا لكن فيها أنه كان يقرأ المعوذات عند النوم، فهي مغايرة لحديث مالك المذكور، فالذي يترجح أنهما حديثان عند ابن شهاب بسند واحد عند بعض الرواة عنه ما ليس عند بعض، فأما مالك ومعمر ويونس وزياد بن سعد عند مسلم فلم تختلف الرواة عنهم في أن ذلك كان عند الوجع، ومنهم من قيده بمرض، الموت، ومنهم من زاد فيه فعل عائشة، ولم يفسر أحد منهم المعوذات، وأما عقيل فلم تختلف الرواة عنه في ذلك عند النوم. ووقع في رواية يونس من طريق سليمان بن بلال عنه أنه فعل عائشة كان بأمره صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في كتاب الطب، وقد جعلهما أبو مسعود حديثا واحدا، وتعقبه أبو العباس الطرقي، وفرق بينهما خلف، وتبعه المزي والله أعلم. وسيأتي شرحه في كتاب الطب إن شاء الله تعالى

(9/62)


15- باب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلاَئِكَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
5018- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتْ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ فَسَكَتَ وَسَكَتَتْ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا قَالَ وَتَدْرِي مَا ذَاكَ قَالَ لاَ قَالَ تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لاَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ"
قَالَ ابْنُ الْهَادِ وَحَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ"
قوله:" باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن" كذا جمع بين السكينة والملائكة، ولم يقع في حديث الباب ذكر السكينة ولا في حديث البراء الماضي في فضل سورة الكهف ذكر الملائكة، فلعل المصنف كان يرى أنهما قصة واحدة، ولعله أشار إلى أن المراد بالظلة في حديث الباب السكينة، لكن ابن بطال جزم بأن الظلة السحابة وأن الملائكة كانت فيها ومعها السكينة. قال ابن بطال قضية الترجمة أن السكينة تنزل أبدا مع الملائكة، وقد تقدم بيان الخلاف في السكينة ما هي وما قال النوي في ذلك. قوله:" وقال الليث إلخ" وصله أبو عبيد في" فضائل القرآن" عن يحيى بن بكير عن الليث بالإسنادين جميعا. قوله:" حدثني يزيد بن الهاد" هو ابن أسامة بن عبد الله بن شداد بن الهاد. قوله:" عن محمد بن إبراهيم" هو التيمي وهو من صغار التابعين، ولم يدرك أسيد بن حضير فروايته عنه منقطعة، لكن الاعتماد في وصل الحديث المذكور على الإسناد الثاني، قال الإسماعيلي: محمد بن إبراهيم عن أسيد ابن حضير مرسل، وعبد الله بن خباب عن أبي سعيد متصل. تم ساقه من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن يزيد بن الهاد بالإسنادين جميعا وقال: هذه الطريق على شرط البخاري. قلت: وجاء عن الليث فيه إسناد ثالث أخرجه النسائي من طريق شعيب بن الليث وداود بن منصور كلاهما عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد عن ابن أبي هلال عن يزيد بن الهاد بالإسناد الثاني فقط، وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق إبراهيم بن سعد عن يزيد بن الهاد بالإسناد الثاني لكن وقع في روايته:" عن أبي سعيد عن أسيد ابن حضير" وفي لفظ:" عن أبي سعيد أن أسيد بن حضير قال:" لكن في سياقه ما يدل على أن أبا سعيد إنما حمله عن أسيد فإنه قال في أثنائه" قال أسيد: فخشيت أن يطأ يحيى. فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فالحديث من مسند أسيد بن حضير، وليحيى بن بكير فيه عن الليث إسناد آخر أخرجه أبو عبيد أيضا من هذا الوجه فقال:" عن ابن شهاب عن أبي بن كعب بن مالك عن أسيد بن حضير". قوله:" بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة" رواية ابن أبي ليلى عن أسيد بن حضير" بينما أنا أقرأ سورة، فلما انتهيت إلى آخرها" أخرجه أبو عبيد، ويستفاد منه أنه ختم السورة

(9/63)


التي ابتدأ بها. ووقع في رواية إبراهيم بن سعد المذكورة" بينما هو يقرأ في مربده" أي المكان الذي فيه التمر. وفي رواية أبي بن كعب المذكورة أنه كان يقرأ على ظهر بيته وهذا مغاير للقصة التي فيها أنه كان في مربده، وفي حديث الباب أن ابنه كان إلى جانبه وفرسه مربوطة فخشي أن تطأه، وهذا كله مخالف لكونه كان حينئذ على ظهر البيت، إلا أن يراد بظهر البيت خارجه لا أعلاه فتتحد القصتان. قوله:" إذ جالت الفرس فسكت فسكنت" في رواية إبراهيم بن سعد أن ذلك تكرر ثلاث مرار وهو يقرأ. وفي رواية ابن أبي ليلى" سمعت رجة من خلفي حتى ظننت أن فرسي تنطلق". قوله:" فلما اجتره" بجيم ومثناه وراء ثقيلة والضمير لولده أي اجتر ولده من المكان الذي هو فيه حتى لا تطأه الفرس، ووقع في رواية القابسي" آخره:" بمعجمة ثقيلة وراء خفيفة أي عن الموضع الذي كان به خشية عليه. قوله:" رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها" كذا فيه باختصار، وقد أورده أبو عبيد كاملا ولفظه:" رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها" وفي رواية إبراهيم بن سعد" فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج، فعرجت في الجو حتى ما أراها". قوله :" اقرأ يا ابن حضير" أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك، وليس أمرا له بالقراءة في حالة التحديث، وكأنه استحضر صورة الحال فصار كأنه حاضر عنده لما رأى ما رأى، فكأنه يقول: استمر على قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك، وفهم أسيد ذلك فأجاب بعذره في قطع القراءة، وهو قوله:" خفت أن تطأ يحيى" أي خشيت إن استمريت على القراءة أن تطأ الفرس ولدى، ودل سياق الحديث على محافظة أسيد على خشوعه في صلاته لأنه كان يمكنه أول، ما جالت الفرس أن يرفع رأسه، وكأنه كان بلغه حديث النهي عن رفع المصلي رأسه إلى السماء فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب، ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات. ووقع في رواية ابن أبي ليلى المذكورة " اقرأ أباعتيك" وهي كنية أسيد. قوله :" دنت لصوتك" في رواية إبراهيم بن سعد " تستمع لك" وفي رواية ابن كعب المذكورة" وكان أسيد حسن الصوت" وفي رواية يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهاد عند الإسماعيلي أيضا:" اقرأ أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود" وفي هذه الزيادة إشارة إلى الباعث على استماع الملائكة لقراءته. قوله :" ولو قرأت" في رواية ابن أبي ليلى " أما إنك لو مضيت". قوله: " ما يتوارى منهم" في رواية إبراهيم بن سعد" ما تستتر منهم" وفي رواية ابن أبي ليلى" لرأيت الأعاجيب" قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، كذا أطلق، وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلا والحسن الصوت، قال: وفيه فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. قلت: الحكم المذكور أعم من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية ما لم يذكر، وإلا لو كان الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ. وقد أشار في آخر الحديث بقوله :" ما يتوارى منهم" إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح

(9/64)


باب من قال لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مابين الدفتين
...
16- باب مَنْ قَالَ لَمْ يَتْرُكْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ
5019- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ

(9/64)


عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ أَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ مَا تَرَكَ إِلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ قَالَ وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ مَا تَرَكَ إِلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ"
قوله:" باب من قال: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين" أي ما في المصحف، وليس المراد أنه ترك القرآن مجموعا بين الدفتين لأن ذلك يخالف ما تقدم من جمع أبي بكر ثم عثمان. وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيرا من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي واستحقاقه الخلافة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتا في القرآن وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة لأنهم لم يكتموا مثل " أنت عندي بمنزلة هارون من موسى" وغيرها من الظواهر التي قد يتمسك بها من يدعي إمامته، كما لم يكتموا ما يعارض ذلك أو يخصص عمومه أو يقيد مطلقه. وقد تلطف المصنف في الاستدلال على الرافضة بما أخرجه عن أحد أئمتهم الذين يدعون إمامته وهو محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب. فلو كان هناك شيء ما يتعلق بأبيه لكان هو أحق الناس بالاطلاع عليه، وكذلك ابن عباس فإنه ابن عم علي وأشد الناس له لزوما واطلاعا على حاله. قوله:" عن عبد العزيز بن رفيع" في رواية علي بن المديني عن سفيان" حدثنا عبد العزيز" أخرجه أبو نعيم في" المستخرج". قوله:" دخلت أنا وشداد بن معقل" هو الأسدي الكوفي، تابعي كبير من أصحاب ابن مسعود وعلي. ولم يقع له في رواية البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وأبوه بالمهملة والقاف، وقد أخرج البخاري في خلق أفعال العباد من طريق عبد العزيز بن رفيع عن شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود حديثا غير هذا. قوله:" أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء" ؟ في رواية الإسماعيلي:" شيئا سوى القرآن". قوله:" إلا ما بين الدفتين" بالفاء تثنية دفة بفتح أوله وهو اللوح، ووقع في رواية الإسماعيلي، بين اللوحين". قوله:" قال ودخلنا" القائل هو عبد العزيز، ووقع عند الإسماعيلي:" لم يدع إلا ما في هذا المصحف" أي لم يدع من القرآن ما يتلى إلا ما هو داخل المصحف الموجود ولا يرد على هذا ما تقدم في كتاب العلم عن علي أنه قال:" ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة" لأن عليا أراد الأحكام التي كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينف أن عنده أشياء أخر من الأحكام التي لم يكن كتبها. وأما جواب ابن عباس وابن الحنفية فإنما أرادا من القرآن الذي يتلى، أو أرادا مما يتعلق بالإمامة، أي لم يترك شيئا يتعلق بأحكام الإمامة إلا ما هو بأيدي الناس، ويؤيد ذلك ما ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها أو لم يبق، مثل حديث عمر" الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وحديث أنس في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة، قال فأنزل الله فيهم قرآنا " بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا" وحديث أبي بن كعب" كانت الأحزاب قدر البقرة" وحديث حذيفة ما يقرءون ربعها يعني براءة، وكلها أحاديث صحيحة. وقد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر أنه" كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله، ويقول: إن منه قرآنا قد رفع" وليس في شيء من ذلك ما يعارض حديث الباب، لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

(9/65)


17- باب فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ
5020- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي مُوسَى

(9/65)


الأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ رِيحَ لَهَا"
[الحديث 5020- أطرافه في: 5059، 5427، 7560]
5021- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلاَ مِنْ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لاَ قَالَ فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ"
قوله:" باب فضل القرآن على سائر الكلام" هذه الترجمة لفظ حديث أخرج الترمذي معناه من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن عن ذكري وعن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" ورجاله ثقات إلا عطية العوفي فقيه ضعف؛ وأخرجه ابن عدي من رواية شهر بن حوشب عن أبي هريرة مرفوعا:" فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وفي إسناده عمر بن سعيد الأشج وهو ضعيف، وأخرجه ابن الضريس من وجه آخر عن شهر بن حوشب مرسلا ورجاله لا بأس بهم، وأخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده من حديث عمر بن الخطاب وفي إسناده صفوان بن أبي الصهباء مختلف فيه، وأخرجه ابن الضريس أيضا من طريق الجراح بن الضحاك عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رفعه :" خيركم من تعلم القرآن وعلمه - ثم قال - وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه وذلك أنه منه" وحديث عثمان هذا سيأتي بعد أبواب بدون هذه الزيادة، وقد بين العسكري أنها من قول أبي عبد الرحمن السلمي. وقال المصنف في خلق أفعال العباد" وقال أبو عبد الرحمن السلمي" فذكره، وأشار في خلق أفعال العباد إلى أنه لا يصح مرفوعا، وأخرجه العسكري أيضا عن طاوس والحسن من قولهما. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث أبي موسى. قوله: " مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة" بضم الهمزة والراء بينهما مثناة ساكنة وآخره جيم ثقيلة، وقد تخفف. ويزاد قبلها نون ساكنة، ويقال بحذف الألف مع الوجهين فتلك أربع لغات وتبلغ مع التخفيف إلى ثمانية. قوله :" طعمها طيب وريحها طيب" قيل خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه، ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة لأنه

(9/66)


يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبها دهن له منافع وقيل إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف حبه أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضا من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة هضم، ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات. ووقع في رواية شعبة عن قتادة كما سيأتي بعد أبواب" المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به" وهي زيادة مفسرة للمراد وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة، فإن قيل لو كان كذلك لكثر التقسيم كأن يقال الذي يقرأ ويعمل وعكسه والذي يعمل ولا يقرأ وعكسه، والأقسام الأربعة ممكنة في غير المنافق وأما المنافق فليس له إلا قسمان فقط لأنه لا اعتبار بعمله إذا كان نفاقه نفاق كفر، وكأن الجواب عن ذلك أن الذي حذف من التمثيل قسمان. الذي يقرأ ولا يعمل، الذي لا يعمل ولا يقرأ، وهما شبيهان بحال المنافق فيمكن تشبيه الأول بالريحانة والثاني بالحنظلة فاكتفى بذكر المنافق، والقسمان الآخران قد ذكرا. قوله :" ولا ريح فيها" في رواية شعبة" لها". قوله :" ومثل الفاجر الذي يقرأ" في رواية شعبة " ومثل المنافق" في الموضعين. قوله :" ولا ريح لها" في رواية شعبة " وريحها مر" واستشكلت هذه الرواية من جهة أن المرارة من أوصاف الطعوم فكيف يوصف بها الريح؟ وأجيب بأن ريحها لما كان كريها استعير له وصف المرارة، وأطلق الزركشي هنا أن هذه الرواية وهم وأن الصواب ما في رواية هذا الباب :" ولا ريح لها" ثم قال في كتاب الأطعمة لما جاء فيه :" ولا ريح لها" هذا أصوب من رواية الترمذي " طعمها مر وريحها مر" ثم ذكر توجيهها وكأنه ما استحضر أنها في هذا الكتاب وتكلم عليها فلذلك نسبها للترمذي. وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن، وضرب المثل للتقريب لفهم، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه. حديث ابن عمر " إنما أجلكم في أجل من قبلكم" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في المواقيت من كتاب الصلاة، ومطابقة الحديث الأول للترجمة من جهة ثبوت فضل قارئ القرآن على غيره فيستلزم فضل القرآن على سائر الكلام كما فضل الأترج على سائر الفواكه، ومناسبة الحديث الثاني من جهة ثبوت فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم وثبوت الفضل لها بما ثبت من فضل كتابها الذي أمرت بالعمل به

(9/67)


باب الوصاة بكتاب الله عز وجل
...
18- باب الْوَصِيَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
5022- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا مالك بن مغول حدثنا طلحة قال ثم سألت عبد الله بن أبي أوفى آوصى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا فقلت كيف كتب على الناس الوصية أمروا بها ولم يوص قال أوصى بكتاب الله"
قوله:" باب الوصاة بكتاب الله" في رواية الكشميهني:" الوصية" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الوصايا، وتقدم فيه حديث الباب مشروحا، وقوله فيه:" أوصى بكتاب الله" بعد قوله:" لا" حين قال له" هل أوصى بشيء" ظاهرهما التخالف، وليس كذلك لأنه نفى ما يتعلق بالإمارة ونحو ذلك لا مطلق الوصية، والمراد بالوصية بكتاب الله حفظه حسا ومعنى، فيكرم ويصان ولا يسافر به إلى أرض العدو، ويتبع ما فيه فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه ويداوم تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحوه ذلك.

(9/67)


باب من لم يتغنى بالقرآن
...
19- باب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}
5023- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يُرِيدُ يَجْهَرُ بِهِ"
الحديث 5023- أطرافه في: 5024، 7482، 7544]
5024- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ"
قوله:" باب من لم يتغن بالقرآن" هذه الترجمة لفظ حديث أورده المصنف في الأحكام من طريق ابن جريج عن ابن شهاب بسند حديث الباب بلفظ:" من لم يتغن بالقرآن فليس منا" وهو في السنن من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره. قوله:" وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أشار بهذه الآية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة: يتغنى يستغنى، كما سيأتي هذا الباب عنه، وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة ووكيع جميعا وقد بين إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة أنه استغناء خاص، وكذا قال أحمد عن وكيع: يستغنى به عن أخبار الأمم الماضية، وقد أخرج الطبري وغيره من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال:" جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كفى تقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزل : أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" وقد خفي وجه مناسبة تلاوة هذه الآية هنا على كثير من الناس كابن كثير فنفى أن يكون لذكرها وجه، على أن ابن بطال مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال: قال أهل التأويل في هذه الآية. فذكر ابن يحيى بن جعدة مختصرا قال: فالمراد بالآية الاستغناء عن أخبار الأمم الماضية، وليس المراد الاستغناء الذي هو ضد الفقر، قال: وإتباع البخاري الترجمة بالآية يدل على أنه يذهب إلى ذلك. وقال ابن التين: يفهم من الترجمة أن المراد بالتغني الاستغناء لكونه أتبعه الآية التي تتضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره، فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره وحمله على ضد الفقر من جملة ذلك. قوله:" عن أبي هريرة" في رواية شعيب عن ابن شهاب" حدثني أبو سلمة أنه سمع أبا هريرة" أخرجه الإسماعيلي. قوله :" لم يأذن الله لنبي" كذا لهم بنون وموحدة، وعند الإسماعيلي:" لشيء" بشين معجمة وكذا عند مسلم من جميع طرقه. ووقع في رواية سفيان التي تلي هذه في الأصل كالجمهور. وفي رواية الكشميهني كرواية عقيل. قوله:" ما أذن لنبي" كذا للأكثر، وعند أبي ذر" للنبي" بزيادة اللام، فإن كانت محفوظة فهي للجنس، ووهم من ظنها للعهد وتوهم أن المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ما أذن للنبي صلى الله عليه وسلم، وشرحه على ذلك. قوله :" أن يتغنى" كذا لهم، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه بدون" أن" وزعم ابن الجوزي أن الصواب حذف" أن" وأن إثباتها وهم من بعض الرواة لأنهم كانوا يروون بالمعنى فربما ظن بعضهم المساواة فوقع في الخطأ لأن الحديث لو كان بلفظ:" أن" لكان من الإذن بكسر الهمزة وسكون

(9/68)


الذال بمعنى الإباحة والإطلاق، وليس ذلك مرادا هنا وإنما هو من الأذن بفتحتين وهو الاستماع، وقوله أذن أي استمع، والحاصل أن لفظ أذن بفتحة ثم كسرة في الماضي وكذا في المضارع مشترك بين الإطلاق والاستماع، تقول أذنت آذن بالمد، فإن أردت الإطلاق فالمصدر بكسرة ثم سكون، وإن أردت الاستماع فالمصدر بفتحتين، قال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن
إن همي في سماع وأذن
أي في سماع واستماع. وقال القرطبي: أصل الأذن بفتحتين أن المستمع يميل بأذنه إلى جهة من يسمعه، وهذا المعنى في حق الله لا يراد به ظاهره وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حق الله تعالى إكرام ا لقارئ وإجزال ثوابه، لأن ذلك ثمرة الإصغاء. ووقع عند مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث :" ما أذن لشيء كأذنه" بفتحتين، ومثله عند ابن أبي داود من طريق محمد بن أبي حفصة عن عمرو بن دينار عن أبي سلمة، وعند أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث فضالة بن عبيد الله" أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته". قلت: ومع ذلك كله فليس ما أنكره ابن الجوزي بمنكر بل هو موجه، وقد وقع عند مسلم في رواية أخرى كذلك ووجهها عياض بأن المراد الحث على ذلك والأمر به. قوله:" وقال صاحب له يجهر به" الضمير في" له" لأبي سلمة، والصاحب المذكور هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، بينه الزبيدي عن ابن شهاب في هذا الحديث أخرجه ابن أبي داود عن محمد بن يحيى الذهلي في" الزهريات" من طريقه بلفظ: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن" قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن عن أبي سلمة " يتغنى بالقرآن يجهر به" فكأن هذا التفسير لم يسمعه ابن شهاب من أبي سلمة وسمعه من عبد الحميد عنه فكان تارة يسميه وتارة يبهمه، وقد أدرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، قال الذهلي: وهو غير محفوظ في حديث معمر، وقد رواه عبد الأعلى عن معمر بدون هذه الزيادة. قلت: وهي ثابتة عن أبي سلمة من وجه آخر أخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: " ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به" وكذا ثبت عنده من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة. قوله:" عن سفيان" هو ابن عيينة. قوله:" عن الزهري" هو ابن شهاب المذكور في الطريق الأولى، ونقل ابن أبي داود عن علي بن المديني شيخ البخاري فيه قال: لم يقل لنا سفيان قط في هذا الحديث:" حدثنا ابن شهاب" قلت: قد رواه الحميدي في مسنده عن سفيان قال:" سمعت الزهري" ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في" المستخرج"، والحميدي من أعرف الناس، بحديث سفيان وأكثرهم تثبتا عته للسماع من شيوخهم. قوله:" قال سفيان تفسيره يستغنى به" كذا فسره سفيان، ويمكن أن يستأنس بما أخرجه أبو داود وابن الضريس، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك قال:" لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال: تجار كسبة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وقد ارتضى أبو عبيد تفسير يتغنى بيستغني وقال إنه جائز في كلام العرب، وأنشد الأعشى:
وكنت امرءا زمنا بالعراق
خفيف المناخ طويل التغني

(9/69)


أي كثير الاستغناء وقال المغيرة بن حبناء:
كلانا غنى عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قال: فعلى هذا يكون المعنى من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا، أي على طريقتنا. واحتج أبو عبيد أيضا بقول ابن مسعود" من قرأ سورة آل عمران فهو غني" ونحو ذلك. وقال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله يتغنى على أربعة أقوال. أحدها تحسين الصوت، والثاني الاستغناء، والثالث التحزن قاله الشافعي، والرابع التشاغل به تقول العرب تغنى بالمكان أقام به. قلت: وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في" الزاهر" قال. المراد به التلذذ الاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء، فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء، وهو كقول النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا
مفجعة على فنن تغنى
أطلق على صوتها غناء لأنه يطرب كما يطرب الغناء وإن لم يكن غناء حقيقة، وهو كقولهم" العمائم تيجان العرب، لكونها تقوم مقام التيجان، وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء، قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني. ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم فإنه أراد بقوله:" طويل التغني" طول الإقامة لا الاستغناء لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء، يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله كانوا يتمدحون بذلك قال حسان:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا يبرحون من أوطانهم، فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره، وهو يئول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء وأنه يستغنى به عن غيره من الكتب، وقيل المراد من لم يغنه القرآن وينفعه في إيمانه ويصدق بما فيه من وعد ووعيد وقيل معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه، وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة إلا إن كان ذلك بالخاصية، وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك، وفي توجيهه تكلف كأنه قال ليس منا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته، وأما الذي نقله عن الشافعي فلم أره صريحا عنه تفسير الخبر. وإنما قال في مختصر المزني: وأحب أن يقرأ حدرا وتخزينا انتهى. قال أهل اللغة: حدرت القراءة أدرجتها ولم أمططها، وقرأ فلان تحزينا إذا رفق صوته وصيره كصوت الحزين. وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه قرأ سورة فحزنها شبه الرثى، وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد قال يتغنى به يتحزن به ويرقق به قلبه. وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل ابن عيينة للتغني بالاستغناء فلم يرتضه وقال: لو أراد الاستغناء لقال لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت. قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل، ويؤيده

(9/70)


رواية عبد الأعلى عن معمر عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ: " ما أذن لنبي في الترنم في القرآن" أخرجه الطبري، وعنده في رواية عبد الرزاق عن معمر " ما أذن لنبي حسن الصوت" وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة، وعند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة" حسن الترنم بالقرآن" قال الطبري: والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القارئ وطرب به، قال ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى. وأخرج ابن ماجه والكجي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا:" الله أشد أذنا - أي استماعا - للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته" والقينة المغنية، وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رفعه:" تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه" كذا وقع عنده والمشهور عند غيره في الحديث:" وتغنوا به" والمعروف في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله
إن الغناء بهذا الشعر مضمار
قال: ولا نعلم في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى ولا في أشعارهم، وبيت الأعشى لا حجة فيه لأنه أراد طول الإقامة، ومنه قوله تعالى :{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وقال: بيت المغيرة أيضا لا حجة فيه، لأن التغاني تفاعل بين اثنين وليس هو بمعنى تغنى، قال: وإنما يأتي" تغني" من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعل أي يظهر خلاف ما عنده، وهذا فاسد المعنى. قلت: ويمكن أن يكون بمعنى تكلفه أي تطلبه وحمل نفسه عليه ولو شق عليه كما تقدم قريبا، ويؤيده حديث: " فإن لم تبكوا فتباكوا" وهو في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي عوانة. وأما إنكاره أن يكون تغنى بمعنى استغنى في كلام العرب فمردود، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد تقدم في الجهاد في حديث الخيل " ورجل ربطها تعففا وتغنيا" وهذا من الاستغناء بلا ريب، والمراد به يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففا. وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضا الإسماعيلي فقال: الاستغناء به لا يحتاج إلى استماع، لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به، وأيضا فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة. ثم ساق من وجه آخر عن ابن عيينة قال: يقولون إذا رفع صوته فقد تغنى. قلت: الذي نقل عنه أنه بمعنى يستغنى أتقن لحديثه، وقد نقل أبو داود عنه مثله، ويمكن الجمع بينهما بأن تفسير يستغنى من جهته ويرفع عن غيره. وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة فقال: لم يصنع شيئا حدثني ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال:" كان داود عليه السلام يتغنى - يعني حين يقرأ - ويبكي ويبكي" وعن ابن عباس: أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم. وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في بر ولا بحر إلا أنصتت له واستمعت وبكت. وسيأتي حديث: " إن أبا موسى أعطى مزمارا من مزامير داود" في" باب حسن الصوت بالقراءة". وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع، وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله:" يجهر به" فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره ولا سيما إذا كان فقها، وقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا. أي يجهر به. وقال أبو عاصم: أخذ بيدي ابن جريج فأوقفني على

(9/71)


أشعب فقال: غن ابن أخي ما بلغ من طمعك؟ فذكر قصة. فقوله غن أي أخبرني جهرا صريحا. ومنه قول ذي الرمة:
أحب المكان القفر من أجلي أنني
به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكنى، والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة، وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن، مستغنيا به عن غيره من الأخبار، طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد، وقد نظمت ذلك في بيتين:
تغن بالقرآن حسن به الصو
ت حزينا جاهرا رنم
واستغن عن كتب الألى طالبا
غنى يد والنفس ثم الزم
وسيأتي ما يتعلق بحسن الصوت بالقرآن في ترجمة مفردة. ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب وإجراء الدمع. وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك، فحكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكاه أبو الطيب الطبري والماوردي وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم، وحكى ابن بطال وعياض والقرطبي من المالكية والماوردي والبندنيجي والغزالي من الشافعية، وصاحب الذخيرة من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة، وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز، وهو المنصوص للشافعي ونقله الطحاوي عن الحنفية. وقال الفوراني من الشافعية في الإبانة يجوز بل يستحب، ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير قال النووي في" التبيان" أجمعوا على تحريمه ولفظه: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم، قال: وأما القراءة بالألحان فقد نص الشافعي في موضع على كراهته وقال في موضع آخر لا بأس به، فقال أصحابه: ليس على اختلاف قولين، بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز وإلا حرم. وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخارجها حرم وكذا حكى ابن حمدان الحنبلي في" الرعاية". وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب الذخيرة من الحنفية: إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب وإلا فلا. وأغرب الرافعي فحكى عن" أمالي السرخسي" أنه لا يضر التمطيط مطلقا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، وهذا شذوذ لا يعرج عليه. والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح. ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم

(9/72)


20- باب اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآنِ
5025- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :" لاَ حَسَدَ إِلاَّ عَلَى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ"
[الحديث5025- طرفه في: 7529]
5026- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :" لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ".
[الحديث 5026- طرفاه في: 7233، 7528]
قوله:" باب اغتباط صاحب القرآن" تقدم في أوائل كتاب العلم" باب الاغتباط في العلم والحكمة" وذكرت هناك تفسير الغبطة، والفرق بينها وبين الحسد، وأن الحسد في الحديث أطلق عليها مجازا، وذكرت كثيرا من مباحث المتن هناك. وقال الإسماعيلي هنا ترجمة الباب:" اغتباط صاحب القرآن" وهذا فعل صاحب القرآن فهو الذي يغتبط وإذا كان يغتبط بفعل نفسه كان معناه أنه يسر ويرتاح بعمل نفسه، وهذا ليس مطابقا. قلت: ويمكن الجواب بأن مراد البخاري بأن الحديث لما كان دالا على أن غير صاحب القرآن يغتبط صاحب القرآن بما أعطيه من العمل بالقرآن فاغتباط صاحب القرآن بعمل نفسه أولى إذا سمع هذه البشارة الواردة في حديث الصادق. قوله :" لا حسد" أي لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يحسن الحسد إن حسن، أو أطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين كأنه قيل لو لم يحصلا إلا بالطريق المذموم لكان ما فيهما من الفضل حاملا على الإقدام عل تحصيلهما به فكيف والطريق المحمود يمكن تحصيلهما به، وهو من جنس قوله تعالى :{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فإن حقيقة السبق أن يتقدم على غيره في المطلوب. قوله :" إلا على اثنتين" في حديث ابن مسعود الماضي وكذا في حديث أبي هريرة المذكور تلو هذا" إلا في اثنتين" تقول حسدته على كذا أي على وجود ذلك له، وأما حسدته في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا وكأنها سببية. قوله :" وقام به آناء الليل" كذا في النسخ التي وقفت عليها من البخاري، وفي" مستخرج أبي نعيم" من طريق أبي بكر بن زنجويه عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه :" آناء الليل وآناء النهار" وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن يسار عن أبي اليمان، وكذا هو عند مسلم من وجه آخر عن الزهري، وقد تقدم في العلم أن المراد بالقيام به العمل به تلاوة وطاعة. قوله:" حدثنا علي بن إبراهيم" هو الواسطي في قول الأكثر، واسم جده عبد المجيد اليشكري، وهو ثقة متقن، عاش بعد البخاري نحو عشرين سنة. وقيل ابن أشكاب وهو علي بن الحسن بن إبراهيم بن أشكاب نسب إلى جده، وبهذا جزم ابن عدي. وقيل علي بن عبد الله بن إبراهيم نسب إلى جده وهو قول

(9/73)


تي في النكاح رواية الفربري عن علي بن عبد الله بن إبراهيم عن حجاج بن محمد. وقال الحاكم: قيل هو علي بن إبراهيم المروزي وهو مجهول، وقيل الواسطي. قوله:" روح" هو ابن عبادة وقد تابعه بشر بن منصور وابن أبي عدي والنضر بن شميل كلهم عن شعبة، قال الإسماعيلي: رفعه هؤلاء ووقفه غندر عن شعبة. قوله:" عن سليمان" هو الأعمش،" قال سمعت ذكوان" هو أبو صالح السمان. قلت. ولشعبة عن الأعمش فيه شيح آخر أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن أبي كبشة الأنماري. قلت: وقد أشرت إلى متن أبي كبشة في كتاب العلم، وسياقه أتم من سياق أبي هريرة. وأخرجه أبو عوانة في صحيحه أيضا من طريق أبي زيد الهروي عن شعبة، وأخرجه أيضا من طريق جرير عن الأعمش بالإسنادين معا، وهو ظاهر في أنهما حديثان متغايران سندا ومتنا اجتمعا لشعبة وجرير معا عن الأعمش، وأشار أبو عوانة إلى أن مسلما لم يخرج حديث أبي هريرة لهذه العلة، وليس ذلك بواضح لأنها ليست علة قادحة. قوله :" فهو يهلكه في الحق" فيه احتراس بليغ، كأنه لما أوهم الإنفاق في التبذير من جهة عموم الإهلاك قيده بالحق والله أعلم.

(9/74)


21- باب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
5027- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ قَالَ وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ قَالَ وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا"
[الحديث 5027- طرفه في: 5028]
5028- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"
5029- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا قَالَ أَعْطِهَا ثَوْبًا قَالَ لاَ أَجِدُ قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَاعْتَلَّ لَهُ فَقَالَ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله :" باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه" كذا ترجم بلفظ المتن، وكأنه أشار إلى ترجيح الرواية بالواو. قوله:" عن سعد بن عبيدة" كذا يقول شعبة، يدخل بين علقمة بن مرثد وأبي عبد الرحمن سعد بن عبيدة. وخالفه سفيان الثوري فقال:" عن علقمة عن أبي عبد الرحمن" ولم يذكر سعد بن عبيدة. وقد أطنب الحافظ أبو العلاء العطار في كتابه" الهادي في القرآن" في تخريج طرقه، فذكر ممن تابع شعبة ومن تابع سفيان جمعا كثيرا، وأخرجه

(9/74)


أبو بكر بن أبي داود في أول الشريعة له وأكثر من تخريج طرقه أيضا، ورجح الحفاظ رواية الثوري وعدوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد. وقال الترمذي كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة. وأما البخاري فأخرج الطريقين فكأنه ترجح عنده أنهما جميعا محفوظان، فيحمل على أن علقمة سمعه أولا من سعد ثم لقي أبا عبد الرحمن فحدثه به، أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن فثبته فيه سعد، ويؤيد ذلك ما في رواية سعد بن عبيدة من الزيادة الموقوفة وهي قول أبي عبد الرحمن" فذلك الذي أقعدني هذا المقعد" كما سيأتي البحث فيه. وقد شذت رواية عن الثوري بذكر سعد بن عبيدة فيه، قال الترمذي" حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا سفيان وشعبة عن علقمة عن سعد بن عبيدة به" وقال النسائي:" أنبأنا عبيد الله بن سعيد حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان أن علقمة حدثهما عن سعد" قال الترمذي قال محمد بن بشار: أصحاب سفيان لا يذكرون فيه سعد بن عبيدة وهو الصحيح ا هـ. وهكذا حكم علي بن المديني علي يحيى القطان فيه بالوهم. وقال ابن عدي: جمع يحيى القطان بين شعبة وسفيان، فالثوري لا يذكر في إسناده سعد بن عبيدة. وهذا مما عد في خطأ يحيى القطان على الثوري. وقال في موضع آخر: حمل يحيى القطان رواية الثوري على رواية شعبة فساق الحديث عنهما، وحمل إحدى الروايتين على الأخرى فساقه على لفظ شعبة، وإلى ذلك أشار الدار قطني. وتعقب بأنه فصل بين لفظيهما في رواية النسائي فقال:" قال شعبة خيركم وقال سفيان أفضلكم". قلت: وهو تعقب واه، إذ لا يلزم من تفصيله للفظهما في المتن أن يكون فصل لفظهما في الإسناد" قال ابن عدي: يقال إن يحيى القطان لم يخطئ قط إلا في هذا الحديث. وذكر الدار قطني أن خلاد بن يحيى تابع يحيى القطان عن الثوري على زيادة سعد بن عبيدة وهي رواية شاذة. وأخرج ابن عدي من طريق يحيى بن آدم عن الثوري وقيس بن الربيع. وفي رواية عن يحيى بن آدم عن شعبة وقيس بن الربيع جميعا عن علقمة عن سعد بن عبيدة قال وكذا رواه سعيد بن سالم القداح عن الثوري ومحمد بن أبان كلاهما عن علقمة بزيادة سعد وزاد في إسناده رجلا آخر كما سأبينه، وكل هذه الروايات وهم، والصواب عن الثوري بدون ذكر سعد وعن شعبة بإثباته. قوله:" عن عثمان" في رواية شريك عن عاصم بن بهدلة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود أخرجه ابن أبي داود بلفظ:" خيركم من قرأ القرآن وأقرأه" وذكره الدار قطني وقال: الصحيح عن أبي عبد الرحمن عن عثمان. وفي رواية خلاد بن يحيى عن الثوري بسنده قال:" عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان" قال الدار قطني: هذا وهم، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون السلمي أخذه عن أبان بن عثمان عن عثمان ثم لقي عثمان فأخذه عنه، وتعقب بأن أبا عبد الرحمن أكثر من أبان. وأبان اختلف في سماعه من أبيه أشد مما اختلف في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان فبعد هذا الاحتمال. وجاء من وجه آخر كذلك أخرجه ابن أبي داود من طريق سعيد بن سلام" عن محمد بن أبان سمعت علقمة يحدث عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان" فذكره وقال تفرد به سعيد بن سلام يعني عن محمد بن أبان قلت: وسعيد ضعيف، وقد قال أحمد: حدثنا حجاج بن محمد عن شعبة قال لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان وكذا نقله أبو عوانة في صحيحه عن شعبة ثم قال: اختلف أهل التمييز في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان ونقل ابن أبي داود عن يحيى بن معين مثل ما قال شعبة. ذكر الحافظ أبو العلاء أن مسلما سكت عن إخراج هذا الحديث في صحيحه. قلت: قد وقع في بعض الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن، وذلك فيما أخرجه ابن عدي في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي مريم من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن أبي عبد

(9/75)


الرحمن" حدثني عثمان" وفي إسناده مقال، لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان رضي الله عنه ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره، فكان هذا أولى من قول من قال إنه لم يسمع منه. قوله :" خيركم من تعلم القرآن وعلمه" كذا للأكثر وللسرخسي " أو علمه" وهي للتنويع لا للشك، وكذا لأحمد عن غندر عن شعبة وزاد في أوله" إن" وأكثر الرواة عن شعبة يقولونه بالواو، وكذا وقع عند أحمد عن بهز وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة وكذا أخرجه الترمذي من حديث علي وهي أظهر من حيث المعنى لأن التي بأو تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره. أن يكون خيرا ممن عمل بما فيه مثلا وإن لم يتعلمه، ولا يقال يلزم على رواية الواو أيضا أن من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلمه غيره، لأنا نقول يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط، بل من أشرف العمل تعليم الغير، فمعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه، وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعد، ولا يقال لو كان المعنى حول النفع المتعدي لاشترك كل من علم غيره علما ما في ذلك، لأنا نقول القرآن أشرف العلوم فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن وإن علمه فيثبت المدعي. ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى :{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه قلنا: لا، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا، قلنا حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فلعل" من" مضمرة في الخبر، ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم. ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا. قوله:" قال وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج" أي حتى ولى الحجاج على العراق قلت: بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء

(9/76)


أبي عبد الرحمن وآخره فالله أعلم بمقدار ذلك، ويعرف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها، والقائل" وأقرأ إلخ" هو سعد بن عبيدة فإنني لم أر هذه الزيادة إلا من رواية شعبة عن علقمة، وقائل" وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا" هو أبو عبد الرحمن، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض نسخ البخاري" قال سعد بن عبيدة وأقرأني أبو عبد الرحمن" قال وهي أنسب لقوله:" وذاك الذي أقعدني إلخ" أي أن إقراءه إياي هو الذي حملني على أن قعدت هذا المقعد الجليل ا هـ. والذي في معظم النسخ" وأقرأ: {بحذف المفعول وهو الصواب، وكأن الكرماني ظن أن قائل" وذاك الذي أقعدني" هو سعد بن عبيدة، وليس كذلك بل قائله أبو عبد الرحمن، ولو كان كما ظن للزم أن تكون المدة الطويلة سيقت لبيان زمان إقراء أبي عبد الرحمن لسعد بن عبيدة، وليس كذلك بل إنما سيقت لبيان طول مدته لإقراء الناس القرآن، وأيضا فكان يلزم أن يكون سعد بن عبيدة قرأ على أبي عبد الرحمن من زمن عثمان، وسعد لم يدرك زمان عثمان، فإن أكبر شيخ له المغيرة بن شعبة وقد عاش بعد عثمان خمس عشرة سنة، وكان يلزم أيضا أن تكون الإشارة بقوله:" وذلك" إلى صنيع أبي عبد الرحمن، وليس كذلك بل الإشارة بقوله ذلك إلى الحديث المرفوع، أي أن الحديث الذي حدث به عثمان في أفضلية من تعلم القرآن وعلمه حمل أبا عبد الرحمن أن قعد يعلم الناس القرآن لتحصيل تلك الفضيلة، وقد وقع الذي حملنا كلامه عليه صريحا في رواية أحمد عن محمد بن جعفر وحجاج بن محمد جميعا عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة قال:" قال أبو عبد الرحمن فذاك الذي أقعدني هذا المقعد" وكذا أخرجه الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وقال فيه:" مقعدي هذا"، قال وعلم أبو عبد الرحمن القرآن في زمن عثمان حتى بلغ الحجاج، وعند أبي عوانة من طريق بشر بن أبي عمرو وأبي غياث وأبي الوليد ثلاثتهم عن شعبة بلفظ:" قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وكان يعلم القرآن" والإشارة بذلك إلى الحديث كما قررته، وإسناده إليه إسناد مجازي، ويحتمل أن تكون الإشارة به إلى عثمان وقد وقع رواية أبي عوانة أيضا عن يوسف بن مسلم عن حجاج بن محمد بلفظ:" قال أبو عبد الرحمن: وهو الذي أجلسني هذا المجلس" وهو محتمل أيضا. قوله:" حدثنا سفيان" هو الثوري، وعلقمة بن مرثد بمثلثة بوزن جعفر، ومنهم من ضبطه بكسر المثلثة، وهو من ثقات أهل الكوفة من طبقة الأعمش، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر في الجنائز من روايته عن سعد بن عبيدة أيضا، وثالث في مناقب الصحابة وقد تقدما. قوله :" إن أفضلكم من تعلم القرآن أو علمه" كذا ثبت عندهم بلفظ:" أو" وفي رواية الترمذي من طريق بشر بن السري عن سفيان" خيركم أو أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه" فاختلف في رواية سفيان أيضا في أن الرواية بأو أو بالواو، وقد تقدم توجيهه. وفي الحديث الحث على تعليم القرآن، وقد سئل الثوري عن الجهاد وإقراء القرآن فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث أخرجه ابن أبي داود. وأخرج عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرئ القرآن خمس آيات خمس آيات، وأسند من وجه آخر عن أبي العالية مثل ذلك وذكر أن جبريل كان ينزل به كذلك، وهو مرسل جيد، وشاهده ما قدمته في تفسير المدثر وفي تفسير سورة اقرأ. ثم ذكر المصنف طرفا من حديث سهل بن سعد في قصة التي وهبت نفسها، قال ابن بطال: وجه إدخاله في هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم زوجه المرأة لحرمة القرآن؛ وتعقبه ابن التين بأن السياق يدل على أنه زوجها له على أن يعلمها، وسيأتي البحث فيه مع استيفاء شرحه في كتاب النكاح. وقال غيره وجه دخوله أن فضل القرآن ظهر على صاحبه في العاجل بأن قام له مقام المال الذي يتوصل به إلى بلوغ

(9/77)


الغرض، وأما نفعه في الآجل فظاهر لا خفاء به. قوله:" وهبت نفسها لله ولرسوله" في رواية الحموي" وللرسول". قوله :" ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا" ووقع في الباب الذي يلي هذا" سورة كذا وسورة كذا" وسيأتي بيان ذلك عند شرحه إن شاء الله تعالى

(9/78)


22 - باب الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ
5030- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال : هل عندك من شيء فقال لا والله يا رسول الله قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال: انظر ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري قال سهل ما له رداء فلها نصفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك شيء والحاصل الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا عدها قال أتقرؤهن عن ظهر قلبك قال: نعم قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن"
قوله:" باب القراءة عن ظهر القلب" ذكر فيه حديث سهل في الواهبة مطولا، وهو ظاهر فيما ترجم له لقوله فيه:" أتقرأهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم" فدل على فضل القراءة عن ظهر القلب لأنها أمكن في التوصل إلى التعليم وقال ابن كثير: إن كان البخاري أراد بهذا الحديث الدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهر قلب أفضل من تلاوته نظرا من المصحف ففيه نظر، لأنها قضية عين فيحتمل أن يكون الرجل كان لا يحسن الكتابة وعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلا يدل ذلك على أن التلاوة عن ظهر قلب أفضل في حق من يحسن ومن لا يحسن، وأيضا فإن سياق هذا الحديث إنما هو لاستثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب ليتمكن من تعليمه لزوجته، وليس المراد أن هذا أفضل من التلاوة نظرا ولا عدمه. قلت: ولا يرد على البخاري شيء مما ذكر، لأن المراد بقوله:" باب القراءة عن ظهر قلب" مشروعيتها أو استحبابها، والحديث مطابق لما ترجم به، ولم يتعرض لكونها أفضل من القراءة نظرا. وقد صرح كثير من العلماء بأن القراءة من المصحف نظرا أفضل من القراءة عن ظهر قلب. وأخرج أبو عبيد في" فضائل القرآن" من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رفعه قال:" فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه ظهرا كفضل الفريضة على النافلة" وإسناده ضعيف، ومن طريق ابن مسعود موقوفا" أديموا النظر في المصحف" وإسناده صحيح، ومن حيث المعنى أن القراءة في المصحف أسلم من الغلط، لكن القراءة عن ظهر قلب

(9/78)


أبعد من الرياء وأمكن للخشوع. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. وأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة" اقرءوا القرآن، ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لا يعذب قلبا وعى القرآن" وزعم ابن بطال أن في قوله :" أتقرأهن عن ظهر قلب" ؟ ردا لما تأوله الشافعي في إنكاح الرجل على أن صداقها أجرة تعليمها، كذا قال: ولا دلالة فيه لما ذكر، بل ظاهر سياقه أنه استثبته كما تقدم. والله أعلم

(9/79)


23 - باب اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ
5031- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ"
5032- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ"
[الحديث 5023- طرفه في: 5039]
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ مِثْلَهُ تَابَعَهُ بِشْرٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ شُعْبَةَ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ شَقِيقٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
5033- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا"
قوله:" باب استذكار القرآن" أي طلب ذكره بضم الذال" وتعاهده" أي تجديد العهد به بملازمة تلاوته. وذكر في الباب ثلاثة أحاديث: الأول. قوله :" إنما مثل صاحب القرآن" أي مع القرآن، والمراد بالصاحب الذي ألفه، قال عياض: المؤالفة المصاحبة، وهو كقوله أصحاب الجنة، وقوله ألفه أي ألف تلاوته، وهو أعم من أن يألفها نظرا من المصحف أو عن ظهر قلب، فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه ويسهل عليه قراءته، فإذا هجره ثقلت عليه القراءة وشقت عليه، وقوله :" إنما" يقتضي الحصر على الراجح، لكنه حصر مخصوص بالنسبة إلى الحفظ والنسيان بالتلاوة والترك. قوله:" كمثل صاحب الإبل المعقلة" أي مع الإبل المعقلة. والمعقلة بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد القاف أي المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير، شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد، فما زال التعاهد موجودا فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودا بالعقال فهو محفوظ. وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورا، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة. قوله :" إن عاهد عليها أمسكها" أي استمر إمساكه لها. وفي رواية أيوب عن نافع عند مسلم:" فإن عقلها حفظها". قوله :" وإن أطلقها ذهبت" أي انفلتت. وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عند مسلم :" إن تعاهدها صاحبها فعقلها أمسكها، وإن أطلق عقلها ذهبت" وفي رواية موسى بن عقبة عن نافع إذا قام

(9/79)


صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه. قوله:" حدثنا محمد بن عرعرة" بعين مهملة مفتوحة وراء ساكنة مكررتين، ومنصور هو ابن المعتمر، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة، وعبد الله هو ابن مسعود، وسيأتي في الرواية المعلقة التصريح بسماع شقيق له من ابن مسعود. قوله:" بئس ما لأحدهم أن يقول" قال القرطبي: بئس هي أخت نعم، فالأولى للذم والأخرى للمدح، وهما فعلان غير متصرفين يرفعان الفاعل ظاهرا أو مضمرا إلا أنه إذا كان ظاهرا لم يكن في الأمر العام إلا بالألف واللام للجنس أو مضاف إلى ما هما فيه حتى يشتمل على الموصوف بأحدهما، ولا بد من ذكره تعينا كقوله نعم الرجل زيد وبئس الرجل عمرو، فإن كان الفاعل مضمرا فلا بد من ذكر اسم نكرة ينصب على التفسير للضمير كقوله نعم رجلا زيد، وقد يكون هذا التفسير" ما" على ما نص عليه سيبويه كما في هذا الحديث وكما في قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} . وقال الطيبي: و" ما" نكرة موصوفة و" أن يقول:" مخصوص بالذم، أي بئس شيئا كان الرجل يقول. قوله:" نسيت" بفتح النون وتخفيف السين اتفاقا. قوله:" آية كيت وكيت" قال القرطبي: كيت وكيت يعبر بهما عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، ومثلهما ذيت وذيت. وقال ثعلب: كيت للأفعال وذيت للأسماء. وحكى ابن التين عن الداودي أن هذه الكلمة مثل كذا إلا أنها خاصة بالمؤنث، وهذا من مفردات الداودي. قوله:" بل هو نسي" بضم النون وتشديد المهملة المكسورة، قال القرطبي: رواه بعض رواة مسلم مخففا. قلت: وكذا هو في مسند أبي يعلى، وكذا أخرجه ابن أبي داود في" كتاب الشريعة" من طرق متعددة مضبوطة بخط موثوق به على سين علامة التخفيف وقال عياض: كان الكناني - يعني أبا الوليد الوقشي - لا يجيز في هذا غير التخفيف. قلت: والتثقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في" الغريب" بعد قوله كيت وكيت: ليس هو نسي ولكنه نسي. الأول بفتح النون وتخفيف السين والثاني بضم النون وتثقيل السين، قال القرطبي: التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته واستذكاره، قال: ومعنى التخفيف أن الرجل ترك غير ملتفت إليه، وهو كقوله تعالى :{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة. واختلف في متعلق الذم من قوله:" بئس" على أوجه: الأول قيل هو على نسبة الإنسان إلى نفسه النسيان وهو لا صنع له فيه فإذا نسبه إلى نفسه أوهم أنه انفرد بفعله، فكان ينبغي أن يقول آنسيت أو نسيت بالتثقيل على البناء للمجهول فيهما، أي أن الله هو الذي أنساني كما قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ وبهذا الوجه جزم ابن بطال فقال: أراد أن يجري على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى خالقها لما في ذلك من الإقرار له بالعبودية والاستسلام لقدرته، وذلك أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها مع أن نسبتها إلى مكتسبنها جائز بدليل الكتاب والسنة. ثم ذكر الحديث الآتي في" باب نسيان القرآن" قال: وقد أضاف موسى عليه السلام النسيان مرة إلى نفسه ومرة إلى الشيطان فقال : {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} ولكل إضافة منها معنى صحيح، فالإضافة إلى الله بمعنى أنه خالق الأفعال كلها، وإلى النفس لأن الإنسان هو المكتسب لها، وإلى الشيطان بمعنى الوسوسة ا هـ. ووقع له ذهول فيما نسبه لموسى، وإنما هو كلام فتاه. وقال القرطبي: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب النسيان إلى نفسه يعني كما سيأتي في" باب نسيان القرآن" وكذا نسبه يوشع إلى نفسه حيث قال: {نسِيتُ الْحُوتَ} وموسى إلى نفسه حيث قال:

(9/80)


{لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} وقد سبق قول الصحابة {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} مساق المدح، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فالذي يظهر أن ذلك ليس متعلق الذم وجنح إلى اختيار الوجه الثاني وهو كالأول لكن سبب الذم ما فيه من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإنسان نسيت الآية الفلانية فكأنه شهد على نفسه بالتفريط فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه الذي يورث النسيان. الوجه الثالث، قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون كره له أن يقول نسيت بمعنى تركت لا بمعنى السهو العارض، كما قال تعالى :{نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وهذا اختيار أبي عبيد وطائفة. الوجه الرابع، قال الإسماعيلي أيضا: يحتمل أن يكون فاعل نسيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال: لا يقل أحد عني إني نسيت آية كذا، فإن الله هو الذي نساني ذلك لحكمة نسخه ورفع تلاوته، وليس لي في ذلك صنع بل الله هو الذي ينسيني لما تنسخ تلاوته؛ وهو كقوله تعالى :{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإن المراد بالمنسي ما ينسخ تلاوته فينسى الله نبيه ما يريد نسخ تلاوته. الوجه الخامس، قال الخطابي: يحتمل أن يكون ذلك خاصا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ضروب النسخ نسيان الشيء الذي ينزل ثم ينسخ منه بعد نزوله الشيء فيذهب رسمه وترفع تلاوته ويسقط حفظه عن حملته، فيقول القائل نسيت آية كذا فنهوا عن ذلك لئلا يتوهم على محكم القرآن الضياع، وأشار لهم إلى أن الذي يقع من ذلك إنما هو بإذن الله لما رآه من الحكمة والمصلحة. الوجه السادس، قال الإسماعيلي: وفيه وجه آخر وهو أن النسيان الذي هو خلاف الذكر إضافته إلى صاحبه مجاز لأنه عارض له لا عن قصد منه، لأنه لو قصد نسيان الشيء لكان ذاكرا له في حال قصده، فهو كما قال ما مات فلان ولكن أميت. قلت: وهو قريب من الوجه الأول. وأرجح الأوجه الوجه الثاني، ويؤيده عطف الأمر باستذكار القرآن عليه. وقال عياض: أول ما يتأول عليه ذم الحال لا ذم القول، أي بئس الحال حال من حفظه ثم غفل عنه حتى نسيه. وقال النووي: الكراهة فيه للتنزيه. قوله :" واستذكروا القرآن" أي واظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به، قال الطيبي: وهو عطف من حيث المعنى على قوله:" بئس ما لأحدكم" أي لا تقصروا في معاهدته واستذكروه، وزاد ابن أبي داود من طريق عاصم عن أبي وائل في هذا الموضع" فإن هذا القرآن وحشي". وكذا أخرجها من طريق المسيب بن رافع عن ابن مسعود. قوله:" فإنه أشد تفصيا" بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة الثقيلة بعدها تحتانية خفيفة أي تفلتا وتخلصا، تقول تفصيت كذا أي أحطت بتفاصيله. والاسم الفصة، ووقع في حديث عقبة بن عامر بلفظ:" تفلتا" وكذا وقعت عند مسلم في حديث أبي موسى ثالث أحاديث الباب، ونصب على التمييز. وفي هذا الحديث زيادة على حديث ابن عمر، لأن في حديث ابن عمر تشبيه أحد الأمرين بالآخر وفي هذا أن هذا أبلغ في النفور من الإبل، ولذا أفصح به في الحديث الثالث حيث قال :" لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها" لأن من شأن الإبل تطلب التفلت ما أمكنها فمتى لم يتعاهدها برباطها تفلتت، فكذلك حافظ القرآن إن لم يتعاهده تفلت بل هو أشد في ذلك. وقال ابن بطال: هذا الحديث يوافق الآيتين قوله تعالى :{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} وقوله تعالى :{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}، فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له، ومن أعرض عنه تفلت منه. قوله:" حدثنا عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو المذكور في الإسناد الذي قبله. وهذه الطريق عند الكشميهني وحده،

(9/81)


وثبتت أيضا في رواية النسفي، وقوله:" مثله" الضمير للحديث الذي قبله، وهو يشعر بأن سياق جرير مساو لسياق شعبة. وقد أخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة مقرونا بإسحاق بن راهويه وزهير بن حرب ثلاثتهم عن جرير ولفظه مساو للفظ شعبة المذكور إلا أنه قال :" استذكروا" بغير واو. وقال:" فلو أشد" بدل قوله :" فإنه" وزاد بعد قوله من النعم " بعقلها" وقد أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عثمان بن أبي شيبة بإثبات الواو وقال في آخره :" من عقله" وهذه الزيادة ثابتة عنده في حديث شعبة أيضا من رواية غندر عنه بلفظ:" بئسما لأحدكم - أو لأحدهم - أن يقول: إني نسيت آية كيت وكيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو نسي، ويقول استذكروا القرآن إلخ" وكذا ثبتت عنده في رواية الأعمش عن شقيق بن سلمة عن ابن مسعود. قوله:" تابعه بشر عن ابن المبارك عن شعبة" يريد أن عبد الله بن المبارك تابع محمد بن عرعرة في رواية هذا الحديث عن شعبة وبشر هو ابن محمد المروزي شيخ البخاري، قد أخرج عنه في بدء الوحي وغيره، ونسبة المتابعة إليه مجازية، وقد يوهم أنه تفرد بذلك عن ابن المبارك وليس كذلك. فإن الإسماعيلي أخرج الحديث من طريق حبان بن موسى عن ابن المبارك، ويوهم أيضا أن ابن عرعرة وابن المبارك انفردا بذلك عن شعبة وليس كذلك لما ذكر فيه من رواية غندر وقد أخرجها أحمد أيضا عنه، وأخرجه عن حجاج بن محمد وأبي داود الطيالسي كلاهما عن شعبة، وكذا أخرجه الترمذي من رواية الطيالسي. قوله:" وتابعه ابن جريج عن عبدة عن شقيق سمعت عبد الله" أما عبدة فهو بسكون الموحدة وهو ابن أبي لبابة بضم اللام وموحدتين مخففا، وشقيق هو أبو وائل، وعبد الله هو ابن مسعود، وهذه المتابعة وصلها مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج قال:" حدثني عبدة بن أبي لبابة عن شقيق بن سلمة سمعت عبد الله بن مسعود" فذكر الحديث إلى قوله :" بل هو نسي" ولم يذكر ما بعده. وكذا أخرجه أحمد عن عبد الرزاق، وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق محمد بن جحادة عن عبدة، وكأن البخاري أراد بإيراد هذه المتابعة دفع تعليل من أعل الخبر برواية حماد بن زيد وأبي الأحوص له عن منصور موقوفة على ابن مسعود، قال الإسماعيلي: روى حماد بن زيد عن منصور وعاصم الحديثين معا موقوفين، وكذا رواهما أبو الأحوص عن منصور. وأما ابن عيينة فأسند الأول ووقف الثاني، قال ورفعهما جميعا إبراهيم بن طهمان وعبيدة بن حميد عن منصور، وهو ظاهر سياق سفيان الثوري. قلت: ورواية عبيدة أخرجها ابن أبي داود. ورواية سفيان ستأتي عند المصنف قريبا مرفوعا لكن اقتصر على الحديث الأول. وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله مرفوعا الحديثين معا. وفي رواية عبدة بن أبي لبابة تصريح ابن مسعود بقوله:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وذلك يقوي رواية من رفعه عن منصور والله أعلم. قوله:" عن بريد" بالموحدة هو ابن عبد الله بن أبي بردة، وشيخه أبو بردة هو جده المذكور، وأبو موسى هو الأشعري. قوله :" في عقلها" بضمتين ويجوز سكون القاف جمع عقال بكسر أوله وهو الحبل، ووقع في رواية الكشميهني :" من عقلها" وذكر الكرماني أنه وقع في بعض النسخ" من عللها" بلامين؛ ولم أقف على هذه الرواية، بل هي تصحيف. ووقع في رواية الإسماعيلي :" بعقلها" قال القرطبي: من رواه " من عقلها" فهو على الأصل الذي يقتضيه التعدي من لفظ التفلت، وأما من رواه بالباء أو بالفاء فيحتمل أن يكون بمعنى" من" أو للمصاحبة أو الظرفية، والحاصل تشبيه من يتفلت منه القرآن بالناقة التي تفلتت من عقالها وبقيت متعلقة به، كذا قال، والتحرير أن التشبيه وقع بين

(9/82)


ثلاثة بثلاثة: فحامل القرآن شبه بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالربط. قال الطيبي: ليس بين القرآن والناقة مناسبة لأنه قديم وهي حادثة، لكن وقع التشبيه في المعنى. وفي هذه الأحاديث الحض على محافظة القرآن بدوام دراسته وتكرار تلاوته، وضرب الأمثال لإيضاح المقاصد، وفي الأخير القسم عند الخبر المقطوع بصدقه مبالغة في تثبيته في صدور سامعيه وحكى ابن التين عن الداودي أن في حديث ابن مسعود حجة لمن قال فيمن ادعى عليه بمال فأنكر وحلف ثم قامت عليه البينة فقال: كنت نسيت، أو ادعى بينة أو إبراء، أو التمس يمين المدعي أن ذلك يكون له ويعذر في ذلك، كذا قال.

(9/83)


24- باب الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
5034- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني أبو إياس قال سمعت عبد الله بن مغفل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح"
قوله:" باب القراءة على الدابة" أي لراكبها، وكأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك، وقد نقله ابن أبي داود عن بعض السلف، وتقدم البحث في كتاب الطهارة في قراءة القرآن في الحمام وغيرها. وقال ابن بطال: إنما أراد بهذه الترجمة أن في القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة قوله تعالى :{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الآية. ثم ذكر المصنف حديث عبد الله بن مغفل مختصرا، وقد تقدم بتمامه في تفسير سورة الفتح، ويأتي بعد أبواب

(9/83)


باب تعليم الصبيان للقرآن
...
25- باب تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ
5035- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَقَدْ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ"
[الحديث 5025- طرفه في: 5036]
قوله:" باب تعليم الصبيان القرآن" كأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك، وقد جاءت كراهية ذلك عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وأسنده ابن أبي داود عنهما، ولفظ إبراهيم" كانوا يكرهون أن يعلموا الغلام القرآن حتى يعقل" وكلام سعيد بن جبير يدل على أن كراهة ذلك من جهة حصول الملال له، ولفظه عند ابن أبي داود أيضا:" كانوا يحبون أن يكون يقرأ الصبي بعد حين" وأخرج بإسناد صحيح عن الأشعث بن قيس أنه قدم غلاما صغيرا، فعابوا عليه فقال: ما قدمته، ولكن قدمه القرآن. وحجة من أجاز ذلك أنه أدعى إلى ثبوته ورسوخه عنده، كما يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر. وكلام سعيد بن جبير يدل على أنه يستحب أن يترك الصبي أولا مرفها ثم

(9/83)


26- باب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}
5037- حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ

(9/84)


سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا"
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ"
5038- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا"
5039- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ"
قوله:" باب نسيان القرآن، وهل يقول نسيت آية كذا وكذا" ؟ كأنه يريد أن النهي عن قول نسيت آية كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ، بل للزجر عن تعاطي أسباب النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ، ويحتمل أن ينزل المنع والإباحة على حالتين: فمن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك لأن النسيان لم ينشأ عن إهمال ديني، وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة النسيان إلى نفسه. ومن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر دنيوي - ولا سيما إن كان محظورا - امتنع عليه لتعاطيه أسباب النسيان. قوله:" وقول الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} هو مصير منه إلى اختيار ما عليه الأكثر أن" لا" في قوله: {فَلاَ تَنْسَى} نافية، وأن الله أخبره أنه لا ينسى ما أقرأه إياه، وقد قيل إن" لا" ناهية، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي، والأول أكثر. واختلف في الاستثناء فقال الفراء: هو للتبرك وليس هناك شيء استثنى، وعن الحسن وقتادة {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي قضى أن ترفع تلاوته. وعن ابن عباس: إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتسن، وقيل لما جبلت عليه من الطباع البشرية لكن سنذكره بعد، وقيل المعنى {فَلاَ تَنْسَى} أي لا تترك العمل به إلا ما أراد الله أن ينسخه فتترك العمل به. قوله:" سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا" أي صوت رجل، وقد تقدم بيان اسمه في كتاب الشهادات. قوله :" لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا" لم أقف على تعيين الآيات المذكورة، وأغرب من زعم أن المراد بذلك إحدى وعشرون آية، لأن ابن عبد الحكم قال فيمن أقر أن عليه كذا وكذا درهما أنه يلزمه أحد وعشرون درهما. وقال الداودي: يكون مقرأ بدرهمين لأنه أقل ما يقع عليه ذلك. قال: فإن قال له علي كذا درهما كان مقرا بدرهم واحد. قوله في الطريق الثانية" حدثنا عيسى" هو ابن يونس بن أبي إسحاق. قوله:" عن هشام وقال أسقطتهن" يعني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بالمتن المذكور وزاد فيه هذه اللفظة وهي" أسقطتهن وقد تقدم في الشهادات من هذا الوجه بلفظ:" فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا". قوله:" تابعه علي بن مسهر وعبدة عن هشام" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن الكشميهني:" تابعه علي بن مسهر عن عبدة" وهو غلط، فإن عبدة رفيق علي بن مسهر لا شيخه. وقد أخرج

(9/85)


المصنف طريق علي بن مسهر في آخر الباب الذي يلي هذا بلفظ:" أسقطتها" وأخرج طريق عبدة وهو ابن سليمان في الدعوات ولفظه مثل لفظ علي بن مسهر سواء. قوله في الرواية الثالثة " كنت أنسيتها" هي مفسرة لقوله :" أسقطتها" فكأنه قال أسقطتها نسيانا لا عمدا. وفي رواية معمر عن هشام عند الإسماعيلي :" كنت نسيتها" بفتح النون ليس قبلها همزة قال الإسماعيلي: النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من القرآن يكون على قسمين: أحدهما نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في السهو " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" والثاني أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} قال: فإما القسم الأول فعارض سريع الزوال لظاهر قوله تعالى :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وأما الثاني فداخل في قوله تعالى :{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة. قلت: وقد تقدم توجيه هذه القراءة وبيان من قرأ بها في تفسير لبقرة. وفي الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ مطلقا، وكذا فيما طريقه البلاغ لكن بشرطين: أحدهما أنه بعدما يقع منه تبليغه، والآخر أنه لا يستمر على نسيانه بل يحصل له تذكره إما بنفسه وإما بغيره. وهل يشترط في هذا الفور؟ قولان، فأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلا. وزعم بعض الأصولين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه نسيان أصلا وإنما يقع منه صورته ليسن، قال عياض: لم يقل به من الأصوليين أحد إلا أبا المظفر الأسفرايني، وهو قول ضعيف. وفي الحديث أيضا جواز رفع الصوت بالقراءة في الليل وفي المسجد والدعاء لمن حصل له من جهته خير وإن لم يقصد المحصول منه ذلك، واختلف السلف في نسيان القرآن فمنهم من جعل ذلك من الكبائر. وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه، لأن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ونسيان القرآن من أعظم المصائب واحتجوا أيضا بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس مرفوعا :" عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها" في إسناده ضعف. وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه ولفظه:" أعظم من حامل القرآن وتاركه" ومن طريق أبي العالية موقوفا" كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه" وإسناده جيد. ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعا:" من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم" وفي إسناده أيضا مقال، وقد قال به من الشافعية أبو المكارم والروياني واحتج بأن الإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن، ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به والتهاون بأمره. وقال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أخل بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك، فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد. وقال إسحاق بن راهويه: يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوما لا يقرأ فيها القرآن. ثم ذكر حديث عبد الله وهو ابن مسعود" بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت" وقد تقدم شرحه قريبا. وسفيان في السند هو الثوري. واختلف في معنى" أجذم" فقيل مقطوع اليد، وقيل مقطوع الحجة، وقيل مقطوع السبب من الخير وقيل خالي اليد من الخير، وهي متقاربة. وقيل يحشر مجذوما حقيقة. ويؤيده أن في رواية زائدة بن قدامة عند

(9/86)


عبد بن حميد " أتى الله يوم القيامة وهو مجذوم" وفيه جواز قول المرء أسقطت آية كذا من سورة كذا إذا وقع ذلك منه. وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: لا تقل أسقطت كذا؛ بل قل أغفلت. وهو أدب حسن وليس واجبا.

(9/87)


باب من لم يرى بأساً أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا
...
27- باب مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ كَذَا وَكَذَا
5040- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ"
5041- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَبْتُهُ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ كَذَبْتَ فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُوَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا وَإِنَّكَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ فَقَالَ يَا هِشَامُ اقْرَأْهَا فَقَرَأَهَا الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُهَا الَّتِي أَقْرَأَنِيهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
5042- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا"
قوله:" باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا" أشار بذلك إلى الرد على من كره ذلك وقال: لا يقال إلا السورة التي يذكر فيها كذا، وقد تقدم في الحج من طريق الأعمش أنه سمع الحجاج بن يوسف على المنبر يقول: السورة التي يذكر فيها كذا، وأنه رد عليه بحديث أبي مسعود، قال عياض: حديث أبي مسعود حجة في جواز قول سورة البقرة ونحوها، وقد اختلف في هذا فأجازه بعضهم وكرهه بعضهم وقال: تقول السورة التي تذكر فيها البقرة. قلت: وقد تقدم في أبواب الرمي من كتاب الحج أن إبراهيم النخعي أنكر قول الحجاج لا تقولوا سورة البقرة. وفي رواية مسلم أنها سنة، وأورد حديث أبي مسعود، وأقوى من هذا في الحجة ما أورده

(9/87)


المصنف من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي في" الأذكار" : يجوز أن يقول سورة البقرة - إلى أن قال - وسورة العنكبوت وكذلك الباقي ولا كراهة في ذلك. وقال بعض السلف: يكره ذلك، والصواب الأول، وهو قول الجماهير، والأحاديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، وكذلك عن الصحابة فمن بعدهم. قلت: وقد جاء فيما يوافق ما ذهب إليه حديث المشار إليه حديث مرفوع عن أنس رفعه :" لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذلك القرآن كله" أخرجه" أبو الحسين بن قانع في فوائده" والطبراني" الأوسط"، وفي سنده عبيس بن ميمون العطار وهو ضعيف. وأورد ابن الجوزي في" الموضوعات" ونقل عن أحمد أنه قال: هو حديث منكر. قلت: وقد تقدم في" باب تأليف القرآن" حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا" قال ابن كثير في تفسيره: ولا شك أن ذلك أحوط، ولكن استقر الإجماع على الجواز في المصاحف والتفاسير قلت: وقد تمسك بالاحتياط المذكور جماعة من المفسرين منهم أبو محمد بن أبي حاتم ومن المتقدمين الكلبي وعبد الرزاق، ونقله القرطبي في تفسيره عن الحكيم الترمذي أن من حرمة القرآن أن لا يقال سورة كذا كقولك سورة البقرة وسورة النحل وسورة النساء، وإنما يقال السورة التي يذكر فيها كذا. وتعقبه القرطبي بأن حديث أبي مسعود يعارضه، ويمكن أن يقال لا معارضة مع إمكان، فيكون حديث أبي مسعود ومن وافقه دالا على الجواز، وحديث أنس إن ثبت محمود على أنه خلاف الأولى والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث تشهد لما ترجم له: أحدها حديث أبي مسعود في الآيتين من آخر سورة البقرة، وقد تقدم شرحه قريبا. الثاني حديث عمر" سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان" وقد تقدم شرحه في" باب أنزل القرآن على سبعة أحرف". الثالث حديث عائشة المذكور في الباب قبله، وقد تقدم التنبيه عليه

(9/88)


28- باب التَّرْتِيلِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}
وَقَوْلِهِ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}
وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ فِيهَا يُفْرَقُ يُفَصَّلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَقْنَاهُ فَصَّلْنَاهُ
5043- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ فَقَالَ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ إِنَّا قَدْ سَمِعْنَا الْقِرَاءَةَ وَإِنِّي لاَحْفَظُ الْقُرَنَاءَ الَّتِي كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم"
5044- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ : {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} فَإِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي

(9/88)


صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قَالَ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ"
قوله:" باب الترتيل في القراءة" أي تبيين حروفها والتأني في أدائها ليكون أدعى إلى فهم معانيها. قوله:" وقوله تعالى {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}" كأنه يشير إلى ما ورد عن السلف في تفسيرها، فعند الطبري بسند صحيح عن مجاهد في قوله تعالى {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ}" قال: بعضه إثر بعض على تؤدة. وعن قتادة قال: بينه بيانا. والأمر بذلك إن لم يكن للوجوب يكون مستحبا. قوله:" وقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}" سيأتي توجيهه. قوله:" وما يكره أن يهذ كهذ الشعر" كأنه يشير إلى أن استحباب الترتيل لا يستلزم كراهة الإسراع، وإنما الذي يكره الهذ وهو الإسراع المفرط بحيث يخفى كثير من الحروف أو لا تخرج من مخارجها. وقد ذكر في الباب إنكار ابن مسعود على من يهذ القراءة كهذ الشعر، ودليل جواز الإسراع ما تقدم في أحاديث الأنبياء من حديث أبي هريرة رفعه :" خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيفرغ من القرآن قبل أن تسرج". قوله فيها" يفرق يفصل" هو تفسير أبي عبيدة. قوله:" قال ابن عباس {فَرَقْنَاهُ} فصلناه" وصله ابن جريج من طريق، علي بن أبي طلحة عنه، وعند أبي عبيد من طريق مجاهد أن رجلا سأله عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة فقط قيامهما واحد ركوعهما واحد وسجودهما واحد، فقال: الذي قرأ البقرة فقط أفضل. ثم تلا : {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} ومن طريق أبي حمزة" قلت لابن عباس إني سريع القراءة، وإني لأقرأ القرآن في ثلاث فقال: لأن أقرأ البقرة أرتلها فأتدبرها خير من أن أقرأ كما تقول" وعند ابن أبي داود من طريق أخرى عن أبي حمزة" قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ليلة. فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أحب إلي. إن كنت لا بد فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنيك ويوعها قلبك" والتحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل، بشرط أن يكون المسرع لا يخل بشيء من الحروف والحركات والسكون الواجبات، فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر وأن يستويا، فإن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة مثمنة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون بالعكس. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: قوله:" حدثنا واصل" هو ابن حيان بمهملة وتحتانية ثقيلة الأحدب الكوفي، ووقع صريحا عند الإسماعيلي، وزعم خلف في" الأطراف" أنه واصل مولى أبي عينة بن المهلب، وغلطوه في ذلك فإن مولى أبي عيينة بصري وروايته عن البصريين، وليست له رواية عن الكوفيين وأبو وائل شيخ واصل هذا كوفي. قوله:" عن أبي وائل عن عبد الله قال: غدونا على عبد الله" أي ابن مسعود" فقال رجل: قرأت المفصل" كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه معه البخاري فزاد في أوله" غدونا على عبد الله بن مسعود يوما بعدما صلينا الغداة، فسلمنا بالباب فأذن لنا، فمكثنا بالباب هنيهة، فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا، فإذا هو جالس يسبح فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ قلنا: ظننا أن بعض أهل البيت نائم، قال: ظننتم بآل أم عبد غفلة. فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة كله، فقال عبد الله: هذا كهذ الشعر" ولأحمد من طريق الأسود بن يزيد" عن عبد الله بن مسعود أن رجلا أتاه

(9/89)


فقال: قرأت المفصل في ركعة، فقال: بل هذذت كهذ الشعر وكنثر الدقل" وهذا الرجل هو نهيك بن سنان كما أخرجه مسلم من طريق منصور عن أبي وائل في هذا الحديث. وقوله:" هذا" بفتح الهاء وبالذال المعجمة المنوبة قال الحطابي معناه سرعة القراءة بغير تأمل كما ينشد الشعر، وأصل الهذ سرعة الدفع. وعند سعيد بن منصور من طريق يسار عن أبي وائل عن عبد الله أنه قال في هذه القصة" إنما فصل لتفصلوه". قوله:" ثماني عشرة" تقدم في" باب تأليف القرآن" من طريق الأعمش عن شقيق فقال فيه:" عشرين سورة من أول المفصل" والجمع بينهما أن الثمان عشرة غير سورة الدخان والتي معها، وإطلاق المفصل على الجميع تغليبا، وإلا فالدخان ليست من المفصل على المرجح، لكن يحتمل أن يكون تأليف ابن مسعود على خلاف تأليف غيره، فإن في آخر رواية الأعمش على تأليف ابن مسعود آخر من حم الدخان وعم، فعلى هذا لا تغليب. قوله:" من آل حاميم" أي السورة التي أولها حم، وقيل: يريد حم نفسها كما في حديث أبي موسى" أنه أوتى مزمارا من مزامير آل داود" يعني داود نفسه، قال الخطابي: قوله:" آل داود" يريد به داود نفسه، وهو كقوله تعالى :{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وتعقبه ابن التين بأن دليله يخالف تأويله، قال: وإنما يتم مراده لو كان الذي يدخل أشد العذاب فرعون وحده. وقال الكرماني: لولا أن هذا الحرف ورد في الكتابة منفصلا يعني" آل" وحدها و" حم" وحدها لجاز أن تكون الألف واللام التي لتعريف الجنس، والتقدير: وسورتين من الحواميم. قلت: لكن الرواية أيضا ليست فيها واو، نعم في رواية الأعمش المذكورة" آخرهن من الحواميم" وهو يؤيد الاحتمال المذكور والله أعلم. وأغرب الداودي فقال: قوله:" من آل حاميم" من كلام أبي وائل، وإلا فإن أول المفصل عند ابن مسعود من أول الجاثية ا هـ، وهذا إنما يرد لو كان ترتيب مصحف ابن مسعود كترتيب المصحف العثماني، والأمر بخلاف ذلك فإن ترتيب السور في مصحف ابن مسعود يغاير الترتيب في المصحف العثماني، فلعل هذا منها ويكون أول المفصل عنده أول الجاثية والدخان متأخرة في ترتيبه عن الجاثية لا مانع من ذلك. وقد أجاب النووي على طريق التنزل بأن المراد بقوله عشرين من أول المفصل أي معظم العشرين. حديث ابن عباس في نزول قوله تعالى :{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير القيامة، وجرير المذكور في إسناده هو ابن عبد الحميد بخلاف الذي في الباب بعده، وقوله فيه:" وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه" كذا للأكثر وتقدم توجيهه في بدء الوحي، ووقع عند المستملي هنا" وكان ممن يحرك" ويتعين أن يكون" من" فيه للتبعيض و" من" موصولة والله أعلم. وشاهد الترجمة منه النهي عن تعجيله بالتلاوة، فإنه يقتضي استحباب التأني فيه وهو المناسب للترتيل. وفي الباب حديث حفصة أم المؤمنين أخرجه مسلم في أثناء حديث وفيه:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها" وقد تقدم في أواخر المغازي حديث علقمة أنه قرأ على ابن مسعود فقال:" رتل فداك أبي وأمي فإنه زينة القرآن" وأن هذه الزيادة وقعت عند أبي نعيم في" المستخرج" وأخرجها ابن أبي داود أيضا. والله أعلم

(9/90)


29- باب مَدِّ الْقِرَاءَةِ
5045- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ الأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ

(9/90)


مَالِكٍ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ يَمُدُّ مَدًّا"
[الحديث 5045- طرفه في: 5046]
5046- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ"
قوله:" باب مد القراءة" المد عند القراءة على ضربين: أصلي وهو إشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء، وغير أصلي وهو ما إذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة. وهو متصل ومنفصل، فالمتصل ما كان من نفس الكلمة والمنفصل ما كان بكلمة أخرى، فالأول يؤتى فيه بالألف والواو والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف. والواو والياء زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف، والمذهب الأعدل أنه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمده أولا وقد يزاد على ذلك قليلا، وما أفرط فهو غير محمود، والمراد من الترجمة الضرب الأول. وقوله في الرواية الأولى 1كأن يمد مدا بين في الرواية الثانية المراد بقوله:" يمد" بسم الله إلخ يمد اللام التي قبل الهاء من الجلالة، والميم التي قبل النون من الرحمن، والحاء من الرحيم. قوله في الرواية الثانية" حدثنا عمرو بن عاصم" وقع في بعض النسخ عمرو بن حفص وهو غلط ظاهر. قوله:" سئل أنس" ظهر من الرواية الأولى أن قتادة الراوي هو السائل، وقوله الرواية الثانية" كانت مدا" أي كانت ذات مد، ووقع عند أبي نعيم من طريق أبي النعمان عن جرير بن حازم في هذه الرواية:" كان يمد صوته مدا" وكذا أخرجه الإسماعيلي من ثلاثة طرق أخرى عن جرير بن حازم، وكذا أخرجه ابن أبي داود من وجه آخر عن جرير. وفي رواية له" كان يمد قراءته" وأفاد أنه لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا جرير بن حازم وهمام بن يحيى، وقوله في الثانية" يمد ببسم الله" كذا وقع بموحدة قبل الموحدة التي في بسم الله، كأنه حكى لفظ بسم الله كما حكى لفظ الرحمن في قوله:" ويمد بالرحمن" أو جعله كالكلمة الواحدة علما لذلك. ووقع عند أبي نعيم من طريق الحسن الحلواني عن عمرو بن عاصم شيخ البخاري فيه:" يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم" من غير موحدة في الثلاثة وأخرجه ابن أبي داود عن يعقوب بن إسحاق عن عمرو بن عاصم عن همام وجرير جميعا عن قتادة بلفظ:" يمد ببسم الله الرحمن الرحيم" بإثبات الموحدة في أوله أيضا، وزاد في الإسناد جريرا مع همام في رواية عمرو بن عاصم. وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر ق فمر بهذا الحرف {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فمد نضيد" وهو شاهد جيد لحديث أنس، وأصله عند مسلم والترمذي والنسائي من حديث قطبة نفسه." تنبيه": استدل بعضهم بهذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، ورام بذلك معارضة حديث أنس أيضا المخرج في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يقرؤها في الصلاة، وفي الاستدلال لذلك بحديث الباب نظر، وقد أوضحته فيما كتبته من النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه كان إذا قرأ البسملة يمد فيها أن يكون قرأ البسملة في أول الفاتحة في كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسملة، والعلم عند الله تعالى.
ـــــــ
1) )الصواب" في الرواية الثانية"

(9/91)


باب الترجيح
...
30- باب التَّرْجِيعِ
حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة حدثنا أبو إياس قال سمعت عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته، أو جمله، وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع"
قوله:" باب الترجيع" هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسره كما سيأتي في حديث عبد الله بن مغفل المذكور في هذا الباب في كتاب التوحيد بقوله:" أ ا أ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى" ثم قالوا: يحتمل أمرين: أحدهما أن ذلك حدث من هز الناقة، والآخر أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك، وهذا الثاني أشبه بالسياق فإن في بعض طرقه:" لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن" أي النغم. وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، فأخرج الترمذي في" الشمائل" والنسائي وابن ماجه وابن أبي داود واللفظ له من حديث أم هانئ" كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجع القرآن" والذي يظهر أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل، فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال:" بت مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه لا يرفع صوته ويسمع من حوله، ويرتل ولا يرجع" وقال الشيخ أبو محمد بن أبي، جمرة: معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء، لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة. قال: وفي الحديث ملازمته صلى الله عليه وسلم للعبادة لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره بذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، وهو عند التعليم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك

(9/92)


31- باب حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ
5048- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَهُ يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ"
قوله" باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن" كذا لأبي ذر، وسقط قوله:" للقرآن" لغيره. وقد تقدم في" باب من لم يتغن بالقرآن" نقل الإجماع على استحباب سماع القرآن من ذي الصوت الحسن. وأخرج ابن أبي داود من طريق ابن أبي مسجعة قال:" كان عمر يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم". قوله:" حدثنا محمد بن خلف أبو بكر" هو الحدادي بالمهملات وفتح أوله والتثقيل، بغدادي مقرئ من صغار شيوخ البخاري، وعاش بعد البخاري خمس سنين. وأبو يحيى الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم اسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي وهو والد يحيى بن عبد الحميد الكوفي الحافظ صاحب المسند. وليس لمحمد ابن خلف ولا لشيخه أبي يحيى في البخاري إلا هذا الموضع، وقد أدرك البخاري أبا يحيى بالسن، لكنه لم يلقه. قوله:" حدثني بريد" في رواية الكشميهني:

(9/92)


"سمعت بريد بن عبد الله" قوله:" يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" كذا وقع عنده مختصرا من طريق بريد، وأخرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة بلفظ:" لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة" الحديث. وأخرجه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه بزيادة فيه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة مرا بأبي موسى وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا. فلما أصبح لقي أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا موسى، مررت بك" فذكر الحديث فقال:" أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرا" ولابن سعد من حديث أنس بإسناد على شرط مسلم:" أن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صوته - وكان حلو الصوت - فقمن يستمعن، فلما أصبح قيل له، فقال: لو علمت لحبرته لهن تحبيرا" وللروياني من طريق مالك بن مغول عن عبد الله بن بريدة عن أبيه نحو سياق سعيد بن أبي بردة وقال فيه:" لو علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءتي لحبرتها تحبيرا" وأصلها عند أحمد، وعند الدارمي من طريق الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأبي موسى - وكان حسن الصوت بالقرآن - لقد أوتي هذا من مزامير آل داود" فكأن المصنف أشار إلى هذه الطريق في الترجمة، وأصل هذا الحديث عند النسائي من طريق عمرو بن الحارث عن الزهري موصولا بذكر أبي هريرة فيه ولفظه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى فقال: لقد أوتي من مزامير آل داود" وقد اختلف فيه على الزهري، فقال معمر وسفيان" عن الزهري عن عروة عن عائشة" أخرجه النسائي. وقال الليث" عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب" مرسلا، ولأبي يعلى من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء" سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى فقال: كأن صوت هذا من مزامير آل داود" وأخرج ابن أبي داود من طريق، أبي عثمان النهدي قال:" دخلت دار أبي موسى الأشعري فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته" سنده صحيح وهو في" الحلية لأبي نعيم" والصنج بفتح المهملة وسكون النون بعدها جيم هو آلة تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط بالموحدتين بينهما راء ساكنة ثم طاء مهملة بوزن جعفر هو آلة تشبه العود فارسي معرب، والناي بنون بغير همز هو المزمار. قال الخطابي: قوله :" آل داود" يريد داود نفسه، لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي. قلت: ويؤيده ما أورده من الطريق الأخرى، وقد تقدم في" باب من لم يتغن بالقرآن" ما نقل عن السلف في صفة صوت داود، والمراد بالمزمار الصوت الحسن، وأصله الآلة أطلق اسمه على الصوت للمشابهة. وفي الحديث دلالة بينة على أن القراءة غير المقروء وسيأتي مزيد بحث في ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(9/93)


32- باب مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ
5049- حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن الأعمش قال حدثني إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ القرآن. قلت: آقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري"
قوله:" باب من أحب أن يستمع القرآن من غيره" في رواية الكشميهني:" القراءة" ذكر فيه حديث ابن مسعود" قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي القرآن" أورده مختصرا، ثم أورده مطولا في الباب الذي بعده" باب قول المقرئ

(9/93)


للقارئ حسبك" والمراد بالقرآن بعض القرآن، والذي في معظم الروايات " اقرأ علي" ليس فيه لفظ:" القرآن" بل أطلق فيصدق بالبعض، قال ابن بطال: يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض؛ القرآن سنة، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب كما تقدم في المناقب وغيرها فإنه، أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة ومخارج الحروف ونحو ذلك، ويأتي شرح الحديث بعد أبواب في" باب البكاء عند قراءة القرآن"

(9/94)


باب قول المقريء للقاريء :حسبك
...
33- بَاب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ
5050- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ نَعَمْ فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا قَالَ حَسْبُكَ الْآنَ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"

(9/94)


34- باب فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}
5051- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ لِي ابْنُ شُبْرُمَةَ نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَجِدْ سُورَةً أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ فَقُلْتُ لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ قَالَ عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ عَلْقَمَةُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَلَقِيتُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ"
5052- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْقَنِي بِهِ فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ وَكَيْفَ تَخْتِمُ قَالَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةً وَاقْرَئِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنْ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ

(9/94)


باب البكاء عند قراءة القرآن
...
عمرو بن مرة من هذا الحديث من قوله:" فقرأت النساء" إلى آخر الحديث، وأما ما قبله إلى قوله :" أن أسمعه من غيري" فهو عند الأعمش عن إبراهيم هو في الطريق الثانية في هذا الباب، وكذا أخرجه المصنف من وجه آخر عن الأعمش قبل ببابين، وتقدم قبل بباب واحد عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري مقتصرا على طريق الأعمش عن إبراهيم من غير تبيين التفصيل الذي في رواية يحيى القطان عن الثوري، وهو يقتضي أن في رواية الفريابي إدراجا. وقوله في هذه الرواية:" عن أبيه" هو معطوف على قوله:" عن سليمان" وهو الأعمش، وحاصله أن سفيان الثوري روى هذا الحديث عن الأعمش، ورواه أيضا عن أبيه وهو سعيد بن مسروق الثوري عن أبي الضحى، ورواية إبراهيم عن عبيدة بن عمرة عن ابن مسعود موصولة، ورواية أبي الضحى عن عبد الله بن مسعود منقطعة، ووقع في رواية أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق عن أبي الضحى" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود" فذكره، وهذا أشد انقطاعا أخرجه سعيد بن منصور، وقوله :" اقرأ علي" وقع في رواية علي بن مسهر عن الأعمش بلفظ: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر اقرأ علي" ووقع في رواية محمد بن فضالة الظفري أن ذلك كان وهو صلى الله عليه وسلم في بني ظفر أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وغيرهما من طريق يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه" أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاهم في بني طفر ومعه ابن مسعود وناس من أصحابه، فأمر قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فبكى حتى ضرب لحياه ووجنتاه فقال : يا رب، هذا على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره. وأخرج ابن المبارك في الزهد من طريق سعيد بن المسيب قال:" ليس من يوم إلا يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم. فلذلك يشهد عليهم" ففي هذا المرسل ما يرفع الإشكال الذي تضمنه حديث ابن فضالة والله أعلم. قال ابن بطال: إنما بكى صلى الله عليه وسلم عند تلاوته هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر بحق له طول البكاء انتهى. والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته، لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم وعملهم قد لا يكون مستقيما فقد يفضي إلى تعذيبهم، والله أعلم

(9/99)


باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو قجر به
...
36- باب إِثْمُ مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ أَوْ فَخَرَ بِهِ
5057- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
5058- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :" يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ

(9/99)


الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ"
5059- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ"
قوله:" باب إثم من راءى بقراءة القرآن، أو تأكل به" كذا للأكثر. وفي رواية:" رايا" بتحتانية بدل المعجمة، وتأكل أي طلب الأكل، وقوله:" أو فجر به" للأكثر بالجيم، وحكى ابن التين أن في رواية بالخاء المعجمة. حديث علي في ذكر الخوارج، وقد تقدم في علامات النبوة. وأغرب الداودي فزعم أنه وقع هنا" عن سويد بن غفلة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم:" قال واختلف في صحبة سويد، والصحيح ما هنا أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال معتمدا على الغلط الذي نشأ له عن السقط، والذي في جميع نسخ صحيح البخاري" عن سويد بن غفلة عن علي رضي الله عنه قال: سمعت" وكذا في جميع المسانيد، وهو حديث مشهور لسويد بن غفلة عن علي، ولم يسمع سويد من النبي صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وقد قيل إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح، والذي يصح أنه قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح سماعه من الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة، وصح أنه أدى صدقة ماله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو نعيم: مات سنة ثمانين. وقال أبو عبيد سنة إحدى. وقال عمرو بن علي سنة اثنتين، وبلغ مائة وثلاثين سنة. وهو جعفي يكنى أبا أمية، نزل الكوفة ومات بها. وسيأتي البحث في قتال الخوارج في كتاب المحاربين، وقوله :" الأحلام" أي العقول، وقوله :" يقولون من خير قول البرية" هو من المقلوب والمراد من" قول خير البرية" أي من قول الله، وهو المناسب للترجمة، وقوله: " لا يجاوز حناجرهم" قال الداودي: يريد أنهم تعلقوا بشيء منه. قلت: إن كان مراده بالتعلق الحفظ فقط دون العلم بمدلوله فعسى أن يتم له مراده، وإلا فالذي فهمه الأئمة من السياق أن المراد أن الإيمان لم يرسخ في قلوبهم لأن ما وقف عند الحلقوم فلم يتجاوزه لا يصل إلى القلب. وقد وقع في حديث حذيفة نحو حديث أبي سعيد من الزيادة " لا يجاوز تراقيهم ولا تعيه قلوبهم". حديث أبي سلمة عن أبي سعيد في ذكر الخوارج أيضا، وسيأتي شرحه أيضا في استتابة المرتدين، وتقدم من وجه آخر في علامات النبوة. ومناسبة هذين الحديثين للترجمة أن القراءة إذا كانت لغير الله فهي للرياء أو للتأكل به ونحو ذلك، فالأحاديث الثلاثة دالة لأركان الترجمة لأن منهم من رايا به وإليه الإشارة في حديث أبي موسى، ومنهم من تأكل به وهو مخرج من حديثه أيضا، ومنهم من فجر به وهو مخرج من حديث علي وأبي سعيد. وقد أخرج أبو عبيد في" فضائل القرآن" من وجه آخر عن أبي سعيد وصححه الحاكم رفعه :" تعلموا القرآن واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به، ورجل يستأكل به. ورجل يقرؤه لله" وعند ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس موقوفا " لا تضربوا

(9/100)


كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم" وأخرج أحمد وأبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن شبل رفعه: " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تحفوا عنه ولا تأكلوا به" الحديث وسنده قوي. وأخرج أبو عبيد عن عبد الله بن مسعود " سيجيء زمان يسأل فيه بالقرآن، فإذا سألوكم فلا تعطوهم". حديث أبي موسى الذي تقدم مشروحا في" باب فضل القرآن على سائر الكلام" وهو ظاهر فيما ترجم له. ووقع هنا عند الإسماعيلي من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة بسنده" قال شعبة وحدثني شبل يعني ابن عزرة أنه سمع أنس بن مالك" بهذا. قلت: وهو حديث آخر أخرجه أبو داود في مثل الجليس الصالح والجليس السوء.

(9/101)


أقرءوا القرآن ماائتلفت عليه قلوبكم
...
37- باب اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ
5060- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ"
[الحديث 5060- أطرافه في: 5061، 7364، 7365]
5061- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سَلاَمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ جُنْدَبٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبَانُ وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَوْلَهُ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ عُمَرَ قَوْلَهُ وَجُنْدَبٌ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ"
5062- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلاَفَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ فَاقْرَأَا أَكْبَرُ عِلْمِي قَالَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَأُهْلِكُوا"
قوله :" باب اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم" أي اجتمعت. قوله :" فإذا اختلفتم" أي في فهم معانيه " فقوموا عنه" أي تفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر، قال عياض: يحتمل أن يكون النهي خاصا بزمنه صلى الله عليه وسلم لئلا يكون ذلك سببا لنزول ما يسوؤهم كما في قوله تعالى :{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ، ويحتمل أن يكون المعنى اقرءوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة، وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة واعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم :" فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم" ويحتمل أنه ينهي عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء بأن يتفرقوا عند الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته، ومثله ما تقدم عن ابن مسعود لما وقع بينه وبين الصحابيين الآخرين الاختلاف في الأداء، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" كلكم محسن"

(9/101)


وبهذه النكتة تظهر الحكمة في ذكر حديث ابن مسعود عقيب حديث جندب. قوله:" تابعه الحارث بن عبيد وسعيد بن زيد عن أبي عمران" أي في رفع الحديث، فأما متابعة الحارث وهو ابن قدامة الإيادي فوصلها الدارمي عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عنه، ولفظه مثل رواية حماد بن زيد، وأما متابعة سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن زيد فوصلها الحسن بن سفيان في مسنده من طريق أبي هشام المخزومي عنه قال:" سمعت أبا عمران قال حدثنا جندب" فذكر الحديث مرفوعا وفي آخره :" فإذا اختلفتم فيه فقوموا". قوله:" ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان" يعني ابن سعيد العطار، أما رواية حماد بن سلمة فلم تقع لي موصولة، وأما رواية أبان فوقعت في صحيح مسلم من طريق حبان بن هلال عنه ولفظه:" قال لنا جندب ونحن غلمان" فذكره لكن مرفوعا أيضا، فلعله وقع للمصنف من وجه آخر عنه موقوفا. قوله:" وقال غندر عن شعبة عن أبي عمران سمعت جندبا قوله" وصله الإسماعيلي من طريق بندار عن غندر. قوله:" وقال ابن عون عن أبي عمران عن عبد الله بن الصامت عن عمر قوله" ابن عون هو عبد الله البصري الإمام المشهور وهو من أقران أبي عمران، وروايته هذه وصلها أبو عبيد عن معاذ بن معاذ عنه، وأخرجها النسائي من وجه آخر عنه. قوله:" وجندب أصح وأكثر" أي أصح إسنادا وأكثر طوقا، وهو كما قال فإن الجم الغفير رووه عن أبي عمران عن جندب، إلا أنهم اختلفوا عليه في رفعه ووقفه، والذين رفعوه ثقات حفاظ فالحكم لهم. وأما رواية ابن عون فشاذة لم يتابع عليها، قال أبو بكر بن أبي داود: لم يخطئ ابن عون قط إلا في هذا، والصواب عن جندب انتهى. ويحتمل أن يكون ابن عون حفظه ويكون لأبي عمران فيه شيخ آخر وإنما توارد الرواة على طريق جندب لعلوها والتصريح برفعها، وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن أبي عمران هذا حديثا آخر في المعنى أخرجه من طريق حماد عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن عبد الله بن عمر قال:" هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلين اختلفا في آية فخرج يعرف الغضب في وجهه فقال. إنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف في الكتاب" وهذا مما يقوي أن يكون لطريق ابن عون أصل والله أعلم. قوله:" النزال" بفتح النون وتشديد الزاي وآخره لام" ابن سبرة" بفتح المهملة وسكون الموحدة الهلالي، تابعي كبير، وقد قيل إنه له صحبه، وذهل المزي فجزم في" الأطراف" بأن له صحبة، وجزم في" التهذيب" بأن له رواية عن أبي بكر الصديق مرسلة. قوله:" أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها" هذا الرجل يحتمل أن يكون هو أبي بن كعب، فقد أخرج الطبري من حديث أبي بن كعب أنه سمع ابن مسعود يقرأ آية قرأ خلافها وفيه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلاكما محسن" الحديث، وقد تقدم في" باب أنزل القرآن على سبعة أحرف" بيان عدة ألفاظ لهذا الحديث. قوله:" فاقرا" بصيغة الأمر للاثنين. قوله:" أكبر علمي" هذا الشك من شعبة، وقد أخرجه أبو عبيد عن حجاج بن محمد عن شعبة قال:" أكبر علمي أني سمعته وحدثني عنه مسعود" فذكره. قوله:" فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم" في رواية المستملي :" فأهلكوا" بضم أوله، وعند ابن حبان والحاكم من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة " فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف" وقد تقدم القول في معنى الاختلاف في حديث جندب الذي قبله. وفي رواية زر المذكورة من الفائدة أن السورة التي اختلف فيها أبي وابن مسعود كانت من آل حم، وفي" المبهمات" للخطيب أنها الأحقاف، ووقع عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند في هذا الحديث أن اختلافهم كان في عددها هل هي خمس وثلاثون آية أو ست وثلاثون الحديث، وفي هذا الحديث والذي قبله الحض على الجماعة والألفة

(9/102)


والتحذير من الفرقة والاختلاف والنهي عن المراء في القرآن بغير حق، ومن شر ذلك أن تظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي فيتوسل بالنظر وتدقيقه إلى تأويلها وحملها على ذلك الرأي ويقع اللجاج في ذلك والمناضلة عليه" خاتمة" اشتمل كتاب فضائل القرآن من الأحاديث المرفوعة على تسعة وتسعين حديثا، المعلق منها وما التحق به من المتابعات تسعة عشر حديثا والباقي موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة وسبعون حديثا والباقي خالص، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أنس فيمن جمع القرآن، وحديث قتادة بن النعمان في فضل قل هو الله أحد، وحديث أبي سعيد في ذلك، وحديثه أيضا: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن" وحديث عائشة في قراءة المعوذات عند النوم، وحديث ابن عباس في قراءته المفصل، وحديثه" لم يترك إلا ما بين الدفتين" وحديث أبي هريرة" لا حسد إلا في اثنتين" وحديث عثمان" إن خيركم من تعلم القرآن" وحديث أنس" كانت قراءته مدا" وحديث عبد الله بن مسعود" أنه سمع رجلا يقرأ آية". وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار. والله أعلم.

(9/103)


كتاب النكاح
مدخل
...
2- كِتَاب النِّكَاحِ
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ- كتاب النكاح" كذا النسفي، وعن رواية الفربري تأخير البسملة. و" النكاح" في اللغة الضم والتداخل، وتجوز من قال إنه الضم. وقال الفراء: النكح بضم ثم سكون اسم الفرج، ويجوز كسر أوله وكثر استعماله في الوطء، وسمى به العقد لكونه سببه. قال أبو القاسم الزجاجي: هو حقيقة فيهما. وقال الفارسي: إذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد العقد، وإذا قالوا نكح زوجته فالمراد الوطء. وقال آخرون أصله لزوم شيء لشيء مستعليا عليه، ويكون في المحسوسات وفي المعاني، قالوا نكح المطر الأرض ونكح النعاس عينه ونكحت القمح في الأرض إذا حرثتها وبذرته فيها ونكحت الحصاة أخفاف الإبل. وفي الشرع حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الصحيح، والحجة في ذلك كثيرة وروده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد ولا يرد مثل قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنة، وإلا فالعقد لا بد منه لأن قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ} معناه حتى تتزوج أي يعقد عليها، ومفهومه أن ذلك كاف بمجرده لكن بينت السنة أن لا عبرة بمفهوم الغاية، بل لا بد بعد العقد من ذوق العسيلة، كما أنه لا بد بعد ذلك من التطليق ثم العدة. نعم أفاد أبو الحسين ابن فارس أن النكاح لم يرد في القرآن إلا للتزويج، إلا في قوله تعالى :{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإن المراد به الحلم والله أعلم. وفي وجه للشافعية - كقول الحنفية - أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل مقول بالاشتراك على كل منهما، وبه جزم الزجاجي، وهذا الذي يترجح في نظري وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد، ورجح بعضهم الأول بأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباح ذكره، فيبعد أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعه لما لا يستفظعه، فدل على أنه في الأصل للعقد، وهذا يتوقف على تسليم المدعى أنها كلها كنايات. وقد جمع اسم النكاح ابن القطاع فزادت على الألف.

(9/103)


1- باب التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} الْآيَةَ
5063- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لاَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"
5064- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَ تَعُولُوا قَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ"
قوله:" باب الترغيب في النكاح" لقوله تعالى : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} زاد الأصيلي وأبو الوقت "الآية" ووجه الاستدلال أنها صيغة أمر تقتضي الطلب، وأقل درجاته الندب فثبت الترغيب. وقال القرطبي: لا دلالة فيه، لأن الآية سيقت لبيان ما يجوز الجمع بينه من أعداد النساء. ويحتمل أن يكون البخاري انتزع ذلك من الأمر بنكاح الطيب مع ورود النهي عن ترك الطيب ونسبة فاعله إلى الاعتداء في قوله تعالى :{لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} وقد اختلف في النكاح، فقال الشافعية: ليس عبادة، ولهذا لو نذره لم ينعقد. وقال الحنفية: هو عبادة. والتحقيق أن الصورة التي يستحب فيها النكاح - كما سيأتي بيانه - تستلزم أن يكون حينئذ عبادة، فمن نفي نظر إليه في حد ذاته ومن أثبت نظر إلى الصورة المخصوصة. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين. حديث أنس، وهو من المتفق عليه لكن من طريقين إلى أنس. قوله: "جاء ثلاثة رهط" كذا في رواية حميد. وفي رواية ثابت عند مسلم: "أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:" ولا منافاة بينهما فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من ثلاثة إلى تسعة، وكل منهما اسم جمع لا واحد له من لفظه. ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق أن الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون وعند ابن مردويه من طريق الحسن العدني "كان علي في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات فنزلت الآية في المائدة "ووقع في "أسباب الواحدي" بغير إسناد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة - وهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان وعبد الله بن

(9/104)


عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن - في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء ويجبوا مذاكيرهم" فإن كان هذا محفوظا احتمل أن يكون الرهط الثلاثة هم الذين باشروا السؤال فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة ونسب تارة للجميع لاشتراكهم في طلبه، ويؤيد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام أنه "قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل الله، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقي ناسا بالمدينة فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم، فلما حدثوه ذلك راجع امرأته وكان قد طلقها" يعني بسبب ذلك، لكن في عد عبد الله بن عمرو معهم نظر، لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب. قوله: "يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم عن علقمة "في السر". قوله: "كأنهم تقالوها" بتشديد اللام المضمومة أي استقلوها، وأصل تقالوها تقاللوها أي رأى كل منهم أنها قليلة. قوله: "فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له" في رواية الحموي والكشميهني: "قد غفر له" بضم أوله. والمعنى أن من لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل، بخلاف من حصل له، لكن قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بلازم، فأشار إلى هذا بأنه أشدهم خشية وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية، وأشار في حديث عائشة والمغيرة - كما تقدم في صلاة الليل - إلى معنى آخر بقوله: "أفلا أكون عبدا شكورا". قوله: "فقال أحدهم أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا" هو قيد لليل لا لأصلي، وقوله: "فلا أتزوج أبدا" أكد المصلي ومعتزل النساء بالتأبيد ولم يؤكد الصيام لأنه لا بد له من فطر الليالي وكذا أيام العيد، ووقع في رواية مسلم: "فقال بعضهم لا أتزوج النساء. وقال بعضهم لا آكل اللحم. وقال بعضهم لا أنام على الفراش، وظاهره مما يؤكد زيادة عدد القائلين. لأن ترك أكل اللحم أخص من مداومة الصيام، واستغراق الليل بالصلاة أخص من ترك النوم على الفراش. ويمكن التوفيق بضروب من التجوز. قوله: "فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم" في رواية مسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا؟ ويجمع بأنه منع من ذلك عموما جهرا مع عدم تعيينهم وخصوصا فيما بينه وبينهم رفقا بهم وسترا لهم. قوله: "أما والله" بتخفيف الميم حرف تنبيه بخلاف قوله في أول الخبر أما أنا فإنها بتشديد الميم للتقسيم. قوله: "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فاعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فأنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه، وقد أرشد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر "المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى، وتقدم في كتاب العلم شيء منه. قوله: "لكنى" استدراك من شيء محذوف دل عليه السياق أي أنا وأنتم بالنسبة إلي العبودية سواء، لكن أنا أعمل كذا. قوله: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل. وقوله فليس مني إن كانت الرغبة

(9/105)


بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه فمعنى "فليس منى" أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى فليس مني ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر. وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه، وفيه تتبع أحول الأكابر للتأسي بأفعالهم وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء، وأن من عزم على عمل بر واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعا. وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب. وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل. قال عياض هذا مما اختلف فيه السلف فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى :{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قال والحق أن هذه الآية في الكفار وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين. قلت: لا يدل ذلك لأحد الفريقين أن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحق إن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر ولا يأمن من الوقوع في الشبهات لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلي التنطع المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى :{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط. وفي قوله إني لأخشاكم لله مع ما انضم إليه إشارة إلى ذلك، وفيه أيضا إشارة إلى أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية، والله أعلم. قوله: "حدثنا علي سمع حسان بن إبراهيم" لم أر عليا هذا منسوبا في شيء من الروايات، ولا نبه عليه أبو علي الغساني ولا نسبه أبو نعيم كعادته، لكن جزم المزي تبعا لأبي مسعود بأنه علي بن المديني، وكأن الحامل على ذلك شهرة علي بن المديني في شيوخ البخاري فإذا أطلق اسمه كان الحمل عليه أولى من غيره، وإلا فقد روى عن حسان - ممن يسمى عليا - علي بن حجر وهو من شيوخ البخاري أيضا، وكان حسان المذكور قاضي كرمان، ووثقه ابن معين وغيره، ولكن له أفراد، قال ابن عدي: هو من أهل الصدق إلا أنه ربما غلط. قلت: ولم أر له في البخاري شيئا انفرد به، وقد أدركه بالسن إلا أنه لم يلقه لأنه مات سنة ست ومائتين قبل أن يرتحل البخاري، وقد تقدم شرح الحديث المذكور فيه مستوفى في تفسير سورة النساء.

(9/106)


باب قول النبي صلى الله عليه سلم : من استطاع منكم الباءه فليتزوج
...
3- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ "وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لاَ أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ؟
5065- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَوَا فَقَالَ عُثْمَانُ هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ يَا عَلْقَمَةُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...