Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 10 يونيو 2022

( بيان الأوهام في إنكار حديث الاجتهاد في الأحكام ) د . أبو بكر خليل + كشف الشبهة المثارة في قول الإمام ابن عبد البرّ في الختان د . أبو بكر خليل

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

( بيان الأوهام في إنكار حديث الاجتهاد في الأحكام ) د . أبو بكر خليل 

الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على رسوله محمد و آله و صحبه أجمعين

 

الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله وكما ينبغي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، بعثه بكتاب عزيز { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } ، فهدى بكتابه ثم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم مَن أنعم عليه ، وأقام الحُجّة على خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فقال : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } . وقال : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة } ، وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم وسَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ؛ فقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } . فأَعلَم أن معصيته في ترك أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل لهم إلا اتباعه ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { اتبع ما أوحي إليك من ربك } . وقال : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } . وقال :{ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } . وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد أُعلم الحق ، ولا يكون الحق معلوماً إلا عن الله جَلَّ ثناؤه نصاً أو دلالة ، وقد جعل الله الحق في كتابه ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .([1])

فكلّ ما نزل بمسلم فقيه حكمٌ لازم أو على سبيل الحق فيه دلالةٌ موجودة ، وعليه إذا كان فيه حكمٌ اتباعه ، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد ، والاجتهاد القياس.([2])

أمَّا بَعْد ،،

*   *   *

 

يُعدّ حديث الاجتهاد في لأحكام – : ( أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أراد أن يبعثَ معاذا إِلى اليمن ، قال له : «كيف تقضي إِذا عَرَضَ لك قضاء ؟ قال : أَقْضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : أقضي بِسُنَّةِ رسول الله ، قال : فَإِن لم تجد في سُنَّةِ رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي، ولا آلُو، قال : فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ ، وقال : الحمد لله الذي وَفَّق رسولَ رسولِ الله لِمَا يُرضي رسولَ الله») – مِن الأحاديث المشهورة المذكورة في دواوين الإسلام ، من كتب السُنن و المساند و غيرها من المُصنفات في الأحاديث و الآثار ([3]). و هو حديثٌ مشهور ، تلقته الأمة بالقبول ([4]) ، يرويه الإمام النَقّاد شُعبة بن الحجاج ([5]) ، رواه عنه جماعة من الرفقاء و الأئمة ، منهم عبد الرحمن بن مهدي و يحيى بن سعيد القطان و عبد الله بن المبارك و أبو داود الطيالسي ؛ كما قال القاضي ابن العربي .([6])

 

* و هذا الحديث مِن عيون أحاديث شُعبة ( ت 160 هـ ) ، التي جاءت الرواية بتحديثه به  ؛ فيما أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه " الجامع لأخلاق الراوي " ؛ قال : أخبرني عبدالله بن يحيى السكري أنا محمد بن عبدالله بن إبراهيم الشافعي نا جعفر بن محمد بن الأزهر نا ابن الغلابي نا أبو داود ، قال : شهدتُ شٍُعبةَ بن الحجاج وأتاه رجل بابنٍ له ، فقال : يا أبا بسطام ! حدِّث ابني هذا بخمسة احاديث . قال : هَلُمَّ . قال بحديث بكير بن عطاء عن عبد الرحمن ابن يعمر ، قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الحج ؟ فقال : " الحج عرفة " . وحديث أبي عون الثقفي ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة ، عن أصحاب معاذ من أهل حمص ، أن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعثه إلى اليمن قال : " كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ " قال أقضي بكتاب الله  " . وحديث أبي عون عن ابن أبي ليلى : سافر ناس من الأنصار فارملوا . وحديث عبيد بن فيروز : سألت البراء : ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الضحايا ؟ . وحديث أوس بن ضمعج ، عن أبي مسعود ، قال : " يؤم القوم أقرؤهم " . فلما فرغ شعبة من هذه الاحاديث أقبل على الرجل ، فقال : ما يُبالي ابنك هذا متى رُفعتْ جنازتي ([7]). اهـ

 

و كفَى بهذه الرواية لصاحب " الكفاية " – الخطيب البغدادي - في توكيد تحديث شُعبة بحديث معاذ هذا ، فكيف إذا انضاف تصحيحه الحديث ([8]) إلى روايته تحديث شعبة به ؟

و حَسْبك في الوثوق بحديث شعبة هذا - المُنتقَى - أنه إمامٌ في الحديث ؛ كما قال عبد الرحمن بن مهدي ، و أنه في الطبقة الأولى من العلماء الجهابذة النقّاد لناقلة الآثار ؛ كما قال ابن أبي حاتم في مقدمة " الجرح و التعديل ".([9])

وقد قال بعض أئمة الحديث: " إ ذا رأيتَ شعبةَ في إسناد حديثٍ فاشدد يديك به " ([10]) ، و إذا كان هذا لمجرّد وجوده في إسناد حديث ، فما بالك بانتخابه له و تحديثه به ؛ كحديث معاذ هذا ؟

 

* و أخرجه ابن حزم من طريق زنجويه بن محمد النيسابوري ، نا محمد بن إسماعيل البخاري ؛ قال في " الإحكام " : ( حدثني أحمد بن محمد العذري ثنا أبو ذر الهروي نا زاهر بن أحمد الفقيه نا زنجويه بن محمد النيسابوري نا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح ، فذكر سند هذا الحديث ، وقال رفعه في اجتهاد الرأي ) . اهـ

و لم يذكر ابن حزم تضعيفاً لأيِّ من هؤلاء المذكورين الراوين عن البخاري ، و لكنه نقل ما فيه إيهام بتضعيف الحديث .

و كفي بتحديث الإمام البخاري به ، وحسبي أن أذكر أنه رحمه الله تعالى قال فيه : ( مُرسل ) . و لم يقل : (حديث منكر ) ؛ كما ادعى بعض المعاصرين !

 

و الحديث رُوي من عدةِ طُرُقٍ ، مُرسلاً و موصولا ، و قال الدارقطني في " العِلل " : و المرسل أَصَحّ .([11])

و ما رُويَ مرسلاً جاء موصولاً في روايات أخرى ؛ قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " : وهو حديثٌ مشهور ، له طرق متعددة ، ينتهض مجموعها للحجية ، كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل .([12])

و قال بصحته الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في " الفقيه و المُتَفقه " ، و القاضي أبو بكر بن العربي في " عارضة الأحوذي " و في " أحكام القرآن " ، و صرَّح بجوْدةِ إسناده ابن تيمية في " مقدّمة التفسير " ؛ قال : ( و هذا الحديث أخرجه أصحاب المساند و السُنن بإسنادٍ جيّد )  ، و حكاه ابن كثير في " تفسيره " ، و قال الحافظ الذهبي في " تلخيص كتاب العلل " : و هذا حديثٌ حسَن الأسناد .([13]) ، و قال في " السِيَّر " : إسناده صالح .

و هذا يدحض زَعم الإجماع على تضعيفه ، الذي ادعاه ابن الملقن في " البدر المنير " ؛ قال : هذا الحديث كثيرا ما يتكرر في كتب الفقهاء والأصول والمحدِّثين ويعتمدون عليه ، وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل - فيما أعلم - . اهـ

 

و قد احتجّ به عددٌ من كبار الأئمة الفقهاء و المُحَدِّثين و الحُفاظ في كتبهم ؛ كإمام الأُمة ، الشافعي في كتاب  " الأم " - في أن ( الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بعدَ أن لا يكون فيما يريد القضاء فيه كتابٌ ولا سُنة ولا أمر مجتمع عليه ) - و حَسْبك به في الوثوق بحُجيّة الحديث ، فضلاً عن اجتماع عدد من كبار الأئمة غيره على الاحتجاج به ؛ كأبي بكر  الجصاص في " أحكام القرآن " ، و الماوردي في " الحاوي الكبير " ، و الحافظ ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ، و الإمام الحافظ لخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " ، و القاضي أبو بكر بن العربي في " أحكام القرآن " ، و ابن قدامة في " المغني " ، و ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ، و ابن القيّم في " إعلام الموقعين " ، و ابن كثير في " تفسيره " . و سيأتي بيان ذلك بَعدُ بإذن الله . و حَسْبك بهؤلاء الأئمة .

 

و ما تَقّدم ذِكره كان كافياً في الوثوق بِحُجّية الحديث ، لولا أوهامٌ ظهرتْ ، و دَعاوى ادُعيَت ، و شُبهات اشتَبهت ؛ فكان من الواجب بيانُها و رَدّها وكشفها ؛ بإذن الله و عَونه و توفيقه .

[ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ]. {هود:88} .

 

لفظ الحديث و تخريجه

 

و الحديث أخرجه الإمام أحمد في " مُسنَده "، و أبو داود في " سُنَنه " ، و الترمذي في " جامعه " ، و غيرهم ، من طريق شعبة عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ عن معاذ ، و قد آثرت نقله هاهُنا بتمامه – متناً و إسنادا - من مصادره الأصلية المعتبرة و المشهورة ؛ بغير تصرف في طُرُق التخريج :

 

1 - أخرجه أحمد في " مسنده " ، من عدة طرق عن شعبة ، في ( حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ) ؛ قال :

أ - ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ ، عَنْ مُعَاذٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ : أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ ؟ قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، لاَ آلُو . قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي ، ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ) .

 

ب - ( حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : كَيْفَ تَقْضِي ؟ قَالَ : أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ . قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي . قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ ) .

 

جـ - ( حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَوْنٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو ابْنَ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ ، عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ ، عَنْ مُعَاذٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ : كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ : أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ ؟ قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَةِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو . قَالَ : فَضَرَبَ صَدْرِي فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُرْضِي رَسُولَهُ ) . اهـ

 

2 - و أخرجه أيضاً أبو داود في " سُننه " – في ( كتاب الأقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ) - ؛ قال :

( حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو ابن أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ ، مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ،

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ، قَالَ : " كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟، قَالَ : أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟، قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟، قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ، وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وفَّق رسولَ رسولِ الله لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ " ،

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَنْ شُعْبَةَ ، حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ نَاسٍ ، مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ ، فَذَكَرَ مَعْنَاهُ ) . اهـ

 

3 - و كذا أخرجه الترمذي في " سُننه " – في ( كتاب الأحكام ، باب : ما جاء في القاضي كيف يقضي ) - ؛ قال :

( حَدَّثَنَا هَنَّادٌ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ ،

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : " كَيْفَ تَقْضِي ؟ " ، فَقَالَ : أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ " ، قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم . قال : " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم  " ، قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وفَّق رسولَ رسولِ الله " ،

- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، قَالَا : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ابن أَخٍ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ ، عَنْ مُعَاذٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم نَحْوَهُ .

قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ، وَأَبُو عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ) . اهـ

 

4 - و أخرجه أيضا من طريق شعبة عن أبي عون : أبو داود الطيالسي ، و عبد بن حميد ، في " مسانيدهم " ، و ابن أبي شيبة في " مُصنفه " ، و الدارميّ في " سُننه " و البيهقي في " السنن " و في " معرفة السنن و الآثار " ، و الطبراني في " المعجم الكبير " ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم و فضله " ، و الخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " ، و غيرهم .

و انظر تخريجه في " المسند الجامع " – لجماعة من المعاصرين - في الحاشية ([14]) .

 

و لم ينفرد شُعبة بروايته عن أبي عون ؛ فقد رواه أيضا أبو إسحاق الشيباني عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي ، فيما أخرجه ابن أبي شيبة في " مُصنّفه " ، ( في القاضي ما ينبغي أن يبدأ به في قضائه ) ،  : حدثنا أبو بكر ، قال حدثنا أبو معاوية ، عن الشيباني ، عن محمد بن عبيد الله الثقفي ؛ قال : " لمَا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال : يا معاذ ! بم تقضي ؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه ولم يقض فيه الصالحون ؟ قال : أؤم الحق جهدي ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد الله الذي جعل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بما يرضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم  ". اهـ

و هذا الحديث رجاله ثقات ([15]) ، و ذكره ابن حزم في كتابه " الإحكام " ؛ قال : ( ثم قد رواه أيضا أبو إسحاق الشيباني عن أبي عون ، فخالف فيه شعبة ([16]) ، وأبو إسحاق أيضاً ثقة ) ، و أخرجه من نفس الطريق ( عن أبي معاوية الضرير  نا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي هو أبو عون ، قال : لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذاً إلى اليمن  ) فذكره ، و قال في موضع آخر : أخذه عن أبي عون فيما بلغنا رجلان فقط ، شعبة وأبو إسحاق الشيباني . اهـ

 

وللحديث طريقٌ أخر ى عن عبادة بن نُسَي عن عبد الرحمن بن غنْم عن معاذ بن جبل ؛ أخرجه أبو القاسم الجرجاني و ابن عساكر في " تاريخهما " . و سيأتي بعد في موضعه . ([17])

 

*   *   *

 

توضيح و تنبيه لازم

 

ليس الرأي بالتشهي ، وإنما هو مايراه أهل العِلم بعد التدبر.([18])

أ - و قد أوضح الإمام الشافعي رحمه الله أن الاجتهاد إنما هو بالحمْل على الأصليْن : كتاب الله و سُنة رسول الله ؛ قال في " الأم " : فإذا كانا موجوديْن فهما الأصلان ، وإذا لم يكونا موجوديْن فالقياس عليهما ، لا على غيرهما .

قال : ومعنى الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بَعدَ أن لا يكون فيما يريد القضاء فيه كتابٌ ولا سُنة ولا أمرٌ مجتمع عليه ، فأمّا وشيء من ذلك موجود فلا. اهـ

 

ب - و في كتابه " معالم السُنن " ( تفسير سُنن أبي داود ) للإمام أبي سليمان الخَطّابي ( ت 388 هـ ) أَورَدَ الحديث - من باب اجتهاد الرأي في القضاء – و قال : قوله : ( اجتهد برأيي ) يريد الاجتهاد في ردّ القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة ، ولم يُرِد الرأيَ الذي يسنح له من قِبَل نفسه أو يخطر بباله عن غير أصل من كتاب أو سنة . وفي هذا إثبات القياس وإيجاب الحكم به .

قال : وفيه دليلٌ على أنه ليس للحاكم أن يقلِّد غيره فيما يريد أن يحكم به ، وإن كان المقلَّد أعلم منه وأَفقه ، حتى يجتهد فيما يسمعه منه ، فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه ، وإلا تَوقف عنه ؛ لأن التقليد خارجٌ من هذه الأقسام المذكورة في الحديث .

وقوله : ( لا آلو ) معناه لا أقصر في الاجتهاد ، ولا أترك بلوغ الوسع فيه . انتهى كلام الخطابي .

و فيه دليلٌ على حُجّية الحديث عنده ، و الاحتجاج به في إثبات القياس ، و إيجاب الحُكم به .

 

جـ - و في ( باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة ) ، من كتابه " جامع بيان العلم " ؛ قال الحافظ ابن عبد البر – بعد أن خرَّج الحديث و شواهده - : هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يُضاف إليها التحليل والتحريم ، وأنه لا يجتهد إلا عالمٌ بها ، ومَن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف ، ولم يَجُزْ له أن يحيل على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى أصل ، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديما وحديثا فتدبره . اهـ

 

و أَمّا جاء من آثارٍ في ذمّ الرأي و التحذير منه ، فالمراد به الرأي الذي لا أصل له من الكتاب أو السُنّة ، و كذا الرأي المخالف للكتاب و السنة ، و لذا كانت القاعدة المقررة في الأصول أنه : لا اجتهاد مع النص . أي لا اجتهاد في مقابلة النص و مخالفته ؛ كما قال القرطبي في " تفسيره " . فهذا هو الرأي المذموم في الشرع .

 

و لو فطن ابن حزم الظاهري ([19]) لهذه المعاني و الشروط ، لَمَا وَهَم و زَعَم أن ذلك الحديث ظاهر الكذِب و الوَضْع ، و لِعل تعصبه لنُصرة مذهبه في إنكار القياس دفَعه لإنكار الحديث و ادعاء ما ادعاه من أوهامٍ في كتابه " الإحكام " ! و سيأتي بيانه ، و رَدّ دعاواه و كشف شُبهاته ؛ إن شاء الله .

 

( فصل ) في بيان احتجاج كبار الأئمة بحديث اجتهاد الرأي

 

احتجّ عددٌ كبير مِن كبار الأئمة الفقهاء و المُحَدِّثين و الحُفّاظ بحديث الاجتهاد هذا في عدة أمور ؛ كالإمام الحُجة محمد بن إدريس الشافعي و الجصاص و الماوردي و الحافظ ابن عبد البر و الخطيب البغدادي و ابن العربي و ابن قُدامة المقدسي و ابن تيمية و ابن القيّم و ابن كثير ، و ليس الغرض هنا الانتصار  لواحدٍ من هذه الأمور ، و لكن الغرض إظهار وقوع الاحتجاج بالحديث و ثبوته ، و بيان ذلك على سبيل التفصيل و التطويل ؛ قطعاً للشك ، و حسماً لمادة النزاع :

 

1 – احتَجّ بالحديث الإمام العَلَم محمد بن إدريس الشافعي ( ت 204 هـ ) – إمام الأُمة ، و صاحب المذهب المعروف – في كتابه " الأُم " ، في أن ( الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بعدَ أن لا يكون فيما يريد القضاء فيه كتابٌ ولا سُنة ولا أمر مجتمع عليه ) ؛ ففي كلامه في ( الإقرار و الاجتهاد و الحُكم بالظاهر ، من كتاب الأقضية ) : (قال الشافعي) رحمه الله تعالى : أخبرنا الدراوردى ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث ، عن بشر بن سعيد ، عن أبى قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) قال يزيد : فحدثتُ بهذا الحديث أبا بكر بن حزم فقال : هكذا حدثنى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة .

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ومعنى الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بَعدَ أن لا يكون فيما يريد القضاء فيه كتابٌ ولا سُنة ولا أمر مجتمع عليه ، فأما وشيء من ذلك موجود فلا.

* - قال : - فإن قيل : فمن أين قُلتَ هذا وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره الاجتهاد ؟ قيل له : أقرب ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : ( " كيف تقضى ؟ " قال : بكتاب الله عزوجل . قال : " فإن لم يكن ؟ " ، قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن لم يكن ؟ " ، قال : أجتهد رأيى . قال : " الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله " ) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاجتهاد بَعدَ أن لا يكون كتاب الله ولا سنة رسوله .

ولقول الله عزوجل : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ، وما لم أعلم فيه مخالفاً من أهل العلم ) . انتهى كلام الشافعي . و احتجاجه بالحديث ظاهر ، و حَسْبكَ به .

 

و في ترجمة الذهبي للإمام الشافعي في " السِّيَر " : قَالَ إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ : حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ، وَرَأْيٌ صَحِيْحٌ .

وَعَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، قَالَ : مَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَدِيْثٌ فِيْهِ غَلَطٌ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ: مَا أَعْلَمُ لِلشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً خَطَأً.

قُلْتُ – أي الذهبي - : هَذَا مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ، حُجَّةٌ، حَافِظٌ، وَنَاهِيْكَ بِقَوْلِ مِثْلِ هَذَيْنِ .

وَقَدْ صَنَّفَ الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ كِتَاباً فِي ثُبُوتِ الاحْتِجَاجِ بِالإِمَامِ الشَّافِعِيِّ . اهـ

 

هذا و قد أفاض الإمام الشافعي في الكلام في معنى الحديث و مقصوده بالاجتهاد و موضعه . و تقدم ذكر هذا آنفا . و بيانه في موضعه من كتابه لِمَن أراد المَزيد .

 

*   *   *

 

2 - و احتج بذلك الحديث أيضا شيخ الحنفية الإمام أبو بكر الرازي ، الجصاص ( ت 370 هـ ) في كتابه " أحكام القرآن " ، في أن ( استعمال الرأي والاجتهاد ورَدّ الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حاليْن ،  إحداهما في حال غيبتهم عن حضرته ) ؛ ذكَره في ( باب في طاعة أولي الأمر : قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ) . و ذكَر أن المراد بأولي الأمر هنا : العلماء و الفقهاء ؛ بدلالة قوله تعالى عقيبه : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ، و احتجّ بحديث معاذ رضي الله عنه في جواز استعمال الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه و سلم حال غيبة الصحابة عن حضرته .

و في تفصيل ذلك قال :

(( وقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } : روي عن مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدي : " إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم " .

قال أبو بكر [ الجصاص ] : وذلك عمومٌ في وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، في حياة النبي وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم .

والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين : أحدهما : إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه ، والثاني : الرد إليهما من جهة الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر ؛ وعموم اللفظ ينتظم الأمريْن جميعا ، فوجب إذا تنازعنا في شيء رده إلى نَصّ الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة ، وإن لم نجد فيه نَصاً منهما وجب رده إلى نظيره منهما ؛ لأنا مأمورون بالرد في كل حال ؛ إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالرد إليهما في حال دون حال .

وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه ، وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه ، فظاهِر ذلك يقتضي رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة .

فإن قيل : إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قيل : إن ذلك خطاب للمؤمنين ؛ لأنه قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ، فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه : اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله ؛ وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية ، وهو قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فغير جائز حمل معنى قوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } على ما قد أفاده بدياً في أول الخطاب ، ووجب حمله على فائدة مجددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو الذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه ؛ وعلى أنا نرُدّ جميع المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة بحق العموم ، ولا نخُِرج منه شيئا بغير دليل .

فإن قيل : لمّا كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأي والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ، ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه .

* قيل له : هذا غلط ، وذلك لأن استعمال الرأي والاجتهاد وردّ الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حالين ولم يكن يجوز في حال ؛ فأما الحالان اللتان كانتا يجوز فيهما الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم : فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له : ( كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : أقضي بسنة نبي الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو ، قال : فضرب بيده على صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ) ؛ فهذه إحدى الحاليْن اللتيْن كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم )) . انتهى كلام الجصاص .

و هو فقيه مجتهد انتهت إليه رياسة الحنفية في بغداد ([20]). و كان حديث معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد عمدته في ذلك الاحتجاج .

 

3 – و احتجّ به أقضى القُضاة الإمام أبو الحسن الماوردي ( ت 450 هـ ) في كتابه " الحاوي " الكبير ، في عدّة أمور :

أ – احتج به في ذِكْر دليل السُنة على وجوب القضاء ؛ ففي ( القول في حكم القضاء ) ، من كتاب أدب القاضي ؛ قال : الأصل في وجوب القضاء وتنفيذ الحكم بين الخصوم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم  وإجماع الأمة عليه .

الدليل من الكتاب : قال الله تعالى : { ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } .[ ص : 26 ] الآية .

و ذَكَر أدلة أخرى من القرآن و ذكر تفسيرها ، ثم ذَكر دليل السُنة ، و قال :

( وأمّا السنة : فروى بشر بن سعيد عن أبي قيس عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال : " وإذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " ، ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة . فجعل له في الإصابة أجريْن أحدهما على الاجتهاد والآخر على الإصابة ، وجعل له في الخطأ أجراً واحدا على الاجتهاد دون الخطأ . وروى أبو هاشم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القضاة ثلاثة : اثنان في النار وواحد في الجنة : قاضٍ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، وقاض قضى بجهل فهو في النار ، وقاض عرف الحق فجار فهو في النار " . وروى عمرو بن الأسود عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، إن الله مع القاسم حين يقسم ومع القاضي حين يقضي ، وروى ابن عون الثقفي عن الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : " كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ " . قال : أقضي بكتاب الله ، قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " قال بسنة رسول الله . قال : " فإن لم يكن في سنة رسول الله " . قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : فضرب صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " ) . اهـ  و الاحتجاج بالحديث ظاهر .

 

ب – و كذا احتجّ به في ذِكر الدليل على أن الاجتهاد له أصلٌ يعتمد عليه في أحكام الشرع ؛ قال في ( فصل القياس ) : ( فأما الأصل الرابع من أصول الشرع وهو القياس فله مقدمتان : إحداهما : الاجتهاد . والثانية : الاستنباط . فأما الاجتهاد : فهو مأخوذ من إجهاد النفس وكدّها في طلب المراد به . كما أن جهاد العدو من إجهاد النفس في قهر العدو ، والاجتهاد هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه .

وزعم ابن أبي هريرة [ الشافعي ] أن الاجتهاد هو القياس ونسبه إلى الشافعي من كلام اشتبه عليه في كتاب الرسالة . والذي قاله الشافعي في هذا الكتاب : أن معنى الاجتهاد معنى القياس ([21]) . يريد به أن كل واحد منهما يتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه . والفرق بين الاجتهاد والقياس : أن الاجتهاد هو ما وصفناه من أنه طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه ، والقياس هو الجمع بين الفرع والأصل لاشتراكهما في علة الأصل ، فافترقا ، غير أن القياس يفتقر إلى اجتهاد ، وقد لا يفتقر الاجتهاد إلى القياس على ما سنوضحه ، فلذلك جعلنا الاجتهاد مقدمة للقياس . والدليل على أن الاجتهاد له أصلٌ يعتمد عليه في أحكام الشرع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " ، فدلّ على أن الاجتهاد عند عدم النص أصلٌ في أحكام الشرع ) . اهـ

 

جـ - و احتج به أيضا في دلالة السُنة على حُجّية القياس ؛ قال : ( وأما السُنة : فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين قلده قضاء اليمن : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " . فدلّ على جواز الاجتهاد في الأحكام عند عدم النص ، وأن كل الأحكام ليست مأخوذة عن نص فصار القياس أصلاً بالنص ) . اهـ

و احتج الماوردي بذلك الحديث أيضا في مواضع أخرى من كتابه ، و هو من الأئمة المحَدِّثين ؛ ذَكره الذهبي في كتابه " المُعين في طبقات المُحَدِّثين " ([22]) ، في ( 16- طبقة إلى الخمسين وأربعمائة [سنة الوفاة]؛ قال : و [ فيها ] العلامة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري ببغداد . اهـ

و حَدَّث عنه أبو بكر الخطيب البغدادي ، و وَثَّقه ؛ ذكَره الذهبي في ترجمته للماوردي في كتابه " سير أعلام النبلاء ".([23])

 

و احتج بذلك الحديث أيضا حافظا المغرب والمشرق أبو عمر بن عبد البر ، والخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي، وناهيك بهما ؛ :

4 – فاحتَجَّ به الإمام ابن عبد البر – حافظ المغرب الكبير ( ت 463 هـ ) – في كتابه " جامع بيان العلم وفضله " ، في ( باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة ) ؛ قال : ( قرأت على عبد الوارث بن سفيان ، حدثكم قاسم بن أصبغ ؟ قال : نعم حدثنا ، قال حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن شعبة ، قال : حدثني أبو عون ، عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ ، عن معاذ ، أنه قال : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال : " كيف تقضي " ، وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي عون - وهو محمد بن عبيد الله الثقفي - قال : سمعت الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة يحدث عن أصحاب معاذ ، عن معاذ بن جبل : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : ( كيف تقضي - ثم اتفقا - إذا عرض لك قضاء ، قال أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ، قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أجتهد رأيي ولا آلو ، قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله ) ، ولفظ حديث القطان على لفظ معاذ : فضرب صدري ، وقال لي نحو هذا ) . وأخبرنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبد الله بن روح المدايني , قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو أخي المغيرة بن شعبة ، عن أصحاب معاذ من أهل حمص ، عن معاذ ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له : " كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ "... الحديث . و أخرج له شواهد من آثار عمر و ابن مسعود رضي الله عنهما .

و أبو عمر بن عبد البر فقيه حافظ مكثر ، ترجم له الذهبي في " السِّيَّر " ؛ فقال : ابن عبد البر الإمام العلامة ، حافظ المغرب ، شيخ الاسلام ، أبو عمر ، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري ، الاندلسي ، القرطبي ، المالكي ، صاحب التصانيف الفائقة . و قال القاضي عياض في ترجمته في " ترتيب المدارك " : يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري ، الحافظ ، شيخ علماء الأندلس وكبير محدّثيها في وقته ، وأحفظ من كان بها لسنة مأثورة . اهـ

 

5 - و كذا احتج بالحديث حافظ المشرق الإمام الخطيب البغدادي ( ت 463 هـ ) في كتابه " الفقيه و المتفقه " ، في الكلام في الأصل الثالث من أصول الفقه وهو : إجماع المجتهدين ، ( باب القول في الاحتجاج لصحيح القياس ولزوم العمل به ) – بعدَ أن استدلّ بعدة أدلة من القرآن – ثم قال : ويدلّ على ذلك أيضا من جهة السنة – فذكر الحديث ، و رواه من عدة طرق عن شعبة  ، موصولاً و مرسلاً - ثم قال : ( فإن اعترض المخالف بأن قال : لا يصحّ هذا الخبر ، لأنه يُروى عن أناس من أهل حمص لم يًسَمُّوا فهُمّ مجاهيل ، فالجواب : أن قول الحارث بن عمرو ، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ ، يدل على شهرة الحديث ، وكثرة رواته ، وقد عُرف فضل معاذ وزهده ، والظاهر من حال أصحابه الدين والثقة والزهد والصلاح ، وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة ، على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به ، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ، وقوله : " إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله : " الدية على العاقلة " ، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ، فكذلك حديث معاذ ، لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له ) . اهـ

و حَسْبك باحتجاج الخطيب البغدادي بذلك الحديث ، و قد قيل فيه إنه آخر ديوان المُحَدِّثين ؛ كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته في  " تاريخه " ؛ قال : أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي ، أبو بكر بن أبي الحسن ، الخطيب البغدادي ، الفقيه الحافظ ، أحد الأئمة المشهورين والمصنفين المكثرين والحفّاظ المبرزين ، ومن ختم به ديوان المحَدِّثين . اهـ

 

6 - و كذا احتج به الإمام أبو بكر بن العربي ( 543 هـ ) ، في كتابه " أحكام القرآن " ؛ قال في (المسألة الثالثة : قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } : قال علماؤنا : ردوه إلى كتاب الله ، فإذا لم تجدوه فإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم تجدوه فكما قال علي : ما عندنا إلا ما في كتاب الله تعالى أو ما في هذه الصحيفة ، أو فهْم أوتيه رجل مسلم ، وكما ( قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد . قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ، ولا آلو . قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله) .

فإن قيل : هذا لا يصح .

قلنا [ أي ابن العربي ] : قد بيَّنا في كتاب  " شرح الحديث الصحيح " وكتاب " نواهي الدواهي " صحته ، وأخذ الخلفاء كلهم بذلك . اهـ  ، و ذكر عدداً من آثارهم في ذلك .

 

7 – و احتجّ به موفق الدين ابن قدامة المقدسي ( ت 620 هـ ) في كتاب " المغني " ، في :

( فصل ) : وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله ، فإن وجدها ، وإلا نظر في سنة رسوله ، فإن لم يجدها ، نظر في القياس ، فألحقها بأشبه الأصول بها ؛ ِلما ذكرنا من حديث معاذ بن جبل ، وهو حديث يرويه الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن رجال من أصحاب معاذ من أهل حمص ، وعمرو والرجال مجهولون ، إلا أنه حديث مشهور في كتب أهل العلم ، رواه سعيد بن منصور ، والإمام أحمد ، وغيرهما ، وتلقاه العلماء بالقبول ، وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه ، فروى سعيد أن عمر قال لشريح : انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا ، وما لا يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة ، وما لم يتبين لك في السنة ، فاجتهد فيه رأيك ، وعن ابن مسعود مثل ذلك . اهـ

و ابن قدامة فقيهٌ كبير عالمٌ بالحديث ؛ قال ابن رجب في ترجمته في " ذيل طبقات الحنابلة  " : عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي ، ثم الدمشقي ، الصالحي ، الفقيه ، الزاهد الِإمام ، شيخ الإسلام ، وأحد الأعلام ، موفق الدين أبو محمد . و قال : قال عمر بن الحاجب الحافظ في معجمه : ( هو إمام الأئمة ، ومفتي الأمة . خصه الله بالفضل الوافر ، والخاطر الماطر ، والعلم الكامل . طنت في ذكره الأمصار ، وضنت بمثله الأعصار . قد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية . فأما الحديث : فهو سابق فرسانه . وأما الفقه : فهو فارس ميدانه ... ) . اهـ

 

8 – و كذلك احتج بالحديث الإمام ابن تيمية ( 728 هـ ) ، في بيان أحسن طرق التفسير ، و أنها بطلب تفسير القرآن بالقرآن ، فإن لم يوجد ذلك فَمِن السُنة ؛ قال : ( فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن ؛ فما أُجمل في مكان فإنه قد فُسّر في موضع آخر ، وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن ؛ قال الله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } . وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } . وقال تعالى : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه  " . يعني السنة .

والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن ؛ لا أنها تتلى كما يتلى ، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك .

– قال - : والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فِمن السنة كما ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال بسنة رسول الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي . قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " ) . وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد ) . انتهى كلام ابن تيمية .

[ مقدمة التفسير ، من " مجموع الفتاوى " ، موقع مجمع الملك فهد ]

و احتجاج ابن تيمية بذلك الحديث ظاهر ، و قد قال عقبه : ( وهذا الحديث في المساند والسنن بإسنادٍ جيد ) .

 

9 – و احتج به الإمام ابن القَيِّم ( ت 751 هـ ) في كتابه " إعلام الموقّعين " – في ( فصل :

حديث معاذ في القياس ) ؛ قال : (( وقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصاً عن الله ورسوله ؛ فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: " كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ قال: أقضي بما في كتاب الله . قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو . قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ، ثم قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم  " . فهذا حديثٌ وإن كان عن غير مُسَمّين فهُمّ أصحاب معاذ فلا يضره ذلك ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدّث به الحارث بن عمرو عن جماعةٍ من أصحاب معاذ ، لا عن واحدٍ منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمّي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يُعرف في أصحابه متهمٌ ولا كذاب ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث ، وقد قال بعض أئمة الحديث : " إذا رأيتَ شعبةَ في إسناد حديث فاشدد يديك به " ، قال أبو بكر الخطيب : ( وقد قيل إن عبادة بن نسى رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة ، على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ، وقوله : " إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله : " الدية على العاقلة " ، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ، ولكن لَما تلقتها الكافة عن الكافة ؛ غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ؛ فكذلك حديث معاذ لَمّا احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له ) انتهى كلامه )) . اهـ

يعني : هذا القَدْر الذي نقله ابن القيم من كلام الإمام أبي بكر الخطيب

 

10 – و احتج به الإمام ابن كثير ( ت 774 هـ ) في  عدم تقديم اجتهاد الرأي على الكتاب و السُنة ، و تأخيره عنهما ؛ لئلا يدخل في باب التقديم بين يدي الله ورسوله - و ذلك في تفسيره لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } [ 1 : الحجرات ] – فقال بعد أن ذكر الآيات الثلاث الأولي من سورة الحجرات : هذه آداب ، أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ، أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه ، أي : قبْله ، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ، إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : ( " بم تحكم ؟ " . قال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد ؟ " ، قال : بسنة رسول الله. قال : " فإن لم تجد ؟ " . قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره ، وقال : "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله، لما يرضي رسول الله " ) .

وقد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه . فالغرض منه أنه أخّر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدّمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله . انتهى كلام ابن كثير.

 

ب - و احتج به أيضاً في طلب تفسير القرآن بالسُنة - إن لم يوجد تفسير القرآن بالقرآن – و ذلك في بيان أحسن طرق التفسير ، في مقدمة تفسيره المعروف – قال :

فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟

فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن ، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له . و نقل ما قاله ابن تيمية في ذلك بلفظه ([24]) - مما تقدّم ذِكره ، و لم ينسبه - و فيه الاحتجاج بحديث معاذ رضي الله عنه ، و قال : وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد ، كما هو مقرر في موضعه . اهـ

 

*   *   *

 

و بعد ، فهؤلاء عشرةٌ من الأئمة الكبار اجتمعوا على الاحتجاج بحديث الصحابي معاذ في الاجتهاد . و حَسبك بهم في الاطمئنان إلى حجية الحديث ، مع ما ذُكِر من تصحيحه و جودة إسناده .

و كفى باحتجاج حَبْر الأمة و إمام الأئمة الشافعي بذلك الحديث ، و كذا احتجاج كلاً من الحافظ ابن عبد البر ، و الخطيب البغدادي و تصحيحه ، و هو الحافظ الكبير الإمام محدِّث الشام والعراق ؛ كما قال الذهبي في " تذكرة الحُفاظ " ، و قال : قال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفةً وحفظًا وإتقانًا وضبطًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ، وتفننًا في علله وأسانيده ، وعلمًا بصحيحه وغريبه و فَرْدِه ومنكره ومطروحه . اهـ

 

*   *   *

دعاوى و مزاعم ابن حزم الظاهري

 

و مع ذلك الاجتماع المذكور على الاحتجاج بالحديث ، و تصحيح الإمام أبي بكر الخطيب له ، و روايته تحديث شُعبة بن الحجاج به ، شَذّ ابن حزم و اشتَطّ ، و قال : ( ما أصله إلا مظلم ولا مخرجه إلا واهٍ ، ولا منبعثه إلا من باطل وتوليد موضوع مفتعل ) . و أتى بدعاوى و مزاعم عجيبة ، و مناكير كثيرة ؛ فقال : ( وأما دعواهم وقولهم في الاشتهار والانتشار ، فطريف جدا ، وإنما هم قوم أتى أسلافهم كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن  ، وعيسى بن أبان ونظرائهم ، وكمالك وابن وهب وسحنون وإسماعيل ونظرائهم ، وكالشافعي والمزني والربيع وابن شريح ونظرائهم ، فاحتجوا لما قاله الأول منهم بمرسل أو رواية عن صاحب نجدها في الأكثر لا تصح ، أو تصح ونجد فيها خلافا من صاحب آخر ، أوْ لا نجد ؛ فأشاعوها في أتباعهم فتلقاها الأتباع عنهم وتدارسوها وتهادوها بينهم ، وأذاعوها عند القلة الآخذة عنهم ، فتداولوها على ألسنتهم ومجامعهم وفي تواليفهم وفي مناظراتهم بينهم أو مع خصومهم ؛ فوسموها بالانتشار والاشتهار والتواتر، ونقل الكواف ، وهي في أصلها هباء منبث وباطل مولد ، أو خامل في مبدئه ، وإن كان صحيحا لم يعر ف منتشرا قط .

فهذه صفة ما يدّعون فيه الانتشار والتواتر، كالخبر المضاف إلى معاذ رضي الله عنه في اجتهاد الرأي ؛ فما عرفه قَط أحدٌ في عصر الصحابة ، ولا جاء قَط عن أحدٍ منهم أنه ذكره ، لا من طريق صحيحة ولا من طريق واهية ، ولا متصلة ولا منقطعة ، ولا جاء قَط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة ، لا موصولة ولا مقطوعة ، حتى ذكره أبو عون محمد بن عبيد الله وحده .

وإنما أخذه عن مجهولٍ لا يعرفه أحد ، عن مثله فيما ادعى وزعم ذلك المجهول أيضا ، فأخذه عن أبي عون فيما بلغنا رجلان فقط ، شعبة وأبو إسحاق الشيباني ، ثم اختلفوا أيضا في كافة لفظه ومعناه على أبي عون ، فلما ظفر القائلون بالرأي عند شعبة وثبوا عليه وطاروا به شرقا وغربا، وكادوا يضربون الطبول حتى عرفه من لا يَعرف عن رسول الله ( صلى الله عليه و سلم )كلمة ، وادعوا فيه التواتر.

ومعاذ الله مِن هذا ؛ فما أصله إلا مظلم ولا مخرجه إلا واه ، ولا منبعثه إلا من باطل وتوليد موضوع مفتعل ممن لا يُعرف عمن لم يُسَمّ  ، و لم يُعرف قَط في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ، ولا ذكره أحد منهم غير أبي عون بن عبيد الله الثقفي وحده كما ذكرنا، فهذه صفة جمهور ما يدعون فيه التواتر والانتشار، بل صفة جميعه ... ) . اهـ ([25])

و القائلون بشهرة ذلك الحديث و تواتره إنما أرادوا بهما الشهرة المعنوية و التواتر المعنوي ؛ بشهرته في كتب أهل العلم و عند العلماء ، و تلقي الأمة له بالقبول عصراً بعد آخر ؛ كما قال ابن العربي و ابن قدامة ، لا المعنى الاصطلاحي الخاص ؛كما تَوَّهم ابن حزم . و لا مُشاحة في الأسامي بعد الاعتراف بالمعاني .

 

 

بيان أوهام ابن حزم في إنكار حديث الاجتهاد

 

و لابن حزم الظاهري أوهامٌ عِدةُ ، في ذلك الحديث المشهور المُحتَجّ به في كتب الأئمة :

 

1 – فأول أوهامه : قولُه في رسالته في " إبطال القياس " ([26]) - : ( وما احتج به قَط أحدٌ من المتقدمين ؛ لأن مخرجه واهٍ ضعيف ) ؛ ذكره ابن الملقن في " البدر المنير " ، و استشهد به في توهينه ، و كلاهما وَهَمَ فيه .

و لا شك في أن الإمام العَلَم الشافعي رضي الله عنه هو أحد الأئمة المتقدمين ( ت 204 هـ ) الذين ثبت احتجاجهم  به ، بل هو من كبار المتقدمين  ،  مُحَدّث ٌ جليل و فقيهٌ كبير ؛ ذَكَرَه الذهبي في " تذكرة الحُفّاظ " ، و قال : الشافعي الامام العَلَم ، حَبْر الأُمة . وقال أحمد : إن الله تعالى يقيِّض للناس في رأس كل مائة سنة من يعلمهم السنن ، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب ، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز ، وفي رأس المائتين الشافعي ؛ ذكره السيوطي في " طبقات الحفاظ " .

هذا فضلاً عن احتجاج مَن تقدم ذِكرهم من الأئمة بعده مِن الفقهاء و الحُفّاظ و المُحَدِّثين .

 

2 - و ثاني أوهامه : قولُه إن مخرجه واهٍ ضعيف ، و هو مُعارَضٌ بقول الذهبي : هذا حديثٌ حسَن الإسناد ، و كذا بقوله : إسناده صالح ، و بقول ابن تيمية و ابن كثير بجودة إسناده ، و لو كان مخرجه واهياً ضعيفا ، لَما احتج به هذا الجَمع مِن الأئمة الكبار  ، و لَما غفلوا جميعهم  أو جهلوا ما ادّعاه . و هذا ظاهر .

و قوله : ( وأما خبر معاذ فإنه لا يَحلُّ الاحتجاج به لسقوطه ... ) فمردودٌ و منقوضٌ باحتجاج أولئك الأئمة الأجِلّة به .

و احتجاجهم بذلك الحديث ثابتٌ و مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم ؛ كما تقدّم و رأيت ، ويمُتنع والحالة هذه اجتماعُ هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لا يَحِلّ و لا يَصِِحّ الاحتجاج به .

 

3 – و ثالث الأوهام : ذَكر ابن حزم في كتابه " الإحكام " الحديث من طريق شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو – ابن أخي المغيرة بن شعبة - عن أناسٍ من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ ، و اشتطَّ و قال :  هذا حديث ساقط ، لم يروه أحد من غير هذا الطريق ، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يُسَمّوا، فلا حجة فيمن لا يُعرف مَن هو، وفيه الحارث بن عمرو  وهو مجهول لا يُعرف مَن هو، ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه. انتهى كلام ابن حزم .

و أول سقوط كلامه  هذا ادعاؤه بأن الحديث لم يأت قَطّ من غير طريق الحارث بن عمرو ، و هو منقوضٌ بروايته من طريق آخر ، هو طريق عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ؛ كما قال أبو بكر الخطيب و ابن قدامة . و قال الخطيب : و هذا إسناد متصل ، و رجاله معروفون بالثقة . ، و هذا بيانه و تخريجه .

 

مجيئ الحديث من طريق عبد الرحمن بن غنم عن معاذ

 

هذا الطريق لحديث معاذ في الاجتهاد ، ذكره الخطيب البغدادي بصيغة التمريض ، في كتابه " الفقيه و المتفقه " ، في ردّه إعلال الحديث بجهالة الرواة من أصحاب معاذ ؛ قال : وقد عُرِف فضل معاذ وزهده ، والظاهرُ من حال أصحابه الدين والثقة والزهد والصلاح ، وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة . اهـ

 

و ذكره أيضاً ابن قدامة في " روضة الناظر " بصيغة الجزم ، في ردّه دعوى جهالة بعض رواته ؛ قال : قالوا: هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص ، والحارث ، والرجال مجهولون. .. قلنا : قد رواه عبادة بن نسي عن عبدالرحمن بن غنم ) . اهـ

و ابن قدامة فقيهٌ عالمٌ بالحديث ([27]) ؛ قال فيه عمر بن الحاجب الحافظ : هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة ... قد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية. فأما الحديث: فهو سابق فرسانه. وأما الفقه: فهو فارس ميدانه . [ ذيل طبقات الحنابلة ، لابن رجب ]

 

 

أ - و الحديث أخرجه أبو القاسم الجرجاني و ابن عساكر من هذه الطريق – طريق عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ – في " تاريخهما " ؛ فأخرجه الحافظ أبو القاسم الجرجاني ( ت 427 هـ ) في " تاريخ جرجان " ، من رواية عبد الكريم الجرجاني ؛ قال في ترجمته :

- عبد الكريم الجرجاني : روى عن يعقوب ، روى عنه محمد بن خالد ؛ أخبرني أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا إسحاق هو الطلقي حدثنا محمد يعني بن خالد حدثنا عبد الكريم الجرجاني عن يعقوب ، عن محمد بن سعيد ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ بن جبل ، قال : ( لمَّا بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن ، قال لي : قد علمتُ الذي لقيت في أمر الله وفي سببي والذي ذهب من مالك وركبَك من الدَين ؛ فقد طيِّبت لك الهدية فما أهدي لك من شيء تُكْرَم به فهو لك هنيئا ، إذا قدمت عليهم فعلمهم كتاب الله ) ، فذكر الحديث ، و في آخره : ( قال معاذ : يا رسول الله : أرأيت مما سٌئلْتُ عنه أو خوصِم إليّ فيه ، مما لم أجده في كتاب الله ولم أسمعه منك ؟ قال : " اجتهد رأيك " ) . اهـ

و أبو القاسم الجرجاني ، حمزة بن يوسف بن إبراهيم السهمي القرشي الجرجاني ، ترجمه الذهبي في " تذكرة الحفاظ " ، و قال : الحافظ الإمام الثبْت .

 

ب - و عنه أخرجه الحافظُ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " ؛ بإسناده عن ( عبد الكريم الجرجاني عن يعقوب عن محمد بن سعيد عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ بن جبل ،  قال : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى اليمن ، قال لي : " لقد علمتُ الذي لقيت في أمر الله وفي سببي والذي ذهب من مالك وركبك من الدَين " الحديث ، و في آخره : ( قال معاذ : يا رسول الله ما سُئلت عنه أو تخوصم إليَّ فيه مما لم أجده في كتاب الله ولم أسمعه منك ؟ قال : " اجتهد رأيك " ) . اهـ

و قال ابن عساكر عقبه : وقد رُوي هذا الحديث من وجه آخر أتمّ من هذا بإسناد أشبه من هذا ، أخبرناه أبو القاسم بن السمرقندي أيضا أنا أحمد بن محمد بن أحمد البزاز أنا عيسى بن علي بن عيسى الكاتب أنا عبد الله بن محمد البغوي حدثني السري بن يحيى أبو عبيدة التميمي نا سهل بن يوسف عن أبيه ، عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري السلمي ، وكان فيمن بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمال اليمن ؛ فقال : فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم  عمالَ اليمن في سنة عشر بعدما حج حجة التمام – و ذكر أسماءهم ، ثم قال : - وبعث معاذ بن جبل مُعلماً لأهل البلدين اليمن وحضرموت ، وقال : يا معاذ إنك تقدم على أهل كتاب ، وإنهم سائلوك عن مفاتيح الجنة ؛ فأخبرهم أن مفاتيح الجنة لا إله إلا الله ، وأنها تخرق كل شئ حتى تنتهي إلى الله عز وجل لا تحجب دونه ، مَن جاء بها يوم القيامة مُخلِصاً رجحتْ بكل ذنب . فقال - يعني معاذ - : إذا سُئلتُ واختُصِم إليَّ فيما ليس في كتاب الله ولم أسمع منك فيه سُنة ؟ فقال : تواضع لله عز وجل يرفعك ، واستدق الدنيا تلقك الحكمة ؛ فإنه مَن تواضع لله عز وجل واستدق الدنيا أظهر الله الحكمة من قلبه على لسانه ، ولا تقضين ولا تقولن إلا بعلم ، فإن أشكل عليك أمر فاسأل ولا تستحي واستشر ؛ فإن المستشير مُعان والمستشار مؤتمن ، ثم اجتهد فإن الله عز وجل إن يعلم منك الصدق يوفقك ، فإن ألبسَ عليك فقف وأمسك حتى تتبينه أو تكتب إلي فيه ، ولا تضربن فيما لم تجد في كتاب الله ولا في سنتي على قضاء إلا عن ملأ ، و احذر الهوى ... ) الحديث .

 

و قد التبس على البعض أمرُ هذا الراوي محمد بن سعيد ، المذكور في الحديث قبل هذا ؛ فظَنّ أنه المصلوب ، الكذّاب وَضّاع الأحاديث ، و هذا بعيد  ، و ليس هو ، بل هو رجلٌ آخر ، ربما كان محمد بن سعيد بن حسان العنسي ؛ ففي " موضح أوهام الجمع والتفريق " قال الحطيب : ولأهل الشام رجل آخر يشارك محمد بن سعيد المصلوب في اسمه واسم أبيه وجده يلتبس أحدهما بالآخر ، وهو محمد بن سعيد بن حسان العنسي من أهل حمص ، ولم يذكره البخاري في تاريخه . و قال الذهبي في " ميزان الاعتدال " : فأما : محمد بن سعيد بن حسان العنسي الحمصي ، الذي روى عن عبدالله بن سالم في الفتنة ، وروى عنه عبدالله بن عياش - فآخر متأخر عن المصلوب . ما ضعَّفه أحد ، ولا هو بذاك المعروف . اهـ

و مما يؤكد أن محمد بن سعيد راوي حديث معاذ هذا ، ليس هو الوضّاع المتروك المصلوب للزندقة ؛ قول الخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " : ( وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة ) . ولم يذكر جرحاً فيمن سواهم من رجاله .

 

و هذا الحديث الذي أخرجه الجرجاني و ابن عساكر من طريق عبادة بن نسي ، و ابن عساكر من طريق البغوي ، ألصق و أقرب لحديث شعبة عن أبي عون ، مما ذكره البعض من أنه الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في " سُننه " : ( ثنا الحسن بن حماد سجادة ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن سعيد بن حسان عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا معاذ ببن جبل ، قال : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، قال : " لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم ، فإن أشكل عليك أمر فقف عليه حتى تبينه أو تكتب إلي فيه " ) .  رواه في باب اجتناب الرأي و القياس ، و ليس فيه ذِكرٌ للرأي . وهذا مغايرٌ لمنطوق و مدلول حديث شعبة عن أبي عون في اجتهاد الرأي . و هذا ظاهر .

 

و برواية الحديث من طريق عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ؛ سقط و بطل قول ابن حزم إنه لم يأت هذا الحديث قَط من غير طريقه . يعني : طريق الحارث بن عمرو .

هذا من ناحية

 

4 - و من ناحية أخرى ، فرابع الأوهام : قول ابن حزم إن الحديث لم يُعرف قَط في عصر الصحابة ولا التابعين ، ولا ذكره أحد منهم ( حتى ذكره أبو  عون بن عبيد الله الثقفي وحده ) لو سَلّمناه جدلاً ، لم يقدح ذلك فيه ، و لم يضرّه ؛ فأبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي شيخ شُعبة ، تابعيّ ثقة ، و من رجال " الصحيحيْن " ([28]) ؛ ذكره الإمام الحافظ الناقد أبو الحسن العجلى في كتابه " معرفة الثقات " ؛ فقال : محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي كوفي تابعي ثقة . اهـ

أ - فأمّا أنه تابعي ؛ فلِما ثبتَ من سماعه من الصحابي الجليل جابر بن سمرة رضي الله عنه ؛ فيما أخرجه البخاري في " صحيحه " ، في باب يُطول في الأولييْن ويحذف في الأخرييْن ؛ قال :

- حدثنا سليمان بن حرب ، قال حدثنا شعبة عن أبي عون ، قال سمعت جابر بن سمرة ، قال :

قال عمر لسعد : ( لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة . قال : أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ، ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : صدقت ذاك الظن بك أو ظني بك ) .

قال ابن حجر في " مقدمة الفتح " : أبو عون الثقفي محمد بن عبيد الله .

و قال الذهبي في ترجمته ، في " المقتنى في سرد الكنى " : أبو عون ، محمد بن عبيد الله الثقفي الكوفي الأعور ، سمع جابر بن سمرة . اهـ  .

و قال في " الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة " : محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي عن جابر بن سمرة وطائفة ([29]) ، وعنه شعبة ومسعر سوى ق .

و جابر بن سمرة صحابيٌّ جليل ؛ ذكره ابن عبد البر في " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " ، و ابن حجر في " الإصابة في تمييز الصحابة " . ([30])

 

- و عليه ، فأبو عون تابعيّ ، بلا ريب ؛ لتصريحه بالسماع من بعض الصحابة كجابر بن سمرة و عبد الله بن الزبير ؛ كما في صحيح البخاري و الدار قطني .

و روايته لحديث معاذ في الاجتهاد محفوظة مشهورة في كتب السنن و المساند و غيرها ، و عليه سقط ادعاء ابن حزم بأن الحديث ( ما جاء قَط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة لا موصولة ولا مقطوعة ، حتى ذكره أبو عون محمد بن عبيد الله وحده ) .

فكيف يُقال إن الحديث لم يعرفه و لم يذكره قَطّ أحدٌ من التابعين ، مع أنّ أحد رواته المعروفين و هو أبو عون تابعيٌّ ، من التابعين بلا ريب ؟!

و زعمه هذا هو رابع أوهامه .

 

5 – و أَمّا خامس أوهام ابن حزم ، فَزَعمه أن الحديث ما جاء قط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة لا موصولة ولا مقطوعة . و لا ريب أيضا في أن ذلك الحديث قد رُوي عن أبي عون التابعيّ مُرسلا و موصولاً ، في كتب المساند و السُنن المعروفة ، و صحَّحه عدد من الأئمة الأَجِلّة ، و حسبك في بطلان هذا الذي زعمه ابن حزم ، ما قاله البخاري في رواية شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ : مرسل . و قول الدار قطني : و المرسل أصح .

 

بيان توثيق أبي عون الثقفي التابعي

 

ب – و أَمّا أنه ثقة ؛ فقد وثَّقه أيضا جماعةٌ غير العجلي ؛ كابن حبان و أبو حاتم الرازي و ابن حجر ، و غيرهم .

فذكره ابن حبان في كتاب " الثقات " ؛ قال : محمد بن عبيد الله بن سعيد الأعور أبو عون الثقفى ، من أهل الكوفة ، يروى عن جابر بن سمرة ، وهو الذي يروى عن عبد الله بن شداد ، روى عنه الثوري ومسعر ، مات في ولاية خالد على العراق .

و قال الباجي في " التعديل و التجريح " : محمد بن عبيد الله بن سعيد أبو عون الثقفي الكوفي الاعور ، أخرج البخاري في الصلاة عن شعبة عنه عن جابر بن سمرة . قال أبو حاتم الرازي هو ثقة .

و ذكر ابن حجر توثيقه ، في ترجمته في " تقريب التهذيب " ؛ قال : محمد بن عبيد الله بن سعيد أبو عون الثقفي الكوفي الأعور ثقة من الرابعة خ م د ت س .

و ذكره الكلاباذي في كتابه " الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد الذين أخرج لهم البخاري في جامعه " ؛ قال : محمد بن عبيد الله بن سعيد أبو عون الثقفي الكوفي الأعور . اهـ

و كذا أخرج مسلم حديثه في " صحيحه " ، في باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة .

و قال خليفة: مات أبو عون سنة عشرين ومائة. وثَّقه ابن معين وأبو زرعة ؛ ذكره الذهبي في

" تاريخ الإسلام " .

و عليه ، فلا يقدح في حديثه في اجتهاد الرأي دعوى تفرده بروايته ؛ لأنه تابعي ثقة ، و من رجال الصحيحين ، و حَسْبك بذلك في الضبط و الإتقان و التثبت في الرواية ؛ فلا يُعقَل مِمَن هذا حاله ما زعمه ابن حزم أنه إنما أخذه عن مجهولٍ لا يعرفه أحد ، عن مثله فيما ادعى وزعم ذلك المجهول أيضا . [ ! ]

و هذا على تقدير صحة القول بتفرد أبي عون بروايته  ، و هو ما لم يصِحّ ؛ إذ رواه أيضا عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ . و قد سبق بيانه .

 

6 – و أَمّا سادس أوهام ابن حزم ، فقوله في دعوى سقوط حديث شعبة عن أبي عون : ( هذا حديثٌ ساقط ... وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يُسَمّوا، فلا حجة فيمن لا يُعرف مَن هو، وفيه الحارث بن عمرو  وهو مجهول لا يُعرف مَن هو ) . و أصحاب معاذ و إن كانوا غير مُسَمّيِن هنا ، فهُمّ عُدولٌ ثقات ؛ لنسبتهم إلى صُحبته ، و هو مَن هو ديناً و علما و فضلاً ؛ فلا يَصحَب إلاّ مَن كانوا على شاكلته ، و أَما الحارث بن عمرو فتابعيّ ثقة معروف ، و ما هو بمجهول . و سيأتي بيان ذلك قريبا .

 

و قد أَعَلَّ ابن حزم الحديث – سنداً و متناً - بِعِلَّتيْن مُتَوهمتيْن :

 

الأولى : وجود مجاهيل في إسناده ؛ فادعى :

1 - جهالة هؤلاء الجماعة من أصحاب معاذٍ رضي الله عنه ، رواة ذلك الحديث ؛ بدعوى أنهم لم يُسَمُّوا ؛ فلا يُعْرَف مَن هُم .

2 - جهالة الحارث بن عمرو ، الراوي عنهم ؛ بزعم أنه لا يُعْرَف مَن هو .

 

العلة الثانية : نكارة المتن ؛ بزعم ابن حزم .

 

علل  مدفوعة و مردودة

 

و هذه العِلل المذكورة - آنفا - مدفوعةٌ بما قالهُ الإمام الرازي الجَصّاص و الخطيب البغدادي و ابن العربي و ابن القيّم ، و مردودةٌ بما تَرجَمَهُ الأئمة الأعلام في معرفة الرجال ؛ كالإمام البخاري ، و مسلم ، و ابن أبي حاتم ، و ابن حبان ، و الذهبي ، و المزّي ، و ابن حجر ، و غيرهم . و سيأتي بيانه ، و كشف شُبهاته ، بَعْدُ بعَون الله و توفيقه .

 

أولاً : رَدّ دعوى وجود مجاهيل في إسناد الحديث

 

أ - دعوَى جهالة هؤلاء الجماعة من أصحاب معاذٍ رضي الله عنه :

 

1 – هذه الدعوى مردودةٌ و مدفوعةٌ بما ذكره الإمامان الخطيب البغدادي و ابن القيِّم - آنفا - مِن تزكيتهم و تعديلهم ، فهذا الحديث وإن كان عن أناسٍ مُبهَمين  من أصحاب معاذ ؛ فلا يضره ذلك ؛ لأن إضافته إلى رجالٍ من أصحاب معاذ توجب تأكيده ؛ لأنهم لا يُنسبون إليه أنهم من أصحابه ، إلاّ وهمّ ثِقاتٌ مقبولو الرواية عنه ؛ كما قال الإمام أبو بكر الجَصاص . ([31])

و في بيان ذلك ؛ قال ابن القيم : فهذا الحديث وإن كان عن غير مُسمّين فَهُمّ أصحاب معاذ فلا يضره ذلك ؛لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعةٍ من أصحاب معاذ ، لا عن واحدٍ منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمّي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يُعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك . و قد تقدم

و هو جوابٌ جَيّد ، لا يَسَع المُخالِفُ إنكارَه  ، بل أَقَرّه بعض مَن قال بنكارة الحديث مِن المعاصرين ؛ قال الشيخ الألباني : فهذا جوابٌ صحيح لو أن علة الحديث محصورة بهذه العلة ([32]) . و أَعَلّه بِعِلتيْن أُخْرَتيْن .

 

2 – و أيضا فتلك العِلة مدفوعة بأنّ للحديث نظائرُ – في إسقاط الأسماء عن جماعة - في " الصحيحيْن " و " الموطأ " ؛ كما أوضح الإمام أبو بكر بن العربي ؛ فعدم تسمية مثل هؤلاء الجماعة لا تُدخِله في حيّز المجهولات ، و لا تُخرِجه من حيِّز الصحيح .

قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي " - في بيان صحة ذلك الحديث - : و لا أحدَ من أصحاب معاذ مجهولاً ، و يجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعةٍ ، و لا يُدخِله ذلك في حيِّز الجهالة ، و إنما يدخل في المجهولات إذا كان واحداً ؛ فيقال : حدثني رجلٌ ، حدثني إنسان .

قال : و لا يكون الرَجلُ للرجلِ صاحباً حتى يكون له به اختصاص ، فكيف و قد زيد تعريفاً بهم أن أُضيفوا إلى بلد ([33]) .

قال : و قد خرَّج البخاري - الذي شرَط الصحة - في حديث عروة البارقي : سمعتُ الحيَّ يتحدثون عن عروة ([34]) ، و لم يكن ذلك الحديث من جملة المجهولات ، و قال مالك في القسامة : أخبرني رجالٌ من كبراء قومه ([35]) ، و في الصحيح عن الزهري : حدثني رجالٌ عن أبي هريرة : ( من صلى على جنازة فله قيراط ) ([36]) . انتهى كلام ابن العربي . ([37])

و معلومٌ صحة الأحاديث التي أخرجها الإمام البخاري في كتابه المُسَمى بالصحيح ؛ رَوى الإسماعيلي عنه قال : " لم أُخُرِّج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً " ، و قال إبراهيم بن معقل النسفي : سمعتُ البخاري يقول : " ما أدخلت في كتابي الجامع إلاّ ما صَحّ ، و تركت من الصحيح حتى لا يطول " ؛ ذكرهما الحافظ ابن حجر في " مقدمة الفتح " . و كذلك الحال في أحاديث " صحيح مسلم " ، و " الموطأ " أيضاً.

فهذه الأحاديث الموجودة في تلك الكتب الصِحاح لا تُعَدّ من المجهولات ؛ فكذلك نظيرها حديث معاذ في الاجتهاد .

 

3 – و ينضافُ إلى ما تقدّم ، بل يتقَدمه ، دخولُ هؤلاء الجماعة مِن أصحاب مُعاذٍ في عموم التابعين ، المشهود لهم بالخَيْرية مِن النبي صلى الله عليه و سلم ؛ بقوله في الحديث الصحيح ، الُمتَفق عليه : « خير الناس قرنى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم  ... » .  و هو تعديلٌ و توثيقٌ من النبي صلى الله عليه و سلم لهؤلاء المذكورين ، ما بَعْدَه تعديل و توثيق .

قال النووي في شرحه على مسلم : والصحيح أن قرنَه صلى الله عليه و سلم الصحابةُ ، والثاني التابعون ، والثالث تابعوهم . و كذا قال ابن حجر في " الفتح " .

و الحديثُ جاء بلفظ العموم : " ثم الذين يَِلُونَهُم  " ، فَمَن ادعى زوالَه عن بعض المذكورين فيه بِالخَيْريَة لأمرٍٍ ما – كهؤلاء التابعين من أصحاب معاذ - فعليه الدليل . و لا دليل هنا ، بل اتفق العلماء على تعديلهم و توثيقهم ، رضيَ الله عنهم . و قد تقدم .

و عليه ، فابن حزم أَعَلَّ حديث الاجتهاد بما ليس بِعِلَّة .

 

4 – فإن بقيَ بعد ما تقدم بيانه مجالٌ للجدال في حال هؤلاء الرجال مِن أصحاب معاذ – لإبهامهم – فقد زال ما يُخْشى من ذلك بمجيئ الحديث من طريق آخر عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ ، رضي الله عنه . و هذا إسناده متصل ، و رجاله ثقات ؛ كما قال الخطيب البغدادي من قبل .

فَرَدّ ابن حزم لهذا الحديث - بجهالة مَن رواه عن معاذ - مردودٌ بأنه رواه عبد الرحمن بن غنم عنه ، و هو صحابي أو تابعي ثقة .

 

ب – دعوى جهالة الحارث بن عمرو :

 

و من أعجَب دعاوى العِلل  إعلال ابن حزم الحديث بجهالة الحارث بن عمرو ؛ قال : ( وفيه الحارث بن عمرو وهو مجهول ، لا يُعرَف مَن هو ) ، و وَجه العَجَب فيه قوله بجهالته مع تغافله و تجاهله لِما اِطّلَع عليه هو بالضرورة من تعريف البخاري به في ترجمته له في " تاريخه الأوسط " ، الذي نقلَ منه قول البخاري في الحديث الذي رَفَعَه : ( لا يَصِح ) ، و هو في نفس موضع الترجمة ،  في نفس السطر منها أو التالي له ؛ قال البخاري : ( الحارث بن عمرو ، ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي ، عن أصحاب معاذ ، رفعه في اجتهاد الرأي ، قال شعبة عن أبي عون ، ولا يُعرف الحارث إلا بهذا ، ولا يَصِح ) . [ التاريخ الأوسط ، المطبوع باسم التاريخ الصغير ]

 

- فزعْم ابن حزم بجهالة الحارث بن عمرو ، و قوله إنه مجهول لا يُعرَف مَن هو ، مردودٌ بتعريف البخاري به ، في ترجمته هذه ، و ما هُوَ بمجهول ، بل هو تابعيّ ثقة معروف ، عرفه كبار الأئمة في معرفة الرجال ، و ترجموه و عرَّفوه في مُصنفاتهم ؛ كالبخاري ، و مسلم ، و ابن أبي حاتم ، و بيان ذلك :

 

1 -  ترجم له الإمام البخاري في " التاريخ الأوسط " كما ذُكِر آنفا ، و في " الكبير " أيضا ؛ قال : ( الحارث بن عمرو ، ابن أخى المغيرة بن شعبة الثقفى ، عن أصحاب معاذ ، عن معاذ ، روى عنه أبو عون ، ولا يصح ، ولا يُعرف الا بهذا . مرسل ) . اهـ

2 - و ذكره الإمام مسلم في " المنفردات و الوحدان " ، في طبقة التابعين ، الذين لم يَرْو عن كل واحدٍ منهم إلاّ واحد ؛ قال : وممن تفرد عنه أبو عون الثقفي محمد بن عبيد الله بالرواية : الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة ) . وهذا تعريفٌ به ، و تعديلٌ له .

و قال الإمام مسلم في أول كتابه هذا : تسميةُ مَن رَوى عنه رجلٌ أو امرأةٌ حَفظ أو حَفظتْ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً من قول أو فعل ، ولا يَروي عن كل واحدٍ منهم إلا واحدٌ من مشهور التابعين لا ثانيَ معه في الرواية عنه في ما حَفظ . و ذكَر الصحابة منهم أَوَلاً ، ثم ذكَر التابعين منهم بعد ذلك ، و منهم الحارث بن عمرو .

 

3 - و ترجم له أيضا ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " بنحو ترجمة البخاري ؛ قال : ( الحارث بن عمرو ابن اخى المغيرة بن شعبة ، روى عن أصحاب معاذ ، روى عنه أبو عون الثقفى ؛ سمعت ابي يقول ذلك ) .

4 - و كذا ترجم له بنحو ذلك : المزي في " تهذيب الكمال " ، و الذهبي في " ميزان الاعتدال " ، و ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ؛ فالقول بأنه لا يُعرَف مَن هو قولٌ فاسد ، و عدم معرفة ابن حزم بالحارث لا يضرّه ؛ فقد عرفه غيره من الأئمة الأعلام و ترجموه ؛ فلا يكون مجهولاً ، كما ادعى ابن حزم ، لا جهالة عيْنٍ و لا جهالة حال ؛ فقد وثّقه ابن حبان ، و ذَكَره في كتابه " الثقات " ، في طبقة أتباع التابعين ، الذين رووا  عن التابعين ([38]) ؛ قال : ( الحارث بن عمرو بن أخى المغيرة بن شعبة ، يروي عن أصحاب معاذ ، روى عنه أبو عون الثقفى ) . اهـ

و لم يعارَض ابن حبان في توثيقه للحارث بن عمرو ، بل حكاه الحافظ المزي في " تهذيب الكمال " ، و لم يتعَقّبه .

5 – و يكفي في نفي جهالته أنه شيخُ محمد بن عبيد الله الثقفي التابعي ، أحد رجال الصحيحيْن ، و قد لَقِيَهُ و رَوى عنه و سمع منه ؛ لِما أخرجه الحافظ ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ؛ قال : وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم  ، قال: حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي عون وهو محمد بن عبيد الله الثقفي ، قال : سمعتُ الحارثَ بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة يحدث عن أصحاب معاذ ، عن معاذ بن جبل : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : " كيف تقضي؟ ". الحديث .

و لِما أخرجه الخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " ؛ قال : أنا الحسن بن أبي بكر , وعثمان بن محمد العلاف , قالا : أنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي , نا جعفر يعني ابن محمد بن شاكر الصائغ - نا عفان , نا شعبة , أخبرني أبو عون , قال : سمعتُ الحارثَ بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة يحدث عن ناس , من أصحاب معاذ من أهل حمص , عن معاذ , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : " كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ " . الحديث ،

أنا الحسن بن أبي بكر , أنا دعلج بن أحمد , نا الحسن بن المثنى العنبري , بالبصرة , نا عفان , نا شعبة , أخبرني أبو عون , قال : سمعتُ الحارثَ بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة , يحدث عن أناس , من أصحاب معاذ , عن معاذ , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن : " كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ " . الحديث .

و لا شكّ في أن الحارث بن عمرو كان معروفاً لأبي عون ، الذي لقيَه و سمع منه و روى عنه ، لا ما زعمه ابن حزم أنه أخذ ذلك الحديث عَمَنّ لا يُعرف و لا يدري مَن هو !

هذا من ناحية

 

– و من ناحية أخرى ، قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرح حديث معاذ في القياس : والحارث ابن عمرو الهذلي الذي يروى عنه وإن لم يُعرَف الا بهذا الحديث ، فكَفَي برواية شعبة عنه وبكونه ابن أخٍ للمغيرة بن شعبة في التعديل له والتعريف به ، وغاية حظه في مرتبته أن يكون من الأفراد ، ولا يقدح ذلك فيه . اهـ  [ عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي ]

 

و مع كل هذه التراجم المُعتبَرة للحارث بن عمرو ، و التعريف به و التعديل ، يزْعم زاعمٌ أنه مجهولٌ ، لا يُعرَف مَن هو !

و لا شكّ في أن هذا الزعم وهْم ، و أن إعلال ابن حزم الحديث بهذه العِلّة ليس بشيء البتة .

و بذلك بَطلتْ دعوى وجود مجاهيل في إسناد الحديث ، التي أَعَلَّ ابن حزم الحديثَ بها .

 

ثانيا : دعوى نكارة متن الحديث

 

سابع الأوهام : دعوى وضْع الحديث و بطلان متنه :

 

لو اقتصر ابن حزم على تضعيف الحديث من ناحية السَند ؛ لكان ذلك أمراً محتملاً و مُتقَبلاً ، و لكنه اشتَطَّ ؛ فادَّعى جازماً في كتابه " الإحكام " أن ذلك الحديث ظاهرُ الكَذِب و الوَضْع ؛ بدعوى بُطلان مَتْنه ؛ قال : ( وأيضا فإن هذا الحديث ظاهر الكذب والوضع ؛ لأن من المُحال البيِّن أن يكون الله تعالى يقول: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، و ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ، و ( تبيانا لكل شئ ) ،  ثم يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم ) : إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن .

ومن المُحال البيِّن أن يقول الله تعالى مخاطبا لرسوله (صلى الله عليه و سلم ): ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، ثم يقول رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ): إنه يقع في الدين ما لم يبينه عليه السلام ، ثم من المحال الممتنع أن يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم ): فاتخذ الناس رؤوسا جهالا، فأفتوا بالرأي فَضَلُّوا وأَضلّوا - جاء هذا بالسند الصحيح الذي لا اعتراض فيه ، وقد ذكرناه في باب الكلام في الرأي - ثم يطلق الحكم في الدين بالرأي ، فهذا كله كَذِبٌ ظاهر لا شك فيه ) . انتهى كلام ابن حزم . و قال في موضع آخر : فهذا كذِبٌ ظاهر لا شكّ فيه . [ ! ]

 

و قد أنكر ابن حزم متن الحديث هنا ، زاعماً أنه من المُحال البَيّن أن يكون الله تعالى قد أكمل الدين و أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء ، ثم يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم ) : إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن . و زاعماً أيضاً أنه من المُحال البيّن أن يؤمر النبي صلى الله عليه و سلم بتبيين ما أُنزِل إلى الناس ، ثم يقول إنه يقع في الدين ما لم يبينه هو عليه الصلاة و السلام . و أنه من المُحال الممتنع أن يُطْلِقَ عليه الصلاة و السلام الحكم في الدين بالرأي ؛ هكذا قال .

 

و سبب الوهم عند ابن حزم في زعمه هذا ، هو مذهبه في الأخذ بظاهر النصوص و ترك التأويل و لو مع الدليل ، و بما أن حديث مُعاذٍ هذا ليس على ظاهرِه ؛ لتعارضه مع ظاهر النصوص التي ذكرها ؛ لذا وَهَم ابن حزم فيه و أنكره ، هذا فضلاً عن تعصبه الشديد لمذهب الظاهرية  في نفي القياس .

و إنما المُراد بالحديث أنّ هناك من الوقائع و الأقضية ما ليس فيه – بعيْنه - نَصٌّ من الكتاب أو السُنّة تصريحاً . و هذا سبيلُه الاجتهادُ في معرفة الأحكام ، سواء أكان ذلك بطريق القياس أَم بغيره ،

و القول بوجود نَصّ في كل الوقائع و الأحداث بأعيانها مُكابرة .

و لعله غفَل عما أوضحه الإمام الشافعي من أن الاجتهاد إنما هو بالحمْل على الأصليْن : كتاب الله و سُنة رسول الله ؛ قال في " الأم " : فإذا كانا موجوديْن فهما الأصلان ، وإذا لم يكونا موجوديْن فالقياس عليهما ، لا على غيرهما . و في كلامه هذا إثبات لِما نفاه ابن حزم و أنكره آنفا.

و قال أيضا : و معنى الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بَعدَ أن لا يكون فيما يريد القضاء فيه كتابٌ ولا سُنة ولا أمرٌ مجتمع عليه ، فأمّا وشيء من ذلك موجودٌ فلا . و قد تقدم ذكره .

و ما جاء في حديث معاذٍ رضي الله عنه من وقوع أقضية لا نَصّ فيها – بأعيانها – من كتابٍ و لا سُنّة ، جاء نظيره في أحاديثٍ أخرى قال الأئمةُ و ابن حزم نفسه بصحتها . و سيأتي .

 

و كلام ابن حزم في نكارة المتن مردودٌ عليه ، و مدفوعٌ بعدة أمور :

 

الأول : أن للحديث عدة شواهد صحيحة :

 

1 -  و منها أثر عمر رضي الله عنه _ و هو رسالته إلى شريحٍ القاضي _ الذي أخرجه النسائي في " سننه الكبرى " ، في باب الحكم باتفاق أهل العلم ؛ قال : أخبرنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا سفيان عن الشيباني عن الشعبي عن شريح : أنه كتب إلى عمر يسأله ، فكتب إليه : أن اقض بما في كتاب الله ، فإن لم يكن في كتاب الله ؛ فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؛ فاقض بما قضى به الصالحون ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقض به الصالحون ؛ فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك . والسلام عليكم . اهـ

 

و رسالة عمر هذه إلى شريح التي أخرجها النسائي ، ذكرها ابن حزم ، و أخرجها من طريقه في كتابه " الإحكام " ، و احتجّ بها ، و قال بصحّتها ، و هي نظيرُ ما أنكره في حديث معاذٍ ؛ قال – ابن حزم بعد أن أَعَلّ و أَنكر رسالة عمر المشهورة إلى أبي موسى الأشعري - : ( وأما الرسالة التي تصِحّ عن عمر فهي غير هذه ، وهي التي حدثنا بها عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية المرواني نا أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن بشار نا أبو عامر العقدي نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي،  عن شريح : أنه كتب إلى عمر يسأله . فكتب إليه عمر : أن اقض بما في كتاب الله تعالى ، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاقض بما قضى الصالحون ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولم يقض به الصالحون ، فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك . والسلام ) . اهـ

 

و هي نظير حديث معاذ في الاجتهاد ، سوى لفظ ( فاقض بما قضى به الصالحون ) بدلاً من لفظ معاذ  ( أجتهد رأيى ) . و لا مُنافاةَ بينهما ؛ فالقول الأول ( بما قضى به الصالحون ) هو ثمرةٌ للثاني ( أجتهد رأيى ) و نتيجة له .([39])

 

على أنه قد جاءت الرواية فيها بلفظ ( فاجتهد رأيك ) ؛ في أثر عمر رضي الله عنه ، الذي أخرجه الحافظ ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ، في باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة ؛ قال : أخبرنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثني يعقوب بن ابراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا سيار عن الشعبي ، قال : لما بعث عمر شريحا على قضاء الكوفة ، قال له : ( انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك ) . اهـ  و أخرجه الخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " أيضا .

 

2 – و من هذه الشواهد أَثَرُ عبد الله بن مسعود ، الذي أخرجه النسائي ، في ( باب الحكم باتفاق أهل العلم ) ، و قال إنه : جيد جيد . و جاء فيه : ( فليجتهد رأيه ) .

و هو حديث الباب عند النسائي – الذي أخرج ابن حزم من طريقه رسالة عمر المذكورة آنفا – و فيه : ( فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون ، فليجتهد رأيه ) . و هو حديثٌ جيّد جيد ؛ كما قال النسائي عَقِبه .

و الحديث أخرجه في " سُننه " - ( باب الحكم باتفاق أهل العلم ) – قال :

أخبرنا محمد بن العلاء ، قال حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة هو ابن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : أَكثروا على عبد الله ذات يوم ، فقال عبد الله : ( إنه قد أتى علينا زمانٌ ولسنا نقضى ولسنا هنالك ، ثم إن الله عزّ وجَلّ قدَّر علينا أن بلغنا ما تَروْن ، فمَن عرض له منكم قضاءٌ بعد اليوم ؛ فليقض بما فى كتاب الله ، فإن جاء أمرٌ ليس فى كتاب الله ؛ فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن جاء أمرٌ ليس فى كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ فليقض بما قضى به الصالحون ، فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون ؛ فليجتهد رأيه ، ولا يقول إنى أخاف وإنى أخاف ؛ فإن الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبَيْن ذلك أمورٌ مشتبهات ، فَدَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك ).

قال أبو عبد الرحمن : هذا الحديث جيد جيد . اهـ

و أبو عبد الرحمن هذا هو النسائي ، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي .

 

و مَوّه ابن حزم ؛ فذكره من هذه الطريق ، ثم أَعَلّه من طريق  أخرى ، أنّ ( محمد بن سعيد بن نبات حدثناه ، قال : ثنا أحمد بن عون الله ، نا قاسم بن أصبغ ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، نا محمد بن بشار ، نا محمد بن أبي عدي ، ثنا شعبة ، ثنا الاعمش، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير - قال الاعمش: أحسبه قال : قال ابن مسعود : ( لقد أتى علينا حين وما نسأل وما نحن هناك ... )  . ثم ذكره  بنصه .

فَصحَّ أن الأعمش شك فيه ، أهو عن ابن مسعود أم لا ) . هكذا قال ابن حزم و جَزَم !

و الحديث رواه النسائي في الكبرى من طريق حريث بن ظهير ، ومن طريق عبد الرحمن بن يزيد كلاهما , عن عبد الله بن مسعود به ؛ بغيْر أيّ لفظ شكّ من أحدٍ من الرواة ؛ كما في الحديث المتقدم من طريق عبد الرحمن بن يزيد ، الذي صحّحه النسائي ، و قال : هذا الحديث جيد جيد .

و رواه أيضا من طريق حريث بن ظهير ، و كلاهما بلفظ : ( قال عبد الله ... ) ، أو ( عن عبد الله بن مسعود ، قال ... ) ؛ بالتصريح بنسبة القول إليه ، و بغير شكٍ فيه .

 

فابن حزم أَعَلّ إحدى طُرق أثر ابن مسعود – و هي طريق حريث بن ظهير - من رواية ابن أبي عدي ؛ بشَكّ أحد الرُواة ، و هذه الطريق رُويَتْ بغير الشك في روايات أخرى ، عند النسائي و الدارمي و غيرهما ، فضلاً عن أنّ روايات الطريق الأخرى  – طريق عبد الرحمن بن يزيد – قد سلِمتْ و خَلَتْ من ألفاظ الشَكّ من الرواة .

فحديث النسائي المتقدم و غيره جاء بالتصريح بنسبة القول لابن مسعود ، و بغير لفظ ( أحسبه قال ) الدّال على الاحتمال ، و التصريح بنسبة القول إلي ابن مسعود لا يَسْقط بالاحتمال ، و العُمدة فيه حديث النسائي الذي صحّحه بواحد من أعلى ألفاظ التصحيح ، و هو قوله  : جيّد جيّد ؛ فسقط إعلال ابن حزم لأثر عبد الله بن مسعود .

 

3 – و من الشواهد لحديث معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد أيضا ، أَثَرُ ابن عباس رضي الله عنهما ، الذي أخرجه الحاكم في " مستدركه  " ، و صَحَّحه ، ( عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : كان ابن عباس إذا سئل عن شيء : فكان في كتاب الله قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله و كان من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه شيء قال به ، فإن لم يكن عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه شيء قال بما قال به أبو بكر و عمر ، فإن لم يكن لأبي بكر و عمر فيه شيء قال برأيه .

قال الحاكم عقبه : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، و فيه توقيف ، و لم يخرجاه ) . اهـ

تعليق الذهبي قي التلخيص : على شرطهما .

و الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ، ( في القاضي ما ينبغي أن يبدأ به في قضائه ) ؛ قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : كان ابن عباس إذا سئل عن الأمر ، وكان في القرآن أخبر به ، وإن لم يكن في القرآن ، فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به ، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فإن لم يكن قال فيه برأيه . اهـ

و عنه أخرجه ابن حزم ، في كتابه " الإحكام " .

و كذا أخرجه الدارمي في " سُننه " ، في ( باب الفتيا و ما فيه من الشدة ) ، عن ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد ؛ بنحوه ، و أخرجه البيهقي في " المدخل " ، و الحافظ ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ، و أبو بكر الخطيب في " الفقيه و المتفقه " .

و قد رَدّه ابن حزم بدعوى أن ذلك مِِن إخبار عبيد الله بن يزيد ، راوي الحديث ، و ليس هو قول ابن عباس رضي الله عنهما !

و غَفَل عما ذكره هو ، و أخرجه عن ( سعيد بن منصور ثنا سفيان بن عيينة حدثني عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : شهدتُ ابن عباس إذا سئل عن شيء : فإن كان في كتاب الله تعالى قال به ... ) ، و أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " بلفظ ( رأيتُ ابن عباس إذا سئل عن شيء ) ، من حديث يونس بن عبد الأعلى ، قال : ( حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال : رأيت ابن عباس إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به ... ) .

و فيهما إخبار عبيد الله بن أبي يزيد أنه رأى و شَهدَ ابن عباس يقول في كذا بكذا ، و هو بمقام قوله : قال ابن عباس كذا و كذا ، بل أقوى ؛ لأنه خبرٌ عن ابن عباس مقرونٌ بالرؤية .

و راوي الأثر عبيد الله بن أبي يزيد ثقةٌ ، ترجمه الكلاباذي ( ت 398 هـ ) في كتابه رجال صحيح البخاري ، المسمى " الهداية و الإرشاد في معرفة أهل الثقة و السداد الذين أخرج لهم البخاري في جامعه " ، و أحاديثه في الوضوء و البيوع و النفقات و مواضع منه .

و هو تابعيٌّ ثقة ؛ فقد  حَدّث عن : ابن عباس ، و ابن عمر ، و عبد الله بن الزبير ، و الحُسين ، و عِدة . و هو من كبار مشيخة ابن عيينة . وَثَّقَهُ : علي بن المديني ، و ابن عيينة ، و غيرهما ؛ ذكره الذهبي في ترجمته في " السِّيَر "  ، و هو تقةٌ كثير الحديث ؛ ترجمه ابن حجر في " تقريب التهذيب " ؛ قال : عبيد الله بن أبي يزيد المكي ، مولى آل قارظ بن شيبة ، ثقة كثير الحديث ، من الرابعة مات سنة ست وعشرين ([40]) ، وله ست وثمانون ع . اهـ

فقوله ( شهدتُ ابن عباس إذا سئل ... ، فإن كان في الكتاب قال به ) هو إخبارٌ بمشاهدته لابن عباس يقول في كذا بكذا ، و خَبر الثقة حجة ؛ فسقط اعتراض ابن حزم على أثر ابن عباس رضي الله عنهما ، و ثبتتْ حُجيته .

 

4 – و هذه الشواهد و نحوها أخرجها البيهقي في " سننه الكبرى " ، عقب تخريجه لحديث معاذ في الاجتهاد ، و أخرج قبلها حديث قضاء أبي بكر رضي الله عنه : أخبرنا الشريف أبو الفتح العمري أنبأ عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأ أبو القاسم البغوي ثنا داود بن رشيد ثنا عمر بن أيوب ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران ، قال : ( كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم ، فإن لم يجد في الكتاب نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه و سلم فيه سنة فإن علمها قضى بها ، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين ، فقال : أتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أجد في ذلك شيئا ، فهل تعلمون أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا نعم قضى فيه بكذا وكذا ؛ فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال جعفر وحدثني غير ميمون : أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول عند ذلك : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا صلى الله عليه و سلم . وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به . قال جعفر وحدثني ميمون : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك ، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة ، نظر هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء ، فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء قضى به ، وإلا دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمعوا على الأمر قضى بينهم ) . اهـ

 

الأمر الثاني - في رَدّ دعوى ابن حزم بنكارة متن حديث معاذ في الاجتهاد - :

 

أنّ في قول عُمر رضي الله عنه لشريح : ( فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاقض بما قضى الصالحون ) دليلٌ ظاهرٌ على أنّ هناك مِن الأقضية و الوقائع ما لا نَصّ فيها – بأعيانها - في الكتاب و لا السُنّة ؛ فَسَقط قول ابن حزم  : ( من المُحال البيِّن أن يكون الله تعالى يقول: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، و ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ، و ( تبيانا لكل شئ ) ،  ثم يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم ) : إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن .

ومن المحال البيِّن أن يقول الله تعالى مخاطبا لرسوله (صلى الله عليه و سلم ): ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، ثم يقول رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ): إنه يقع في الدين ما لم يبينه عليه السلام ) . اهـ

فادعاؤه هذا مردودٌ و منقوضٌ بما جاء في رسالة عمر إلى شريح : ( فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاقض بما قضى الصالحون ) .

و قد قال ابن حزم بصحتها ، و هي نظير ما جاء في حديث الاجتهاد في الأحكام ؛ فلا معنى لإنكار ابن حزم لمتنه و معناه .

 

و هذه الشواهد الصحيحة تشهد بالصحة لحديث معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد ، و تُسقِط دعاوى ابن حزم في نكارة متنه ، و تُبطِل مزاعمه في بطلان معناه .

و يؤ يد هذا قول الذهبي فيه  - في " تلخيص كتاب العلل " - : و معناه صحيح ؛ فإن الحاكم مضطرٌ إلى الاجتهاد ، و صَحّ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، و إن اجتهد و أخطأ ، فله أجر " . اهـ

 

*   *   *

 

و في الحديث ترتيبُ أدلةِ الأحكام ؛ قال الإمام أبو بكر بن العربي في المسالة الثالثة من ( الأصول ) ، في شرحه الحديث في " العارضة " : في ترتيب أدلّة الأحكام من الكتاب والسنة والاجتهاد تفصيل ،  وذلك أن القرآن هو الأصل في البيان ، وهو فيه علي وجوه من الجلاء والخفاء ؛ فتولى النبي صلي الله عليه وسلم بيانه ؛ كما قيل له : [ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ] ، فإن لم يكن له في كتاب الله جلاء طلبه ؛ ففي بيان النبي صلي الله عليه وسلم ... اهـ

و ترتيب أدلة الأحكام في حديث الاجتهاد : القرآن أولاً ثم السُنّة ثانيا ، و ليس فيه التفريق بينهما ؛ كما فهم و وَهَم بعض المعاصرين في تعليله لإنكاره متن الحديث . و ليس الأمر كما قال ، و ليس فيه منع الجمع بينهما و النظر فيهما معاً .

و هذا الترتيب هو المعروف في علم أصول الفقه ، و هو المعمول به عند العلماء و الفقهاء ، و هو صنيع الإمام البخاري في تراجمه لغالب أبواب " صحيحه " ؛ ففي أول أبوابه ( باب بدء الوحيّ ) ترجمه بقوله : ( كيف كان بدء الوحيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقول الله جَلَّ ذِكْره { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } ) . ثم أورد حديث الباب للافتتاح ، ثم حديث الوحي : ( عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ ... ) الحديث .

فذكَر دليل الكتاب مُجملاً أولاً ، ثم ساق بيانه من دليل السُنّة ثانيا ، و فِقْه البخاري في تراجمه ، و هو ما دَلّ عليه حديث معاذ في الأحكام .

 

و بناءً على كل ماتقدم ذكره ؛ فالحديث عن معاذ في الاجتهاد في الأحكام صحيحُ الإسناد ، صحيح المتن ، صحيح المعنى ، إن شاء الله .

و هو ما قاله و بيّنه الأئمة في أقوالهم المذكورة فيما مضى .

و لا يَعكر عليه شيء إلاّ ما لا عبرة به من الأوهام و الشُبهات ، المردودة المدفوعة بما لا يَسَع إنكاره ؛ كما تقدّم بيانه ، و كما سيأتي كشفه إن شاء الله .

 

كشْف شُبُهات

 

بَقِيَت هناك شُبهتان ظاهرتان لحقتا بكلام بعض الأئمة في بعض روايات الحديث و رُواته ، و قد وقع بسببهما التباسٌ كبير عند عددٍ من الناس ، و استند إليهما بعضُ مَن قام بتضعيف حديث معاذ في الاجتهاد في الأحكام :

 

الشبهة الأولى : في القول بجهالة الحارث بن عمرو ، و المراد بها التفرد بالرواية عنه

 

قال بعض الأئمة الذين ترجموا للحارث بن عمرو و قاموا بالتعريف به إنه مجهول . و من هنا نشأت شبهة القول بجهالته ، لا سِيِّما و أنهم قد حَكوا تعديله . و هذا ظاهره التعارض .

و من ذلك ما ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " – مما اختصره من " تهذيب الكمال " لأبي الحجاج المزي – في ترجمته :

( د ت - الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي ، روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد ، وعنه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي ، ولا يُعرف إلا بهذا الحديث . قال البخاري : لا يصح ولا يُعرف . وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل . قلت : لفظ البخاري : روى عنه أبو عون ، ولا يصح ، ولا يُعرف إلا بهذا . مرسل ؛ هكذا قال في " التاريخ الكبير " ،  وقال في " الأوسط " ، في فصل من مات بين المائة إلى عشر ومائة : لا يُعرف إلا بهذا ، ولا يصح . وذكره العقيلي وابن الجارود وأبو العرب في الضعفاء ، وقال ابن عدي : هو معروف بهذا الحديث ، وذكره بن حبان في الثقات ، وذكر إمام الحرمين أبو المعالي الجويني أن هذا الحديث مخرَّج في الصحيح ، ووهم في ذلك . والله المستعان ) . انتهي .

و لا ريْب في أن هذا تعريفٌ بالحارث بن عمرو ، و فيه تعديلٌ له أيضا ؛ بِذِكْر توثيق ابن حبان له .

ثم قال ابن حجر بجهالته بعد ذلك في " تقريب التهذيب " – و هو تجريد و تلخيص لكتابه الأول - ؛ قال :

( الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي ، ويقال بن عون ، مجهول ، من السادسة ، مات بعد المائة د ت ) . اهـ

و قوله في الحارث : ( مجهول ) يحتمل أنه مجهول العين ، و ترجمته له و تعريفه به ، تنفي ذلك الاحتمال و تنقضه .

و الاحتمال الثاني في قوله : ( مجهول ) أنه مجهول الحال ، و نقله توثيقه يُعارِض ذلك الاحتمال ، لا سيما و أنه لم يتعَقّبه . و مما يؤكد أنه ليس بمجهول الحال عنده ، قوله في المرتبة السابعة في تقسيم الرواة : ( مَن رَوى عنه أكثر من واحد ولم يوثق ، وإليه الإشارة بلفظ : مستور، أو مجهول الحال ) . و الحارث بن عمرو لم يَرْو عنه إلاّ واحد  ؛ فلا يكون داخلاً في هذه المرتبة ، المتضمنة لمقصوده بمجهول الحال .

 

و لا شك في أن التعريف به و التعديل يتناقضان مع القول بجهالته ، و رفع ذلك التناقض الظاهري سبيله أن قوله ( مجهول ) محمولٌ على التفرّد بالرواية عنه ، بمعنى أنه ٍلم يَرْو عنه إلاّ راوٍ واحد . و هو ما ذكره ابن حجر نفسه في ( مقدمة التقريب ) ؛ قال في تقسيم مراتب الرواة : ( التاسعة : مَن لم يَرْو عنه غير واحد ، ولم يوثق ، وإليه الإشارة بلفظ : مجهول ) . اهـ

و بهذا الاعتبار قال في الحارث بن عمرو : ( مجهول ) ؛ لأنه لم يَرْو عنه غير راوٍ واحد ، هو أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي ، و هو ما ذكره آنفا في " تهذيب التهذيب " .

و هو مذهبٌ مشهور عند أئمة الحديث ؛ قال الخطيب البغدادي في ( باب ذكر المجهول وما به ترتفع عنه الجهالة ) من كتابه " الكفاية في علم الرواية " : المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ، ولا عرفه العلماء به ، ومن لم يُعرَف حديثه الا من جهة راوٍ واحد مثل عمرو ذي مر وجبار الطائي وعبد الله بن أغر الهمداني والهيثم بن حنش ومالك بن اغر وسعيد بن ذي حدان وقيس بن كركم وخمر بن مالك ، هؤلاء كلهم لم يَرْو عنهم غير أبى إسحاق السبيعي ، ومثل –و ذكَر عدة أسماء ، ثم قال : -  وغير مَن ذكرنا خلق كثير تتسع اسماؤهم ، وأقل ما ترتفع به الجهالة أن يروى عن الرجل اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم ، كذلك

أخبرنا محمد بن احمد بن يعقوب انا محمد بن نعيم انا إبراهيم بن إسماعيل القارى نا أبو زكريا يحيى بن محمد بن يحيى ، قال : سمعت أبى يقول : إذا رَوى عن المحدِّث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة . قلت إلاّ أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه . وقد زعم قوم أن عدالته تثبت بذلك ، ونحن نذكر فساد قولهم بمشيئة الله وتوفيقه ) . انتهى كلام الخطيب .

و هو مذهب الحافظ الذهبي أيضا ، ذكره تصريحاً في ترجمة الحارث بن عمرو في " ميزان الاعتدال " ؛ قال : ( الحارث بن عمرو [ د ، ت ] عن رجال ، عن معاذ بحديث الاجتهاد .

قال البخاري: لا يصح حديثه.

قلت [ أي الذهبي ] : تفرّد به أبو عون محمد بن عبيدالله الثقفى ، عن الحارث بن عمرو الثقفى ابن أخى المغيرة . وما رَوى عن الحارث غير أبى عون ؛ فهو مجهول ) . انتهى كلام الذهبي .

فتَأَمّلَه يتبَيّن لك المراد بالمجهول ها هنا. و هو أنه تفَرّد بالرواية عنه راوٍ واحد ، لا أنه مجهول العيْن و لا مجهول الحال ؛ كما فَهم البعض و وَهَم .

و بذلك انكشفت تلك الشُبهة في القول بجهالة الحارث بن عمرو . بعون الله و الحمد لله .

و الحارث بن عمرو تابعيّ ثقة فلا يَضرّه و لا يقدح في حديثه تفَرّد الراوي عنه .

و قد ذكره الإمام مسلم بن الحجاج في التابعين ، مِمَن تَفَرّد بالرواية عنهم راوٍ واحد ، في كتابه " المنفردات و الوحدان " . و تقدم ذكر ذلك .

 

الشبهة الثانية : في قول البخاري في حديث الحارث رَفَعَهُ في الاجتهاد : لا يَصِحَ ، و هو يعود إلى رفْع الحديث ، المذكور من قبل

 

اعتلّ ابن حزم في إبطال و إنكار حديث اجتهاد الرأي بقول البخاري في حديث الحارث بن عمرو المرفوع : لا يَصِِح ؛ ففي ( الباب الخامس والثلاثين في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي ) من كتابه " الإحكام " ، و بعد أن أورد حديث معاذ من طريق أبي داود السجستاني ، و أخرجه مرسلا و موصولا ؛ قال : ( وأما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه ... قال البخاري: ولا يُعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح . هذا نصّ كلام البخاري رحمه الله في تاريخه الاوسط ) . انتهى كلام ابن حزم .

و هو مُسْتَلٌ مما قاله البخاري فيه ؛ فلم يتبين مراده به ، و تمامه : ( الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي ، عن أصحاب معاذ ، رَفَعَهُ في اجتهاد الرأي ، قال شعبة عن أبي عون ، ولا يُعرف الحارث إلا بهذا ، ولا يَصِح ) . اهـ

و لا يلزم من قول البخاري في حديث صاحب ترجمةٍ ما : ( لا يَصِح ) عدم صحة حديث صاحب الترجمة نفسه ؛ لأنه قد يعني بقوله هذا إحدى روايات الحديث ؛ مثال ذلك قوله في " التاريخ الكبير " : ( القعقاع بن أبى حدرد الاسلمي ، له صُحبة ، وامرأته بقيرة ، وحديثه عن عبد الله بن سعيد المقبرى ، ولا يصح حديثه ) . – يعني: حديث المقبري عنه ؛ لأنه ضعيف ؛ كما قال ابن أبي حاتم .([41]) ، و لا يعني به حديث الصحابي ابن أبي حدرد صاحب الترجمة ذاته .

و مثله في ذلك ما قاله البخاري في حديث الحارث بن عمرو في الاجتهاد : ( و لا يَصِح ) يعني الحديث المرفوع ، لا مُطلق حديثه و لا حديثه بذاته .

فقوله : ( لا يَصِحّ ) عائدٌ إلى رَفْع الحديث ، المذكور في قوله : ( رَفَعَهُ في اجتهاد الرأي ) .

أي أن حديث اجتهاد الرأي لا يَصِح رَفْعُه . أي انه مُرسَل ، و هو ما صَرّح به في " التاريخ الكبير " ؛ قال : ( الحارث بن عمرو ابن اخى المغيرة بن شعبة الثقفى ، عن اصحاب معاذ عن معاذ ، رَوى عنه أبو عون ، ولا يَصِح ، ولا يعرف الا بهذا ، مرسل ) . اهـ

و قوله هنا : ( لا يَصِح ) أي ( عن معاذ ) ، و يؤيده قوله بعده : ( مرسل ) .

و قال الدار قطني : و المرسل أَصَح  ، بعد أن ذكر الروايتين المرسلة و الموصولة ؛ ففي كتاب " العِلل " أنه ( سئل عن حديث معاذ ، حيث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقال له : " كيف تقضي ؟ قال : بما في كتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ، قال : أفتي بما قضى به الرسول ... " الحديث .

فقال : يرويه شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ، عن أصحاب معاذ ، عن معاذ .

حدَّث به كذلك عن شعبة : يزيد بن هارون ، ويحيى القطان ، ووكيع ، وعفان ، وعاصم بن علي ، وغندر.

وأرسله عبد الرحمن بن مهدي ([42]) ، وأبو الوليد ، والرصاصي ، وعلي بن الجعد ([43]) ، وعمرو بن مرزوق .

وقال أبو داود ، عن شعبة ، قال مرةً : عن معاذ ، وأكثر ما كان يحدثنا ، عن أصحاب معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ورُوي عن مسعر ، عن أبي عون مرسلا ، والمرسل أصح ) . اهـ

و الاختلاف بين الروايات المرسلة و الموصولة اختلاف ظاهري شكلي ، و ليس اختلافا حقيقيا ؛ فالحديث المرسل محمول على أن أصحاب معاذ حملوه عن معاذ ، و له نظير عند البخاري في " صحيحه " ، و هو حديث يزيد عن عراك عن عروة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر ) .

و الجمهور على أن السياق المذكور مرسل ، وقد صرَّح بذلك الدارقطني وأبو مسعود وأبو نعيم والحميدي ؛ قاله ابن حجر ، و أجاب عنه بأنه محمول عند البخاري على أن عروة حمله عن خالته عائشة ؛ قال في " الفتح " : و الجواب عن الثاني : ( أنه وإن كان صورةُ سياقِه الإرسال ، فهو من رواية عروة في قصة وقعت لخالته عائشة وجدّه لأمه أبي بكر ، فالظاهر أنه حمَل ذلك عن خالته عائشة أو عن أمه أسماء بنت أبي بكر ، وقد قال ابن عبد البر إذا عُلِم لقاء الراوي لمن أخبر عنه ولم يكن مدلسا حمُِل ذلك على سماعه ممن أخبر عنه ، ولو لم يأت بصيغة تدل على ذلك ، و من أمثلة ذلك ... ) . انتهى كلام ابن حجر و نَقْله .

و مثله في ذلك حديث اجتهاد الرأي ، من رواية أصحاب معاذ في قصة وقعت لمعاذ ؛ فهو و إن كانت له صورة المرسل ، فهو يدخل في المُسنَد لما عُلِم بالضرورة مِن لقاء أصحاب معاذ معاذ بحكم صحبتهم له ؛ فالظاهر أنهم حملوه عنه ، لا سيّما و قد وقع التصريح بإخبارهم به ، في رواية الخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " ؛ قال : ( وأنا الحسن بن أبي بكر ، أنا دعلج ، نا الحسن بن سفيان ، أنا حبان ، نا ابن المبارك ، أنا شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي مغيرة بن شعبة ، عن رجال من أهل حمص من أصحاب معاذ ، قالوا : قال معاذ : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال : « إذا عرض لك قضاء ، كيف تقضي ؟ » ) . اهـ

و صرّح أبو عون بسماعه من الحارث بن عمرو ، فيما أخرجه الخطيب البغدادي أيضا ؛ قال : أنا الحسن بن أبي بكر ، أنا دعلج بن أحمد ، نا الحسن بن المثنى العنبري ، بالبصرة ، نا عفان ، نا شعبة ، أخبرني أبو عون ، قال : سمعت الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، يحدث عن أناس من أصحاب معاذ ، عن معاذ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن : « كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ » . اهـ

و أيضا فليس هناك ما يمنع من أن يكون الراوي قد رواه مرسلا مَرّة ، و رواه موصولا مرة أخرى ؛ فقد أخرج أبو داود الطيالسي في " مسنده " : ( حدثنا شعبة ، قال : أخبرني أبو عون الثقفي ، قال : سمعت الحارث بن عمرو ، يحدث عن أصحاب معاذ من أهل حمص ، وقال مرة عن معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : " كيف تقضي ...  " ) . و عنه البيهقي في " سننه الكبرى " .

و على أي حال ، فالحديث رُوي مرسلا و موصولا أيضا ، عند أحمد و أبي داود و الترمذي ، و غيرهم . و قد تقدم بيان ذلك في تخريجهم له ، في أول هذا الكتاب .

و ليس بيان ذلك غرضنا هنا ، و لكن الغرض بيان أن قول البخاري في حديث الحارث بن عمرو : ( لا يَصح ) محمولٌ على رفعه ، و ليس المراد به عدم صحة الحديث عنده .

و هو مقتضى قول الألباني ؛ قال : يعني أن الصواب أنه عن أصحاب معاذ بن جبل ، ليس فيه " عن معاذ " ) . اهـ ([44])

 

 

تذكير و تكرير

 

و في الختام أَوَدّ التذكير بتلخيص أهم ما جاء في هذا الكتاب ، و تكرير ما سبق ذِكْره في ( حديث معاذ في الاجتهاد في الأحكام ) ؛ فإنّ كثير الكلام يُنسي بعضه بعضا ؛ فأقول :

 

الحديث صحَّحه الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في " الفقيه و المُتَفقه " ، و القاضي أبو بكر بن العربي في " عارضة الأحوذي " و في " أحكام القرآن " ، و صرَّح بجوْدةِ إسناده ابن تيمية في " مقدّمة التفسير " ؛ قال : ( و هذا الحديث أخرجه أصحاب المساند و السُنن بإسنادٍ جيّد )  ، و حكاه ابن كثير في " تفسيره " ، و قال الحافظ الذهبي في " تلخيص كتاب العلل " : و هذا حديثٌ حسَن الأسناد . ، و قال في " السِيَّر " : إسناده صالح .

و جاءت الرواية بتحديث شُعبة بن الحجاج به و انتخابه له ، و احتجّ به الشافعي و ابن عبد البر و الخطيب البغدادي ، و أئمة سواهم .

و بعد ،

فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لمعاذٍ رضي الله عنه ، حين بعثه إلى اليمن والياً و هاديا و مُعَلّما ؛ صحيح الإسناد ، صحيح المتن ، صحيح المعنى .

و إذا كان ذلك كذلك ؛ { َفبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } . {الأعراف:185}

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " فَمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي " . [ مُتَفقٌ عليه ]

 

فاللهمّ اجعلنا مِن المُحبّين لك و لكتابك ، و لنبيّك و لسنة نبيك محمد صلى الله عليه و سلم ، و اجعلنا اللهم من العاملين بهما و الحافظين لهما. آمين

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على سيدنا محمدٍ و على آله و صحبه و سلّم تسليما كثيرا .

 

و تم الفراغ منه يوم الجمعة 13 من رجب 1431 هـ ( الموافق 25 يونيو 2010 م ) و كتبه 

د . أبو بكر بن عبد الستار آل خليل

   العضو في ملتقى أهل التفسير

عفا الله عنه و عافاه في الداريْن

اللهمّ آمين 


  • [1] ) من كلام الإمام الشافعي رحمه الله ؛ ذكره البيهقي في خطبة كتابه " معرفة السنن و الآثار " .
  • [2] ) الرسالة ، للإمام الشافعي .
  • [3] ) الحديث أخرجه أبو داود و الترمذي في " سُننهما " ، و الطيالسي و أحمد في " مسنديهما " ، و غيرهم . و سيأتي تخريجه بعد .
  • [4] ) قال ابن قدامة المقدسي – في كتابه " الشرح الكبير " - : إنه حديثٌ مشهور في كتب أهل العلم ، رواه سعيد بن منصور والامام أحمد وغيرهما ، وتلقاه العلماء بالقبول ، وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه . و قال أيضا في " روضة الناظر " : ... ثم الحديث تلقته الأمة بالقبول . أهـ
  • و المراد بالشهرة هنا الشهرة في كتب أهل العلم ، و الشهرة المعنوية .
  • [5] ) شعبة بن الحجاج بن الورد الواسطي مولى عتيك كنيته أبو بسطام ، يروى عن قتادة وأبى إسحاق ، روى عنه الثوري وحماد بن سلمة والبصريون ، كان مولده سنة ثلاث وثمانين بنهريان قرية أسفل من واسط ، ومات سنة ستين ومائة في أولها ، وله يوم مات سبع وسبعون سنة ، وكان أكبر من سفيان بعشر سنين ن وكان من سادات أهل زمانه حفظا وإتقانا وورعا وفضلا ، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين ، وجانَب الضعفاء والمتروكين حتى صار علما يقتدى . [ ثقات ابن حبان ]
  • وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه : كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن ، يعني في الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال . [ تهذيب التهذيب ]
  • وقال الحاكم : شعبة إمام الائمة في معرفة الحديث بالبصرة ، رأى أنس بن مالك وعمرو بن سلمة الصحابيين ، وسمع من اربعمائة من التابعين . [ تهذيب التهذيب ]
  • [6] ) قال الإمام أبو بكر بن العربي في كلامه عن ( إسناده ) : اختلف الناس في هذا الحديث ؛ فمنهم من قال إنه لا يصح و منهم من قال هو صحيح ، و الدين : القول بصحته ؛ فإنه حديثٌ مشهور ، يرويه شعبة بن الحجاج ، رواه عنه جماعة من الرفقاء و الأئمة ، منهم يحيى بن سعيد و عبد الله بن المبارك و أبو داود الطيالسي . اهـ [ عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي ] .
  • [7] ) ذكره الخطيب البغدادي في ( ما ينبغي ان يُسأل الراوي عنه من أحاديثه ) ، و قال : فينبغي للطالب أن يَسأل الراوي عن عيون أحاديثه التي ثبتت أسانيدها وتقدم سماعه لها، ثم ذكَر تحديث شعبة بتلك الأحاديث [ التي انتخبها من أكثر من ألفيّ حديث رواها ] و منها حديثه هذا عن الحارث بن عمرو .
  • [8] ) و ذلك في كتابه " الفقيه و المتفقه " . و سيأتي بيانه قريبا .
  • [9] ) قال ابن أبي حاتم : فمن العلماء الجهابذه النقاد الذين جعلهم الله علما للإسلام وقدوه في الدين ونقادا لناقله الآثار من الطبقه الأولى بالحجاز مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ، وبالعراق سفيان الثوري وشعبه بن الحجاج وحماد بن زيد ، وبالشام الأوزاعي ؛ حدثنا عبد الرحمن حدثني أبي نا عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : ائمه الناس في زماننا اربعه : سفيان الثوري بالكوفه ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصره . حدثنا عبد الرحمن نا أبي نا حماد بن زاذان قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي : يقول شعبة بن الحجاج امام في الحديث . حدثنا عبد الرحمن نا أبي نا حماد بن زاذان قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول ك شعبة بن الحجاج امام في الحديث . [ الجرح والتعديل ]
  • [10] ) قاله ابن القيم في إعلام الموقعين .
  • [11] ) س 1001- وسئل عن حديث معاذ ، حيث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقال له : كيف تقضي بما في كتاب الله ؟ قال : فإن لم يكن في كتاب الله ، قال : قلت : أفتي بما قضى به الرسول ... الحديث.
  • فقال : يرويه شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ، عن أصحاب معاذ ، عن معاذ.
  • حدث به كذلك ، عن شعبة يزيد بن هارون ، ويحيى القطان ، ووكيع ، وعفان ، وعاصم بن علي ، وغندر.
  • وأرسله عبد الرحمن بن مهدي ، وأبو الوليد ، والرصاصي ، وعلي بن الجعد ، وعمرو بن مرزوق.
  • وقال أبو داود ، عن شعبة ، قال مرة : عن معاذ ، وأكثر ما كان يحدثنا ، عن أصحابن معاذ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • وروى عن مسعر ، عن أبي عون مرسلاً ، والمرسل أصح . [ العلل للدار قطني ]
  • [12] ) " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " ، المقصد السادس: من مقاصد هذا الكتاب في الاجتهاد والتقليد ، الفصل الأول : في الإجتهاد ، المسألة الخامسة ..
  • [13] ) تلخيص كتاب العلل المتناهية ، كتاب القضاء ، الحديث 802 بترقيم ا لنسخة المطبوعة لمكتبة الرشد بالرياض 1998م
  • [14] ) المسند الجامع ، لبشار معروف و آخرين - (15 / 345) :
  • الأقضية
  • 11533( - عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص ، عن معاذ ؛
  • أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن ، فقال : كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو ، قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ، ثم قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم. حم (22357)
  • أخرجه أحمد 5/230(22357) قال : حدثنا محمد بن جعفر. وفى 5/242(22451) قال : حدثنا عفان. و"عبد بن حميد" 124 قال : حدثنا سليمان بن حرب. و"الدارمي" 168 قال : حدثنا يحيى بن حماد. و"أبو داود"3593 قال : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى. و"الترمذي"1328 قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، وعبد الرحمان بن مهدي.
  • ستتهم (محمد بن جعفر ، وعفان ، وسليمان ، ويحيى بن حماد ، ويحيى بن سعيد القطان ، وابن مهدي) عن شعبة ، عن أبي عون ، محمد بن عبيد الله الثققي ، عن الحارث بن عمرو ، ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص، فذكروه.
  • - قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصل ، وأبو عون الثققي اسمه : محمد بن عبيد الله.
  • أخرجه أحمد 5/236(22411) قال : حدثنا وكيع. و"أبو داود"3592 قال : حدثنا حفص ابن عمر. و"الترمذي"1327 قال : حدثنا هناد ، حدثنا وكيع.
  • كلاهما (وكيع ، وحفص) عن شعبة ، عن أبي عون الثقفي ، عن الحارث بن عمرو ، عن رجال من أصحاب معاذ ؛
  • أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن
  • - لفظ حفص بن عمر : عن أناس من أهل حمص ، من أصحاب معاذ بن جبل؛
  • أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن ) . أهـ
  • [15] ) قال ابن سعد في " الطبقات " : أبو معاوية الضرير واسمه محمد بن خازم مولى لبني عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم رهط سعير بن الخمس وكان ثقة كثير الحديث يدلس وكان مرجيا توفي بالكوفة سنة خمس وتسعين ومائة فلم يشهده وكيع .
  • و قال السمعاني في " الأنساب " : و كان من الثقات ، و ربما دلّس . و ذكره ابن حبان في كتابه " الثقات " ، و قال في ترجمته : أبو معاوية الضرير اسمه محمد بن خازم السعدي التميمي مولى لهم من أهل الكوفة يروى عن الشيباني وابن أبى خالد روى عنه أحمد ويحيى وأهل العراق وكان مولده سنة ثلاث عشرة ومائة ومات في آخر صفر سنة خمس وتسعين ومائة وكان حافظا متقنا ولكنه كان مرجئا . و ذكره العجلي أيضا في " الثقات " له ؛ فقال : محمد بن خازم بالخاء المعجمة أبو معاوية الضرير الحماني كوفى ثقة وكان يرى الإرجاء وكان لين القول وسمع من الأعمش ألفى حديث فمرض مرضة فنسي منها ستمائة حديث . اهـ
  • و أبو إسحاق الشيباني وثقه ابن حزم و غيره ، و أبو عون ثقة و من رجال صحيح البخاري ، و أبو بكر بن أبي شيبة ثقة ؛ فالحديث رجاله ثقات .
  • [16] ) اختلفا فيه فرواه شعبة ، عن أبي عون ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...» ورواه أبو إسحاق ، عن محمد بن عبيد الله الثقفي - هو أبو عون - قال : «لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...» الحديث .[ البدر المنير ] .
  • و رواية شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ هي الرواية الراجحة المعروفة .
  • [17] ) ذكره الخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " ، و ابن قدامة المقدسي في " روضة الناظر " ، و أخرجه أبو القاسم الجرجاني في " تاريخ جرجان " ، و ابن عساكر في " تاريخ دمشق " . و بيان ذلك في متن البحث .
  • [18] ) "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي " لأبي بكر بن العربي المالكي .
  • [19] ) أبو محمد بن حزم، العلامة علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب ابن صالح الأموي مولاهم، الفارسي الأصل، الأندلسي القرطبي الظَّاهري، صاحب المصنفات، قال الذهبي : كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعه العلم بالكتاب والسنّة، والمذاهب والملل والنِّحل، والعربية والآداب، والمنطق والشعر، قال الغزالي: والديانة والذمّة والسؤدد والرئاسة والثروة وكثرة الكتب . العبر في خبر من غبر . و قال ابن حجر : كان شافعيا فمضى على ذلك وقت ، ثم انتقل إلى مذهب الظاهر وتعصب له ، وصنف فيه ورد على مخالفيه، وكان واسع الحفظ جداً، إلا أنه لثقة حافظ ، كان يهجم كالقول في التعديل والتخريج وتبين أسماء الراوة ، فيقع له من ذلك أوهام شنيعة . [ لسان الميزان ]
  • [20] ) أحمد بن علي أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص ولد سنة خمس وثلاثمائة وسكن بغداد وانتهت إليه رياسة الحنفية وسئل العمل فالقضاء فامتنع تفقه على أبي الحسن الكرخي وتخرج به وكان على طريقة من الزهد والورع وخرج إلى نيسابور ثم عاد وتفقه عليه جماعة وروى عن عبد الباقي بن قانع وله كتاب أحكام القرآن وشرح مختصر الكرخي وشرح مختصر الطحاوي وشرح الجامع لمحمد بن الحسن وشرح الأسماء الحسني وله كتاب في أصول الفقه وكتاب جوابات مسائل توفى يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة ببغداد . [ تاج التراجم في طبقات الحنفية ، لابن قطلوبغا ] .
  • [21] ) نَصّ ما جاء في " الرسالة " للإمام الشافعي : قال فما القياس أهو الاجتهاد أم هما متفرقان ؟ قلت : هما اسمان لمعنى واحد . قال فما جماعهما ؟ قلت : كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة ...
  • [22] ) قال الإمام الذهبي في مقدمة الكتاب : فهذه مقدمة في ذكر أسماء أعلام حملة الآثار النبوية ، تبصر الطالب النبيه وتذكر المحدث المفيد بمن يقبح بالطلبة أن يجهلوهم ، وليس هذا كتاب بالمستوعب للكبار بل لمن سار ذكره في الأقطار والأعصار ، وبالله أعتصم وإليه أنيب . أهـ
  • [23] ) و ترجمته في " طبقات الشافعية الكبرى – للسبكي - : علي بن محمد بن حبيب الإمام الجليل القدر الرفيع الشان أبو الحسن الماوردي
  • صاحب الحاوي والإقناع في الفقه وأدب الدين والدنيا والتفسير ودلائل النبوة والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك وغير ذلك
  • روى عن الحسن بن علي الجبلي صاحب أبي خليفة ومحمد بن عدي المنقري ومحمد ابن المعلي الأزدي وجعفر بن محمد بن الفضل البغدادي
  • روى عنه أبو بكر الخطيب وجماعة آخرهم أبو العز بن كادش . أهـ
  • [24] ) و ابن كثير تتلمذ على ابن تيمية ، و صاحَبَه كثيرا و تأثر به ، و نقل عنه ، كما هو مذكورٌ في تراجمه .
  • [25] ) الإحكام لابن حزم ، باب الإجماع ، فصل في إبطال قول من قال إن قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع . [ الإحكام لابن حزم ]
  • [26] ) قال ابن حزم في كلامه عن حديث معاذ : ( و مَوّه قومٌ فقالوا : هذا منقول نقل التواتر ، و هذا كذب ؛ لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون ، و ما احتج به أحدٌ من المتقدمين ) . [ ص 14 من كتاب :" ملخص إبطال القياس و الرأي و الاستحسان و التقليد و التعليل " ، لأبي حزم الأندلسي ، إصدار دارة أهل الظاهر ]
  • [27] ) قال عمر بن الحاجب الحافظ في معجمه : هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة. خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل. طنت في ذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار. قد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية. فأما الحديث: فهو سابق فرسانه. وأما الفقه: فهو فارس ميدانه، أعرف الناس بالفتيا. [ ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ]
  • [28] ) أخرج البخاري حديثه في باب يطول في الأوليين ويحذف في الأخريين ؛ قال :
  • 728 - حدثنا سليمان بن حرب ، قال حدثنا شعبة عن أبي عون ، قال سمعت جابر بن سمرة قال :
  • قال عمر لسعد : لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة . قال : أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ، ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ز قال : صدقت ذاك الظن بك أو ظني بك . اهـ
  • قال ابن حجر في " مقدمة الفتح " : أبو عون الثقفي محمد بن عبيد الله .
  • و أخرج مسلم حديثه أيضا في صحيحه - ( باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه ) - قال :
  • 3239 - حدثنا ابن أبي عمر حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن محمد بن سوقة أخبرنا محمد بن عبيد الله الثقفي عن وراد قال
  • كتب المغيرة إلى معاوية سلام عليك أما بعد ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله حرم ثلاثا ونهى عن ثلاث : حرم عقوق الوالد ووأد البنات ولا وهات ، ونهى عن ثلاث : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " . اهـ
  • و جابر بن سمرة صحابي توفي بعد 70 هـ : 74 أو 76 هتـ بالكوفة .
  • [29] ) و من هؤلاء الذين سمع منهم أبو عون : عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ؛ أخرج الدارقطني في " سننه " : حدثنا عبد الله حدثنا عثمان حدثنا يحيى بن زكريا عن سعيد أبى سعد عن محمد بن عبيد الله الثقفى ، قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : فرض الحج الإحرام .
  • [30] ) جابر بن سمرة رضي الله عنه ، صحابيٌّ جليل من كبار الصحابة ، ذكره ابن عبد البر في " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " ، و ابن حجر في " الإصابة في معرفة الصحابة " ؛ قال :
  • 1019 - جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة العامري السوائي ، حليف بني زهرة ، وأمه خالدة بنت أبي وقاص أخت سعد بن أبي وقاص ، له ولأبيه صحبة ، أخرج له أصحاب الصحيح ، وروى شريك عن سماك عن جابر بن سمرة ، قال : جالست النبي صلى الله عليه و سلم أكثر من مائة مرة ؛ أخرجه الطبراني . وفي الصحيح عنه ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم أكثر من أَلفيّ مرة . قال بن السكن يكنى أبا عبد الله ويقال يكنى أبا خالد ، نزل الكوفة وابتنى بها دارا ، وتوفي في ولاية بشر على العراق سنة أربع وسبعين . اهـ
  • [31] ) قال الجصّاص : فإن قيل : إنما رواه [ أي الحارث بن عمرو ] عن قوم مجهولين من أصحاب معاذ .
  • قيل له : لا يَضرّه ذلك ، لأن إضافته ذلك إلى رجال من أصحاب معاذ توجب تأكيده ؛ لأنهم لا يُنسبون إليه أنهم من أصحابه ، إلاّ وهمّ ثِقاتٌ مقبولو الرواية عنه . [ الفصول في الأصول ]
  • [32] ) قال الألباني : و أجاب ابن القيم عن العلة الثانية ، و هي جهالة أصحاب معاذ بقوله في " إعلام الموقعين " ( 1 / 243 ) : " و أصحاب معاذ و إن كانوا غير مسمين فلا يضره ذلك ، لأنه يدل على شهرة الحديث ، و شهرة أصحاب معاذ بالعلم و الدين و الفضل و الصدق بالمحل الذي لا يخفى .... " . أقول : فهذا جواب صحيح لو أن علة الحديث محصورة بهذه العلة ، أما و هناك علتان أخريان قائمتان ، فالحديث ضعيف على كل حال ، و من العجيب أن ابن القيم رحمه الله لم يتعرض للجواب عنهما مطلقا . فكأنه ذهل عنهما لانشغاله بالجواب عن هذه العلة و الله أعلم . ثم تبين لي أن ابن القيم اتبع في ذلك كله الخطيب البغدادي في " الفقيه و المتفقه " . السلسلة الضعيفة ، الألباني [2 /380]
  • [33] ) يعني : ما جاء في الحديث من وصفهم بأنهم أناسٌ من أهل حِمْص
  • [34] ) الحديث أخرجه البخاري في " صحيحه " ، كتاب المناقب :
  • - حدثنا على بن عبد الله أخبرنا سفيان حدثنا شبيب بن غرقدة قال : سمعت الحيّ يتحدثون عن عروة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا يشترى به شاة ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة فى بيعه ، وكان لو اشترى التراب لربح فيه .
  • قال سفيان كان الحسن بن عمارة جاءنا بهذا الحديث عنه ، قال : سمعه شبيب من عروة ، فأتيته ، فقال شبيب : إنى لم أسمعه من عروة ، قال : سمعت الحى يخبرونه عنه . اهـ
  • قال ابن حجر في " الفتح " : قوله سمعتُ الحيَّ يتحدثون . أي قبيلته .
  • [35] ) الحديث أخرجه مالك في " الموطأ " ، في كتاب القسامة :
  • - حدثنى يحيى عن مالك عن أبى ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبى حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح فى فقير بئر أو عين فأتى يهود فقال أنتم والله قتلتموه.... اهـ
  • [36] ) الحديث أخرجه مسلم في " صحيحه " ، في باب فضل الصلاة على الجنازة :
  • - حدثنى عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثنى أبى عن جدى قال حدثنى عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال حدثنى رجال عن أبى هريرة عن النبى -صلى الله عليه وسلم-. بمثل حديث معمر وقال « ومن اتبعها حتى تدفن ». اهـ
  • [37] ) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي ، للقاضي أبي بكر بن العربي ، ط دار الكتب العلمية ، عن الطبعة المصرية القديمة
  • [ نسخة المكتبة الوقفية ]
  • http://www.waqfeya.com/book.php?bid=713
  • [38] ) جعله ابن حبان في عداد طبقة أتباع التابعين ؛ لروايته عن التابعين ، و ليس بلازم ؛ لرواية التابعين بعضهم عن بعضهم . و قد عَدّه مسلم في طبقة التابعين في كتابه " المنفردات و الوحدان " ، و هو أعلم بالرجال من غيره ممن أتى بعده .
  • [39] ) لأن قول عمر لشريح : ( فاقض بما قضى به الصالحون ) المُراد بهم الصحابةُ على الأظهر ؛ لأن شريحاً كان من كبار التابعين ، فأوصاه عمر باتباع قضاء مَن سبقه مِن الصحابة فيما ( لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ) ، و قضاؤهم هذا كان بطريق الاجتهاد ؛ لقول الصحابي مُعاذ : ( أَجتهد رأيى ) .
  • قال ابن عبد البر : أدرك شريح القاضي الجاهلية ، ويعد في كبار التابعين ، وكان قاضياً لعمر بن الخطاب على الكوفة ثم لعثمان ثم لعلي رضي الله عنهم ، فلم يزل قاضياً بها إلى زمن الحجاج ، وكان أعلم الناس بالقضاء ، وكان ذا فطنة وذكاء ومعرفة وعقل ورصانة ، وكان شاعراً محسناً وله أشعار محفوظة في معان حسان ، وكان كوسجاً سناطاً لا شعر في وجهه ، وتوفي سنة سبع وثمانين ، وهو ابن مائة سنة ، وولى القضاء ستين سنة ، من زمن عمر إلى زمن عبد الملك بن مروان . [ الاستيعاب في معرفة الأصحاب ]
  • [40] ) يعني : مات سنة ست وعشرين ومائة ؛ كما قال البخاري في " تاريخه الكبير " .
  • [41] ) لا يلزم من قول البخاري في حديث صاحب ترجمةٍ ما : ( لا يَصِح ) أو ( لا يصِح حديثه ) ، عدم صحة حديث صاحب الترجمة نفسه ؛ لأنه قد يعني بقوله هذا إحدى روايات الحديث ؛ مثال ذلك قوله في " التاريخ الكبير " : ( القعقاع بن أبى حدرد الاسلمي ، له صُحبة ، وامرأته بقيرة ، وحديثه عن عبد الله بن سعيد المقبرى ، ولا يصح حديثه ) ؛ فقول البخاري هنا : ( لا يصح حديثه ) لا يعود البتة إلى حديث ابن أبي حدرد نفسه صاحب الترجمة ؛ لأنه صحابي ( له صُحبة ) ، و لكنه يعود إلى إحدى روايات حديثه من طريق المقبري ؛ لأنه ضعيف ؛ قال ابن أبي حاتم في " الجرح و التغديل " : ( قعقاع بن أبى حدرد الأسلمي ، ويقال قعقاع بن عبد الله بن أبى حدرد ولا يصح ، له صحبة ، وهو زوج بقيرة ، روى عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عنه ؛ سمعت أبى يقول ذلك . وأدخله بعض الناس في كتاب الضعفاء ، فسمعت أبى يقول يُحَوّل من هذا الكتاب ؛ فإن الرواى عنه عبد الله بن سعيد المقبري ، وعبد الله ضعيف ) . اهـ
  • [42] ) و قوله : ( و أرسله عبد الرحمن بن مهدي ) فيه نظر ؛ فقد أخرجه أبو داود َمِن طريقه موصولاً إلى معاذ ؛ قال في " سُننه " : ( حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر و عبد الرحمن بن مهدي ، قالا : حدثنا شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ابن أخ للمغيرة بن شعبة ، عن أناس من أهل حمص ، عن معاذ : عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه .
  • قال أبو عيسى : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصل ، و أبي عون الثقفي اسمه محمد بن عبيد الله ) . اهـ
  • و قوله : ( وليس إسناده عندي بمتصل ) محمول على وصله إلى معاذ ، أو إلى النبي صلى الله عليه و سلم ؛ كما في رواية ابن مهدي هذه .
  • [43] ) و كذا قوله : ( و أرسله ... و عليّ بن الجعد ) فيه نظر أيضا ؛ فقد أخرجه ابن عبد البر من طريقه موصولاً إلى معاذ ؛ قال في " جامع بيان العلم " : وحدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: حدثنا شعبة، عن أبي عون -وهو: محمد بن عبيد الله الثقفي- قال: سمعت الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة يحدث عن أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "كيف تقضي؟".
  • [44] ) قال الشيخ الألباني : ( و قال العقيلي : " قال البخاري : لا يَصِح ، و لا يُعرف إلا مرسلا " .
  • قلت [ أي الألباني ] : و نَصّه في " التاريخ " ( 2 / 1 / 275 ) : " لا يصح ، و لا يُعرف إلا بهذا ، مرسل " . قلت [ أي الألباني ] : يعني أن الصواب أنه عن أصحاب معاذ بن جبل ، ليس فيه " عن معاذ " ) . اهـ [ السلسلة الضعيفة ، للألباني ] 

    =================

=====

 


 قلت  المدون ينقص هذا البحث التحقيق العلمي والفسيولوجي لختان الاناس والذي عليه مدار معني تكرمة لنساء فلتنبه  وقد أنشئت ابحاث علمية وفقهية واعية لبيان الظلم الذي يقع لي الاناث بعد ختانهن المفرط فيه منها ما جاء علي صفحات موقع نظمة الصحة العالمية ومدون ختان المرأة المسلمة وغيرهما افتح بحث جوجل

ختان الإنــــــــــــــــــاث

-----

  لقد اختلف الفقها قديما وتداعت لاختلافاتهم القديمة هذه شبهات عديدة رأي الامام ابن عبد البر أن الختان الفرض هو المنصب علي الرجال دون الاناث وله وجه سائغ اراه فتابع 

 كشف الشبهة المثارة في قول الإمام ابن عبد البرّ في الختان 

بيان تمام و مراد قول ابن عبد البر : ( والذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال..)

و أنه راجعٌ إلى قوله : " و أجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن " 

بقلم : د . أبو بكر خليل 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على خاتم الأنبياء و المرسلين ، سيدنا محمدٍ النبيّ الأمين ، و على آله الأطهار المُكَرّمين ، و أصحابه الأبرار الميامين ، رضي الله عنهم أجمعين ، و مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . 

و بعد 

فهذا البحث واحدٌ من عدة بحوث ، تتتبّع و تكشف أهَمّ الشُبهات ، التي أثارها و اعتَلّ بها كثيرٌ مِن منكري مشروعية ختان الإناث – المعاصرين – و هي شُبهات واهيات ، لا تستطيع الوقوف أمام الأدلّة الشرعية القوية القاطعة بمشروعيته ، مثل الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم – في وجوب الغُسْل عند جماع الزوجيْن - : إذا " مَسّ الختانُ الختانَ " . أيّ للرجل و المرأة ، و المُراد به : مَوْضعه ، و كذا الإجماع الصريح على مشروعيته.

قال الله عَزّ و جَلّ في شأن رسوله الكريم : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ } . [ الحشر : 7 ]

 

و هذان الدليلان مما لا يَسَع المخالفين ردّه أو إنكاره ، و لذا احتالوا بالاستتار وراء أقوال ظنّوها  - بغير حقٍ - تسند دعاواهم . و هو ما سَنُبيّن بُطلانه هنا ؛ بِوَجْهٍ جَلِيٍّ ، يزيل التلبيس و التدليس ، إن شاء الله تعالى . 

---

كان الاستشهاد بأقوالٍ مبتورة ة مجتزأة ، و الاستدلال بها في غير مواضعها من المسالك التي سلكها نفرٌ من المعاصرين المنكرين  لمشروعية ختان الإناث ، و من ذلك استشهادهم – في نفيّ مشروعية و سُنية ختان الإناث - بقول الإمام ابن عبد البر : ( و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال ) ، و قالوا إنه يَدلّ على أن الختان للرجال فحسْب . و هذا القدر من قول ابن عبد البر ظاهره مُوهم ، و لكن له تتمة تُبيّن مقصوده ،  و إيراده مع إغفالها – في مجال الاستشهاد للإنكار -  فيه تدليس وتلبيس ؛ إذ ذكروا كلامه و احتجوا به في غير محله ، من غير تكملة بقية جملته ، مع ضرورة تتمته ؛ لفهم مراده به ، ، و سيأتي بيانه . 

بيان تمام كلام الإمام ابن عبد البر في الختان ، و مراده به 

توهموا و أوهموا – بسوء فهمٍ أو بسوء قصد - بأن قول ابن عبد البر : " و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال " معناه : " و الذي أجمع المسلمون عليه الختان للرجال " أي أنه خاصٌ بالرجال ، و هذا خاطئ من وجوه :

أولها : أن قوله : " الختان في الرجال " معناه : الختان في حق الرجال ، و هذا لا ينفيه في حق غيرهم من النساء ، بخلاف لو قال مثلاً : الختان للرجال . و سَكَتْ ؛ فاللام هنا تفيد الاختصاص  ، و هو ما لم يقع .

الوجه الثاني : أن كلام ابن عبد البر : " ...الختان في الرجال " له تتمة ضرورية لفهم مراده به ، و هي قوله عقبه مباشرة : " على ما وصفنا " ؛ إشارةً إلى كلام له متقدم ، وعبارة ابن عبد البر بتمامها : " و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا " ؛ قالها في كتابه "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " . و سيأتي بيانها .

الوجه الثالث : يستحيل – قطعاً – أن يكون مراد ابن عبد البر بكلامه هذا : الإجماع على أن الختان للرجال فحسْب ، و نفْيّ مشروعية ختان النساء ،كما ادعوا ؛ لاتفاق الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة في بلاد الإسلام على مشروعية و إباحة ختان النساء  ، و لا وجود لإجماعٍ خالفه إمامٌٍ واحد منهم ، فكيف بجميعهم ؟!

و تصريح الإمام ابن عبد البر نفسه – في كتابه " الكافي في فقه أهل المدينة " - بأن الختان مكرمة للنساء ، يدحض ما ادّعوه ؛ قال : ( ومن فطرة الإسلام عشر خصال الختان وهو سنة للرجال ومكرمة للنساء ، وقد روي عن مالك أنه سنة للرجال و النساء ) . اهـ 

* و لا مناص لفهم مراده بقوله : " على ما وصفنا " من الرجوع إلى بقية كلامه ؛ فبعد أن ذكر عدة أحاديث عقِب قوله : " الختان من ملة إبراهيم  ، لا يختلفون في ذلك " ، قال : « وأجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن ، وقال أكثرهم الختان من مؤكدات سنن المرسلين ، ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال ، وقالت طائفة ذلك فرضٌ واجب لقول الله عز وجل {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} قال قتادة هو الاختتان .

قال أبو عمر:

ذهب إلى هذا بعض أصحابنا المالكيين ، إلا أنه عندهم في الرجال ، وقد يحتمل أن تكون ملة إبراهيم المأمور باتباعها التوحيد بدليل قوله {لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} .

وقد روى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي ( أن سارة لما وهبت هاجر لإبراهيم فأصابها غارت سارة ، فحلفت ليغيرن منها ثلاثة أشياء ، فخشي إبراهيم أن تقطع أذنيها أو تجدع أنفها ،  فأمرها أن تخفضها وتثقب أذنيها ) .

قال : وروي عن أم عطية أنها كانت تخفض نساء الأنصار.

وروى حجاج بن أرطاة عن ابن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الختان سنة للرجال مكرمة للنساء " .

قال : واحتج من جعل الختان سنة بحديث أبي المليح هذا ، وهو يدور على حجاج بن أرطاة ، وليس ممن يحتج بما انفرد به ، والذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا » . انتهى كلام ابن عبد البر هنا . 

و قوله في نهايته : " و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا " يرجع إلى قوله في أوله : " و أجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن  " ؛ لأنه الإجماع الوحيد الذي ذكره في مسألة الختان .

أما غير ذلك من مسائل الختان فلم يَذكر فيها إجماع ، لا هو و لا غيره ، بل فيها خلاف ، و لا إجماع فيها غير الإجماع على مشروعيته في الرجال و النساء ، و قد تقدم بيانه ، و هو هادمٌ لدعواهم .

و قد جاء كلامه هذا في سياق بيان قوله " الختان من ملة إبراهيم " و أن العلماء " لا يختلفون في ذلك " ، و حكى إجماع المسلمين – متمثلاً بإجماع علمائهم – على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من اختتن من الرجال ، و في ختان النساء ذكَر خفاض هاجر عليها السلام بأمر سيدنا إبراهيم ، و ذكر ختان أم عطية لنساء الأنصار ، و لم ينكره ، و ذكر الخلاف في حكم الختان بين الوجوب و السُنية في الرجال و النساء – ثم ختم بذكر أن الإجماع في ختان الرجال هو على ما ذكره - في أوله - أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ؛ فهذا هو الإجماع الوحيد الذي ذكره في كلامه .

و قد يُحتمل أن يكون قوله : « الختان في الرجال على ما وصفنا » راجعاً إلى قوله في أوله : « الختان من مؤكدات سنن المرسلين ، ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال ، و قالت طائفة : ذلك فرضٌ واجب » ، لولا انتفاء الإجماع هنا . 

* و كيفما كان الحال فلا يحتمل قوله : « و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا » أيّ إنكار لمشروعية ختان الإناث ، كما يزعمون ، و دليل ذلك :

1 – ذكره خفاض السيدة هاجر عليها السلام ، و كذا خفاض نساء الأنصار ، من غير إنكار .

2 –  أن الإمام مالك صاحب " الموطأ " – الذي كتب ابن عبد البر كتابه هذا " التمهيد " لذكر ما فيه " من المعاني و الأسانيد " – أخرج الحديث : "خمس من الفطرة : تقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاختتان " . و قال فيه : « من الفطرة ختان الرجال و النساء » ؛ ذكره ابن عبد البر نفسه في كتابه هذا نفسه ،و كذا في كتابه " الاستذكار " [2].

3 – قول ابن عبد البر نفسه : « و من فطرة الإسلام عشر خصال : الختان ، و هو سُنة للرجال ، و مكرمة للنساء ، و قد رُوي عن مالك أنه سُنة للرجال و النساء » ؛ قاله في كتابه " الكافي في فقه أهل المدينة " .

و مع كل هذا يدّعي مُدّعٍ أن الإمام ابن عبد البرّ أنكر صحة ختان الإناث ! 

و عليه فلا حجة لهم فيما احتجوا به من كلام ابن عبد البر ، و سقط استشهادهم به في تأييد دعواهم بإنكار ختان الإناث ؛ لأنه احتجاج في غير محله ، و تصريح ابن عبد البر بأنه مكرمة لهنّ ينقضه ، و الإجماع على مشروعيته فيهن  يَردّه ؛ قال الإمام ابن رجب الحنبلي – في كتابه " فتح الباري " - : ( و ختان المرأة مشروعٌ بلا خلاف ) . و انتفاء الخلاف هو عيْن الإجماع ، و هو ما صرّح به الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى – في كتابه : " البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار " – قال : ( و الختان مشروعٌ إجماعاً للرجال و النساء ) .

و هذا قد تقدم تفصيله في بحث : [ بيان دليل الإجماع في مشروعية ختان الإناث ] . المنشور في عدة ملتقيات ، و في موقع مكتبة مشكاة الإسلامية 

تذكيرٌ بحقيقة كلام ابن عبد البر في الختان 

و نعيد كلام الحافظ ابن عبد البر في الختان بتمامه ؛ تذكرةً به ، و تبصرةً بمقصوده به ؛ قال في " التمهيد " : " و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا " ؛ إشارةً إلى ما ذكره – في أول كلامه - من الإجماع على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن من الرجال ، و قال في " الكافي في فقه أهل المدينة " - بالحرف - : " و من فطرة الإسلام عشر خصال : الختان ، و هو سُنة للرجال ، و مكرمة للنساء " . اهـ

هذا هو صريح قول الإمام ابن عبد البر في مشروعية ختان الإناث و استحبابه ، فالمِكرُمة هي ما يُستحب شرعاً . 

و بذلك انكشفت تلك الشبهة المثارة في ختان الإناث ، و اندفعت ؛ بعون الله و توفيقه ، و الحمد لله أولاً و آخراً .

 

﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا     يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ﴾ [ الرعد : 17 ] 

أسأل الله تعالى أن يتقبل مِنّي عملي هذا ، و يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، و أن ينفع به و ينفعني به ، كما أسأله عَزّ و جِلّ أن يُعينني على إكمال بقيته ؛ دفعاً و دحْضاً لحجج المُشككّين ، و حِفظاً ودفاعاً عن حُكْمٍ من أحكام الدين القويم ، وبياناً لِحُكْمٍ من أحكام الشرع الحنيف .

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

كتبه

د . أبو بكر عبد الستار خليل

عفا الله عنه و عافاه في الداريْن 



[1] ) قال الإمام ابن هبيرة الشيباني في " اختلاف الأئمة العلماء " : ( اتفقوا على أن الختان في حق الرجال ، والخفاض في حق الأنثى مشروع ، ثم اختلفوا في وجوبه ) . اهـ

و ذكر في مقدمته أن المراد بقوله ( اتفقوا ) : أي : الأئمة الأربعة ؛ قال : ولما انتهى تدوين الفقه إلى الأئمة الأربعة ، وكل منهم عدل رضي اللَّهِ عنهم ، ورضى عدالتهم الأئمة ، وأخذوا عنهم لأخذهم عن الصحابة والتابعين والعلماء وأستقر ذلك ، وإن كلا منهم مقتدى به ، ولكل واحد منهم له من الأمة اِتِباع من شاء منهم فيما ذكره ، وهم : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، رضي اللَّهِ عنهم . رأيت أن أجعل ما أذكره من إجماع مشيرا به إلى إجماع هؤلاء الأربعة ، وما أذكره من خلاف مشيرا به إلى الخلاف بينهم . اهـ

 

ا

[2] ) قال ابن عبد البر في مقدمة " الاستذكار " – بعد الحمد لله ، و الصلاة و السلام على رسول الله > - :

( أما بعد ،، فإن جماعة من أهل العلم وطلبه والعناية به من إخواننا - نفعهم الله وإيانا بما علمنا - سألونا في مواطن كثيرة مشافهة ، ومنهم من سألني ذلك من آفاق نائية مكاتبا أن أصرف لهم كتاب ( ( التمهيد ) ) على أبواب ( ( الموطإ ) ) ونسقه ، وأحذف لهم منه تكرار شواهده وطرقه ، وأصل لهم شرح المسند والمرسل اللذيْن قصدت إلى شرحهما خاصة في ( ( التمهيد ) ) بشرح جميع ما في الموطأ من أقاويل الصحابة والتابعين ، وما لمالك فيه من قوله الذي بنى عليه مذهبه واختاره من أقاويل سلف أهل بلده الذي هم الحجة عنده على من خالفهم ، وأذكر على كل قول رسمه وذكره فيه ما لسائر فقهاء الأمصار من التنازع في معانيه ؛ حتى يتم شرح كتابه ( ( الموطإ ) ) مستوعبا مستقصى بعون الله إن شاء الله ، على شرط الإيجاز والاختصار وطرح ما في الشواهد من التكرار إذ ذلك كله ممهد مبسوط في كتاب ( ( التمهيد ) ) والحمد لله .

 وأقتصر في هذا الكتاب من الحجة والشاهد على فِقَر دالة وعيون مبينة ونكت كافية ؛ ليكون أقرب إلى حفظ الحافظ وفهم المطالع إن شاء الله ) . اهـ

 

============================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...