Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 39 و40.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

مجلد  39 و40.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

39.

  مجلد  39 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

----------
 =بني إسرائيل حديث ابن عمر في قصة اليهوديين اللذين زنيا وسيأتي شرحه بعد هذا، وفي التفسير حديث ابن عباس في أخذ الدية من الشريف إذا قتل عمدا والقصاص من الضعيف وغير ذلك. قوله: "إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه" في رواية قتيبة " إذا سرق فيهم الشريف " وفي رواية سفيان عند النسائي: "حين كانوا إذا أصاب فيهم الشريف الحد تركوه ولم يقيموه عليه " وفي رواية إسماعيل بن أمية " وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه". قوله: "وايم الله" تقدم ضبطها في كتاب الأيمان والنذور، ووقع مثله في رواية إسحاق بن راشد، ووقع في رواية أبي الوليد " والذي نفسي بيده " وفي رواية يونس " والذي نفس محمد بيده". قوله: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت" هذا من الأمثلة التي صح فيها أن لو حرف امتناع لامتناع، وقد أتقن القول في ذلك صاحب المغني وسيأتي بسط ذلك في كتاب التمني إن شاء الله تعالى. وقد ذكر ابن ماجد عن محمد بن رمح شيخه في هذا الحديث: "سمعت الليث يقول عقب هذا الحديث: قد أعاذها الله من أن تسرق " وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا، ووقع للشافعي أنه لما ذكر هذا الحديث قال: فذكر عضوا شريفا من امرأة شريفة واستحسنوا ذلك منه لما فيه من الأدب البالغ، وإنما خص صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته بالذكر لأنها أعز أهله عنده، ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلف وترك المحاباة في ذلك، ولأن اسم السارقة وافق اسمها عليها السلام فناسب أن يضرب المثل بها. قوله: "لقطع محمد يدها" في رواية أبي الوليد والأكثر " لقطعت يدها " وفي الأول تجريد، زاد يونس في روايته من رواية ابن المبارك عنه كما مضى في غزوة الفتح " ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها " ووقع في حديث ابن عمر في رواية للنسائي: "قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها " وفي أخرى له " فأمر بها فقطعت " وفي حديث جابر عند الحاكم "فقطعها". وذكر أبو داود تعليقا عن محمد بن عبد الرحمن بن غنج عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد نحو حديث المخزومية وزاد فيه: "قال فشهد عليها " وزاد يونس أيضا في روايته: "قالت عائشة فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرجه الإسماعيلي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك وفيه: "قال عروة قالت عائشة " ووقع في رواية شعيب عند الإسماعيلي في الشهادات وفي رواية ابن أخي الزهري عند أبي عوانة كلاهما عن الزهري " قال وأخبرني القاسم بن محمد أن عائشة قالت: فنكحت تلك المرأة رجلا من بني سليم وتابت وكانت حسنة التلبس وكانت تأتيني فأرفع حاجتها " الحديث وكأن هذه الزيادة كانت عند الزهري عن عروة وعن القاسم جميعا عن عائشة وعندهما زيادة على الآخر، وفي آخر حديث مسعود بن الحكم عند الحاكم " قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يرحمها ويصلها " وفي حديث عبد الله ابن عمرو عند أحمد أنها قالت: "هل لي من توبة يا رسول الله؟ فقال : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " وفي هذا الحديث من الفوائد منع الشفاعة في الحدود، وقد تقدمت في الترجمة الدلالة على تقييد المنع بما إذا انتهى ذلك إلى أولي الأمر، واختلف العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته. وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف، فقال: لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام. وتمسك بحديث الباب من أوجب إقامة الحد على القاذف إذا بلغ الإمام ولو عفا المقذوف، وهو قول الحنفية والثوري والأوزاعي، وقال مالك والشافعي وأبو يوسف: يجوز العفو مطلقا ويدرأ بذلك الحد لأن الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف

(12/95)


لجاز أن يقيم البينة بصدق القاذف فكانت تلك شبهة قوية. وفيه دخول النساء مع الرجال في حد السرقة. وفيه قبول توبة السارق، ومنقبة لأسامة. وفيه ما يدل على أن فاطمة عليها السلام عند أبيها صلى الله عليه وسلم في أعظم المنازل فإن في القصة إشارة إلى أنها الغاية في ذلك عنده ذكره ابن هبيرة، وقد تقدمت مناسبة اختصاصها بالذكر دون غيرها من رجال أهله، ولا يؤخذ منه أنها أفضل من عائشة لأن من جملة ما تقدم من المناسبة كون اسم صاحبة القصة وافق اسمها ولا تنتفي المساواة. وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه. وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر للمبالغة في الزجر عن الفعل ومراتب ذلك مختلفة، ولا يحق ندب الاحتراز من ذلك حيث لا يترجح التصريح بحسب المقام كما تقدم نقله عن الليث والشافعي. ويؤخذ منه جواز الإخبار عن أمر مقدر يفيد القطع بأمر محقق. وفيه أن من حلف على أمر لا يتحقق أنه يفعله أو لا يفعله لا يحنث كمن قال لمن خاصم أخاه: والله لو كنت حاضرا لهشمت أنفك، خلافا لمن قال يحنث مطلقا وفيه جواز التوجع لمن أقيم عليه الحد بعد إقامته عليه وقد حكى ابن الكلبي في قصة أم عمرو بنت سفيان أن امرأة أسيد بن حضير أوتها بعد أن قطعت وصنعت لها طعاما وأن أسيدا ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كالمنكر على امرأته فقال: رحمتها رحمها الله. وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم ولا سيما من خالف أمر الشرع، وتمسك به بعض من قال إن شرع من قبلنا شرع لنا لأن فيه إشارة إلى تحذير من فعل الشيء الذي جر الهلاك إلى الذين من قبلنا لئلا نهلك كما هلكوا وفيه نظر، وإنما يتم أن لو لم يرد قطع السارق في شرعنا، وأما اللفظ العام فلا دلالة فيه على المدعي أصلا.

(12/96)


باب قول الله تعالى { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و في كم يقطع؟
...
13- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَفِي كَمْ يُقْطَعُ؟ وَقَطَعَ عَلِيٌّ مِنْ الْكَفِّ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا: لَيْسَ إِلاَّ ذَلِكَ
6789- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ "عَنْ عَائِشَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
[الحديث6789- طرفاه في:6790 ، 6791]
6790- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَمْرَةَ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ"
6791- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَتْهُ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ"
6792- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ يَدَ السَّارِقِ

(12/96)


لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ فِي ثَمَنِ مِجَنٍّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ"
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: مِثْلَهُ
[الحديث6792- طرفاه في: 6793 ، 6794]
6793- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي أَدْنَى مِنْ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُو ثَمَنٍ". رَوَاهُ وَكِيعٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا
6794- حدثني يوسف بن موسى حدثنا أبو أسامة قال هشام بن عروة أخبرنا عن أبيه "عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدني من ثمن المجن: ترس أو حجفة، وكان كل واحد منهما ذا ثمن"
6795- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ" تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي "نَافِعٌ قِيمَتُهُ"
[الحديث 6795 أطرافه في: 6796 ، 6797 ، 6798]
6796- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ"
6797- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ"
6798- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ". تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ "قِيمَتُهُ"
6799- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} كذا أطلق في الآية اليد وأجمعوا على أن المراد اليمنى إن كانت موجودة، واختلفوا فيما لو قطعت الشمال عمدا أو خطأ هل يجزئ؟ وقدم السارق على السارقة، وقدمت الزانية على الزاني لوجود السرقة غالبا في الذكورية ولأن داعية الزنا في الإناث أكثر، ولأن الأنثى سبب

(12/97)


في وقوع الزنا إذ لا يتأتى غالبا إلا بطواعيتها. وقوله: بصيغة الجمع ثم التثنية، إشارة إلى أن المراد جنس السارق فلوحظ فيه المعنى فجمع، والتثنية بالنظر إلى الجنسين المتلفظ بهما. والسرقة بفتح السين وكسر الراء ويجوز إسكانها ويجوز كسر أوله وسكون ثانيه: الأخذ خفية، وعرفت في الشرع بأخذ شيء خفية ليس للآخذ أخذه، ومن اشترط الحرز وهم الجمهور زاد فيه من حرز مثله، قال ابن بطال: الحرز مستفاد من معنى السرقة يعني في اللغة، ويقال لسارق الإبل الخارب بخاء معجمة، وللسارق في المكيال مطفف وللسارق في الميزان مخسر، في أشياء أخرى ذكرها ابن خالويه في "كتاب ليس" قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد، ثم لما خانت هانت، وفي ذلك إشارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار؟
فأجابه القاسم عبد الوهاب المالكي بقوله:
صيانة العضو أغلاها وأرخصها ... صيانة المال فافهم حكمة الباري
وشرح ذلك أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين، وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس فقال: القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي، وجوابه أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "وقطع علي من الكف" أشار بهذا الأثر إلى الاختلاف في محل القطع، وقد اختلف في حقيقة اليد فقيل: أولها من المنكب؛ وقيل من المرفق، وقيل من الكوع، وقيل من أصول الأصابع. فحجة الأول أن العرب تطلق الأيدي على ذلك، ومن الثاني آية الوضوء ففيها {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ومن الثالث آية التيمم، ففي القرآن {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وبينت السنة كما تقدم في بابه أنه عليه الصلاة والسلام مسح على كفيه فقط، وأخذ بظاهر الأول بعض الخوارج ونقل عن سعيد بن المسيب واستنكره جماعة، والثاني لا نعلم من قال به في السرقة، والثالث قول الجمهور ونقل بعضهم فيه الإجماع، والرابع نقل عن علي واستحسنه أبو ثور، ورد بأنه لا يسمى مقطوع اليد لغة ولا عرفا بل مقطوع الأصابع وبحسب هذا الاختلاف وقع الخلف في محل القطع فقال بالأول الخوارج وهم محجوجون بإجماع السلف على خلاف قولهم، وألزم ابن حزم الحنفية بأن يقولوا بالقطع من المرفق قياسا على الوضوء وكذا التيمم عندهم، قال: وهو أولى من قياسهم قدر المهر على نصاب السرقة، ونقله عياض قولا شاذا وحجة الجمهور الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الاسم لأن اليد قبل السرقة كانت محترمة فلما جاء النص بقطع اليد وكانت تطلق على هذه المعاني وجب أن لا يترك المتيقن وهو تحريمها إلا بمتيقن وهو القطع من الكف، وأما الأثر عن

(12/98)


علي فوصله الدار قطني من طريق حجبة بن عدي أن عليا قطع من المفصل، وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل رجاء بن حيوة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع من المفصل " وأورده أبو الشيخ في كتاب حد السرقة من وجه آخر عن رجاء عن عدي رفعه مثله، ومن طريق وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر رفعه مثله. وأخرج سعيد بن منصور عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال: كان عمر يقطع من المفصل وعلي يقطع من مشط القدم، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي حيوة أن عليا قطعه من المفصل، وجاء عن علي أنه قطع اليد من الأصابع والرجل من مشط القدم أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه وهو منقطع وإن كان رجال السند من رجال الصحيح، وقد أخرج عبد الرزاق من وجه آخر أن عليا كان يقطع الرجل من الكعب، وذكر الشافعي في "كتاب اختلاف علي وابن مسعود" أن عليا كان يقطع من يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى خاصة ويقول: أستحيي من الله أن أتركه بلا عمل، وهذا يحتمل أن يكون بقي الإبهام والسبابة وقطع الكف والأصابع الثلاثة ويحتمل أن يكون بقي الكف أيضا والأول أليق لأنه موافق لما نقل البخاري أنه قطع من الكف، وقد وقع في بعض النسخ بحذف "من" بلفظ: "وقطع على الكف". قوله: "وقال قتادة في امرأة سرقت فقطعت شمالها: ليس إلا ذلك" وصله أحمد في تاريخه عن محمد بن الحسين الواسطي عن عوف الأعرابي عنه هكذا قرأت بخط مغلطاي في شرحه ولم يسق لفظه، وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فذكر مثل قول الشعبي: لا يزاد على ذلك قد أقيم عليه الحد. وكان ساق بسنده عن الشعبي أنه سئل عن سارق قدم ليقطع فقدم شماله فقطعت فقال: لا يزاد على ذلك، وأشار المصنف بذكره إلى أن الأصل أن أول شيء يقطع من السارق اليد اليمنى وهو قول الجمهور، وقد قرأ ابن مسعود {فاقطعوا أيمانهما} وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم قال: هي قراءتنا يعني أصحاب ابن مسعود. ونقل فيه عياض الإجماع وتعقب، نعم قد شذ من قال إذا قطع الشمال أجزأت مطلقا كما هو ظاهر النقل عن قتادة، وقال مالك: إن كان عمدا وجب القصاص على القاطع ووجب قطع اليمين، وإن كان خطأ وجبت الدية ويجزئ عن السارق، وكذا قال أبو حنيفة، وعن الشافعي وأحمد قولان في السارق، واختلف السلف فيمن سرق فقطع ثم سرق ثانيا فقال الجمهور تقطع رجله اليسرى، ثم إن سرق فاليد اليسرى، ثم إن سرق فالرجل اليمنى، واحتج لهم بآية المحاربة وبفعل الصحابة وبأنهم فهموا من الآية أنها في المرة الواحدة فإذا عاد السارق وجب عليه القطع ثانيا إلى أن لا يبقى له ما يقطع، ثم إن سرق عزر وسجن، وقيل يقتل في الخامسة قاله أبو مصعب الزهري المدني صاحب مالك، وحجته ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث جابر قال: "جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقتلوه، فقالوا يا رسول الله إنما سرق، قال: اقطعوه، ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه - فذكر مثله إلى أن قال - فأتى به الخامسة فقال: اقتلوه. قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه ورميناه في بئر، قال النسائي هذا حديث منكر ومصعب بن ثابت راويه ليس بالقوي، وقد قال بعض أهل العلم كابن المنكدر والشافعي: إن هذا منسوخ، وقال بعضهم هو خاص بالرجل المذكور فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه واجب القتل ولذلك أمر بقتله من أول مرة، ويحتمل أنه كان من المفسدين في الأرض. قلت: وللحديث شاهد من حديث الحارث في حاطب أخرجه النسائي ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص فقال: اقتلوه، فقالوا إنما سرق" فذكر نحو حديث جابر في قطع أطرافه الأربع إلا أنه قال في آخره: "ثم سرق الخامسة في عهد أبي بكر فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثم دفعه إلى فتية من قريش فقتلوه" قال

(12/99)


النسائي: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، قلت: نقل المنذري تبعا لغيره فيه الإجماع، ولعلهم أرادوا أنه استقر على ذلك، وإلا فقد جزم الباجي في "اختلاف العلماء" أنه قول مالك ثم قال: وله قول آخر لا يقتل، وقال عياض: لا أعلم أحدا من أهل العلم قال به إلا ما ذكره أبو مصعب صاحب مالك في مختصره عن مالك وغيره من أهل المدينة فقال: ومن سرق ممن بلغ الحلم قطع يمينه ثم إن عاد فرجله اليسرى ثم إن عاد فيده اليسرى ثم إن عاد فرجله اليمنى فإن سرق في الخامسة قتل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعمر بن عبد العزيز انتهى، وفيه قول ثالث بقطع اليد بعد اليد ثم الرجل بعد الرجل نقل عن أبي بكر وعمر ولا يصح. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن القاسم بن محمد أن أبا بكر قطع يد سارق في الثالثة، ومن طريق سالم بن عبد الله أن أبا بكر إنما قطع رجله وكان مقطوع اليد ورجال السندين ثقات مع انقطاعهما، وفيه قول رابع تقطع الرجل اليسرى بعد اليمنى ثم لا قطع أخرجه عبد الرزاق من طريق الشعبي عن علي وسنده ضعيف، ومن طريق أبي الضحى أن عليا نحوه ورجاله ثقات مع انقطاعه، وبسند صحيح عن إبراهيم النخعي: كانوا يقولون لا يترك ابن آدم مثل البهيمة ليس له يد يأكل بها ويستنجى بها، وبسند حسن عن عبد الرحمن بن عائذ أن عمر أراد أن يقطع في الثالثة فقال له على: اضربه واحبسه ففعل، وهذا قول النخعي والشعبي والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وفيه قول خامس قاله عطاء لا يقطع شيء من الرجلين أصلا على ظاهر الآية وهو قول الظاهرية. قال ابن عبد البر: حديث القتل في الخامسة منكر وقد ثبت "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وثبت "السرقة فاحشة وفيها عقوبة" وثبت عن الصحابة قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} كما اتفقوا على الجزاء في الصيد وإن قتل خطأ وهم يقرءون {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ويمسحون على الخفين وهم يقرءون غسل الرجلين، وإنما قالوا جميع ذلك بالسنة. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. أحدها حديث عائشة من طريقين الأولى: قوله: "عن عمرة" قال الدار قطني في "العلل" اقتصر إبراهيم بن سعد وسائر من رواه عن ابن شهاب على عمرة، ورواه يونس عنه فزاد مع عمرة عروة. قلت: وحكى ابن عبد البر أن بعض الضعفاء وهو إسحاق الحنيني بمهملة ونونين مصغر رواه عن مالك عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة، وكذا روى عن الأوزاعي عن الزهري قال ابن عبد البر: وهذان الإسنادان ليسا صحيحين وقول إبراهيم ومن تابعه هو المعتمد، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زكريا بن يحيى وحمويه عن إبراهيم بن سعد ورواية يونس بجمعهما صحيحة. قلت: وقد صرح ابن أخي ابن شهاب عن عمه بسماعه له من عمرة وبسماع عمرة له من عائشة أخرجه أبو عوانة، وكذا عند مسلم من وجه آخر عن عمرة أنها سمعت عائشة. قوله: "تقطع اليد في ربع دينار" في رواية يونس "تقطع يد السارق" وفي رواية حرملة عن ابن وهب عند مسلم: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار" وكذا عنده من طريق سليمان بن يسار عن عمرة. قوله: "فصاعدا" قال صاحب المحكم: يختص هذا بالفاء ويجوز ثم بدلها ولا تجوز الواو، وقال ابن جني: هو منصوب على الحال المؤكدة أي ولو زاد ومن المعلوم أنه إذا زاد لم يكن إلا صاعدا. قلت: ووقع في رواية سليمان بن يسار عن عمرة عند مسلم: "فما فوقه" بدل "فصاعدا" وهو بمعناه. قوله: "وتابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر عن الزهري" أي في الاقتصار على عمرة " ثم ساق رواية يونس وليس في آخره: "فصاعدا" وقد أخرجه مسلم عن حرملة والإسماعيلي من طريق همام كلاهما عن ابن وهب بإثباتها، وأما

(12/100)


متابعة عبد الرحمن بن خالد وهو ابن مسافر فوصلها الذهلي في "الزهريات" عن عبد الله بن صالح عن الليث عنه نحو رواية إبراهيم بن سعد، وقرأت بخط مغلطاي وقلده شيخنا ابن الملقن أن الذهلي أخرجه في "علل حديث الزهري" عن محمد بن بكر وروح بن عبادة جميعا عن عبد الرحمن، وهذا الذي قاله لا وجود له بل ليس لروح ولا لمحمد بن بكر عن عبد الرحمن هذا رواية أصلا، وأما متابعة ابن أخي الزهري وهو محمد بن عبد الله بن مسلم فوصلها أبو عوانة في صحيحه من طريق يعقوب ابن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه، وقرأت بخط مغلطاي وقلده شيخنا أيضا أن الذهلي أخرجه عن روح بن عبادة عنه. قلت: ولا وجود له أيضا، وإنما أخرجه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد. وأما متابعة معمر فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه، وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائي ولفظه: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا" ووصلها أيضا هو وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر. وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد نبلنا معمرا رويناه عنه وهو شاب، وهو بنون وموحدة ثقيلة أي صيرناه نبيلا. قلت: وسعيد أكبر من معمر وقد شاركه في كثير من شيوخه، ورواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه أخرجه النسائي، وقد رواه عن الزهري أيضا سليمان ابن كثير أخرجه مسلم من رواية يزيد بن هارون عنه مقرونا برواية إبراهيم بن سعد. قوله: "عن يونس" في رواية مسلم عن حرملة وأبي داود عن أحمد بن صالح كلاهما عن ابن وهب. قوله: "حدثنا الحسين" هو ابن ذكوان المعلم وهو بصري ثقة وفي طبقة حسين بن واقد قاضي مرو وهو دونه في الإتقان. قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري" في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث سمعت أبي يقول حدثنا الحسين المعلم عن يحيى حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال الإسماعيلي رواه حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير كذلك، وقال همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة، قلت: نسب عبد الرحمن إلى جده وهو عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال الإسماعيلي: ورواه إبراهيم القناد عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان كذا حدثناه ابن صاعد عن لوين عن القناد، والذي قبله أصح وبه جزم البيهقي وأن من قال فيه ابن ثوبان فقد غلط، قلت: وأخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعا ولفظه: "تقطع يد السارق في ثمن المجن وثمن المجن ربع دينار"، وأخرجه من طريق سليمان بن يسار عن عمرة بلفظ: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن، قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت ربع دينار " وقد توبع حسين المعلم عن يحيى أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق هقل بن زياد عنه بلفظه. قوله: "عن عمرة بنت عبد الرحمن حدثته" أي أنها حدثته، وكذا في قوله عن عائشة حدثتهم، وقد جرت عادتهم بحذفها في مثل هذا كما أكثروا من حذف قال في مثل حدثنا عثمان حدثنا عبدة وفي مثل سمعت أبي حدثنا فلان، وذكر ابن الصلاح أنه لا بد من النطق بقال وفيه بحث، ولم ينبه على حذف أن التي أشرت إليها. وفي رواية عبد الصمد المذكورة أن عمرة حدثته أن عائشة أم المؤمنين حدثتها. قوله: "تقطع اليد في ربع دينار" هكذا في هذه الرواية مختصرا وكذا في رواية مسلم وأخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح عن ابن وهب بلفظ: "القطع في ربع دينار فصاعدا" وعن وهب بن بيان عن ابن وهب بلفظ: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا" وأخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك

(12/101)


عن يونس بلفظ: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا" ورواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة " ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار فصاعدا " وهو إن لم يكن رفعه صريحا لكنه في معنى المرفوع، وأخرجه الطحاوي من رواية ابن عيينة عن يحيى كذلك، ومن رواية جماعة عن عمرة موقوفا على عائشة، قال ابن عيينة: ورواية يحيى مشعرة بالرفع ورواية الزهري صريحة فيه وهو أحفظهم. وقد أخرجه مسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة مثل رواية سليمان بن يسار عنها التي أشرت إليها آنفا. وكذا أخرجه النسائي من طريق ابن الهاد بلفظ: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" وأخرجه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة موقوفا، وحاول الطحاوي تعليل رواية أبي بكر المرفوعة برواية ولده الموقوفة وأبو بكر أتقن وأعلم من ولده، على أن الموقوف في مثل هذا لا يخالف المرفوع لأن الموقوف محمول على طريق الفتوى، والعجب أن الطحاوي ضعف عبد الله بن أبي بكر في موضع آخر ورام هنا تضعيف الطريق القويمة بروايته، وكأن البخاري أراد الاستظهار لرواية الزهري عن عمرة بموافقة محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عنها لما وقع في رواية ابن عيينة عن الزهري من الاختلاف في لفظ المتن هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من فعله، وكذا رواه ابن عيينة عن غير الزهري فيما أخرجه النسائي عن قتيبة عنه عن يحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد وزريق صاحب أيلة أنهم سمعوا عمرة عن عائشة قالت: "القطع في ربع دينار فصاعدا، ثم أخرجه النسائي من طريق عن يحيى ابن سعيد به مرفوعا وموقوفا وقال: الصواب ما وقع في رواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة ما طال علي العهد ولا نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا وفي هذا إشارة إلى الرفع والله أعلم. وقد تعلق بذلك بعض من لم يأخذ بهذا الحديث فذكره يحيى بن يحيى وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا " أورده الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد " الحديث، وعلى هذا التعليل عول الطحاوي فأخرج الحديث عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة بلفظ: "كان يقطع " وقال: هذا الحديث لا حجة فيه لأن عائشة إنما أخبرت عما قطع فيه فيحتمل أن يكون ذلك لكونها قومت ما وقع القطع فيه إذ ذاك فكان عندها ربع دينار فقالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار " مع احتمال أن تكون القيمة يومئذ أكثر. وتعقب باستبعاد أن تجزم عائشة بذلك مستندة إلى ظنها المجرد، وأيضا فاختلاف التقويم وإن كان ممكنا لكن محال في العادة أن يتفاوت هذا التفاوت الفاحش بحيث يكون عند قوم أربعة أضعاف قيمته عند آخرين، وإنما يتفاوت بزيادة قليلة أو نقص قليل ولا يبلغ المثل غالبا، وادعى الطحاوي اضطراب الزهري في هذا الحديث لاختلاف الرواة عنه في لفظه، ورد بأن من شرط الاضطراب أن تتساوى وجوهه فأما إذا رجح بعضها فلا، ويتعين الأخذ بالراجح، وهو هنا كذلك لأن جل الرواة عن الزهري ذكروه عن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم على تقرير قاعدة شرعية في النصاب وخالفهم ابن عيينة تارة ووافقهم تارة فالأخذ بروايته الموافقة للجماعة أولى، وعلى تقدير أن يكون ابن عيينة اضطرب فيه فلا يقدح ذلك في رواية من ضبطه، وأما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يقدمون ابن عيينة في الزهري على يونس فليس متفقا عليه عندهم بل أكثرهم على العكس، وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة وكان يزامله في السفر وينزل عليه الزهري إذا قدم أيلة وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من

(12/102)


الزهري مرارا، وأما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاث وعشرين ومائة ورجع الزهري فمات في التي بعدها، ولو سلم أن ابن عيينة أرجح في الزهري من يونس فلا معارضة بين روايتيهما فتكون عائشة أخبرت بالفعل والقول معا وقد وافق الزهري في الرواية عن عمرة جماعة كما سبق، وقد وقع الطحاوي فيما عابه على من احتج بحديث الزهري مع اضطرابه على رأيه فاحتج بحديث محمد بن إسحاق عن أيوب ابن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم " أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد والنسائي والحاكم، ولفظ الطحاوي " كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " وهو أشد في الاضطراب من حديث الزهري فقيل عنه هكذا وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن عطاء عن ابن عباس وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه: "كانت قيمة المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " وقيل عنه عن عمرو عن عطاء مرسلا وقيل عن عطاء عن أيمن " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته دينار " كذا قال منصور والحكم بن عتيبة عن عطاء وقيل عن منصور عن مجاهد وعطاء جميعا عن أيمن وقيل عن مجاهد عن أيمن بن أم أيمن عن أم أيمن قالت: "لم يقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار " أخرجه النسائي، ولفظ الطحاوي " لا تقطع يد السارق إلا في حجفة وقومت يومئذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا أو عشرة دراهم " وفي لفظ له " أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن، وكان يقوم يومئذ بدينار " واختلف في لفظه أيضا على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقال حجاج ابن أرطاة عنه بلفظ: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم " وهذه الرواية لو ثبتت لكانت نصا في تحديد النصاب إلا أن حجاج بن أرطاة ضعيف ومدلس حتى ولو ثبتت روايته لم تكن مخالفة لرواية الزهري بل يجمع بينهما بأنه كان أولا لا قطع فيما دون العشرة ثم شرع القطع في الثلاثة فما فوقها فزيد في تغليظ الحد كما زيد في تغليظ حد الخمر كما تقدم، وأما سائر الروايات فليس فيها إلا إخبار عن فعل وقع في عهده صلى الله عليه وسلم وليس فيه تحديد النصاب فلا ينافي رواية ابن عمر الآتية أنه " قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم " وهو مع كونه حكاية فعل فلا يخالف حديث عائشة من رواية الزهري فإن ربع دينار صرفه ثلاثة دراهم، وقد أخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن يسار عن عمرة قالت: "قيل لعائشة ما ثمن المجن؟ قالت ربع دينار " وأخرج أيضا من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: "أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلى عمرة فقالت: أي بني إن لم يكن بلغ ما سرق ربع دينار فلا تقطعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثتني عائشة أنه قال: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا" فهذا يعارض حديث ابن إسحاق الذي اعتمده الطحاوي وهو من رواية ابن إسحاق أيضا، وجمع البيهقي بين ما اختلف في ذلك عن عائشة بأنها كانت تحدث به تارة وتارة تستفتي فتفتى، واستند إلى ما أخرجه من طريق عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة " أن جارية سرقت، فسئلت عائشة فقالت: القطع في ربع دينار فصاعدا". الطريق الثاني لحديث عائشة قوله: "حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة" هو ابن سليمان ثم قال: "حدثنا عثمان حدثنا حميد بن عبد الرحمن" وقد أخرجه مسلم عن عثمان هذا قال: "حدثنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن " جمعهما وضمهما إلا غيرهما فقال: "كلهم عن هشام " وحميد بن عبد الرحمن هذا هو الرؤاسي بضم الراء ثم همزة خفيفة ثم سين مهملة، وقد أخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عنه ونسبه كذلك. قوله: "عن أبيه أخبرتني عائشة أن يد السارق لم تقطع إلخ" وقع عند الإسماعيلي من طريق هارون ابن إسحاق عن عبدة

(12/103)


ابن سليمان فيه زيادة قصة في السند ولفظه عن هشام بن عروة "أن رجلا سرق قدحا فأتى به عمر بن عبد العزيز فقال هشام بن عروة قال أبي إن اليد لا تقطع في الشيء التافه" ثم قال: "حدثتني عائشة" وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبدة بن سليمان، وهكذا رواه وكيع وغيره عن هشام لكن أرسله كله. قوله: "لم يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن مجن حجفة أو ترس" المجن بكسر الميم وفتح الجيم مفعل من الاجتنان وهو الاستتار مما يحاذره المستتر وكسرت ميمه لأنه آلة في ذلك، والحجفة بفتح المهملة والجيم ثم فاء هي الدرقة وقد تكون من خشب أو عظم وتغلف بالجلد أو غيره، والترس مثله لكن يطارق فيه بين جلدين وقيل هما بمعنى واحد، وعلى الأول " أو " في الخبر للشك وهو المعتمد ويؤيده رواية عبد الله بن المبارك عن هشام التي تلي رواية حميد بن عبد الرحمن بلفظ: "في أدنى ثمن حجفة أو ترس كل واحد منهما ذو ثمن " والتنوين في قوله: "ثمن " للتكثير والمراد أنه ثمن يرغب فيه، فأخرج الشيء التافه كما فهمه عروة راوي الخبر وليس المراد ترسا بعينه ولا حجفة بعينها وإنما المراد الجنس وأن القطع كان يقع في كل شيء يبلغ قدر ثمن المجن سواء كان ثمن المجن كثيرا أو قليلا، والاعتماد إنما هو على الأقل فيكون نصابا ولا يقطع فيما دونه، ورواية أبي أسامة عن هشام جامعة بين الروايتين المذكورتين أولا، وقوله فيها "كان كل واحد منهما ذا ثمن" كذا ثبت في الأصول، وأفاد الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "وكان كل واحد منهما ذو ثمن" بالرفع وخرجه على تقدير ضمير الشأن في كان. قوله: "رواه وكيع وابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا" أما رواية وكيع فأخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه عنه ولفظه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان السارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم يكن يقطع في الشيء التافه " وأما رواية ابن إدريس وهو عبد الله الأودي الكوفي فأخرجها الدار قطني في " العلل " والبيهقي من طريق يوسف بن موسى عن جرير وعبد الله بن إدريس ووكيع ثلاثتهم عن هشام عن أبيه " أن يد السارق لم تقطع " فذكر مثل سياق أبي أسامة سواء وزاد: "ولم يكن يقطع في الشيء التافه " وقرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن رواية ابن إدريس عند عبد الرزاق عنه فيما ذكره الطبراني في " الأوسط " كذا قال الإسماعيلي، ووصله أيضا عن هشام عمر بن علي المقدمي وعثمان الغطفاني وعبد الله بن قبيصة الفزاري، وأرسله أيضا عبد الرحيم بن سليمان وحاتم بن إسماعيل وجرير. قلت: وقد ذكرت رواية جرير، وأما عبد الرحيم فاختلف عليه فقيل عنه مرسلا ووصله عنه أبو بكر بن أبي شيبة أخرجه مسلم. "تنبيه": لم تختلف الرواة عن هشام بن عروة عن أبيه في هذا المتن، وأما الزهري فاختلف عليه في سنده ولم يختلف عليه في المتن أيضا كما تقدم وهو حافظ فيحتمل أن يكون عروة حدثه به على الوجهين كما تقدم، ويحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه، وحمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة وهذا يقع لهم كثيرا، ويشهد للأول أن النسائي أخرجه من طريق حفص بن حسان عن يونس عن الزهري عن عروة وحده عن عائشة بلفظ رواية ابن عيينة، ورواه أيضا من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بهذا السند لكن لفظ المتن "أو نصف دينار فصاعدا" وهي رواية شاذة. الحديث الثاني حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم" أورده من حديث مالك، قال ابن حزم لم يروه عن ابن عمر إلا نافع، وقال ابن عبد البر هو أصح حديث روي في ذلك. قوله: "تابعه محمد بن إسحاق" يعني عن نافع أي في قوله: "ثمنه" وروايته موصولة عند الإسماعيلي من

(12/104)


طريق عبد الله بن المبارك عن مالك ومحمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر ثلاثتهم عن نافع "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وقد أخرجه المؤلف رحمه الله من رواية جويرية وهو ابن أسماء مثل هذا السياق سواء، ومن رواية عبيد الله وهو ابن عمر أي العمري مثله، ومن رواية موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: "قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق" مثله. قوله: "وقال الليث حدثني نافع قيمته" يعني أن الليث رواه عن نافع كالجماعة لكن قال: "قيمته" بدل قولهم "ثمنه" ورواية الليث وصلها مسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث عن نافع عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم " وأخرجه مسلم أيضا من رواية سفيان الثوري عن أبي أيوب السختياني وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية، ومن رواية ابن وهب عن حنظلة بن أبي سفيان ومالك وأسامة بن زيد كلهم عن نافع، قال بعضهم ثمنه وقال بعضهم قيمته، هذا لفظ مسلم ولم يميز، وقد أخرجه أبو داود من رواية ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن نافع ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترسا من صيغة النساء ثمنه ثلاثة دراهم " وأخرجه النسائي من رواية ابن وهب عن حنظلة وحده بلفظ: "ثمنه" ومن طريق مخلد بن يزيد عن حنظلة بلفظ: "قيمته" فوافق الليث في قوله: "قيمته " لكن خالف الجميع فقال: "خمسة دراهم" وقول الجماعة "ثلاثة دراهم" هو المحفوظ، وقد أخرجه الطحاوي من طريق عبيد الله بن عمر بلفظ: "قطع في مجن قيمته " ومن رواية أيوب ومن رواية مالك قال مثله، ومن رواية ابن إسحاق بلفظ: "أتى برجل سرق حجفة قيمتها ثلاثة دراهم فقطعه". "تنبيه": قوله: "قطع" معناه أمر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر القطع بنفسه " وقد تقدم في الباب قبله أن بلالا هو الذي باشر قطع يد المخزومية، فيحتمل أن يكون هو الذي كان موكلا بذلك ويحتمل غيره وقوله: "قيمته " قيمة الشيء ما تنتهي إليه الرغبة فيه، وأصله قومة فأبدلت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة، والثمن ما يقابل به المبيع عند البيع، والذي يظهر أن المراد هنا، القيمة وأن من رواه بلفظ الثمن إما تجوزا وإما أن القيمة والثمن كانا حينئذ مستويين، قال ابن دقيق العيد: القيمة والثمن قد يختلفان والمعتبر إنما هو القيمة، ولعل التعبير بالثمن لكونه صادف القيمة في ذلك الوقت في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة. وقد تمسك مالك بحديث ابن عمر في اعتبار النصاب بالفضة، وأجاب الشافعية وسائر من خالفه بأنه ليس في طرقه أنه لا يقطع في أقل من ذلك، وأورد الطحاوي حديث سعد الذي أخرجه ابن مالك أيضا وسنده ضعيف ولفظه: "لا يقطع السارق إلا في المجن" قال فعلمنا أنه لا يقطع في أقل من ثمن المجن، ولكن اختلف في ثمن المجن، ثم ساق حديث ابن عباس قال: "كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " قال فالاحتياط أن لا يقطع إلا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها لوجود الاختلاف فيه وتعقب بأنه لو سلم في الدراهم لم يسلم في النص الصريح في ربع دينار كما تقدم إيضاحه، ودفع ما أعله به. والجمع بين ما اختلفت الروايات في ثمن المجن ممكن بالحمل على اختلاف الثمن والقيمة أو على تعدد المجان التي قطع فيها وهو أولى. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله: "قطع في مجن" على اعتبار النصاب ضعيف لأنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار عدم القطع فيما دونه بخلاف قوله: "يقطع في ربع دينار فصاعدا" فإنه بمنطوقه يدل على أنه يقطع فيما إذا بلغه وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه على أنه لا قطع فيما دون ذلك، قال: واعتماد الشافعي على حديث عائشة وهو قول أقوى في الاستدلال من الفعل المجرد، وهو قوي في الدلالة على الحنفية لأنه صريح في

(12/105)


القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدل على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأما دلالته على عدم القطع في دون ربع دينار فليس هو من حيث منطوقه بل من حيث مفهومه فلا يكون حجة على من لا يقول بالمفهوم. قلت: وقرر الباجي طريق الأخذ بالمفهوم هنا فقال: دل التقويم على أن القطع يتعلق بقدر معلوم وإلا فلا يكون لذكره فائدة، وحينئذ فالمعتمد ما ورد به النص صريحا مرفوعا في اعتبار ربع دينار، وقد خالف من المالكية في ذلك من القدماء ابن عبد الحكم وممن بعدهم ابن العربي فقال: ذهب سفيان الثوري مع جلالته في الحديث إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم، وحجته أن اليد محترمة بالإجماع فلا تستباح إلا بما أجمع عليه والعشرة متفق على القطع فيها عند الجميع فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على ما دون ذلك، وتعقب بأن الآية دلت على القطع في كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات في النصاب أخذ بأصح ما ورد في الأقل، ولم يصح أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين: أحدهما أنه صريح في الحصر حيث ورد بلفظ: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا " وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم فيها، والثاني أن المعول عليه في القيمة الذهب لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير بأن الصكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والله أعلم. وحاصل المذاهب في القدر الذي يقطع السارق فيه يقرب من عشرين مذهبا: الأول يقطع في كل قليل وكثير تافها كان أو غير تافه نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري وبه قال أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي. ومقابل هذا القول في الشذوذ ما نقله عياض ومن تبعه عن إبراهيم النخعي أن القطع لا يجب إلا في أربعين درهما أو أربعة دنانير وهذا هو القول الثاني. الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئا تافها لحديث عروة الماضي " لم يكن القطع في شيء من التافه " ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع ابن الزبير في نعلين أخرجهما ابن أبي شيبة وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مد أو مدين. الرابع تقطع في درهم فصاعدا وهو قول عثمان ألبتي بفتح الموحدة وتشديد المثناة من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة ونسبه القرطبي إلى عثمان فأطلق ظنا منه أنه الخليفة وليس كذلك الخامس في درهمين وهو قول الحسن البصري جزم به ابن المنذر عنه. السادس فيما زاد على درهمين ولو لم يبلغ الثلاثة أخرجه ابن أبي شيبة بسند قوي عن أنس " أن أبا بكر قطع في شيء ما يساوي درهمين " وفي لفظ: "لا يساوي ثلاثة دراهم". السابع في ثلاثة دراهم ويقوم ما عداها بها ولو كان ذهبا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطابي عن مالك. الثامن مثله لكن إن كان المسروق ذهبا فنصابه ربع دينار وإن كان غيرهما فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به وإن لم تبلغ لم يقطع ولو كان نصف دينار، وهذا قول مالك المعروف عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد، واحتج له بما أخرجه أحمد من طريق محمد ابن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة مرفوعا: "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في أدنى من ذلك " قالت: وكان ربع الدينار قيمته يومئذ ثلاثة دراهم، والمرفوع من هذه الرواية نص في أن المعتمد والمعتبر في ذلك الذهب، والموقوف منه يقتضي أن الذهب يقوم بالفضة، وهذا يمكن تأويله فلا يرتفع به النص الصريح، التاسع مثله إلا إن كان المسروق غيرهما قطع به إذا بلغت قيمته أحدهما، وهو المشهور عن أحمد ورواية عن إسحاق. العاشر مثله

(12/106)


لكن لا يكتفى بأحدهما إلا إذا كانا غالبين فإن كان أحدهما غالبا فهو المعول عليه، وهو قول جماعة من المالكية وهو الحادي عشر. الثاني عشر ربع دينار أو ما يبلغ قيمته من فضة أو عرض، وهو مذهب الشافعي وقد تقدم تقريره، وهو قول عائشة وعمرة وأبي بكر بن حزم وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث ورواية عن إسحاق وعن داود، ونقله الخطابي وغيره عن عمر وعثمان وعلي، وقد أخرجه ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: "إذا أخذ السارق ربع دينار قطع " ومن طريق عمرة " أتى عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر فقطع " ومن طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قطع في ربع دينار كانت قيمته درهمين ونصفا. الثالث عشر أربعة دراهم نقله عياض عن بعض الصحابة ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد. الرابع عشر ثلث دينار حكاه ابن المنذر عن أبي جعفر الباقر، الخامس عشر خمسة دراهم وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى من فقهاء الكوفة ونقل عن الحسن البصري وعن سليمان بن يسار أخرجه النسائي جاء عن عمر بن الخطاب لا تقطع الخمس إلا في خمس أخرجه ابن المنذر من طريق منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب عنه وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله ونقله أبو زيد الدبوسي عن مالك وشذ بذلك. السادس عشر عشرة دراهم أو ما بلغ قيمتها من ذهب أو عرض، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأصحابهما. السابع عشر دينار أو ما بلغ قيمته من فضة أو عرض. حكاه ابن حزم عن طائفة، وجزم ابن المنذر بأنه قول النخعي. الثامن عشر دينار أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحدهما حكاه ابن حزم أيضا، وأخرجه ابن المنذر عن علي بسند ضعيف وعن ابن مسعود بسند منقطع قال وبه قال عطاء. التاسع عشر ربع دينار فصاعدا من الذهب على ما دل عليه حديث عائشة ويقطع في القليل والكثير من الفضة والعروض، وهو قول ابن حزم، ونقل ابن عبد البر نحوه عن داود واحتج بأن التحديد في الذهب ثبت صريحا في حديث عائشة ولم يثبت التحديد صريحا في غيره فبقى عموم الآية على حاله فيقطع فيما قل أو كثر إلا إذا كان الشيء تافها، وهو موافق للشافعي إلا في قياس أحد النقدين على الآخر وقد أيده الشافعي بأن الصرف يومئذ كان موافقا لذلك، واستدل بأن الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وتقدم في قصة الأترجة قريبا ما يؤيده، ويخرج من تفصيل جماعة من المالكية أن التقويم يكون بغالب نقد البلد إن ذهبا فبالذهب وإن فضة فبالفضة تمام العشرين مذهبا وقد ثبت في حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وثبت لا قطع في أقل من ثمن المجن وأقل ما ورد في ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي موافقة للنص الصريح في القطع في ربع دينار وإنما ترك القول بأن الثلاثة دراهم نصاب يقطع فيه مطلقا لأن قيمة الفضة بالذهب تختلف فبقي الاعتبار بالذهب كما تقدم والله أعلم، واستدل به على وجوب قطع السارق ولو لم يسرق من حرز، وهو قول الظاهرية أبي عبيد الله البصري من المعتزلة، وخالفهم الجمهور فقالوا: العام إذا خص منه شيء بدليل بقي ما عداه على عمومه، وحجته سواء كان لفظه ينبئ عما ثبت في ذلك الحكم بعد التخصيص أم لا لأنه آية السرقة عامة في كل من سرق فخص الجمهور منها من سرق من غير حرز فقالوا لا يقطع، وليس في الآية ما ينبئ عن اشتراط الحرز وطرد البصري أصله في الاشتراط المذكور فلم يشترط الحرز ليستمر الاحتجاج بالآية، نعم وزعم ابن بطال أن شرط الحرز مأخوذ من معنى السرقة فإن صح ما قال سقطت حجة البصري أصلا، واستدل به على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن آية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان أو سارق المجن وعمل بها الصحابة في غيرهما من السارقين، واستدل

(12/107)


بإطلاق ربع دينار على أن القطع يجب بما صدق عليه ذلك من الذهب سواء كان مضروبا أو غير مضروب جيدا كان أو رديئا، وقد اختلف فيه الترجيح عند الشافعية ونص الشافعي في الزكاة على ذلك وأطلق في السرقة فجزم الشيخ أبو حامد وأتباعه بالتعميم هنا، وقال الإصطخري لا يقع إلا في المضروب ورجحه الرافعي، وقيد الشيخ أبو حامد النقل عن الأصطخري بالقدر الذي ينقص بالطبع، واستدل بالقطع في المجن على مشروعية القطع في كل ما يتمول قياسا واستثنى الحنفية ما يسرع إليه الفساد وما أصله الإباحة كالحجارة واللبن والخشب والملح والتراب والكلأ والطير، وفيه رواية عن الحنابلة، والراجح عندهم في مثل السرجين القطع تفريعا على جواز بيعه، وفي هذا تفاريع أخرى محل بسطها كتب الفقه وبالله التوفيق. الحديث الثالث حديث أبي هريرة في لعن السارق يسرق البيضة فيقطع ختم به الباب إشارة إلى أن طريق الجمع بين الأخبار أن يجعل حديث عمرة عن عائشة أصلا فيقطع في ربع دينار فصاعدا وكذا فيما بلغت قيمته ذلك، فكأنه قال المراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فصاعدا وكذا الحبل، ففيه إيماء إلى ترجيح ما سبق من التأويل الذي نقله الأعمش، وقد تقدم البحث فيه.

(12/108)


14- باب: تَوْبَةِ السَّارِقِ
6800- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ "عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ" ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "فَتَابَتْ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا"
6801- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ فَقَالَ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: "إِذَا تَابَ السَّارِقُ بَعْدَ مَا قُطِعَ يَدُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَكُلُّ مَحْدُودٍ كَذَلِكَ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ"
قوله: "باب توبة السارق" أي هل تفيده في رفع اسم الفسق عنه حتى تقبل شهادته أو لا؟ وقد وقع في آخر هذا الباب: قال أبو عبد الله إذا تاب السارق وقطعت يده قبلت شهادته، وكذلك كل الحدود إذا تاب أصحابها قبلت شهادتهم، وهو في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، وأبو عبد الله هو البخاري المصنف، وقد تقدمت هذه المسألة في الشهادات فيما يتعلق بالقاذف والسارق في شهادتهما. ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة، قال وجزم به في كتاب الحدود، وروى الربيع عنه أن حد الزنا لا يسقط، وعن الليث والحسن لا يسقط شيء من الحدود أبدا، قال وهو قول مالك، وعن الحنفية يسقط إلا الشرب. وقال

(12/108)


الطحاوي ولا يسقط إلا قطع الطريق لورود النص فيه والله أعلم. وذكر في الباب حديث عائشة في قصة التي سرقت مختصرا، ووقع في آخره: "وتابت وحسنت توبتها" وقد تقدم شرحه مستوفى قبيل هذا، ووجه مناسبته للترجمة وصف التوبة بالحسن فإن ذلك يقتضي أن هذا الوصف يثبت للتائب المذكور فيعود لحالته التي كان عليها. وحديث عبادة بن الصامت في البيعة وفيه ذكر السرقة وفي آخره: "فمن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور" ووجه الدلالة منه أن الذي أقيم عليه الحد وصف بالتطهر فإذا انضم إلى ذلك أنه تاب فإنه يعود إلى ما كان عليه قبل ذلك فتضمن ذلك قبول شهادته أيضا. والله أعلم.

(12/109)


باب المحاربين من أهل الكفر و الردة
...
15- باب: الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}
6802- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ الْجَرْمِيُّ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا، وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ. فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا"
قوله: "كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة" كذا هذه الترجمة ثبتت للجميع هنا، وفي كونها في هذا الموضع إشكال، وأظنها مما انقلب على الذين نسخوا كتاب البخاري من المسودة، والذي يظهر لي أن محلها بين كتاب الديات وبين استتابة المرتدين، وذلك أنها تخللت بين أبواب الحدود. فإن المصنف ترجم "كتاب الحدود وصدره بحديث: "لا يزني الزاني وهو مؤمن" وفيه ذكر السرقة وشرب الخمر، ثم بدأ بما يتعلق بحد الخمر في أبواب ثم بالسرقة كذلك، فالذي يليق أن يثلث بأبواب الزنا على وفق ما جاء في الحديث الذي صدر به ثم بعد ذلك إما أن يقدم كتاب المحاربين وإما أن يؤخره، والأولى أن يؤخره ليعقبه " باب استتابة المرتدين " فإنه يليق أن يكون من جملة أبوابه، ولم أر من نبه على ذلك إلا الكرماني فإنه تعرض لشيء من ذلك في "باب إثم الزناة" ولم يستوفه كما سأنبه عليه. ووقع في رواية النسفي زيادة قد يرتفع بها الإشكال، وذلك أنه قال بعد قوله: "من أهل الكفر والردة" فزاد: "ومن يجب عليه الحد في الزنا " فإن كان محفوظا فكأنه ضم حد الزنا إلى المحاربين لإفضائه إلى القتل في بعض صوره بخلاف الشرب والسرقة، وعلى هذا فالأولى أن يبدل لفظ كتاب بباب وتكون الأبواب كلها داخلة في كتاب الحدود. قوله: وقول الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة وغيرها إلى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن بطال: ذهب البخاري إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة، وساق حديث العرنيين وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة حديث العرنيين وفي آخره قال: "بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية"، ووقع مثله في حديث أبي هريرة، وممن قال ذلك الحسن وعطاء والضحاك والزهري قال: وذهب

(12/109)


جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين، ثم قال: ليس هذا منافيا للقول الأول لأنها وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم لكن لفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد. قلت: بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة: فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر ومن حملها على المعصية عمم، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي أن ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين، وأما الكفار فقد نزل فيهم {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجا عن ذلك. وقال تعالى في آية المحاربة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خففت عنه القتل، وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتد مثلا أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل، وقد تقدم في تفسير المائدة ما نقله المصنف عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة لله الكفر به وأخرج الطبري من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصة العرنيين قال: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العباس عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال هم من عكل. قلت: قد ثبت في الصحيحين أنهم كانوا من عكل وعرينة، فقد وجد التصريح الذي نفاه ابن بطال، والمعتمد أن الآية نزلت أولا فيهم وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة: فإن كانوا كفارا يخير الإمام فيهم إذا ظفر بهم، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين: أحدهما وهو قول الشافعي والكوفيين ينظر في الجناية فمن قتل قتل ومن أخذ المال قطع ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وجعلوا "أو" للتنويع. وقال مالك: بل هي للتخيير فيتخير الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثلاثة، ورجح الطبري الأول، واختلفوا في المراد بالنفي في الآية: فقال مالك والشافعي يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، زاد مالك فيحبس فيها. وعن أبي حنيفة بل يحبس في بلده، وتعقب بأن الاستمرار في البلد ولو كان مع الحبس إقامة فهو ضد النفي فإن حقيقة النفي الإخراج من البلد، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى :{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} وحجة أبي حنيفة أنه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى، فانفصل عنه مالك بأنه يحبس بها، وقال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا. ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة العرنيين، أورده من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة مصرحا فيه بالتحديث في جميعه فأمن فيه من التدليس والتسوية، وقد تقدم شرحه في "باب أبوال الإبل" من كتاب الطهارة. ووقع في هذا الموضع "ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل".

(12/110)


باب لم يحسم النبي صلى الله عليه و سلم المحاربين من أهل الردة حتى هلكوا
...
16- باب لَمْ يَحْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا
6803- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ

(12/110)


أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا"
قوله: "باب لم يحسم النبي صلى الله عليه وسلم المحاربين إلخ" الحسم بفتح الحاء وسكون السين المهملتين الكي بالنار لقطع الدم حسمته فانحسم كقطعته فانقطع وحسمت العرق معناه حبست دم العرق فمنعته أن يسيل. وقال الداودي: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حار. قلت: وهذا من صور الحسم وليس محصورا فيه، وأورد فيه طرفا من قصة العرنيين مقتصرا على قوله: "قطع العرنيين ولم يحسمهم" قال ابن بطال: إنما ترك حسمهم لأنه أراد إهلاكهم فأما من قطع في سرقة مثلا فإنه يجب حسمه لأنه لا يؤمن معه التلف غالبا بنزف الدم.

(12/111)


17- باب: لَمْ يُسْقَ الْمُرْتَدُّونَ الْمُحَارِبُونَ حَتَّى مَاتُوا
6804- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلًا، فَقَالَ: "مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا" قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: "سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
قوله: "باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا" كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول، ولو كان بفتحه لنصب المحاربون وكان راجعا إلى فاعل يحسم في الباب الذي قبله. وأورد فيه قصة العرنيين من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس تاما. قوله: "حتى صحوا وسمنوا وقتلوا الراعي" في رواية الكشميهني: "فقتلوا الراعي " بالفاء وهي أوجه، وحكى ابن بطال عن المهلب أن الحكمة في ترك سقيهم كفرهم نعمة السقي التي أنعشتهم من المرض الذي كان بهم، قال: وفيه وجه آخر يؤخذ مما أخرجه ابن وهب من مرسل سعيد بن المسيب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما بلغه ما صنعوا: عطش الله من عطش آل محمد الليلة " قال فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا لا ينافي أنه عاقبهم بذلك كما ثبت أنه سملهم لكونهم سملوا أعين الرعاة، وإنما تركهم حتى ماتوا لأنه أراد إهلاكهم كما مضى في الحسم. وأبعد من قال إن تركهم بلا سقي لم يكن بعلم النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله في هذه الطريق "قالوا أبغنا" بهمزة قطع ثم موحدة ثم معجمة أي اطلب لنا يقال أبغاه كذا طلبه له، وقوله: "رسلا " بكسر الراء وسكون المهملة أي لبنا، وقوله: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه تجريد وسياق الكلام يقتضي أن يقول بإبلي ولكنه كقول كبير القوم يقول لكم الأمير مثلا، ومنه قول الخليفة يقول لكم أمير المؤمنين، وتقدم في غير هذه الطريق وهو في الباب الأول أيضا بلفظ: "فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة" فجمع بعضهم بين الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم كانت له إبل ترعى وإبل الصدقة في جهة واحدة فدل كل من الصنفين على الصنف الآخر، وقيل بل الكل إبل الصدقة وإضافتها إليه إضافة التبعية لكونه تحت حكمه، ويؤيد الأول ما ذكر قريبا من تعطيش آل محمد لأنهم كانوا لا يتناولون الصدقة.

(12/111)


باب سمر النبي صلى الله عليه و سلم أعين المحاربين
...
18- باب: سَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ الْمُحَارِبِينَ
6805- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ - أَوْ قَالَ عُرَيْنَةَ وَلاَ أَعْلَمُهُ، إِلاَّ قَالَ مِنْ عُكْلٍ - قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. فَشَرِبُوا، حَتَّى إِذَا بَرِئُوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُدْوَةً، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي إِثْرِهِمْ، فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، فَأُلْقُوا بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ"
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: هَؤُلاَءِ قَوْمٌ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
قوله: "باب" بالتنوين "سمر النبي صلى الله عليه وسلم" بفتح السين المهملة والميم بالفعل الماضي ويجوز مضافا بغير تنوين مع سكون الميم، وأورد فيه حديث العرنيين من وجه آخر عن أيوب، وقوله فيه: "حتى جيء بهم " في رواية الكشميهني: "أتى بهم " وقوله: "وسمر أعينهم " وقع في رواية الأوزاعي في أول المحاربين " وسمل " باللام وهما بمعنى، قال ابن التين وغيره: وفيه نظر، قال عياض سمر العين بالتخفيف كحلها بالمسمار المحمي فيطابق السمل فإنه فسر بأن يدني من العين حديدة محماة حتى يذهب نظرها فيطابق الأول بأن تكون الحديدة مسمارا، قال وضبطناه بالتشديد في بعض النسخ والأول أوجه، وفسروا السمل أيضا بأنه فقء العين بالشوك وليس هو المراد هنا. "تنبيه" أشكل قوله في آية المحاربين {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} مع حديث عبادة الدال على أن من أقيم عليه الحد في الدنيا كان له كفارة فإن ظاهر الآية أن المحارب يجمع له الأمران، والجواب أن حديث عبادة مخصوص بالمسلمين بدليل أن فيه ذكر الشرك مع ما انضم إليه من المعاصي، فلما حصل الإجماع على أن الكافر إذا قتل على شركه فمات مشركا أن ذلك القتل لا يكون كفارة له قام إجماع أهل السنة على أن من أقيم عليه الحد من أهل المعاصي كان ذلك كفارة لإثم معصيته، والذي يضبط ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والله أعلم.

(12/112)


19- باب: فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ
6809- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلاَءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ"

(12/112)


6807- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ ح وحَدَّثَنِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ"
قوله: "باب فضل من ترك الفواحش" جمع فاحشة وهي كل ما اشتد قبحه من الذنوب فعلا أو قولا، وكذا الفحشاء والفحش ومنه الكلام الفاحش، ويطلق غالبا على الزنا فاحشة ومنه قوله تعالى:{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وأطلقت على اللواط باللام العهدية في قول لوط عليه السلام لقومه {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ومن ثم كان حده حد الزاني عند الأكثر، وزعم الحليمي أن الفاحشة أشد من الكبيرة وفيه نظر. ثم ذكر فيه حديثين أحدهما حديث أبي هريرة في السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله، والمقصود منه قوله فيه: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال إني أخاف الله تعالى" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة، ويلتحق بهذه الخصلة من وقع له نحوها كالذي دعا شابا جميلا لأن يزوجه ابنة له جميلة كثيرة الجهاز جدا لينال منه الفاحشة فعفا الشاب عن ذلك وترك المال والجمال، وقد شاهدت ذلك. وقوله في أول السند "حدثنا محمد" غير منسوب فقال أبو علي الغساني وقع في رواية الأصيلي محمد بن مقاتل. وفي رواية القابسي محمد بن سلام، والأول هو الصواب لأن عبد الله هو ابن المبارك وابن مقاتل معروف بالرواية عنه. قلت: ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هذا الحديث الخاص عند ابن سلام، والذي أشار إليه الغساني قاعدة في تفسير من أبهم واستمر إبهامه فيكون كثرة أخذه وملازمته قرينة في تعيينه، أما إذا أورد التنصيص عليه فلا. وقد صرح أيضا بأنه محمد بن سلام أبو ذر في روايته عن شيوخه الثلاثة وكذا هو في بعض النسخ من رواية كريمة وأبى الوقت. الحديث الثاني قوله: "عمر بن علي" هو المقدمي نسبة إلى جده مقدم بوزن محمد وهو عم محمد بن أبي بكر الراوي عنه، وهو موصوف بالتدليس لكنه صرح بالتحديث في هذه الرواية، وقد أورده في الرقاق عن محمد بن أبي بكر وحده وقرنه هنا بخليفة وساقه على لفظ خليفة. قوله: "من توكل لي" أي تكفل، وقد ذكرت في الرقاق من رواه بلفظ تكفل وبلفظ حفظ وهو هناك بلفظ تضمن، وأصل التوكل الاعتماد على الشيء والوثوق به، وقوله: "توكلت له " من باب المقابلة، وقوله: "ما بين رجليه " أي فرجه " ولحيته " بفتح اللام وهو منبت اللحية والأسنان ويجوز كسر اللام، وثني لأن له أعلى وأسفل والمراد به اللسان وقيل النطق، وقد ترجم له في الرقاق "حفظ اللسان" وتقدم شرحه مستوفى هناك. وقوله في آخره: "له بالجنة" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي بحذف الباء، ويقرأ بالنصب على نزع الخافض، أو كأنه ضمن توكلت معنى ضمنت.

(12/113)


20- باب: إِثْمِ الزُّنَاةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَزْنُونَ - وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}
6808- حدثنا دَاوُدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "أَخْبَرَنَا أَنَسٌ قَالَ: لاَحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لاَ يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ" – "وَإِمَّا قَالَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَة"ِ - أَنْ

(12/113)


"يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ"
6809- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ يُنْزَعُ الإِيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ هَكَذَا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا - فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ"
6810- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ ذَكْوَانَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ"
6811- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ". قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِثْلَهُ. قَالَ عَمْرٌو: فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ حَدَّثَنَا عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ وَوَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: دَعْهُ دَعْهُ
قوله: "باب إثم الزناة" بضم أوله جمع زان كرماة ورام. قوله: وقول الله تعالى {وَلا يَزْنُونَ} يشير إلى الآية التي في الفرقان وأولها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} والمراد قوله في الآية التي بعدها {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه وهو في آخر طريق مسدد عن يحيى القطان فقال متصلا بقوله حليلة جارك "قال فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ - إلى قوله - وَلا يَزْنُونَ} ووقعت في الأدب من طريق جرير عن الأعمش وساق إلى قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} ولم يقع ذلك في رواية جرير عن منصور كما بينه مسلم، وأخرجه الترمذي من طريق شعبة والنسائي من طريق مالك بن مغول كلاهما عن واصل الأحدب وساقه إلى قوله تعالى :{وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} ووقع لغير أبي ذر بحذف الواو في قوله: "وقول الله".
قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} زاد في رواية النسفي "إلى آخر الآية" والمشهور في الزنا القصر وجاء المد في بعض اللغات. وذكر في الباب أربعة أحاديث: الحديث الأول قوله: "حدثنا" في رواية غير أبي ذر والنسفي "أخبرنا". قوله: "داود بن شبيب" بمعجمة وموحدة وزن عظيم هو الباهلي يكني أبا سليمان بصري صدوق قاله أبو حاتم، وقال البخاري: مات سنة اثنتين وعشرين قلت: ولم يخرج

(12/114)


عنه إلا في هذا الحديث هنا فقط، وقد تقدم في العلم من طريق شعبة عن قتادة بزيادة في أوله، وتقدم شرحه في كتاب العلم، والغرض منه قوله فيه: "ويظهر الزنا" أي يشيع ويشتهر بحيث لا يتكاتم به لكثرة من يتعاطاه، وقد تقدم سبب قول أنس "لا يحدثكموه أحد بعدي". الحديث الثاني حديث ابن عباس "لا يزني الزاني" قد تقدم شرحه مستوفى في شرح حديث أبي هريرة في أول الحدود وقول ابن جرير إن بعضهم رواه بصيغة النهي "لا يزنين مؤمن" وأن بعضهم حمله على المستحل، وساقه بسنده عن ابن عباس، وإسحاق بن يوسف المذكور في السند هو الواسطي المعروف بالأزرق، والفضيل بفاء ومعجمة مصغر وأبو غزوان بغين معجمة ثم زاي ساكنة بوزن شعبان. وقوله فيه: "قال عكرمة إلخ " هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "وشبك بين أصابعه " في رواية الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن هود الواسطي عن خالد الذي أخرجه البخاري من طريقه وقال: "هكذا فوصف صفة لا أحفظها " وقد قدمت الكلام على الصفة المذكورة هناك. قال الترمذي بعد تخريج حديث أبي هريرة: وحكاية تأويل " لا يزني الزاني وهو مؤمن " لا نعلم أحدا كفر أحدا بالزنا والسرقة والشرب يعني ممن يعتد بخلافه، قال: وقد روي عن أبي جعفر يعني الباقر أنه قال في هذا: خرج من الإيمان إلى الإسلام يعني أنه جعل الإيمان أخص من الإسلام فإذا خرج من الإيمان بقي في الإسلام وهذا يوافق قول الجمهور إن المراد بالإيمان هنا كماله لا أصله والله أعلم. الحديث الثالث حديث أبي هريرة في ذلك قد مضى الكلام عليه، وعلى قوله في آخره: "والتوبة معروضة بعد". الحديث الرابع حديث عبد الله هو ابن مسعود. قوله: "عمرو بن علي" هو الفلاس، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وسليمان هو الأعمش، وأبو وائل هو شقيق، وأبو ميسرة هو عمرو بن شرحبيل، وواصل المذكور في السند الثاني هو ابن حيان بمهملة وتحتانية ثقيلة هو المعروف بالأحدب، ورجال السند من سفيان فصاعدا كوفيون، وقوله: "قال عمرو " هو ابن علي المذكور "فذكرته لعبد الرحمن" يعني ابن مهدي "وكان حدثنا" هكذا ذكره البخاري عن عمرو بن علي قدم رواية يحيى على رواية عبد الرحمن وعقبها بالفاء وقال الهيثم ابن خلف فيما أخرجه الإسماعيلي عنه عن عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي فساق روايته وحذف ذكر واصل من السند ثم قال: "وقال عبد الرحمن مرة عن سفيان عن منصور والأعمش وواصل فقلت لعبد الرحمن حدثنا يحيى بن سعيد فذكره مفصلا فقال عبد الرحمن دعه والحاصل أن الثوري حدث بهذا الحديث عن ثلاثة أنفس حدثوه به عن أبي وائل فأما الأعمش ومنصور فأدخلا بين أبي وائل وبين ابن مسعود أبا ميسرة، وأما واصل فحذفه فضبطه يحيى القطان عن سفيان هكذا مفصلا، وأما عبد الرحمن فحدث به أولا بغير تفصيل فحمل رواية واصل على رواية منصور والأعمش فجمع الثلاثة وأدخل أبا ميسرة في السند، فلما ذكر له عمرو ابن علي أن يحيى فصله كأنه تردد فيه فاقتصر على التحديث به عن سفيان عن منصور والأعمش حسب وترك طريق واصل، وهذا معنى قوله: "فقال دعه دعه " أي اتركه والضمير للطريق التي اختلف فيها وهي رواية واصل، وقد زاد الهيثم بن خلف في روايته بعد قوله دعه " فلم يذكر فيه واصلا بعد ذلك" فعرف أن معنى قوله دعه أي اترك السند الذي ليس فيه ذكر أبي ميسرة. وقال الكرماني: حاصله أن أبا وائل وإن كان قد روى كثيرا عن عبد الله فإن هذا الحديث لم يروه عنه، قال: وليس المراد بذلك الطعن عليه لكن ظهر له ترجيح الرواية بإسقاط الواسطة لموافقة الأكثرين كذا قال، والذي يظهر

(12/115)


ما قدمته أنه تركه من أجل التردد فيه لأن ذكر أبي ميسرة إن كان في أصل رواية واصل فتحديثه به بدونه يستلزم أنه طعن فيه بالتدليس أو بقلة الضبط، وإن لم يكن في روايته في الأصل فيكون زاد في السند ما لم يسمعه فاكتفى برواية الحديث عمن لا تردد عنده فيه وسكت عن غيره، وقد كان عبد الرحمن حدث به مرة عن سفيان عن واصل وحده بزيادة أبي ميسرة، كذلك أخرجه الترمذي والنسائي لكن الترمذي بعد أن ساقه بلفظ واصل عطف عليه بالسند المذكور طريق سفيان عن الأعمش ومنصور قال بمثله وكأن ذلك كان في أول الأمر، وذكر الخطيب هذا السند مثالا لنوع من أنواع مدرج الإسناد وذكر فيه أن محمد بن كثير وافق عبد الرحمن على روايته الأولى عن سفيان فيصير الحديث عن الثلاثة بغير تفصيل. قلت: وقد أخرجه البخاري في الأدب عن محمد بن كثير لكن اقتصر في السند على منصور، وأخرجه أبو داود عن محمد بن كثير فضم الأعمش إلى منصور، وأخرجه الخطيب من طريق الطبراني عن أبي مسلم الليثي عن معاذ بن المثنى ويوسف القاضي ومن طريق أبي العباس البرقي ثلاثتهم عن محمد بن كثير عن سفيان عن الثلاثة، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني وفيه ما تقدم، وذكر الخطيب الاختلاف فيه على منصور وعلى الأعمش في ذكر أبي ميسرة وحذفه ولم يختلف فيه على واصل في إسقاطه في غير رواية سفيان. قلت: وقد أخرجه الترمذي والنسائي من رواية شعبة عن واصل بحذف أبي ميسرة لكن قال الترمذي رواية منصور أصح يعني بإثبات أبي ميسرة، وذكر الدار قطني الاختلاف فيه وقال: رواه الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل عن عبد الله كقول واصل، ونقل عن الحافظ أبي بكر النيسابوري أنه قال: يشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة لما حدث به ابن مهدي ومحمد بن كثير وفصله لما حدث به غيرهما يعني فيكون الإدارج من سفيان لا من عبد الرحمن والعلم عند الله تعالى. وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في تفسير سورة الفرقان. قوله: "أي الذنب أعظم" ؟ هذه رواية الأكثر، ووقع في رواية عاصم عن أبي وائل عن عبد الله "أعظم الذنوب عند الله" أخرجها الحارث، وفي رواية مسدد الماضية في كتاب الأدب، أي الذنب عند الله أكبر وفي رواية أبي عبيدة بن معن عن الأعمش " أي الذنوب أكبر عند الله " وفي رواية الأعمش عند أحمد وغيره: "أي الذنب أكبر "؟ وفي رواية الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل " أكبر الكبائر " قال ابن بطال عن المهلب: يجوز أن يكون بعض الذنوب أعظم من بعض من الذنبين المذكورين في هذا الحديث بعد الشرك، لأنه لا خلاف بين الأمة أن اللواط أعظم إثما من الزنا فكأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالأعظم هنا ما تكثر مواقعته ويظهر الاحتياج إلى بيانه في الوقت كما وقع في حق وفد عبد القيس حيث اقتصر في منهياتهم على ما يتعلق بالأشربة لفشوها في بلادهم. قلت: وفيما قاله نظر من أوجه: أحدها ما نقله من الإجماع، ولعله لا يقدر أن يأتي بنقل صحيح صريح بما ادعاه عن إمام واحد بل المنقول عن جماعة عكسه فإن الحد عند الجمهور، والراجح من الأقوال إنما ثبت فيه بالقياس على الزنا والمقيس عليه أعظم من المقيس أو مساويه، والخبر الوارد في قتل الفاعل والمفعول به أو رجمهما ضعيف. وأما ثانيا فما من مفسدة فيه إلا ويوجد مثلها في الزنا وأشد، ولو لم يكن إلا ما قيد به في الحديث المذكور فإن المفسدة فيه شديدة جدا، ولا يتأتى مثلها في الذنب الآخر، وعلى التنزل فلا يزيد. وأما ثالثا ففيه مصادمة للنص الصريح على الأعظمية من غير ضرورة إلى ذلك. وأما رابعا فالذي مثل به من قصة الأشربة ليس فيه إلا أنه اقتصر لهم على بعض المناهي، وليس فيه تصريح ولا إشارة بالحصر في الذي اقتصر عليه، والذي يظهر أن كلا من الثلاثة على

(12/116)


ترتيبها في العظم، ولو جاز أن يكون فيما لم يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها لما طابق الجواب السؤال، نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر فيكون التقدير في المرتبة الثانية مثلا بعد القتل الموصوف وما يكون في الفحش مثله أو نحوه، لكن يستلزم أن يكون فيما لم يذكر في المرتبة الثانية شيء هو أعظم مما ذكر في المرتبة الثالثة ولا محذور في ذلك، وأما ما مضى في كتاب الأدب من عد عقوق الوالدين في أكبر الكبائر لكنها ذكرت بالواو فيجوز أن تكون رتبة رابعة وهي أكبر مما دونها. قول "حليلة جارك" بفتح الحاء المهملة وزن عظيمة أي التي يحل له وطؤها، وقيل التي تحل معه في فراش واحد، وقوله: "أجل أن يطعم معك " بفتح اللام أي من أجل فحذف الجار فانتصب، وذكر الأكل لأنه كان الأغلب من حال العرب، وسيأتي الكلام على بقية شرح هذا الحديث في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(12/117)


21 - باب: رَجْمِ الْمُحْصَنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي
6812- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6813- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ "سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي"
[الحديث 6813- طرفه في: 6840]
6814- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ"
قوله: "باب رجم المحصن" هو بفتح الصاد المهملة من الإحصان، ويأتي بمعنى العفة والتزويج والإسلام والحرية لأن كلا منها يمنع المكلف من عمل الفاحشة، قال ابن القطاع: رجل محصن بكسر الصاد على القياس وبفتحها على غير قياس. قلت: يمكن تخريجه على القياس، وهو أن المراد هنا من له زوجة عقد عليها ودخل بها وأصابها فكأن الذي زوجها له أو حمله على التزويج بها ولو كانت نفسه أحصنه أي جعله في حصن من العفة أو منعه من عمل الفاحشة. وقال الراغب: يقال للمتزوجة محصنة أي أن زوجها أحصنها، ويقال امرأة محصن بالكسر إذا تصور حصنها من نفسها، وبالفتح إذا تصور حصنها من غيرها. ووقع هنا قبل الباب عند ابن بطال "كتاب الرجم" ولم يقع في الروايات المعتمدة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يكون الإحصان بالنكاح الفاسد ولا الشبهة، وخالفهم أبو ثور فقال: يكون محصنا، واحتج بأن النكاح الفاسد يعطي أحكام الصحيح في تقدير المهر ووجوب العدة ولحوق الولد وتحريم الربيبة، وأجيب بعموم "ادرءوا الحدود" قال: وأجمعوا على أنه لا يكون بمجرد العقد محصنا، واختلفوا إذا دخل بها وادعى أنه لم يصبها قال: حتى تقوم البينة أو يوجد منه إقرار أو يعلم له منها واحد، وعن بعض المالكية إذا زنى أحد الزوجين واختلفوا في الوطء لم يصدق الزاني ولو لم يمض لهما إلا ليلة

(12/117)


وأما قبل الزنا فلا يكون محصنا ولو أقام معها ما أقام، واختلفا إذا تزوج الحر أمة هل تحصنه؟ فقال الأكثر: نعم، وعن عطاء والحسن وقتادة والثوري والكوفيين وأحمد وإسحاق: لا. واختلفوا إذا تزوج كتابية فقال إبراهيم وطاوس والشعبي: لا تحصنه، وعن الحسن لا تحصنه حتى يطأها في الإسلام، أخرجهما ابن أبي شيبة. وعن جابر بن زيد وابن المسيب تحصنه، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير. وقال ابن بطال: أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختارا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج، واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم وكذلك الأئمة بعده، ولذلك أشار علي رضي الله عنه بقوله في أول أحاديث الباب: "ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وثبت في صحيح مسلم عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا. الثيب بالثيب الرجم" وسيأتي في "باب رجم الحبلى من الزنا" من حديث عمر أنه خطب فقال: "إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه القرآن فكان مما أنزل آية الرجم " ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال الحسن" هو البصري كذا للأكثر، وللكشميهني وحده "وقال منصور" بدل الحسن وزيفوه. قوله: "من زنى بأخته فحده حد الزاني" في رواية الكشميهني: "الزنا " وصله ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث قال سألت عمر: ما كان الحسن يقول فيمن تزوج ذات محرم وهو يعلم؟ قال: عليه الحد. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء التابعي المشهور فيمن أتى ذات محرم منه قال: تضرب عنقه. ووجه الدلالة من حديث على أنه قال: "رجمتها بسنة رسول الله" فإنه لم يفرق بين ما إذا كان الزنا بمحرم أو بغير محرم. وأشار البخاري إلى ضعف الخبر الذي ورد في قتل من زنى بذات محرم، وهو ما رواه صالح بن راشد قال: أتى الحجاج برجل قد اغتصب أخته على نفسها فقال سلوا من هنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن المطرف " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف " فكتبوا إلى ابن عباس فكتب إليهم بمثله ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" ونقل عن أبيه أنه روى عن مطرف ابن عبد الله بن الشخير من قوله، قال: ولا أدري أهو هذا أو لا يشير إلى تجويز أن يكون الراوي غلط في قوله عبد الله بن مطرف وفي قوله سمعت. وإنما هو مطرف بن عبد الله ولا صحبة له، وقال ابن عبد البر: يقولون إن الراوي غلط فيه، وأثر مطرف الذي أشار إليه أبو حاتم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق بكر بن عبد الله المزي قال: أتى الحجاج برجل قد وقع على ابنته وعنده مطرف بن عبد الله بن الشخير وأبو بردة، فقال أحدهما: اضرب عنقه، فضربت عنقه. قلت: والراوي عن صالح بن راشد ضعيف وهو رفدة بكسر الراء وسكون الفاء. ويوضح ضعفه قوله: "فكتبوا إلى ابن عباس" وابن عباس مات قبل أن يلي الحجاج الإمارة بأكثر من خمس سنين، ولكن له طريق أخرى إلى ابن عباس أخرجها الطحاوي وضعف راويها، وأشهر حديث في الباب حديث البراء " لقيت خالي ومعه الراية فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن اضرب عنقه " أخرجه أحمد وأصحاب السنن وفي سنده اختلاف كثير، وله شاهد من طريق معاوية بن مرة عن أبيه أخرجه ابن ماجه والدار قطني، وقد قال بظاهره أحمد. وحمله الجمهور على من استحل ذلك بعد العلم بتحريمه بقرينة الأمر بأخذ ماله وقسمته ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث: الحديث الأول قوله: "حدثنا سلمة بن كهيل" في رواية على بن الجعد عن شعبة: عن سلمة ومجالد أخرجه الإسماعيلي، وذكر الدار قطني

(12/118)


أن قعنب بن محرز رواه عن وهب بن جرير عن شعبة عن سلمة عن مجالد، وهو غلط والصواب سلمة ومجالد. قوله: "سمعت الشعبي عن علي" أي يحدث عن علي، قد طعن بعضهم كالحازمي في هذا الإسناد بأن الشعبي لم يسمعه من علي، قال الإسماعيلي: رواه عصام بن يوسف عن شعبة فقال: "عن سلمة عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي " وكذا ذكر الدار قطني عن حسين بن محمد عن شعبة ووقع في رواية قعنب المذكورة عن الشعبي عن أبيه عن علي وجزم الدار قطني بأن الزيادة في الإسنادين وهم وبأن الشعبي سمع هذا الحديث من على قال ولم يسمع عنه غيره. قوله: "حين رجم المرأة يوم الجمعة" في رواية علي بن الجعد " أن عليا أتى بامرأة زنت فضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة " وكذا عند النسائي من طريق بهز بن أسد عن شعبة والدار قطني من طريق أبي حصين بفتح أوله عن الشعبي قال: "أتي علي بشراحة - وهي بضم الشين المعجمة وتخفيف الراء ثم حاء مهملة الهمدانية بسكون الميم - وقد فجرت، فردها حتى ولدت وقال: ائتوني بأقرب النساء منها فأعطاها الولد ثم رجمها " ومن طريق حصين بالتصغير عن الشعبي قال: "أتى علي بمولاة لسعيد بن قيس فجرت وفي لفظ وهي حبلى فضربها مائة ثم رجمها " وذكر ابن عبد البر أن في تفسير سنيد بن داود من طريق أخرى إلى الشعبي قال: "أتى علي بشراحة فقال لها: لعل رجلا استكرهك، قالت: لا، قال فلعله أتاك وأنت نائمة؟ قالت: لا. قال: لعل زوجك من عدونا؟ قالت: لا. فأمر بها فحبست، فلما وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة ثم ردها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها " ولعبد الرزاق من وجه آخر عن الشعبي " إن عليا لما وضعت أمر لها بحفرة في السوق ثم قال: إن أولى الناس أن يرجم الإمام إذا كان بالاعتراف، فإن كان الشهود فالشهود ثم رماها". قوله: "رجمتها بسنة رسول الله" زاد علي بن الجعد " وجلدتها بكتاب الله " زاد إسماعيل بن سالم في أوله عن الشعبي "قيل لعلي جمعت حدين" فذكره. وفي رواية عبد الرزاق "أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة" قال الشعبي: وقال أبي بن كعب مثل ذلك، قال الحازمي: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر إلى أن الزاني المحصن يجلد ثم يرجم، وقال الجمهور - وهي رواية عن أحمد أيضا - لا يجمع بينهما، وذكروا أن حديث عبادة منسوخ يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم " والبكر بالبكر جلد مائة والنفي والناسخ له ما ثبت في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه ولم يذكر الجلد، قال الشافعي: فدلت السنة على أن الجلد ثابت على البكر وساقط عن الثيب. والدليل على أن قصة ماعز متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شرع أولا من حبس الزاني في البيوت فنسخ الحبس بالجلد وزيد الثيب الرجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم وذلك في قصة الغامدية والجهنية واليهوديين لم يذكر الجلد مع الرجم وقال ابن المنذر: عارض بعضهم الشافعي فقال الجلد ثابت في كتاب الله والرجم ثابت بسنة رسول الله كما قال علي، وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة وعمل به على ووافقه أبي، وليس في قصة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه ولكونه الأصل فلا يرد ما وقع التصريح به بالاحتمال، وقد احتج الشافعي بنظير هذا حين عورض إيجابة العمرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سأله أن يحج على أبيه ولم يذكر العمرة، فأجاب الشافعي بأن السكوت عن ذلك لا يدل على سقوطه، قال فكذا ينبغي أن يجاب هنا. قلت: وبهذا ألزم الطحاوي أيضا الشافعية، ولهم أن ينفصلوا لكن في بعض طرقه: "حج عن أبيك واعتمر" كما تقدم بيانه في كتاب الحج،

(12/119)


فالتقصير في ترك ذكر العمرة من بعض الرواة، وأما قصة ماعز فجاءت من طرق متنوعة بأسانيد مختلفة لم يذكر في شيء منها أنه جلد، وكذلك الغامدية والجهنية وغيرهما. وقال في ماعز "اذهبوا فارجموه" وكذا في حق غيره ولم يذكر الجلد، فدل ترك ذكره على عدم وقوعه ودل عدم وقوعه على عدم وجوبه. ومن المذاهب المستغربة ما حكاه ابن المنذر وابن حزم عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبي ذر وابن عبد البر عن مسروق أن الجمع بين الجلد والرجم خاص بالشيخ والشيخة، وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم إن أحصن فقط، وحجتهم في ذلك حديث الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة كما سيأتي بيانه في الكلام على حديث عمر في "باب رجم الحبلى من الزنا" وقال عياض: شذت فرقة من أهل الحديث فقالت الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب ولا أصل له. وقال النووي: هو مذهب باطل، كذا قاله ونفى أصله، ووصفه، بالبطلان إن كان المراد به طريقه فليس بجيد لأنه ثابت كما سأبينه في " باب البكران يجلدان " وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضا لأن الآية وردت بلفظ الشيخ ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة، فهو معنى مناسب وفيه جمع بين الأدلة فكيف يوصف بالبطلان، واستدل به على جواز نسخ التلاوة دون الحكم. وخالف في ذلك بعض المعتزلة واعتل بأن التلاوة مع حكمها كالعلم مع العالمية فلا ينفكان، وأجيب بالمنع فإن العالمية لا تنافى قيام العلم بالذات، سلمنا لكن التلاوة أمارة الحكم فيدل وجودها على ثبوته ولا دلالة من مجردها على وجوب الدوام فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلت عليه، فإذا نسخت التلاوة ولم ينتف المدلول، وكذلك بالعكس. الحديث الثاني قوله: "حدثني" في رواية أبي ذر "حدثنا إسحاق" وهو ابن شاهين الواسطي، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان مشهور بكنيته. قوله: "قبل سورة النور أم بعد" في رواية الكشميهني: "أم بعدها " وفائدة هذا السؤال أن الرجم إن كان وقع قبلها فيمكن أن يدعي نسخه بالتنصيص فيها على أن حد الزاني الجلد، وإن كان وقع بعدها فيمكن أن يستدل به على نسخ الجلد في حق المحصن، لكن يرد عليه أنه من نسخ الكتاب بالسنة وفيه خلاف، وأجيب بأن الممنوع نسخ الكتاب بالسنة إذا جاءت من طريق الآحاد، وأما السنة المشهورة فلا وأيضا فلا نسخ وإنما هو مخصص بغير المحصن. قوله: "لا أدري" يأتي بيانه بعد أبواب، وقد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور لأن نزولها كان في قصة الإفك، واختلف هل كان سنة أربع أو خمس أو ست على ما تقدم بيانه، والرجم كان بعد ذلك فقد حضره أبو هريرة وإنما أسلم سنة سبع وابن عباس إنما جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع. الحديث الثالث قوله: "حدثنا" في رواية أبي ذر " أخبرنا " وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "حدثني أبو سلمة" في رواية أبي ذر " أخبرني". قوله: "أن رجلا من أسلم" أي من بني أسلم القبيلة المشهورة، واسم هذا الرجل ماعز بن مالك كما سيأتي مسمى عن ابن عباس بعد سبعة أبواب.

(12/120)


باب لا يرجم المجنون و المجنونة
...
22- باب لاَ يُرْجَمُ الْمَجْنُونُ وَالْمَجْنُونَةُ. وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ؟
6815- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي

(12/120)


زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لاَ قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ"
6816- ...قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ"
قول "باب لا يرجم المجنون والمجنونة" أي إذا وقع في الزنا في حال الجنون، وهو إجماع واختلف فيما إذا وقع في حال الصحة ثم طرأ الجنون هل يؤخر إلى الإفاقة؟ قال الجمهور: لا، لأنه يراد به التلف فلا معنى للتأخير، بخلاف من يجلد فإنه يقصد به الإيلام فيؤخر حتى لم يفيق. قوله: "وقال علي رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: أما علمت الخ" تقدم بيان من وصله في " باب الطلاق في الإغلاق " وأن أبا داود وابن حبان والنسائي أخرجوه مرفوعا ورجح النسائي الموقوف، ومع ذلك فهو مرفوع حكما، وفي أول الأثر المذكور قصة تناسب هذه الترجمة وهو " عن ابن عباس أتى عمر أي بمجنونة قد زنت وهي حبلى فأراد أن يرجمها، فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد رفع عن ثلاثة " فذكره، هذا لفظ علي بن الجعد الموقوف في " الفوائد الجعديات " ولفظ الحديث المرفوع عن ابن عباس " مر علي ابن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت فأمر عمر برجمها فردها علي وقال لعمر: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ؟ قال: صدقت، فخلى عنها، هذه رواية جرير بن حازم عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن أبي داود وسندها متصل، لكن أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها، وفي رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش بسنده " أتى عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها الناس فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على بن أبي طالب فقال: ارجعوا بها ثم أتاه فقال: أما علمت أن القلم قد رفع " فذكر الحديث وفي آخره قال بلى قال فما بال هذه ترجم؟ فأرسلها، فجعل يكبر " ومن طريق وكيع عن الأعمش نحوه، وأخرجه أبو داود موقوفا من الطريقين ورجحه النسائي، ورواه عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي بدون ذكر ابن عباس وفي آخره فجعل عمر يكبر " أخرجه أبو داود والنسائي بلفظ قال: "أتى عمر بامرأة " فذكر نحوه وفيه: "فخلى على سبيلها، فقال عمر: ادع لي عليا، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم فذكره لكن بلفظ: المعتوه حتى يبرأ، وهذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها وهي في بلائها " ولأبي داود من طريق أبي الضحى عن علي مرفوعا نحوه لكن قال: "عن الخرف " بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها فاء، ومن طريق حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة مرفوعا: "رفع القلم عن ثلاثة " فذكره بلفظ: "وعن المبتلي حتى يبرأ " وهذه طرق تقوي بعضها ببعض، وقد أطنب النسائي في تخريجها ثم قال: لا يصح منها شيء والمرفوع أولى بالصواب، قلت: وللمرفوع شاهد من حديث أبي إدريس الخولاني، أخبرني غير واحد من الصحابة منهم شداد بن أوس وثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم في الحد عن الصغير حتى يكبر وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن المعتوه الهالك " أخرجه الطبراني، وقد أخذ الفقهاء بمقتضى هذه الأحاديث، لكن ذكر ابن حبان أن المراد برفع القلم ترك كتابة الشر عنهم دون الخير. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": هو ظاهر في الصبي دون المجنون والنائم لأنهما في حيز من

(12/121)


ليس قابلا لصحة العبادة منه لزوال الشعور. وحكى ابن العربي أن بعض الفقهاء سئل عن إسلام الصبي فقال: لا يصح واستدل بهذا الحديث، فعورض بأن الذي ارتفع عنه قلم المؤاخذة وأما قلم الثواب فلا لقوله للمرأة لما سألته " ألهذا حج؟ قال: نعم " ولقوله: "مروهم بالصلاة" فإذا جرى له قلم الثواب فكلمة الإسلام أجل أنواع الثواب فكيف يقال إنها تقع لغوا ويعتد بحجه وصلاته؟ واستدل بقوله: "حتى يحتلم " على أنه لا يؤاخذ قبل ذلك، واحتج من قال: يؤاخذ قبل ذلك بالردة، وكذا من قال من المالكية يقام الحد على المراهق ويعتبر طلاقه لقوله في الطريق الأخرى "حتى يكبر" والأخرى "حتى يشب". وتعقبه ابن العربي بأن الرواية بلفظ: "حتى يحتلم " هي العلامة المحققة فيتعين اعتبارها وحمل باقي الروايات عليها. قوله: "عن عقيل" هو ابن خالد. قوله: "عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب" هذه رواية يحيى بن بكير عن الليث، ووافقه شعيب بن الليث عن أبيه عند مسلم، وسيأتي بعد ستة أبواب من رواية سعيد بن عفير عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب، وجمعها مسلم فوصل رواية عقيل وعلق رواية عبد الرحمن فقال بعد رواية الليث عن عقيل: ورواه الليث أيضا عن عبد الرحمن ابن خالد. قلت: ورواه معمر ويونس وابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة وحده عن جابر، وجميع مسلم هذه الطرق وأحال بلفظها على رواية عقيل، وسيأتي للبخاري بعد بابين من رواية معمر، وعلق طرفا منه ليونس وابن جريج ووصل رواية يونس قبل هذا، وأما رواية ابن جريج فوصلها مسلم عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق عن معمر وابن جريج معا، ووقعت لنا بعلو في " مستخرج أبي نعيم " من رواية الطبراني عن الفربري عن عبد الرزاق عن ابن جريج وحده. قوله: "أتى رجل" زاد ابن مسافر في روايته: "من الناس" وفي رواية شعيب بن الليث "من المسلمين" وفي رواية يونس ومعمر " أن رجلا من أسلم " وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم رأيت ماعز بن مالك الأسلمي حين جيء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه: "رجل قصير أعضل ليس عليه رداء " وفي لفظ: "ذو عضلات " بفتح المهملة ثم المعجمة، قال أبو عبيدة: العضلة ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن الساق. وقال الأصمعي: كل عصبة مع لحم فهي عضلة. وقال ابن القطاع: العضلة لحم الساق والذراع وكل لحمة مستديرة في البدن والأعضل الشديد الخلق ومنه أعضل الأمر إذا اشتد، لكن دلت الرواية الأخرى على أن المراد به هنا كثير العضلات. قوله: "فأعرض عنه"زاد ابن مسافر" فتنحى لشق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعرض قبله " بكسر القاف وفتح الموحدة، وفي رواية شعيب "فتنحى تلقاء وجهه" أي انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يستقبل بها وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاء منصوب على الظرفية وأصله مصدر أقيم مقام الظرف أي مكان تلقاء فحذف مكان قبل، وليس من المصادر تفعال بكسر أوله إلا هذا وتبيان وسائرها بفتح أوله، وأما الأسماء بهذا الوزن فكثيرة. قوله: "حتى ردد" في رواية الكشميهني: "حتى رد" بدال واحدة، وفي رواية شعيب بن الليث " حتى ثنى ذلك عليه " وهو بمثلثة بعدها نون خفيفة أي كرر، وفي حديث بريدة عند مسلم: "قال ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه " فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: "يا رسول الله طهرني" وفي لفظ: "فلما كان من الغد أتاه" ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك والنسائي من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد " إن رجلا من أسلم قال لأبي بكر الصديق: إن الآخر زنى، قال: فتب إلى الله واستتر بستر الله . ثم أتى عمر كذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ثلاث مرات، حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله". قوله: "فلما شهد على نفسه أربع

(12/122)


شهادات" في رواية أبي ذر "أربع مرات" وفي رواية بريدة المذكورة "حتى إذا كانت الرابعة قال فبم أطهرك" وفي حديث جابر بن سمرة من طريق أبي عوانة عن سماك " فشهد على نفسه أربع شهادات " أخرجه مسلم وأخرجه من طريق شعبة عن سماك قال: "فرده مرتين " وفي أخرى " مرتين أو ثلاثا " قال شعبة قال سماك: فذكرته لسعيد بن جبير فقال إنه رده أربع مرات. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم أيضا: "فاعترف بالزنا ثلاث مرات " والجمع بينهما أما رواية مرتين فتحمل على أنه اعترف مرتين في يوم ومرتين في يوم آخر لما يشعر به قول بريدة " فلما كان من الغد " فاقتصر الراوي على أحدهما، أو مراده اعترف مرتين في يومين فيكون من ضرب اثنين في اثنين، وقد وقع عند أبي داود من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين " وأما رواية الثلاث فكأن المراد الاقتصار على المرات التي رده فيها، وأما الرابعة فإنه لم يرده بل استثبت فيه وسأل عن عقله، لكن وقع في حديث أبي هريرة عند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن الصامت ما يدل على أن الاستثبات فيه إنما وقع بعد الرابعة ولفظه: "جاء الأسلمي فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة فقال: تدري ما الزاني " إلى آخره، والمراد بالخامسة الصفة التي وقعت منه عند السؤال والاستثبات، لأن صفة الإعراض وقعت أربع مرات وصفة الإقبال عليه للسؤال وقعت بعدها. قوله: "فقال أبك جنون؟ قال لا" في رواية شعيب في الطلاق " وهل بك جنون " وفي حديث بريدة " فسأل أبه جنون؟ فأخبر بأنه ليس بمجنون " وفي لفظ: "فأرسل إلى قومه فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا " وفي حديث أبي سعيد " ثم سأل قومه فقالوا: ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرج منه إلا أن يقام فيه الحد لله " وفي مرسل أبي سعيد " بعث إلى أهله فقال: أشتكى به جنة؟ فقالوا: يا رسول الله إنه لصحيح " ويجمع بينهما بأنه سأله ثم سأل عنه احتياطا، فإن فائدة سؤاله أنه لو ادعى الجنون لكان في ذلك دفع لإقامة الحد عليه حتى يظهر خلاف دعواه، فلما أجاب بأنه لا جنون به سأل عنه لاحتمال أن يكون كذلك ولا يعتد بقوله، وعند أبي داود من طريق نعيم بن هزال قال: "كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك ورجاء أن يكون له مخرج " فذكر الحديث فقال عياض: فائدة سؤاله أبك جنون سترا لحاله واستبعاد أن يلح عاقل بالاعتراف بما يقتضي إهلاكه، ولعله يرجع عن قوله، أو لأنه سمعه وحده، أو ليتم إقراره أربعا عند من يشترطه. وأما سؤاله قومه عنه بعد ذلك فمبالغة في الاستثبات وتعقب بعض الشراح قوله: "أو لأنه سمعه وحده" بأنه كلام ساقط لأنه وقع في نفس الخبر أن ذلك كان بمحضر الصحابة في المسجد. قلت: ويرد بوجه آخر وهو أن انفراده صلى الله عليه وسلم بسماع إقرار المقر كاف في الحكم عليه بعلمه اتفاقا إذ لا ينطق عن الهوى، بخلاف غيره ففيه احتمال. قوله: "قال فهل أحصنت" أي تزوجت، هذا معناه جزما هنا، لافتراق الحكم في حد من تزوج ومن لم يتزوج. قوله: "قال: نعم" زاد في حديث بريدة قبل هذا "أشربت خمرا؟ قال لا" وفيه: "فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريحا" وزاد في حديث ابن عباس الآتي قريبا "لعلك قبلت أو غمزت - بمعجمة وزاي - أو نظرت" أي فأطلقت على كل ذلك زنا ولكنه لا حد في ذلك "قال: لا" وفي حديث نعيم "فقال هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم" وفي حديث ابن عباس

(12/123)


المذكور "فقال أنكتها" لا يكنى بفتح التحتانية وسكون الكاف من الكناية أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحا ولم يكن عنه بلفظ آخر كالجماع، ويحتمل أن يجمع بأنه ذكر بعد ذكر الجماع بأن الجماع قد يحمل على مجرد الاجتماع، وفي حديث أبي هريرة المذكور "أنكتها؟ قال نعم. قال حتى دخل ذلك منك في ذلك منها؟ قال نعم، قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال نعم. قال: تدري ما الزنا قال: نعم؟ أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرني، فأمر به فرجم " وقبله عند النسائي هنا " هل أدخلته وأخرجته؟ قال نعم". قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله" صرح يونس ومعمر في روايتهما بأنه أبو سلمة ابن عبد الرحمن، فكأن الحديث كان عند أبي سلمة عن أبي هريرة كما عند سعيد بن المسيب وعنده زيادة عليه عن جابر. قوله: "فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى" في رواية معمر " فأمر به فرجم بالمصلى " وفي حديث أبي سعيد " فما أوثقناه ولا حفرنا له " قال: "فرميناه بالعظام والمدر والخزف " بفتح المعجمة والزاي وبالفاء وهي الآنية التي تتخذ من الطين المشوي وكأن المراد ما تكسر منها. قوله: "فلما أذلقته" بذال معجمة وفتح اللام بعدها قاف أي أقلقته وزنه ومعناه قال أهل اللغة: الذلق بالتحريك القلق وممن ذكره الجوهري، وقال في النهاية: أذلقته بلغت منه الجهد حتى قلق، يقال أذلقه الشيء أجهده، وقال النووي: معنى أذلقته الحجارة أصابته بحدها، ومنه انذلق صار له حد يقطع. قوله: "هرب" في رواية ابن مسافر " جمز " بجيم وميم مفتوحتين ثم زاي أي وثب مسرعا وليس بالشديد العدو بل كالقفز. ووقع في حديث أبي سعيد "فاشتد وأسند لنا خلفه". قوله: "فأدركناه بالحرة فرجمناه" زاد معمر في روايته: "حتى مات " وفي حديث أبي سعيد " حتى أتى عرض - بضم أوله أي جانب - الحرة، فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت " وعند الترمذي من طريق محمد ابن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في قصة ماعز " فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه وضربه الناس حتى مات " وعند أبي داود والنسائي من رواية يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه في هذه القصة " فوجد مس الحجارة فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه فقتله " وهذا ظاهره يخالف ظاهر رواية أبي هريرة أنهم ضربوه معه، لكن يجمع بأن قوله في هذا " فقتله " أي كان سببا في قتله، وقد وقع في رواية للطبراني في هذه القصة " فضرب ساقه فصرعه، ورجموه حتى قتلوه" والوظيف بمعجمة وزن عظيم: خف البعير وقيل مستدق الذراع والساق من الإبل وغيرها، وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: "فانتهى إلى أصل شجرة فتوسد يمينه حتى قتل " وللنسائي من طريق أبي مالك عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبوا به إلى حائط يبلغ صدره فذهب يثب فرماه رجل فأصاب أصل أذنه فصرع فقتله " وفي هذا الحديث من الفوائد منقبة عظيمة لماعز بن مالك لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره ولم يرجع عن إقراره مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضى إزهاق نفسه فجاهد نفسه على ذلك وقوى عليها وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة، ولا يقال لعله لم يعلم أن الحد بعد أن يرفع للإمام يرتفع بالرجوع لأنا نقول كان له طريق أن يبرز أمره في صورة الاستفتاء فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة ويبنى على ما يجاب به ويعدل عن الإقرار إلى ذلك، ويؤخذ من قضيته أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته

(12/124)


أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأن من أطلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة " لو سترته بثوبك لكان خيرا لك " وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه فقال: أحب لمن أصاب ذنبا فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر. وقال ابن العربي: هذا كله في غير المجاهر، فأما إذا كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا فإني أحب مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره. وقد استشكل استحباب الستر مع ما وقع من الثناء على ماعز والغامدية، وأجاب شيخنا " في شرح الترمذي " بأن الغامدية كان ظهر بها الحبل مع كونها غير ذات زوج فتعذر الاستتار للاطلاع على ما يشعر بالفاحشة، ومن ثم قيد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضده، وإن وجد فالرفع إلى الإمام ليقيم عليه الحد أفضل انتهى. والذي يظهر أن الستر مستحب والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحب والعلم عند الله تعالى. وفيه التثبت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته لما وقع في هذه القصة من ترديده والإيماء إليه بالرجوع والإشارة إلى قبول دعواه إن ادعى إكراها وأخطأ في معنى الزنا أو مباشرة دون الفرج مثلا أو غير ذلك. وفيه مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام وفي المسجد والتصريح فيه بما يستحي من التلفظ به من أنواع الرفث في القول من أجل الحاجة الملجئة لذلك. وفيه نداء الكبير بالصوت العالي وإعراض الإمام عن من أقر بأمر محتمل لإقامة الحد لاحتمال أن يفسره بما لا يوجب حدا أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك ليرتب عليه مقتضاه وأن إقرار المجنون لاغ، والتعريض للمقر بأن يرجع وأنه إذا رجع قبل، قال ابن العربي: وجاء عن مالك رواية أنه لا أثر لرجوعه، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع. وفيه أنه يستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها ولا يخبر بها أحدا ويستتر بستر الله، وإن اتفق أنه يخبر أحدا فيستحب أن يأمره بالتوبة وستر ذلك عن الناس كما جرى لماعز مع أبي بكر ثم عمر، وقد أخرج قصته معهما في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب مرسلة، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه. وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزال " لو سترته بثوبك لكان خيرا لك " وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد ذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم فقال هزال جدي جدي وهذا الحديث حق. قال الباجي: المعنى خيرا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتوبة والكتمان كما أمره أبو بكر وعمر، وذكر الثوب مبالغة أي لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بردائك ممن علم أمره كان أفضل مما أشرت به عليه من الإظهار. واستدل به على اشتراط تكرير الإقرار بالزنا أربعا لظاهر قوله: "فلما شهد على نفسه أربع شهادات " فإن فيه إشعارا بأن العدد هو العلة في تأخير إقامة الحد عليه وإلا لأمر برجمه في أول مرة، ولأن في حديث ابن عباس " قال لماعز قد شهدت على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به فارجموه " وقد تقدم ما يؤيده ويؤيد القياس على عدد شهود الزنا دون غيره من الحدود، وهو قول الكوفيين والراجح عند الحنابلة، وزاد ابن أبي ليلى فاشترط أن تتعدد مجالس الإقرار، وهي رواية عن الحنفية وتمسكوا بصورة الواقعة، لكن الروايات فيها اختلفت، والذي يظهر أن المجالس تعددت لكن لا بعدد الإقرار، فأكثر ما نقل في ذلك أنه أقر مرتين ثم عاد من الغد فأقر مرتين كما تقدم بيانه من عند مسلم وتأول الجمهور بأن ذلك وقع في قصة ماعز وهي واقعة حال فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات، ويؤيد هذا الجواب ما تقدم في سياق حديث أبي هريرة

(12/125)


وما وقع عند مسلم في قصة الغامدية حيث قالت لما جاءت " طهرني، فقال ويحك ارجعي فاستغفري، قالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعزا إنها حبلى من الزنا " فلم يؤخر إقامة الحد عليها إلا لكونها حبلى. فلما وضعت أمر برجمها ولم يستفسرها مرة أخرى ولا اعتبر تكرير إقرارها ولا تعدد المجالس، وكذا وقع في قصة العسيف حيث قال: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " وفيه: "فغدا عليها فاعترفت فرجمها " ولم يذكر تعدد الاعتراف ولا المجالس، وسيأتي قريبا مع شرحه مستوفى. وأجابوا عن القياس المذكور بأن القتل لا يقبل فيه إلا شاهدان بخلاف سائر الأموال فيقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك أن يشترط الإقرار بالقتل مرتين، وقد اتفقوا أنه يكفي فيه مرة. فإن قلت: والاستدلال بمجرد عدم الذكر في قصة العسيف وغيره فيه نظر، فإن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فإذا ثبت كون العدد شرطا فالسكوت عن ذكره يحتمل أن يكون لعلم المأمور به. وأما قول الغامدية " تريد أن ترددني كما رددت ماعزا " فيمكن التمسك به، لكن أجاب الطيبي بأن قولها إنها حبلى من الزنا فيه إشارة إلى أن حالها مغايرة لحال ماعز، لأنهما وإن اشتركا في الزنا لكن العلة غير جامعة لأن ماعزا كان متمكنا من الرجوع عن إقراره بخلافها، فكأنها قالت أنا غير متمكنة من الإنكار بعد الإقرار لظهور الحمل بها بخلافه. وتعقب بأنه كان يمكنها أن تدعى إكراها أو خطأ أو شبهة. وفيه أن الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقر وإن كان ذلك مستحبا لأن الإمام إذا بدأ مع كونه مأمورا بالتثبت والاحتياط فيه كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم وإلى الحض على التثبت في الحكم، ولهذا يبدأ الشهود إذا ثبت الرجم بالبينة. وفيه جواز تفويض الإمام إقامة الحد لغيره، واستدل به على أنه لا يشترط الحفر للمرجوم لأنه لم يذكر في حديث الباب بل وقع التصريح في حديث أبي سعيد عند مسلم فقال: "فما حفرنا له ولا أوثقناه " ولكن وقع في حديث بريدة عنده " فحفر له حفيرة " ويمكن الجمع بأن المنفي حفيرة لا يمكنه الوثوب منها والمثبت عكسه، أو أنهم في أول الأمر لم يحفروا له ثم لما فر فأدركوه حفروا له حفيرة فانتصب لهم فيها حتى فرغوا منه. وعند الشافعية لا يحفر للرجل وفي وجه يتخير الإمام وهو أرجح لثبوته في قصة ماعز فالمثبت مقدم على النافي، وقد جمع بينهما بما دل على وجود حفر في الجملة، وفي المرأة أوجه ثالثها الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب لا بالإقرار وعن الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم لا يحفر. وقال أبو يوسف وأبو ثور يحفر للرجل وللمرأة. وفيه جواز تلقين المقر بما يوجب الحد ما يدفع به عنه الحد وأن الحد لا يجب إلا بالإقرار الصريح، ومن ثم شرط على من شهد بالزنا أن يقول رأيته ولج ذكره في فرجها أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول أشهد أنه زنى، وثبت عن جماعة من الصحابة تلقين المقر بالحد كما أخرجه مالك عن عمرو بن أبي شيبة (1) عن أبي الدرداء وعن علي في قصة شراحة، ومنهم من خص التلقين بمن يظن به أنه يجهل حكم الزنا وهو قول أبي ثور، وعند المالكية يستثنى تلقين المشتهر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه وليس ذلك بشرط. وفيه ترك سجن من اعترف بالزنا في مدة الاستثبات وفي الحامل حتى تضع، وقيل إن المدينة لم يكن بها حينئذ سجن، وإنما كان يسلم كل جان لوليه. وقال ابن العربي: إنما لم يأمر بسجنه ولا التوكيل به لأن رجوعه مقبول فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع، ويؤخذ من قوله: "هل أحصنت" وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها. وفيه أن إقرار السكران لا أثر له يؤخذ من قوله: "استنكهوه" والذين اعتبروه وقالوا إن عقله زال بمعصيته، ولا دلالة
ـــــــ
(1) كذا، ولعل في اسم الراوي عن أبي الدرداء تحريفا

(12/126)


في قصة ماعز لاحتمال تقدمها على تحريم الخمر أو أن سكره وقع عن غير معصية. وفيه أن المقر بالزنا إذا أقر يترك، فإن صرح بالرجوع فذاك وإلا اتبع ورجم وهو قول الشافعي وأحمد ودلالته من قصة ماعز ظاهرة، وقد وقع في حديث نعيم بن هزال " هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه " أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وحسنه، وللترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم أيضا، وعند أبي داود من حديث بريدة قال: "كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزا والغامدية لو رجعا لم يطلبهما " وعند المالكية في المشهور لا يترك إذا هرب، وقيل يشترط أن يؤخذ على الفور فإن لم يؤخذ ترك، وعن ابن عيينة إن أخذ في الحال كمل عليه الحد وإن أخذ بعد أيام ترك، وعن أشهب إن ذكر عذرا يقبل ترك وإلا فلا، ونقله القعنبي عن مالك، وحكى الكجي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة، ومنهم من قيده بما بعد إقراره عند الحاكم، واحتجوا بأن الذين رجموه حتى مات بعد أن هرب لم يلزموا بديته فلو شرع تركه لوجبت عليهم الدية، والجواب أنه لم يصرح بالرجوع، ولم يقل أحد إن حد الرجم يسقط بمجرد الهرب، وقد عبر في حديث بريدة بقوله: "لعله يتوب" واستدل به على الاكتفاء بالرجم في حد من أحضر من غير جلد وقد تقدم البحث فيه، وأن المصلي إذا لم يكن وقفا لا يثبت له حكم المسجد وسيأتي البحث فيه بعد بابين، وأن المرجوم في الحد لا تشرع الصلاة عليه إذا مات بالحد ويأتي البحث فيه أيضا قريبا، وأن من وجد منه ريح الخمر وجب عليه الحد من جهة استنكاه ماعز بعد أن قال له أشربت خمرا؟ قال القرطبي: وهو قول مالك والشافعي كذا قال، وقال المازري استدل به بعضهم على أن طلاق السكران لا يقع وتعقبه عياض بأنه لا يلزم من درء الحد به أنه لا يقع طلاقه لوجود تهمته على ما يظهره من عدم العقل، قال ولم يختلف في غير الطافح أن طلاقه لازم، قال ومذهبنا التزامه بجميع أحكام الصحيح لأنه أدخل ذلك على نفسه وهو حقيقة مذهب الشافعي، واستثنى من أكره ومن شرب ما ظن أنه غير مسكر ووافقه بعض متأخري المالكية، وقال النووي: الصحيح عندنا صحة إقرار السكران ونفوذ أقواله فيما له وعليه، قال: والسؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنه لو كان سكرانا لم يقم عليه الحد كذا أطلق فألزم التناقض، وليس كذلك فإن مراده لم يقم عليه الحد لوجود الشبهة كما تقدم من كلام عياض. قلت: وقد مضى ما يتعلق بذلك في كتاب، الطلاق، ومن المذاهب الظريفة فيه قول الليث: يعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله لأنه يلتذ بفعله ويشفى غيظه ولا يفقه أكثر ما يقول وقد قال تعالى :{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}.

(12/127)


23- باب: لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
6817- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اخْتَصَمَ سَعْدٌ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، زَادَ لَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ اللَّيْثِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"
6818- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"

(12/127)


قوله: "باب للعاهر الحجر" ذكر فيه حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الفرائض، أورده عن أبي الوليد عن الليث وفيه: "الولد للفراش" وقال بعده زاد قتيبة عن الليث "وللعاهر الحجر" وفي رواية أبي ذر زادنا وقال في البيوع: "حدثنا قتيبة " فذكره بتمامه، وذكر هنا حديث أبي هريرة بالجملتين المذكورتين، وقد أورده في كتاب القدر من وجه آخر مقتصرا على الجملة الأولى، وفي ترجمته هنا إشارة إلى أنه يرجح قول من أول الحجر هنا بأنه الحجر الذي يرجم به الزاني، وقد تقدم ما فيه والمراد منه أن الرجم مشروع للزاني بشرطه لا أن على كل من زنى الرجم.

(12/128)


24- باب: الرَّجْمِ فِي الْبَلاَطِ
6819- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيهَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِالتَّوْرَاةِ فَأُتِيَ بِهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلاَمٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلاَطِ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودِيَّ أَجْنَأَ عَلَيْهَا"
قوله: "باب الرجم في البلاط" في رواية المستملي: "بالبلاط" بالموحدة بدل في، ففهم منه بعضهم أنه يريد أن الآلة التي يرجم بها تجوز بكل شيء حتى بالبلاط وهو بفتح الموحدة وفتح اللام ما تفرش به الدور من حجارة وآجر وغير ذلك وفيه بعد والأولى أن الباء ظرفية ودل على ذلك رواية غير المستملي، والمراد بالبلاط هنا موضع معروف عند باب المسجد النبوي كان مفروشا بالبلاط، ويؤيد ذلك قوله في هذا المتن " فرجما عند البلاط " وقيل المراد بالبلاط الأرض الصلبة سواء كانت مفروشة أم لا ورجحه بعضهم والراجح خلافه، قال أبو عبيد البكري: البلاط بالمدينة ما بين المسجد والسوق، وفي الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك بن أبي عامر عن أبيه كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب ونحن عند دار أبي جهم بالبلاط وقد استشكل ابن بطال هذه الترجمة فقال: البلاط وغيره في ذلك سواء، وأجاب ابن المنير بأنه أراد أن ينبه على أن الرجم لا يختص بمكان معين للأمر بالرجم بالمصلى تارة وبالبلاط أخرى، قال: ويحتمل أنه أراد أن ينبه على أنه لا يشترط الحفر للمرجوم لأن البلاط لا يتأتى الحفر فيه، وبهذا جزم ابن القيم وقال: أراد رد رواية بشير بن المهاجر عن أبي بريدة عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فحفرت لماعز بن مالك حفرة فرجم فيها " أخرجه مسلم قال: هو وهم سرى من قصة الغامدية إلى قصة ماعز قلت: ويحتمل أن يكون أراد أن ينبه على أن المكان الذي يجاور المسجد لا يعطي حكم المسجد في الاحترام لأن البلاط المشار إليه موضع كان مجاورا للمسجد النبوي كما تقدم ومع ذلك أمر بالرجم عنده، وقد وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والحاكم "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديين عند باب المسجد" . قوله: "حدثنا محمد بن عثمان"

(12/128)


زاد أبو ذر ابن كرامة. قوله: "عن سليمان". هو ابن بلال، وهو غريب ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه عن عبد الله بن جعفر المديني أحد الضعفاء، ولو وقع عن سليمان بن بلال لم يعدل عنه، وكذا ضاق على أبي نعيم فلم يستخرجه بل أورده بسنده عن البخاري، وخالد بن مخلد أكثر البخاري عنه بواسطة وبغير واسطة، وقد تقدم له في الرقاق عن محمد بن عثمان بن كرامة عن خالد بن مخلد حديث، وتقدم في العلم والهبة والمناقب وغيرها عدة أحاديث، وكذا يأتي في التعبير والاعتصام عن خالد بن مخلد بغير واسطة. وقوله في المتن "قد أحدثا" أي فعلا أمرا فاحشا، وقوله: "أحدثوا" أي ابتكروا، وقوله: "تحميم الوجه" أي يصب عليه ماء حار مخلوط بالرماد والمراد تسخيم الوجه بالحميم وهو الفحم وقوله: "والتجبية " بفتح المثناة وسكون الجيم وكسر الموحدة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم هاء أصلية من جبهت الرجل إذا قابلته بما يكره من الإغلاظ في القول أو الفعل قاله ثابت في "الدلائل" وسبقه الحربي. وقال غيره هو بوزن تذكرة ومعناه الإركاب منكوسا، وقال عياض: فسر التجبية في الحديث بأنهما يجلدان ويحمم وجههما ويحملان على دابة مخالفا بين وجوههما، قال الحربي: كذا فسره الزهري، قلت: غلط من ضبطه هنا بالنون بدل الموحدة ثم فسره بأن يحمل الزانيان على بعير أو حمار ويخالف بين وجوههما والمعتمد ما قال أبو عبيدة، والتجبية أن يضع اليدين على الركبتين وهو قائم فيصير كالراكع وكذا أن ينكب على وجهه باركا كالساجد، وقال الفارابي: جبا بفتح الجيم وتشديد الموحدة قام قيام الراكع وهو عريان، والذي بالنون بعد الجيم إنما جاء في قوله: "فرأيت اليهودي أجنأ عليها " وقد ضبطت بالحاء المهملة ثم نون بلفظ الفعل الماضي أي أكب عليها يقال أحنت المرأة على ولدها حنوا وحنت بمعنى، وضبطت بالجيم والنون فعند الأصيلي بالهمز وعند أبي ذر بلا همز وهو بمعنى الذي بالمهملة. قال ابن القطاع: جنأ على الشيء حنا ظهره عليه. وقال الأصمعي: أجنأ الترس جعله مجنأ أي محدوبا، وقال عياض: الصحيح في هذا ما قاله أبو عبيدة يعني بالجيم والهمز والله أعلم، وسيأتي مزيد لهذا في شرح حديث اليهوديين في "باب أحكام الذمة".

(12/129)


25- باب: الرَّجْمِ بِالْمُصَلَّى
6820- حَدَّثَنِا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: آحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ، فَأُدْرِكَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ" ولَمْ يَقُلْ يُونُسُ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ "فَصَلَّى عَلَيْهِ"
سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ "فَصَلَّى عَلَيْهِ" يَصِحُّ أم لا؟ قَالَ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، قِيلَ لَهُ هل رَوَاهُ غَيْرُ مَعْمَرٍ؟ قَالَ: لاَ
قوله: "باب الرجم بالمصلي" أي عنده والمراد المكان الذي كان يصلي عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع؟ الغرقد، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند مسلم: "فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد " وفهم بعضهم كعياض من قوله: "بالمصلى" أن الرجم وقع داخله وقال: يستفاد منه أن المصلي لا يثبت له حكم

(12/129)


المسجد إذ لو ثبت له ذلك لاجتنب الرجم فيه لأنه لا يؤمن التلويث من المرجوم خلافا لما حكاه الدارمي أن المصلي يثبت له حكم المسجد ولو لم يوقف، وتعقب بأن المراد أن الرجم وقع عنده لا فيه كما تقدم في البلاط، وأن في حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين عند باب المسجد " وفي رواية موسى ابن عقبة " أنهما رجما قريبا من موضع الجنائز قرب المسجد " وبأنه ثبت في حديث أم عطية الأمر بخروج النساء حتى الحيض في العيد إلى المصلى وهو ظاهر في المراد والله أعلم. وقال النووي: ذكر الدارمي من أصحابنا أن مصلى العيد وغيره إذا لم يكن مسجدا يكون في ثبوت حكم المسجد له وجهان أصحهما لا، وقال البخاري وغيره في رجم هذا بالمصلى دليل على أن مصلى الجنائز والأعياد إذا لم يوقف مسجدا لا يثبت له حكم المسجد إذ لو كان له حكم المسجد لاجتنب فيه ما يجتنب في المسجد. قلت: وهو كلام عياض بعينه وليس للبخاري منه سوى الترجمة. قوله: "حدثنا محمود" في رواية غير أبي ذر " حدثني " وللنسفي " محمود بن غيلان " وهو المروزي وقد أكثر البخاري عنه. قوله: "أخبرنا معمر" في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبد الرزاق " أنبأنا معمر وابن جريج " وكذا أخرجه مسلم عن إسحاق. قوله: "فاعترف بالزنا" زاد في رواية إسحاق " فأعرض عنه " أعادها مرتين. قوله: "فأمر به فرجم بالمصلى" ليس في رواية يونس " بالمصلى " وقد تقدمت في " باب رجم المحصن " وسيأتي في رواية عبد الرحمن بن خالد بلفظ كنت فيمن رجمه فرجمناه "بالمصلى". قوله: "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا" أي ذكره بجميل، ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم: "فما استغفر له ولا سبه " وفي حديث بريدة عنده " فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز، فلبثوا ثلاثا ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: استغفروا لماعز بن مالك " وفي حديث بريدة أيضا: "لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم " وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: "لقد رأيته بين أنهار الجنة ينغمس " قال يعني يتنعم كذا في الأصل، وفي حديث جابر عند أبي عوانة " فقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنة " وفي حديث اللجلاج عند أبي داود والنسائي: "ولا تقل له خبيث لهو عند الله أطيب من ريح المسك " وفي حديث أبي الفيل عند الترمذي " لا تشتمه " وفي حديث أبي ذر عند أحمد "قد غفر له وأدخل الجنة". قوله: "وصلى عليه" هكذا وقع هنا عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، وخالفه محمد بن يحيى الذهلي وجماعة عن عبد الرزاق فقالوا في آخره: "ولم يصل عليه " قال المنذري في حاشية السنن: رواه ثمانية أنفس عن عبد الرزاق فلم يذكروا قوله: "وصلى عليه " قلت: قد أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق ومسلم عن إسحاق بن راهويه وأبو داود عن محمد بن المتوكل العسقلاني وابن حبان من طريقه زاد أبو داود والحسن بن علي الخلال والترمذي عن الحسن بن علي المذكور، والنسائي وابن الجارود عن محمد بن يحيى الذهلي، زاد النسائي ومحمد بن رافع ونوح بن حبيب والإسماعيلي والدار قطني من طريق أحمد بن منصور الرمادي. زاد الإسماعيلي، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدبري ومحمد بن سهل الصغاني فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس خالفوا محمودا منهم من سكت عن الزيادة ومنهم من صرح بنفيها. قوله: "ولم يقال يونس وابن جريج عن الزهري: وصلى عليه" أما رواية يونس فوصلها المؤلف رحمه الله كما تقدم في " باب رجم المحصن " ولفظه: "فأمر به فرجم وكان قد أحصن" وأما رواية ابن جريج فوصلها مسلم مقرونة برواية معمر ولم يسق المتن وساقه إسحاق شيخ مسلم في مسنده وأبو نعيم من طريقه فلم يذكر فيه: "وصلى عليه". قوله: "سئل أبو عبد

(12/130)


الله هل قوله: "فصلى عليه" يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قبل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا" وقع هذا الكلام في رواية المستملي وحده عن الفربري، وأبو عبد الله هو البخاري، وقد اعترض عليه في جزمه بأن معمرا روى هذه الزيادة مع أن المنفرد بها إنما هو محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، وقد خالفه العدد الكثير من الحفاظ فصرحوا بأنه لم يصل عليه، لكن ظهر لي أن البخاري قويت عنده رواية محمود بالشواهد، فقد أخرج عبد الرزاق أيضا وهو في السنن لأبي قرة من وجه آخر عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف في قصة ماعز قال: "فقيل يا رسول الله أتصلي عليه؟ قال: لا. قال: فلما كان من الغد قال: صلوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس " فهذا الخبر يجمع الاختلاف فتحمل رواية النفي على أنه لم يصل عليه حين رجم، ورواية الإثبات على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه في اليوم الثاني، وكذا طريق الجمع لما أخرجه أبو داود عن بريدة " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالصلاة على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه " ويتأيد بما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة الجهنية التي زنت ورجمت " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها، فقال له عمر: أتصلي عليها وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم " وحكى المنذري قول من حمل الصلاة في الخبر على الدعاء، ثم قال: في قصة الجهنية دلالة على توهين هذا الاحتمال، قال: وكذا أجاب النووي فقال: إنه فاسد لأن التأويل لا يصار إليه إلا عند الاضطرار إليه ولا اضطرار هنا. وقال ابن العربي: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز، قال وأجاب من منع عن صلاته على الغامدية لكونها عرفت حكم الحد وماعز إنما جاء مستفهما، قال: وهو جواب واه، وقيل لأنه قتله غضبا لله وصلاته رحمة فتنافيا، قال: وهذا فاسد لأن الغضب انتهى، قال: ومحل الرحمة باق، والجواب المرضي أن الإمام حيث ترك الصلاة على المحدود كان ردعا لغيره. قلت: وتمامه أن يقال: وحيث صلى عليه يكون هناك قرينة لا يحتاج معها إلى الردع فيختلف حينئذ باختلاف الأشخاص، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فقال مالك: يأمر الإمام بالرجم ولا يتولاه بنفسه ولا يرفع عنه حتى يموت، ويخلي بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون عليه ولا يصلى عليه الإمام ردعا لأهل المعاصي إذا علموا أنه ممن لا يصلى عليه، ولئلا يجترئ الناس على مثل فعله. وعن بعض المالكية: يجوز للإمام أن يصلي عليه وبه قال الجمهور، والمعروف عن مالك أنه يكره للإمام وأهل الفضل الصلاة على المرجوم، وهو قول أحمد، وعن الشافعي لا يكره وهو قول الجمهور، وعن الزهري لا يصلى على المرجوم ولا على قاتل نفسه، وعن قتادة لا يصلى على المولود من الزنا وأطلق عياض فقال لم يختلف العلماء في الصلاة على أهل الفسق والمعاصي والمقتولين في الحدود وإن كره بعضهم ذلك لأهل الفضل إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة في المحاربين وما ذهب إليه الحسن في الميتة من نفاس الزنا وما ذهب إليه الزهري وقتادة، قال: وحديث الباب في قصة الغامدية حجة للجمهور والله أعلم.

(12/131)


26- باب: مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا دُونَ الْحَدِّ فَأَخْبَرَ الإِمَامَ فَلاَ عُقُوبَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا . قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَلَمْ يُعَاقِبْ الَّذِي جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يُعَاقِبْ عُمَرُ صَاحِبَ الظَّبْيِ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6821- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(12/131)


عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا"
6822- وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ "عَنْ عَائِشَةَ: "أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: احْتَرَقْتُ. قَالَ: مِمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ لَهُ: تَصَدَّقْ قَالَ. مَا عِنْدِي شَيْءٌ فَجَلَسَ، وَأَتَاهُ إِنْسَانٌ يَسُوقُ حِمَارًا وَمَعَهُ طَعَامٌ - قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، مَا أَدْرِي مَا هُوَ - إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟ فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنِّي؟ مَا لِأَهْلِي طَعَامٌ. قَالَ: فَكُلُوهُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْحَدِيثُ الأَوَّلُ أَبْيَنُ، قَوْلُهُ "أَطْعِمْ أَهْلَكَ"
قوله: "باب من أصاب ذنبا دون الحد فأخبر الإمام فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيا" كذا للأكثر بفاء ساكنة بعدها مثناة مكسورة ثم ياء آخر الحروف من الاستفتاء، ويؤيده قوله في حديث الباب: "فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية الكشميهني: "مستعينا " وضبطت بالمهملة وبالنون قبل الألف وبالمعجمة ثم المثلثة، والتقييد بدون الحد يقتضى أن من كان ذنبه يوجب الحد أن عليه العقوبة ولو تاب، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أوائل الحدود، وأما التقييد الأخير فلا مفهوم له بل الذي يظهر أنه ذكر لدلالته على توبته. قوله: "قال عطاء لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم" أي الذي أخبر أنه وقع في معصية بلا مهلة حتى صلى معه فأخبره بأن صلاته كفرت ذنبه. قوله: "وقال ابن جريج: ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع في رمضان" تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصيام وليس في شيء من طرقه أنه عاقبه. قوله: "ولم يعاقب عمر صاحب الظبي" كأنه أشار بذلك إلى ما ذكره مالك منقطعا ووصله سعيد بن منصور بسند صحيح عن قبيصة بن جابر قال: "خرجنا حجاجا فسنح لي ظبي فرميته بحجر فمات، فلما قدمنا مكة سألنا عمر فسأل عبد الرحمن بن عوف فحكما فيه بعنز، فقلت إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال فعلاني بالدرة فقال: أتقتل الصيد في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى :{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهذا عبد الرحمن بن عوف وأنا عمر " ولا يعارض هذا المنفي الذي في الترجمة لأن عمر إنما علاه بالدرة لما طعن في الحكم وإلا لو وجبت عليه عقوبة بمجرد الفعل المذكور لما أخرها. قوله: "وفيه عن أبي عثمان عن ابن مسعود" أي في معنى الحكم المذكور في الترجمة حديث مروي عن أبي عثمان عن ابن مسعود وزاد الكشميهني: "مثله " وهي زيادة لا حاجة إليها لأنه يصير ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب صاحب الظبي، ووقع في بعض النسخ "عن أبي مسعود" وهو غلط والصواب "ابن مسعود" وقد وصله المؤلف رحمه الله في أوائل كتاب الصلاة في " باب الصلاة كفارة " من رواية سليمان التيمي عن أبي عثمان به وأوله " إن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية وقد ذكرت شرحه في تفسير سورة هود، وأن الأصح في تسمية هذا الرجل أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، وأن نحو ذلك وقع لجماعة غيره. قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن" هو ابن عوف الزهري، وقد

(12/132)


تقدم شرح حديثه مستوفي في كتاب الصيام. قوله: "وقال الليث إلخ" وصله المصنف في التاريخ الصغير قال: "حدثني عبد الله بن صالح حدثني الليث به " ورويناه موصولا أيضا في الأوسط للطبراني والمستخرج للإسماعيلي. قوله: "عن عمرو بن الحارث" لليث فيه سند آخر أخرجه مسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن الليث عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقد مضى في الصيام من وجه آخر عن يحيى بن سعيد موصولا وأخرجه مسلم من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث. قوله: "عن عبد الرحمن بن القاسم" أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق "عن محمد بن جعفر بن الزبير" أي ابن العوام "عن عباد" وهو ابن عمه. ووقع في رواية ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه أن عباد بن عبد الله حدثه. قوله: "عن عائشة" في رواية ابن وهب "أنه سمع عائشة". قوله: "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد" زاد في رواية ابن وهب "في رمضان". قوله: "فقال احترقت" كررها ابن وهب. قوله: "قال مم ذاك" في رواية ابن وهب "فسأله عن شأنه". قوله: "قال ما عندي شيء" في رواية ابن وهب " فقال يا نبي الله مالي شيء وما أقدر عليه". قوله: "فجلس فأتاه إنسان" في رواية ابن وهب " قال اجلس فجلس فبينما هو على ذلك أقبل رجل". قوله: "ومعه طعام فقال عبد الرحمن" هو ابن القاسم راوي الحديث "ما أدري ما هو" مقول عبد الرحمن، وفي رواية الكشميهني: "قال: "بغير فاء ولم يقع هذا في رواية الليث، ووقع فيها عند الإسماعيلي: "عرقان فيهما طعام" وقال: "قال أبو صالح عن الليث عرق " وكذا قال عبد الوهاب يعني الثقفي ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد، قال الإسماعيلي: وعرقان ليس بمحفوظ. قوله: "أين المحترق" زاد ابن وهب "آنفا". قوله: "على أحوج مني" ؟ هو استفهام حذفت أداته، ووقع في رواية ابن وهب " أغيرنا " أي أعلى غيرنا. قوله: "ما لأهلي طعام" في رواية ابن وهب "إنا الجياع ما لنا شيء". قوله: "قال فكلوا" في رواية ابن وهب "قال فكلوه" وقد مضى شرحه في الصيام.

(12/133)


باب إذا أقر لالحد و لم يبين هل للامام أن يستر عليه
...
27- باب إِذَا أَقَرَّ بِالْحَدِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ؟
6823- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ وَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ. قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ قَالَ: حَدَّكَ"
قوله: "باب إذا أقر بالحد ولم يبين" أي لم يفسره "هل للإمام أن يستر عليه" تقدم في الباب الذي قبله التنبيه على حديث أبي أمامة في ذلك وهو يدخل في هذا المعنى. قوله: "حدثنا عبد القدوس بن محمد" أي ابن عبد الكبير بن شعيب بن الحبحاب بمهملتين مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة وآخره موحدة، هو بصري صدوق وماله في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وعمرو ابن عاصم هو الكلابي وهو من شيوخ البخاري أخرج عنه بغير واسطة في الأدب وغيره، وقد طعن الحافظ أبو بكر البرزنجي في صحة هذا الخبر مع كون الشيخين اتفقا عليه فقال هو منكر وهم

(12/133)


وفيه عمرو بن عاصم مع أن هماما كان يحيى بن سعيد لا يرضاه ويقول: أبان العطار أمثل منه، قلت: لم يبين وجه الوهم، وأما إطلاقه كونه منكرا فعلى طريقته في تسميته ما ينفرد به الراوي منكرا إذا لم يكن له متابع، لكن يجاب بأنه وإن لم يوجد لهمام ولا لعمرو بن عاصم فيه متابع فشاهده حديث أبي أمامة الذي أشرت إليه، ومن ثم أخرجه مسلم عقبه والله أعلم. قوله: "فجاء رجل فقال: إني أصبت حدا فأقمه على" لم أقف على اسمه، ولكن من وحد هذه القصة والتي في حديث ابن مسعود فسره به وليس بجيد لاختلاف القصتين، وعلى التعدد جرى البخاري في هاتين الترجمتين فحمل الأولى على من أقر بذنب دون الحد للتصريح بقوله: "غير أني لم أجامعها " وحمل الثانية على ما يوجب الحد ظاهر قول الرجل، وأما من وحد بين القصتين فقال لعله ظن ما ليس بحد حدا، أو استعظم الذي فعله فظن أنه يجب فيه الحد، ولحديث أنس شاهد أيضا من رواية الأوزاعي عن شداد أبي عمار عن وائلة. قوله: "ولم يسأل عنه" أي لم يستفسره، وفي حديث أبي أمامة عند مسلم: "فسكت عنه ثم عاد " قوله: "وحضرت الصلاة" في حديث أبي أمامة " وأقيمت " قوله: "أليس قد صليت معنا" في حديث أبي أمامة " أليس حيث خرجت من بيتك توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى. قال: ثم شهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم " قوله: "ذنبك أو قال حدك" في رواية مسلم عن الحسن بن علي الحلواني عن عمرو بن عاصم بسنده فيه: "قد غفر لك " وفي حديث أبي أمامة بالشك ولفظه: "فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك". وقد اختلف نظر العلماء في هذا الحكم، فظاهر ترجمة البخاري حمله على من أقر بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، وحمله الخطابي على أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع بالوحي على أن الله قد غفر له لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد ويقيمه عليه، وقال أيضا في هذا الحديث أنه لا يكشف عن الحدود بل يدفع مهما أمكن، وهذا الرجل لم يفصح بأمر يلزمه به إقامة الحد عليه فلعله أصاب صغيرة ظنها كبيرة توجب الحد فلم يكشفه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن موجب الحد لا يثبت بالاحتمال، وإنما لم يستفسره إما لأن ذلك قد يدخل في التجسيس المنهي عنه وإما إيثار للستر ورأى أن في تعرضه لإقامة الحد عليه ندما ورجوعا، وقد استحب العلماء تلقين من أقر بموجب الحد بالرجوع عنه إما بالتعريض وإما بأوضح منه ليدرأ عنه الحد، وجزم النووي وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر بدليل أن في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة بناء على أن الذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر، وهذا هو الأكثر الأغلب، وقد تكفر الصلاة بعض الكبائر كمن كثر تطوعه مثلا بحيث صلح لأن يكفر عددا كثيرا من الصغائر ولم يكن عليه من الصغائر شيء أصلا أو شيء يسير وعليه كبيرة واحدة مثلا فإنها تكفر عنه ذلك لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. قلت: وقد وقع في رواية أبي بكر البرزنجي عن محمد بن عبد الملك الواسطي عن عمرو بن عاصم بسند حديث الباب بلفظ: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي الحد " الحديث فحمله بعض العلماء على أنه ظن ما ليس زنا زنا فلذلك كفرت ذنبه الصلاة، وقد يتمسك به من قال إنه إذا جاء تائبا سقط عنه الحد، ويحتمل أن يكون الراوي عبر بالزنا من قوله أصبت حدا فرواه بالمعنى الذي ظنه والأصل ما في الصحيح فهو الذي اتفق عليه الحفاظ عن عمرو ابن عاصم بسنده المذكور، ويحتمل أن يختص ذلك بالمذكور لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر عنه حده بصلاته، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي فلا يستمر الحكم في غيره إلا في من علم أنه مثله في ذلك وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك بظاهره

(12/134)


صاحب الهدى فقال للناس في حديث أبي أمامة - يعني المذكور قبل - ثلاث مسالك: أحدها أن الحد لا يجب إلا بعد تعيينه والإصرار عليه من المقر به، والثاني أن ذلك يختص بالرجل المذكور في القصة، والثالث أن الحد يسقط بالتوبة، قال: وهذا أصح المسالك، وقواه بأن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا بخشية الله وحده تقاوم السيئة التي عملها، لأن حكمة الحدود الردع عن العود، وصنيعه ذلك دال على ارتداعه فناسب رفع الحد عنه لذلك والله أعلم.

(12/135)


28- باب هَلْ يَقُولُ الإِمَامُ لِلْمُقِرِّ: لَعَلَّكَ لَمَسْتَ أَوْ غَمَزْتَ؟
6824- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ - لاَ يَكْنِي – قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ"
قوله: "باب هل يقول الإمام للمقر" أي بالزنا "لعلك لمست أو غمزت" هذه الترجمة معقودة لجواز تلقين الإمام المقر بالحد ما يدفعه عنه، وقد خصه بعضهم بمن يظن به أنه أخطأ أو جهل. قوله: "سمعت يعلى بن حكيم" في رواية موسى بن إسماعيل عند أبي داود عن جرير بن حازم " حدثنا يعلى " ولم يسم أباه في روايته فظن بعضهم أنه ابن مسلم وليس كذلك للتصريح في إسناد هذا الباب بأنه ابن حكيم. قوله: "عن ابن عباس" لم يذكره موسى في روايته بل أرسله وأشار إلى ذلك أبو داود، وكان البخاري لم يعتبر هذه العلة لأن وهب بن جرير وصله وهو أخبر بحديث أبيه من غيره، ولأنه ليس دون موسى في الحفظ، ولأن أصل الحديث معروف عن ابن عباس فقد أخرجه أحمد وأبو داود من رواية خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قوله: "لما أتى ماعز بن مالك" في رواية خالد الحذاء " إن ماعز بن مالك أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه زنى فأعرض عنه، فأعاد عليه مرار، فسأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا ليس به بأس " وسنده على شرط البخاري، وذكر الطبراني في "الأوسط" أن يزيد بن زريع تفرد به عن خالد الحذاء. قوله: "قال له لعلك قبلت" حذف المفعول للعلم به أي المرأة المذكورة ولم يعين محل التقبيل وقوله: "أو غمزت " بالغين المعجمة والزاي أي بعينك أو يدك أي أشرت " أو المراد بغمزت بيدك الجس أو وضعها على عضو الغير، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "لمست " بدل " غمزت " وقد وقع في رواية يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عند الإسماعيلي بلفظ: "لعلك قبلت أو لمست". قوله: "أو نظرت" أي فأطلقت على أي واحدة فعلت من الثلاث زنا ففيه إشارة إلى الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة "العين تزني وزناها النظر" وفي بعض طرقه عندهما أو عند أحدهما ذكر اللسان واليد والرجل والأذن، زاد أبو داود والفم، وعندهم "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وفي الترمذي وغيره عن أبي موسى الأشعري رفعه: "كل عين زانية". قوله: "أنكتها" بالنون والكاف "لا يكنى" أي تلفظ بالكلمة المذكورة ولم يكن عنها بلفظ آخر، وقد وقع في رواية خالد بلفظ: "أفعلت بها" وكأن هذه الكناية صدرت منه أو من شيخه للتصريح في رواية الباب بأنه لم يكن، وقد تقدم في حديث أبي هريرة

(12/135)


الذي تقدمت الإشارة إلى أن أبا داود أخرجه في "باب لا يرجم المجنون" زيادات في هذه الألفاظ. قوله: "فعند ذلك أمر برجمه" زاد خالد الحذاء في روايته: "فانطلق به فرجم ولم يصل عليه".

(12/136)


29- باب: سُؤَالِ الإِمَامِ الْمُقِرَّ: هَلْ أَحْصَنْتَ؟
6825- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: "أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ - يُرِيدُ نَفْسَهُ - فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ لِشِقِّ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ"
6826- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ، حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ"
قوله: "باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت" أي تزوجت ودخلت بها وأصبتها. قوله: "رجل من الناس" أي ليس من أكابر الناس ولا بالمشهور فيهم. قوله: "زنيت يريد نفسه" أي أنه لم يجيء مستفتيا لنفسه ولا لغيره وإنما جاء مقرا بالزنا ليفعل معه ما يجب عليه شرعا، وقد تقدمت فوائد الحديث المذكور فيه في " باب لا يرجم المجنون " قال ابن التين: محل مشروعية سؤال المقر بالزنا عن ذلك إذا كان لم يعلم أنه تزوج تزويجا صحيحا ودخل بها، فأما إذا علم إحصانه فلا يسأل عن ذلك. ثم حكى عن المالكية تفصيلا فيما إذا علم أنه تزوج ولم يسمع منه إقرارا بالدخول فقيل: من أقام مع الزوجة ليلة واحدة لم يقبل إنكاره، وقيل أكثر من ذلك. وهل يحد حد الثيب أو البكر؟ الثاني أرجح، وكذا إذا اعترف الزوج بالإصابة. ثم قال: إنما اعترفت بذلك لأملك الرجعة أو اعترفت المرأة ثم قالت: إنما فعلت ذلك لأستكمل الصداق، فإن كلا منهما يحد حد البكر انتهى. وعند غيرهم يرفع الحد أصلا. ونقل الطحاوي عن أصحابهم أن من قال لآخر يا زاني فصدقه أنه يجلد القائل ولا يحد المصدق. وقال زفر بل يحد، قلت: وهو قول الجمهور، ورجح الطحاوي قول زفر واستدل بحديث الباب وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز " أحق ما بلغني عنك أنك زنيت؟ قال: نعم، فحده " قال وباتفاقهم على أن من قال لآخر لي عليك ألف فقال صدقت أنه يلزمه المال.
30- باب: الِاعْتِرَافِ بِالزِّنَا
6827 ، 6828- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ قَالاَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ: رَجُلٌ فَقَالَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ

(12/136)


بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ فَقَالَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي قَالَ قُلْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ، عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا" قُلْتُ لِسُفْيَانَ: لَمْ يَقُلْ "فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ" فَقَالَ: الشَّكُّ فِيهَا مِنْ الزُّهْرِيِّ، فَرُبَّمَا قُلْتُهَا وَرُبَّمَا سَكَتُّ
6829- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عُمَرُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَمَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. قَالَ سُفْيَانُ: كَذَا حَفِظْتُ، أَلاَ وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ"
قوله: "باب الاعتراف بالزنا" هكذا عبر بالاعتراف لوقوعه في حديثي الباب، وقد تقدم في شرح قصة ماعز البحث في أنه هل يشترط في الإقرار بالزنا التكرير أو لا؟ واحتج من اكتفى بالمرة بإطلاق الاعتراف في الحديث ولا يعارض ما وقع في قصة ماعز من تكرار الاعتراف لأنها واقعة حال كما تقدم. قوله "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "حفظناه من في الزهري" في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا الزهري " وفي رواية عبد الجبار ابن العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي: "سمعت الزهري". قوله: "أخبرني عبيد الله" زاد الحميدي " ابن عبد الله بن عتبة". قوله: "أنه سمع أبا هريرة وزيد بن خالد" في رواية الحميدي " عن زيد بن خالد الجهني وأبي هريرة وشبل " وكذا قال أحمد وقتيبة عند النسائي وهشام بن عمار وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح عند ابن ماجه وعمرو بن علي وعبد الجبار بن العلاء والوليد بن شجاع وأبو خيثمة ويعقوب الدورقي وإبراهيم ابن سعيد الجوهري عند الإسماعيلي وآخرون عن سفيان. وأخرجه الترمذي عن نصر بن علي وغير واحد عن سفيان ولفظه: "سمعت من أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل لأنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الترمذي: هذا وهم من سفيان، وإنما روى عن الزهري بهذا السند حديث: "إذا زنت الأمة " فذكر فيه شبلا، وروى حديث الباب بهذا السند ليس فيه شبل فوهم سفيان في تسويته بين الحديثين. قلت: وسقط ذكر شبل من رواية الصحيحين من طريقه لهذا الحديث، وكذا أخرجاه من طرق عن الزهري: منها عن مالك والليث وصالح بن كيسان، وللبخاري من رواية ابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة، ولمسلم من رواية يونس بن يزيد ومعمر كلهم عن الزهري ليس فيه شبل، قال الترمذي وشبل لا صحبة له، والصحيح ما روى الزبيدي ويونس وابن أخي الزهري فقالوا عن الزهري " عن عبيد الله عن شبل بن خالد عن عبد الله بن مالك الأوسي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا زنت". قلت: ورواية الزبيدي عند النسائي، وكذا أخرجه من رواية يونس عن الزهري، وليس هو في الكتب الستة من هذا الوجه إلا عند النسائي، وليس فيه: "كنت

(12/137)


عند النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية شعيب " بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية ابن أبي ذئب " وهو جالس في المسجد". قوله: "فقام رجل" في رواية ابن أبي ذئب الآتية قريبا وصالح بن كيسان الآتية في الأحكام والليث الماضية في الشروط " إن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس " وفي رواية شعيب في الأحكام " إذ قام رجل من الأعراب " وفي رواية مالك الآتية قريبا " إن رجلين اختصما". قوله: "أنشدك الله" في رواية الليث " فقال يا رسول الله أنشدك الله " بفتح أوله ونون ساكنة وضم الشين المعجمة أي أسألك بالله، وضمن أنشدك معنى أذكرك فحذف الباء أي أذكرك رافعا نشيدتي أي صوتي، هذا أصله ثم استعمل في كل مطلوب مؤكد ولو لم يكن هناك رفع صوت، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل رفع الرجل صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم مع النهي عنه ثم أجاب عنه بأنه لم يبلغه النهي لكونه أعرابيا، أو النهي لمن يرفعه حيث يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم على ظاهر الآية. وذكر أبو علي الفارسي أن بعضهم رواه بضم الهمزة وكسر المعجمة وغلطه. قوله: "إلا قضيت بيننا بكتاب الله" في رواية الليث " إلا قضيت لي بكتاب الله " قيل فيه استعمال الفعل بعد الاستثناء بتأويل المصدر وإن لم يكن فيه حرف مصدري لضرورة افتقار المعنى إليه، وهو من المواضع التي يقع فيها الفعل موقع الاسم ويراد به النفي المحصور فيه المفعول، والمعنى هنا لا أسألك إلا القضاء بكتاب الله، ويحتمل أن تكون إلا جواب القسم لما فيها من معنى الحصر وتقديره أسألك بالله لا تفعل شيئا إلا القضاء، فالتأكيد إنما وقع لعدم التشاغل بغيره لا لأن لقوله: "بكتاب الله " مفهوما، وبهذا يندفع إيراد من استشكل فقال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم إلا بكتاب الله فما فائدة السؤال والتأكيد في ذلك؟ ثم أجاب بأن ذلك من جفاة الأعراب والمراد بكتاب الله ما حكم به وكتب على عباده، وقيل المراد القرآن وهو المتبادر. وقال ابن دقيق العيد: الأول أولى لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين في القرآن إلا بواسطة أمر الله باتباع رسوله، قيل وفيما قال نظر لاحتمال أن يكون المراد ما تضمنه قوله تعالى :{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن السبيل جلد البكر ونفيه ورجم الثيب. قلت: وهذا أيضا بواسطة التبيين، ويحتمل أن يراد بكتاب الله الآية التي نسخت تلاوتها وهي " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما " وسيأتي بيانه في الحديث الذي يليه، وبهذا أجاب البيضاوي ويبقى عليه التغريب، وقيل المراد بكتاب الله ما فيه من النهي عن أكل المال بالباطل لأني خصمه كان أخذ منه الغنم والوليدة بغير حق فلذلك قال: "الغنم والوليدة رد عليك". والذي يترجح أن المراد بكتاب الله ما يتعلق بجميع أفراد القصة مما وقع به الجواب الآتي ذكره، والعلم عند الله تعالى. قوله: "فقام خصمه وكان أفقه منه" في رواية مالك " فقال الآخر وهو أفقههما " قال شيخنا في "شرح الترمذي" يحتمل أن يكون الراوي كان عارفا بهما قبل أن يتحاكما فوصف الثاني بأنه أفقه من الأول إما مطلقا وإما في هذه القصة الخاصة، أو استدل بحسن أدبه في استئذانه وترك رفع صوته إن كان الأول رفعه وتأكيده السؤال على فقهه، وقد ورد أن حسن السؤال نصف العلم، وأورده ابن السني في " كتاب رياضة المتعلمين " حديثا مرفوعا بسند ضعيف. قوله: "فقال اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي" في رواية مالك " فقال أجل " وفي رواية الليث " فقال نعم فاقض " وفي رواية ابن أبي ذئب وشعيب " فقال صدق اقض له يا رسول الله بكتاب الله". قوله: "وائذن لي" زاد ابن أبي شيبة عن سفيان "حتى أقول" وفي رواية مالك "أن أتكلم". قوله: "قل" في رواية محمد بن يوسف "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قل" وفي رواية مالك "قال تكلم". قوله: "قال" ظاهر

(12/138)


السياق أن القائل هو الثاني، وجزم الكرماني بأن القائل هو الأول واستند في ذلك لما وقع في كتاب الصلح عن آدم عن ابن أبي ذئب هنا " فقال الأعرابي إن ابني " بعد قوله في أول الحديث: "جاء أعرابي، وفيه: "فقال خصمه " وهذه الزيادة شاذة والمحفوظ ما في سائر الطرق كما في رواية سفيان في هذا الباب، وكذا وقع في الشروط عن عاصم بن علي عن ابن أبي ذئب موافقا للجماعة ولفظه: "فقال صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني إلخ " فالاختلاف فيه على ابن أبي ذئب، وقد وافق آدم أبو بكر الحنفي عند أبي نعيم في " المستخرج " ووافق عاصما يزيد بن هارون عند الإسماعيلي. قوله: "إن ابني هذا" فيه أن الابن كان حاضرا فأشار إليه، وخلا معظم الروايات عن هذه الإشارة. قوله: "كان عسيفا على هذا" هذه الإشارة الثانية لخصم المتكلم وهو زوج المرأة، زاد شعيب في روايته: "والعسيف الأجير " وهذا التفسير مدرج في الخبر، وكأنه من قول الزهري لما عرف من عادته أنه كان يدخل كثيرا من التفسير في أثناء الحديث كما بينته في مقدمة كتابي في المدرج، وقد فصله مالك فوقع في سياقه، " كان عسيفا على هذا. قال مالك: والعسيف الأجير " وحذفها سائر الرواة، والعسيف بمهملتين الأجير وزنه ومعناه والجمع عسفاء كأجراء، ويطلق أيضا على الخادم وعلى العبد وعلى السائل، وقيل يطلق على من يستهان به، وفسره عبد الملك بن حبيب بالغلام الذي لم يحتلم، وإن ثبت ذلك فإطلاقه على صاحب هذه القصة باعتبار حاله في ابتداء الاستئجار. ووقع في رواية للنسائي تعيين كونه أجيرا، ولفظه من طريق عمرو بن شعيب عن ابن شهاب " كان ابني أجيرا لامرأته " وسمي الأجير عسيفا لأن المستأجر يعسفه في العمل والعسف الجور، أو هو بمعنى الفاعل لكونه يعسف الأرض بالتردد فيها، يقال عسف الليل عسفا إذا أكثر السير فيه، ويطلق العسف أيضا على الكفاية، والأجير يكفي المستأجر الأمر الذي أقامه فيه. قوله: "على هذا" ضمن على معنى عند بدليل رواية عمرو بن شعيب، وفي رواية محمد بن يوسف " عسيفا في أهل هذا " وكأن الرجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته من الأمور فكان ذلك سببا لما وقع له معها. قوله: "فزنى بامرأته فافتديت" زاد الحميدي عن سفيان " فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت " وقد ذكر على بن المديني رواية في آخره هنا أن سفيان كان يشك في هذه الزيادة فربما تركها، وغالب الرواة عنه كأحمد ومحمد بن يوسف وابن أبي شيبة لم يذكروها وثبتت عند مالك والليث وابن أبي ذئب وشعيب وعمرو بن شعيب، ووقع في رواية آدم " فقالوا لي على ابنك الرجم " وفي رواية الحميدي فأخبرت، بضم الهمزة على البناء للمجهول. وفي رواية أبي بكر الحنفي " فقال لي " بالإفراد، وكذا عند أبي عوانة من رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، فإن ثبتت فالضمير في قوله فافتديت منه لخصمه، وكأنهم ظنوا أن ذلك حق له يستحق أن يعفو عنه على مال يأخذه، وهذا ظن باطل، ووقع في رواية عمرو بن شعيب " فسألت من لا يعلم فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه". قوله: "بمائة شاة وخادم" المراد بالخادم الجارية المعدة للخدمة بدليل رواية مالك بلفظ: "وجارية لي " وفي رواية ابن أبي ذئب وشعيب " بمائة من الغنم ووليدة " وقد تقدم تفسير الوليدة في أواخر الفرائض. قوله: "ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني" لم أقف على أسمائهم ولا على عددهم ولا على اسم الخصمين ولا الابن ولا المرأة. وفي رواية مالك وصالح بن كيسان وشعيب " ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني " ومثله لابن أبي ذئب لكن قال: "فزعموا" وفي رواية معمر " ثم أخبرني أهل العلم " وفي رواية عمرو بن شعيب "ثم سألت من يعلم". قوله: "أن على ابني" في رواية مالك " إنما على ابني". قوله: "جلد مائة" بالإضافة للأكثر، وقرأه

(12/139)


بعضهم بتنوين جلد مرفوع وتنوين مائة منصوب على التمييز ولم يثبت رواية. قوله: "وعلى امرأة هذا الرجم" في رواية مالك والأكثر " وإنما الرجم على امرأته " وفي رواية عمرو ابن شعيب " فأخبروني أن ليس على ابني الرجم". قوله: "والذي نفسي بيده" في رواية مالك " أما والذي". قوله: "لأقضين" بتشديد النون للتأكيد. قوله: "بكتاب الله" في رواية عمرو بن شعيب " بالحق " وهي ترجح أول الاحتمالات الماضي ذكرها. قوله: "المائة شاة والخادم رد" في رواية الكشميهني: "عليك " وكذا في رواية مالك ولفظه: "أما غنمك وجاريتك فرد عليك " أي مردود من إطلاق لفظ المصدر على اسم المفعول كقولهم ثوب نسج أي منسوج. ووقع في رواية صالح بن كيسان " أما الوليدة والغنم فردها " وفي رواية عمرو بن شعيب " أما ما أعطيته فرد عليك " فإن كان الضمير في أعطيته لخصمه تأيدت الرواية الماضية وإن كان للعطاء فلا. قوله: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" قال النووي: هو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن الابن كان بكرا وأنه اعترف بالزنا، ويحتمل أن يكون أضمر اعترافه والتقدير وعلى ابنك إن اعترف، والأول أليق فإنه كان في مقام الحكم، فلو كان في مقام الإفتاء لم يكن فيه إشكال لأن التقدير إن كان زنى وهو بكر، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه وسكوته عما نسبه إليه، وأما العلم بكونه بكرا فوقع صريحا من كلام أبيه في رواية عمرو بن شعيب ولفظه: "كان ابني أجيرا لامرأة هذا وابني لم يحصن". قوله: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" وافقه الأكثر، ووقع في رواية عمرو بن شعيب " وأما ابنك فنجلده مائة ونغربه سنة " وفي رواية مالك وصالح بن كيسان " وجلد ابنه مائة وغربه عاما " وهذا ظاهر في أن الذي صدر حينئذ كان حكما لا فتوى، بخلاف رواية سفيان ومن وافقه. قوله: "واغد يا أنيس" بنون ومهملة مصغر "على امرأة هذا" زاد محمد بن يوسف: فاسألها، قال ابن السكن في كتاب الصحابة: لا أدري من هو ولا وجدت له رواية ولا ذكرا إلا في هذا الحديث، وقال ابن عبد البر: هو ابن الضحاك الأسلمي وقيل ابن مرثد وقيل ابن أبي مرثد، وزيفوا الأخير بأن أنيس ابن أبي مرثد صحابي مشهور وهو غنوي بالغين المعجمة والنون لا أسلمي وهو بفتحتين لا التصغير، وغلط من زعم أيضا أنه أنس بن مالك وصغر كما صغر في رواية أخرى عند مسلم لأنه أنصاري لا أسلمي، ووقع في رواية شعيب وابن أبي ذئب " وأما أنت يا أنيس - لرجل من أسلم - فاغد " وفي رواية مالك ويونس وصالح ابن كيسان " وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر " وفي رواية معمر " ثم قال لرجل من أسلم يقال له أنيس قم يا أنيس فسل امرأة هذا " وهذا يدل على أن المراد بالغدو الذهاب والتوجه كما يطلق الرواح على ذلك، وليس المراد حقيقة الغدو وهو التأخير إلى أول النهار كما لا يراد بالرواح التوجه نصف النهار، وقد حكى عياض أن بعضهم استدل به على جواز تأخر إقامة الحد عند ضيق الوقت واستضعفه بأنه ليس في الخبر أن ذلك كان في آخر النهار. قوله: "فإن اعترفت فارجمها" في رواية يونس " وأمر أنيسا الأسلمي أن يرجم امرأة الآخر إذ اعترفت". قوله: "فغدا عليها فاعترفت فرجمها" كذا للأكثر، ووقع في رواية الليث " فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت " واختصره ابن أبي ذئب فقال: "فغدا عليها فرجمها " ونحوه في رواية صالح ابن كيسان، وفي رواية عمرو بن شعيب " وأما امرأة هذا فترجم " ورواية الليث أتمها لأنها تشعر بأن أنيسا أعاد جوابها عل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر حينئذ برجمها ويحتمل أن يكون المراد أمره الأول المعلق على اعترافها فيتحد مع رواية الأكثر وهو أولى. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الرجوع إلى كتاب الله نصا أو استنباطا، وجواز القسم على الأمر لتأكيده، والحلف بغير استحلاف، وحسن

(12/140)


خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه على من يخاطبه بما الأولى خلافه، وأن من تأسى به من الحكام في ذلك يحمد كمن لا ينزعج لقول الخصم مثلا احكم بيننا بالحق. وقال البيضاوي: إنما تواردا على سؤال الحكم بكتاب الله مع أنهما يعلمان أنه لا يحكم إلا بحكم الله ليحكم بينهما بالحق الصرف لا بالمصالحة ولا الأخذ بالأرفق، لأن للحاكم أن يفعل ذلك برضا الخصمين. وفيه أن حسن الأدب في مخاطبة الكبير يقتضي التقديم في الخصومة ولو كان المذكور مسبوقا، وأن للإمام أن يأذن لمن شاء من الخصمين في الدعوى إذا جاءا معا وأمكن أن كلا منهما يدعى، واستحباب استئذان المدعي والمستفتي الحاكم والعالم في الكلام، ويتأكد ذلك إذا ظن أن له عذرا. وفيه أن من أقر بالحد وجب على الإمام إقامته عليه ولو لم يعترف مشاركه في ذلك، وأن من قذف غيره لا يقام عليه الحد إلا إن طلبه المقذوف، خلافا لابن أبي ليلى فإنه قال يجب ولو لم يطلب المقذوف. قلت: وفي الاستدلال به نظر، لأن محل الخلاف إذا كان المقذوف حاضرا، وأما إذا كان غائبا كهذا فالظاهر أن التأخير لاستكشاف الحال. فإن ثبت في حق المقذوف فلا حد على القاذف كما في هذه القصة، وقد قال النووي تبعا لغيره أن سبب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا للمرأة ليعلمها بالقذف المذكور لتطالب بحد قاذفها إن أنكرت، قال: هكذا أوله العلماء من أصحابنا وغيرهم ولا بد منه لأن ظاهره أنه بعث يطلب إقامة حد الزنا وهو غير مراد لأن حد الزنا لا يحتاط له بالتجسس والتنقيب عنه بل يستحب تلقين المقر به ليرجع كما تقدم في قصة ماعز وكأن لقوله: "فإن اعترفت " مقابلا أي وإن أنكرت فأعلمها أن لها طلب حد القذف فحذف لوجود الاحتمال. فلو أنكرت وطلبت لأجيبت. وقد أخرج أبو داود والنسائي من طريق سعيد بن المسيب عن ابن عباس " أن رجلا أقر بأنه زنى بامرأة فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة " ثم سأل المرأة فقالت كذب فجلده حد الفرية ثمانين وقد سكت عليه أبو داود وصححه الحاكم واستنكره النسائي. وفيه أن المخدرة التي لا تعتاد البروز لا تكلف الحضور لمجلس الحكم بل يجوز أن يرسل إليها من يحكم لها وعليها، وقد ترجم النسائي لذلك. وفيه أن السائل يذكر كل ما وقع في القصة لاحتمال أن يفهم المفتي أو الحاكم من ذلك ما يستدل به على خصوص الحكم في المسألة لقول السائل إن ابني كان عسيفا على هذا، وهو إنما جاء يسأل عن حكم الزنا، والسر في ذلك أنه أراد أن يقيم لابنه معذرة ما وأنه لم يكن مشهورا بالعهر ولم يهجم على المرأة مثلا ولا استكرهها، وإنما وقع له ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس والإدلال، فيستفاد منه الحث على إبعاد الأجنبي من الأجنبية مهما أمكن، لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد ويتسور بها الشيطان إلى الإفساد. وفيه جواز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، والرد على من منع التابعي أن يفتي مع وجود الصحابي مثلا. وفيه جواز الاكتفاء في الحكم بالأمر الناشئ عن الظن مع القدرة على اليقين، لكن إذا اختلفوا على المستفتي يرجع إلى ما يفيد القطع وإن كان في ذلك العصر الشريف من يفتي بالظن الذي لم ينشأ عن أصل، ويحتمل أن يكون وقع ذلك من المنافقين أو من قرب عهده بالجاهلية فأقدم على ذلك. وفيه أن الصحابة كانوا يفتون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي بلده، وقد عقد محمد ابن سعد في الطبقات بابا لذلك وأخرج بأسانيد فيها الواقدي أن منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن ابن عوف وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت. وفيه أن الحكم المبني على الظن ينقض بما يفيد القطع. وفيه أن الحد لا يقبل الفداء، وهو مجمع عليه في الزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر، واختلف في القذف والصحيح أنه كغيره وإنما يجري الفداء في البدن كالقصاص في النفس والأطراف. وأن الصلح المبني على غير الشرع يرد ويعاد المال المأخوذ فيه،

(12/141)


قال ابن دقيق العيد: وبذلك يتبين ضعف عذر من اعتذر من الفقهاء عن بعض العقود الفاسدة بأن المتعاوضين تراضيا وأذن كل منهما للآخر في التصرف، والحق أن الإذن في التصرف مقيد بالعقود الصحيحة. وفيه جواز الاستنابة في إقامة الحد، واستدل به على وجوب الإعذار والاكتفاء فيه بواحد، وأجاب عياض باحتمال أن يكون ذلك ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة هذين الرجلين، كذا قال والذي تقبل شهادته من الثلاثة والد العسيف فقط وأما العسيف والزوج فلا، وغفل بعض من تبع القاضي فقال: لا بد من هذا الحمل وإلا لزم الاكتفاء بشهادة واحد في الإقرار بالزنا ولا قائل به، ويمكن الانفصال عن هذا بأن أنيس بعث حاكما فاستوفى شروط الحكم ثم استأذن في رجمها فأذن له في رجمها، وكيف يتصور من الصورة المذكورة إقامة الشهادة عليها من غير تقدم دعوى عليها ولا على وكيلها مع حضورها في البلد غير متوارية، إلا أن يقال إنها شهادة حسبة، ويجاب بأنه لم يقع هناك صيغة الشهادة المشروطة في ذلك. واستدل به على جواز الحكم بإقرار الجاني من غير ضبط بشهادة عليه، ولكنها واقعة عين فيحتمل أن يكون أنيس أشهد قبل رجمها. قال عياض: احتج قوم بجواز حكم الحاكم في الحدود وغيرها بما أقر به الخصم عنده وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أبو ثور، وأبى ذلك الجمهور، والخلاف في غير الحدود أقوى، قال وقصة أنيس يطرقها احتمال معنى الإعذار كما مضى، وأن قوله: "فارجمها " أي بعد إعلامي، أو أنه فوض الأمر إليه فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك بقولهم تحكم، وقد دل قوله: "فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت " أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم فيها بعد أن أعلمه أنيس باعترافها، كذا قال، والذي يظهر أن أنيسا لما اعترفت أعلم النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة في الاستثبات، مع كونه كان علق له رجمها على اعترافها. واستدل به على أن حضور الإمام الرجل ليس شرطا، وفيه نظر لاحتمال أن أنيسا كان حاكما وقد حضر - بل باشر - الرجم لظاهر قوله: "فرجمها". وفيه ترك الجمع بين الجلد والتغريب، وسيأتي في " باب البكران يجلدان وينفيان " وفيه الاكتفاء بالاعتراف بالمرة الواحدة لأنه لم ينقل أن المرأة تكرر اعترافها، والاكتفاء بالرجم من غير جلد لأنه لم ينقل في قصتها أيضا، وفيه نظر لأن الفعل لا عموم له فالترك أولى. وفيه جواز استئجار الحر. وجواز إجارة الأب ولده الصغير لمن يستخدمه إذا احتاج لذلك. واستدل به على صحة دعوى الأب لمحجوره ولو كان بالغا لكون الولد كان حاضرا ولم يتكلم إلا أبوه، وتعقب باحتمال أن يكون وكيله أو لأن التداعي لم يقع إلا بسبب المال الذي وقع به الفداء فكأن والد العسيف ادعى على زوج المرأة بما أخذه منه إما لنفسه وإما لامرأته بسبب ذلك حين أعلمه أهل العلم بأن ذلك الصلح فاسد ليستعيده منه سواء كان من ماله أو من مال ولده، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برد ذلك إليه، وأما ما وقع في القصة من الحد فباعتراف العسيف ثم المرأة. وفيه أن حال الزانيين إذا اختلفا أقيم على كل واحد حده لأن العسيف جلد والمرأة رجمت، فكذا لو كان أحدهما حرا والآخر رقيقا، وكذا لو زنى بالغ بصبية أو عاقل بمجنونة حد البالغ والعاقل دونهما، وكذا عكسه. وفيه أن من قذف ولده لا يحد له لأن الرجل قال إن ابني زنى ولم يثبت عليه حد القذف. قوله: "عن الزهري" صرح الحميدي فيه بالتحديث عن سفيان قال: "أتينا - يعني الزهري - فقال إن شئتم حدثتكم بعشرين حديثا أو حدثتكم بحديث السقيفة، فقالوا: حدثنا بحديث السقيفة " فحدثهم به بطوله، فحفظت منه شيئا ثم حدثني ببقيته بعد ذلك معمر. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير هو المذكور في الحديث قبله: ووقع عند أبي عوانة في رواية يونس عن الزهري "أخبرني عبيد الله". قوله: "عن ابن عباس قال: قال عمر"

(12/142)


في رواية محمد بن منصور عن سفيان عند النسائي: "سمعت عمر". قوله: "لقد خشيت إلخ" هو طرف من الحديث ويأتي بتمامه في الباب الذي يليه، والغرض منه هنا قوله: "ألا وإن الرجم حق " إلخ. قوله: "قال سفيان" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "كذا حفظت" هذه جملة معترضة بين قوله: "أو الاعتراف " وبين قوله: "وقد رجم " وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه فقال بعد قوله أو الاعتراف " وقد قرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده " فسقط من رواية البخاري من قوله: "وقرأ: { إلى قوله: "البتة " ولعل البخاري وهو الذي حذف ذلك عمدا، فقد أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر ثم قال: "لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث الشيخ والشيخة غير سفيان " وينبغي أن يكون وهم في ذلك - قلت: وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلا يذكروها، وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: "لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة خطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة - ثم قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". قال مالك: الشيخ والشيخة الثيب والثيبة. ووقع في " الحلية " في ترجمة داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن عمر " لكتبتها في آخر القرآن " ووقعت أيضا في هذا الحديث في رواية أبي معشر الآتي التنبيه عليها في الباب الذي يليه، فقال متصلا بقوله قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده " ولولا أن يقولوا كتب عمر ما ليس في كتاب الله لكتبته، قد قرأناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " وأخرج هذه الجملة النسائي وصححه الحاكم من حديث أبي بن كعب قال: "ولقد كان فيها - أي سورة الأحزاب - آية الرجم: الشيخ " فذكر مثله. ومن حديث زيد بن ثابت "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة" مثله إلى قوله: "البتة" ومن رواية أبي أسامة بن سهل أن خالته أخبرته قالت: "لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم " فذكره إلى قوله: "البتة " وزاد: "بما قضيا من اللذة " وأخرج النسائي أيضا أن مروان بن الحاكم قال لزيد بن ثابت " ألا تكتبها، في المصحف؟ قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان؟ ولقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله أكتبني آية الرجم، قال لا أستطيع " وروينا في فضائل القرآن لابن الضريس من طريق يعلى وهو ابن حكيم عن زيد بن أسلم " أن عمر خطب الناس فقال: لا تشكوا في الرجم فإنه حق، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف فسألت أبي بن كعب فقال: أليس إنني وأنا أستقرئها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدري وقلت أستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الخمر " ورجاله ثقات. وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها وهو الاختلاف، وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان في المصحف فمرا على هذه الآية فقال زيد " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم" فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها.

(12/143)


باب الاعتراف بالزنا
باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت
...
31- باب: رَجْمِ الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ
6830- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ "مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلاَنٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَنًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ فَلْتَةً فَتَمَّتْ فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ وَأَنْ لاَ يَعُوهَا وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي عُقْبِ ذِي الْحَجَّةِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلًا قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لاَ أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لاَ يَعْقِلَهَا فَلاَ أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَلاَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلاَنًا، فَلاَ يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ

(12/144)


أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً، وَتَمَّتْ أَلاَ وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يُبَايَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الأَنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاَءِ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلاَنِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا مَا تَمَالاَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَقَالاَ أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَقُلْنَا نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاَءِ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالاَ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَقْرَبُوهُمْ اقْضُوا أَمْرَكُمْ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقُلْتُ مَا لَهُ قَالُوا يُوعَكُ فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلًا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الإِسْلاَمِ وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنْ الأَمْرِ فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِسْلِكَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلاَّ قَالَ فِي بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا حَتَّى سَكَتَ فَقَالَ مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لاَ يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ تُسَوِّلَ إِلَيَّ نَفْسِي عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لاَ أَجِدُهُ الْآنَ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الأَنْصَارِ أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنْ الِاخْتِلاَفِ فَقُلْتُ ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأَنْصَارُ وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقُلْتُ قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ عُمَرُ وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لاَ نَرْضَى وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يُتَابَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ"
قوله: "باب رجم الحبلى في الزنا" في رواية غير أبي ذر "من الزنا". قوله: "إذا أحصنت" أي تزوجت،

(12/145)


قال الإسماعيلي يريد إذا حبلت من زنا على الإحصان ثم وضعت، فأما وهي حبلى فلا ترجم حتى تضع. وقال ابن بطال: معنى الترجمة هل يجب على الحبلى رجم أو لا، وقد استقر الإجماع على أنها لا ترجم حتى تضع. قال النووي: كذا لو كان حدها الجلد لا تجلد حتى تضع، وكذا من وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها حتى تضع بالإجماع في كل ذلك ا هـ. وقد كان عمر أراد أن يرجم الحبلى فقال له معاذ " لا سبيل لك عليها حتى تضع ما في بطنها " أخرجه ابن أبي شيبة ورجاله ثقات، واختلف بعد الوضع فقال مالك إذا وضعت رجمت ولا ينتظر أن يكفل ولدها، وقال الكوفيون لا ترجم حين تضع حتى تجد من يكفل ولدها، وهو قول الشافعي ورواية عن مالك، وزاد الشافعي: لا ترجم حتى ترضع اللبأ، وقد أخرج مسلم من حديث عمران بن حصين " أن امرأة جهنية أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فذكرت أنها زنت فأمرها أن تقعد حتى تضع، فلما وضعت أتته فأمر بها فرجمت". وعنده من حديث بريدة " أن امرأة من غامد قالت يا رسول الله طهرني "فقالت إنها حبلى من الزنا" فقال لها حتى تضعي. فلما وضعت قال لا نرجمها وتضع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه، فقام رجل فقال إلى رضاعه يا رسول الله، فرجمها " وفي رواية له " فأرضعته حتى فطمته ودفعته إلى رجل من المسلمين ورجمها " وجمع بين روايتي بريدة بأن في الثانية زيادة فتحمل الأولى على أن المراد بقوله: "إلي إرضاعه " أي تربيته. وجمع بين حديثي عمران وبريدة أن الجهنية كان لولدها من يرضعه بخلاف الغامدية. قوله: "عن صالح" وهو ابن كيسان، ووقع كذلك عند يعقوب بن سفيان في تاريخه عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه بسنده، وأخرجه الإسماعيلي من طريقه. قوله: "عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله" في رواية مالك " عن الزهري أن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أخبره " وأخرجه أحمد والدار قطني في " الغرائب " وصححه ابن حبان. قوله: "عن ابن عباس" في رواية مالك " أن عبد الله بن عباس أخبره كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف " ولم أقف على اسم أحد منهم غيره، زاد مالك في روايته: "في خلافة عمر فلم أر رجلا يجد من الأقشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة " قال الداودي فيما نقله ابن التين معنى قوله: "كنت أقرئ رجالا " أي أتعلم منهم القرآن، لأن ابن عباس كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما حفظ المفصل من المهاجرين والأنصار، قال: وهذا الذي قاله خروج عن الظاهر بل عن النص، لأن قوله أقرئ بمعنى أعلم. قلت: ويؤيد التعقب ما وقع في رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري " كنت أختلف إلى عبد الرحمن بن عوف ونحن بمنى مع عمر بن الخطاب أعلم عبد الرحمن بن عوف القرآن " أخرجه ابن أبي شيبة وكان ابن عباس ذكيا سريع الحفظ، وكان كثير من الصحابة لاشتغالهم بالجهاد لم يستوعبوا القرآن حفظا، وكان من اتفق له ذلك يستدركه بعد الوفاة النبوية وإقامتهم بالمدينة، فكانوا يعتمدون على نجباء الأبناء فيقرءونهم تلقينا للحفظ. قوله: "فبينما أنا بمنزله بمنى وهو عند عمر" في رواية ابن إسحاق " فأتيته في المنزل فلم أجده فانتظرته حتى جاء". قوله: "في آخر حجة حجها" يعني عمر، كان ذلك سنة ثلاث وعشرين. قوله: "لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم" لم أقف على اسمه. قوله: "هل لك في فلان" لم أقف على اسمه أيضا، ووقع في رواية ابن إسحاق أن من قال ذلك كان أكثر من واحد ولفظه: "أن رجلين من الأنصار ذكرا بيعة أبي بكر". قوله: "لقد بايعت فلانا" هو طلحة بن عبيد الله أخرجه البزار من طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه وعن عمير مولى غفرة بضم المعجمة وسكون الفاء قالا " قدم على أبي بكر مال - فذكر قصة طويلة في قسم الفيء ثم قال - حتى إذا كان من آخر

(12/146)


السنة التي حج فيها عمر قال بعض الناس: لو قد مات أمير المؤمنين أقمنا فلانا، يعنون طلحة بن عبيد الله" ونقل ابن بطال عن المهلب أن الذين عنوا أنهم يبايعونه رجلا من الأنصار ولم يذكر مستنده في ذلك. قوله: "فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة"، بفتح الفاء وسكون اللام بعدها مثناة ثم تاء تأنيث أي فجأة وزنه ومعناه، وجاء عن سحنون عن أشهب أنه كان يقولها بضم الفاء ويفسرها بانفلات الشيء من الشيء ويقول إن الفتح غلط وإنه إنما يقال فيما يندم عليه، وبيعة أبي بكر مما لا يندم عليه أحد، وتعقب بثبوت الرواية بفتح الفاء ولا يلزم من وقوع الشيء بغتة أن يندم عليه كل أحد بل يمكن الندم عليه من بعض دون بعض، وإنما أطلقوا على بيعة أبي بكر ذلك بالنسبة لمن لم يحضرها في الحال الأول، ووقع في رواية ابن إسحاق بعد قوله فلتة " فما يمنع امرئ إن هلك هذا أن يقوم إلى من يريد فيضرب على يده فتكون أي البيعة كما كانت أي في قصة أبي بكر " وسيأتي مزيد في معنى الفلتة بعد. قوله: "فغضب عمر" زاد ابن إسحاق " غضبا ما رأيته غضب مثله منذ كان". قوله: "أن يغصبوهم أمورهم" كذا في رواية الجميع بغين معجمة وصاد مهملة، وفي رواية مالك "يغتصبوهم" بزيادة مثناة بعد الغين المعجمة، وحكى ابن التين أنه روى بالعين المهملة وضم أوله من أعضب أي صار لا ناصر له، والمعضوب الضعيف، وهو من عضبت الشاة إذا انكسر أحد قرنيها أو قرنها الداخل وهو المشاش، والمعنى أنهم يغلبون على الأمر فيضعف لضعفهم، والأول أولى، والمراد أنهم يثبتون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة، وقد وقع ذلك بعد على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه. قوله: "يجمع رعاع الناس وغوغاءهم" الرعاع بفتح الراء وبمهملتين الجهلة الرذلاء، وقيل الشباب منهم والغوغاء بمعجمتين بينهما واو ساكنة، أصله صغار الجراد حين يبدأ في الطيران، ويطلق على السفلة المسرعين إلى الشر. قوله: "يغلبون عل قربك" بضم القاف وسكون الراء ثم موحدة أي المكان الذي يقرب منك، ووقع في رواية الكشميهني وأبي زيد المروزي بكسر القاف وبالنون وهو خطأ، وفي رواية ابن وهب عن مالك " على مجلسك إذا قمت في الناس". قوله: "يطيرها" بضم أوله من أطار الشيء إذا أطلقه، وللسرخسي " يطيرها " بفتح أوله أي يحملونها على غير وجهها، ومثله لابن وهب وقال يطيرنها أولئك ولا يعونها، أي لا يعرفون المراد بها. قوله: "فتخلص" بضم اللام بعدها مهملة أي تصل. قوله: "لأقومن" في رواية مالك " فقال لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن الناس بها". قوله: "أقومه" في رواية الكشميهني والسرخسي "أقوم" بحذف الضمير. قوله: "في عقب ذي الحجة" بضم المهملة وسكون القاف وبفتحها وكسر القاف وهو أولى، فإن الأول يقال لما بعد التكملة والثاني لما قرب منها، يقال جاء عقب الشهر بالوجهين، والواقع الثاني لأن قدوم عمر كان قبل أن ينسلخ ذو الحجة في يوم الأربعاء. قوله: "عجلت الرواح" في رواية الكشميهني: "بالرواح" زاد سفيان عند البزار "وجاءت الجمعة وذكرت ما حدثني عبد الرحمن بن عوف فهجرت إلى المسجد " وفي رواية جويرية عن مالك عند ابن حبان والدار قطني "لما أخبرني". قوله: "حين زاغت الشمس" في رواية مالك " حين كانت صكة عمى" بفتح الصاد وتشديد الكاف وعمى بضم أوله وفتح الميم وتشديد التحتانية وقيل بتشديد الميم وزن حبلى، زاد أحمد عن إسحاق بن عيسى " قلت لمالك ما صكة عمى؟ قال: الأعمى قال لا يبالي أي ساعة حرج لا يعرف الحر من البرد أو نحو هذا " قلت: وهو تفسير معنى. وقال أبو هلال العسكري: المراد به اشتداد الحاجرة، والأصل فيه أنه اسم رجل من العمالقة يقال له عمى غزا قوما في قائم الظهيرة فأوقع بهم فصار مثلا لكل من جاء في ذلك الوقت، وقيل

(12/147)


هو رجل من عدوان كان يفيض بالحاج عند الهاجرة فضرب به المثل، وقيل المعنى أن الشخص في هذا الوقت يكون كالأعمى لا يقدر على مباشرة الشمس بعينه، وقيل أصله أن الظبي يدور أي يدوخ من شدة الحر فيصك برأسه ما واجهه، وللدار قطني من طريق سعيد بن داود عن مالك " صكة عمى ساعة من النهار تسميها العرب " وهو نصف النهار أو قريبا منه. قوله: "فجلست حوله" في رواية الإسماعيلي: "حذوه" وكذا لمالك، وفي رواية إسحاق الغروي عن مالك " حذاءه " وفي رواية معمر "فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته". قوله: "فلم أنشب" بنون ومعجمة وموحدة أي لم أتعلق بشيء غير ما كنت فيه والمراد سرعة خروج عمر. قوله: "أن خرج" أي من مكانه إلى جهة المنبر. وفي رواية مالك " أن طلع عمر - أي ظهر - يؤم المنبر " أي يقصده. قوله: "ليقولن العشية مقالة" أي عمر. قوله: "لم يقلها منذ استخلف" في رواية مالك " لم يقلها أحد قط قبله". قوله: "ما عسيت" في رواية الإسماعيلي: "ما عسى". قوله: "أن يقول ما لم يقل قبله" زاد سفيان " فغضب سعيد وقال ما عسيت " قيل أراد ابن عباس أن ينبه سعيدا معتمدا على ما أخبره به عبد الرحمن ليكون على يقظة فيلقى باله لما يقوله عمر فلم يقع ذلك من سعيد موقعا بل أنكره، لأنه لم يعلم بما سبق لعمر وعلى بناء أن الأمور استقرت. قوله: "لا أدري لعلها بين يدي أجلي" أي بقرب موتي، وهو من الأمور التي جرت على لسان عمر فوقعت كما قال، ووقع في رواية أبي معشر المشار إليها قبل ما يؤخذ منه سبب ذلك وأن عمر قال في خطبته هذه " رأيت رؤياي وما ذاك إلا عند قرب أجلي، رأيت كأن ديكا نقرني " وفي مرسل سعيد بن المسيب في الموطأ " أن عمر لما صدر من الحج دعا الله أن يقبضه إليه غير مضيع ولا مفرط " وقال في آخر القصة " فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر". قوله: "إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق" قال الطيبي: قدم عمر هذا الكلام قبل ما أراد أن يقوله توطئة له ليتيقظ السامع لما يقول. قوله: "فكان مما" في رواية الكشميهني: "فيما". قوله: "آية الرجم" تقدم القول فيها في الباب الذي قبله، قال الطيبي: آية الرجم بالرفع اسم كان وخبرها من التبعيضية في قوله: "مما أنزل الله" ففيه تقديم الخبر على الاسم وهو كثير. قوله: "ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الإسماعيلي: "ورجم " بزيادة واو وكذا لمالك. قوله: "فأخشى" في رواية معمر " وإني خائف". قوله: "فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله" أي في الآية المذكورة التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وقد وقع ما خشيه عمر أيضا فأنكر الرجم طائفة من الخوارج أو معظمهم وبعض المعتزلة، ويحتمل أن يكون استند في ذلك إلى توقيف، وقد أخرج عبد الرزاق والطبري من وجه آخر عن ابن عباس أن عمر قال: "سيجيء قوم يكذبون بالرجم " الحديث. ووقع في رواية سعيد بن إبراهيم عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة في حديث عمر عند النسائي: "وإن ناسا يقولون ما بال الرجم وإنما في كتاب الله الجلد، ألا قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفيه إشارة إلى أن عمر استحضر أن ناسا قالوا ذلك فرد عليهم، وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر " إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا أجد حدين في كتاب الله، فقد رجم". قوله: "والرجم في كتاب الله حق" أي في قوله تعالى:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد به رجم الثيب وجلد البكر كما تقدم التنبيه عليه في قصة العسيف قريبا. قوله: "إذا قامت البينة" أي بشرطها. قوله: "إذا أحصن" أي كان بالغا عاقلا قد تزوج حرة تزويجا صحيحا وجامعها. قوله: "أو كان الحبل" بفتح المهملة والموحدة، في رواية معمر "الحمل" أي وجدت المرأة الخلية من زوج أو سيد حبلى ولم تذكر شبهة ولا

(12/148)


إكراه. قوله: "أو الاعتراف" أي الإقرار بالزنا والاستمرار عليه، وفي رواية سفيان "أو كان حملا أو اعترافا" ونصب على نزع الخافض أي كان الزنا عن حمل أو عن اعتراف. قوله: "ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله" أي مما نسخت تلاوته. قوله: "لا ترغبوا عن آبائكم" أي لا تنتسبوا إلى غيرهم. قوله: "فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفرا بكم" كذا هو بالشك، وكذا في رواية معمر بالشك لكن قال: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم، أو إن كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " ووقع في رواية جويرية عن مالك " فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم". قوله: "ألا ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مالك " ألا وإن " بالواو بدل ثم، وألا بالتخفيف حرف افتتاح كلام غير الذي قبله. قوله: "لا تطروني" هذا القدر مما سمعه سفيان من الزهري أفرده الحميدي في مسنده عن ابن عيينة سمعت الزهري به، وقد تقدم مفردا في ترجمة عيسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء عن الحميدي بسنده هذا وتقدم شرح الإطراء. قوله: "كما أطرى عيسى" في رواية سفيان " كما أطرت النصارى عيسى". قوله: "وقولوا عبد الله" في رواية مالك " فإنما أنا عبد الله فقولوا" قال ابن الجوزي: لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه لأنا لا نعلم أحدا ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى، وإنما سبب النهي فيما يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له فامتنع ونهاه، فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك فبادر إلى النهي تأكيدا للأمر. وقال ابن التين: معنى قوله: "لا تطروني " لا تمدحوني كمدح النصارى، حتى غلا بعضهم في عيسى فجعله إلها مع الله، وبعضهم ادعى أنه هو الله، وبعضهم ابن الله. ثم أردف النهي بقوله: "أنا عبد الله" قال والنكتة في إيراد عمر هذه القصة هنا أنه خشي عليهم الغلو، يعني خشي على من لا قوة له في الفهم أن يظن بشخص استحقاقه الخلافة فيقوم في ذلك مع أن المذكور لا يستحق فيطريه بما ليس فيه فيدخل في النهي، ويحتمل أن تكون المناسبة أن الذي وقع منه في مدح أبي بكر ليس من الإطراء المنهي عنه ومن ثم قال: وليس فيكم مثل أبي بكر، ومناسبة إيراد عمر قصة الرجم والزجر عن الرغبة عن الآباء للقصة التي خطب بسببها وهي قول القائل: "لو مات عمر لبايعت فلانا " أنه أشار بقصة الرجم إلى زجر من يقول لا أعمل في الأحكام الشرعية إلا بما وجدته في القرآن وليس في القرآن تصريح باشتراط التشاور إذا مات الخليفة، بل إنما يؤخذ ذلك من جهة السنة كما أن الرجم ليس فيما يتلى من القرآن وهو مأخوذ من طريق السنة، وأما الزجر عن الرغبة عن الآباء فكأنه أشار إلى أن الخليفة يتنزل للرعية منزلة الأب فلا يجوز لهم أن يرغبوا إلى غيره بل يجب عليهم طاعته بشرطها كما تجب طاعة الأب، هذا الذي ظهر لي من المناسبة والعلم عند الله تعالى. قوله: "ألا وإنها" أي بيعة أبي بكر. قوله: "قد كانت كذلك" أي فلتة، وصرح بذلك في رواية إسحاق بن عيسى عن مالك، حكى ثعلب عن ابن الأعرابي وأخرجه سيف في الفتوح بسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر نحوه قال: الفلتة الليلة التي يشك فيها هل هي من رجب أو شعبان وهل من المحرم أو صفر، كان العرب لا يشهرون السلاح في الأشهر الحرم فكان من له ثأر تربص فإذا جاءت تلك الليلة انتهز الفرصة من قبل أن يتحقق انسلاخ الشهر فيتمكن ممن يريد إيقاع الشر به وهو آمن فيترتب على ذلك الشر الكثير، فشبه عمر الحياة النبوية بالشهر الحرام والفلتة بما وقع من أهل الردة ووقى الله شر ذلك ببيعة أبي بكر لما وقع منه من النهوض في قتالهم وإخماد شوكتهم، كذا قال والأولى أن يقال: الجامع بينهما انتهاز الفرصة، لكن كان ينشأ عن أخذ الثأر الشر الكثير فوقى الله المسلمين شر ذلك فلم ينشأ عن بيعة أبي بكر شر بل

(12/149)


أطاعه الناس كلهم من حضر البيعة ومن غاب عنها. وفي قوله: "وقى الله شرها" إيماء إلى التحذير من الوقوع في مثل ذلك حيث لا يؤمن من وقوع الشر والاختلاف. قوله: "ولكن الله وقى شرها" أي وقاهم ما في العجلة غالبا من الشر، لأن من العادة أن من لم يطلع على الحكمة في الشيء الذي يفعل بغتة لا يرضاه، وقد بين عمر سبب إسراعهم ببيعة أبي بكر لما خشوا أن يبايع، الأنصار سعد بن عبادة، قال أبو عبيدة: عاجلوا ببيعة أبي بكر خيفة انتشار الأمر وأن يتعلق به من لا يستحقه فيقع الشر. وقال الداودي: معنى قوله: "كانت فلتة " أنها وقعت من غير مشورة مع جميع من كان ينبغي أن يشاور، وأنكر هذه الكرابيسي صاحب الشافعي وقال: بل المراد أن أبا بكر ومن معه تفلتوا في ذهابهم إلى الأنصار فبايعوا أبا بكر بحضرتهم، وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه من بيعته فقال: منا أمير ومنكم أمير، فالمراد بالفلتة ما وقع من مخالفة الأنصار وما أرادوه من مبايعة سعد بن عبادة وقال ابن حبان: معنى قوله: "كانت فلتة " أن ابتداءها كان عن غير ملأ كثير، والشيء إذا كان كذلك يقال له الفلتة فيتوقع فيه ما لعله يحدث من الشر بمخالفة من يخالف في ذلك عادة، فكفى الله المسلمين الشر المتوقع في ذلك عادة، لا أن بيعة أبي بكر كان فيها شر. قوله: "وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر" قال الخطابي: يريد أن السابق منكم الذي لا يلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولا في الملأ اليسير ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه لما تحققوا من استحقاقه فلم يحتاجوا في أمره إلى نظر ولا إلى مشاورة أخرى، وليس غيره في ذلك مثله. انتهى ملخصا. وفيه إشارة إلى التحذير من المسارعة إلى مثل ذلك حيث لا يكون هناك مثل أبي بكر لما اجتمع فيه من الصفات المحمودة من قيامه في أمر الله، ولين جانبه للمسلمين، وحسن خلقه، ومعرفته بالسياسة، وورعه التام ممن لا يوجد فيه مثل صفاته لا يؤمن من مبايعته عن غير مشورة الاختلاف الذي ينشأ عنه الشر، وعبر بقوله: "تقطع الأعناق " لكون الناظر إلى السابق تمتد عنقه لينظر، فإذا لم يحصل مقصوده من سبق من يريد سبقه قيل انقطعت عنقه، أو لأن المتسابقين تمتد إلى رؤيتهما الأعناق حتى يغيب السابق عن النظر، فعبر عن امتناع نظره بانقطاع عنقه. وقال ابن التين: هو مثل، يقال للفرس الجواد تقطعت أعناق الخيل دون لحاقه، ووقع في رواية أبي معشر المذكورة " ومن أين لنا مثل أبي بكر تمد أعناقنا إليه". قوله: "من غير" في رواية الكشميهني: "من غير مشورة " بضم المعجمة وسكون الواو وبسكون المعجمة وفتح الواو " فلا يبايع" بالموحدة، وجاء بالمثناة وهو أولى " لقوله هو والذي " تابعه. قوله: "تغرة أن يقتلا" بمثناة مفتوحة وغين معجمة مكسورة وراء ثقيلة بعدها هاء تأنيث أي حذرا من القتل، وهو مصدر من أغررته تغريرا أو تغرة، والمعنى أن من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل. قوله: "وإنه قد كان من خبرنا" كذا للأكثر من الخبر بفتح الموحدة، ووقع للمستملي بسكون التحتانية والضمير لأبي بكر، وعلى هذا فيقرأ: "إن الأنصار" بالكسر على أنه ابتداء كلام آخر، وعلى رواية الأكثر بفتح همزة "أن" على أنه خبر كان. قوله: "خالفونا" أي لم يجتمعوا معنا في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وخالف عنا علي والزبير ومن معهما" في رواية مالك ومعمر " وأن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا في رواية سفيان لكن قال: "العباس" بدل "الزبير". قوله: "يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا" زاد في رواية جويرية عن مالك "فبينما نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا برجل ينادي من وراء الجدار: اخرج إلي يا ابن

(12/150)


الخطاب، فقلت إليك عني فإني مشغول، قال: اخرج إلي فإنه قد حدث أمر، إن الأنصار اجتمعوا فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون بينكم فيه حرب، فقلت لأبي بكر: انطلق". قوله: "فانطلقنا نريدهم" زاد جويرية " فلقينا أبو عبيدة بن الجراح فأخذ أبو بكر بيده يمشي بيني وبينه". قوله: "لقينا رجلان صالحان" في رواية معمر عن ابن شهاب "شهدا بدرا" كما تقدم في غزوة بدر. وفي رواية ابن إسحاق " رجلا صدق عويم بن ساعدة ومعن بن عدي " كذا أدرج تسميتهما، وبين مالك أنه قول عروة ولفظه: "قال ابن شهاب أخبرني عروة أنهما معن بن عدي وعويم بن ساعدة " وفي رواية سفيان " قال الزهري: هما " ولم يذكر عروة، ثم وجدته من رواية صالح بن كيسان رواية في هذا الباب بزيادة، فأخرجه الإسماعيلي من طريقه وقال فيه: "قال ابن شهاب وأخبرني عروة الرجلين فسماهما وزاد: فأما عويم فهو الذي بلغنا أنه قيل يا رسول الله من الذين قال الله فيهم {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال نعم المرء منهم عويم بن ساعدة " وأما معن فبلغنا أن الناس بكوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله وقالوا وددنا أنا متنا قبله لئلا نفتتن بعده، فقال معن بن عدي: والله ما أحب أن لو مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا، واستشهد باليمامة. قوله: "ما تمالأ" بفتح اللام والهمز أي اتفق، وفي رواية مالك " الذي صنع القوم أي من اتفاقهم على أن يبايعوا لسعد بن عبادة. قوله: "لا عليكم أن لا تقربوهم" لا بعد أن زائدة. قوله: "اقضوا أمركم" في رواية سفيان " امهلوا حتى تقضوا أمركم" ويؤخذ من هذا أن الأنصار كلها لم تجتمع على سعد ابن عبادة. قوله: "مزمل" بزاي وتشديد الميم المفتوحة أي ملفف، قوله: "بين ظهرانيهم" بفتح المعجمة والنون أي في وسطهم. قوله: "يوعك" بضم أوله وفتح المهملة أي يحصل له الوعك - وهو الحمى بنافض - ولذلك زمل، وفي رواية سفيان، وعك بصيغة الفعل الماضي، وزعم بعض الشراح أن ذلك وقع لسعد من هول ذلك المقام، وفيه نظر لأن سعدا كان من الشجعان والذين كانوا عنده أعوانه وأنصاره وقد اتفقوا على تأميره، وسياق عمر يقتضي أنه جاء فوجده موعوكا، فلو كان ذلك حصل له بعد كلام أبي بكر وعمر لكان له بعض اتجاه لأن مثله قد سكون من الغيظ، وأما قبل ذلك فلا، وقد وقع في رواية الإسماعيلي: "قالوا سعد وجع يوعك " وكأن سعدا كان موعوكا فلما اجتمعوا إليه في سقيفة بني ساعدة - وهو منسوبة إليه لأنه كان كبير بني ساعدة خرج إليهم من منزله وهو بتلك الحالة فطرقهم أبو بكر وعمر في تلك الحالة. قوله: "تشهد خطيبهم" لم أقف على اسمه، وكان ثابت بن قيس بن شماس يدعى خطيب الأنصار فالذي يظهر أنه هو. قوله: "وكتيبة الإسلام" الكتيبة بمثناة ثم موحدة وزن عظيمة وجمعها كتائب هي الجيش المجتمع الذي لا يتقشر، وأطلق عليهم ذلك مبالغة كأنه قال لهم أنتم مجتمع الإسلام. قوله: "وأنتم معشر" في رواية الكشميهني: "معاشر". قوله: "رهط" أي قليل، وقد تقدم أنه يقال للعشرة فما دونها، زاد ابن وهب في روايته: "منا " وكذا لمعمر، وهو يرفع الإشكال فإنه لم يرد حقيقة الرهط وإنما أطلقه عليهم بالنسبة إليهم أي أنتم بالنسبة إلينا قليل، لأن عدد الأنصار في المواطن النبوية التي ضبطت كانوا دائما أكثر من عدد المهاجرين، وهو بناء على أن المراد بالمهاجرين من كان مسلما قبل فتح مكة وهو المعتمد، وإلا فلو أريد عموم من كان من غير الأنصار لكانوا أضعاف أضعاف الأنصار. قوله: "وقد دفت دافة من قومكم" بالدال المهملة والفاء أي عدد قليل، وأصله من الدف وهو السير البطيء في جماعة. قوله: "يختزلونا" بخاء معجمة وزاي أي يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا، وقال أبو

(12/151)


زيد: خزلته عن حاجته عوقته عنها، والمراد هنا بالأصل ما يستحقونه من الأمر. قوله: "وأن يحضنونا" بحاء مهملة وضاد معجمة، ووقع في رواية المستملي: "أي يخرجونا " قاله أبو عبيد، وهو كما يقال حضنه واحتضنه عن الأمر أخرجه في ناحية عنه واستبد به أو حبسه عنه، ووقع في رواية أبي علي بن السكن " يختصونا " بمثناة قبل الصاد المهملة وتشديدها، ومثله للكشميهني لكن بضم الخاء بغير تاء وهي بمعنى الاقتطاع والاستئصال. وفي رواية سفيان عند البزار "ويختصون بالأمر أو يستأثرون بالأمر دوننا " وفي رواية أبي بكر الحنفي عن مالك عند الدار قطني " ويخطفون " بخاء معجمة ثم طاء مهملة ثم فاء، والروايات كلها متفقة على أن قوله: "فإذا هم إلخ " بقية كلام خطيب الأنصار، لكن وقع عند ابن ماجه بعد قوله: "وقد دفت دافة من قومكم ": "قال عمر فإذا هم يريدون إلخ " وزيادة قوله هنا " قال عمر " خطأ والصواب أنه كله كلام الأنصار، ويدل له قول عمر " فلما سكت " وعلى ذلك شرحه الخطابي فقال: قوله: "رهط " أي أن عددكم قليل بالإضافة للأنصار، وقوله: "دفت دافة من قومكم" يريد أنكم قوم طرأة غرباء أقبلتم من مكة إلينا ثم أنتم تريدون أن تستأثروا علينا. قوله: "فلما سكت" أي خطيب الأنصار، وحاصل ما تقدم من كلامه أنه أخبر أن طائفة من المهاجرين أرادوا أن يمنعوا الأنصار من أمر تعتقد الأنصار أنهم يستحقونه وإنما عرض بذلك بأبي بكر وعمر ومن حضر معهما. قوله: "أردت أن أتكلم وكنت قد زورت" بزاي ثم راء أي هيأت وحسنت، وفي رواية مالك "رويت" براء وواو ثقيلة ثم تحتانية ساكنة من الرواية ضد البديهة، ويؤيده قول عمر بعد " فما ترك كلمة " وفي رواية مالك " ما ترك من كلمة أعجبتني في رويتي إلا قالها في بديهته، وفي حديث عائشة " وكان عمر يقول: والله ما أردت لذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر". قوله: "على رسلك" بكسر الراء وسكون المهملة ويجوز الفتح أي على مهلك بفتحتين وقد تقدم بيانه في الاعتكاف، وفي حديث عائشة الماضي في مناقب أبي بكر " فأسكته أبو بكر". قوله: "أن أغضبه" بغين ثم ضاد معجمتين ثم موحدة، وفي رواية الكشميهني بمهملتين ثم ياء آخر الحروف. قوله: "فكان هو أحلم مني وأوقر" في حديث عائشة "فتكلم أبلغ الناس". قوله: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل" زاد ابن إسحاق في روايته عن الزهري " إنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم ولا بلاءكم في الإسلام ولا حقكم الواجب علينا". قوله: "ولن يعرف" بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية مالك "ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وكذا في رواية سفيان وفي رواية ابن إسحاق " قد عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم وأن العرب لا تجتمع إلا على رجل منهم، فاتقوا الله لا تصدعوا الإسلام ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام". قوله: "هم أوسط العرب" في رواية الكشميهني: "هو " بدل " هم " والأول أوجه، وقد بينت في مناقب أبي بكر أن أحمد أخرج من طريق حميد بن عبد الرحمن عن أبي بكر الصديق أنه قال يومئذ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش " وسقت الكلام على ذلك هناك، وسيأتي القول في حكمه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين" زاد عمرو بن مرزوق عن مالك عند الدار قطني هنا " فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح " وقد ذكرت في هذا الحديث مفاخره. وتقدم ما يتعلق بذلك في مناقب أبي بكر. قوله: "فقال قائل الأنصار" في رواية الكشميهني: "من الأنصار" وكذا في رواية مالك وقد سماه سفيان في روايته عند البزار فقال: "حباب بن المنذر" لكنه من هذه الطريق مدرج فقد بين مالك في روايته عن الزهري

(12/152)


أن الذي سماه سعيد بن المسيب فقال: "قال ابن شهاب فأخبرني سعيد بن المسيب أن الحباب بن المنذر هو الذي قال: أنا جذيلها المحكك " وتقدم موصولا في حديث عائشة " فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال الحباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير " وتقدم تفسير الموجب والمحكك هناك، وهكذا سائر ما يتعلق ببيعة أبي بكر المذكورة مشروحا، وزاد إسحاق بن الطباع هناك: فقلت لمالك ما معناه؟ قال: كأنه يقول أنا داهيتها، وهو تفسير معنى، زاد سفيان في روايته هنا "وإلا أعدنا الحرب بيننا وبينكم خدعة، فقلت: إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد" ووقع عند معمر أن راوي ذلك قتادة، فقال: "قال قتادة قال عمر: لا يصلح سيفان في غمد واحد، ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء " ووقع عند ابن سعد بسند صحيح من مرسل القاسم بن محمد قال: "اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة، فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فقام الحباب بن المنذر وكان بدريا فقال: منا أمير ومنكم أمير، فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم. فقال عمر: إذا كان ذلك فمت إن استطعت " قال الخطابي: الحامل للقائل " منا أمير ومنكم أمير " أن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، وكأنه لم يكن يبلغه حكم الإمارة في الإسلام واختصاص ذلك بقريش فلما بلغه أمسك عن قوله وبايع هو وقومه أبا بكر. قوله: "حتى فرقت" بفتح الفاء وكسر الراء ثم قاف من الفرق بفتحتين وهو الخوف، وفي رواية مالك "حتى خفت" وفي رواية جويرية "حتى أشفقنا الاختلاف" ووقع في رواية ابن إسحاق المذكورة فيما أخرجه الذهلي في "الزهريات" بسند صحيح عنه حدثني عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن عمر قال: "قلت يا معشر الأنصار إن أولى الناس بنبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، ثم أخذت بيده " ووقع في حديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي من طريق عاصم عن زر بن حبيش عنه أن عمر قال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم بالناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر وسنده حسن، وله شاهد من حديث سالم ابن عبيد الله عن عمر أخرجه النسائي أيضا، وآخر من طريق رافع بن عمرو الطائي أخرجه الإسماعيلي في مسند عمر بلفظ: "فأيكم يجترئ أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا لا أينا " وأصله عند أحمد وسنده جيد، وأخرج الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: "قال أبو بكر: ألست أحق الناس بهذا الأمر؟ ألست أول من أسلم؟ ألست صاحب كذا". قوله: "فبايعته وبايعه المهاجرون" فيه رد على قول الداودي فيما نقله ابن التين عنه حيث أطلق أنه لم يكن مع أبي بكر حينئذ من المهاجرين إلا عمر وأبو عبيدة، وكأنه استصحب الحال المنقولة في توجههم، لكن ظهر من قول عمر " وبايعه المهاجرون " بعد قوله: "بايعته " أنه حضر معهم جمع من المهاجرين، فكأنهم تلاحقوا بهم لما بلغهم أنهم توجهوا إلى الأنصار، فلما بايع عمر أبا بكر وبايعه من حضر من المهاجرين على ذلك بايعه الأنصار حين قامت الحجة عليهم بما ذكره أبو بكر وغيره. قوله: "ثم بايعته الأنصار" في رواية ابن إسحاق المذكورة قريبا ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده فنتابع الناس " والرجل المذكور بشير بن سعد والد النعمان. قوله: "ونزونا" بنون وزاي مفتوحة أي وثبنا. قوله: "فقلت: قتل الله سعد بن عبادة" تقدم بيانه في شرح حديث عائشة في مناقب أبي بكر، وسيأتي في الأحكام من وجه آخر عن الزهري قال: "أخبرني أنس أنه سمع خطبة عمر الآخرة من الغد من يوم

(12/153)


توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر صامت لا يتكلم، فقص قصة البيعة العامة، ويأتي شرحها هناك. قوله: "وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا" بصيغة الفعل الماضي. قوله: "من أمر" في موضع المفعول أي حضرنا في تلك الحالة أمورا فما وجدنا فيها أقوى من سابقة أبي بكر، والأمور التي حضرت حينئذ الاشتغال بالمشاورة واستيعاب من يكون أهلا لذلك، وجعل بعض الشراح منها الاشتغال بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه، وهو محتمل لكن ليس في سياق القصة إشعار به، بل تعليل عمر يرشد إلى الحصر فيما يتعلق بالاستخلاف. قوله: "فإما بايعناهم" في رواية الكشميهني بمثناة وبعد الألف موحدة. قوله: "على ما نرضى" في رواية مالك " على ما لا نرضى " وهو الوجه، وبقية الكلام ترشد إلى ذلك. قوله: "فمن بايع رجلا" في رواية مالك فمن تابع رجلا. قوله: "فلا يتابع هو ولا الذي بايعه" في رواية معمر من وجه آخر عن عمر " من دعي إلى إمارة من غير مشورة فلا يحل له أن يقبل". وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أخذ العلم عن أهله وإن صغرت سن المأخوذ عنه عن الأخذ، وكذا لو نقص قدره عن قدره. وفيه التنبيه على أن العلم لا يودع عند غير أهله، ولا يحدث به إلا من يعقله، ولا يحدث القليل الفهم بما لا يحتمله. وفيه جواز إخبار السلطان بكلام من يخشى منه وقوع أمر فيه إفساد للجماعة ولا يعد ذلك من النميمة المذمومة، لكن محل ذلك أن يبهمه صونا له وجمعا له بين المصلحتين، ولعل الواقع في هذه القصة كان كذلك واكتفى عمر بالتحذير من ذلك ولم يعاقب الذي قال ذلك ولا من قيل عنه، وبنى المهلب على ما زعم أن المراد مبايعة شخص من الأنصار فقال: إن في ذلك مخالفة لقول أبي بكر " إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش " فإن المعروف هو الشيء الذي لا يجوز خلافه. قلت: والذي ظهر من سياق القصة أن إنكار عمر إنما هو على من أراد مبايعة شخص على غير مشورة من المسلمين، ولم يتعرض لكونه قرشيا أو لا: وفيه أن العظيم يحتمل في حقه من الأمور المباحة ما لا يحتمل في حق غيره، لقول عمر " وليس فيكم من تمد إليه الأعناق مثل أبي بكر " أي فلا يلزم من احتمال المبادرة إلى بيعته عن غير تشاور عام أن يباح ذلك لكل أحد من الناس لا يتصف بمثل صفة أبي بكر. قال المهلب: وفيه أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، وأدلة ذلك كثيرة. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أوصى من ولي أمر المسلمين بالأنصار، وفيه دليل واضح على أن لا حق لهم في الخلافة، كذا قال، وفيه نظر سيأتي بيانه عند شرح باب الأمراء من قريش من كتاب الأحكام. وفيه أن المرأة إذا وجدت حاملا ولا زوج لها ولا سيد وجب عليها الحد إلا أن تقيم بينة على الحمل أو الاستكراه. وقال ابن العربي: إقامة الحمل عليه إذا ظهر ولد لم يسبقه سبب جائز يعلم قطعا أنه من حرام، ويسمى قياس الدلالة كالدخان على النار، ويعكر عليه احتمال أن يكون الوطء من شبهة، وقال ابن القاسم: إن ادعت الاستكراه وكانت غريبة فلا حد عليها، وقال الشافعي والكوفيون: لا حد عليها إلا ببينة أو إقرار. وحجة مالك قول عمر في خطبته ولم ينكرها أحد، وكذا لو قامت القرينة على الإكراه أو الخطأ قال المازري في تصديق المرأة الخلية إذا ظهر بها حمل فادعت الإكراه خلاف هل يكون ذلك شبهة أم يجب عليها الحد لحديث عمر؟ قال ابن عبد البر: قد جاء عن عمر في عدة قضايا أنه درأ الحد بدعوى الإكراه ونحوه، ثم ساق من طريق شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: "إنا لمع عمر بمنى فإذا بامرأة حبلى ضخمة تبكي، فسألها فقالت: إني ثقيلة الرأس فقمت بالليل أصلي ثم نمت فما استيقظت إلا ورجل قد ركبني ومضى فما أدري من هو، قال فدرأ عنها الحد، وجمع بعضهم بأن من عرف منها مخايل الصدق في دعوى الإكراه قبل منها، وأما

(12/154)


المعروفة في البلد التي لا تعرف بالدين ولا الصدق ولا قرينة معها على الإكراه فلا ولا سيما إن كانت متهمة، وعلى الثاني يدل قوله: "أو كان الخبل " واستنبط منه الباجي أن من وطئ في غير الفرج فدخل ماؤه فيه فادعت المرأة أن الولد منه لا يقبل ولا يلحق به إذا لم يعترف به، لأنه لو لحق به لما وجب الرجم على حبلى لجواز مثل ذلك، وعكسه غيره فقال: هذا يقتضي أن لا يجب على الحبلى بمجرد الحبل حد لاحتمال مثل هذه الشبهة وهو قول الجمهور، وأجاب الطحاوي أن المستفاد من قول عمر " الرجم حق على من زنى " أن الحبل إذا كان من زنا وجب فيه الرجم وهو كذلك، ولكن لا بد من ثبوت كونه من زنى، ولا ترجم بمجرد الحبل مع قيام الاحتمال فيه، لأن عمر لما أتى بالمرأة الحبلى وقالوا إنها زنت وهي تبكي فسألها ما يبكيك فأخبرت أن رجلا ركبها وهي نائمة فدرأ عنها الحد بذلك. قلت: ولا يخفى تكلفه، فإن عمر قابل الحبل بالاعتراف، وقسيم الشيء لا يكون قسمه، وإنما اعتمد من لا يرى الحد بمجرد الحبل قيام الاحتمال بأنه ليس عن زنى محقق، وأن الحد يدفع بالشبهة والله أعلم. وفيه أن من اطلع على أمر يريد الإمام أن يحدثه فله أن ينبه غيره عليه إجمالا ليكون إذا سمعه على بصيرة، كما وقع لابن عباس مع سعيد بن زيد. وإنما أنكر سعيد على ابن عباس لأن الأصل عنده أن أمور الشرع قد استقرت، فمهما أحدث بعد ذلك إنما يكون تفريعا عليها، وإنما سكت ابن عباس عن بيان ذلك له لعلمه بأنه سيسمع ذلك من عمر على الفور. وفيه جواز الاعتراض على الإمام في الرأي إذا خشي أمرا وكان فيما أشار به رجحان على ما أراده الإمام، واستدل به على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم لاتفاق عبد الرحمن بن عوف وعمر على ذلك، كذا قال المهلب فيما حكاه ابن بطال وأقره، وهو صحيح في حق أهل ذلك العصر، ويلتحق بهم من ضاهاهم في ذلك، ولا يلزم من ذلك أن يستمر ذلك في كل عصر بل ولا في كل فرد فرد. وفيه الحث على تبليغ العلم ممن حفظه وفهمه وحث من لا يفهم على عدم التبليغ إلا إن كان يورده بلفظه ولا يتصرف فيه. وأشار المهلب إلى أن مناسبة إيراد عمر حديث: "لا ترغبوا عن آبائكم " وحديث الرجم من جهة أنه أشار إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يقطع فيما لا نص فيه من القرآن أو السنة، ولا يتسور برأيه فيه فيقول أو يعمل بما تزين له نفسه، كما يقطع الذي قال: "لو مات عمر بايعت فلانا " لما لم يجد شرط من يصلح للإمامة منصوصا عليه في الكتاب فقاس ما أراد أن يقع له بما وقع في قصة أبي بكر فأخطأ القياس لوجود الفارق، وكان الواجب عليه أن يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة عنه ويعمل بما يدلونه عليه، فقدم عمر قصة الرجم وقصة النهي عن الرغبة عن الآباء وليسا منصوصين، في الكتاب المتلو وإن كانا مما أنزل الله واستمر حكمهما ونسخت تلاوتهما، لكن ذلك مخصوص بأهل العلم ممن اطلع على ذلك، وإلا فالأصل أن كل شيء نسخت تلاوته نسخ حكمه، وفي قوله: "أخشى إن طال بالناس زمان " إشارة إلى دروس العلم مع مرور الزمن فيجد الجهال السبيل إلى التأويل بغير علم، وأما الحديث الآخر وهو " لا تطروني " ففيه إشارة إلى تعليمهم ما يخشى عليهم جهله، قال: وفيه اهتمام الصحابة وأهل القرن الأول بالقرآن والمنع من الزيادة في المصحف، وكذا منع النقص بطريق الأولى، لأن الزيادة إنما تمنع لئلا يضاف إلى القرآن ما ليس منه فإطراح بعضه أشد، قال: وهذا يشعر بأن كل ما نقل عن السلف كأبي بن كعب وابن مسعود من زيادة ليست في الإمام إنما هي على سبيل التفسير ونحوه، قال: ويحتمل أن يكون ذلك كان في أول الأمر ثم استقر الإجماع على ما في الإمام وبقيت تلك الروايات تنقل لا على أنها ثبتت في المصحف. وفيه دليل

(12/155)


على أن من خشي من قوم فتنة وأن لا يجيبوا إلى امتثال الأمر الحق أن يتوجه إليهم ويناظرهم ويقيم عليهم الحجة وقد أخرج النسائي من حديث سالم بن عبيد الله قال: "اجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا الأنصار، فقالوا منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر فسيفان في غمد إذا لا يصلحان، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: من له هذه الثلاثة {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ؟ من صاحبه "إذ هما في الغار" من هما؟ فبايعه وبايعه الناس أحسن بيعة وأجملها. وفيه أن للكبير القدر أن يتواضع ويفضل من هو دونه على نفسه أدبا وفرارا من تزكية نفسه، ويدل عليه أن عمر لما قال له ابسط يدك لم يمتنع. وفيه أنه لا يكون للمسلمين أكثر من إمام. وفيه جواز الدعاء على من يخشى في بقائه فتنة، واستدل به على أن من قذف غيره عند الإمام لم يجب على الإمام أن يقيم عليه الحد حتى طلبه المقذوف لأن له أن يعفو عن قاذفه أو يريد الستر. وفيه أن على الإمام إن خشي من قوم الوقوع في محذور أن يأتيهم فيعظهم ويحذرهم قبل الإيقاع بهم، وتمسك بعض الشيعة بقول أبي بكر " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين " بأنه لم يكن يعتقد وجوب إمامته ولا استحقاقه للخلافة، والجواب من أوجه: أحدهما أن ذلك كان تواضعا منه، والثاني لتجويزه إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وإن كان من الحق له فله أن يتبرع لغيره. الثالث أنه علم أن كلا منهما لا يرضى أن يتقدمه فأراد بذلك الإشارة إلى أنه لو قدر أنه لا يدخل في ذلك لكان الأمر منحصرا فيهما، ومن ثم لما حضره الموت استخلف عمر لكون أبي عبيدة كان إذ ذاك غائبا في جهاد أهل الشام متشاغلا بفتحها، وقد دل قول عمر " لأن أقدم فتضرب عنقي إلخ، على صحة الاحتمال المذكور. وفيه إشارة ذي الرأي على الإمام بالمصلحة العامة بما ينفع عموما أو خصوصا وإن لم يستشره، ورجوعه إليه عند وضوح الصواب. واستدل بقول أبي بكر " أحد هذين الرجلين " أن شرط الإمام أن يكون واحدا، وقد ثبت النص الصريح في حديث مسلم: "إذا بايعوا الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" وإن كان بعضهم أوله بالخلع والإعراض عنه فيصير كمن قتل. وكذا قال الخطابي في قول عمر في حق سعد اقتلوه أي اجعلوه كمن قتل.

(12/156)


باب البكران يجلدان و ينفيان
...
32- باب الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: رَأْفَةٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ
6831- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ"
6832- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ "وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَرَّبَ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ"
6833- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي

(12/156)


هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ"
قوله: "باب البكران يجلدان وينفيان" هذه الترجمة لفظ خبر أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عن مسروق عن أبي بن كعب مثله وزاد: "والثيبان يجلدان ويرجمان " وأخرج ابن المنذر الزيادة بلفظ: "والثيبان يرجمان واللذان بلغا سنا يجلدان ثم يرجمان " وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسروق " البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يرجمان ولا يجلدان، والشيخان يجلدان ثم يرجمان " ورجاله رجال الصحيح وقد تقدمت الإشارة إلى هذه الزيادة في " باب رجم المحصن " ونقل محمد بن نصر في " كتاب الإجماع " الاتفاق على نفي الزاني إلا عن الكوفيين، ووافق الجمهور منهم ابن أبي ليلى وأبو يوسف، وادعى الطحاوي أنه منسوخ، وسأذكره في "باب لا تغريب على الأمة ولا تنفى". واختلف القائلون بالتغريب فقال الشافعي والثوري وداود والطبري بالتعميم، وفي قول للشافعي لا ينفى الرقيق، وخص الأوزاعي النفي بالذكورية، وبه قال مالك وقيده بالحرية، وبه قال إسحاق. وعن أحمد روايتان. واحتج من شرط الحرية بأن في نفي العبد عقوبة لمالكه لمنعه منفعته مدة نفيه، وتصرف الشرع يقتضي أن لا يعاقب إلا الجاني، ومن ثم سقط فرض الحج والجهاد عن العبد. وقال ابن المنذر: أقسم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف أنه يقضي فيه بكتاب الله ثم قال: إن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو المبين لكتاب الله. وخطب عمر بذلك على رءوس الناس، وعمل به الخلفاء الراشدون فلم ينكره أحد فكان إجماعا، واختلف في المسافة التي ينفى إليها: فقيل هو إلى رأي الإمام، وقيل يشترط مسافة القصر، وقيل إلى ثلاثة أيام، وقيل إلى يومين، وقيل يوم وليلة، وقيل من عمل إلى عمل، وقيل إلى ميل، وقيل إلى ما ينطلق عليه اسم نفي. وشرط المالكية الحبس في المكان الذي ينفى إليه، وسيأتي البحث فيه في باب " لا تغريب على الأمة ولا نفي " ومن عجيب الاستدلال احتجاج الطحاوي لسقوط النفي أصلا بأن نفي الأمة ساقط بقوله: "بيعوها" كما سيأتي تقريره قال: وإذا سقط عن الأمة سقط عن الحرة لأنها في معناها، ويتأكد بحديث: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " قال: وإذا انتفى أن يكون على النساء نفي انتفى أن يكون على الرجال، كذا قال وهو مبني على أن العموم إذا سقط خص الاستدلال به، وهو مذهب ضعيف جدا. قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} الآية كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى قوله: {الْمُؤْمِنِينَ} والمراد بذكر هذه الآية أن الجلد ثابت بكتاب الله، وقام الإجماع ممن يعتد به على اختصاصه بالبكر وهو غير المحصن، وقد تقدم بيان المحصن في "باب رجم المحصن" واختلفوا في كيفية الجلد فعن مالك يختص بالظهر لقوله في حديث اللعان "البينة وإلا جلد في ظهرك" وقال غيره: يفرق على الأعضاء ويتقي الوجه والرأس، ويجلد في الزنا والشرب والتعزير قائما مجردا، والمرأة قاعدة، وفي القذف وعليه ثيابه. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يجرد أحد في الحد، وليس في الآية للنفي ذكر فتمسك به الحنفية فقالوا: لا يزاد على القرآن بخبر الواحد، والجواب أنه مشهور لكثرة طرقه ومن عمل به من الصحابة، وقد عملوا بمثله بل بدونه كنقض الوضوء بالقهقهة وجواز الوضوء بالنبيذ وغير ذلك مما ليس في القرآن، وقد أخرج مسلم من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: كن يحبسن في البيوت إن ماتت ماتت وإن عاشت عاشت: لما نزل {وَاللَّاتِي

(12/157)


يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} حتى نزلت: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. قوله: "قال ابن عيينة رأفة في إقامة الحد" كذا للأكثر وسقط "في" لبعضهم ولبعضهم "ابن عليه" بلام وتحتانية ثقيلة وعليه جرى ابن بطال والأول المعتمد، وقد ذكر مغلطاي في شرحه أنه رآه في تفسير سفيان ابن عيينة. قلت: ووقع نظيره عند ابن أبي شيبة عن مجاهد بسند صحيح إليه وزاد بعد قوله في إقامة الحد "يقام ولا يعطل" والمراد بتعطيل الحد تركه أصلا أو نقصه عددا ومعنى، وقوله تعالى:{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} نقل ابن المنذر عن أحمد الاجتزاء بواحد، وعن إسحاق اثنين، وعن الزهري ثلاثة، وعن مالك والشافعي أربعة، وعن ربيعة ما زاد عليها، وعن الحسن عشرة. ونقل ابن أبي شيبة بأسانيده عن مجاهد أدناها رجل، وعن محمد بن كعب في قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} قال: هو رجل واحد، وعن عطاء اثنان، وعن الزهري ثلاثة، وسيأتي في أول خبر الواحد ما جاء في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}. قوله: "عبد العزيز" هو ابن أبي سلمة الماجشون. قوله: "عن زيد بن خالد" هكذا اختصر عبد العزيز من السند ذكر أبي هريرة ومن المتن سياق قصة العسيف كلها واقتصر منها على قوله: "يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام " ويحتمل أن يكون ابن شهاب اختصره لما حدث به عبد العزيز، وقوله، "جلد مائة" بالنصب على نزع الخافض. ووقع في رواية النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن عبد العزيز بلفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام " وقوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "أن عمر بن الخطاب" هو منقطع لأن عروة لم يسمع من عمر، لكنه ثبت عن عمر من وجه آخر أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب " أخرجوه من رواية عبد الله بن إدريس عنه، وذكر الترمذي أن أكثر أصحاب عبيد الله بن عمر رووه عنه موقوفا على أبي بكر وعمر. قوله: "غرب ثم لم تزل تلك السنة" زاد عبد الرزاق في روايته عن مالك " حتى غرب مروان " ثم ترك الناس ذلك يعني أهل المدينة. قوله في رواية الليث "عن عقيل" ووقع عند الإسماعيلي في رواية حجاج بن محمد عن الليث "حدثني عقيل". قوله: "عن سعيد بن المسيب" هكذا خالف عقيل عبد العزيز بن أبي سلمة في شيخ الزهري فإن كان هذا المتن مختصرا من قصة العسيف فقد وافق عبد العزيز جميع أصحاب الزهري فإن شيخه عندهم عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة لا سعيد بن المسيب، وإن كان حديثا آخر فالراجح قول عقيل لأنه أحفظ لحديث الزهري من عبد العزيز لكن قد روى عقيل عن الزهري الحديث الآخر موافقا لعبد العزيز أخرجهما النسائي من طريق حجين بمهملة ثم جيم مصغر ابن المثنى عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب فذكر الحديثين على الولاء حديث زيد بن خالد من رواية عبيد الله عنه وحديث أبي هريرة من رواية سعيد بن المسيب عنه، وابن شهاب صاحب حديث لا يستنكر منه حمله الحديث عن جماعة بألفاظ مختلفة. قوله: "بنفي عام وبإقامة الحد عليه" وقع في رواية النسائي: "أن ينفي عاما مع إقامة الحد عليه" وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن الليث، وعرف أن الباء في رواية يحيى بن بكير بمعنى مع والمراد بإقامة الحد ما ذكر في رواية عبد العزيز جلد المائة وأطلق عليها الجلد لكونها بنص القرآن، وقد تمسك بهذه الرواية من زعم أن النفي تعزير وأنه ليس جزءا من

(12/158)


الحد، وأجيب بأن الحديث يفسر بعضه بعضا، وقد وقع التصريح في قصة العسيف من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو ظاهر في كون الكل حده، ولم يختلف على راويه في لفظه فهو أرجح من حكاية الصحابي مع الاختلاف. ومما يؤيد كون حديثي الباب واحدا مع أنه اختلف على ابن شهاب في تابعيه وصحابيه أن الزيادة التي عن عمر عند عبد العزيز في حدث زيد بن خالد وقعت عند عقيل في حديث أبي هريرة، ففي آخر رواية حجاج بن محمد التي أشرت إليها عند الإسماعيلي: "قال ابن شهاب وكان عمر ينفي من المدينة إلى البصرة وإلى خيبر " وفيه إشارة إلى بعد المسافة وقربها في النفي بحسب ما يراه الإمام وأن ذلك لا يتقيد. والذي تحرر لي من هذا الاختلاف أن في حديثي الباب اختصارا من قصة العسيف وأن أصل الحديث كان عند عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد جميعا فكان يحدث به عنهما بتمامه وربما حدث عنه عن زيد بن خالد باختصار، وكان عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وحده باختصار والله أعلم. وفي الحديث جواز الجمع بين الحد والتعزير خلافا للحنفية إن أخذ بظاهر قوله: "مع إقامة الحد" وجواز الجمع بين الجلد والنفي في حق الزاني الذي لم يحصن خلافا لهم أيضا إن قلنا إن الجميع حد. واحتج بعضهم بأن حديث عبادة الذي فيه النفي منسوخ بآية النور لأن فيها الجلد بغير نفي، وتعقب بأنه يحتاج إلى ثبوت التاريخ، وبأن العكس أقرب فإن آية الجلد مطلقة في حق كل زان فخص منها في حديث عبادة الثيب، ولا يلزم من خلو آية النور عن النفي عدم مشروعيته كما لم يلزم من خلوها من الرجم ذلك، ومن الحجج القوية أن قصة العسيف كانت بعد آية النور لأنه كانت في قصة الإفك وهي متقدمة على قصة العسيف لأن أبا هريرة حضرها وإنما هاجر بعد قصة الإفك بزمان.

(12/159)


باب نفي أهل المعاصي و المخنثين
...
33- باب: نَفْيِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْمُخَنَّثِينَ
6834- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ، وَأَخْرَجَ فُلاَنًا وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنًا"
قوله: "باب نفي أهل المعاصي والخنثين" كأنه أراد الرد على من أنكر النفي على غير المحارب فبين أنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده في حق عير المحارب وإذا ثبت في حق من لم يقع منه كبيرة فوقوعه فيمن أتى كبيرة بطريق الأولى،. وقد تقدم ضبط المخنث في "باب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة". في أواخر النكاح. قوله: "هشام" هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير " وقد تقدم بيان الاختلاف على هشام في سنده في كتاب اللباس في " باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت " مع بقية شرحه. قوله: "وأخرج عمر فلانا" سقط لفظ عمر من رواية غير أبي ذر، وقد أخرج أبو داود الحديث عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بعد قوله: "وقال أخرجوهم من بيوتكم وأخرجوا فلانا وفلانا يعني المخنثين " وتقدم في اللباس عن معاذ بن فضالة عن هشام كرواية أبي ذر هنا، وكذا عند أحمد عن يزيد بن هارون وغيره عن هشام، وذكرت هناك اسم من نفاه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ولم أذكر اسم الذي نفاه عمر، ثم وقفت في " كتاب المغربين لأبي الحسن المدايني" من طريق الوليد بن سعيد قال: "سمع عمر قوما يقولون أبو ذؤيب أحسن أهل المدينة، فدعا به فقال: أنت لعمري، فأخرج عن المدينة

(12/159)


فقال: إن كنت تخرجني فإلى البصرة حيث أخرجت يا عمر نصر بن حجاج" وذكر قصة. نصر بن حجاج وهي مشهورة، وساق قصة جعدة السلمي وأنه كان يخرج مع النساء إلى البقيع ويتحدث إليهن حتى كتب بعض الغزاة إلى عمر يشكو ذلك فأخرجه، وعن مسلمة بن محارب عن إسماعيل بن مسلم أن أمية بن يزيد الأسدي ومولى مزينة كانا يحتكران الطعام بالمدينة فأخرجهما عمر، ثم ذكر عدة قصص لمبهم ومعين، فيمكن التفسير في هذه القصة ببعض هؤلاء. قال ابن بطال: أشار البخاري بإيراد هذه الترجمة عقب ترجمة الزاني إلى أن النفي إذا شرع في حق من أتى معصية لأحد فيها فلأن يشرع في حق من أتى ما فيه حد أولى، فتتأكد السنة الثابتة بالقياس ليرد به عل من عارض السنة بالقياس، فإذا تعارض القياسان بقيت السنة بلا معارض. واستدل به على أن المراد بالمخنثين المتشبهون بالنساء لا من يؤتي، فإن ذلك حده الرجم، ومن وجب رجمه لا ينفي، وتعقب بأن حده مختلف فيه، والأكثر أن حكمه حكم الزاني، فإن ثبت عليه جلد ونفى، لأنه لا يتصور فيه الإحصان، وإن كان يتشبه فقط نفى فقط، وقيل إن في الترجمة إشارة إلى ضعف القول الصائر إلى رجم الفاعل والمفعول به وأن هذا الحديث الصحيح لم يأت فيه إلا النفي، وفي هذا نظر لأنه لم يثبت عن أحد ممن أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤتي، وقد أخرج أبو داود من طريق أبي هاشم عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه فقالوا: ما بال هذا؟ قيل يتشبه بالنساء، فأمر به فنفى إلى النقيع" يعني بالنون والله أعلم.

(12/160)


باب من أمر غير الامام باقامة الحد غالبا عنه
...
34- باب: مَنْ أَمَرَ غَيْرَ الإِمَامِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ غَائِبًا عَنْهُ
6835 ، 6836- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَزَعَمُوا أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا، فَغَدَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا"
قوله: "باب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبا عنه" قال الكرماني: في هذا التركيب قلق، وكان الأولى أن يبدل لفظ: "غير " بالضمير فيقول من أمره الإمام إلخ. وقال ابن بطال: قد ترجم بعد، يعني في آخر أبواب الحدود " هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبا عنه " ومعنى الترجمتين واحد، كذا قال، ويظهر لي أن بينهما تغايرا من جهة أن قوله في الأول غائبا عنه حال من المأمور وهو الذي يقيم الحد، وفي الآخر حال من الذي يقام عليه الحد. ثم ذكر حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف، وقد مضى شرحه مستوفى قريبا. وقوله في هذه الرواية: "فقام خصمه فقال: صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني " قال الكرماني: القائل هو الأعرابي لا خصمه، لأنه وقع في كتاب الصلح " جاء أعرابي فقال يا رسول الله. اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه وقال: صدق اقض بيننا بكتاب الله، فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفا". قلت: بل الذي قال: اقض بيننا هو

(12/160)


والد العسيف، ففي الرواية الماضية قريبا في باب الاعتراف بالزنا " فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي إلخ " هذه رواية سفيان بن عيينة ووافقه الجمهور، فتقدمت رواية مالك في الأيمان والنذور ورواية الليث في الشروط وتأتي رواية صالح بن كيسان وشعيب بن أبي حمزة في خبر الواحد وكذا أخرجه مسلم من رواية الليث وصالح بن كيسان ومعمر وساقه على لفظ الليث، ومع ذلك فالاختلاف في هذا على ابن أبي ذئب، فإنه رواه عن الزهري هنا وفي الصلح، فالراوي له في الصلح عن ابن أبي ذئب آدم بن أبي إياس وهنا عاصم بن علي، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق يزيد ابن هارون عن ابن أبي ذئب فوافق عاصم بن علي وهذا هو المعتمد، وإن قوله في رواية آدم "فقال الأعرابي" زيادة إلا إن كان كل من الخصمين متصفا بهذا الوصف، وليس ذلك ببعيد، والله أعلم.

(12/161)


باب قول الله تعالى { و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات }
...
35- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ زَوَانِي وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ أَخِلاَءَ
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية" كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، قال الواحدي قرئ {الْمُحْصَنَاتِ} في القرآن بكسر الصاد وفتحها إلا في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فبالفتح جزما، وقرئ {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بالضم وبالفتح، فالبضم معناه التزويج وبالفتح معناه الإسلام، وقال غيره: اختلف في إحصان الأمة، فقال الأكثر إحصانها التزويج، وقيل العتق، وعن ابن عباس وطائفة إحصانها التزويج، ونصره أبو عبيد وإسماعيل القاض واحتج له بأنه تقدم في الآية قوله تعالى :{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فيبعد أن يقول بعده فإذا أسلمن، قال: فإن كان المراد التزويج كان مفهومه أنها قبل أن تتزوج لا يجب عليها الحد إذا زنت، وقد أخذ به ابن عباس فقال: لأحد على الأمة إذا زنت قبل أن تتزوج، وبه قال جماعة من التابعين، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو وجه للشافعية، واحتج بما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس " ليس على الأمة حد حتى تحصن " وسنده حسن لكن اختلف في رفعه ووقفه والأرجح وقفه وبذلك جزم ابن خزيمة وغيره، وادعى ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" أنه منسوخ بحديث الباب، وتعقب بأن النسخ يحتاج إلى التاريخ وهو لم يعلم، وقد عارضه حديث على "أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن" واختلف أيضا في رفعه ووقفه، والراجح أنه موقوف، لكن سياقه في مسلم يدل على رفعه فالتمسك به أقوى، وإذا حمل الإحصان في الحديث على التزويج وفي الآية على الإسلام حصل الجمع، وقد بينت السنة أنها إذا زنت قبل الإحصان تجلد، وقال غيره التقييد بالإحصان يفيد أن الحكم في حقها الجلد لا الرجم، فأخذ حكم زناها بعد الإحصان من الكتاب وحكم زناها قبل الإحصان من السنة، والحكمة فيه أن الرجم لا ينتصف فاستمر حكم الجلد في حقها. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون نص على الجلد في أكمل حاليها ليستدل به على سقوط الرجم عنها لا على إرادة إسقاط الجلد عنها إذا لم تتزوج، وقد بينت السنة أن عليها الجلد

(12/161)


وإن لم تحصن. قوله: "غير مسافحات زواني، ولا متخذات أخدان أخلاء" بفتح الهمزة وكسر المعجمة والتشديد جمع خليل، وهذا التفسير ثبت في رواية المستملي وحده، وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، والمسافحات جمع مسافحة مأخوذ من السفاح وهو من أسماء الزنا، والأخدان جمع خدن بكسر أوله وسكون ثانيه وهو الخدين والمراد به الصاحب، قال الراغب: وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب غيره بشهوة، وأما قول الشاعر في المدح "خدين المعالي" فهو استعارة. قلت: والنكتة فيه أنه جعله يشتهي معالي الأمور كما يشتهي غيره الصورة الجميلة فجعله خدينا لها. وقال غيره: الخدين الخليل في السر.
باب: إِذَا زَنَتْ الأَمَةُ
6837 ، 6838- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ "عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ: إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ
قوله: "باب إذا زنت الأمة" أي ما يكون حكمها؟ وسقطت هذه الترجمة للأصيلي، وجرى على ذلك ابن بطال وصار الحديث المذكور فيها حديث الباب المذكور قبلها، ولكن صرح الإسماعيلي بأن الباب الذي قبلها لا حديث فيه، وقد تقدم الجواب عن نظيره وأنه إما أن يكون أخلى بياضا في المسودة فسده النساخ بعده، وإما أن يكون اكتفى بالآية وتأويلها في الحدث المرفوع، وهذا هو الأقرب لكثرة وجود مثله في الكتاب. قوله: "عن أبي هريرة وزيد بن خالد" سبق التنبيه في شرح قصة العسيف على أن الزبيدي ويونس زادا في روايتهما لهذا الحديث عن الزهري شبل بن خليل أو ابن حامد، وتقدم بيانه مفصلا. قوله: "سئل عن الأمة" في رواية حميد بن عبد الرحمن عن أي هريرة " أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جاريتي زنت فتبين زناها، قال: اجلدها " ولم أقف على اسم هذا الرجل. قوله: "إذا زنت ولم تحصن" تقدم القول في المراد بهذا الإحصان، قال ابن بطال: زعم من قال لا جلد عليها قبل التزويج بأنه لم يقل في هذا الحديث: "ولم تحصن " غير مالك، وليس كما زعموا فقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن شهاب كما قال مالك، وكذا رواه طائفة عن ابن عيينة عنه. قلت: رواية يحيى بن سعيد أخرجها النسائي ورواية ابن عيينة تقدمت في البيوع ليس فيها "ولم تحصن" وزادها النسائي في روايته عن الحارث بن مسكين عن ابن عيينة بلفظ: "سئل عن الأمة تزني قبل أن تحصن " وكذا عند ابن ماجة عن أبي بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن الصباح كلاهما عن ابن عيينة، وقد رواه عن ابن شهاب أيضا صالح بن كيسان كما قال مالك وتقدمت روايته في كتاب البيوع في "باب بيع المدبر" وكذا أخرجهما مسلم والنسائي، ووقع في رواية سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة هناك بدونها وسيأتي قريبا أيضا، وعلى تقدير أن مالكا تفرد بها فهو من الحفاظ وزيادته مقبولة، وقد سبق الجواب عن مفهومها. قوله: "قال إن زنت فاجلدوها" قيل أعاد الزنا في الجواب غير مقيد بالإحصان للتنبيه على أنه لا أثر له وأن موجب الحد في الأمة مطلق الزنا، ومعنى "اجلدوها" الحد اللائق بها المبين في الآية وهو نصف ما على الحرة، وقد وقع في رواية أخرى عن أبي هريرة: فليجلدها الحد

(12/162)


والخطاب في اجلدوها لمن يملك الأمة، فاستدل به على أن السيد يقيم الحد على من يملكه من جارية وعبد، أما الجارية فبالنص وأما العبد فبالإلحاق، وقد اختلف السلف فيمن يقيم الحدود على الأرقاء: فقالت طائفة لا يقيمها إلا الإمام أو من يأذن له وهو قول الحنفية، وعن الأوزاعي والثوري لا يقيم السيد إلا حد الزنا، واحتج الطحاوي بما أورده من طريق مسلم ابن يسار قال: "كان أبو عبد الله رجل من الصحابة يقول: الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان " قال الطحاوي لا نعلم له مخالفا من الصحابة، وتعقبه ابن حزم فقال: بل خالفه اثنا عشر نفسا من الصحابة، وقال آخرون يقيمها السيد ولو لم يأذن له الإمام وهو قول الشافعي، وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر " في الأمة إذا زنت ولا زوج لها يحدها سيدها، فإن كانت ذات زوج فأمرها إلى الإمام " وبه قال مالك إلا إن كان زوجها عبدا لسيدها فأمرها إلى السيد، واستثنى مالك القطع في السرقة، وهو وجه للشافعية وفي آخر يستثنى حد الشرب، واحتج للمالكية بأن في القطع مثلة فلا يؤمن السيد أن يريد أن يمثل بعده فيخشى أن يتصل الأمر بمن يعتقد أنه يعتق بذلك فيدعى عليه السرقة لئلا يعتق فيمنع من مباشرته القطع سدا للذريعة، وأخذ بعض المالكية من هذا التعليل اختصاص ذلك بما إذا كان مستند السرقة علم السيد أو الإقرار، بخلاف ما لو ثبتت بالبينة فإنه يجوز للسيد لفقد العلة المذكورة، وحجة الجمهور حديث على المشار إليه قبل وهو عند مسلم والثلاثة، وعند الشافعية خلاف في اشتراط أهلية السيد لذلك، وتمسك من لم يشترط بأن سبيله سبيل الاستصلاح فلا يفتقر للأهلية. وقال ابن حزم: يقيمه السيد إلا إن كان كافرا، واحتج بأنهم لا يقرون إلا بالصغار وفي تسليطه على إقامة الحد منافاة لذلك. وقال ابن العربي: في قول مالك إن كانت الأمة ذات زوج لم يحدها الإمام من أجل أن للزوج تعلقا بالفرج في حفظه عن النسب الباطل والماء الفاسد، لكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع، يعني حديث على المذكور الدال على التعميم في ذات الزوج وغيرها، وقد وقع في بعض طرقه: "من أحصن منهم ومن لم يحصن". قوله: "ثم بيعوها ولو بضفير" بفتح الضاد المعجمة غير المشالة ثم فاء أي المضفور فعيل بمعنى مفعول، زاد يونس وابن أخي الزهري والزبيدي ويحيى بن سعيد كلهم عن ابن شهاب عند النسائي: "والضفير الحبل " وهكذا أخرجه عن قتيبة عن مالك وزادها عمار بن أبي فروة عن محمد بن مسلم وهو ابن شهاب الزهري عند النسائي وابن ماجة، لكن خالف في الإسناد فقال: "إن محمد بن مسلم حدثه أن عروة وعمرة حدثاه أن عائشة حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا زنت الأمة فاجلدوها " وقال في آخره: "ولو بضفير والضفير الحبل " وقوله والضفير الحبل مدرج في هذا الحديث من قوله الزهري على ما بين في رواية القعنبي عن مالك عند مسلم وأبي داود فقال في آخره: "قال ابن شهاب والضفير الحبل " وكذلك ذكره الدار قطني في الموطآت منسوبا لجميع من روى الموطأ إلا ابن مهدي فإن ظاهر سياقه أنه أدرجه أيضا، ومنهم من لم يذكر قوله والضفير الحبل كما في رواية الباب. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة" لم يختلف في رواية مالك في هذا، وكذا في رواية صالح بن كيسان وابن عيينة، وكذا في رواية يونس والزبيدي عن الزهري عند النسائي، وكذا في رواية معمر عند مسلم وأدرجه في رواية يحيى بن سعيد عند النسائي ولفظه: "ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير بعد الثالثة أو الرابعة " ولم يقل قال ابن شهاب وعن قتيبة عن مالك كذلك، وأدرج أيضا في رواية محمد بن أبي فروة عن الزهري في حدث عائشة عند النسائي، والصواب التفصيل، وأما

(12/163)


الشك في الثالثة أو في الرابعة فوقع في حديث أبي صالح عن أبي هريرة عند الترمذي " فليجلدها ثلاثا فإن عادت فليبعها " ونحوه في مرسل عكرمة عند أبي قرة بلفظ: "وإذا زنت الرابعة فبيعوها " ووقع في رواية سعيد المقبري المذكورة في الباب الذي يليه " ثم إن زنت الثالثة فليبعها " ومحصل الاختلاف هل يجلدها في الرابعة قبل البيع أو يبيعها بلا جلد؟ والراجح الأول ويكون سكوت من سكت عنه للعلم بأن الجلد لا يترك ولا يقوم البيع مقامه، ويمكن الجمع بأن البيع يقع بعد المرة الثالثة في الجلد لأنه المحقق فيلغي الشك، والاعتماد على الثلاث في كثر من الأمور المشروعة. وقوله: "ولو بضفير" أي حبل مضفور، ووقع في رواية المقبري " ولو بحبل من شعر " وأصل الضفر نسج الشعر وإدخال بعضه في بعض ومنه ضفائر شعر الرأس للمرأة وللرجل، قيل لا يكون مضفورا إلا إن كان من ثلاث، وقيل شرطه أن يكون عريضا وفيه نظر. وفي الحديث أن الزنا عيب يرد به الرقيق للأمر بالحط من قيمة المرقوق إذا وجد منه الزنا، كذا جزم به النووي تبعا لغيره، وتوقف فيه ابن دقيق العيد لجواز أن يكون المقصود الأمر بالبيع ولو انحطت القيمة فيكون ذلك متعلقا بأمر وجودي لا إخبارا عن حكم شرعي إذ ليس في الخبر تصريح بالأمر من حط القيمة. وفيه أن من زنى فأقيم عليه الحد ثم عاد أعيد عليه، بخلاف من زنى مرارا فإنه يكتفي فيه بإقامة الحد عليه مرة واحدة على الراجح. وفيه الزجر عن مخالطة الفساق ومعاشرتهم ولو كانوا من الإلزام إذا تكرر زجرهم ولم يرتدعوا ويقع الزجر بإقامة الحد فيما شرع فيه الحد وبالتعزير فيما لا حد فيه. وفيه جواز عطف الأمر المقتضى للندب على الأمر المقتضى للوجوب لأن الأمر بالجلد واجب والأمر بالبيع مندوب عند الجمهور خلافا لأبي ثور وأهل الظاهر، وادعى بعض الشافعية أن سبب صرف الأمر عن الوجوب أنه منسوخ، وممن حكاه ابن الرفعة في المطلب ويحتاج إلى ثبوت، وقال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مساعدة من تكرر منه الزنا لئلا ظن بالسيد الرضا بذلك ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا، قال: وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف لي من الأمة فلا يستقل به، وقد ثبت النهي عن إضاعة المال فكيف يجب بيع الأمة ذات القيمة بحبل من شعر لا قيمة له: فدل على أن المراد الزجر عن معاشرة من تكرر منه ذلك، وتعقب بأنه لا دلالة فيه عل بيع الثمين بالحقير وإن كان بعضهم قد استدل به على جواز بيع المطلق التصرف ماله بدون قيمته ولو كان بما يتغابن بمثله إلا أن قوله: "ولو بحبل من شعر " لا يراد به ظاهره وإنما ذكر للمبالغة كما وقع في حديث: "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة " على أحد الأجوبة، لأن قدر المفحص لا يسع أن يكون مسجدا حقيقة، فلو وقع ذلك في عين مملوكة لمحجور فلا يبيعها وليه إلا بالقيمة، ويحتمل أن يطرد لأن عيب الزنا تنقص به القيمة عند كل أحد فيكون بيعها بالنقصان بيعا بثمن المثل نبه عليه القاضي عياض ومن تبعه، وقال ابن العربي: المراد من الحديث الإسراع بالبيع وإمضاؤه ولا يتربص به طلب الراغب في الزيادة، وليس المراد بيعه بقيمة الحبل حقيقة، وفيه أنه يجب عل البائع أن يعلم المشتري بعيب السلعة لأن قيمتها إنما تنقص مع العلم بالعيب حكاه ابن دقيق العيد، وتعقبه بأن العيب لو لم يعلم له تنقص القيمة فلا يتوقف على الإعلام، واستشكل الأمر ببيع الرقيق إذا زنى مع أن كل مؤمن مأمور أن يرى لأخيه ما يرى لنفسه، ومن لزم البيع أن يوافق أخاه المؤمن على أن يقتني ما لا يرضي اقتناءه لنفسه، وأجيب بأن السبب الذي باعه لأجله ليس محقق الوقوع عند المشتري لجواز أن يرتدع الرقيق إذا علم أنه متى عاد أخرج فإن الإخراج من الوطن المألوف شاق، ولجواز أن قع الإعفاف عند المشتري بنفسه أو بغيره،

(12/164)


قال ابن العربي: يرجى عند تبديل المحل تبديل الحال، ومن المعلوم أن للمجاورة تأثيرا في الطاعة وفي المعصية، قال النووي: وفيه أن الزاني إذا حد ثم زنى لزمه حد آخر ثم كذلك أبدا، فإذا زنى مرات ولم يدل فلا يلزمه إلا حد واحد. قلت: من قوله فإذا زنى ابتداء كلام قاله لتكميل الفائدة وإلا فليس في الحديث ما يدل عليه إثباتا ولا نفيا بخلاف الشق الأول فإنه ظاهر، وفيه إشارة إلى أن العقوبة في التعزيرات إذا لم يفد مقصودها من الزجر لا يفعل لأن إقامة الحد واجبة، فلما تكرر ذلك ولم يفد عدل إلى ترك شرط إقامته على السيد وهو الملك، ولذلك قال: "بيعوها " ولم يقل اجلدوها كلما زنت، ذكره ابن دقيق العيد وقال قد تعرض إمام الحرمين لشيء من ذلك فقال: إذا علم المعزر في أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح فليتركه لأن المبرح يهلك وليس له الإهلاك، وغير المبرح لا يفيد، قال الرافعي: وهو مبني على أن الإمام لا يجب عليه تعزير من يستحق التعزير، فإن قلنا يجب التحق بالحد فليعزره بغير المبرح وإن لم ينزجر. وفيه أن السيد يقيم الحد على عبده وإن لم يستأذن السلطان، وسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب.

(12/165)


باب لا يثرب على الأمة إذا زنت و لا تنفى
...
36- باب: لاَ يُثَرَّبُ عَلَى الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلاَ تُنْفَى
6839- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا زَنَتْ الأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ" تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى" أما التثريب بمثناة ثم مثلثة ثم موحدة فهو التعنيف وزنه ومعناه. وقد جاء بلفظ: "ولا يعنفها" في رواية عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عند النسائي، وأما النفي فاستنبطوه من قوله: "فليبعها" لأن المقصود من النفي الإبعاد عن الوطن الذي وقعت فيه المعصية وهو حاصل بالبيع، وقال ابن بطال: وجه الدلالة أنه قال: "فليجلدها " وقال: "فليبعها " فدل على سقوط النفي لأن الذي ينفي لا يقدر على تسليمه إلا بعد مدة فأشبه الآبق. قلت: وفيه نظر لجواز أن يتسلمه المشتري مسلوب المنفعة مدة النفي، أو يتفق بيعه لمن يتوجه إلى المكان الذي يصدق عليه وجود النفي، وقال ابن العربي: تستثنى الأمة لثبوت حق السيد فيقدم على حق الله، وإنما لم يسقط الحد لأنه الأصل والنفي فرع. قلت: وتمامه أن يقال: روعي حق السيد فيه أيضا بترك الرجم لأنه فوت المنفعة من أصلها بخلاف الجلد، واستمر نفي العبد إذ لا حق للسيد في الاستمتاع به، واستدل من استثنى نفي الرقيق بأنه لا وطن له وفي نفيه قطع حق السيد لأن عموم الأمر بنفي الزاني عارضه عموم نهى المرأة عن السفر بغير المحرم، وهذا خاص بالإماء من الرقيق دون الذكور وبه احتج من قال: لا يشرع نفي النساء مطلقا كما تقدم في " باب البكران يجلدان وينفيان " واختلف من قال بنفي الرقيق، فالصحيح نصف سنة، وفي وجه ضعيف عند الشافعية سنة كاملة، وفي ثالث لا نفي على رقيق وهو قول الأئمة الثلاثة والأكثر. قوله: "إذا زنت الأمة فتبين زناها" أي ظهر، وشرط بعضهم أن يظهر بالبينة مراعاة للفظ تبين، وقيل يكتفي في ذلك بعلم السيد. قوله: "فليجلدها" أي الحد الواجب عليها المعروف من صريح الآية {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ووقع في رواية النسائي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة "فليجلدها بكتاب الله". قوله: "ولا

(12/165)


يثرب" أي لا يجمع عليها العقوبة بالجلد وبالتعيير، وقيل المراد لا يقتنع بالتوبيخ دون الجلد، وفي رواية سعيد عن أبي هريرة عند عبد الرزاق " ولا يعيرها ولا يفندها " قال ابن بطال: يؤخذ منه أن كل من أقيم عليه الحد لا يعزر بالتعنيف واللوم وإنما يليق ذلك بمن صدر منه قبل أن يرفع إلى الإمام للتحذير والتخويف، فإذا رفع وأقيم عليه الحد كفاه. قلت: وقد تقدم قريبا نهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الذي أقيم عليه حد الخمر وقال: "لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم". قوله: "تابعه إسماعيل بن أمية عن سعيد عن أبي هريرة" يريد في المتن لا في السند، لأنه نقص منه قوله: "عن أبيه" ورواية إسماعيل وصلها النسائي من طريق بشر بن المفضل عن إسماعيل بن أمية ولفظه مثل الليث، إلا أنه قال: "فإن عادت فزنت فليبعها " والباقي سواء، ووافق الليث على زيادة قوله: "عن أبيه" محمد بن إسحاق أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، ووافق إسماعيل على حذفه عبيد الله بن عمر العمري عندهم وأيوب بن موسى عند مسلم والنسائي ومحمد بن عجلان وعبد الرحمن بن إسحاق عند النسائي، ووقع في رواية عبد الرحمن المذكور عن سعيد سمعت أبا هريرة ولإسماعيل فيه شيخ آخر رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وقال إنه خطأ والصواب الأول، ووقع في رواية حميد هذه بلفظ آخر قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: جاريتي زنت فتبين زناها، قال: اجلدها خمسين " الحديث.

(12/166)


باب أحكام أهل الذمة و إحصانهم إذا زنوا و رفعوا إلى الامام
...
37- باب: أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِحْصَانِهِمْ إِذَا زَنَوْا وَرُفِعُوا إِلَى الإِمَامِ
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى عَنْ الرَّجْمِ فَقَالَ: "رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَقَبْلَ النُّورِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي". تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمُحَارِبِيُّ وَعَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَائِدَةِ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ
6841- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ"؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ"
قوله: "باب أحكام أهل الذمة" أي اليهود والنصارى وسائر من تؤخذ منه الجزية. قوله: "وإحصانهم إذا زنوا" يعني خلافا لمن قال إن من شروط الإحصان الإسلام. قوله: "ورفعوا إلى الإمام" أي سواء جاءوا إلى حاكم المسلمين ليحكموه أو رفعهم إليه غيرهم متعديا عليهم خلافا لمن قيد ذلك بالشق الأول كالحنفية وسأذكر ذلك مبسوطا، وذكر فيه حديثين: الحديث الأول، قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان. قوله: "عن الرجم" أي رجم من ثبت أنه زنى وهو محصن. قوله: "فقال رجم النبي صلى الله عليه وسلم" كذا أطلق،

(12/166)


فقال الكرماني: مطابقته للترجمة من حيث الإطلاق قلت: والذي ظهر لي أنه جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو ما أخرجه أحمد والإسماعيلي والطبراني من طريق هشيم عن الشيباني قال: "قلت هل رجم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم رجم يهوديا ويهودية " وسياق أحمد مختصر. قوله: "أقبل النور؟" أي سورة النور، والمراد بالقبلية النزول "قوله أم بعد" ؟ في رواية الكشميهني: "أم بعده". قوله: "لا أدري" فيه أن الصحابي الجليل قد تخفى عليه بعض الأمور الواضحة، وأن الجواب من الفاضل بلا أدري لا عيب عليه فيه بل يدل على تحريه وتثبته فيمدح به. قوله: "تابعه علي بن مسهر" قلت وصلها ابن أبي شيبة عنه عن الشيباني قال: "قلت لعبد الله بن أبي أوفي " فذكر مثله بلفظ: "قلت بعد سورة النور". قوله: "وخالد بن عبد الله" أي الطحان وهي عند المؤلف في " باب رجم المحصن " وقد تقدم لفظه. قوله: "والمحاربي" يعني عبد الرحمن بن محمد الكوفي. قوله: "وعبيدة" بفتح أوله، وأبوه حميد بالتصغير، ومتابعته وصلها الإسماعيلي من رواية أبي ثور وأحمد ابن منيع قالا حدثنا عبيدة بن حميد وجرير هو ابن عبد الله عن الشيباني ولفظه: "قلت قبل النور أو بعدها". قوله: "وقال بعضهم" أي بعض المسلمين وهو عبيدة فإن لفظه في مستند أحمد بن منيع ومن طريقه الإسماعيلي: "فقلت بعد سورة المائدة أو قبلها "؟ كذا وقع في رواية هشيم التي أشرت إليها قبل. قوله: "والأول أصح" أي في ذكر النور. قلت: ولعل من ذكره توهم من ذكر اليهودي واليهودية أن المراد سورة المائدة لأن فيها الآية التي نزلت بسبب سؤال اليهود عن حكم اللذين زنيا منهم. الحديث الثاني قوله: "عن نافع" في موطأ محمد بن الحسن وحده "حدثنا نافع" قاله الدار قطني في الموطآت. قوله: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا" ذكر السهيلي عن ابن العربي (1) أن اسم المرأة بسرة بضم الموحدة وسكون المهملة ولم يسم الرجل، وذكر أبو داود السبب في ذلك من طريق الزهري " سمعت رجلا من مزينة ممن تبع العلم وكان عند سعيد بن المسيب يحدث عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك. قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا منهم " ونقل ابن العربي عن الطبري والثعلبي عن المفسرين قالوا " انطلق قوم من قريظة والنضير منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد في عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وشاس بن قيس ويوسف ابن عازوراء فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجل وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا واسم المرأة بسرة، وكانت خيبر حينئذ حربا فقال لهم اسألوه، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا " فذكر القصة مطولة، ولفظ الطبري من طريق الزهري المذكورة " إن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم قد أحصنت " فذكر القصة وفيها " فقال اخرجوا إلى عبد الله بن صوريا الأعور" قال أبي إسحاق "ويقال إنهم أخرجوا معه أبا ياسر بن أحطب ووهب بن يهودا، فخلا النبي صلى الله عليه وسلم، بابن صوريا " فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث البراء " مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم" وهذا يخالف الأول من حيث إن فيه أنهم ابتدءوا السؤال قبل إقامة الحد، وفي هذا أنهم أقاموا الحد قبل السؤال،
ـــــــ
(1) في نسخة عن ابن العمري

(12/167)


ويمكن الجمع بالتعدد بأن يكون الذين سألوا عنهما غير الذي جلدوه، ويحتمل أن يكون: بادروا فجلدوه ثم بدا لهم فسألوا فاتفق المرور بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك فأمرهم بإحضارهما فوقع ما وقع والعلم عند الله، ويؤيد الجمع ما وقع عند الطبراني من حديث ابن عباس " أن رهطا من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ومعهم امرأة فقالوا: يا محمد ما أنزل عليك في الزنا " فيتجه أنهم جلدوا الرجل ثم بدا لهم أن يسألوا عن الحكم فأحضروا المرأة وذكروا القصة والسؤال، ووقع في رواية عبيد الله العمري عن نافع عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية زنيا " ونحوه في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر الماضية قريبا ولفظه: "أحدثا" وفي حديث عبد الله بن الحارث عند البزار " أن اليهود أتوا بيهوديين زنيا وقد أحصنا". قوله: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم" قال الباجي: يحتمل أن يكون علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع لم يلحقه تبدل، ويحتمل أن يكون علم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم منهم على وجه حصل له به العلم بصحة نقلهم، ويحتمل أن يكورن إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يتعلم صحة ذلك من قبل الله تعالى. قوله: "فقالوا نفضحهم" بفتح أوله وثالثه من الفضيحة. قوله: "ويجلدون" وقع بيان الفضيحة في رواية أيوب عن نافع الآتية في التوحيد بلفظ: "قالوا نسخم وجوههما، ونخزيهما " وفي رواية عبد الله بن عمر " قالوا نسود وجوههما ونحممهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما" وفي رواية عبد الله بن دينار " أن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه " وفي حديث أبي هريرة " يحمم ويجبه ويجلد " والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما وطاف بهما، وقد تقدم في " باب الرجم بالبلاط " النقل عن إبراهيم الحربي أنه جزم بأن تفسير التجبيه من قول الزهري فكأنه أدرج في الخبر لأن أصل الحديث من روايته. وقال المنذري: يشبه أن يكون أصله الهمزة وأنه التجبئة وهي الردع والزجر يقال جبأته تجبيئا أي ردعته، والتجبيه أن ينكس رأسه فيحتمل أن يكون من فعل به ذلك ينكس رأسه استحياء فسمى ذلك الفعل تجبيه. ويحتمل أن يكون من الجبه وهو الاستقبال بالمكروه وأصله من إصابة الجبهة تقول جبهته إذا أصبت جبهته كرأسه إذا أصبت رأسه، وقال الباجي: ظاهر الأمر أنهم قصدوا في جوابهم تحريف حكم التوراة والكذب على النبي إما رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله وإما لأنهم قصدوا بتحكيمه التخفيف عن الزانيين واعتقدوا أن ذلك يخرجهم عما وجب عليهم، أو قصدوا اختبار أمره، لأنه من المقرر أن من كان نبيا لا يقر على باطل، فظهر بتوفيق الله نبيه كذبهم وصدقه ولله الحمد. قوله: "قال عبد الله بن سلام: كذبتم، أن فيها الرجم" رواية أيوب وعبيد الله بن عمر " قال فأتوا بالتوراة قال فاتلوها إن كنتم صادقين". قوله: "فأتوا" بصيغة الفعل الماضي، وفي رواية أيوب فجاءوا وزاد عبيد الله بن عمر " بها فقرؤها " وفي رواية زيد بن أسلم "فأتى بها فنزع الوسادة من تحته فوضع التوراة عليها ثم قال آمنت بك وبمن أنزلك " وفي حديث البراء عند مسلم: "فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك بالله وبمن أنزله " وفي حديث جابر عند أبي دواد " فقال ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتى بابن صوريا " زاد الطبري في حديث ابن عباس " ائتوني برجلين من علماء بني إسرائيل، فأتوه برجلين أحدهما شاب والآخر شيخ قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر " ولابن أبي حاتم من طريق مجاهد " أن اليهود استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزانيين فأفتاهم بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يأتوا بأحبارهم فناشدهم فكتموه إلا رجلا من أصاغرهم أعور فقال: كذبوك يا رسول الله في التوراة". قوله: "فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها

(12/168)


وما بعدها" ونحوه في رواية عبد الله بن دينار وفي رواية عبيد الله بن عمر " فوضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم فقرأ ما بين يديها وما وراءها " وفي رواية أيوب " فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور اقرأ. فقرأ، حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه " واسم هذا الرجل عبد الله بن صوريا كما تقدم، وقد وقع عند النقاش في تفسيره أنه أسلم، لكن ذكر مكي في تفسيره أنه ارتد بعد أن أسلم، كذا ذكر القرطبي، ثم وجدته عند الطبري بالسند المتقدم في الحديث الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناشده قال: "يا رسول الله إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك " وقال في آخر الحديث: "ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ونزلت فيه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآية. قوله: "فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك لم فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم" في رواية عبد الله بن دينار " فإذا آية الرجم تحت يده " ووقع في حديث البراء " فحده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم " ووقع بيان ما في التوراة من آية الرجم في رواية أبي هريرة " المحصن والمحصنة إذا زنيا فقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها " وفي حديث جابر عند أبي داود " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما " زاد البزار من هذا الوجه " فإن وجدوا الرجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة وفيها عقوبة، قال فما منعكما أن ترجموهما قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل " وفي حديث أبي هريرة " فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذوا قرابة من الملك فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل شريف فأرادوا رجمه فحال قومه دونه وقالوا ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة، وفي حديث ابن عباس عند الطبراني " إنا كنا شببة وكان في نسائنا حسن وجه فكثر فينا فلم يقم له فصرنا نجلد " والله أعلم. قوله: "فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما" زاد في حديث أبي هريرة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أحكم بما في التوراة " وفي حديث البراء " اللهم إني أول من أحي أمرك إذ أماتوه " ووقع في حديث جابر من الزيادة أيضا: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما". قوله: "فرأيت الرجل يحني" كذا في رواية أبي ذر عن السرخسي بالحاء المهملة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة، وعن المستملي والكشميهني بجيم ونون مفتوحة ثم همزة، وهو الذي قال ابن دقيق العيد إنه الراجح في الرواية، وفي رواية أيوب "يجانئ" بضم أوله وجيم مهموز. وقال ابن عبد البر: وقع في رواية يحيى بن يحيى كالسرخسي والصواب "يحني" أي يميل. وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه: الأولان والثالث بضم أوله والجيم وكسر النون وبالهمزة، الرابع كالأول إلا أنه بالموحدة بدل النون، الخامس كالثاني إلا أنه بواو بدل التحتانية، السادس كالأول إلا أنه بالجيم، السابع بضم أوله وفتح المهملة وتشديد النون، الثامن "يجاني" بالنون التاسع مثله لكن بالحاء، العاشر مثله لكنه بالفاء بدل النون وبالجيم أيضا. ورأيت في "الزهريات الذهلي" بخط الضياء في هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري " يجافي " بجيم وفاء بغير همز وعلى الفاء صح صح. قوله: "يقيها" بفتح أوله ثم قاف تفسير لقوله: "يحني" وفي رواية عبيد الله بن عمر "فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه" ولابن ماجة من هذا الوجه "يسترها" وفي حديث ابن عباس عند الطبراني "فلما وجد مس الحجارة قام على صاحبته يحني عليها يقيها

(12/169)


الحجارة حتى قتلا جميعا فكان ذلك مما صنع الله لرسوله في تحقيق الزنا منهما" وفي هذا الحدث من الفوائد وجوب الحد على الكافر الذمي إذا زنى وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية، وقد ذهل ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإحصان الموجب للرجم الإسلام، ورد عليه بأن الشافعية وأحمد لا يشترطان ذلك، ويؤيد مذهبهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين رجما كانا قد أحصنا كما تقدم نقله، وقال المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك شرط الإحصان الإسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن قالوا وكان ذلك أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان مأمورا باتباع حكم التوراة والعمل بها حتى ينسخ ذلك في شرعه، فرجم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ثم نسخ ذلك بالتفرقة بين من أحصن ومن لم يحصن كما تقدم انتهى. وفي دعوى الرجم على من لم يحصن نظر، لما تقدم من رواية الطبري وغيره، وقال مالك: إنما رجم اليهوديين لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة فتحاكموا إليه، وتعقبه الطحاوي بأنه لو لم يكن واجبا ما فعله، قال: وإذا أقام الحد على من لا ذمة له فلأن يقيمه على من له ذمة أولى. وقال المازري، يعترض على جواب مالك بكونه رجم المرأة وهو يقول لا تقتل المرأة إلا إن أجاب ذلك كان قبل النهي عن قتل النساء، وأيد القرطبي أنهما كانا حربيين بما أخرجه الطبري كما تقدم، ولا حجة فيه لأنه منقطع، قال القرطبي: ويعكر عليه أن مجيئهم سائلين يوجب لهم عهدا كما لو دخلوا لغرض كتجارة أو رسالة أو نحو ذلك فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم. قلت: ولم ينفصل عن هذا إلا أن يقول إن السائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة. وقال النووي: دعوى أنهما كان حربيين باطلة بل كانا من أهل العهد، كذا قال: وسلم بعض المالكية أنهما كانا من أهل العهد واحتج بأن الحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الذمة بين أن يحكم فيهم بحكم الله وبين أن يعرض عنهم على ظاهر الآية، فاختار صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أن يحكم بينهم، وتعقب بأن ذلك لا يستقيم على مذهب مالك لأن شرط الإحصان عنده الإسلام وهما كانا كافرين، وانفصل ابن العربي عن ذلك بأنهما كانا محكمين له في الظاهر ومختبرين ما عنده في الباطن هل هو نبي حق أو مسامح في الحق، وهذا لا يرفع الإشكال ولا يخلص عن الإيراد. ثم قال ابن العربي: في الحديث أن الإسلام ليس شرطا في الإحصان، والجواب بأنه إنما رجمهما لإقامة الحجة على اليهود فيما حكموه فيه من حكم التوراة فيه نظر، لأنه كيف يقيم الحجة عليهم بما لا يراه في شرعه مع قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: وأجيب بأن سياق القصة يقتضي ما قلناه، ومن ثم استدعى شهودهم ليقيم الحجة عليهم منهم، إلى أن قال: والحق أحق أن يتبع ولو جاءوني لحكمت عليهم بالرجم ولم أعتبر الإسلام في الإحصان. وقال ابن عبد البر: حد الزاني حق من حقوق الله. وعلى الحاكم إقامته، وقد كان لليهود حاكم وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما. وقول بعضهم إن الزانيين حكماه دعوى مردودة، واعترض بأن التحكيم لا يكون إلا لغير الحاكم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فحكمه بطريق الولاية لا بطريق التحكيم: وأجاب الحنفية عن رجم اليهوديين بأنه وقع بحكم التوراة، ورده الخطابي لأن الله قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وإنما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده كما دلت عليه الرواية المذكورة فأشار عليهم بما كتموه من حكم التوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفا لذلك لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدل

(12/170)


على أنه إنما حكم بالناسخ. وأما قوله في حديث أبي هريرة "فإني أحكم بما في التوراة" ففي سنده رجل مبهم، ومع ذلك فلو ثبت لكان معناه لإقامة الحجة عليهم، وهو موافق لشريعته، قلت: ويؤيده أن الرجم جاء ناسخا للجلد كما تقدم تقريره، ولم يقل أحد إن الرجم شرع ثم نسخ بالجلد ثم نسخ الجلد بالرجم، وإذا كان حكم الرجم باقيا منذ شرع فما حكم عليهما بالرجم بمجرد حكم التوراة بل بشرعه الذي استمر حكم التوراة عليه ولم يقدر أنهم بدلوه فيما بدلوا وأما ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما أول ما قدم المدينة لقوله في بعض طرق القصة " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه اليهود " فالجواب أنه لا يلزم من ذلك الفور، ففي بعض طرقه الصحيحة كما تقدم أنهم تحاكموا إليه وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لم يكمل بناؤه إلا بعد مدة من دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة فبطل الفور، وأيضا ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جزء أنه حضر ذلك وعبد الله إنما قدم مع أبيه مسلما بعد فتح مكة، وقد تقدم حدث ابن عباس وفيه ما يشعر بأنه شاهد ذلك. وفيه أن المرأة إذا أقيم عليها الحد تكون قاعدة هكذا استدل به الطحاوي، وقد تقدم أنهم اختلفوا في الحفر للمرجومة، فمن يرى أنه يحفر لها تكون في الغالب قاعدة في الحفرة واختلافهم في إقامة الحد عليها قاعدة أو قائمة إنما هو في الجلد، ففي الاستدلال بصورة الجهد على صورة الرجم نظر لا يخفى. وفيه قبول شهادة أهل الذمة بعضهم عل بعض، وزعم ابن العربي أن معنى قوله في حديث جابر "فدعا بالشهود" أي شهود الإسلام على اعترافهما، وقوله: "فرجمهما بشهادة الشهود " أي البينة على اعترافهما، ورد هذا التأويل بقوله في نفس الحديث: "إنهم رأوا ذكره في فرجها كالميل في المكحلة " وهو صريح في أن الشهادة بالمشاهدة لا بالاعتراف، وقال القرطبي: الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ولا على كافر لا في حد ولا في غيره ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وبعض الفقهاء إذا لم يوجد مسلم، واستثنى أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم، وأجاب القرطبي عن الجمهور عن واقعة اليهود بأنه صلى الله عليه وسلم نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به إظهارا لتحريفهم كتابهم وتغييرهم حكمه، أو كان ذلك خاصا بهذه الواقعة كذا قال، والثاني مردود، وقال النووي: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر فلعل الشهود كانوا مسلمين وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعين أنهما أقرا بالزنا. قلت: لم يثبت أنهم كانوا مسلمين، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك لسؤال بقية اليهود لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم ولم يحكم فيهم إلا مستندا لما أطلعه الله تعالى فحكم في ذلك بالوحي وألزمهم الحجة بينهم كما قال تعالى :{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} وأن شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذكر فلما رفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم استعلم القصة على وجهها فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في ذلك، ولم يكن مستند حكم النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما أطلعه الله عليه، واستدل به بعض المالكية على أن المجلود يجلد قائما إن كان رجلا والمرأة قاعدة لقول ابن عمر "رأيت الرجل يقيها الحجارة"، فدل على أنه كان قائما وهي قاعدة، وتعقب بأنه واقعة عين فلا دلالة فيه على أن قيام الرجل كان بطريق الحكم عليه بذلك، واستدل به على رجم المحصن وقد تقدم البحث فيه مستوفى، وعلى الاقتصار على الرجم ولا يضم إليه الجلد وقد تقدم الخلاف فيه في باب مفرد، وكذا احتج به بعضهم، ولو احتج به لعكسه لكان أقرب لأنه في حديث البراء عند مسلم أن الزاني جلد أولا ثم رجم كما تقدم، لكن يمكن الانفصال بأن الجلد الذي وقع له لم يكن بحكم حاكم. وفيه أن أنكحة الكفار صحيحة لأن ثبوت الإحصان فرع ثبوت صحة النكاح. وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وفي أخذه من هذه القصة

(12/171)


بعد. وفيه أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها ولو لم يكن مما أقدموا على تبديله وإلا لكان في الجواب حيدة عن السؤال لأنه سأل عما يجدون في التوراة فعدلوا عن ذلك لما يفعلونه وأوهموا أن فعلهم مرافق لما في التوراة فأكذبهم عبد الله بن سلام. وقد استدل به بعضهم على أنهم لم يسقطوا شيئا من ألفاظها كما يأتي تقريره في كتاب التوحيد، والاستدلال به لذلك غير واضح لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة فلا يدل على التعميم، وكذا من استدل به على أن التوراة التي أحضرت حينئذ كانت كلها صحيحة سالمة من التبديل لأنه يطرقه هذا الاحتمال بعينه ولا يرده قوله: "آمنت بك وبمن أنزلك " لأن المراد أصل التوراة. وفيه اكتفاء الحاكم بترجمان واحد موثوق به وسيأتي بسطه في كتاب الأحكام. واستدل به على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ثبت ذلك لنا بدليل قرآن أو حديث صحيح ما لم يثبت نسخه بشريعة نبينا أو نبيهم أو شريعتهم، وعلى هذا فيحمل ما وقع في هذه القصة على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الحكم لم ينسخ من التوراة أصلا.

(12/172)


باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم و الناس
...
38- باب إِذَا رَمَى امْرَأَتَهُ أَوْ امْرَأَةَ غَيْرِهِ بِالزِّنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالنَّاسِ هَلْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا فَيَسْأَلَهَا عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ؟
6842 ، 6843- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا - : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ . قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا - قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ - فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا. وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا"
قوله: "باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم والناس هل على الحاكم أن يبعث إليها فيسألها عما رميت به" ذكر قصة العسيف، وقد تقدم شرحه مستوفي، والحكم المذكور ظاهر فيمن قذف امرأة غيره، وأما من قذف امرأته فكأنه أخذه من كون زوج المرأة كان حاضرا ولم ينكر ذلك، وأشار بقوله: "هل على الإمام " إلى الخلاف في ذلك، والجمهور على أن ذلك بحسب ما يراه الإمام. قال النووي: الأصح عندنا وجوبه والحجة فيه بعث أنيس إلى المرأة، وتعقب بأنه فعل وقع في واقعة حال لا دلالة فيه على الوجوب لاحتمال أن يكون سبب البعث ما وقع بين زوجها وبين والد العسيف من الخصام والمصالحة على الحد واشتهار القصة حتى صرح والد العسيف بما صرح به ولم ينكر عليه زوجها، فالإرسال إلى هذه يختص بمن كان على مثل حالها من التهمة القوية بالفجور، وإنما علق على اعترافها لأن حد الزنا لا يثبت في مثلها إلا بالإقرار لتعذر إقامة البينة على ذلك،

(12/172)


وقد تقدم شرح الحدث مستوفي، وذكرت ما قيل من الحكمة في إرسال أنيس إلى المرأة المذكورة، وفي الموطأ أن عمر أتاه رجل فأخبره أنه وجد مع امرأته رجلا فبعث إليها أبا واقد فسألها عما قال زوجها وأعلمها أنه لا يؤخذ بقوله فاعترفت، فأمر بها عمر فرجمت. قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن من قذف امرأته أو امرأة غيره بالزنا فلم يأت عل ذلك ببينة أن عليه الحد، إلا إن أقر المقذوف، فلهذا يجب على الإمام أن يبعث إلى المرأة يسألها عن ذلك، ولو لم تعترف المرأة في قصة العسيف لوجب على والد العسيف حد القذف. ومما يتفرع عن ذلك لو اعترف رجل بأنه زنى بامرأة معينة فأنكرت هل يجب عليه حد الزنا وحد القذف أو حد القذف فقط؟ قال بالأول مالك وبالثاني أبو حنيفة، وقال الشافعي وصاحبا أبي حنيفة: من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط، والحجة فيه أنه إن كان صدق في نفس الأمر فلا حد عليه لقذفها، وإن كان كذب فليس بزان وإنما يجب عليه حد الزنا لأن كل من أقر على نفسه وعلى غيره لزمه ما أقر به على نفسه وهو مدع فيما أقر به على غيره فيؤاخذ بإقراره على نفسه دون غيره.

(12/173)


39- باب مَنْ أَدَّبَ أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَهُ دُونَ السُّلْطَانِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا صَلَّى فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ" وَفَعَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ
6844- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي – فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ. فَعَاتَبَنِي وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي. وَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ"
6845- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: "حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلاَدَةٍ، فَبِي الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَوْجَعَنِي .. نَحْوَهُ" لَكَزَ وَوَكَزَ: وَاحِدٌ
قوله: "باب من أدب أهله أو غيره دون السلطان" أي دون إذنه له في ذلك. هذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف هل يحتاج من وجب عليه الحد من الأرقاء إلى أن يستأذن سيده الإمام في إقامة الحد عليه، أو له أن يقيم ذلك بغير مشورة؟ وقد تقدم بيانه في "باب إذا زنت الأمة". قوله: "وقال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى لأراد أحد أن يمر بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله " وفعله أبو سعيد" هذا مختصر من الحديث الذي تقدم موصولا في " باب يرد المصلي من مر بين يديه " ولفظه: "فإن أراد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " أخرجه من طريق أبي صالح عن أبي سعيد. وأما قوله: "وفعله أبو سعيد" فهو في الباب المذكور بلفظ: "رأيت أبا سعيد يصلي وأراد شاب أن تجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره " وقد تقدم شرحه مستوفي هناك والغرض منه أن الخبر ورد بالإذن للمصلي أن يؤدب المجتاز بالدفع ولا يحتاج في ذلك إلى إذن الحاكم، وفعله أبو

(12/173)


سعيد الخدري ولم ينكر عليه مروان، بل استفهمه عن السبب، فلما ذكره له أقره على ذلك. ذكر حديث عائشة في سبب نزول آية التيمم من وجهين عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها، وقد تقدمت طريق مالك في تفسير سورة المائدة وطريق عمرو بن الحارث عقبها. قوله: "لكز ووكز واحد" أي بمعنى واحد، ثبت هذا في رواية المستملي، وهو من كلام أبي عبيدة قال: الوكز في الصدر بجمع الكف ولهزه مثله وهو اللكز. قال ابن بطال: في هذين الحديثين دلالة على جواز تأديب الرجل أهله وغير أهله بحضرة السلطان ولو لم يأذن له إذا كان ذلك في حق. وفي معنى تأديب الأهل تأديب الرقيق، وقد تقدمت الإشارة إليه في "باب لا تثريب على الأمة".

(12/174)


40- باب: مَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ
6846- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ "عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: "لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لاَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي"
[الحديث 6846- طرفه في: 7416]
قول "باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله" كذا أطلق ولم يبين الحكم، وقد اختلف فيه: فقال الجمهور عليه القود، وقال أحمد وإسحاق إن أقام بينة أنه وجده مع امرأته هدر دمه. وقال الشافعي يسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل إن كان ثيبا وعلم أنه نال منها ما يوجب الغسل، ولكن لا يسقط عنه القود في ظاهر الحكم. وقد أخرج عبد الرزاق بسند صحيح إلى هانئ بن حزام " أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتلهما، فكتب عمر كتابا في العلانية أن يقيدوه به وكتابا في السر أن يعطوه الدية " وقال ابن المنذر: جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفة وعامة أسانيدها منقطعة، وقد ثبت عن علي أنه سئل عن رجل قتل رجلا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء وإلا فليغط برمته، قال الشافعي: وبهذا نأخذ، ولا نعلم لعلى مخالفا في ذلك. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل وعبد الملك هو ابن عمير ووراد هو كاتب المغيرة بن شعبة، وثبت كذلك لغير أبي ذر. قوله: "قال سعد بن عبادة" هو الأنصاري سيد الخزرج. قوله: "لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف" كذا في هذه الرواية بالجزم، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهل حتى آتى بأربعة شهداء " الحديث، وله من وجه آخر " فقال سعد: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك " ولأبي داود من هذا الوجه " أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله الرجل يجد مع أهله رجلا فيقتله؟ قال: لا. قال: بلى والذي أكرمك بالحق " وأخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت " لما نزلت آية الرجم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد جعل لهن سبيلا " الحديث وفيه: "فقال أناس لسعد بن عبادة: يا أبا ثابت قد نزلت الحدود، أرأيت لو وجدت مع امرأتك رجلا كيف كنت صانعا؟ قال: كنت ضاربه بالسيف حتى يسكنا، فأنا أذهب وأجمع أربعة؟ فإلى ذلك قد قضى الخائب حاجته فانطلق، وأقول: رأيت فلانا فيجلدوني ولا يقبلون لي شهادة أبدا، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كفى بالسيف شاهدا ثم قال: لولا أني أخاف أن يتتابع فيها السكران والغيران" وقد تقدم شرح هذا الحديث في "باب الغيرة" في أواخر كتاب النكاح ويأتي الكلام على قوله: "والله أغير مني" في كتاب التوحيد. وفي الحديث أن الأحكام الشرعية لا تعارض بالرأي.

(12/174)


41- باب: مَا جَاءَ فِي التَّعْرِيضِ
6847- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ"
قوله: "باب ما جاء في التعريض" بعين مهملة وضاد معجمة، قال الراغب: هو كلام له وجهان ظاهر وباطن، فيقصد قائله الباطن ويظهر إرادة الظاهر، وتقدم شيء من الكلام فيه في " باب التعريض بنفي الولد " من كتاب اللعان في شرح حدث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي قال: "إن امرأتي ولدت غلاما أسود " الحديث، وذكرت هناك ما قيل في اسمه وبيان الاختلاف في حكم التعريض، وأن الشافعي استدل بهذا الحديث على أن التعريض بالقذف لا يعطي حكم التصريح، فتبعه البخاري حيث أورد هذا الحديث في الموضوعين، وقد وقع في آخر رواية معمر التي أشرت إليها هناك " ولم يرخص له في الانتفاء منه " وقول الزهري: إنما تكون الملاعنة إذا قال رأيت الفاحشة، قال ابن بطال: احتج الشافعي بأن التعريض في خطبة المعتدة جائز مع تحريم التصريح بخطبتها، فدل على افتراق حكمها، قال وأجاب القاضي إسماعيل بأن التعريض بالخطبة جائز لأن النكاح لا يكون إلا بين اثنين، فإذا صرح بالخطبة وقع عليه الجواب بالإيجاب أو الوعد فمنع، وإذا عوض فأفهم أن المرأة من حاجته لم يحتج إلى جواب، والتعريض بالقذف يقع من الواحد ولا يفتقر إلى جواب، فهو قاذف من غير أن يخفيه عن أحد فقام مقام الصريح، كذا فرق، ويعكر عليه أن الحد يدفع بالشبهة والتعريض يحتمل الأمرين، بل عدم القذف فيه هو الظاهر وإلا لما كان تعريضا، ومن لم يقل بالحد في التعريض يقول بالتأديب فيه لأن في التعريض أذى المسلم، وقد أجمعوا على تأديب من وجد مع امرأة أجنبية في بيت والباب مغلق عليهما، وقد ثبت عن إبراهيم النخعي أنه قال في التعريض عقوبة. وقال عبد الرزاق " أنبأنا ابن جريج قلت لعطاء: فالتعريض؟ قال: ليس فيه حد، قال عطاء وعمرو بن دينار: فيه نكال " ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال تبويب البخاري غير معتدل، قال: ولو قال: ما جاء في ذكر ما يقع في النفوس عندما يرى ما ينكره لكان صوابا. قلت: ولو سكت عن هذا لكان هو الصواب، قال ابن التين: وقد انفصل المالكية عن حديث الباب بأن الأعرابي إنما جاء مستفتيا ولم يرد بتعريضه قذفا. وحاصله أن القذف في التعريض إنما يثبت على من عرف من إرادته القذف، وهذا يقوى أن لا حد في التعريض لتعذر الاطلاع على الإرادة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(12/175)


باب كم التعزير و الأدب
...
42- باب: كَمْ التَّعْزِيرُ وَالأَدَبُ؟
6848- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(12/175)


يَقُولُ: لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"
[الحديث 6848- طرفاه في: 6849 ، 6850]
6849- حدثنا عمرو بن علي حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا مسلم بن أبي مريم "حدثني عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عقوبة فوق عشر ضربات، إلا في حد من حدود الله"
6850- حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب أخبرني عمرو أن بكيرا حدثه قال: "بينما أنا جالس عند سليمان بن يسار إذ جاء عبد الرحمن بن جابر فحدث سليمان بن يسار، ثم أقبل علينا سليمان بن يسار: فقال حدثني عبد الرحمن بن جابر ان أباه حدثه أنه "سمع أبا بردة الأنصاري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"
6851- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ. فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلاَلَ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا" . تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ: عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6852- حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ - عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ"
6853- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ، حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ "
قوله: "باب" بالتنوين "كم التعزير والأدب" التعزير مصدر عزره وهو مأخوذ من العزر وهو الرد والمنع، واستعمل في الدفع عن الشخص كدفع أعدائه عنه ومنعهم من إضراره، ومنه {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} وكدفعه عن إتيان القبيح، ومنه عزره القاضي أي أدبه لئلا يعود إلى القبيح. ويكون بالقول وبالفعل بحسب ما يليق به، والمراد بالأدب في الترجمة التأديب وعطفه على التعزير لأن التعزير يكون بسبب المعصية والتأديب أعم منه، ومنه تأديب الولد وتأديب المعلم، وأورد الكمية بلفظ الاستفهام إشارة إلى الاختلاف فيها كما سأذكره، وقد ذكر في الباب أربعة أحاديث: الأول، قوله: "عن بكير بن عبد الله" يعني ابن الأشج. قوله: "عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن" في رواية عمرو بن الحارث الآتية في الباب، أن بكيرا حدثه قال: بينما أنا جالس عند سليمان بن يسار إذ جاء عبد الرحمن بن جابر فحدث سليمان بن يسار، ثم أقبل علينا سليمان فقال: حدثني عبد

(12/176)


الرحمن. قوله: "عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله" في رواية الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني " عن عبد الرحمن عن جابر " ثم خط على قوله عن جابر فصار عن عبد الرحمن عن أبي بردة وهو صواب، وأصوب منه رواية الجمهور بلفظ: "ابن" بدل "عن". قوله: "عن أبي بردة" في رواية علي بن إسماعيل بن حماد عن عمرو بن علي شيخ البخاري فيه بسنده إلى عبد الرحمن بن جابر قال: "حدثني رجل من الأنصار، قال أبو حفص يعني عمرو بن علي المذكور: هو أبو بردة ابن نيار أخرجه أبو نعيم، وفي رواية عمرو بن الحارث حدثني عبد الرحمن بن جابر أن أباه حديثه أنه سمع أبا بردة الأنصاري، ووقع في الطريق الثانية من رواية فضيل بن سليمان عن مسلم بن أبي مريم " حدثني عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سماه حفص بن ميسرة وهو أوثق من فضيل بن سليمان فقال فيه: "عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه " أخرجه الإسماعيلي. قلت: قد رواه يحيى بن أيوب عن مسلم بن أبي مريم مثل رواية فضيلي أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" قال الإسماعيلي: ورواه إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق عن ابن جريح عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن رجل من الأنصار. قلت: وهذا لا يعين أحد التفسيرين، فإن كلا من جابر وأبي بردة أنصاري، قال الإسماعيلي: لم يدخل الليث عن يزيد بين عبد الرحمن وأبي بردة أحدا وقد وافقه سعيد بن أيوب عن يزيد ثم ساقه من روايته كذلك. وحاصل الاختلاف هل هو عن صحابي مبهم أو مسمى؟ الراجح الثاني، ثم الراجح أنه أبو بردة بن نيار. وهل بين عبد الرحمن وأبي بردة واسطة وهو جابر أو لا؟ الراجح الثاني أيضا، وقد ذكر الدار قطني في "العلل" الاختلاف ثم قال: القول قول الليث ومن تابعه، وخالف ذلك في جميع كتاب التتبع فقال: القول قود عمرو بن الحارث وقد تابعة أسامة بن زيد. قلت: ولم يقدح هذا الاختلاف عن الشيخين في صحة الحديث فإنه كيفما دار يدور على ثقة، ويحتمل أن يكون عبد الرحمن وقع له فيه ما وقع لبكير بن الأشج في تحديث عبد الرحمن بن جابر لسليمان بحضرة بكير ثم تحديث سليمان بكيرا به عن عبد الرحمن، أو أن عبد الرحمن سمع أبا بردة لما حدث به أباه وثبته فيه أبوه فحدث به تارة بواسطة أبيه وتارة بغير واسطة، وادعى الأصيلي أن الحديث مضطرب فلا يحتج به لاضطرابه، وتعقب بأن عبد الرحمن ثقة فقد صرح بسماعه، وإبهام الصحابي لا يضر، وقد اتفق الشيخان على تصحيحه وهما العمدة في التصحيح، وقد وجدت له شاهدا بسند قوي لكنه مرسل أخرجه الحارث بن أبي أسامة من رواية عيد الله بن أبي بكر بن الحارث بن هشام رفعه: "لا يحل أن يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد " وله شاهد آخر عن أبي هريرة عند ابن ماجة ستأتي الإشارة إليه. قوله: "لا يجلد" بضم أوله بصيغة النفي، ولبعضهم بالجزم، ويؤيده ما وقع في الرواية التي بعدها بصيغة النهي "لا تجلدوا". قوله: "فوق عشرة أسواط" في رواية يحيى بن أيوب وحفص بن ميسرة "فوق عشر جلدات" وفي رواية علي بن إسماعيل بن حماد المشار إليها "لا عقوبة فوق عشر ضربات". قوله: "إلا في حد من حدود الله" ظاهره أن المراد بالحد ما ورد فيه من الشارع عدد من الجلد أو الضرب مخصوص أو عقوبة مخوصة، والمتفق عليه من ذلك الزنا والسرقة وشرب المسكر والحرابة والقذف بالزنا والقتل والقصاص في النفس والأطراف والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الأخيرين حدا، واختلف في أشياء كثيرة يستحق مرتكبها العقوبة هل تسمى عقوبته حدا أو لا، وهي جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسحاق وأكل الدم والميتة في حال الاختيار ولحم الخنزير،

(12/177)


وكذا السحر والقذف بشرب الخمر وترك الصلاة تكاسلا والفطر في رمضان والتعرض بالزنا. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالحد في حديث الباب حق الله، قال ابن دقيق العيد بلغني أن بعض العصريين قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بالمقدرات المقدم ذكرها أمر اصطلاحي من الفقهاء، وأن عرف الشرع أول الأمر كان يطلق الحد على كل معصية كبرت أو صغرت، وتعقبه ابن دقيق العيد أنه خروج عن الظاهر ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه، قال ويرد عليه أنا إذا أجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد على العشر لم يبق لنا شيء يختص المنع به، لأن ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزيادة هو ما ليس بمحرم، وأصل التعزير أنه لا يشرع فيما ليس بمحرم فلا يبقى لخصوص الزيادة معنى. قلت: والعصري المشار إليه أظنه ابن تيمية، وقد تقلد صاحبه ابن القيم المقالة المذكورة فقال: الصواب في الجواب أن المراد بالحدود هنا الحقوق التي هي أوامر الله ونواهيه، وهي المراد بقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي أخرى {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً} قال: فلا يزاد على العشر في التأديبات التي لا تتعلق بمعصية كتأديب الأب ولده الصغير. قلت: ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، فهذا يدفع إيراد الشيخ تقي الدين على العصري المذكور إن كان ذلك مراده، وقد أخرج ابن ماجة من حديث أبي هريرة بالتعزير بلفظ: "لا تعزروا فوق عشرة أسواط" وقد اختلف السلف في مدلول هذا الحديث فأخذ بظاهره الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشر، ثم اختلفوا فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحد الحر أو العبد؟ قولان، وفي قول أو وجه يستنبط كل تعزير من جنس حده ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعي "لا يبلغ به الحد" ولم يفصل، وقال الباقون: هو إلى رأي الإمام بالغا ما بلغ وهو اختيار أبي ثور، وعن عمر أنه كتب إلي أنى موسى "لا تجلد في التعزير أكثر من عشرين" وعن عثمان ثلاثين وعن عمر أنه بلغ بالسوط مائة وكذا عن ابن مسعود وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزر إلا من تكرر منه، ومن وقع منه مرة واحدة معصية لا حد فيها فلا يعزر، وعن أبي حنيفة لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف لا يزاد على خمس وتسعين جلدة، وفي رواية عن مالك وأبي يوسف لا يبلغ ثمانين، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها ما تقدم، ومنها قصره على الجلد وأما الضرب بالعصا مثلا وباليد فتجوز الزيادة لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الأصطخري من الشافعية وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب، ومنها أنه منسوخ دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار، ومنها معارضة الحديث بما هو أقوى منه وهو الإجماع على أن التعزير يخالف الحدود وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها فيصير مثل الحد، وبالإجماع على أن التعزير موكول إلى رأي الإمام فيما يرجع إلى التشديد والتخفيف لا من حيث العدد لأن التعزير شرع للردع ففي الناس من يردعه الكلام ومنهم من لا يردعه الضرب الشديد، فلذلك كان تعزير كل أحد بحسبه، وتعقب بأن الحد لا يزاد فيه، ولا ينقص فاختلفا، وبأن التخفيف والتشديد مسلم لكن مع مراعاة العدد المذكور وبأن الردع لا يراعى في الأفراد بدليل أن من الناس من لا يردعه الحد، ومع ذلك لا يجمع

(12/178)


عندهم بين الحد والتعزير، فلو نظر إلى كل فرد لقيل بالزيادة على الحد أو الجمع بين الحد والتعزير، ونقل القرطبي أن الجمهور قالوا بما دل عليه حديث الباب، وعكسه النووي وهو المعتمد فإنه لا يعرف القول به عن أحد من الصحابة، واعتذر الداودي فقال: لم يبلغ مالكا هذا الحديث فكان يرى العقوبة بقدر الذنب، وهو يقتضي أنه لو بلغه ما عدل عنه فيجب على من بلغه أن يأخذ به. الحدث الثاني حديث النهي عن الوصال، والغرض منه قوله: "فواصل بهم كالمنكل بهم" قال ابن بطال عن المهلب: فيه أن التعزير موكول إلى رأي الإمام لقوله: "لو امتد الشهر لزدت" فدل على أن للإمام أن يزيد في التعزير ما يراه، وهو كما قال، لكن لا يعارض الحدث المذكور لأنه ورد في عدد من الضرب أو الجلد فيتعلق بشيء محسوس، وهذا يتعلق بشيء متروك وهو الإمساك عن المفطرات والألم فيه يرجع إلى التجويع والتعطيش، وتأثيرهما في الأشخاص متفاوت جدا، والظاهر أن الذين واصل بهم كان لهم اقتدار على ذلك في الجملة فأشار إلى أن ذلك لو تمادى حتى ينتهي إلى عجزهم عنه لكان هو المؤثر في زجرهم، ويستفاد منه أن المراد من التعزير ما يحصل به الردع. وذلك ممكن في العشر بأن يختلف الحال في صفة الجلد أو الضرب تخفيفا وتشديدا والله أعلم. نعم يستفاد منه جواز التعزير بالتجويع ونحوه من الأمور المعنوية. قوله: "تابعه شعيب ويحيى بن سعيد ويونس في الزهري، وفال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب: عن سعيد بن المسيب" أي تابعوا عقيلا في قوله عن أبي سلمة وخالفهم عبد الرحمن بن خالد فقال سعيد بن المسيب. قلت: فأما متابعة شعيب فوصلها المؤلف في كتاب الصيام، وأما متابعة يحيى بن سعيد وهو الأنصاري فوصلها الذهلي في " الزهريات " وأما متابعة يونس وهو ابن يزيد فوصلها مسلم من طريق ابن وهب عنه، وأما رواية عبد الرحمن في خالد فسيأتي الكلام عليها في كتاب الأحكام، وذكر الإسماعيلي أن أبا صالح رواه عن الليث عن عبد الرحمن المذكور فجمع فيه بين سعيد وأبي سلمة، قال: وكذا رواه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري بسنده إليه كذلك انتهى، وقد تقدم شرج هذا الحديث في كتاب الصيام. الحديث الثالث، قوله: "حدثني عياش" بتحتانية ثم معجمة وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى البصري. قوله: "عن سالم" هو ابن عبد الله بن عمر. قوله: "عن عبد الله بن عمر أنهم كانوا يضربون على عهد رسول صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانهم" في رواية أبي أحمد الجرجاني عن الفربري " سالم بن عبد الله بن عمر أنهم كانوا إلخ " فصارت صورة الإسناد الإرسال والصواب "عن سالم عن عبد الله" فتصحفت "عن" فصارت "ابن" وقد وقع في رواية مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بهذا الإسناد " عن سالم عن ابن عمر به " وتقدم في البيوع من طريق يونس عن الزهري " أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال فذكر نحوه " وتقدم شرح هذا الحدث في كتاب البيوع مستوفي، ويستفاد منه جواز تأديب من خالف الأمر الشرعي فتعاطى العقود الفاسدة بالضرب، ومشروعية إقامة المحتسب في الأسواق، والضرب المذكور محمول على من خالف الأمر بعد أن علم به. الحديث الرابع، قوله: "عبدان" هو عبد الله بن عثمان وعبد الله هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد. قوله: "ما انتقم" هذا طرف من حدث أوله " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما " أخرجه مسلم بتمامه من رواية يونس، وقد تقدم شرحه مستوفي في " باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "من طريق مالك عن الزهري، وقد تقدم قريبا في أوائل الحدود من طريق عقيل عن ابن شهاب.

(12/179)


باب من أطهر الفاحشة و اللطخ و النهمة بغير بينة
...
43- باب: مَنْ أَظْهَرَ الْفَاحِشَةَ وَاللَّطْخَ وَالتُّهَمَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
6854- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "شَهِدْتُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ زَوْجُهَا: كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا، قَالَ فَحَفِظْتُ ذَاكَ مِنَ الزُّهْرِيِّ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ .. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا - كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ - فَهُوَ .. وَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: جَاءَتْ بِهِ لِلَّذِي يُكْرَهُ"
6855- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ "ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: هِيَ الَّتِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ. قَالَ: لاَ. تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ"
6856- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ ابْنِ مُحَمَّدٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: "ذُكِرَ المتلاعنان عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلاَّ لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبِطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدِلًا كَثِيرَ اللَّحْمِ"، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلاَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ هِيَ الَّتِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ؟ فَقَالَ: لاَ، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلاَمِ السُّوءَ"
قوله: "باب من أظهر الفاحشة واللطخ والتهمة بغير بينة" أي ما حكمه؟ والمراد بإظهار الفاحشة أن يتعاطى ما يدل عليها عادة من غير أن يثبت ذلك ببينه أو إقرار، واللطخ هو بفتح اللام والطاء المهملة بعدها خاء معجمة: الرمي بالشر، يقال لطخ فلان بكذا أي رمى بشر، ولطخه بكذا مخففا ومثقلا لوثه به، وبالتهمة بضم المثناة وفتح الهاء من يتهم بذلك من غير أن يتحقق فيه ولو عادة. وذكر فيه حديثين: أحدهما حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين أورده مختصرا، وفي آخره تصريح سفيان حيث قال: "حفظت من الزهري" وقد تقدم شرحه في كتاب اللعان مستوفي، وقوله: "إن جاءت به كذا فهو، وإن جاءت به كذا فهو " كذا وقع بالكناية وبالاكتفاء في الموضعين، وتقدم في اللعان بيانه من طريق ابن جريح عن ابن شهاب ولفظه: "إن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وحرة فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها وكذبت عليه " انتهى، وعلى هذا فتقدير الكلام فهو كاذب في الأولى فهو صادق في الثانية، وعرف منه أن الضمير للزوج كأنه قال إن جاءت به أحمر فزوجها كاذب فيما رماها به، وإن جاءت به أسود فزوجها صادق.

(12/180)


ثانيهما حديث ابن عباس في اللعان أيضا. أورده من طريقين مختصرة ثم مطولة كلاهما من طريق القاسم بن محمد عنه، ووقع لبعضهم بإسقاط القاسم بن محمد من السند وهو غلط، وقد تقدم شرحه مستوفي أيضا في كتاب اللعان وقوله: "من غير بينة" في رواية الكشميهني: "عن" بدل "من" وقوله في الطريق الأخرى "ذكر المتلاعنان" في رواية الكشميهني: "ذكر التلاعن". قوله: "فقال رجل لابن عباس في المجلس" هو عبد الله بن شداد بن الهاد كما صرح به في الرواية التي قبلها. قوله: "تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء" في رواية عروة عن ابن عباس بسند صحيح عند ابن ماجة " لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر فيها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها " ولم أقف على اسم المرأة المذكورة فكأنهم تعمدوا إبهامها سترا على، قال المهلب: فيه أن الحد لا يجب على أحد بغير بينة أو إقرار ولو كان متهما بالفاحشة، وقال النووي: معنى تظهر السوء أنه اشتهر عنها وشاع ولكن لم تقم البينة عليها بذلك ولا اعترفت، فدل على أن الحد لا يجب بالاستفاضة. وقد أخرج الحاكم من طريق ابن عباس عن عمر أنه قال لرجل أقعد جاريته وقد اتهمها بالفاحشة على النار حتى احترق فرجها " هل رأيت ذلك عليها؟ قال: لا، قال: فاعترفت لك؟ قال: لا. قال: فضربه وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقاد مملوك من مالكه لأقدتها منك، " قال الحاكم صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عمرو بن عيسى شيخ الليث وفيه منكر الحديث، كذا قال فأوهم أن لغيره كلاما، وليس كذلك فإنه ذكره في الميزان فقال: لا يعرف، لم يزد على ذلك، ولا يلزم من ذلك القدح فيما رواه بل يتوقف فيه.

(12/181)


44- باب: رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
6857- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ"
قوله: "باب رمي المحصنات" أي قذفهن، والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمزوجات بل حكم البكر كذلك بالإجماع. قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} الآية كذا لأبي ذر والنسفي، وأما غيرهما فساقوا الآية إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا} كذا لأبي ذر، ولغيره: إلى قوله :{عَظِيمٌ} واقتصر النسفي على {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} الآية وتضمنت الآية الأولى بيان حد القذف والثانية بيان كونه من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة وهو المعتمد وبذلك يطابق حديث الباب الآيتين المذكورتين، وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء، واختلف في حكم قذف الأرقاء كما سأذكره في الباب الذي بعده.

(12/181)


قوله: {والذين يرمون أزواجهم ثم لم يأتوا} الآية كذا لأبي ذر وحده، ونبه على أنه وقع فيه وهم لأن التلاوة {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} وهو كذلك لكن في إيرادها هنا تكرار لأنها تتعلق باللعان، وقد تقدم قريبا "باب من رمى امرأته". قوله: "حدثني سليمان" هو ابن بلال ولغير أبي ذر "حدثنا" وأبو الغيث هو سالم. قول "اجتنبوا السبع الموبقات" بموحدة وقاف أي المهلكات، قال المهلب: سميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها. قلت: والمراد بالموبقة هنا الكبيرة كما ثبت في حديث أبي هريرة من وجه آخر أخرجه البزار وابن المنذر من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "الكبائر الشرك بالله وقتل النفس " الحديث مثل رواية أبي الغيث، إلا أنه ذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة، وأخرج النسائي والطبراني وصححه ابن حبان والحاكم من طريق صهيب مولى العتواريين عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصلي الخمس ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة " الحديث، ولكن لم يفسرها، والمعتمد في تفسيرها ما وقع في رواية سالم، وقد وافقه كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض والديات والسنن وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن " الحديث بطوله، وفيه: "وكان في الكتاب: وإن أكبر الكبائر الشرك " فذكر مثل حديث سالم سواء، وللطبراني من حديث سهل بن أبي خيثمة عن على رفعه: "اجتنب الكبائر السبع " فذكرها لكن ذكر التعرب بعد الهجرة بدل السحر، وله في الأوسط من حديث أبي سعيد مثله وقال: "الرجوع إلى الأعراب بعد الهجرة " ولإسماعيل القاضي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال: "صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ثم قال أبشروا من صلى الخمس واجتنب الكبائر السبع نودي من أبواب الجنة " فقيل له: أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهن؟ قال: نعم، فذكر مثل حديث على سواء وقال عبد الرزاق " أنبأنا معمر عن الحسن قال الكبائر الإشراك بالله " فذكر حديث الأصول سواء إلا أنه قال: "اليمين الفاجرة " بدل السحر، ولابن عمرو فيما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " والطبري في التفسير وعبد الرزاق والخرائطي في " مساوئ الأخلاق " وإسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " مرفوعا وموقوفا قال: "الكبائر تسع " فذكر السبعة المذكورة وزاد: "الإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين " ولأبي داود والطبراني من رواية عبيد بن عمير بن قتادة الليثي عن أبيه رفعه: "إن أولياء الله المصلون ومن يجتنب الكبائر قالوا: ما الكبائر؟ قال: هن تسع، أعظمهن الإشراك بالله " فذكر مثل حديث ابن عمر سواء إلا أنه عبر عن الإلحاد في الحرم باستحلال البيت الحرام. وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: "هن عشر " فذكر السبعة التي في الأصل وزاد: "وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشرب الخمر " ولابن أبي حاتم من طريق مالك بن حريث عن علي قال: "الكبائر " فذكر التسعة إلا مال اليتيم وزاد العقوق والتغرب بعد الهجرة وفراق الجماعة ونكث الصفقة، وللطبراني عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر فقالوا: الشرك ومال اليتيم والفرار من الزحف والسحر والعقوق وقول الزور والغلول والزنا (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا". قلت وقد تقدم في كتاب الأدب عد اليمين الغموس وكذا شهادة الزور وعقوق الوالدين وعند
ـــــــ
(1) في نسخة "والربا"

(12/182)


عبد الرزاق والطبراني عن ابن مسعود " أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله " وهو موقوف، وروى إسماعيل بسند صحيح من طريق ابن سيرين عن عبد الله بن عمرو مثل حديث الأصل لكن قال: "البهتان " بدل السحر والقذف، فسئل عن ذلك فقال: البهتان يجمع، وفي الموطأ عن النعمان بن مرة مرسلا " الزنا والسرقة وشرب الخمر فواحش " وله شاهد من حديث عمران بن حصين عند البخاري في " الأدب المفرد " والطبراني والبيهقي وسنده حسن، وتقدم حديث ابن عباس في النميمة ومن رواه بلفظ الغيبة وترك التنزه من البول كل ذلك في الطهارة، ولإسماعيل القاضي من مرسل الحسن ذكر " الزنا والسرقة " وله عن أبي إسحاق السبيعي " شتم أبي بكر وعمر " وهو لابن أبي حاتم من قول مغيرة بن مقسم، وأخرج الطبري عنه بسند صحيح " الإضرار في الوصية من الكبائر " وعنه " الجمع بين الصلاتين من غير عذر " رفعه وله شاهد أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قوله، وعند إسماعيل من قول ابن عمر ذكر النهبة، ومن حديث بريدة عند البزار منع فضل الماء ومنع طروق الفحل، ومن حديث أبي هريرة عند الحاكم " الصلوات كفارات إلا من ثلاث: الإشراك بالله ونكث الصفقة وترك السنة " ثم فسر نكث الصفقة بالخروج على الإمام وترك السنة بالخروج عن الجماعة أخرجه الحاكم، ومن حديث ابن عمر عند ابن مردويه " أكبر الكبائر سوء الظن بالله " ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن أخرجه أبو داود والترمذي عن أنس رفعه: "نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل فنسيها" وحديث: "من أتى حائضا أو كاهنا فقد كفر " أخرجه الترمذي، فهذا جميع ما وقفت عليه مما ورد التصريح بأنه من الكبائر أو من أكبر الكبائر صحيحا وضعيفا مرفوعا وموقوفا، وقد تتبعته غاية التتبع، وفي بعضه ما ورد خاصا ويدخل في عموم غيره كالتسبب في لعن الوالدين وهو داخل في العقوق وقتل الولد وهو داخل في قتل النفس والزنا بحليلة الجار وهو داخل في الزنا والنهبة والغلول واسم الخيانة يشمله ويدخل الجميع في السرقة وتعلم السحر وهو داخل في السحر وشهادة الزور وهي داخلة في قول الزور ويمين الغموس وهي داخلة في اليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله كاليأس من روح الله، والمعتمد من كل ذلك ما ورد مرفوعا بغير تداخل من وجه صحيح وهي السبعة المذكورة في حديث الباب والانتقال عن الهجرة والزنا والسرقة والعقوق واليمين الغموس والإلحاد في الحرم وشرب الخمر وشهادة الزور والنميمة وترك التنزه من البول والغلول ونكث الصفقة وفراق الجماعة، فتلك عشرون خصلة وتتفاوت مراتبها، والمجمع على عده من ذلك أقوى من المختلف فيه إلا ما عضده القرآن أو الإجماع فيلتحق بما فوقه ويجتمع من المرفوع ومن الموقوف ما يقاربها، ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع، ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو جواب ضعيف، وبأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك. وقد أخرج الطبري وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال: هن أكثر من سبع وسبع. وفي رواية عنه هي إلى السبعين أقرب، وفي رواية إلى السبعمائة، ويحمل كلامه على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع، وكأن المقتصر عليها اعتمد على حدث الباب المذكور. وإذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيما الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد، قال الرافعي في الشرح الكبير: الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن

(12/183)


الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، وقد أقره في الروضة، وهو يشعر بأنه لا يوجد عن أحد من الشافعية الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد قال الماوردي في "الحاوي": هي ما يوجب الحد أو توجه إليها الوعيد، وأوفى كلامه للتنويع لا للشك، وكيف يقول عالم إن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور وغير ذلك، والأصل فيما ذكره الرافعي قول البغوي في "التهذيب" من ارتكب كبيرة من زنا أو لواط أو شرب خمر أو غصب أو سرقة أو قتل بغير حق ترد شهادته وإن فعله مرة واحدة، ثم قال: فكل ما يوجب الحد من المعاصي فهو كبيرة، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة انتهى. والكلام الأول لا يقتضي الحصر، والثاني هو المعتمد. وقال ابن عبد السلام: لم أقف على ضابط الكبيرة يعني يسلم من الاعتراض، قال: والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، قال وضبطها بعضهم بكل ذنب قرن به وعيد أو لعن. قلت: وهذا أشمل من غيره، ولا يرد عليه إخلاله بما فيه حد، لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفورية منها مطلقا والمتراخية إذا تضيقت. وقال ابن الصلاح: لها أمارات منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف صاحبها بالفسق، ومنها اللعن، قلت: وهذا أوسع مما قبله. وقد أخرج إسماعيل القاضي بسند فيه ابن لهيعة عن أبي سعيد مرفوعا: "الكبائر كل ذنب أدخل صاحبه النار" وبسند صحيح عن الحسن البصري قال: "كل ذنب نسبه الله تعالى إلى النار فهو كبيرة" ومن أحسن التعاريف قول القرطبي في المفهم " كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة " وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو العن أو الفسق من القرآن أو الأحاديث الصحيحة والحسنة ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف منه تحير عدها، وقد شرعت في جمع ذلك، وأسأل الله الإعانة على تحريره بمنه وكرمه. وقال الحليمي في "المنهاج" ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة، قلت: ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش وأفحش. ثم ذكر الحليمي أمثلة لما قال فالثاني كقتل النفس بغير حق فإنه كبيرة، فإن قتل أصلا أو فرعا أو ذا رحم أو بالحرم أو بالشهر الحرام فهو فاحشة. والزنا كبيرة، فإن كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو في شهر رمضان أو في الحرم فهو فاحشة. وشرب الخمر كبيرة، فإن كان في شهر رمضان نهارا أو في الحرم أو جاهر به فهو فاحشة. والأول كالمفاخذة مع الأجنبية صغيرة، فإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو ذات رحم فكبيرة. وسرقة ما دون النصاب صغيرة، فإن كان المسروق منه لا يملك غيره وأفضى به عدمه إلى الضعف فهو كبيرة. وأطال في أمثلة ذلك. وفي الكثير منه ما يتعقب، لكن هذا عنوانه، وهو منهج حسن لا بأس باعتباره، ومداره على شدة المفسدة وخفتها والله أعلم. "تنبيه": يأتي القول في تعظيم قتل النفس في الكتاب الذي بعد هذا، وتقدم الكلام على السحر في آخر كتاب الطب، وعلى أكل مال اليتيم في كتاب الوصايا، وعلى أكل الربا في كتاب البيوع، وعلى التولي يوم الزحف في كتاب الجهاد، وذكر هنا قذف المحصنات. وقد شرط القاضي أبو سعيد الهروي في "أدب القضاء" أن شرط كون غصب المال كبيرة أن يبلغ

(12/184)


نصابا، ويطرد في السرقة وغيرها، وأطلق في ذلك جماعة، ويطرد في أكل مال اليتيم وجميع أنواع الجناية. والله أعلم.

(12/185)


45- باب: قَذْفِ الْعَبِيدِ
6858- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ"
قوله: "باب قذف العبيد" أي الأرقاء. عبر بالعبيد اتباعا للفظ الخبر، وحكم الأمة والعبد في ذلك سواء، والمراد بلفظ الترجمة الإضافة للمفعول بدليل ما تضمنه حديث الباب، ويحتمل إرادة الإضافة للفاعل، والحكم فيه أن على العبد إذا قذف نصف ما على الحر ذكرا كان أو أنثى، وهذا قول الجمهور. وعن عمر بن عبد العزيز والزهري وطائفة يسيرة والأوزاعي وأهل الظاهر: حده ثمانون، وخالفهم ابن حزم فوافق الجمهور. قوله: "عن ابن أبي نعم" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد وعلي بن المديني كلاهما عن يحيى بن سعيد وهو القطان بهذا السند " حدثنا أبو هريرة". قوله: "سمعت أبا القاسم" في رواية الإسماعيلي: "حدثنا أبو القاسم نبي التوبة". قوله: "من قذف كل مملوكه" في رواية الإسماعيلي: "من قذف عبده بشيء". قوله: "وهو برئ مما قال" جملة حالية، وقوله: "إلا أن يكون كما قال: "أي فلا يجلد. وفي رواية النسائي من هذا الوجه " أقام عليه الحد يوم القيامة " وأخرج من حديث ابن عمر " من قذف مملوكه كان لله في ظهره حد يوم القيامة إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه " فال المهلب: أجمعوا على أن الحر إذا قذف عبدا لم يجب عليه الحد. ودل هذا الحديث عل ذلك لأنه لو وجب على السيد أن يجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة، وإنما خص ذلك بالآخرة تمييزا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى. قلت: في نقله الإجماع نظر، فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع " سئل ابن عمر عمن قذف أم ولد لآخر فقال: يضرب الحد صاغرا " وهذا بسند صحيح وبه قال الحسن وأهل الظاهر. وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن قذف أم ولد فقال مالك وجماعة: يجب فيه الحد، وهو قياس قول الشافعي بعد موت السيد، وكذا كل من يقول إنها عتقت بموت السيد. وعن الحسن البصري أنه كان لا يرى الحد من قاذف أم الولد. وقال مالك والشافعي: من قذف حرا يظنه عبدا وجب عليه الحد.

(12/185)


باب هل يأمر الامام رجلا فيضرب الحد غالبا عنه
...
46- باب: هَلْ يَأْمُرُ الإِمَامُ رَجُلًا فَيَضْرِبُ الْحَدَّ غَائِبًا عَنْهُ وَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ
6859 ، 6860- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالاَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ،

(12/185)


كتاب الديات
باب قول الله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم }
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
87- كِتَاب الدِّيَاتِ
1- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}
6861- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قَالَ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}
6862- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا"
[الحديث 6862- طرفه في: 6863]
6863- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ"
6864- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ"
6865- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ حَدَّثَهُ "أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ - حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ - حَدَّثَهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لاَذَ بِشَجَرَةٍ وَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقْتُلْهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا آقْتُلُهُ؟ قَالَ: لاَ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ"
6866- وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لِلْمِقْدَادِ: إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ"
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الديات" بتخفيف التحتانية جمع دية مثل عدات وعدة، وأصلها ودية بفتح الواو وسكون الدال تقول: ودي القتل يديه إذا أعطى وليه ديته، وهي ما جعل في مقابلة النفس، وسمى دية تسمية بالمصدر وفاؤها محذوفة والهاء عوض وفي الأمرد القتيل بدال مكسورة حسب فإن وقفت قلت ده، وأورد البخاري تحت هذه الترجمة ما يتعلق بالقصاص لأن كل ما يجب فيه القصاص يجوز العفو عنه على مال فتكون الدية أشمل، وترجم غيره: "كتاب القصاص" وأدخل تحته الديات، بناء على أن القصاص هو الأصل في

(12/187)


العمد. قوله: وقول الله تعالى :{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} كذا للجميع، لكن سقطت الواو الأولى لأبي ذر والنسفي، وفي هذه الآية وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق، وقد تقدم النقل في تفسير سورة الفرقان عن ابن عباس وغيره في ذلك وبيان الاختلاف هل للقاتل توبة بما يغني عن إعادته. وأخرج إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسند حسن أن هذه الآية لما نزلت قال المهاجرون والأنصار وجبت، حتى نزل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. قلت: وعلى ذلك عول أهل السنة في أن القاتل في مشيئة الله، ويؤيده حديث عبادة المتفق عليه بعد أن ذكر القتل والزنا وغيرهما: "ومن أصاب من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه " ويؤيده قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم قتل المكمل مائة وقد مضى في ذكر بني إسرائيل من أحادث الأنبياء. ثم ذكر فيه خمسة أحاديث مرفوعة، الحديث الأول حديث ابن مسعود "أي الذنب أكبر" وقد تقدم شرحه مستوفي في "باب إثم الزناة" وقوله: "أن تقتل ولدك" قال الكرماني لا مفهوم له لأن القتل مطلقا أعظم. قلت: لا يمتنع أن يكون الذنب أعظم من غيره وبعض أفراده أعظم من بعض، ثم قال الكرماني وجه كونه أعظم أنه جمع مع القتل ضعف الاعتقاد في أن الله هو الرزاق. الحديث الثاني حدث ابن عمر. قوله: "حدثنا علي" كذا للجميع غير منسوب ولم يذكره أبو علي الجياني في تقييده ولا نبه عليه الكلاباذي، وقد ذكرت في المقدمة أنه على بن الجعد لأن علي بن المديني لم يدرك إسحاق بن سعيد. قوله: "لا" في رواية الكشميهني: "لن". قوله: "في فسحة" بضم الفاء وسكون المهملة وبحاء مهملة أي سعة. قوله: "من دينه" كذا للأكثر بكسر المهملة من الدين وفي رواية الكشميهني: "من ذنبه " فمفهوم الأول أن يضيق عليه دينه ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمدا بما يتوعد به الكافر، ومفهوم الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور. وقال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقتا لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول، وحاصله أنه فسره على رأي ابن عمر في عدم قبول توبة القاتل. قوله: "ما لم يصب دما حراما" في رواية إسماعيل القاضي من هذا الوجه " ما لم يتند بدم حرام " وهو بمثناة ثم نون ثم دال ثقيلة ومعناه الإصابة وهو كناية عن شدة المخالطة ولو قلت، وقد أخرج الطبراني في " المعجم الكبير " عن ابن مسعود بسند رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا مثل حديث ابن عمر موقوفا أيضا وزاد في آخره: "فإذا أصاب دما حراما نزع من الحياء" ثم أورد عن أحمد بن يعقوب وهو المسعودي الكوفي عن إسحاق بن سعيد وهو المذكور في السند الذي قبله بالسند المذكور إلى ابن عمر. قوله: "إن من ورطات" بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله: "سفك الدم" أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله: "بغير حله" في رواية أبي نعيم "بغير حقه" وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها، لكن التعبير بقوله: "من ورطات الأمور" يقتضي المشاركة بخلاف اللفظ الأول فهو أشد في الوعيد، وزعم الإسماعيلي أن هذه الرواية الثانية غلط ولم يبين وجه الغلط،

(12/188)


وأظنه من جهة انفراد أحمد بن يعقوب بها فقد رواه عن إسحاق بن سعيد أبو النضر هاشم بن القاسم ومحمد بن كناسة وغيرهما باللفظ الأول، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامدا بغير حق " تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة " وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر " زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم: " قال الترمذي حديث حسن. قلت: وأخرجه النسائي بلفظ: "لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " قال ابن العربي: ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح. الحديث الثالث قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش" هذا السند يلتحق بالثلاثيات وهي أعلى ما عند البخاري من حيث العدد، وهذا في حكمه من جهة أن الأعمش تابعي وإن كان روى هذا عن تابعي آخر فإن ذلك التابعي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم تحصل له صحبة. قوله: "عن أبي وائل عن عبد الله" تقدم في "باب القصاص يوم القيامة" في أواخر الرقاق من رواية حفص بن غياث عن الأعمش حدثني شقيق وهو أبو وائل المذكور قال: "سمعت عبد الله" وهو ابن مسعود. قوله: "أول ما يقضي بين الناس في الدماء" زاد مسلم من طريق آخر عن الأعمش " يوم القيامة " وقد ذكرت شرحه في الباب المذكور وطريق الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة " أول ما يحاسب به المرء صلاته " وننبه هنا على أن النسائي أخرجهما في حديث واحد من طريق أبي وائل عن ابن مسعود رفعه: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء " " وما " في هذا الحديث موصولة وهو موصول حرفي ويتعلق الجار بمحذوف أي أول القضاء يوم القيامة القضاء في الدماء أي في الأمر المتعلق بالدماء، وفيه عظم أمر القتل لأن الابتداء إنما يقع بالأهم، وقد استدل به على أن القضاء يختص بالناس ولا مدخل فيه للبهائم، وهو غلط لأن مفاده حصر الأولية في القضاء بين الناس وليس فيه نفي القضاء بين البهائم بعد القضاء بين الناس. الحديث الرابع قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد، وعطاء بن يزيد هو الليثي، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عدي أي ابن الخيار بكسر المعجمة وتخفيف التحتانية النوفلي له إدراك، وقد تقدم بيانه في مناقب عثمان، والمقداد بن عمر وهو المعروف ابن الأسود. قول "إن لقيت" كذا للأكثر بصيغة الشرط، وفي رواية أبي ذر "إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي فقطعها" وظاهر سياقه أن ذلك وقع، والذي في نفس الأمر بخلافه، وإنما سأل المقداد عن الحكم في ذلك لو وقع، وقد تقدم في غزوة بدر بلفظ: "أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار" الحديث وهو يؤيد رواية الأكثر. قوله: "ثم لاذ بشجرة" أي التجأ إليها، وفي رواية الكشميهني ثم لاذ مني بشجرة والشجرة مثال. قوله: "وقال أسلمت لله" أي دخلت في الإسلام. قوله: "فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" قال الكرماني: القتل ليس سببا لكون كل منهما بمنزلة الآخر لكن عند النحاة مؤول بالإخبار أي هو سبب لإخباري لك بذلك، وعند البيانيين المراد لازمه كقوله يباح دمك إن عصيت. قوله: "وأنت بمنزلته قبل أن يقول" قال الخطابي: معناه أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم، فإذا أسلم صار مصان الدم كالمسلم، فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحا بحق القصاص كالكافر بحق الدين، وليس المراد إلحاقه في الكفر كما تقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة، وحاصله اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ، فالأول أنه مثلك في صون الدم، والثاني أنك مثله في الهدر. ونقل ابن التين عن الداودي قال: معناه إنك صرت قاتلا كما كان هو قاتلا، قال: وهذا من المعاريض، لأنه

(12/189)


أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه، وإنما أراد أن كلا منهما قاتل، ولم يرد أنه صار كافرا بقتله إياه. ونقل ابن بطال عن المهلب معناه فقال: أي أنك بقصدك لقتله عمدا آثم كما كان هو بقصده لقتلك آثما، فأنتما في حالة واحدة من العصيان. وقيل المعنى أنت عنده حلال الدم قبل أن تسلم وكنت مثله في الكفر كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك، وقيل معناه إنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنك مغفور لك بشهود بدر. ونقل ابن بطال عن ابن القصار أن معنى قوله: "وأنت بمنزلته" أي في إباحة الدم، وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله لا أن الكافر إذا قال أسلمت حرم قتله، وتعقب بأن الكافر مباح الدم والمسلم الذي قتله إن لم يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله متأولا فلا يكون بمنزلته في إباحته. وقال القاضي عياض: معناه أنه مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم وإن اختلف النوع في كون أحدهما كفرا والآخر معصية. وقيل المراد إن قتلته مستحلا لقتله فأنت مثله في الكفر، وقيل المراد بالمثلية أنه مغفور له بشهادة التوحيد وأنت مغفور لك بشهود بدر، ونقل ابن التين أيضا عن الداودي أنه أوله على وجه آخر فقال: يفسره حديث ابن عباس الذي في آخر الباب ومعناه أنه يجاز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاك في قتلك إياه أني ينزله الله من العمد والخطأ كما كان هو مشكوكا في إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، ثم قال: فإن قيل كيف قطع يد المؤمن وهو ممن يكتم إيمانه؟ فالجواب أنه دفع عن نفسه من يريد قتله فجاز له ذلك كما جاز للمؤمن أن يدفع عن نفسه من يريد قتله ولو أفضى إلى قتل من يريد قتله فإن دمه يكون هدرا، فلذلك لم يقد النبي صلى الله عليه وسلم من يد المقداد لأنه قطعها متأولا. قلت: وعليه مؤاخذات: منها الجمع بين القصتين بهذا التكلف مع ظهور اختلافهما، وإنما الذي ينطبق على حديث ابن عباس قصة أسامة الآتية في الباب الذي يليه حيث حمل على رجل أراد قتله فقال إني مسلم فقتله ظنا أنه قال ذلك متعوذا من القتل، وكان الرجل في الأصل مسلما، فالذي وقع للمقداد نحو ذلك كما سأبينه وأما قصة قطع اليد فإنما قالها مستفتيا على تقدير أن لو وقعت كما تقدم تقريره، وإنما تضمن الجواب النهي عن قتله لكونه أظهر الإسلام فحقن دمه وصار ما وقع منه قبل الإسلام عفوا. ومنها أن في جوابه عن الاستشكال نظرا لأنه كان يمكنه أن يدفع بالقول بأن يقول له عند إرادة المسلم قتله إني مسلم فيكف عنه، وليس له أن يبادر لقطع يده مع القدرة على القول المذكور ونحوه، واستدل به على صحة إسلام من قال أسلمت لله ولم يزد على ذلك، وفيه نظر لأن ذلك كاف في الكف، على أنه ورد في بعض طرقه أنه قال لا إله إلا الله، وهو رواية معمر عن الزهري عند مسلم في هذا الحديث، واستدل به على جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها بناء على ما تقدم ترجيحه، وأما ما نقل عن بعض السلف من كراهة ذلك فهو محمول على ما يندر وقوعه، وأما ما يمكن وقوعه عادة فيشرع السؤال عنه ليعلم. الحديث الخامس قوله: "وقال حبيب بن أبي عمرة" هو القصاب الكوفي لا يعرف اسم أبيه، وهذا التعليق وصله البزار والدار قطني في " الأفراد " والطبراني في " الكبير " من رواية أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم والد محمد بن أبي بكر المقدمي عن حبيب وفي أوله " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوهم وجدوهم تفرقوا وفيهم رجل له مال كثير لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله " الحديث، وفيه: "فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا مقداد قتلت رجلا قال لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للمقداد: كان رجلا مؤمنا يخفي إيمانه" إلخ قال

(12/190)


الدار قطني: تفرد به حبيب وتفرد به أبو بكر عنه. قلت: قد تابع أبا بكر سفيان الثوري لكنه أرسله، أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عنه، وأخرجه الطبري من طريق أبي إسحاق الفزاري عن الثوري كذلك، ولفظ وكيع بسنده عن سعيد بن جبير "خرج المقداد بن الأسود في سرية" فذكر الحديث مختصرا إلى قوله: "فنزلت": ولم يذكر الخبر المعلق، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القصة في تفسير سورة النساء، وبينت الاختلاف في سبب نزول الآية المذكورة، وطريق الجمع، ولله الحمد.

(12/191)


2- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا...} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلاَّ بِحَقٍّ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"
6867- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا"
6868- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ "سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
6869- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ "عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتْ النَّاسَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6870- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - أَوْ قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، شَكَّ شُعْبَةُ - وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - أَوْ قَالَ: وَقَتْلُ النَّفْسِ"
6871- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ "سَمِعَ أَنَساً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَبَائِرُ .." وحَدَّثَنَا عَمْرٌ وحَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ"
6872- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ حَدَّثَنَا أَبُو ظَبْيَانَ "قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ. قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، قَالَ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ. قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فَقَالَ لِي: يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟

(12/191)


قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ"
6873- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ "عَنْ عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنِّي مِنْ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَلاَ نَنْتَهِبَ، وَلاَ نَعْصِيَ بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ"
6874- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا" رَوَاهُ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 6874- طرفه في: 7070]
6875- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ "عَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ"
قوله: "باب ومن أحياها" في رواية غير أبي ذر "باب قوله تعالى ومن أحياها" وذاد المستملي والأصيلي {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}. قوله: "قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق فكأنما أحيا الناس جميعا" وصله ابن أبي حاتم، ومضى بيانه في تفسر سورة المائدة. وذكره مغلطاي من طريق وكيع عن سفيان عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس، واعترض بأن خصيفا ضعيف، وهو اعتراض ساقط لوجوده من غير رواية خصيف، والمراد من هذه الآية صدرها وهو قوله تعالى:{ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} وعليه ينطبق أول أحادث الباب وهو قوله: "إلا كان علي ابن آدم الأول كفل منها " وسائرها في تعظيم أمر القتل وهي اثنا عشر حديثا قال ابن بطال: فيها تغليظ أمر القتل والمبالغة في الزجر عنه، قال: واختلف السلف في المراد بقوله: "قتل الناس جميعا وأحيا الناس جميعا" فقالت طائفة: معناه تغليظ الوزر والتعظيم في قتل المؤمن أخرجه الطبري عن الحسن ومجاهد وقتادة، ولفظ الحسن أن قاتل النفس الواحدة يصير إلى النار كما لو قتل الناس جميعا، وقتل معناه أن الناس خصماؤه جمعيا، وقيل يجب عليه من القود بقتله المؤمن مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا، لأنه لا يكون عليه غير قتلة واحدة لجميعهم، أخرجه الطبري عن زيد بن أسلم، واختار الطبري أن المراد بذلك تعظيم العقوبة وشدة الوعيد من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استيجاب غضب الله وعذابه وفي مقابله أن من لم يقتل أحدا فقد حيى الناس منه جميعا لسلامتهم منه وحكى ابن التين أن معناه أن من وجب له قصاص فعفا عنه أعطى من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعا، وقتل وجب شكره على الناس جميعا وكأنما من عليهم جميعا. قال ابن بطال: وإنما اختار هذا لأنه لا توجد نفس يقوم قتلها في عاجل الضر مقام قتل جميع النفوس، ولا

(12/192)


إحياؤها في عاجل النفع مقام إحياء جميع النفوس. قلت: واختار بعض المتأخرين تخصيص الشق الأول بابن آدم الأول لكونه سن القتل وهتك حرمة الدماء وجرا الناس على ذلك، وهو ضعيف لأن الإشارة بقوله في أول الآية "من أجل ذلك" لقصة ابني آدم فدل على أن المذكور بعد ذلك متعلق بغيرهما، فالحمل على ظاهر العموم أولى والله أعلم. الحديث الأول قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، ويحتمل أن يكون ابن عيينة فسيأتي في الاعتصام من رواية الحميدي عنه حدثنا الأعمش. قوله: "الأعمش" هو سليمان بن مهران. قوله: "عن عبد الله بن مرة" في رواية حفص بن غياث عن الأعمش "حدثني عبد الله بن مرة" وهو الخارتي بمعجمة وراء مكسورة وفاء كوفي، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق كوفيون. قوله: "لا تقتل نفس" زاد حفص د روايته: "ظلما" وفي الاعتصام "لهس من نفس تقتل ظلما". قوله: "على ابن آدم الأول" هو قابيل عن الأكثر، وعكس القاضي جمال الدين بن واصل في تاريخه فقال: اسم المقتول قابيل اشتق من قبول قربانه، وقيل اسمه قابن بنون بدل اللام بغير ياء، وقيل قبن مثله بغير ألف، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في " باب خلق آدم من بدء الخلق " وأخرج الطبري عن ابن عباس: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، إنما كان القربان يقربه الرجل فمهما قبل تنزل النار فتأكله وإلا فلا، وعن الحسن: لم يكونا ولدي آدم لصلبه وإنما كانا من بني إسرائيل أخرجه الطبري، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كانا ولدي آدم لصلبه وهذا هو المشهور، ويؤيده حديث الباب لوصفه ابن بأنه الأول أي أول ما ولد لآدم، ويقال إنه لم يولد في الجنة لآدم غيره وغير توأمته، ومن ثم فخر على أخيه هابيل فقال: نحن من أولاد الجنة وأنتما من أولاد الأرض، ذكر ذلك ابن إسحاق في "المبتدأ" وعن الحسن: ذكر لي أن هابيل قتل وله عشرون سنة ولأخيه القاتل خمس وعشرون سنة، وتفسير هابيل هبة الله، ولما قتل هابيل وحزن عليه آدم ولد له بعد ذلك شيث ومعناه عطية الله ومنه انتشرت ذرية آدم. وقال الثعلبي: ذكر أهل العلم بالقرآن أن حواء ولدت لآدم أربعين نفسا في عشرين بطنا أولهم قابيل وأخته إقليما وآخرهم عبد المغيث وأمة المغيث ثم لم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وهلكوا كلهم فلم يبق بعد الطوفان إلا ذرية نوح وهو من نسل شيث، قال الله تعالى :{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} وكان معه في السفينة ثمانون نفسا وهو المشار إليهم بقوله تعالى :{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} ومع ذلك فما بقي إلا نسل نوح فتوالدوا حتى ملؤوا الأرض، وقد تقدم شيء من ذلك ترجمة نوح من أحاديث الأنبياء. قوله: "كفل منها" زاد في الاعتصام: وربما قال سفيان من دمها، وزاد في آخره: لأنه من سن القتل، وهذا مثل لفظ حفص بن غياث الماضي في خلق آدم، والكفل بكسر أوله وسكون الفاء النصيب، وأكثر ما يطلق على الأجر والضعف على الإثم، ومنه قوله تعالى :{كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} ووقع على الإثم في قوله تعالى :{وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} وقوله: "لأنه أول من سن القتل" فيه أن من سن شيئا كتب له أو عليه، وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام، وقد أخرج مسلم من حديث جرير " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " وهو محمول على من لم يتب من ذلك الذنب. وعن السدي: شدخ قابيل رأس أخيه بحجر فمات. وعن ابن جريح: تمثل له إبليس فأخذ بحجر فشدخ به رأس طير ففعل ذلك قابيل وكان ذلك على جبل ثور، وقيل على عقبة حراء، وقيل بالهند، وقيل بموضع المسجد الأعظم

(12/193)


بالبصرة، وكان من شأنه في دفنه ما قصه الله في كتابه. الحديث الثاني قوله: "واقد بن عبد الله أخبرني" هو من تقديم الاسم على الصيغة، وواقد هذا قال أبو ذر في روايته كذا وقع هنا واقد بن عبد الله واقد بن عبد الله والصواب واقد بن محمد. قلت: وهو كذلك لكن لقوله واقد ابن عبد الله توجيه وهو أن يكون الراوي نسبه لجده الأعلى عبد الله بن عمر فإنه واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر، والذي نسبه كذلك أبو الوليد شيخ البخاري فيه، فقد أخرجه أبو داود في السنن عن أبي الوليد كذلك، وتقدم للمصنف في الأدب من رواية خالد بن الحارث عن شعبة على الحقيقة فقال: "عن واقد بن محمد" ويأتي في الفتن عن حجاج بن منهال عن شعبة كذلك وكذا لمسلم والنسائي من رواية غندر عن شعبة، ثم وجدته في الأول من فوائد أبي عمرو بن السماك كل من طريق عفان عن شعبة كما قال أبو الوليد، فلعل نسبته كذلك من شعبة، لكن أخرجه أحمد كل عن عفان وغيره عن شعبة كالجادة، وفي الجملة فقوله: "عن أبيه" لا ينصرف لعبد الله بل لمحمد بن زيد جزما،. فمن ترجم لعبد الله والد واقد في رجال البخاري أخطأ، نعم في هذا النسب واقد عبد الله بن عمر تابعي معروف، وهو أقدم من هذا فإنه عم والد واقد المذكور هنا، وله والد اسمه عبد الله بن واقد وقد أخرج له مسلم. قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا" جملة ما فيه من الأقوال ثمانية: أحدها قول الخوارج إنه على ظاهره، ثانيها هو في المستحلين، ثالثها المعنى كفارا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الدين، رابعها تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضا، خامسها لابسين السلاح يقال كفر درعه إذا لبس فوقها ثوبا، سادسها كفارا بنعمة الله، سابعها المراد الزجر عن الفعل وليس ظاهره مرادا، ثامنها لا يكفر بعضكم بعضا كأن يقول أحد الفريقين للآخر يا كافر فيكفر أحدهما، ثم وجدت تاسعا وعاشرا ذكرتهما في كتاب الفتن، وسيأتي شرح الحديث مستوفي في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي، قوله: "استنصت الناس" أي اطلب منهم الإنصات ليسمعوا الخطبة، وقد تقدم أتم سياقا من هذا في كتاب الحج، ويأتي شرحه في الفتن أيضا. الحديث الرابع والخامس، قوله: "رواه أبو بكرة وابن عباس" يريد قوله لا ترجعوا بعدي كفارا، وحديث أبي بكرة وصله المؤلف مطولا في الحج وشرح هناك، ويأتي في الفتن أيضا، وكذلك حديث ابن عباس. الحديث السادس حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر تقدم شرحه في كتاب الأدب، قوله: "وعقوق الوالدين أو قال اليمين الغموس شك شعبة" قلت تقدم في الأيمان والنذور من طريق النضر بن شميل عن شعبة بالواو بغير شك وزاد مع الثلاثة "وقتل النفس" وهو المراد في هذا الباب. قوله: "معاذ" هر ابن معاذ العنبري، وهو من تعاليق البخاري، وجوز الكرماني أن يكون مقول محمد بن بشار فيكون موصولا، وقد وصله الإسماعيلي من رواية عبيد الله بن معاذ عن أبيه ولفظه: "والكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قال قتل النفس واليمين الغموس " وهذا مطابق لتعليق البخاري إلا أن فيه تأخير اليمين الغموس، والغرض منه إنما هو إثبات قتل النفس، وحاصل الاختلاف على شعبة أنه تارة ذكرها وتارة لم يذكرها وأخرى ذكرها مع الشك. الحديث السابع حديث أنس في الكبائر أيضا تقدم شرحه في كتاب الأدب، الحديث الثامن حديث أسامة، قوله: "حدثنا عمرو بن زرارة حدثنا هشيم" تقدم في المغازي عن عمرو بن محمد عن هشيم وكلاهما من شيوخ البخاري. قوله: "حدثنا هشيم" في رواية الكشميهني: "أنبأنا". قوله: "حدثنا حصين" في رواية أبي ذر والأصيلي: "أنبأنا حصين " وهو ابن عبد الرحمن الواسطي من صغار التابعين، وأبو

(12/194)


ظبيان بظاء معجمة مفتوحة ثم موحدة ساكنة ثم ياء آخر الحروف واسمه أيضا حصين وهو ابن جندب من كبار التابعين. قوله: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة" بضم المهملة وبالراء ثم قاف وهم بطن من جهينة تقدم نسبتهم إليهم في غزوة الفتح، قال ابن الكلبي: سموا بذلك لوقعة كانت بينهم وبين بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان فأحرقوهم بالسهام لكثرة من قتلوا منهم، وهذه السرية يقال لها سرية غالب بن عبيد الله الليثي وكانت في رمضان سنة سبع فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي " حدثني شيخ من أسلم عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبيد الله الكلبي ثم الليثي إلى أرض بني مرة وبها مرداس بن نهيك حليف لهم من بنى الحرقة فقتله أسامة " فهذا يبين السبب في قول أسامة " بعثنا إلى الحرقات من جهينة " والذي يظهر أن قصة الذي قتل ثم مات فدفن ولفظته الأرض غير قصة أسامة، لأن أسامة عاش بعد ذلك دهرا طويلا، وترجم البخاري في المغازي " بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة " فجرى الداودي في شرحه على ظاهره فقال فيه: "تأمير من لم يبلغ " وتعقب من وجهين: أحدهما أنه ليس فيه تصريح بأن أسامة كان الأمير إذ يحتمل أن يكون جعل الترجمة باسمه لكونه وقعت له تلك الواقعة لا لكونه كان الأمير، والثاني أن كانت إن كانت سنة سبع أو ثمان فما كان أسامة يومئذ إلا بالغا لأنهم ذكروا أنه كان له لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر عاما. قوله: "فصبحنا القوم" أي هجموا عليهم صباحا قبل أن يشعروا بهم، يقال صبحته أتيتيه صباحا بغتة، ومنه قوله: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ}. قوله: "ولحقت أنا ورجل من الأنصار" لم اقف على اسم الأنصاري المذكور في هذه القصة قوله: "رجلا منهم" قال ابن عبد البر اسمه مرداس بن عمرو الفدكي ويقال، مرداس بن نهيك الفزاري وهو قول ابن الكلبي قتله أسامة وساق القصة، وذكر ابن منده أن أبا سعيد الخدري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها أسامة إلى بني ضمرة " فذكر قتل أسامة الرجل، وقال ابن أبي عاصم في الديات " حدثنا يعقوب بن حميد حدثنا يحيى بن سليم عن هشام بن حسان عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى فدك فأغاروا عليهم، وكان مرداس الفدكي قد خرج من الليل وقال لأصحابه أني لاحق بمحمد وأصحابه فبصر به رجل فحمل عليه فقال إني مؤمن فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه: قال فقال أنس: إن قاتل مرداس مات فدفنوه فأصبح فوق القبر فأعادوه فأصبح فوق القبر مرارا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يطرح في واد بين جبلين ثم قال: إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله وعظكم". قلت: إن ثبت هذا فهو مرداس آخر، وقتيل أسامة لا يسمى مرداسا، وقد وقع مثل هذا عند الطبري في قتل محلم بن جثامة عامر بن الأضبط وأن محلهما لما مات ودفن لفظته الأرضي فذكر نحوه. قوله: "غشيناه" بفتح أوله وكسر ثانيه معجمتين أي لحقنا به حتى تغطي بنا، وفي رواية الأعمش عن أبي ظبيان عند مسلم: "فأدركت رجلا فطعنته برمحي حتى قتلته " ووقع في حديث جندب عند مسلم: "فلما رفع عليه السيف قال لا إله إلا الله فقتله " ويجمع بأنه رفع عليه السيف أولا فلما لم يتمكن من ضربه بالسيف طعنه بالرمح. قوله: "فلما قدمنا" أي المدينة "بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الأعمش " فوقع في نفسي من ذلك شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم: "ولا منافاة بينهما لأنه يحمل على أن ذلك بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من أسامة لا من غيره، فتقديره الأول بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مني. قوله: "أقتلته بعد ما قال" في رواية الكشميهني: "بعد أن قال: "قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد. وقال القرطبي: في

(12/195)


تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك". قوله: "إنما كان متعوذا" في رواية الأعمش " قالها خوفا من السلاح " وفي رواية ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أسامة " إنما فعل ذلك ليحرز دمه". قوله: "قال قلت يا رسول الله والله إنما كان متعوذا" كذا أعاد الاعتذار وأعيد عليه الإنكار، وفي رواية الأعمش " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا " قال النووي الفاعل في قوله: "أقالها " هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى ما فيه، فأنكر عليه ترك العمل بما ظهر من اللسان فقال: "أفلا شققت عن قلبه " لتنظر هل كانت فيه حين قالها واعتقدها أو لا، والمعنى أنك إذا كنت لست قادرا على ذلك فاكتف منه باللسان. وقال القرطبي: فيه حجة لمن أثبت الكلام النفسي، وفيه دليل عل ترتب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة. قوله: "حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" أي أن إسلامي كان ذلك اليوم لأن الإسلام يجب ما قبله، فتمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام ليأمن من جريرة تلك الفعلة، ولم يرد أنه تمنى أن لا يكون مسلما قبل ذلك. قال القرطبي: وفيه إشعار بأنه كان استصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من الإنكار الشديد، وإنما أورد ذلك على سبيل المبالغة، ويبين ذلك أن في بعض طرقه في رواية الأعمش " حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ " ووقع عند مسلم من حديث جندب بن عبد الله في هذه القصة زيادات ولفظه: "بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين فالتقوا فأوجع رجل من المشركين فيهم فأبلغ، فقصد رجل من المسلمين غيلته - كنا نتحدث إنه أسامة بن زيد - فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله فقتله " الحديث. وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : فكيف تصنع بلا إلى إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة؟ قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: كيف تصنع بلا إله إلا الله؟ فجعل لا يزيده على ذلك " وقال الخطابي: لعل أسامة تأول قوله تعالى :{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا غيرها. قلت: كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعا مقيدا بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالصا من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد من الآية، وأما كونه لم يلزمه دية ولا كفارة فيتوقف فيه الداودي وقال: لعله سكت عنه لعلم السامع أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة، وقال القرطبي: لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بعد لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال: فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذونا له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس ولا مال كالخاتن والطبيب، أو لأن المقتول كان من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، قال: وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة فلم تلزم العاقلة الدية وفيه نظر. قال ابن بطال: كانت هذه القصة سبب حلف أسامة أن لا يقاتل مسلما بعد ذلك، ومن ثم تخلف عن علي في الجمل وصفين كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن. قلت: وكذا وقع في رواية الأعمش المذكورة " أن سعد بن أبي وقاص كان يقول لا أقاتل مسلما حتى يقاتله أسامة " واستدل به النووي على رد الفرع الذي ذكره الرافعي فيمن رأى كافرا أسلم فأكرم إكراما كثرا فقال ليتني كنت كافرا فأسلمت لأكرم، فقال الرافعي: يكفر بذلك، ورده النووي بأنه لا يكفر لأنه جازم الإسلام في الحال

(12/196)


والاستقبال، وإنما تمنى ذلك في الحال الماضي مقيدا له بالإيمان ليتم له الإكرام، واستدل بقصة أسامة ثم قال: ويمكن الفرق. الحديث التاسع حديث عبادة، قوله: "حدثني يزيد" هو ابن أبي كل حبيب المصري. وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله، والصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة بمهملتين مصغر. قوله: "إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني ليلة العقبة. قوله: "بايعناه على أن لا نشرك" ظاهره أن هذه البيعة على هذه الكيفية كانت ليلة العقبة، وليس كذلك كما بينته في كتاب الإيمان في أوائل الصحيح، وإنما كانت البيعة ليلة العقبة " على المنشط والمكره في العسر واليسر إلى آخره: "وأما البيعة المذكورة هنا وهي التي تسمى بيعة النساء فكانت بعد ذلك بمدة، فإن آية النساء التي فيها البيعة المذكورة نزلت بعد عمرة الحديبية في زمن الهدنة وقبل فتح مكة، وكانت البيعة التي وقعت للرجال على وفقها كانت عام الفتح، وقد أوضحت ذلك والسبب في الحمل عليه في كتاب الإيمان، ومضى شرح الحديث هناك. الحديث العاشر حديث ابن عمر، قوله: "جويرية" بالجيم تصغير جارية وهر ابن أسماء سمع من نافع مولى ابن عمر وحدث عنه بواسطة مالك أيضا. قوله: "من حمل علينا السلاح فليس منا" المراد من حمل عليهم السلاح لقتالهم لما فيه من إدخال الرعب عليهم، لا من حمله لحراستهم مثلا فإنه يحمله لهم لا عليهم، وقوله فليس منا أي على طريقتنا، وأطلق اللفظ مع احتمال إرادة أنه ليس على الملة للمبالغة في الزجر والتخويف، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. الحديث الحادي عشر، قوله: "رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم" قلت: سيأتي موصولا مع شرحه في كتاب الفتن ومعه حديث أبي هريرة بمعناه، وهو عند مسلم من حديث سلمة بلفظ: "من حمل علينا السيف". الحديث الثاني عشر، قوله: "حدثنا أيوب" هو السختياني، ويونس هو ابن عبيد البصري، والحسن البصري. قوله: "عن الأحنف" هو ابن قيس. قوله: "لأنصر هذا الرجل" هو علي بن أبي طالب وكان الأحنف تخلف عنه في وقعة الجمل. قوله: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" بالتثنية، وفي رواية الكشميهني بالإفراد. قوله: "في النار" أي إن أنفذ الله عليهما ذلك لأنهما فعلا فعلا يستحقان أن يعذبا من أجله، وقوله: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه " احتج به الباقلاني ومن تبعه على أن من عزم على المعصية يأثم ولو لم يفعلها، وأجاب من خالفه بأن هذا شرع في الفعل والاختلاف فيمن هم مجردا ثم صمم ولم يفعل شيئا هل يأثم، وقد تقدم شرحه مستوفى في شرح حديث: "من هم بحسنة ومن هم بسيئة " في كتاب الرقاق. وقال الخطابي: هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا، فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له في القتال شرعا، وسيأتي شرح هذا الحديث في كتاب الفتن أيضا إن شاء الله تعالى.

(12/197)


باب قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد} الآية
...
3- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله: "باب قول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية" كذا لأبي ذر. وفي

(12/197)


رواية الأصيلي والنسفي وابن عساكر {الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ - إلى قوله - عَذَابٌ أَلِيمٌ} وللإسماعيلي {الْقَتْلَى - إلى قوله – أَلِيمٌ} وساق في رواية كريمة الآية كلها.

(12/198)


باب سؤال القابل حتى يقر و الاقرار في الحدود
...
4- باب: سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ وَالإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ
6876- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلاَنٌ أَوْ فُلاَنٌ - حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ، بِهِ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ"
قوله: "باب سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود" كذا للأكثر، وبعده حديث أنس في قصة اليهودي والجارية. ووقع عند النسفي وكريمة وأبي نعيم في "المستخرج" بحذف "باب" وقالوا بعد قوله عذاب أليم " وإذا لم يزل يسأل القاتل حتى أقر " والإقرار في الحدود، وصنيع الأكثر أشبه، وقد صرح الإسماعيلي بأن الترجمة الأولى بلا حديث. قلت: والآية المذكورة أصل في اشتراط التكافؤ في القصاص وهو قول الجمهور، وخالفهم الكوفيون فقالوا يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمي، وتمسكوا بقوله تعالى:{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} قال إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن": الجمع بين الآيتين أولى، فتحمل النفس على المكافئة، ويؤيده اتفاقهم على أن الحر لو قذف عبدا لم يجب عليه حد القذف، قال ويؤخذ الحكم من الآية نفسها فإن في آخرها {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} والكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه، وكذلك العبد لا يتصدق بجرحه لأن الحق لسيده. وقال أبو ثور: لما اتفقوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس كانت النفس أولى بذلك. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن العبد يقتل بالحر وأن الأنثى تقتل بالذكر ويقتل بها إلا أنه ورد عن بعض الصحابة كعلي والتابعين كالحسن البصري أن الذكر إذا قتل الأنثى فشاء أولياؤها قتله وجب عليهم نصف الدية وإلا فلهم الدية كاملة قال: ولا يثبت عن علي لكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة، ويدل على التكافؤ بين الذكر والأنثى أنهم اتفقوا على أن مقطوع اليد والأعور لو قتله الصحيح عمدا لوجب عليه القصاص ولم يجب له بسبب عينه أو يده دية. قوله في الترجمة "سؤال القاتل حتى يقر" أي من اتهم بالقتل ولم تقم عليه البينة. قوله: "حدثنا همام" هو ابن يحيى. قوله: "عن أنس" في رواية حبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة عن همام الآتية بعد سبعة أبواب "حدثنا أنس". قوله: "أن يهوديا" لم أقف على اسمه. قوله: "رض رأس جارية" الرض بالضاد المعجمة والرضخ بمعنى، والجارية يحتمل أن تكون أمة ويحتمل أن تكون حرة لكن دون البلوغ وقد وقع في رواية هشام بن زيد عن أنس في الباب الذي يليه " خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة فرماها يهودي بحجر " وتقدم من هذا الوجه في الطلاق بلفظ: "عدا يهودي على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها " وفيه: "فأتى أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق " وهذا لا يعين كونها حرة لاحتمال أن يراد بأهلها مواليها رقيقة كانت أو عتيقة، ولم أقف على اسمها لكن في بعض طرقه أنها من الأنصار، ولا تنافي بين قوله: "رض رأسها بين حجرين" وبين قوله: "رماها بحجر" وبين قوله: "رضخ رأسها" لأنه يجمع بينها بأنه رماها

(12/198)


بحجر فأصاب رأسها فسقطت على حجر آخر، وأما قوله: "على أوضاح" فمعناه بسبب أوضاح، وهي بالضاد المعجمة والحاء المهملة جمع وضح، قال أبو عبيد هي حلي الفضة، ونقل عياض أنها حلي من حجارة، ولعله أراد حجارة الفضة احترازا من الفضة المضروبة أو المنقوشة. قوله: "فقيل لها من فعل بك هذا أفلان أو فلان" ؟ في رواية الكشميهني: "فلان أو فلان" بحذف الهمزة، وقد تقدم في الأشخاص من وجه آخر عن همام " أفلان أفلان " بالتكرار بغير واو عطف، وجاء بيان الذي خاطبها بذلك في الرواية التي تلي هذه بلفظ: "فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان قتلك " وبين في رواية أبي قلابة عن أنس عند مسلم وأبي داود " فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها من قتلك". قوله: "حتى سمي اليهودي" زاد في الروايتين اللتين في الأشخاص والوصايا " فأومأت برأسها " ووقع في رواية هشام بن زيد في الرواية التي تلي هذا بيان الإيماء المذكور وأنه كان تارة دالا على النفي وتارة دالا على الإثبات بلفظ: "فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فأعاد فقال: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها " وهو مشعر بأن فلانا الثاني غير الأول، ووقع التصريح بذلك في الرواية التي في الطلاق وكذا الآتية بعد بابين " فأشارت برأسها أن لا، قال: ففلان؟ لرجل آخر يعني عن - رجل آخر - فأشارت أن لا، قال: ففلان قاتلها فأشارت أن نعم". قوله: "فلم يزل به حتى أقر" في الوصايا " فجيء به يعترف فلم يزل به حتى اعترف " قال أبو مسعود: لا أعلم أحدا قال في هذا الحديث: فاعترف ولا فأقر إلا همام بن يحيى، قال المهلب: فيه أنه ينبغي للحاكم أن يستدل على أهل الجنايات ثم يتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاءوا تائبين فإنه يعرض عمن لم يصرح بالجناية فإنه يجب إقامة الحد عليه إذا أقر، وسياق القصة يقتضي أن اليهودي لم تقم عليه بينة وإنما أخذ بإقراره، وفيه أنه تجب المطالبة بالدم بمجرد الشكوى وبالإشارة، قال: وفيه دليل على جواز وصية غير البالغ ودعواه بالدين والدم. قلت: في هذا نظر لأنه لم يتعين كون الجارية دون البلوغ، وقال المازري فيه الرد على من أنكر القصاص بغير السيف، وقتل الرجل بالمرأة. قلت: وسيأتي البحث فيهما في بابين مفردين قال: واستدل به بعضهم على التدمية لأنها لو لم تعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة، قال: ولا يصح اعتباره مجردا لأنه خلاف الإجماع فلم يبق إلا إنه يفيد القسامة. وقال النووي: ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتهم بمجرد قول المجروح، واستدل بهذا الحديث، ولا دلالة فيه بل هو قول باطل لأن اليهودي اعترف كما وقع التصريح به في بعض طرقه، ونازعه بعض المالكية فقال: لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا إن قول المحتضر عند موته فلان قتلني لوث يوجب القسامة فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور، واحتج من قال بالتدمية أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهي وقت إخلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا يدل على أنه لا يقول إلا حقا، قالوا وهي أقوى من قول الشافعية أن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين. قوله: "فرض رأسه بالحجارة" أي دق، وفي رواية الأشخاص "فرضخ رأسه بين حجرين" ويأتي في رواية حبان أن هماما قال كلا من اللفظين، وفي رواية هشام التي تليها " فقتله بين حجرين " ومضى في الطلاق بلفظ الرواية التي في الأشخاص، وفي رواية أبي قلابة عند مسلم: "فأمر به فرجم حتى مات" لكن في رواية أبي داود من هذا الوجه "فقتل بين حجرين" قال عياض: رضخه بين حجرين ورميه بالحجارة ورجمه بها بمعنى، والجامع أنه

(12/199)


رمى بحجر أو أكثر ورأسه على آخر. وقال ابن التين: أجاب بعض الحنفية بأن هذا الحديث لا دلالة فيه على المماثلة في القصاص، لأن المرأة كانت حية والقود لا يكون في حي، وتعقبه بأن إنما أمر بقتله بعد موتها لأن في الحديث: "أفلان قتلك " فدل على أنها ماتت حينئذ لأنها كانت تجود بنفسها، فلما ماتت اقتص منه وادعى ابن المرابط من المالكية أن هذا الحكم كان في أول الإسلام وهو قبول قول القتيل، وأما ما جاء أنه اعترف فهو في رواية قتادة ولم يقله غيره وهذا مما عد عليه انتهى. ولا يخفى فساد هذه الدعوى فقتادة حافظ زيادته مقبولة لأن غيره لم يتعرض لنفيها فلم يتعارضا، والنسخ لا يثبت بالاحتمال. واستدل به على وجوب القصاص على الذمي، وتعقب بأنه ليس فيه تصريح بكونه ذميا فيحتمل أن يكون معاهدا أو مستأمنا، والله أعلم.

(12/200)


5- باب: إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا
6877- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ. قَالَ فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُلاَنٌ قَتَلَكِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهَا قَالَ: فُلاَنٌ قَتَلَكِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا. فَقَالَ لَهَا فِي الثَّالِثَةِ: فُلاَنٌ قَتَلَكِ: فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا. فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ"
قوله: "باب إذا قتل بحجر أو بعصا" كذا أطلق ولم يبت الحكم إشارة إلى الاختلاف في ذلك، ولكن إيراده الحديث يشير إلى ترجيح قول الجمهور، وذكر فيه حديث أنس في اليهودي والجارية، وهو حجة للجمهور أن القاتل يقتل بما قتل به، وتمسكوا بقوله تعالى :{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وبقوله تعالى:{ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث لا قود إلا بالسيف، وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي من حديث أبي بكرة، وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده. وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة، وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه، وبالنهي عن المثلة وهو صحيح لكنه محمول عند الجمهور على غير المماثلة في القصاص جمعا بين الدليلين، قال ابن المنذر: قال الأكثر إذا قتله بشيء يقتل مثله غالبا فهو عمد، وقال ابن أبي ليلى: إن قتل بالحجر أو العصا نظر إن كرر ذلك فهو عمد وإلا فلا، وقال عطاء وطاوس: شرط العمد أن يكون بسلاح وقال الحسن البصري والشعبي والنخعي والحكم وأبو حنيفة ومن تبعهم: شرطه أن يكون بحديدة. واختلف فيمن قتل بعصا فأقيد بالضرب بالعصا فلم يمت هل يكرر عليه؟ فقيل: لم يكرر، وقيل إن لم يمت قتل بالسيف وكذا فيمن قتل بالتجويع. وقال ابن العربي يستثنى من المماثلة ما كان فيه معصية كالخمر واللواط والتحريق، وفي الثالثة خلاف عند الشافعية، والأولان بالاتفاق، لكن قال بعضهم يقتل بما يقوم مقام ذلك انتهى. ومن أدلة المانعين حديث المرأة التي رمت ضرتها بعمود الفسطاط فقتلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها الدية، وسيأتي البحث فيه في "باب جنين المرأة" وهو بعد باب القسامة. ومحمد في أول السند جزم الكلاباذي بأنه ابن عبد الله بن نمير. وقال أبو علي بن السكن: هو ابن سلام.

(12/200)


باب قول الله تعالى { أن النفس بالنفس و العين بالعين و الانف بالأنف } الآية
...
6- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
6878- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَفارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} كذا لأبي ذر والأصيلي، وعند النسفي بعده الآية إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وساق في رواية كريمة إلى قوله: {الظَّالِمُونَ} والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب لكن الحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام، فهو أصل في القصاص في قتل العمد. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل" وقع في رواية سفيان الثوري عن الأعمش عند مسلم والنسائي زيادة في أوله وهي " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي لا إله غيره لا يحل " وظاهر قوله: "لا يحل" إثبات إباحة قتل من استثنى، وهو كذلك بالنسبة لتحريم قتل غيرهم وإن كان قتل من أبيح قتله منهم واجبا في الحكم. قوله: "دم امرئ مسلم" في رواية الثوري " دم رجل " والمراد لا يحل إراقة دمه أي كله وهو كناية عن قتله ولو لم يرق دمه. قوله: "يشهد أن لا إله إلا الله" هي صفة ثانية ذكرت لبيان أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين، أو هي حال مقيدة للموصوف إشعارا بأن الشهادة هي العمدة في حقن الدم، وهذا رجحه الطيبي واستشهد بحديث أسامة "كيف تصنع بلا إله إلا الله". قوله: "إلا بإحدى ثلاث" أي خصال ثلاث، ووقع في رواية الثوري " إلا ثلاثة نفر". قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي من قتل عمدا بغير حق قتل بشرطه، ووقع في حديث عثمان المذكور " قتل عمدا فعليه القود " وفي حديث جابر عند البزار " ومن قتل نفسا ظلما". قوله: "والثيب الزاني" أي فيحل قتله بالرجم، وقد وقع في حديث عثمان عند النسائي بلفظ: "رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم " قال النووي: الزاني يجوز فيه إثبات الياء وحذفها وإثباتها أشهر. قوله: "والمفارق لدينه التارك للجماعة" كذا في رواية أبي ذر عن الكشميهني، وللباقين " والمارق من الدين " لكن عند النسفي والسرخسي والمستملي: "والمارق لدينه " قال الطيبي المارق لدينه هو التارك له، من المروق وهو الخروج وفي رواية مسلم: "والتارك لدينه المفارق للجماعة " وله في رواية الثوري "المفارق للجماعة" وزاد: قال الأعمش فحدثت بهما إبراهيم يعني النخعي فحدثني عن الأسود يعني ابن يزيد عن عائشة بمثله. قلت: وهذه الطريق أغفل المزي في الأطراف ذكرها في مسند عائشة وأغفل التنبيه عليها في ترجمة عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود، وقد أخرجه مسلم أيضا بعده من طريق شيبان بن عبد الرحمن عن الأعمش ولم يسق لفظه لكن قال: "بالإسنادين جميعا " ولم يقل " والذي لا إله غيره: "وأفرده أبو عوانة في صحيحه من طريق شيبان باللفظ المذكور سواء، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة

(12/201)


مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك " مسلم يشهد أن لا إله إلا الله " فإنها صفة مفسرة لقوله: "مسلم: "وليست قيدا فيه إذ لا يكون مسلما إلا بذلك. ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان " أو يكفر بعد إسلامه " أخرجه النسائي بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا: "ارتد بعد إسلامه " وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة " أو كفر بعد ما أسلم " وفي حديث ابن عباس عند النسائي (1) "مرتد بعد إيمان" قال ابن دقيق العيد: الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل، وأما المرأة ففيها خلاف. وقد استدل بهذا الحديث للجمهور في أن حكمها حكم الرجل لاستواء حكمهما في الزنا، وتعقب بأنها دلالة اقتران وهي ضعيفة، وقال البيضاوي: التارك لدينه صفة مؤكدة للمارق أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، قال: وفي الحديث دليل لمن زعم أنه لا يقتل أحد دخل في الإسلام بشيء غير الذي عدد كترك الصلاة ولم ينفصل عن ذلك، وتبعه الطيبي، وقال ابن دقيق العيد: قد يؤخذ من قوله: "المفارق للجماعة " أن المراد المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول مخالف الإجماع كافر، وقد نسب ذلك إلى بعض الناس، وليس ذلك بالهين فإن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا وتارة لا يصحبها التواتر، فالأول يكفر جاحده لمخالفة التواتر لا لمخالفة الإجماع، والثاني لا يكفر به. قال شيخنا في شرح الترمذي: الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم، وقال ابن دقيق العيد: وقع هنا من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترا عن صاحب الشرع، قال وهو تمسك ساقط إما عن عمى في البصيرة أو تعام لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل. وقال النووي: قوله: "التارك لدينه" عام في كل من ارتد بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، وقوله: "المفارق للجماعة " يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع كالروافض والخوارج وغيرهم، كذا قال، وسيأتي البحث فيه. وقال القرطبي في "المفهم" ظاهر قوله: "المفارق للجماعة" أنه نعت للتارك لدينه، لأنه إذا ارتد فارق، جماعة المسلمين، غير أنه يلتحق به كل من خرج عن جماعة المسلمين وإن لم يرتد كمن يمتنع من إقامة الحد عليه إذا وجب ويقاتل على ذلك كأهل البغي وقطاع الطريق والمحاربين من الخوارج وغيرهم، قال: فيتناولهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، ولو لم يكن كذلك لم يصح الحصر لأنه يلزم أن ينفي من ذكر ودمه حلال فلا يصح الحصر، وكلام الشارع منزه عن ذلك، فدل على أن وصف المفارقة للجماعة يعم جميع هؤلاء. قال: وتحقيقه أن كل من فارق الجماعة ترك دينه، غير أن المرتد ترك كله والمفارق بغير ردة ترك بعضه انتهى. وفيه مناقشة لأن أصل الخصلة الثالثة الارتداد فلا بد من وجوده، والمفارق بغير ردة لا يسمى مرتدا فيلزم الخلف في الحصر، والتحقيق في جواب ذلك أن الحصر فيمن يجب قتله عينا، وأما من ذكرهم فإن قتل الواحد منهم إنما يباح إذا وقع حال المحاربة والمقاتلة، بدليل أنه لو أسر لم يجز قتله صبرا اتفاقا في غير المحاربين، وعلى الراجح في المحاربين أيضا، لكن يرد على ذلك قتل تارك الصلاة، وقد تعرض له ابن دقيق العيد فقال: استدل بهذا الحديث أن تارك
ـــــــ
(1) في نسخة "عند الطبراني"

(12/202)


الصلاة لا يقتل بتركها لكونه ليس من الأمور الثلاثة، وبذلك استدل شيخ والدي الحافظ أبو الحسن بن المفضل المقدسي في أبياته المشهورة، ثم ساقها ومنها وهو كاف في تحصيل المقصود هنا:
والرأي عندي أن يعزره الإما ... م بكل تعزير يراه صوابا
فالأصل عصمته إلى أن يمتطى ... إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا
قال: فهذا من المالكية اختار خلاف مذهبه، وكذا استشكله إمام الحرمين من الشافعية. قلت: تارك الصلاة اختلف فيه، فذهب أحمد وإسحاق وبعض المالكية ومن الشافعية ابن خزيمة وأبو الطيب بن سلمة وأبو عبيد بن جويرية (1) ومنصور الفقيه وأبو جعفر الترمذي إلى أنه يكفر بذلك ولو لم يجحد وجوبها، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل حدا، وذهب الحنفية ووافقهم المزني إلى أنه لا يكفر ولا يقتل. ومن أقوى ما يستدل به على عدم كفره حديث عبادة رفعه: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد" الحديث وفيه: "ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن حبان وابن السكن وغيرهما، وتمسك أحمد ومن وافقه بظواهر أحاديث وردت بتكفيره وحملها من خالفهم على المستحل جمعا بين الأخبار والله أعلم. وقال ابن دقيق العيد: وأراد بعض من أدركنا زمانه أن يزيل الإشكال فاستدل بحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " ووجه الدليل منه أنه وقف العصمة على المجموع، والمرتب على أشياء لا تحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها، قال: وهذا إن قصد الاستدلال بمنطوقه وهو " أقاتل الناس إلخ " فإنه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد ذهل للفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه، فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين فلا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة إباحة قتل الممتنع من فعلها إذا لم يقاتل، وليس النزاع في أن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال أنه يجب قتالهم، وإنما النظر فيما إذا تركها إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أو لا، والفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه ظاهر، وإن كان أخذه من آخر الحديث وهو ترتب العصمة على فعل ذلك فإن مفهومه يدل على أنها لا تترتب على فعل بعضه هان الأمر لأنها دلالة مفهوم، ومخالفه في هذه المسألة لا يقول بالمفهوم، وأما من يقول به فله أن يدفع حجته بأنه عارضته دلالة المنطوق في حديث الباب وهي أرجح من دلالة المفهوم فيقدم عليها، واستدل به بعض الشافعية لقتل تارك الصلاة لأنه تارك للدين الذي هو العمل، وإنما لم يقولوا بقتل تارك الزكاة لإمكان انتزاعها منه قهرا، ولا يقتل تارك الصيام لإمكان منعه المفطرات فيحتاج هو أن ينوي الصيام لأنه يعتقد وجوبه، واستدل به على أن الحر لا يقتل بالعبد لأن العبد لا يرجم إذا زنى ولو كان ثيبا حكاه ابن التين قال: وليس لأحد أن يفرق ما جمعه الله إلا بدليل من كتاب أو سنة، قال: وهذا بخلاف الخصلة الثالثة فإن الإجماع انعقد على أن العبد والحر في الردة سواء، فكأنه جعل أن الأصل العمل بدلالة الاقتران ما لم يأت دليل يخالفه. وقال شيخنا في شرح الترمذي: استثنى بعضهم من الثلاثة قتل الصائل فإنه يجوز قتله للدفع، وأشار بذلك إلى قول النووي يخص من عموم الثلاثة الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب بأنه داخل في المفارق للجماعة أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله بمعنى أنه لا يحل قتله إلا مدافعة بخلاف الثلاثة، واستحسنه الطيبي وقال: هو أولى من تقرير البيضاوي لأنه فسر قوله:
ـــــــ
(1) في نسخة "حروبيه"

(12/203)


{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يحل قتل النفس قصاصا للنفس التي قتلها عدوانا فاقتضى خروج الصائل ولو لم يقصد الدافع قتله. قلت: والجواب الثاني هو المعتمد، وأما الأول فتقدم الجواب عنه، وحكى ابن التين عن الداودي أن هذا الحديث منسوخ بآية المحاربة {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} قال: فأباح القتل بمجرد الفساد في الأرض قال وقد ورد في القتل بغير الثلاث أشياء: منها قوله تعالى :{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وحديث: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه " وحديث: "من أتى بهيمة فاقتلوه " وحديث: "من خرج وأمر الناس جمع يريد تفرقهم فاقتلوه " وقول عمر " تغرة أن يقتلا " وقول جماعة من الأئمة: إن تاب أهل القدر وإلا قتلوا، وقل جماعة من الأئمة: يضرب المبتدع حتى يرجع أو يموت، وقول جماعة من الأئمة يقتل تارك الصلاة قال: وهذا كله زائد على الثلاث. قلت: وزاد غيره قتل من طلب أخذ مال إنسان أو حريمه بغير حق، ومانع الزكاة المفروضة، ومن ارتد ولم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع وأظهر الشقاق والخلاف، والزنديق إذا تاب على رأي، والساحر. والجواب عن ذلك كله أن الأكثر في المحاربة أنه إن قتل قتل، وبأن حكم الآية في الباغي أن يقاتل لا أن يقصد إلى قتله، وبأن الخبرين في اللوط وإتيان البهيمة لم يصحا وعلى تقدير الصحة فهما داخلان في الزنا، وحديث الخارج عن المسلمين تقدم تأويله بأن المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، وأثر عمر من هذا القبيل، والقول في القدرية وسائر المبتدعة مفرع على القول بتكفيرهم، وبأن قتل تارك الصلاة عند من لا يكفره مختلف فيه كما تقدم إيضاحه، وأما من طلب المال أو الحريم فمن حكم دفع الصائل، ومانع الزكاة تقدم جوابه، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتل الزنديق لاستصحاب حكم كفره، وكذا الساحر، والعلم عند الله تعالى. وقد حكى ابن العربي عن بعض أشياخه أن أسباب القتل عشرة، قال ابن العربي: ولا تخرج عن هذه الثلاثة بحال، فإن من سحر أو سب نبي الله كفر فهو داخل في التارك لدينه والله أعلم. واستدل بقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} على تساوي النفوس في القتل العمد فيقاد لكل مقتول من قاتله سواء كان حرا أو عبدا، وتمسك به الحنفية وادعوا أن آية المائدة المذكورة في الترجمة ناسخة لآية البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ومنهم من فرق بين عبد الجاني وعبد غيره فأقاد من عبد غيره دون عبد نفسه، وقال الجمهور: آية البقرة مفسرة لآية المائدة فيقتل العبد بالحر ولا يقتل الحر بالعبد لنقصه، وقال الشافعي: ليس بين العبد والحر قصاص إلا أن يشاء الحر، واحتج للجمهور بأن العبد سلعة فلا يجب فيه إلا القيمة لو قتل خطأ، وسيأتي مزيد لذلك بعد باب. واستدل بعمومه على جواز قتل المسلم بالكافر المستأمن والمعاهد، وقد مضى في الباب قبله شرح حديث علي "لا يقتل مؤمن بكافر" وفي الحديث جواز وصف الشخص بما كان عليه ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتد من المسلمين، وهو باعتبار ما كان.

(12/204)


7- باب مَنْ أَقَادَ بِالْحَجَرِ
6879- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ فَقَالَ: أَقَتَلَكِ فُلاَنٌ؟

(12/204)


فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لاَ، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لاَ، ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ، فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرَيْنِ"
قوله: "باب من أقاد بالحجر" أي حكم بالقود بفتحتين وهو المماثلة في القصاص، ذكر فيه حديث أنس في قصة اليهودي والجارية وقد تقدم شرحه مستوفى قريبا، وقوله: "فأشارت برأسها أي نعم" في رواية الكشميهني: "أن نعم" بالنون بدل التحتانية وكلاهما يجيء لتفسير ما يتقدمه، والمراد أنها أشارت إشارة مفهمة يستفاد منها ما يستفاد منها لو نطقت فقالت نعم.

(12/205)


8- باب مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ
6880- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا.." وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ "حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ: لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلاَّ مُنْشِدٌ. وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أن يُودَى وَإِمَّا أن يُقَادُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ فَإِنَّمَا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِلاَّ الإِذْخِرَ". وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْبَانَ فِي الْفِيلِ. قَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ: الْقَتْلَ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ
6881- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُجَاهِدٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ..} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ، قَالَ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أَنْ يَطْلُبَ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ"
قوله: "باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين" ترجم بلفظ الخبر، وظاهره حجة لمن قال إن الاختيار في أخذ الدية أو الاقتصاص راجع إلى أولياء المقتول ولا يشترط في ذلك رضا القاتل. وهذا القدر مقصود الترجمة ومن ثم عقب حديث أبي هريرة بحديث ابن عباس الذي فيه تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي ترك له دمه ورضي منه بالدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي في المطالبة بالدية. وقد فسر ابن عباس العفو بقبول الدية في العمد، وقبول الدية راجع إلى الأولياء الذين لهم طلب القصاص، وأيضا فإنما لزمت القاتل الدية بغير

(12/205)


رضاه لأنه مأمور بإحياء نفسه لعموم قوله تعالى :{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فإذا رضي أولياء المقتول بأخذ الدية له لم يكن للقاتل أن يمتنع من ذلك، قال ابن بطال: معنى قوله تعالى :{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى أن أخذ الدية لم يكن في بني إسرائيل بل كان القصاص متحتما، فخفف الله عن هذه الأمة بمشروعية أخذ الدية إذا رضي أولياء المقتول. ثم ذكر في الباب حديثين، الأول: قوله: "عن أبي هريرة" كذا للأكثر ممن رواه عن يحيى بن أبي كثير في الصحيحين وغيرهما، ووقع في رواية النسائي مرسلا، وهو من رواية يحيى بن حميد عن الأوزاعي وهي شاذة. قوله: "أن خزاعة قتلوا رجلا، وقال عبد الله بن رجاء" كذا تحول إلى طريق حرب بن شداد عن يحيى وهو ابن أبي كثير في الطريقين، وساق الحديث هنا على لفظ حرب، وقد تقدم لفظ شيبان وهو ابن عبد الرحمن في كتاب العلم، وطريق عبد الله بن رجاء هذه وصلها البيهقي من طريق هشام بن علي السيرافي عنه، وتقدم في اللقطة من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة مصرحا بالتحديث في جميع السند. قوله: "أنه عام فتح مكة" الهاء في أنه ضمير الشأن. قوله: "قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية" وقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم مكة " فذكر الحديث وفيه: "ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله " وقع نحو ذلك في رواية ابن إسحاق عن المقبري كما أوردته في " باب لا يعضد شجر الحرم " من أبواب جزاء الصيد من كتاب الحج، فأما خزاعة فتقدم نسبهم في أول مناقب قريش وأما بنو ليث فقبيلة مشهورة ينسبون إلى ليث بن بكر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأما هذيل فقبيلة كبيرة ينسبون إلى هذيل وهم بنو مدركة بن إلياس بن مضر، وكانت هذيل وبكر من سكان مكة وكانوا في ظواهرها خارجين من الحرم، وأما خزاعة فكانوا غلبوا على مكة وحكموا فيها ثم أخرجوا منها فصاروا في ظاهرها، وكانت بينهم وبين بني بكر عداوة ظاهرة في الجاهلية، وكانت خزاعة حلفاء بني هاشم بن عبد مناف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بنو بكر حلفاء قريش كما تقدم بيانه في أول فتح مكة من كتاب المغازي، وقد ذكرت في كتاب العلم أن اسم القاتل من خزاعة خراش بمعجمتين ابن أمية الخزاعي، وأن المقتول منهم في الجاهلية كان اسمه أحمر وأن المقتول من بني ليث لم يسم وكذا القاتل، ثم رأيت في السيرة النبوية لابن إسحاق أن الخزاعي المقتول اسمه منبه، قال ابن إسحاق في المغازي " حدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي عن رجل من قومه قال: كان معنا رجل يقال له أحمر كان شجاعا وكان إذا نام غط فإذا طرقهم شيء صاحوا به فيثور مثل الأسد، فغزاهم قوم من هذيل في الجاهلية فقال لهم ابن الأثوع وهو بالثاء المثلثة والعين المهملة: لا تعجلوا حتى أنظر فإن كان أحمر فيهم فلا سبيل إليهم، فاستمع فإذا غطيط أحمر فمشى إليه حتى وضع السيف في صدره فقتله وأغاروا على الحي، فلما كان عام الفتح وكان الغد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلي حتى دخل مكة وهو على شركه، فرأته خزاعة فعرفوه فأقبل خراش بن أمية فقال أفرجوا عن الرجل فطعنه بالسيف في بطنه فوقع قتيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، ولقد قتلتم قتيلا لأدينه" قال ابن إسحاق "وحدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب قال: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية قال: إن خراشا لقتال" يعيبه بذلك. ثم ذكر حديث أبي شريح الخزاعي كما تقدم، فهذا قصة الهذلي، وأما قصة المقتول من بني ليث فكأنها أخرى، وقد ذكر ابن هشام أن المقتول من بني ليث اسمه جندب بن الأدلع، وقال بلغني أن أول قتيل وداه

(12/206)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جندب بن الأدلع قتله بنو كعب فوداه بمائة ناقة، لكن ذكر الواقدي أن اسمه جندب بن الأدلع، فرآه جندب بن الأعجب الأسلمي فخرج يستجيش عليه فجاء خراش فقتله، فظهر أن القصة واحدة فلعله كان هذليا حالف بني ليث أو بالعكس، ورأيت في آخر الجزء الثالث من " فوائد أبي علي بن خزيمة: "أن اسم الخزاعي القاتل هلال بن أمية، فإن ثبت فلعل هلالا لقب خراش والله أعلم. قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية سفيان المشار إليها في العلم " فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فركب راحلته فخطب". قوله: "إن الله حبس عن مكة الفيل" بالفاء اسم الحيوان المشهور، وأشار بحبسه عن مكة إلى قصة الحبشة وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة، وحاصل ما ساقه أن أبرهة الحبشي لما غلب على اليمن وكان نصرانيا بنى كنيسة وألزم الناس بالحج إليها، فعمد بعض العرب فاستغفل الحجبة وتغوط فهرب، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة، فتجهز في جيش كثيف واستصحب معه فيلا عظيما، فلما قرب من مكة خرج إليه عبد المطلب فأعظمه وكان جميل الهيئة، فطلب منه أن يرد عليه إبلا له نهبت فاستقصر همته وقال: لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الأمر الذي جئت فيه، فقال إن لهذا البيت ربا سيحميه، فأعاد إليه إبله، وتقدم أبرهة بجيوشه فقدموا الفيل فبرك وعجزوا فيه، وأرسل الله عليهم طيرا مع كل واحد ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجر في منقاره فألقوها عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب، وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال: "جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح " وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن، فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا، قالوا لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه قال ابن إسحاق " حدثني يعقوب بن عتبة قال: حدثت أن أول ما وقعت الحصباء والجدري بأرض العرب من يومئذ " وعند الطبري بسند صحيح عن عكرمة أنها كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السباع. ولابن أبي حاتم من طريق عبيد بن عمير بسند قوي: بعث الله عليهم طيرا أنشأها من البحر كأمثال الخطاطيف. فذكر نحو ما تقدم. قوله: "وإنها لم تحل لأحد قبلي إلخ" تقدم بيانه مفصلا في "باب تحريم القتال بمكة" من أبواب جزاء الصيد وفيما قبله في "باب لا يعضد شجر الحرم". قوله: "ولا يلتقط" بضم أوله على البناء للمجهور وفي آخره "إلا لمنشد" ووقع للكشميهني هنا بفتح أوله وفي آخره: "إلا منشد" وهو واضح. قوله: "ومن قتل له قتيل" أي من قتل له قريب كان حيا فصار قتيلا بذلك القتل. قوله: "فهو بخير النظرين" تقدم في العلم بلفظ: "ومن قتل فهو بخير النظرين: وهو مختصر ولا يمكن حمله على ظاهره لأن المقتول لا اختيار له وإنما الاختيار لوليه وقد أشار إلى نحو ذلك الخطابي، ووقع في رواية الترمذي من طريق الأوزاعي " فإما أن يعفو وإما أن يقتل " والمراد العفو على الدية جمعا بين الروايتين، ويؤيده أن عنده في حديث أبي شريح " فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا أو يأخذوا الدية " ولأبي داود وابن ماجه وعلقه الترمذي من وجه آخر عن أبي شريح بلفظ: "فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه" أي إن أراد زيادة على القصاص أو الدية، وسأذكر الاختلاف فيمن يستحق الخيار هل هو القاتل أو ولي المقتول في شرح الحديث الذي بعده. وفي الحديث، أن ولي الدم يخير بين القصاص والدية،

(12/207)


واختلف إذا اختار الدية هل يجب على القاتل إجابته؟ فذهب الأكثر إلى ذلك، وعن مالك لا يجب إلا برضا القاتل، واستدل بقوله: "ومن قتل له" بأن الحق يتعلق بورثة المقتول، فلو كان بعضهم غائبا أو طفلا لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب. قوله: "إما أن يودي" بسكون الواو أي يعطي القاتل أو أولياؤه لأولياء المقتول الدية "وإما أن يقاد" أي يقتل به، ووقع في العلم بلفظ: "إما أن يعقل " بدل " إما أن يودي " وهو بمعناه، والعقل الدية. وفي رواية الأوزاعي في اللقطة " أما أن يفدي " بالفاء بدل الواو، وفي نسخة " وإما أن يعطي " أي الدية. ونقل ابن التين عن الداودي أن في رواية أخرى " إما أن يودي أو يفادي " وتعقبه بأنه غير صحيح لأنه لو كان بالفاء لم يكن له فائدة لتقدم ذكر الدية. ولو كان بالقاف واحتمل أن يكون للمقتول وليان لذكرا بالتثنية أي يقادا بقتيلهما والأصل عدم التعدد، قال وصحيح الرواية: "إما أن يودي أو يقاد " وإنما يصح يقادي إن تقدمه أن يقتص. وفي الحديث جواز إيقاع القصاص بالحرم لأنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك بمكة ولم يقيده بغير الحرم، وتمسك بعمومه من قال يقتل المسلم بالذمي وقد سبق ما فيه. قوله: "فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه" تقدم ضبطه مع شرحه في العلم، وحكى السلفي أن بعضهم نطق بها بتاء في آخره وغلطه وقال هو فارسي من فرسان الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن. قوله: "ثم قام رجل من قريش فقال: يا رسول الله إلا الإذخر" تقدم بيان اسمه وأنه العباس بن عبد المطلب وشرح بقية الحديث المتعلق بتحريم مكة وبالإذخر في الأبواب المذكورة من كتاب الحج. قوله: "وتابعه عبيد الله" يعني ابن موسى. قوله: "عن شيبان في الفيل" أي تابع حرب بن شداد عن يحيى في الفيل بالفاء، ورواية عبيد الله المذكورة موصولة في صحيح مسلم من طريقه. قوله: "وقال بعضهم عن أبي نعيم القتل" هو محمد بن يحيى الذهلي جزم عن أبي نعيم في روايته عنه بهذا الحديث بلفظ: "القتل " وأما البخاري فرواه عنه بالشك كما تقدم في كتاب العلم. قوله: "وقال عبيد الله إما أن يقاد أهل القتيل" أي يؤخذ لهم بثأرهم، وعبيد الله هو ابن موسى المذكور، وروايته إياه عن شيبان بن عبد الرحمن بالسند المذكور، وروايته عنه موصولة في صحيح مسلم كما بينته ولفظه: "إما أن يعطي الدية وإما أن يقاد أهل القتيل " وهو بيان لقوله: "إما أن يقاد". الحديث الثاني، قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "عن مجاهد" وقد تقدم في تفسير البقرة عن الحميدي " عن سفيان حدثنا عمرو سمعت مجاهدا". قوله: "عن ابن عباس رضي الله عنهما" في رواية الحميدي " سمعت ابن عباس " هكذا وصله ابن عيينة عن عمرو بن دينار وهو من أثبت الناس في عمرو، ورواه ورقاء بن عمر عن عمرو فلم يذكر فيه ابن عباس أخرجه النسائي. قوله: "كانت في بني إسرائيل القصاص" كذا هنا من رواية قتيبة عن سفيان بن عيينة، وفي رواية الحميدي عن سفيان "كان في بني إسرائيل القصاص" كما تقدم في التفسير وهو أوجه، وكأنه أنث باعتبار معنى القصاص وهو المماثلة والمساواة. قوله: "فقال الله لهذه الأمة كتب عليكم القصاص في القتلى إلى هذه الآية فمن عفي له من أخيه شيء" قلت: كذا وقع في رواية قتيبة، ووقع هنا عند أبي ذر والأكثر. ووقع هنا في رواية النسفي والقابسي "إلى قوله :{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ووقع في رواية ابن أبي عمر في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج "إلى قوله في هذه الآية" وبهذا يظهر المراد، وإلا فالأول يوهم أن قوله: {فَمَنْ عُفِيَ} في آية تلي الآية المبدأ بها وليس كذلك، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي كريب وغيره عن سفيان فقال بعد قوله في القتلى "فقرأ إلى والأنثى بالأنثى فمن عفي له" ووقع في رواية

(12/208)


الحميدي المذكورة ما حذف هنا من الآية وزاد في آخره تفسير قوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وزاد فيه أيضا تفسير قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى} أي قتل بعد قبول الدية. وقد اختلف في تفسير العذاب في هذه الآية فقيل: يتعلق بالآخرة وأما في الدنيا فهو لمن قتل ابتداء وهذا قول الجمهور، وعن عكرمة وقتادة والسدي يتحتم القتل ولا يتمكن الولي من أخذ الدية. وفيه حديث جابر رفعه: "لا أعفو عمن قتل بعد أخذ الدية" أخرجه أبو داود وفي سنده انقطاع، قال أبو عبيد: ذهب ابن عباس إلى أن هذه الآية ليست منسوخه بآية المائدة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} بل هما محكمتان، وكأنه رأى أن آية المائدة مفسرة لآية البقرة وأن المراد بالنفس نفس الأحرار ذكورهم وإناثهم دون الأرقاء فإن أنفسهم متساوية دون الأحرار. وقال إسماعيل المراد في النفس بالنفس المكافئة للأخرى في الحدود لأن الحر لو قذف عبدا لم يجلد اتفاقا والقتل قصاصا من جملة الحدود، قال وبينه قوله في الآية {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فمن هنا يخرج العبد والكافر لأن العبد ليس له أن يتصدق بدمه ولا بجرحه، ولأن الكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه. قلت: محصل كلام ابن عباس يدل على أن قوله تعالى :{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أي على بني إسرائيل في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} مطلقا فخفف عن هذه الأمة بمشروعية الدية بدلا عن القتل لمن عفا من الأولياء عن القصاص وبتخصيصه بالحر في الحر، فحينئذ لا حجة في آية المائدة لمن تمسك بها في قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر، لأن شرع من قبلنا إنما يتمسك منه بما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وقد قيل إن شريعة عيسى لم يكن فيها قصاص وإنه كان فيها الدية فقط، فإن ثبت ذلك امتازت شريعة الإسلام بأنها جمعت الأمرين فكانت وسطى لا إفراط ولا تفريط، واستدل به على أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الولي وهو قول الجمهور، وقرره الخطابي بأن العفو في الآية يحتاج إلى بيان، لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكن المعنى أن من عفي عنه من القصاص إلى الدية فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف وهو المطالبة وعلى القاتل الأداء وهو دفع الدية بإحسان. وذهب مالك والثوري وأبو حنيفة إلى أن الخيار في القصاص أو الدية للقاتل، قال الطحاوي: والحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله: "فهو بخير النظرين " أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضني الجاني أن يغرم الدية. وتعقب بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص " إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود فأعلم أن كتاب الله نزل على أن المجني عليه إذا طلب القود أجيب إليه وليس فيه ما ادعاه من تأخير البيان، واحتج الطحاوي أيضا بأنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك أن القاتل لا يجبر عل ذلك ولا يؤخذ منه كرها وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه. وقال المهلب وغيره: يستفاد من قوله: "فهو بخير النظرين " أن الولي إذا سئل في العفو على مال إن شاء قبل ذلك وإن شاء اقتص وعلى الولي اتباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدل على إكراه القاتل على بذل الدية، واستدل بالآية على أن الواجب في قتل العمد القود والدية بدل منه، وقيل الواجب الخيار، وهما قولان للعلماء، وكذا في مذهب الشافعي أصحهما الأول، واختلف في سبب نزول الآية فقيل نزلت في حيين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الشرف فكانوا يتزوجون من نسائهم بغير مهر وإذا قتل منهم

(12/209)


عبد قتلوا به حرا أو امرأة قتلوا بها رجلا أخرجه الطبري عن الشعبي، وأخرج أبو داود من طريق علي بن صالح بن حي عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة يودي بمائة وسق من التمر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه لنا نقتله، فقالوا بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوه فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد ولو كان غيلة وهو أن يخدع شخصا حتى يصير به إلى موضع خفي فيقتله، خلافا للمالكية، وألحقه مالك بالمحارب فإن الأمر فيه إلى السلطان وليس للأولياء العفو عنه، وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل إذا رآه الإمام وأن "أو" في الآية للتخيير لا للتنويع، وفيه أن من قتل متأولا كان حكمه حكم من قتل خطأ في وجوب الدية لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإني عاقله" واستدل به بعض المالكية على قتل من التجأ إلى الحرم بعد أن يقتل عمدا خلافا لمن قال لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج منه، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قاله في قصة قتيل خزاعة المقتول في الحرم، وأن القود مشروع فيمن قتل عمدا، ولا يعارضه ما ذكر من حرمة الحرم فإن المراد به تعظيمه بتحريم ما حرم الله، وإقامة الحد على الجاني به من جملة تعظيم حرمات الله، وقد تقدم شيء من هذا في الموضع الذي أشرت إليه آنفا من كتاب الحج.

(12/210)


9- باب: مَنْ طَلَبَ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
6882- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ"
قوله: "باب من طلب دم امرئ بغير حق" أي بيان حكمه. قوله: "عن عبد الله بن أبي حسين" هو عبد الله بن عبد الرحمن نسب إلى جده، وثبت ذكر أبيه في هذا السند عند الطبراني في نسخة شعيب بن أبي حمزة وكذا في مستخرج أبي نعيم، ونافع بن جبير أي ابن مطعم. قوله: "أبغض" هو أفعل من البغض، قال وهو شاذ ومثله أعدم من العدم إذا افتقر، قال وإنما يقال أفعل من كذا للمفاضلة في الفعل الثلاثي، قال المهلب وغيره: المراد بهؤلاء الثلاثة أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله، فهو كقوله: "أكبر الكبائر" وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي. قوله: "ملحد في الحرم" أصل الملحد هو المائل عن الحق، والإلحاد العدول عن القصد، واستشكل بأن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق، والجواب أن هذه الصيغة في العرف مستعملة للخارج عن الدين فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها، وقيل إيراده بالجملة الاسمية مشعر بثبوت الصفة، ثم التنكير للتعظيم فيكون ذلك إشارة إلى عظم الذنب، وقد تقدم قريبا في عد الكبائر مستحل البيت الحرام، وأخرج الثوري في تفسيره عن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: "ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، إلا أن رجلا لو هم بعدن أبين أن يقتل رجلا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله من عذاب أليم" وهذا سند صحيح، وقد ذكر شعبة أن السدي رفعه لهم، وكان شعبة يرويه عنه موقوفا أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة،

(12/210)


وأخرجه الطبري من طريق أسباط بن نصر عن السدي موقوفا، وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، وهو مشكل فيتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة، وقد يؤخذ ذلك من سياق الآية فإن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} الآية يفيد ثبوت الإلحاد ودوامه، والتنوين للتعظيم أي من يكون إلحاده عظيما والله أعلم. قوله: "ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية" أي يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره ممن لا يكون له فيه مشاركة كوالده أو ولده أو قريبه، وقيل المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية أو إشاعتها أو تنفيذها. وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه من أخذ الجار بجاره والحليف بحليفه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما كانوا يعتقدونه، والمراد منه ما جاء الإسلام بتركه كالطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد أخرج الطبراني والدار قطني من حديث أبي شريح رفعه: "إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام " فيمكن أن يفسر به سنة الجاهلية في هذا الحديث. قوله: "ومطلب" بالتشديد مفتعل من الطلب فأبدلت التاء طاء وأدغمت والمراد من يبالغ في الطلب. وقال الكرماني: المعنى المتكلف للطب، والمراد الطلب المترتب عليه المطلوب لا مجرد الطلب، أو ذكر الطلب ليلزم الزجر في الفعل بطريق الأولى. وقوله: "بغير حق" احتراز عمن يقع له مثل ذلك لكن بحق كطلب القصاص مثلا. وقوله: "ليهريق" بفتح الهاء ويجوز إسكانها، وقد تمسك به من قال إن العزم المصمم يؤاخذ به، وتقدم البحث في ذلك في الكلام على حديث: "من هم بحسنة" في كتاب الرقاق. "تنبيه": وقفت لهذا الحديث على سبب فقرأت في "كتاب مكة لعمر بن شبة" من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن عطاء بن يزيد قال: قتل رجل بالمزدلفة يعني في غزوة الفتح، فذكر القصة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما أعلم أحدا أعتى على الله من ثلاثة: رجل قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحل في الجاهلية" ومن طريق مسعر عن عمرو بن مرة عن الزهري ولفظه: "إن أجرأ الناس على الله" فذكر نحوه وقال فيه: "وطلب بذحول الجاهلية".

(12/211)


10- باب: الْعَفْوِ فِي الْخَطَإِ بَعْدَ الْمَوْتِ
6883- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ.." وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا - يَعْنِي الْوَاسِطِيَّ - عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي النَّاسِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي أَبِي، فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ"
قوله: "باب العفو في الخطأ بعد الموت" أي عفو الولي لا عفو المقتول لأنه محال، ويحتمل أن يدخل، وإنما قيده بما بعد الموت لأنه لا يظهر أثره إلا فيه، إذ لو عفا المقتول ثم مات لم يظهر لعفوه أثر، لأنه لو عاش تبين أن لا شيء له يعفو عنه، وقال ابن بطال: أجمعوا على أن عفو الولي إنما يكون بعد موت المقتول، وأما قبل ذلك فالعفو للقتيل، خلافا لأهل الظاهر فإنهم أبطلوا عفو القتيل. وحجة الجمهور أن الولي لما قام مقام المقتول في طلب

(12/211)


ما يستحقه فإذا جعل له العفو كان ذلك للأصيل أولى، وقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة من مرسل قتادة أن عروة بن مسعود لما دعا قومه إلى الإسلام فرمي بسهم فقتل عفا عن قاتله قبل أن يموت فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عفوه. قوله: "حدثنا فروة" بفاء هو ابن أبي المغراء. قوله: "عن أبيه عن عائشة هزم المشركون يوم أحد" سقط هذا القدر لأبي ذر وتحول إلى السند الآخر فصار ظاهره أن الروايتين سواء وليس كذلك، ويحيى بن أبي زكريا في السند الثاني هو يحيى بن يحيى الغساني، وساق المتن هنا على لفظه، وأما لفظ علي بن مسهر فتقدم في " باب من حنث ناسيا " من كتاب الأيمان والنذور، وقد بينت ذلك في الكلام عليه في غزوة أحد. قوله: "فقال حذيفة غفر الله لكم" استدل به من قال إن ديته وجبت على من حضر، لأن معنى قوله: "غفر الله لكم" عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق له أن يطالب به. وقد أخرج أبو إسحاق الفزاري في السنن عن الأوزاعي عن الزهري قال: "أخطأ المسلمون بأبي حذيفة يوم أحد حتى قتلوه، فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزاده عنده خيرا ووداه من عنده " وهذه الزيادة ترد قول من حمل قوله: "فلم يزل في حذيفة منها بقية خير " على الحزن على أبيه، وقد أوضحت الرد عليه في " باب من حنث ناسيا " ويؤخذ منها أيضا التعقب على المحب الطبري حيث قال: حمل البخاري قول حذيفة " غفر الله لكم " على العفو عن الضمان وليس بصريح، فيجاب بأن البخاري أشار بهذا الذي هو غير صريح إلى ما ورد صريحا وإن كان ليس على شرطه فإنه يؤيد ما ذهب إليه.

(12/212)


11- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
قوله: "باب: قول الله تعالى :{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} كذا لأبي ذر وابن عساكر، وساق الباقون الآية إلى {عَلِيماً حَكِيماً} ولم يذكر معظمهم في هذا الباب حديثا. قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} ذكر ابن إسحاق في السيرة سبب نزولها عن عبد الرحمن ابن الحارث بن عبد الله بن عياش بتحتانية وشين معجمة أي ابن ربيعة المخزومي قال: "قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: نزلت هذه الآية في جدك عياش بن أبي ربيعة والحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي وكان يؤذيهم بمكة وهو كافر، فلما هاجر المسلمون أسلم الحارث وأقبل مهاجرا حتى إذا كان بظاهر الحرة لقيه عياش بن أبي ربيعة فظنه على شركه فعلاه بالسيف حتى قتله، فنزلت" روى هذه القصة أبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فذكرها مرسلة أيضا وزاد في السند عبد الرحمن بن القاسم، وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير من طريق سعيد بن جبير أن عياش بن أبي ربيعة حلف ليقتلن الحارث بن يزيد إن ظفر به فذكر نحوه ومن طريق مجاهد نحوه لكن لم يسم الحارث، وفي سياقه ما يدل عل أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم ثم خرج فقتله عياش بن أبي ربيعة، وقيل في سبب نزولها غير ذلك مما لا يثبت. قوله: "إلا خطأ" هو استثناء منقطع عند الجمهور إن أريد بالنفي معناه فإنه لو قدر متصلا لكان مفهومه فله قتله، وانفصل من قال إنه متصل بأن المراد بالنفي

(12/212)


التحريم، ومعنى إلا خطأ بأن عرفه بالكفر فقتله ثم ظهر أنه كان مؤمنا، وقيل نصب على أنه مفعول له أي لا يقتله لشيء أصلا إلا للخطأ، أو حال أي إلا في حال الخطأ، أو هو نعت مصدر محذوف أي إلا قتلا خطأ، وقيل "إلا" هنا بمعنى الواو وجوزه جماعة، وقيده الفراء بشرط مفقود هنا فلذلك لم يجزه هنا. واستدل بهذه الآية على أن القصاص من المسلم مختص بقتله المسلم فلو قتل كافرا لم يجب عليه شيء سواء كان حربيا أم غير حربي لأن الآيات بينت أحكام المقتولين عمدا ثم خطأ فقال في الحربي {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ثم قال فيمن لهم ميثاق {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} وقال فيمن عاود المحاربة {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} وقال في الخطأ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} فكان مفهومها أن له أن يقتل الكافر عمدا فخرج الذمي بما ذكر قبلها، وجعل في قتل المؤمن خطأ الدية والكفارة ولم يذكر ذلك في قتل الكافر، فتمسك به من قال لا يجب في قتل الكافر ولو كان ذميا لشيء، وأيده بقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وإسحاق في أول السند قال أبو علي الجياني: لم أجده منسوبا ويشبه أن يكون ابن منصور. قلت: ولا يبعد أن يكون ابن راهويه فإنه كثير الرواية عن حبان بن هلال شيخ إسحاق هنا.

(12/213)


12- باب: إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ
6884- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ، حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَقَدْ قَالَ ه