Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 35. ومجلد 36. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

  مجلد 35. ومجلد 36. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

35.

  مجلد 35.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)  
 "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الاسم القبيح حوله إلى ما هو أحسن منه" وقد وصله الترمذي من وجه آخر عن هشام بذكر عائشة فيه. حديث سهل بن سعد. قوله: "أتي بالمنذر بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد" أبو أسيد بالتصغير صحابي مشهور، وله أحاديث في الصحيح، وتقدم ذكر ولده هذا في صلاة الجماعة في المغازي، وتقدمت روايته عن أبيه في كتاب الطلاق، وكان الصحابة إذا ولد لأحدهم الولد أتي به النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه ويبارك عليه، وقد تكرر ذلك في الأحاديث. قوله: "فوضعه على فخذه" يعني إكراما له. قوله: "فلها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء بين يديه" أي اشتغل، وكل ما شغلك عن شيء فقد ألهاك عن غيره. قال ابن التين: روي لهي بوزن علم وهي اللغة المشهرة، وبالفتح لغة طي. قوله: "فاستفاق النبي صلى الله عليه وسلم" أي انقضى ما كان مشتغلا به فأفاق من ذلك فلم ير الصبي فسأل عنه، يقال أفاق من نومه ومن مرضه واستفاق بمعني. قوله: "قلبناه" بفتح القاف وتشديد اللام بعدها موحدة ساكنة أي صرفناه إلى منزله، وذكر ابن التين أنه وقع في روايته أقلبناه بزيادة همزة أوله، قال والصواب حذفها وأثبتها غيره لغة. قوله: "ما اسمه؟ قال فلان" لم أقف على تعيينه، فكأنه كان سماه اسما ليس مستحسنا فسكت عن تعيينه. أو سماه فنسيه بعض الرواة. قوله: "ولكن اسمه المنذر " أي ليس هذا الاسم الذي سميته به الذي يليق به بل هو المنذر، قال الداودي: سماه المنذر تفاؤلا أن يكون له علم ينذر به. قلت: وتقدم في المغازي أنه سمي المنذر بالمنذر بن عمرو الساعدي الخزرجي وهو صحابي مشهور من رهط أبي أسيد. قوله: "عطاء بن أبي ميمونة" هو ابن هلال مولى أنس، وأبو رافع هو نفيع الصانع. قوله: "أن زينب كان اسمها برة" بفتح الموحدة وتشديد الراء، كذا في رواية محمد بن جعفر وهو غندر عن شعبة، ووافقه جماعة. وقال عمرو بن مرزوق عن شعبة بهذا السند عن أبي هريرة "كان اسم ميمونة برة" أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" عنه، والأول أكبر، وزينب هي بنت جحش أو بنت أبي سلمة، والأولى زوج النبي صلى الله عليه وسلم والثانية ربيبته، وكل منهما كان اسمها أولا برة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال ابن عبد البر، وقصة زينب بنت جحش أخرجها مسلم وأبو داود في أثناء حديث عن زينب بنت أم سلمة قال: "سميت برة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم فإن الله أعلم بأهل البر منكم. قالوا: ما نسميها؟ قال: سموها زينب" وفي بعض روايات مسلم: "وكان اسم زينب بنت جحش برة" وقد أخرج الدار قطني في "المؤتلف" بسند فيه ضعف "أن زينب بنت جحش قالت: يا رسول الله اسمي برة فلو غيرته، فإن البرة صغيرة، فقال لو كان مسلما(1) لسميته باسم من أسمائها، ولكن هو جحش فالجحش أكبر من البرة" وقد وقع مثل ذلك لجويرية بنت الحارث أم المؤمنين، فأخرج مسلم وأبو داود والمصنف في "الأدب المفرد" عن ابن عباس قال: "كان اسم جويرية بنت الحارث برة، فحول النبي صلى الله عليه وسلم اسمها فسماها جويرية، كره أن يقول خرج من عند برة". قوله: "فقيل تزكي نفسها" أي لأن لفظه: "برة" مشتقة من البر، وكذلك وقع في قصة جويرية "كره أن يقال خرج من عند برة" وقال في قصة زينب "الله أعلم بأهل البر منكم". قوله: "هشام" هو ابن يوسف، وعبد الحميد بن جبير بن شيبة أي ابن عثمان الحجبي. قوله: "فحدثني أن جده حزنا" هكذا أرسل سعيد الحديث لما حدث به عبد الحميد، ولما حدث به الزهري وصله عن
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: هكذا في جملة النسخ، وحرر

(10/576)


أبيه كما تقدم بيانه في الباب الذي قبله، وهذا على قاعدة الشافعي أن المرسل إذا جاء موصولا من وجه آخر تبين صحة مخرج المرسل، وقاعدة البخاري أن الاختلاف في الوصل والإرسال لا يقدح المرسل في الموصول إذا كان الواصل أحفظ من المرسل، كالذي هنا فإن الزهري أحفظ من عبد الحميد، قال الطبري لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم يقتضي التزكية له، ولا باسم معناه السب. قلت: الثالث أخص من الأول، قال: ولو كانت الأسماء إنما هي أعلام للأشخاص لا يقصد بها حقيقة الصفة، لكن وجه الكراهة أن يسمع سامع بالاسم فيظن أنه صفة للمسمى، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يحول الاسم إلى ما إذا دعي به صاحبه كان صدقا، قال: وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أسماء، وليس ما غير من ذلك على وجه المنع من التسمي بها بل على وجه الاختيار، قال: ومن ثم أجاز المسلمون أن يسمى الرجل القبيح بحسن والفاسد بصالح، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم حزنا لما امتنع من تحويل اسمه إلى سهل بذلك، ولو كان ذلك لازما لما أقره على قوله: "لا أغير اسما سمانيه أبي" انتهى ملخصا. وقد ورد الأمر بتحسين الأسماء، وذلك فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم" ورجاله ثقات، إلا أن في سنده انقطاعا بين عبد الله بن أبي زكريا راويه عن أبي الدرداء [وأبي الدرداء] فإنه لم يدركه، قال أبو داود: وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم العاص وعتلة بفتح المهملة والمثناة بعدها لام وشيطان وغراب وحباب بضم المهملة وتخفيف الموحدة وشهاب وحرب وغير ذلك قلت: والعاصي الذي ذكره هو مطيع بن الأسود العدوي والد عبد الله بن مطيع، ووقع مثله لعبد الله بن الحارث بن جزء وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر أخرجه البزار والطبراني من حديث عبد الله بن الحارث بسند حسن والأخبار في مثل ذلك كثيرة، وعتلة هو عتبة بن عبد السلمي، وشيطان هو عبد الله، وغراب هو مسلم أبو رايطة، وحباب هو عبد الله بن عبد الله بن أبي، وشهاب هو هشام بن عامر الأنصاري، وحرب هو الحسن بن علي سماه علي أولا حربا، وأسانيدها مبينة في كتابي في الصحابة.

(10/577)


109 - باب مَنْ سَمَّى بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَبَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَهُ
6194- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قُلْتُ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَاتَ صَغِيراً وَلَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَاشَ ابْنُهُ وَلَكِنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ".
6195- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعاً فِي الْجَنَّةِ" .
6196- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ" . وَرَوَاهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6197- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي

(10/577)


هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" .
6198- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى".
6199- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلاَقَةَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ: "انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب من سمى بأسماء الأنبياء" في هذه الترجمة حديثان صريحان: أحدهما أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم" ثانيهما أخرجه أبو داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي وهب الجشمي بضم الجيم وفتح المعجمة رفعه: "تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة" قال بعضهم: أما الأولان فلما تقدم في "باب أحب الأسماء إلى الله" وأما الآخران فلأن العبد في حرث الدنيا أو حرث الآخرة ولأنه لا يزال يهم بالشيء بعد الشيء، وأما الأخيران فلما في الحرب من المكاره ولما في مرة من المرارة. وكأن المؤلف رحمه الله لما لم يكونا على شرطه اكتفى بما استنبطه من أحاديث الباب وأشار بذلك إلى الرد على من كره ذلك، كما تقدم عن عمر أنه أراد أن يغير أسماء أولاد طلحة وكان سماهم بأسماء الأنبياء. وأخرج البخاري أيضا في "الأدب المفرد" في مثل ترجمة هذا الباب حديث يوسف بن عبد الله بن سلام قال: "سماني النبي صلى الله عليه وسلم يوسف" الحديث وسنده صحيح وأخرجه الترمذي في "الشمائل" وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء". ثم ذكر فيه أحد عشر حديثا موصولة ومعلقة: الأول حديث أنس: قوله: "وقال أنس: قبل النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم، يعني ابنه" ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، وهو في رواية النسفي أيضا، وهو طرف من حديث طويل تقدم موصولا في الجنائز. قوله: "حدثنا ابن نمير" هو محمد بن عبد الله بن نمير نسب لجده، ومحمد بن بشر هو العبدي، وإسماعيل هو ابن خالد، والإسناد كله كوفيون. قوله: "قلت لابن أبي أوفى" هو عبد الله الصحابي ابن الصحابي. قوله: "رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال مات صغيرا" تضمن كلامه جواب السؤال بالإشارة إليه وصرح بالزيادة عليه كأنه قال: نعم رأيته لكن مات صغيرا. ثم ذكر السبب في ذلك. وقد رواه إبراهيم بن حميد عن إسماعيل عن أبي خالد بلفظ: "قال نعم كان أشبه الناس به، مات وهو صغير" أخرجه ابن منده والإسماعيلي من طريق جرير عن إسماعيل "سألت ابن أبي أوفى عن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أي شيء كان حين مات؟ قال: كان صبيا". قوله: "ولو قضي أن يكون بعد محمد نبي عاش ابنه" إبراهيم "ولكن لا نبي بعده" هكذا جزم به عبد الله بن أبي أوفى. ومثل هذا لا يقال بالرأي، وقد توارد عليه جماعة: فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: "لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم

(10/578)


صلى عليه وقال: إن له مرضعا في الجنة، لو عاش لكان صديقا نبيا، ولأعتقت أخواله القبط" وروى أحمد وابن منده من طريق السدي "سألت أنسا كم بلغ إبراهيم؟ قال كان قد ملأ المهد، ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبقى، لأن نبيكم آخر الأنبياء" ولفظ أحمد "لو عاش إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان صديقا نبيا" ولم يذكر القصة فهذه عدة أحاديث صحيحة عن هؤلاء الصحابة أنهم أطلقوا ذلك، فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال: هو باطل، وجسارة في الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل. ويحتمل أن يكون استحضر ذلك عن الصحابة المذكورين، فرواه عن غيرهم ممن تأخر فقال ذلك، وقد استنكر قبله ابن عبد البر في "الاستيعاب" الحديث المذكور فقال هذا لا أدري ما هو، وقد ولد نوح من ليس بنبي، وكما يلد غير النبي نبيا فكذا يجوز عكسه، حتى نسب قائله إلى المجازفة والخوض في الأمور المغيبة بغير علم إلى غير ذلك، مع أن الذي نقل عن الصحابة المذكورين إنما أتوا فيه بقضية شرطية. حديث البراء "لما مات إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعا في الجنة" قال الخطابي: هو بضم الميم على أنه اسم فاعل من أرضع أي من يتم إرضاعه. وبفتحها أي أن له رضاعا في الجنة. وقال ابن التين في الصحاح: امرأة مرضع أي لها ولد ترضعه، فهي مرضعة بضم أوله، فإن وصفتها بإرضاعه قلت مرضعة يعني بفتح الميم، قال: والمعنى هنا يصح، ولكن لم يروه أحد بفتح الميم. قلت: وقع في رواية الإسماعيلي: "أن له مرضعا ترضعه في الجنة" والمعنى تكمل إرضاعه، لأنه لما مات كان ابن ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا على اختلاف الروايتين، وقيل إنما عاش سبعين يوما. حديث جابر "سموا باسمي" ذكره مختصرا عن آدم عن شعبة عن حصين، وقد تقدم شرحه قريبا، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة عن حصين بتمامه، قوله: "ورواه أنس" تقدم التنبيه عليه قريبا في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سموا باسمي". حديث أبي هريرة "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" ووقع في رواية المستملي والسرخسي هنا "بكنوتي" وقد تقدم توجيهه قريبا. قوله: "ومن رآني في المنام" الحديث هو حديث آخر جمعهما الراوي بهذا الإسناد، وسيأتي شرحه في كتاب التعبير. قوله: "ومن كذب علي متعمدا" الحديث هو حديث آخر تقدم شرحه في كتاب العلم. عن أبي موسى هو الأشعري قال: "ولد لي غلام". قوله: "وكان أكبر ولد أبي موسى" هذا يشعر بأن أبا موسى كني قبل أن يولد له، وإلا فلو كان الأمر على غير ذلك لكني بابنه إبراهيم المذكور، ولم ينقل أنه كان يكني أبا إبراهيم. حديث المغيرة "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم" كذا أورده مختصرا، وقد تقدم في الكسوف بهذا الإسناد مطولا من وجه آخر عن زياد بن علاقة مطولا أيضا وتقدم شرحه هناك. قوله: "رواه أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى ما أخرجه موصولا في الكسوف ومعلقا، لكن لم أر في شيء من طرق حديث أبي بكرة التصريح بأن ذلك كان يوم مات إبراهيم، إلا في رواية أسندها في "باب كسوف القمر" مع أن مجموع الأحاديث تدل على ذلك كما قاله البيهقي، قال ابن بطال: في هذه الأحاديث جواز التسمية بأسماء الأنبياء، وقد ثبت عن سعيد بن المسيب أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء" وإنما كره عمر ذلك، لئلا يسبب أحد المسمى بذلك فأراد تعظيم الاسم لئلا يبتذل في ذلك وهو قصد حسن، وذكر الطبري أن الحجة في ذلك حديث أنس "يسمونهم

(10/579)


محمدا ويلعنونهم" قال: وهو ضعيف، لأنه من رواية الحكم بن عطية عن ثابت عنه، وعلى تقدير ثبوته فلا حجة فيه للمنع، بل فيه النهي عن لعن من يسمى محمدا، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث في "باب سموا باسمي" قال ويقال إن طلحة قال للزبير: أسماء بني أسماء الأنبياء وأسماء بنيك أسماء الشهداء، فقال: أنا أرجو أن يكون بني شهداء، وأنت لا ترجو أن يكون بنوك أنبياء، فأشار إلى أن الذي فعله أولى من الذي فعله طلحة.

(10/580)


110 - باب تَسْمِيَةِ الْوَلِيدِ
6200- أخبرنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: "لما رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم أجعلها عليهم سنين كسني يوسف" .
قوله: "باب تسمية الوليد" ورد في كراهية هذا الاسم حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمي الرجل عبده أو ولده حربا أو مرة أو وليدا" الحديث وسنده ضعيف جدا، وورد فيه أيضا حديث آخر مرسل أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي في "الدلائل" من طريقه قال: "حدثنا محمد بن خالد بن العباس السكسكي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو عمرو الأوزاعي" وأخرجه البيهقي في "الدلائل" أيضا من رواية بشر بن بكر عن الأوزاعي، وأخرجه عبد الرزاق في الجزء الثاني من أماليه عن معمر كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "ولد لأخي أم سلمة ولد فسماه الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه" قال الوليد بن مسلم في روايته قال الأوزاعي: فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك. ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك وكثر فيهم القتل. وفي رواية بشر بن بكر من الزيادة "غيروا اسمه فسموه عبد الله" وبين في روايته أنه أخو أم سلمة لأمها، وهكذا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن إسماعيل بن أبي إسماعيل عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من رواية الحارث، وأخرجه أحمد عن أبي المغيرة عن إسماعيل بن عياش فزاد فيه: "قال حدثني الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر به" فزاد فيه عمر، فادعى ابن حبان أنه لا أصل له، فقال في كتاب "الضعفاء" في ترجمة إسماعيل بن عياش: هذا خبر باطل، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رواه عمر، ولا حدث به سعيد ولا الزهري ولا هو من حديث الأوزاعي. ثم أعله بإسماعيل بن عياش. واعتمد ابن الجوزي على كلام ابن حبان فأورد الحديث في "الموضوعات" فلم يصب، فإن إسماعيل لم ينفرد به، وعلى تقدير انفراده فإنما انفرد بزيادة عمر في الإسناد، وإلا فأصله كما ذكرت عند الوليد وغيره من أصحاب الأوزاعي عنه، وعند معمر وغيره من أصحاب الزهري، فإن كان سعيد بن المسيب تلقاه عن أم سلمة فهو على شرح الصحيح ويؤيد ذلك أن له شاهدا عن أم سلمة أخرجه إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء عن زينب بنت أم سلمة عن أمها قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه

(10/580)


الوليد، فقال: من هذا؟ قلت: الوليد. قال: قد اتخذتم الوليد حنانا، غيروا اسمه فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له الوليد" وقد أخرجه الحاكم من وجه آخر عن الوليد موصولا بذكر أبي هريرة فيه أخرجه من طريق نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم وقال في آخره: "قال الزهري إن استخلف الوليد بن يزيد وإلا فهو الوليد بن عبد الملك". قلت: وعندي أن ذكر أبي هريرة فيه من أوهام نعيم بن حماد والله أعلم. ولما لم يكن هذا الحديث المذكور على شرط البخاري أومأ إليه كعادته وأورد فيه الحديث الدال على الجواز، فإنه لو كان مكروها لغيره النبي صلى الله عليه وسلم كعادته، فإن في بعض طرق الحديث المذكور الدلالة على أن الوليد بن الوليد المذكور قد قدم بعد ذلك المدينة مهاجرا كما مضى في المغازي ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم غير اسمه، وأما ما تقدم أنه أمر بتغيير اسم الوليد فذلك اسم ولد المذكور فغيره فسماه عبد الله. وأخرج الطبراني في ترجمة الوليد بن الوليد بن المغيرة من طريق إسماعيل بن أيوب المخزومي في قصة الوليد بن الوليد بعد أن جاء المدينة مهاجرا؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة بعد موته وهي تقول: أبك الوليد بن الوليد أبا الوليد بن المغيرة فقال: " إن كدتم لتتخذون الوليد حنانا فسماه عبد الله " ووصله ابن منده من وجه واه إلى أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة عن أبيه عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ومن شواهد الحديث ما أخرجه الطبراني أيضا من حديث معاذ بن جبل قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر حديثا فيه قال: "الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام، يبوء بدمه رجل من أهل بيته" وأسكن سنده ضعيف جدا.

(10/581)


111 - باب مَنْ دَعَا صَاحِبَهُ فَنَقَصَ مِنْ اسْمِهِ حَرْفاً
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا هِرٍّ"
6201- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام؟ قلت وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا نرى" .
6202- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي الثَّقَلِ وَأَنْجَشَةُ غُلاَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسُوقُ بِهِنَّ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنْجَشُ رُوَيْدَكَ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ" .
قوله: "باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا" كذا اقتصر على حرف، وهو مطابق لحديث عائشة في "عائش" ولحديث أنس في "أنجش". وأما حديث أبي هريرة فنازع ابن بطال في مطابقته فقال: ليس من الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير، وذلك أنه كان كناه أبا هريرة وهريرة تصغير هرة فخاطبه باسمها مذكرا، فهو نقصان في اللفظ وزيادة في المعنى. قلت: فهو نقص في الجملة، لكن كون النقص منه حرفا فيه نظر، وكأنه لحظ الاسم قبل التصغير وهي هرة فإذا حذف الياء الأخيرة صدق أنه نقص من

(10/581)


الاسم حرفا، وقد ترجم في "الأدب المفرد" مثله، لكن قال: "شيئا" بدل "حرفا" وأورد فيه حديث عائشة "رأيت عثمان والنبي صلى الله عليه وسلم يضرب كتفه يقول: أكنت عثم" وجبريل يوحي إليه. قوله: "وقال أبو حازم عن أبي هريرة: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر" بتشديد الراء ويجوز تخفيفها، وهذا طرف من حديث وصله المصنف رحمه الله في الأطعمة أوله "أصابني جهد شديد - وفيه - فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي فقال: يا أبا هر" ويأتي في الرقاق حديث أوله "والذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع" وفيه مثله. قوله: "يا أنجش رويدك" تقدم شرحه في "باب ما يجوز من الشعر" وأكثر ما وقع في الروايات بغير ترخيم، ويجوز في الشين الضم والفتح كما في الذي قبله.

(10/582)


باب الكنية للصبي قبل أن يولد وقبل أن يولد للرجل
...
112 - باب الْكُنْيَةِ لِلصَّبِيِّ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِلرَّجُلِ
6203- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيماً وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ" نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا
قوله: "باب الكنية للصبي، وقبل أن يولد للرجل" في رواية الكشميهني: "يلد الرجل" ذكر فيه قصة أبي عمير وهو مطابق لأحد ركني الترجمة، والركن الثاني مأخوذ من الإلحاق بل بطريق الأولى، وأشار بذلك إلى الرد على من منع تكنية من لم يولد له مستندا إلى أنه خلاف الواقع، فقد أخرج ابن ماجه وأحمد والطحاوي وصححه الحاكم من حديث صهيب "أن عمر قال له: ما لك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كناني" وأخرج سعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو "قلت لإبراهيم إني أكنى أبا النضر وليس لي ولد، وأسمع الناس يقولون: من اكتنى وليس له ولد فهو أبو جعر"، فقال إبراهيم: كان علقمة يكنى أبا شبل وكان عقيما لا يولد له وقوله جعر بفتح الجيم وسكون المهملة، وشبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة. وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" عن علقمة قال: كناني عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي. وقد كان ذلك مستعملا عند العرب، قال الشاعر: لها كنية عمرو وليس لها عمرو. وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: كان رجال من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم. وأخرج المصنف في "باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم" من كتاب الجنائز عن هلال الوزان قال: كناني عروة قبل أن يولد لي. قلت: وكنية هلال المذكور أبو عمرو ويقال أبو أمية ويقال غير ذلك. وأخرج الطبراني عن علقمة عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له" وسنده صحيح. قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب. وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قصد التعريف. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، وأبو التياح بمثناة فوقانية ثم تحتانية ثقيلة

(10/582)


مفتوحتين ثم مهملة هو يزيد بن حميد، والإسناد كله بصريون، وقد تقدم من رواية شعبة عن أبي التياح في "باب الانبساط إلى الناس" وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة هكذا، ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة عن أنس، ومن وجه ثالث عن شعبة عن محمد بن قيس عن حميد عن أنس والمشهور الأول، ويحتمل أن يكون لشعبة فيه طرق. قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا" هذا قاله أنس توطئة لما يريد من قصة الصبي، وأول حديث شعبة عن أنس قال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا" ولأحمد من طريق المثنى بن سعيد عن أبي التياح عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أم سليم" وفي رواية محمد بن قيس المذكور "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا أهل البيت" يعني لبيت أبي طلحة وأم سليم، ولأبي يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشانا ويخالطنا" وللنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي أبا طلحة كثيرا" ولأبي يعلى من طريق خالد بن عبد الله عن حميد "كان يأتي أم سليم وينام على فراشها، وكان إذا مشى يتوكأ" ولابن سعد وسعيد بن منصور عن ربعي بن عبد الله بن الجارود عن أنس "كان يزور أم سليم فتتحفه بالشيء تصنعه له". قوله: "وكان لي أخ يقال له أبو عمير" هو بالتصغير. وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند أحمد "كان لي أخ صغير" وهو أخو أنس بن مالك من أمه، ففي رواية المثنى بن سعيد المذكورة "وكان لها أي أم سليم ابن صغير" وفي رواية حميد، عند أحمد "وكان لها من أبي طلحة ابن يكنى أبا عمير" وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد عند ابن أبي عمر "كان بني لأبي طلحة" وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عند ابن سعد "أن أبا طلحة كان له ابن قال أحسبه فطيما" في بعض النسخ "فطيم" بغير ألف وهو محمول على طريقة من يكتب المنصوب المنون بلا ألف والأصل فطيم لأنه صفة أخ وهو مرفوع، لكن تخلل بين الصفة والموصوف "أحسبه"، وقد وقع عند أحمد من طريق المثنى بن سعيد مثل ما في الأصل فطيم بمعنى مفطوم أي انتهى إرضاعه. قوله: "وكان" أي النبي صلى الله عليه وسلم "إذا جاء" زاد مروان بن معاوية في روايته: "إذا جاء لأم سليم يمازحه" ولأحمد في روايته عند حميد مثله، وفي أخرى "يضاحكه" وفي رواية محمد بن قيس يهازله. وفي رواية المثنى بن أبي عوانة "يفاكهه". قوله: "يا أبا عمير" في رواية ربعي بن عبد الله "فزارنا ذات يوم فقال: يا أم سليم ما شأني أرى أبا عمير ابنك خائر النفس " بمعجمة ومثلثة أي ثقيل النفس غير نشيط. وفي رواية مروان بن معاوية وإسماعيل بن جعفر كلاهما عن حميد "فجاء يوما وقد مات نغيره" زاد مروان "الذي كان يلعب به" زاد إسماعيل "فوجده حزينا، فسأل عنه فأخبرته فقال: يا أيا عمير" وساقه أحمد عن يزيد بن هارون عن حميد بتمامه. وفي رواية حماد بن سلمة المشار إليها "فقال: ما شأن أبي عمير حزينا" وفي رواية ربعي بن عبد الله "فجعل يمسح رأسه ويقول" في رواية عمارة بن زاذان "فكان يستقبله ويقول". قوله: "ما فعل النغير" بنون ومعجمة وراء مصغر، وكرر ذلك في رواية حماد بن سلمة. قوله: "نغير كان يلعب به" وهو طير صغير واحد نغرة وجمعه نغران، قال الخطابي طوير له صوت، وفيه نظر فإنه ورد في بعض طرقه أنه الصعو بمهملتين بوزن العفو كما في رواية ربعي "فقالت أم سليم ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال أي أبا عمير مات النغير" فدل على أنهما شيء واحد والصعو لا يوصف بحسن الصوت، قال الشاعر:
كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم
قال عياض: النغير طائر معروف يشبه العصفور، وقيل هي فرخ العصافير، وقيل هي نوع من الحمر بضم

(10/583)


المهملة وتشديد الميم ثم راء، قال: والراجح أن النغير طائر أحمر المنقار. قلت: هذا الذي جزم به الجوهري. وقال صاحب "العين والمحكم": الصعو صغير المنقار أحمر الرأس. قوله: "فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا الخ" تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصلاة، وتقدمت الإشارة إليه قريبا أيضا. وفي هذا الحديث عدة فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد، بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعت في هذا الموضع طرقه وتتبعت ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة. وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك بحديث أبي عمير هذا قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجها. ثم ساقها مبسوطة، فلخصتها مستوفيا مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه فقال: فيه استحباب التأني في المشي، وزيارة الإخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة، وتخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله: "زر غبا تزدد حبا" مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر. وفيه مشروعية المصافحة لقول أنس فيه: "ما مسست كفا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأن الذي مضى في صفته صلى الله عليه وسلم أنه "كان شثن الكفين" خاص بعبالة الجسم لا بخشونة اللمس. وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزور ولا سيما إن كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصلاة على الحصير، وترك التقزز لأنه علم أن في البيت صغيرا وصلى مع ذلك في البيت وجلس فيه. وفيه أن الأشياء على يقين الطهارة لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف. وفيه أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافا لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها. وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها. وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه. وفيه ترك التكبر والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر أو في البيت فيمزح، وأن الذي ورد في صفة المنافق أن سره يخالف علانيته ليس على عمومه. وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه من حزن أو غيره. وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين فسأل أمه عن حزنه. وفيه التلطف بالصديق صغيرا كان أو كبيرا، والسؤال عن حاله، وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبي محمول على ما إذا بكى عن سبب عامدا ومن أذى بغير حق. وفيه قبول خبر الواحد لأن الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك. وفيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم. وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافا لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنه يجب عليه الإرسال. وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب خلافا

(10/584)


لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم، قال: والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره. وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم. وفيه جواز قيلولة الشخص في بيت غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجته، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته ولو كانت امرأة، وجواز دخول الرجل بيت المرأة وزوجها غائب ولو لم يكن محرما إذا انتفت الفتنة. وفيه إكرام الزائر وأن التنعم الخفيف لا ينافي السنة، وأن تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب. وفيه أن الكبير إذا زار قوما واسى بينهم، فإنه صافح أنسا، ومازح أبا عمير، ونام على فراش أم سليم، وصلى بهم في بيتهم حتى نالوا كلهم من بركته، انتهى ما لخصته من كلامه فيما استنبط من فوائد حديث أنس في قصة أبي عمير. ثم ذكر فصلا في فائدة تتبع طرق الحديث، فمن ذلك الخروج من خلاف من شرط في قبول الخبر أن تتعدد طرقه، فقيل لاثنين وقيل لثلاثة وقيل لأربعة وقيل حتى يستحق اسم الشهرة، فكان في جميع الطرق ما يحصل المقصود لكل أحد غالبا، وفي جميع الطرق أيضا، ومعرفة من رواها، وكميتها العلم بمراتب الرواة في الكثرة والقلة. وفيها الاطلاع على علة الخبر بانكشاف غلط الغالط وبيان تدليس المدلس وتوصيل المعنعن. ثم قال: وفيما يسره الله تعالى من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد؛ ونفضل بعضها على بعض في الأكل هذا آخر كلامه ملخصا. وقد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عمير بخصوصها من القدماء أبو حاتم الرازي أحد أئمة الحديث وشيوخ أصحاب السنن، ثم تلاه الترمذي في "الشمائل" ثم تلاه الخطابي، وجميع ما ذكروه يقرب من عشرة فوائد فقط، وقد ساق شيخنا في "شرح الترمذي" ما ذكره ابن القاص بتمامه ثم قال: ومن هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفي، ومنها المتعسف. قال: والفوائد التي ذكرها آخرا وأكمل بها الستين هي من فائدة جمع طرق الحديث لا من خصوص هذا الحديث. وقد بقي من فوائد هذا الحديث أن بعض المالكية والخطابي من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاص أنه صيد في الحل ثم أدخل الحرم فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في "المدونة" ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده. وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعكسه بعض الحنفية فقال قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعقب. ما أجاب به ابن القاص من مخاطبة من لا يميز التحقيق فيه جواز مواجهته بالخطاب إذا فهم الخطاب وكان في ذلك فائدة ولو بالتأنيس له، وكذا في تعليمه الحكم الشرعي عند قصد تمرينه عليه من الصغر كما في قصة الحسن بن علي لما وضع التمرة في فيه قال له "كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" كما تقدم بسطه في موضعه، ويجوز أيضا مطلقا إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل، وكثيرا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلا إذا كان ظاهر الوعك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله أو حامله. ذكر ابن بطال من فوائد هذا الحديث أيضا استحباب النضح فيما لم يتيقن طهارته. وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها، وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب، لأن الصبي لم يكن أبا وقد دعي أبا عمير. وفيه جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفا، وأن ذلك لا يمتنع من النبي كما امتنع منه إنشاء الشعر. وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف

(10/585)


أنه يعجبه من مأكول أو غيره. وفيه جواز الرواية بالمعنى، لأن القصة واحدة وقد جاءت بألفاظ مختلفة. وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث، وجواز الإتيان به تارة مطولا وتارة ملخصا، وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس ويحتمل أن يكون ممن بعده، والذي يظهر أن بعض ذلك منه والكثير منه ممن بعده، وذلك يظهر من اتحاد المخارج واختلافها. وفيه مسح رأس الصغير للملاطفة، وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإيذاء، وفيه جواز السؤال عما السائل به عالم لقوله: "ما فعل النغير؟" بعد علمه بأنه مات. وفيه إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم، لأن جميع ما ذكر من صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم سليم وذويها كان غالبا بواسطة خدمة أنس له. وقد نوزع ابن القاص في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير، فقال أبو عبد الملك: يجوز أن يكون ذلك منسوخا بالنهي عن تعذيب الحيوان. وقال القرطبي: الحق أن لا نسخ، بل الذي رخص فيه للصبي إمساك الطير ليلتهي به، وأما تمكينه من تعذيبه ولا سيما حتى يموت فلم يبح قط. ومن الفوائد التي لم يذكرها ابن القاص ولا غيره في قصة أبي عمير أن عند أحمد في آخر رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس "فمرض الصبي فهلك" فذكر الحديث في قصة موته وما وقع لأم سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة حتى نام معها، ثم أخبرته لما أصبح فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا لهم فحملت ثم وضعت غلاما، فأحضره أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله، وقد تقدم ذلك مستوفى في كتاب الجنائز، وتأتي الإشارة إلى بعضه في "باب المعاريض" قريبا. وقد جزم الدمياطي في "أنساب الخزرج" بأن أبا عمير مات صغيرا وقال ابن الأثير في ترجمته في الصحابة: لعله الغلام الذي جرى لأم سليم وأبي طلحة في أمره ما جرى، وكأنه لم يستحضر رواية عمارة بن زاذان المصرحة بذلك فذكره احتمالا، ولم أر عند من ذكر أبا عمير في الصحابة له غير قصة النغير، ولا ذكروا له اسما، بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته، فعلى هذا يكون ذلك من فوائد هذا الحديث، وهو جعل الاسم المصدر بأب أو أم اسما علما من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعي بن عبد الله "يكنى أبا عمير" أن له اسما غير كنيته. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية هشيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له حديثا، وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس وذكروا أن اسمه عبد الله كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره، فلعل أنسا مسماه باسم أخيه لأمه وكناه بكنيته، ويكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفا من أبي عمير باسم أبي عمير لكنه لم يكنه بكنيته، والله أعلم. ثم وجدت في كتاب النساء لأبي الفرج بن الجوزي قد أخرج في أواخره في ترجمة أم سليم من طريق محمد بن عمرو وهو أبو سهل البصري وفيه مقال عن حفص بن عبيد الله عن أنس أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له منها ابن يقال له حفص غلام قد ترعرع فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في موت الغلام ونومها مع أبي طلحة وقولها "أرأيت لو أن رجلا أعارك عارية الخ" وإعلامهما النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ودعائه لهما وولادتهما وإرسالها الولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه. وفي القصة مخالفة لما في الصحيح: منها أن الغلام كان صحيحا فمات بغتة، ومنها أنه ترعرع، والباقي بمعناه. فعرف بهذا أن اسم أبي عمير حفص، وهو وارد على من صنف في الصحابة وفي المبهمات، والله أعلم. ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" عن أبي حاتم الرازي أنه قال: حفظ الله أخانا صالح بن محمد - يعني الحافظ الملقب جزرة - فإنه لا يزال يبسطنا غائبا وحاضرا، كتب إلي أنه

(10/586)


لما مات الذهلي - يعني بنيسابور - أجلسوا شيخا لهم يقال له محمش فأملى عليهم حديث أنس هذا فقال: يا أبا عمير ما فعل البعير؟ قاله بفتح عين عمير بوزن عظيم وقال بموحدة مفتوحة بدل النون وأهمل العين بوزن الأول فصحف الاسمين معا. قلت: ومحمش هذا لقب وهو بفتح الميم الأولى وكسر الثانية بينهما حاء مهملة ساكنة وآخره معجمة، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوري السلمي ذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عن يزيد بن هارون وغيره وكانت فيه دعابة

(10/587)


113 - باب التَّكَنِّي بِأَبِي تُرَابٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى
6204- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لاَبُو تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضَبَ يَوْماً فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ فَقَالَ هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَلاَ ظَهْرُهُ تُرَاباً فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: "اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ" .
قوله: "باب التكني بأبي تراب وإن كانت له كنية أخرى" وذكر فيه قصة علي بن أبي طالب في ذلك، وقد تقدمت بأتم من هذا السياق في مناقبه، وفيه بيان الاختلاف في سبب ذلك وأن الجمع بينهما ممتنع، ثم ظهر لي إمكان الجمع وقد ذكرته في بابه من كتاب الاستئذان، وقد ثبت في حديث عبد المطلب بن ربيعة عند مسلم في قصة طويلة أن عليا رضي الله عنه قال: أنا أبو حسن. قوله في السند "سليمان" هو ابن بلال، وقوله: "عن سهل بن سعد" في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد شيخ البخاري فيه بهذا السند "سمعت سهل بن سعد" وقوله وما سماه أبو تراب إلا النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن التين: صوابه أبا تراب. قلت: وليس الذي وقع في الأصل خطأ بل هو موجه على الحكاية، أو على جعل الكنية اسما. وقد وقع في بعض النسخ "أبا تراب" ونبه على اختلاف الروايات في ذلك الإسماعيلي. ووقع في رواية أبي بكر المشار إليها آنفا بالنصب أيضا. وقوله: "إن كانت لأحب أسمائه إليه" فيه إطلاق الاسم على الكنية، وأنث "كانت" باعتبار الكنية. قال الكرماني: أن مخففة من الثقيلة وكانت زائدة، وأحب منصوب على أنه اسم أن، وهي وإن خففت لكن لا يوجب تخفيفها إلغاءها. قلت: ولم يتعين ما قال، بل كانت على حالها. وأشار سهل بذلك إلى انقضاء محبته بموته، وسهل إنما حدث بذلك بعد موت علي بدهر. وقال ابن التين: وأنث كانت على تأنيث الأسماء مثل "وجاءت كل نفس" ومثل "كما شرقت صدر القناة" كذا قال، وما تقدم أولى. وقوله: "وأن كان ليفرح أن ندعوها" بنون مفتوحة ودال ساكنة والواو محركة بمعنى نذكرها كذا للنسفي، ولأبي ذر عن المستملي والسرخسي ووقع في روايتنا من طريق أبي الوقت "أن يدعاها" وهو بتحتانية أوله مضمومة، ولسائر الرواة "يدعى بها" بضم أوله أي ينادى بها وهي رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن شيخه المذكور هنا بهذا الإسناد، وكذا لأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة المذكورة. وفي رواية عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد "أن يدعوه بها"

(10/587)


وقوله: "فاضطجع إلى الجدار في المسجد" في رواية الكشميهني: "إلى جدار المسجد" وعنه "في" بدل "إلى" وفي رواية النسفي "إلى الجدار إلى المسجد" وقد تقدم في أبواب المساجد بلفظ: "فإذا هو راقد في المسجد" وهو يقوي رواية الأكثر هنا. وقوله: "يتبعه" بتشديد المثناة والعين مهملة، وللكشميهني: "يبتغيه" بتقديم الموحدة ثم مثناة والغين معجمة بعدها تحتانية. ويستفاد من الحديث جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظ مدح، وأن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه، وهو كما كان أهل الشام ينتقصون ابن الزبير بزعمهم حيث يقولون له: ابن ذات النطاقين، فيقول: "تلك شكاة ظاهر عنك عارها" قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو علي ليترضاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم، لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك.
" تنبيه ": أخرج ابن إسحاق والحاكم من طريقه من حديث عمار أنه "كان هو وعلي في غزوة العشيرة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عليا نائما وقد علاه تراب فأيقظه وقال له: "مالك أبا تراب، ثم قال: ألا أحدثك بأشقى الناس" الحديث. وغزوة العشيرة كانت في أثناء السنة الثانية قبل وقعة بدر، وذلك قبل أن يتزوج علي فاطمة، فإن كان محفوظا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم في حق علي، والله أعلم. وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: "حدثني بعض أهل العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها، بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول: مالك يا أبا تراب؟" فهذا سبب آخر يقوي التعدد، والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم.

(10/588)


114 - باب أَبْغَضِ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ
6205- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْنَى الأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ" .
[الحديث 6205 – طرفه في: 6206]
6206- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً قَالَ: "أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ" وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ "أَخْنَعُ الأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأَمْلاَكِ" قَالَ سُفْيَانُ يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ
قوله: "باب أبغض الأسماء إلى الله عز وجل" كذا ترجم بلفظ: "أبغض" وهو بالمعنى، وقد ورد بلفظ:

(10/588)


"أخبث" بمعجمة وموحدة ثم مثلثة، وبلفظ: "أغيظ" وهما عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة، ولابن أبي شيبة عن مجاهد بلفظ: "أكره الأسماء" ونقل ابن التين عن الداودي قال: ورد في بعض الأحاديث "أبغض الأسماء إلى الله خالد ومالك" قال: وما أراه محفوظا لأن في الصحابة من تسمى بهما، قال: وفي القرآن تسمية خازن النار مالكا قال: والعباد وإن كانوا يموتون فإن الأرواح لا تفنى، انتهى كلامه. فأما الحديث الذي أشار إليه فما وقفت عليه بعد البحث، ثم رأيت في ترجمة إبراهيم بن الفضل المدني أحد الضعفاء من مناكيره عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه: " أحب الأسماء إلى الله ما سمي به، وأصدقها الحارث وهمام، وأكذب الأسماء خالد ومالك، وأبغضها إلى الله ما سمي لغيره: "فلم يضبط الداودي لفظ المتن، أو هو متن آخر اطلع عليه. وأما استدلاله على ضعفه بما ذكر من تسمية بعض الصحابة وبعض الملائكة فليس بواضح، لاحتمال اختصاص المنع بمن لا يملك شيئا. وأما احتجاجه لجواز التسمية لخالد بما ذكر من أن الأرواح لا تفنى فعلى تقدير التسليم فليس بواضح أيضا، لأن الله سبحانه وتعالى قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} والخلد البقاء الدائم بغير موت، فلا يلزم من كون الأرواح لا تفنى أن يقال صاحب تلك الروح خالد. قوله: "أخنى" كذا في رواية شعيب بن أبي حمزة للأكثر، من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور وهو الفحش في القول، ويحتمل أن يكون من قولهم أخنى عليه الدهر أي أهلكه، ووقع عند المستملي: "أخنع" بعين مهملة وهو المشهور في رواية سفيان بن عيينة وهو من الخنوع وهو الذل، وقد فسره بذلك الحميدي شيخ البخاري عقب روايته له عن سفيان قال: "أخنع أذل" وأخرج مسلم عن أحمد بن حنبل قال: سألت أبا عمرو الشيباني يعني إسحاق اللغوي عن أخنع فقال: أوضع، قال عياض: معناه أنه أشد الأسماء صغارا. وبنحو ذلك فسره أبو عبيد. والخانع الذليل وخنع الرجل ذل، قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا، وقد فسر الخليل أخنع بأفجر فقال: الخنع الفجور، يقال أخنع الرجل إلى المرأة إذا دعاها للفجور. قلت: وهو قريب من معنى الخنا وهو الفحش. ووقع عند الترمذي في آخر الحديث: "أخنع أقبح" وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ: "أنخع" بتقديم النون على المعجمة وهو بمعنى أهلك لأن النخع الذبح والقتل الشديد، وتقدم أن في رواية همام "أغيظ" بغين وظاء معجمتين، ويؤيده "اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك" أخرجه الطبراني. ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن في بعض الروايات " أفحش الأسماء" ولم أرها، وإنما ذكر ذلك بعض الشراح في تفسير أخنى وقوله: "أخنع اسم عند الله . وقال سفيان غير مرة أخنع الأسماء" أي قال ذلك أكثر من مرة، وهذا اللفظ يستعمل كثيرا في إرادة الكثرة وسأذكر توجيه الروايتين. قوله: "عن أبي الزناد" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا أبو الزناد" وهي عند أبي عوانة في صحيحه أيضا من طريقه. قوله: "رواية" كذا في رواية علي هنا. وفي رواية أحمد عن سفيان "يبلغ به" أخرجها مسلم وأبو داود، وعند الترمذي عن محمد بن ميمون عن سفيان مثله، وكلاهما كناية عن الرفع بمعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع التصريح بذلك في رواية الحميدي. قوله: "عند الله" زاد أبو داود والترمذي في روايتهما: "يوم القيامة" وهذه الزيادة ثابتة هنا في رواية شعيب إلي قبل هذه. قوله: "تسمى" أي سمى نفسه أو سمي بذلك فرضي به واستمر عليه. قوله: "بملك الأملاك" بكسر اللام من ملك، والأملاك جمع ملك بالكسر وبالفتح وجمع مليك. قوله: "قال سفيان يقول غيره" أي غير أبي الزناد. قوله: "تفسيره شاهان شاه" هكذا ثبت لفظ

(10/589)


تفسيره في رواية الكشميهني؛ ووقع عند أحمد عن سفيان قال سفيان: "مثل شاهان شاه" فلعل سفيان قاله مرة نقلا ومرة من قبل نفسه، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن الصباح عن سفيان مثله وزاد مثل ذلك الصين، وشاهان شاه بسكون النون وبهاء في آخره وقد تنون وليست هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلا. وقد تعجب بعض الشراح من تفسير سفيان بن عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية وأنكر ذلك آخرون، وهو غفلة منهم عن مراده وذلك أن لفظ شاهان شاه كان قد كثر التسمية به في ذلك العصر فنبه على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم، ويؤيد ذلك أنه وقع عند الترمذي "مثل شاهان شاه" وقوله شاهان شاه هو المشهور في روايات هذا الحديث، وحكى عياض عن بعض الروايات "شاه شاه" بالتنوين بغير إشباع في الأولى والأصل هو الأولى، وهذه الرواية تخفيف منها، وزعم بعضهم أن الصواب شاه شاهان وليس كذلك لأن قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف، فإذا أرادوا قاضي القضاة بلسانهم قالوا موبذان موبذ، فموبذ هو القاضي وموبذان جمعه فكذا شاه هو الملك وشاهان هو الملوك، قال عياض: استدل به بعضهم على أن الاسم غير المسمى، ولا حجة فيه بل المراد من الاسم صاحب الاسم، يدل عليه رواية: "همام أغيظ رجل" فكأنه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويؤيده قوله: "تسمى" فالتقدير أن أخنع اسم رجل تسمى بدليل الرواية الأخرى "وأن أخنع الأسماء" واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد، ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء، وقيل يلتحق به أيضا من تسمى بشيء من أسماء الله الخاصة به كالرحمن والقدوس والجبار. وهل يلتحق به من تسمى قاضي القضاة أو حاكم الحكام؟ اختلف العلماء في ذلك فقال الزمخشري في قوله تعالى: {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} : أي أعدل الحكام وأعلمهم، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، قال: ورب غريق في الجهل والجور من مقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر، وتعقبه ابن المنير بحديث: "أقضاكم علي" قال: فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض يكون أعدل القضاة أو أعلمهم في زمانه أقضى القضاة، أو يريد إقليمه أو بلده. ثم تكلم في الفرق بين قاضي القضاة وأقضى القضاة، وفي اصطلاحهم على أن الأول فوق الثاني وليس من غرضنا هنا. وقد تعقب كلام ابن المنير علم الدين العراقي فصوب ما ذكره الزمخشري من المنع ورد ما احتج به من قضية علي بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لإطلاق التفضيل بالألف واللام، قال ولا يخفى ما في إطلاق ذلك من الجراءة وسوء الأدب، ولا عبرة بقول من ولي القضاء فنعت بذلك فلذ في سمعه فاحتال في الجواز فإن الحق أحق أن يتبع، انتهى كلامه. ومن النوادر أن القاضي عز الدين ابن جماعة قال إنه رأى أباه في المنام فسأله عن حاله فقال: ما كان علي أضر من هذا الاسم، فأمر الموقعين أن لا يكتبوا له في السجلات قاضي القضاة بل قاضي المسلمين، وفهم من قول أبيه أنه أشار إلى هذه التسمية مع احتمال أنه أشار إلى الوظيفة، بل هو الذي يترجح عندي، فإن التسمية بقاضي القضاة وجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك مع أن الماوردي كان يقال له أقضى القضاة، وكأن وجه التفرقة بينهما الوقوف مع الخبر وظهور إرادة العهد الزماني في القضاة. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: يلتحق بملك الأملاك

(10/590)


قاضي القضاة وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة، وقد سلم أهل المغرب من ذلك فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة، قال: وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا، سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها، سواء كان محقا في ذلك أم مبطلا، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا.

(10/591)


115 - باب كُنْيَةِ الْمُشْرِكِ.
وَقَالَ مِسْوَرٌ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ".
6207- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَا حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ ابْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقّاً فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا" فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْآيَةَ وَقَالَ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْراً فَقَتَلَ اللَّهُ بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ مَعَهُمْ أُسَارَى مِنْ صَنَادِيدِ

(10/591)


الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا".
6208- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ لَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ".
قوله: "باب كنية المشرك" أي هل يحوز ابتداء، وهل إذا كانت له كنية تجوز مخاطبته أو ذكره بها؟ وأحاديث الباب مطابقة لهذا الأخير، ويلتحق به الثاني في الحكم. قوله: "وقال مسور" هو ابن مخرمة الزهري كذا للجميع إلا النسفي فسقط هذا التعليق من روايته، ووقع في "مستخرج أبي نعيم" وقال المسور وهو الأشهر. قوله: "إلا أن يريد ابن أبي طالب" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في باب فرض الخمس. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وهو معطوف على السند الذي قبله وساق المتن على لفظه، وسليمان هو ابن بلال وقوله: "عن عروة" في رواية شعيب "أخبرنا عروة بن الزبير" وتقدم سياق لفظ شعيب في تفسير آل عمران مع شرح الحديث، والغرض منه قوله: "ألم تسمع ما قال أبو حباب؟" بضم المهملة وتخفيف الموحدة وآخره موحدة وهي كنية عبد الله بن أبي، وكان حينئذ لم يظهر الإسلام كما هو بين من سياق الحديث، وظاهر في آخره. قوله فيه "أبو حباب" قال ومحل ذلك إذا وجد فيه الشرط، وهو أن لا يعرف إلا بكنيته أو خيف من ذكر اسمه فتنة، ثم قال: وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فسماه باسمه ولم يكنه ولا لقبه بلقبه وهو قيصر، وقد أمرنا بالإغلاظ عليهم فلا نكنيهم ولا نلين لهم قولا، وقد تعقب كلامه بأنه لا حصر فيما ذكر بل قصة عبد الله بن أبي في ذكره بكنيته دون اسمه وهو باسمه أشهر ليس لخوف الفتنة، فإن الذي ذكر بذلك عنده كان قويا في الإسلام فلا يخشى معه أن لو ذكر عبد الله باسمه أن يجر بذلك فتنة، وإنما هو محمول على التألف كما جزم به ابن بطال فقال: فيه جواز تكنية المشركين على وجه التألف إما رجاء إسلامهم أو لتحصيل منفعة منهم، وأما تكنية أبي طالب فالظاهر أنه من القبيل الأول وهو اشتهاره بكنيته دون اسمه، وأما تكنية أبي لهب فقد أشار النووي في شرحه إلى احتمال رابع وهو اجتناب نسبته إلى عبودية الصنم لأنه كان اسمه عبد العزى، وهذا سبق إليه ثعلب ونقله عنه ابن بطال. وقال غيره: إنما ذكر بكنيته دون اسمه للإشارة إلى أنه {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} قيل وإن تكنيته بذلك من جهة التجنيس لأن ذلك من جملة البلاغة أو المجازاة، أشير إلى أن الذي نفخر به في الدنيا من الجمال والولد كان سببا في خزيه وعقابه. وحكى ابن بطال عن أبي عبد الله بن أبي زمنين أنه قال: كان اسم أبي لهب عبد العزى وكنيته أبو

(10/592)


عتبة، وأما أبو لهب فلقب لقب به لأن وجهه كان يتلألأ ويلتهب جمالا، قال فهو لقب وليس بكنية، وتعقب بأن ذلك يقوي الإشكال الأول لأن اللقب إذا لم يكن على وجه الذم للكافر لم يصلح من المسلم، وأما قول الزمخشري: هذه التكنية ليست للإكرام بل للإهانة إذ هي كناية عن الجهنمي إذ معناه تبت يدا الجهنمي، فهو متعقب لأن الكنية لا نظر فيها إلى مدلول اللفظ، بل الاسم إذا صدر بأم أو أب فهو كنية، سلمنا لكن اللهب لا يختص بجهنم وإنما المعتمد ما قاله غيره أن النكتة في ذكره بكنيته أنه لما علم الله تعالى أن مآله إلى النار ذات اللهب ووافقت كنيته حاله حسن أن يذكر بها، وأما ما استشهد به النووي من الكتاب إلى هرقل فقد وقع في نفس الكتاب ذكره بعظيم الروم، وهو مشعر بالتعظيم، واللقب لغير العرب كالكنى للعرب، وقد قال النووي في موضع آخر: فرع إذا كتاب إلى مشرك كتابا وكتب فيه سلاما أو نحوه فينبغي أن يكتب كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فذكر الكتاب وفيه: "عظيم الروم" وهذا ظاهره التناقض، وقد جمع أبي رحمه الله في نكت له على "الأذكار" بأن قوله عظيم الروم صفة لازمة لهرقل فاكتفى به صلى الله عليه وسلم عن قوله ملك الروم فإنه لو كتبها لأمكن هرقل أن يتمسك بها في أنه أقره على المملكة. قال: ولا يرد مثل ذلك في قوله تعالى حكاية عن صاحب مصر "وقال الملك" لأنه حكاية عن أمر مضى وانقضى، بخلاف هرقل انتهى. وينبغي أن يضم إليه أن ذكر عظيم الروم والعدول عن ملك الروم حيث كان لا بد له من صفة تميزه عند الاقتصار على اسمه، لأن من يتسمى بهرقل كثير، فقيل عظيم الروم ليميز عمن يتسمى بهرقل، فعلى هذا فلا يحتج به على جواز الكتابة لكل ملك مشرك بلفظ عظيم قومه إلا إن احتيج إلى مثل ذلك للتمييز، وعلى عموم ما تقدم من التألف أو من خشية الفتنة يجوز ذلك بلا تقييد والله أعلم. وإذا ذكر قيصر وأنه لقب لكل من ملك الروم فقد شاركه في ذلك جماعة من الملوك ككسرى لملك الفرس، وخاقان لملك الترك، والنجاشي لملك الحبشة، وتبع لملك اليمن، وبطليوس لملك اليونان، والقطنون لملك اليهود وهذا في القديم ثم صار يقال له رأس الجالوت، ونمرود لملك الصابئة، ودهمي لملك الهند، وقور لملك السند، ويعبور لملك الصين، وذو يزن وغيره من الأذواء لملك حمير، وهياج لملك الزنج، وزنبيل لملك الخزر، وشاه أرمن لملك أخلاط، وكابل لملك النوبة، والأفشين لملك فرغانة وأسروسنة، وفرعون لملك مصر، والعزيز لمن ضم إليها الإسكندرية، وجالوت لملك العمالقة ثم البربر، والنعمان لملك الغرب من قبل الفرس، نقل أكثر هذا الفصل من السيرة لمغلطاي وفي بعضه نظر.

(10/593)


116 - باب الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ
وَقَالَ إِسْحَاقُ: سَمِعْتُ أَنَساً مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ كَيْفَ الْغُلاَمُ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ هَدَأَ نَفَسُهُ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ
6209- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَحَدَا الْحَادِي. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارْفُقْ يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ" .
6210- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن ثابت عن أنس وأيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رويدك

(10/593)


يا أنجشة سوقك بالقوارير" قال أبو قلابة يعني النساء".
6211- حدثنا إسحاق أخبرنا حبان حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير" . قال قتادة: يعني ضعفة النساء.
6212- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة قال حدثني قتادة عن أنس بن مالك قال: "كان بالمدينة فزع فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة فقال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرا" .
قوله: "باب" بالتنوين "المعاريض" وقع عند ابن التين المعارض بغير ياء وصوابه بإثبات الياء قال: وثبت كذلك في رواية أبي ذر وهو من التعريض خلاف التصريح. قوله: "مندوحة" بوزن مفعولة بنون ومهملة أي فسحة ومتسع، ندحت الشيء وسعته وانتدح فلان بكذا اتسع وانتدحت الغنم في مرابضها إذا اتسعت من البطنة، والمعنى أن في المعاريض ما يغني عن الكذب. وهذا الترجمة لفظ حديث أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعرا وقال: إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب. وأخرجه الطبري في "التهذيب" والطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات. وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ووهاه، وأخرجه أبو بكر بن كامل في فوائده والبيهقي في الشعب من طريقه كذلك، وأخرجه ابن عدي أيضا من حديث علي مرفوعا بسند واه أيضا، وللمصنف في "الأدب المفرد" من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال: أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب؟ والمعاريض والمعارض بإثبات الياء أو بحذفها من التعريض بالقول، قال الجوهري: هو خلاف التصريح، وهو التورية بالشيء عن الشيء. وقال الراغب: التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب، أو باطن وظاهر. قلت: والأولى أن يقال: كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه. ومما يكثر السؤال عنه الفرق بين التعريض والكناية وللشيخ تقي الدين السبكي جزء جمعه في ذلك. قوله: "وقال إسحاق" هو ابن أبي طلحة التابعي المشهور، وهذا التعليق سقط من رواية النسفي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه المصنف في الجنائز، وشاهد الترجمة منه قول أم سليم "هدأ نفسه؛ وأرجو أن قد استراح" فإن أبا طلحة فهم من ذلك أن الصبي المريض تعافى، لأن قولها "هدأ" مهموز بوزن سكن ومعناه، والنفس بفتح الفاء مشعر بالنوم، والعليل إذا نام أشعر بزوال مرضه أو خفته، وأرادت هي أنه انقطع بالكلية بالموت، وذلك قولها "وأرجو أنه استراح" فهم منه أنه استراح من المرض بالعافية، ومرادها أنه استراح من نكد الدنيا وألم المرض، فهي صادقة باعتبار مرادها، وخبرها بذلك غير مطابق للأمر الذي فهمه أبو طلحة، فمن ثم قال الراوي "وظن أنها صادقة" أي باعتبار ما فهم هو. حديث أنس في قصة أنجشة وقد تقدم شرحه في "باب ما يجوز من الشعر" والمراد منه قوله: "رفقا بالقوارير" فأنه كنى بذلك عن النساء كما تقدم تقريره هناك، وحديث أنس في فرس أبي طلحة والمراد منه "إنا وجدناه لبحرا" أي لسرعة جريه، وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد، وكأنه استشهد بحديثي

(10/594)


أنس لجواز التعريض، والجامع بين التعريض وبين ما دل عليه اللفظ في غير ما وضع له لمعنى جامع بينهما.
قال ابن المنير: حديث القوارير والفرس ليسا من المعاريض بل من المجاز، فكأنه لما رأى ذلك جائزا قال: فالمعاريض التي هي حقيقة أولى بالجواز. قال ابن بطال: شبه جري الفرس بالبحر إشارة إلى أنه لا ينقطع، يعني ثم أطلق صفة الجري على نفس الفرس مجازا، قال: وهذا أصل في جواز استعمال المعاريض، ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم أو يحصل الحق، وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز. وأخرج الطبري من طريق محمد بن سيرين قال: "كان رجل من باهلة عيونا - أي كثير الإصابة بالعين - فرأى بغلة لشريح فأعجب بها، فخشي شريح عليها فقال: إنها إذا ربضت لا تقوم حتى تقام، فقال: أف أف، فسلمت منه" وإنما أراد شريح بقوله: "حتى تقام" أي حتى يقيمها الله تعالى.

(10/595)


باب قول الرجل للشيء "ليس بشيء" وهو ينوي ليس بحق
...
117 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلشَّيْءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ يَنْوِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قال النبي صلى الله عليه وسلم للْقَبْرَيْنِ: " يُعَذَّبَانِ بِلاَ كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ" .
6213- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَاناً بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقّاً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ" .
قوله: "باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحق" ذكر فيه حديثين: الأول: قوله: "وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم للقبرين: "يعذبان بلا كبير، وأنه لكبير" وهذا طرف من حديث تقدم في كتاب الطهارة، وتقدم شرحه أيضا، وتقدم أيضا في "باب النميمة من الكبائر" من كتاب الأدب بلفظ: "وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير". حديث عائشة في الكهان ليسوا بشيء، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الطب، قال الخطابي: معني قوله: "ليسوا بشيء" فيما يتعاطونه من علم الغيب، أي ليس قولهم بشيء صحيح يعتمد كما يعتمد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخبر عن الوحي، وهو كما يقال لمن عمل عملا غير متقن أو قال قولا غير سديد: ما عملت أو ما قلت شيئا. قال ابن بطال نحوه وزاد: إنهم يريدون بذلك المبالغة في النفي، وليس ذلك كذبا. وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} والمراد بالذكر هنا القدر والشرف أي كان موجودا، ولكن لم يكن له قدر يذكر به، إما وهو مصور من طين على قول من مال المراد به آدم أو في بطن أمه على قول من قال إن المراد به الجنس.

(10/595)


118 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ: "رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ".
6214- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ

(10/595)


119 - باب نَكْتِ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ.
6216- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَفْتِحُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَذَهَبْتُ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا عُمَرُ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ أَوْ تَكُونُ فَذَهَبْتُ فَإِذَا عُثْمَانُ فَقُمْتُ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ" .
قوله: "باب من نكت العود في الماء والطين" النكت بالنون والمثناة الضرب المؤثر. حديث أبي موسى في قصة القف وقد تقدم شرحه في المناقب وهو ظاهر فيما ترجم له، وأورده هنا بلفظ عود يضرب به بين الماء والطين. وفي رواية الكشميهني في الماء والطين وأورده بلفظ: "ينكت" في مناقب أبي بكر الصديق، وعثمان بن غياث المذكور في السند بكسر الغين المعجمة ثم تحتانية خفيفة وآخره مثلثة، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض النسخ يحيى بن عثمان وهو غلط، قال ابن بطال: من عادة العرب إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام وغيره وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم، وفي استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له الحجة البالغة، وكأن المراد بالعود هنا المخصرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليها وليس مصرحا به في هذا الحديث. قلت: وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من العبث المذموم لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء ثم لا يستعمله فيما لا يضر تأثيره فيه، بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناء الذي فيها(1)...... فسادا، فذاك هو العبث المذموم.
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: انظر ما مرجع الضمير وتأمل، ولذا وجد بياض في بعض النسخ بين قوله فيها وقوله بعده فسادا.

(10/597)


120 - باب الرَّجُلِ يَنْكُتُ الشَّيْءَ بِيَدِهِ فِي الأَرْضِ
6217- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ الأَرْضَ بِعُودٍ فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالُوا أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ".
قوله: "باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض" ذكر فيه حديث علي بن أبي طالب "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وسيأتي شرحه في كتاب القدر، ومضى الحديث بأتم من هذا السياق في تفسير سورة والليل، والغرض منه قوله: "ينكت في الأرض بعود". حديث علي بن أبي طالب " اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وسيأتي شرحه في كتاب القدر، ومضى الحديث بأتم من هذا السياق في تفسير سورة والليل، والغرض منه قوله: "ينكت في الأرض بعود" وقوله في السند "شعبة عن سليمان" هو الأعمش ومنصور هو

(10/597)


ابن المعتمر، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه فقال: "عن الأعمش" وذهل الكرماني حيث زعم أن سليمان هو التيمي.

(10/598)


3 - باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ
6218- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ" وَقَالَ ابْنُ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ لاَ قُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ" .
6219- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً مِنْ الْعِشَاءِ ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ مَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ الَّذِي عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا رَجُلاَنِ مِنْ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَفَذَا فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا مَا قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا" .
قوله: "باب التكبير والتسبيح عند التعجب" قال ابن بطال: التسبيح والتكبير معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله تعالى، وهذا توجيه حيد، كأن البخاري رمز إلى الرد على من منع من ذلك. وذكر المصنف فيه حديث صفية بنت حيي في قصة الرجلين اللذين قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله" أورده من طريق شعيب بن أبي حمزة ومن طريق ابن أبي عتيق، وساقه على لفظ ابن أبي عتيق، وقد تقدم شرحه في الاعتكاف، وقوله: "العشر الغوابر" بالغين المعجمة ثم الموحدة المراد بها هنا البواقي، وقد تطلق أيضا على المواضي وهو من الأضداد، وهو مطابق لما ترجم له لأن الظاهر أن مرادهما بقولهما "سبحان الله" التعجب من القول المذكور بقرينة قوله: "وكبر عليهما" أي عظم وشق. وقوله: "يقذف في قلوبكما" كذا هنا بحذف المفعول، وقد سبق في الاعتكاف بلفظ: "في قلوبكما شرا" وحديث أم سلمة "استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أنزل من الفتن" وقد تقدم بعض شرحه في العلم. وتأتي بقيته في الفتن، وقوله من الخزائن قيل عبر بها عن الرحمة كقوله: "خزائن رحمة ربي" كما عبر بالفتن عن العذاب لأنها أسباب مؤدية إليه، أن المراد بالخزائن إعلامه بما سيفتح على أمته من الأموال بالغنائم من البلاد التي يفتحونها

(10/598)


وأن الفتن تنشأ عن ذلك، فهو من جملة ما أخبر به مما وقع قبل وقوعه. وقد تعرض له البيهقي في "دلائل النبوة". قوله: "وقال ابن أبي ثور" هو عبيد الله بن عبد الله فذكر حديث عمر حيث قال: "أطلقت نساءك؟ قال: لا، قلت: الله أكبر" وهو طرف من حديث طويل تقدم موصولا في كتاب العلم، وتقدم شرحه في كتاب النكاح، وقد وردت عدة أحاديث صحيحة في قول "سبحان الله" عند التعجب كحديث أبي هريرة "لقيني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب" وفيه فقال: "سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس" متفق عليه. وحديث عائشة "أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض" وفيه: "قال تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله" الحديث متفق عليه. وعند مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي نذرت أن تنحر ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سبحان الله بئسما جزيتها" وكلاهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين أيضا من قول جماعة من الصحابة كحديث عبد الله بن سلام لما قيل له إنك من أهل الجنة قال: سبحان الله. ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم.
" تنبيه ": وقع في حديث صفية في رواية غير أبي ذر مؤخرا آخر هذا الباب والخطب فيه سهل، ووقع في شرح ابن بطال إيراد حديث صفية المذكور عقب حديث علي في الباب الذي قبله متصلا به، ثم استشكل مطابقته للترجمة وقال: سألت المهلب عنه فقال إنما أورده لحديث علي حيث قال فيه: "ليس منكم أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار" فقواه بحديث أم سلمة، أشار إلى أن أقوى أسباب النار الفتن والعصبية فيها والتقاتل على المال وما يفتح من الخزائن. اهـ. ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على وفق ما نقل ابن بطال، وإنما وقع حديث أم سلمة في باب التسبيح والتكبير للتعجب وهو ظاهر فيما ترجم له مستغن عن التكلف، والجواب المذكور لا يفيد مطابقة الحديث للترجمة، وإنما هو مطابق لحديث الترجمة فيما لا يتعلق بالترجمة.

(10/599)


122 - باب النَّهْيِ عَنْ الْخَذْفِ
6220- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ صُهْبَانَ الأَزْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ إِنَّهُ لاَ يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَلاَ يَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ" .
قوله: "باب النهي عن الخذف" بفتح المعجمة وسكون الدال المهملة بعدها فاء، تقدم بيانه وشرح الحديث في كتاب الصيد والذبائح.

(10/599)


123 - باب الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ
6221- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَهَذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ".
[الحديث 6221 – طرفه في: 6225]

(10/599)


124 - باب تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ. فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ
6222- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَرَدِّ السَّلاَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالسُّنْدُسِ وَالْمَيَاثِرِ" .
قوله: "باب تشميت العاطس إذا حمد الله" أي مشروعية التشميت بالشرط المذكور ولم يعين الحكم، وقد ثبت الأمر بذلك كما في حديث الباب، قال ابن دقيق العيد: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة الذي في الباب الذي يليه "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "حق المسلم على المسلم ست" فذكر فيها "وإذا عطس فحمد الله فشمته" وللبخاري من وجه آخر عن أبي هريرة "خمس تجب للمسلم على المسلم" فذكر منها التشميت، وهو عند مسلم أيضا. وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد الله، وليقل من عنده: يرحمك الله" ونحوه عند الطبراني من حديث أبي مالك، وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية. وقال به جمهور أهل الظاهر. وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا إنه فرض عين، وقواه ابن القيم في حواشي السنن فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ: "الحق" الدال عليه، وبلفظ: "على" الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء. وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشيد وأبو بكر بن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض، وأما من قال إنه فرض على مبهم فإنه ينافي كونه فرض عين. قوله: "فيه أبو هريرة" يحتمل أن يريد به حديث أبي هريرة المذكور في الباب الذي بعده، ويحتمل أن يريد به حديث أبي هريرة الذي أوله "حق المسلم على المسلم ست" وقد أشرت إليه قبل وأن مسلما أخرجه. حديث البراء "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس" الحديث، وقد تقدم شرح معظمه في كتاب اللباس. قال ابن بطال: ليس في حديث البراء التفصيل الذي في الترجمة، وإنما ظاهره أن كل عاطس يشمت على التعميم، قال: وإنما التفصيل في حديث أبي هريرة الآتي قال: وكان ينبغي له أن يذكره بلفظه في هذا الباب ويذكر بعده حديث البراء ليدل على أن حديث البراء وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص ببعض العاطسين وهم الحامدون، قال: وهذا من الأبواب التي أعجلته المنية عن تهذيبها. كذا قال. والواقع أن هذا الصنيع لا يختصن بهذه الترجمة بل قد أكمل منه البخاري في الصحيح، فطالما ترجم بالتقييد

(10/603)


والتخصيص كما في حديث الباب من إطلاق أو تعميم، ويكتفي من دليل التقييد والتخصيص بالإشارة إما لما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده أو في حديث آخر كما صنع في هذا الباب، فإنه أشار بقوله: "فيه أبو هريرة" إلى ما ورد في حديثه من تقييد الأمر بتشميت العاطس، بما إذا حمد، وهذا أدق التصرفين، ودل إكثاره من ذلك على أنه عن عمد منه لا أنه مات قبل تهذيبه، بل عد العلماء ذلك من دقيق فهمه وحسن تصرفه، في إيثار الأخفى عل الأجلى شحذا للذهن وبعثا للطالب على تتبع طرق الحديث، إلى غير ذلك من الفوائد. وقد خص من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعة: الأول من لم يحمد كما تقدم، وسيأتي في باب مفرد. الثاني الكافر فقد أخرج أبو داود وصححه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعري قال: "كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم" قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة إن التشميت الدعاء بالخير دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت، وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا قال: ولعل من خص التشميت بالدعاء بالرحمة بناه على الغالب لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة. قلت: وهذا البحث أنشأه من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع فحديث أبي موسى دال على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت، لكن لهم تشميت مخصوص وهو الدعاء لهم بالهداية وإصلاح البال وهو الشأن ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين فإنهم أهل الدعاء بالرحمة بخلاف الكفار. الثالث المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث فإن ظاهر الأمر بالتشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر لكن أخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: "يشمته واحدة وثنتين وثلاثا، وما كان بعد ذلك فهو زكام" هكذا أخرجه موقوفا من رواية سفيان بن عيينة عنه، وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطان عن ابن عجلان كذلك ولفظه: "شمت أخاك" وأخرجه من رواية الليث عن ابن عجلان وقال فيه: "لا أعلمه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" قال أبو داود: ورفعه موسى بن قيس عن ابن عجلان أيضا. وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "إن عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فقل إنك مضنوك" قال ابن أبي بكر: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، وهذا مرسل جيد، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: "فشمته ثلاثا، فما كان بعد ذلك فهو زكام" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن العاص " شمتوه ثلاثا، فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه " موقوف أيضا، ومن طريق عبد الله بن الزبير: إن رجلا عطس عنده فشمته ثم عطس فقال له في الرابعة أنت مضنوك، موقوف أيضا. ومن طريق عبد الله بن عمر مثله لكن قال: "في الثالثة"، ومن طريق علي بن أبي طالب "شمته ما بينك وبينه ثلاث، فإن زاد فهو ريح" وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة يشمت العاطس إذا تتابع عليه العطاس ثلاثا، قال النووي في "الأذكار" إذا تكرر العطاس متتابعا فالسنة أن يشمته لكل مرة إلى أن يبلغ ثلاث مرات، رويناه في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع أنه " سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس عنده رجل فقال له يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم" هذا لفظ رواية مسلم، وأما أبو داود والترمذي فقالا قال سلمة "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثم عطس الثانية أو الثالثة فقال رسول الله: يرحمك الله، هذا رجل مزكوم" اهـ كلامه ونقلت من نسخة عليها خطه بالسماع عليه، والذي نسبه إلى أبي داود والترمذي من إعادة قوله صلى الله عليه وسلم للعاطس يرحمك الله

(10/604)


ليس في شيء من نسخها كما سأبينه، فقد أخرجه أيضا أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد وابن أبي شيبة وابن السني وأبو نعيم أيضا في "عمل اليوم والليلة" وابن حبان في صحيحه والبيهقي في "الشعب" كلهم من رواية عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم وألفاظهم متفاوتة، وليس عند أحد منهم إعادة يرحمك الله في الحديث، وكذلك ما نسبه إلى أبي داود والترمذي أن عندهما "ثم عطس الثانية أو الثالثة" فيه نظر، فإن لفظ أبي داود "أن رجلا عطس" والباقي مثل سياق مسلم سواء إلا أنه لم يقل أخرى، ولفظ الترمذي مثل ما ذكره النووي إلى قوله: "ثم عطس" فإنه ذكره بعده مثل أبي داود سواء، وهذه رواية ابن المبارك عنده وأخرجه من رواية يحيى القطان فأحال به على رواية ابن المبارك فقال نحوه إلا أنه قال له في الثانية أنت مزكوم. وفي رواية شعبة قال يحيى القطان. وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي "قال له في الثالثة أنت مزكوم" وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن عمار وأكثر الروايات المذكورة ليس فيها تعرض للثالثة، ورجح الترمذي من قال: "في الثالثة" على رواية من قال: "في الثانية" وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطان يوافق ما ذكره النووي، وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في مصنفه وابن عبد البر من طريقه قال حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا عكرمة فذكره بلفظ: "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمته، ثم عطس فشمته، ثم عطس فقال له في الثالثة: أنت مزكوم" هكذا رأيت فيه: "ثم عطس فشمته" وقد أخرجه الإمام أحد عن يحيى القطان ولفظه: "ثم عطس الثانية والثالثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم" وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث لكن الأكثر على ترك ذكر التشميت بعد الأولى، وأخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن عكرمة بلفظ آخر قال: "يشمت العاطس ثلاثا؛ فما زاد فهو مزكوم" وجعل الحديث كله من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وأفاد تكرير التشميت، وهي رواية شاذة لمخالفة جميع أصحاب عكرمة في سياقه، ولعل ذلك من عكرمة المذكور لما حدث به وكيعا فإن في حفظه مقالا، فإن كانت محفوظة فهو شاهد قوي لحديث أبو هريرة، ويستفاد منه مشروعية تشميت العاطس ما لم يزد على ثلاث إذا حمد الله سواء تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه ثم كرر الحمد بعدد العطاس فهل يشمت بعدد الحمد؟ فيه نظر. وظاهر الخبر نعم. وقد أخرج أبو يعلى وابن السني من وجه آخر عن أبي هريرة النهي عن التشميت بعد ثلاث، ولفظه: "إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم، ولا يشمته بعد ثلاث" قال النووي: فيه رجل لم أتحقق حاله، وباقي إسناده صحيح، قلت: الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحراني، والحديث عندهما من رواية محمد بن سليمان عن أبيه، ومحمد موثق وأبوه يقال له الحراني ضعيف، قال فيه النسائي: ليس بثقة ولا مأمون. قال النووي: وأما الذي رويناه في سنن أبي داود والترمذي عن عبيد بن رفاعة الصحابي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يشمت العاطس ثلاثا فإن زاد فإن شئت فشمته وإن شئت فلا " فهو حديث ضعيف قال فيه الترمذي: هذا الحديث غريب، وإسناده مجهول. قلت: إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد، إذا لا يلزم من الغرابة الضعف، وأما وصف الترمذي إسناده بكونه مجهولا فلم يرد جميع رجال الإسناد فإن معظمهم موثقون، وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم، وذلك أن أبا داود والترمذي أخرجاه معا من طريق عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن، ثم اختلفا: فأما رواية أبي داود ففيها عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه حميدة – أو

(10/605)


عبيدة - بنت عبيد بن رفاعة عن أبيها، وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل كما سأبين وعبد السلام بن حرب من رجال الصحيح، ويزيد هو أبو خالد الدالاني وهو صدوق في حفظه شيء، ويحيى بن إسحاق وثقه يحيى بن معين وأمه حميدة روى عنها أيضا زوجها إسحاق بن أبي طلحة، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين، وأبوها عبيد بن رفاعة ذكروه في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية، قاله ابن السكن، قال: ولم يصح سماعه. وقال البغوي: روايته مرسلة وحديثه عن أبيه عند الترمذي والنسائي وغيرهما، وأما رواية الترمذي ففيها عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه عن أبيها كذا سماه عمر ولم يسم أمه ولا أباها، وكأنه لم يمعن النظر فين ثم قال إنه إسناد مجهول وقد تبين أنه ليس بمجهول، وأن الصواب يحيى بن إسحاق لا عمر، فقد أخرجه الحسن بن سفيان وابن السني وأبو نعيم وغيرهم من طريق عبد السلام بن حرب فقالوا يحيى بن إسحاق. وقالوا: حميدة بغير شك وهو المعتمد. وقال ابن العربي هذا الحديث وإن كان فيه مجهول لكن يستحب العمل به لأنه دعاء بخير وصلة وتودد للجليس، فالأولى العمل به والله أعلم. وقال ابن عبد البر: دل حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمت ثلاثا ويقال أنت مزكوم بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها فالعمل بها أولى. ثم حكى النووي عن ابن العربي أن العلماء اختلفوا هل يقول لمن تتابع عطاسه أنت مزكوم في الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ على أقوال، والصحيح في الثالثة قال: ومعناه إنك لست ممن يشمت بعدها لأن الذي بك مرض وليس من العطاس المحمود الناشئ عن خفة البدن كما سيأتي تقريره في الباب الذي يليه، قال: فإن قيل فإذا كان مرضا فينبغي أن يشمت بطريق الأولى لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره، قلنا نعم لكن يدعى له بدعاء يلائمه لا بالدعاء المشروع للعاطس بل من جنس دعاء المسلم للمسلم بالعافية، وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يعرف أنه مزكوم فيدعو له بالشفاء، قال: وتقريره أن العموم يقتضي التكرار إلا في موضع العلة وهو الزكام، قال وعند هذا يسقط الأمر بالتشميت عند العلم بالزكام لأن التعليل به يقتضي أن لا يشمت من علم أن به زكاما أصلا، وتعقبه بأن المذكور هو العلة دون التعليل وليس المعلل هو مطلق الترك ليعم الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو الترك بعد التكرير، فكأنه قيل لا يلزم تكرر التشميت لأنه مزكوم، قال ويتأيد بمناسبة المشقة الناشئة عن التكرار. الرابع ممن يخص من عموم العاطسين من يكره التشميت، قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالا للتشميت أن يؤهل له من يكرهه فإن قيل: كيف يترك السنة لذلك؟ قلنا: هي سنة لمن أحبها، فأما من كرهها ورغب عنها فلا. قال: ويطرد ذلك في السلام والعيادة. قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررا، فأما غيره فيشمت امتثالا للأمر ومناقضة للمتكبر في مراده وكسرا لسورته في ذلك، وهو أولى من إجلال التشميت. قلت: ويؤيده أن لفظ التشميت دعاء بالرحمة فهو يناسب المسلم كائنا من كان والله أعلم. الخامس قال ابن دقيق العيد يستثنى أيضا من عطس والإمام يخطب، فإنه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والراجح الإنصات لإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب ولا سيما إن قيل بتحريم الكلام والإمام يخطب، وعلى هذا فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب أو يشرع له التشميت بالإشارة؟ فلو كان العاطس الخطيب فحمد واستمر في خطبته فالحكم كذلك وإن حمد فوقف قليلا ليشمت فلا يمتنع أن يشرع تشميته. السادس ممن يمكن أن يستثنى من كان عند عطاسه في حالة

(10/606)


يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماعة فيؤخر ثم يحمد الله فيشمت، فلو خالف فحمد في تلك الحالة هل يستحق التشميت؟ فيه نظر.

(10/607)


125 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّثَاؤُبِ
6223- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا قَالَ هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" .
قوله: "باب ما يستحب من العطاس، وما يكره من التثاؤب" قال الخطابي: معنى المحبة والكراهة فيهما منصرف إلى سببهما، وذلك أن العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسام وعدم الغاية في الشبع وهو بخلاف التثاؤب فإنه يكون من علة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئا عن كثرة الأكل والتخليط فيه، والأول يستدعي النشاط للعبادة والثاني على عكسه. قوله: "سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة" هكذا قال آدم بن أبي أياس عن ابن أبي ذئب، وتابعه عاصم بن علي كما سيأتي بعد باب، والحجاج بن محمد عند النسائي وأبو داود الطيالسي ويزيد بن هارون عند الترمذي وابن أبي فديك عند الإسماعيلي وأبو عامر العقدي عند الحاكم كلهم عن ابن أبي ذئب، وخالفهم القاسم بن يزيد عند النسائي فلم يقل فيه: "عن أبيه " وكذا ذكره أبو نعيم من طريق الطيالسي. وكذلك أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يقل "عن أبيه" ورجح الترمذي رواية من قال عن أبيه وهو المعتمد. قوله: "إن الله يحب العطاس " يعني الذي لا ينشأ عن زكام، لأنه المأمور فيه بالتحميد والتشميت، ويحتمل التعميم في نوعي العطاس والتفصيل في التشميت خاصة، وقد ورد ما يخص بعض أحوال العاطسين، فأخرج الترمذي من طريق أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه قال: "العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان" وسنده ضعيف، وله شاهد عن ابن مسعود في الطبراني لكن لم يذكر النعاس، وهو موقوف وسنده ضعيف أيضا. قال شيخنا في "شرح الترمذي" لا يعارض هذا حديث الباب في محبة العطاس وكراهة التثاؤب لكونه بحال الصلاة فقد بتسبب الشيطان في حصول العطاس للمصلي ليشغله عن صلاته، وقد يقال إن العطاس إنما لم يوصف بكونه مكروها في الصلاة لأنه لا يمكن رده بخلاف التثاؤب، ولذلك جاء في التثاؤب كما سيأتي بعد "فليرده ما استطاع" ولم يأت ذلك في العطاس. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة "إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة" وهذا يعارض حديث جد عدي وفي سنده ضعف أيضا وهو موقوف والله أعلم. ومما يستحب للعاطس أن لا يبالغ في إخراج العطسة فقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "سبع من الشيطان" فذكر منها شدة العطاس. قوله: "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" استدل به على استحباب مبادرة العاطس بالتحميد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه ينبغي أن يتأنى في حقه حتى يسكن ولا يعاجله بالتشميت، قال: وهذا فيه غفلة عن شرط

(10/607)


التشميت وهو توقفه على حمد العاطس. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن مكحول الأزدي "كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر يرحمك الله إن كنت حمدت الله" واستدل به على أن التشميت إنما يشرع لمن سمع العاطس وسمع حمده، فلو سمع من يشمت غيره ولم يسمع هو عطاسه ولا حمده هل يشرع له تشميته؟ سيأتي قريبا. قوله: "وأما التثاؤب" سيأتي شرحه بعد بابين.

(10/608)


126 - باب إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ
6224- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ" .
قوله: "باب إذا عطس كيف يشمت؟" بضم أوله وتشديد الميم المفتوحة. قوله: "عن أبي صالح" هو السمان، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري، وهو من رواية تابعي عن تابعي. قوله: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله" كذا في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه النسائي من طريق يحيى بن حسان، والإسماعيلي من طريق بشر بن المفضل وأبي النضر، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق عاصم بن علي، وفي "عمل يوم وليلة" من طريق عبد الله بن صالح كلهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن عبد العزيز المذكور به بلفظ: "فليقل الحمد لله على كل حال". قلت: ولم أر هذه الزيادة من هذا الوجه في غير هذه الرواية، وقد تقدم ما يتعلق بحكمها. واستدل بأمر العاطس بحمد الله أنه يشرع حتى للمصلي، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث رفاعة بن رافع في "باب الحمد للعاطس" وبذلك قال الجمهور من الصحابة والأئمة بعدهم، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، ونقل الترمذي عن بعض التابعين أن ذلك يشرع في النافلة لا في الفريضة، ويحمد مع ذلك في نفسه. وجوز شيخنا في "شرح الترمذي" أن يكون مراده أنه يسر به ولا يجهر به، وهو متعقب مع ذلك بحديث رفاعة بن رافع فإنه جهر بذلك ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه. نعم يفرق بين أن يكون في قراءة الفاتحة أو غيرها من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها، وجزم ابن العربي من المالكية بأن العاطس في الصلاة يحمد في نفسه، ونقل عن سحنون أنه لا يحمد حتى يفرغ وتعقبه بأنه غلو. قوله: "وليقل له أخوه أو صاحبه" هو شك من الراوي وكذا وقع للأكثر من رواية عاصم بن علي "فليقل له أخوه" ولم يشك والمراد بالأخوة أخوة الإسلام. قوله: "يرحمك الله" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون دعاء بالرحمة، ويحتمل أن يكون إخبارا على طريق البشارة كما قال في الحديث الآخر "طهور إن شاء الله" أي هي طهر لك؛ فكأن المشمت بشر العاطس بحصول الرحمة له في المستقبل بسبب حصولها له في الحال لكونها دفعت ما يضره، قال: وهذا ينبني على قاعدة، وهي أن اللفظ إذا أريد به معناه لم ينصرف لغيره، وإن أريد به معنى يحتمله انصرف إليه، وإن أطلق انصرف إلى الغالب، وإن لم يستحضر القائل المعنى الغالب. وقال ابن بطال: ذهب إلى هذا قوم فقالوا: يقول له يرحمك الله يخصه بالدعاء وحده وقد أخرج البيهقي في "الشعب" وصححه ابن حبان من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة رفعه: "لما خلق الله آدم عطس،

(10/608)


فألهمه ربه أن قال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك الله" وأخرج الطبري عن ابن مسعود قال: "يقول يرحمنا الله وإياكم" وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أبي جمرة بالجيم "سمعت ابن عباس إذا شمت يقول: عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله" وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه "كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم ويغفر الله لنا ولكم" قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة، وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا فخلاف السنة، وبلغني عن بعض الفضلاء أنه شمت رئيسا فقال له يرحمك الله يا سيدنا فجمع الأمرين وهو حسن. قوله: "فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم" مقتضاه أنه لا يشرع ذلك إلا لمن شمت وهو واضح، وأن هذا اللفظ هو جواب التشميت، وهذا مختلف فيه قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى هذا وذهب الكوفيون إلى أنه يقول يغفر الله لنا ولكم، وأخرجه الطبري عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما. قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والطبراني من حديث ابن مسعود وهو في حديث سالم بن عبيد المشار إليه قبل ففيه: "وليقل يغفر الله لنا ولكم" قلت: وقد وافق حديث أبي هريرة في ذلك حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى وحديث أبي مالك الأشعري عند الطبراني أيضا وحديث ابن عمر عند البزار وحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند البيهقي في "الشعب". وقال ابن بطال: ذهب مالك والشافعي إلى أنه يتخير بين اللفظين. وقال أبو الوليد بن رشد: الثاني أولى، لأن المكلف يحتاج إلى طلب المغفرة، والجمع بينهما أحسن إلا للذمي، وذكر الطبري أن الذين منعوا من جواب التشميت بقول "يهديكم الله ويصلح بالكم" احتجوا بأنه تشميت اليهود كما تقدمت الإشارة إليه من تخريج أبي داود من حديث أبي موسى، قال: ولا حجة فيه إذ لا تضاد بين خبر أبي موسى وخبر أبي هريرة - يعني حديث الباب - لأن حديث أبي هريرة في جواب التشميت وحديث أبي موسى في التشميت نفسه، وأما ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن ابن عمر قال: اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النبي صلى الله عليه وسلم فشمته الفريقان جميعا فقال للمسلمين: يغفر الله لكم ويرحمنا وإياكم. وقال لليهود: يهديكم الله ويصلح بالكم. فقال: تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف. واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج لأنهم لا يرون الاستغفار للمسلمين، وهذا منقول عن إبراهيم النخعي، وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالأمر به، قال البخاري بعد تخريجه في "الأدب المفرد": وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب. وقال الطبري: هو من أثبت الأخبار. وقال البيهقي: هو أصح شيء ورد في هذا الباب. وقد أخذ به الطحاوي من الحنفية واحتج له بقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} قال: والذي يجيب بقوله: "غفر الله لنا ولكم" لا يزيد المشمت على معنى قوله يرحمك الله، لأن المغفرة ستر الذنب والرحمة ترك المعاقبة عليه، بخلافه دعائه له بالهداية والإصلاح فإن معناه أن يكون سالما من مواقعة الذنب صالح الحال، فهو فوق الأول فيكون أولى، واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين فيكون أجمع للخير ويخرج من الخلاف، ورجحه ابن دقيق العيد. وقد أخرج مالك في "الموطأ" عن نافع عن ابن عمر أنه "كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله قال: يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم" قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دليل على عظيم نعمة الله على العاطس؛ يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده، فإنه أذهب عنه الضرر

(10/609)


بنعمة العطاس ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحسانا، وفي هذا لمن رآه بقلب له بصيرة زيادة قوة في إيمانه حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة، ويداخله من حب الله الذي أنعم عليه بذلك ما لم يكن في باله، ومن حب الرسول الذي جاءت معرفة هذا الخير على يده والعلم الذي جاءت به سنته ما لا يقدر قدره. قال: وفي زيادة ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه من الأعمال ولله الحمد كثيرا. وقال الحليمي: أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورا وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس: يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك لتدوم لك السلامة. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله: "غفر الله لنا ولكم". قوله: "بالكم شأنكم" قال أبو عبيدة في معنى قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي شأنهم.

(10/610)


127 - باب لاَ يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ إِذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ
6225- حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة حدثنا سليمان التيمي قال سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: "عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الرجل يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني قال إن هذا حمد الله ولم تحمد الله" .
قوله: "باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله" أورد فيه حديث أنس الماضي في "باب الحمد للعاطس" وكأنه أشار إلى أن الحكم عام وليس مخصوصا بالرجل الذي وقع له ذلك وإن كانت واقعة حال لا عموم فيها، لكن ورد الأمر بذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه" قال النووي: مقتضى هذا الحديث أن من لم يحمد الله لم يشمت. قلت: هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟ الجمهور على الثاني، قال: وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه، ويؤخذ منه أنه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يشمت. وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال: "عطس رجل فقال السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك وعلى أمك. وقال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله" واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد بل سمع من شمت ذلك العاطس فإنه يشرع له التشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد. وقال النووي: المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره، وحكى ابن العربي اختلافا فيه ورجح أنه يشمته. قلت: وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد من علم أن الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده لأنه لا يعلم هل حمد أو لا، فإن عطس وحمد ولم يشمته أحد فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه. وقد أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن إن كان في سفينة فسمع عاطسا على الشط حمد فاكترى قاربا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع، فسئل عن ذلك فقال: لعله يكون مجاب الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول: يا أهل

(10/610)


السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم. قال النووي: ويستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته، وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف. وزعم ابن العربي أنه جهل من فاعله، قال: وأخطأ فيما زعم بل الصواب استحبابه. قلت: احتج ابن العربي لقوله بأنه إذا نبهه ألزم نفسه ما لم يلزمها، قال: فلو جمع بينهما فقال الحمد لله يرحمك الله جمع جهالتين: ما ذكرناه أولا وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس. وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم - وحكى غيره أنه الأوزاعي - أن رجلا عطس عنده فلم يحمد فقال له: كيف يقول من عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله. قلت: وكأن ابن العربي أخذ بظاهر حديث الباب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الذي عطس فلم يحمد لكن تقدم في "باب الحمد للعاطس" احتمال أنه لم يكن مسلما، فلعل ترك ذلك لذلك، لكن يحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته، ثم عرفه الحكم وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت. وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعري ففعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، شمت من حمد ولم يشمت من لم يحمد، كما ساق حديثه مسلم.

(10/611)


باب إذا تثاءب وضع يده على فمه
...
128 - باب إِذَا تَثَاءَبَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ
6226- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" .
قوله: "باب إذا تثاؤب" كذا للأكثر، وللمستملي: "تثاءب" بهمزة بدل الواو، قال شيخنا في "شرح الترمذي" وقع في رواية المحبوبي عند الترمذي بالواو. وفي رواية السنجي بالهمز، ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد عند أبي داود، وأما عند مسلم فبالواو، قال: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز. وقد أنكر الجوهري كونه بالواو وقال: تقول تثاءبت على وزن تفاعلت ولا تقل تثاوبت، قال: والتثاؤب أيضا مهموز، وقد يقلبون الهمزة المضمومة واوا والاسم الثؤباء بضم ثم همز على وزن الخيلاء، وجزم ابن دريد وثابت بن قاسم في "الدلائل" بأن الذي بغير واو بوزن تيممت فقال ثابت: لا يقال تثاؤب بالمد مخففا بل يقال تثأب بالتشديد. وقال ابن دريد: أصله من ثئب فهو مثئوب إذا استرخى وكسل. وقال غير واحد: إنهما لغتان. وبالهمز والمد أشهر. قوله: "فليضع يده على فيه " أورد فيه حديث أبي هريرة بلفظ فليرده ما استطاع. قال الكرماني: عموم الأمر بالرد يتناول وضع اليد على الفم فيطابق الترجمة من هذه الحيثية. قلت: وقد ورد في بعض طرقه صريحا أخرجه مسلم وأبو داود من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه " ولفظ الترمذي مثل لفظ الترجمة. قوله: "إن الله يحب العطاس" تقدم شرحه قريبا. قوله: "وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان" قال

(10/611)


ابن بطال إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة، أي أن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبا لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك منه. لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب. وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك لأنه واسطته، قال: والتثاؤب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ عنه النشاط وذلك بواسطة الملك. وقال النووي: أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل. قوله: " فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع" أي يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه لأن الذي وقع لا يرد حقيقة، وقيل معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب، وجوز الكرماني أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع. قوله: " فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان " في رواية ابن عجلان " فإذا قال آه ضحك منه الشيطان" وفي حديث أبي سعيد "فإن الشيطان يدخل" وفي لفظ له "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل" هكذا قيده بحالة الصلاة، وكذا أخرجه الترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "التثاؤب في الصلاة من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع" وللترمذي والنسائي من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه، ورواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه" قال شيخنا في شرح الترمذي: أكثر روايات الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة فيحتمل أن يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، ويحتمل أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة. وقد قال بعضهم: إن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، ويؤيد كراهته مطلقا كونه من الشيطان، وبذلك صرح النووي، قال ابن العربي: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة. وأما قوله في رواية أبي سعيد في ابن ماجه: "ولا يعوي" فإنه بالعين المهملة، شبه التثاؤب الذي يسترسل معه بعواء الكلب تنفيرا عنه واستقباحا له فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه ويعوي، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب شابهه. ومن هنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه، لأنه صيره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة. وأما قوله في رواية مسلم: "فإن الشيطان يدخل" فيحتمل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكر الله تعالى، والمتثائب في تلك الحالة غير ذاكر فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة. ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه، لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكنا منه. وأما الأمر بوضع اليد على الفم فيتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب فيغطى بالكف ونحوه وما إذا كان منطبقا حفظا له عن الانفتاح بسبب ذلك. وفي معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه مما يحصل ذلك المقصود، وإنما تتعين اليد إذا لم يرتد التثاؤب بدونها، ولا فرق في هذا الأمر بين المصلي وغيره، بل يتأكد في حال الصلاة كما تقدم ويستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه. ومما يؤمر به المتثائب إذا كان في الصلاة أن يمسك عن القراءة حني يذهب عنه لئلا يتغير نظم قراءته، وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والتابعين

(10/612)


المشهورين، ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في "التاريخ" من مرسل يزيد بن الأصم قال: "ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط" وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال: "ما تثاءب نبي قط" ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق. ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان. ووقع في "الشفاء لابن سبع" أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى، لأنه من الشيطان، والله أعلم.
" خاتمة ": اشتمل كتاب الأدب من الأحاديث المرفوعة على مائتين وستة وخمسين حديثا، المعلق منها خمسة وسبعون والبقية موصولة. المكرر منها فيه وفيما مضى مائتا حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الله بن عمرو في عقوق الوالدين، وحديث أبي هريرة " من سره أن يبسط له في رزقه" ، وحديث: " الرحم شجنة" ، وحديث ابن عمرو "ليس الواصل بالمكافئ"، وحديث أبي هريرة "قام أعرابي فقال اللهم ارحمنا"، وحديث أبي شريح "من لا يأمن جاره" وحديث جابر "كل معروف صدقة" ، وحديث أنس "لم يكن فاحشا"، وحديث عائشة "ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا"، وحديث أنس "إن كانت الأمة" وحديث حذيفة "أن أشبه الناس دلا وسمتا"، وحديث ابن مسعود " إن أحسن الحديث كتاب الله" وحديث أبي هريرة " إذا قال الرجل يا كافر "، وحديث ابن عمر فيه، وحديث أبي هريرة "لا تغضب"، وحديث ابن عمر " لأن يمتلئ" وحديث ابن عباس في ابن صياد، وحديث سعيد بن المسيب عن أبيه في اسم الحزن، وحديث ابن أبي أوفى في إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أحد عشر أثرا بعضها موصول وبعضها معلق. والله أعلم بالصواب.
تم الجزء العاشر. ويليه الحادي عشر، أوله: كتاب الاستئذان

(10/613)


المجلد الحادي عشر
كتاب الإستئذان
باب بدء السلام
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المجلد الحادي عشر
79 - كِتَاب الِاسْتِئْذَانِ
3 - بَاب بَدْءِ السَّلاَمِ
6227- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ"
قوله: "كتاب الاستئذان - باب بدء السلام" الاستئذان طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن: وبدء بفتح أوله والهمز بمعنى الابتداء أي أول ما وقع السلام، وإنما ترجم للسلام مع الاستئذان للإشارة إلى أنه لا يؤمن لمن لم يسلم. وقد أخرج أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش "حدثني رجل أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال لخادمه: اخرج لهذا فعلمه "فقال: قل السلام عليكم أأدخل" الحديث وصححه الدار قطني. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق زيد بن أسلم "بعثني أبي إلى ابن عمر فقلت: أألج؟ فقال: لا تقل كذا، ولكن قل: السلام عليكم، فإذا رد عليك فادخل". ومن طريق ابن أبي بريدة "استأذن رجل على رجل من الصحابة ثلاث مرات يقول أأدخل؟ وهو ينظر إليه لا يأذن له فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قال: نعم، ثم قال: لو أقمت إلى الليل". وسيأتي مزيد لذلك في الباب الذي يليه. قوله: "حدثنا يحيى بن جعفر" هو البيكندي. قوله: "خلق الله آدم على صورته" تقدم بيانه في بدء الخلق، واختلف إلى ماذا يعود الضمير؟ فقيل: إلى آدم أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط وإلى أن مات، دفعا لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى، أو ابتدأ خلقه كما وجد لم ينتقل في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة. وقيل للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة. وقيل للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره، وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعل نفسه، وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية وأن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال له إن الله خلق آدم على صورته، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب العتق، وقيل الضمير لله وتمسك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه: "على صورة الرحمن" والمراد بالصورة الصفة، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء. قوله: "اذهب فسلم على أولئك" فيه إشعار بأنهم كانوا على بعد، واستدل به على إيجاب ابتداء السلام.

(11/3)


لورود الأمر به، وهو بعيد بل ضعيف لأنها واقعة حال لا عموم لها، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الابتداء بالسلام سنة، ولكن في كلام المازري ما يقتضي إثبات خلاف في ذلك، كذا زعم بعض من أدركناه وقد راجعت كلام المازري وليس فيه ذلك فإنه قال: ابتداء السلام سنة ورده واجب. هذا هو المشهور عند أصحابنا، وهو من عبادات الكفاية، فأشار بقوله المشهور إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية؟ وقد صرح بعد ذلك بخلاف أبي يوسف كما سأذكره بعد، نعم وقع في كلام القاضي عبد الوهاب فيما نقله عنه عياض قال: لا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض على الكفاية فإن سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، قال عياض: معنى قوله فرض على الكفاية مع نقل الإجماع على أنه سنة أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية. قوله: "نفر من الملائكة" بالخفض في الرواية، ويجوز الرفع والنصب، ولم أقف على تعيينهم. قوله: "فاستمع" في رواية الكشميهني: "فاسمع". قوله: "ما يحيونك" كذا للأكثر بالمهملة من التحية، وكذا تقدم في خلق آدم عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق، وكذا عند أحمد ومسلم عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق. وفي رواية أبي ذر هنا بكسر الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة من الجواب، وكذا هو في "الأدب المفرد" للمصنف عن عبد الله بن محمد بالسند المذكور. قوله: "فإنها" أي الكلمات التي يحيون بها أو يجيبون. قوله: "تحيتك وتحية ذريتك" أي من جهة الشرع، أو المراد بالذرية بعضهم وهم المسلمون. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة مرفوعا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين" وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم. وفي حديث أبي ذر الطويل في قصة إسلامه قال: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث وفيه: "فكنت أول من حياه بتحية الإسلام فقال: وعليك ورحمة الله" أخرجه مسلم. وأخرج الطبراني والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي أمامة رفعه: "جعل الله السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا" وعند أبي داود من حديث عمران بن حصين "كنا نقول في الجاهلية: أنعم بك عينا، وأنعم صباحا" فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك ورجاله ثقات، لكنه منقطع. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: "كانوا في الجاهلية يقولون: حييت مساء، حييت صباحا، فغير الله ذلك بالسلام". قوله: "فقال السلام عليكم" قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الله علمه كيفية ذلك تنصيصا، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله له "فسلم" قلت: ويحتمل أن يكون ألهمه ذلك، ويؤيده ما تقدم في "باب حمد العاطس" في الحديث الذي أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "أن آدم لما خلقه الله عطس فألهمه الله أن قال الحمد لله" الحديث فلعله ألهمه أيضا صفة السلام. واستدل به على أن هذه الصيغة هي المشروعة لابتداء السلام لقوله: "فهي تحيتك وتحية ذريتك" وهذا فيما لو سلم على جماعة، فلو سلم على واحد فسيأتي حكمه بعد أبواب، ولو حذف اللام فقال: "سلام عليكم" أجزأ، قال الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} وقال تعالى: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} إلى غير ذلك، لكن باللام أولى لأنها للتفخيم والتكثير، وثبت في حديث التشهد "السلام عليك أيها النبي" قال عياض: ويكره أن يقول في الابتداء: عليك السلام. وقال النووي في "الأذكار": إذا قال المبتدئ وعليكم السلام لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، لأن هذه الصيغة لا تصلح للابتداء قاله المتولي، فلو قاله بغير واو فهو سلام،

(11/4)


قطع بذلك الواحدي، وهو ظاهر.قال النووي: ويحتمل أن لا يجزئ كما قيل به في التحلل من الصلاة، ويحتمل أن لا يعد سلاما ولا يستحق جوابا لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي وصححه وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جري بالجيم والراء مصغر الهجيمي بالجيم مصغرا قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى " قال ويحتمل أن يكون ورد لبيان الأكمل، وقد قال الغزالي في "الإحياء": يكره للمبتدئ أن يقول عليكم السلام، قال النووي: والمختار لا يكره، ويجب الجواب لأنه سلام. قلت: وقوله بالأسانيد الصحيحة يوهم أن له طرقا إلى الصحابي المذكور، وليس كذلك فإنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي جري، ومع ذلك فمداره عند جميع من أخرجه على أبي تميمة الهجيمي راوية عن أبي جري، وقد أخرجه أحمد أيضا والنسائي وصححه الحاكم، وقد اعترض هو ما دل عليه الحديث بما أخرجه مسلم من حديث عائشة في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، الحديث. وفيه: "قلت: كيف أقول؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين ". قلت: وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أتى البقيع "السلام على أهل الديار من المؤمنين" الحديث. قال الخطابي: فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم: "عليك سلام الله قيس بن عاصم". قلت: ليس هذا من شعر أهل الجاهلية، فإن قيس بن عاصم صحابي مشهور عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمرثية المذكورة لمسلم معروف قالها لما مات قيس، ومثله ما أخرج ابن سعد وغيره أن الجن رثوا عمر بن الخطاب بأبيات منها:
عليك السلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
وقال ابن العربي في السلام على أهل البقيع: لا يعارض النهي في حديث أبي جري لاحتمال أن يكون الله أحياهم لنبيه صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم سلام الأحياء، كذا قال، ويرده حديث عائشة المذكور قال: ويحتمل أن يكون النهي مخصوصا بمن يرى أنها تحية الموتى وبمن يتطير بها من الأحياء فإنها كانت عادة أهل الجاهلية وجاء الإسلام بخلاف ذلك، قال عياض وتبعه ابن القيم في "الهدى" فنقح كلامه فقال: كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في الابتداء السلام عليكم، ويكره أن يقول عليكم السلام، فذكر حديث أبي جري وصححه ثم قال: أشكل هذا على طائفة وظنوه معارضا لحديث عائشة وأبي هريرة وليس كذلك، وإنما معنى قوله: " عليك السلام تحية الموتى " إخبار عن الواقع لا عن الشرع، أي أن الشعراء ونحوهم يحيون الموتى به واستشهد بالبيت المتقدم وفيه ما فيه، قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيى بتحية الأموات. وقال عياض أيضا: كانت عادة العرب في تحية الموتى تأخير الاسم، كقولهم عليه لعنة الله وغضبه عند الذم، وكقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ، وتعقب بأن النص في الملاعنة ورد بتقديم اللعنة والغضب على الاسم. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون حديث عائشة لمن زار المقبرة فسلم على جميع من بها، وحديث أبي جري إثباتا ونفيا في السلام على الشخص الواحد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال عليكم السلام لم يجز، لأنها صيغة جواب، قال: والأولى الإجزاء لحصول مسمى السلام، ولأنهم قالوا: إن المصلي ينوي بإحدى التسليمتين الرد على من حضر، وهي بصيغة الابتداء. ثم حكى عن أبي الوليد بن رشد أنه يجوز الابتداء بلفظ الرد وعكسه، وسيأتي مزيد لذلك في "باب من رد فقال عليك السلام ".

(11/5)


إن شاء الله تعالى. قوله: "فقالوا السلام عليك ورحمة الله" كذا للأكثر في البخاري هنا، وكذا للجميع في بدء الخلق، ولأحمد ومسلم من هذا الوجه من رواية عبد الرزاق، ووقع هنا للكشميهني فقالوا وعليك السلام ورحمة الله، وعليها شرح الخطابي، واستدل برواية الأكثر لمن يقول يجزئ في الرد أن يقع باللفظ الذي يبتدأ به كما تقدم، قيل ويكفي أيضا الرد بلفظ الإفراد، وسيأتي البحث في ذلك "باب من رد فقال عليك السلام". قوله: "فزادوه ورحمة الله" فيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء، وهو مستحب بالاتفاق لوقوع التحية في ذلك في قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فلو زاد المبتدئ "ورحمة الله" استحب أن يزاد: "وبركاته" فلو زاد: "وبركاته" فهل تشرع الزيادة في الرد؟ وكذا لو زاد المبتدئ على "وبركاته" هل يشرع له ذلك؟ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال: "انتهى السلام إلى البركة" وأخرج البيهقي في "الشعب" من طريق عبد الله بن بابه1 قال: "جاء رجل إلى ابن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: حسبك إلى وبركاته" انتهى إلى "وبركاته" ومن طريق زهرة بن معبد قال: "قال عمر: انتهى السلام إلى وبركاته" ورجاله ثقات. وجاء عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضا في "الموطأ" عنه أنه زاد في الجواب "والغاديات والرائحات" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عمرو بن شعيب عن سالم مولى ابن عمر قال: "كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة فقلت: السلام عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. ثم أتيته فزدت "وبركاته" فرد وزاد: "وطيب صلواته" ومن طريق زيد بن ثابت أنه كتب إلى معاوية "السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ومغفرته وطيب صلواته" ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بسند قوي عن عمران بن حصين قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه وقال: عشر. ثم جاء آخر، فقال السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال: عشرون. ثم جاء آخر فزاد وبركاته، فرد وقال: ثلاثون" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان وقال: "ثلاثون حسنة" وكذا فيما قبلها، صرح بالمعدود. وعند أبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث على أنه هو الذي وقع له مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وأخرج الطبراني من حديث سهل بن حنيف بسند ضعيف رفعه: "من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، ومن زاد وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة". وأخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه بسند ضعيف نحو حديث عمران وزاد في آخره: "ثم جاء آخر فزاد ومغفرته، فقال أربعون. وقال: هكذا تكون الفضائل" وأخرج ابن السني في كتابه بسند واه من حديث أنس قال: "كان رجل يمر فيقول السلام عليك يا رسول الله فيقول له وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه" وأخرج البيهقي في "الشعب" بسند ضعيف أيضا من حديث زيد بن أرقم "كنا إذا سلم علينا النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته" وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على وبركاته. واتفق العلماء على أن الرد واجب على الكفاية، وجاء عن أبي يوسف أنه قال: يجب الرد على كل فرد فرد، واحتج له بحديث الباب لأن فيه: "فقالوا السلام عليك" وتعقب
ـــــــ
1 قال مصحح طبعة بولاق: لعله محرف عن "بابه" كما تقدم غير مرة

(11/6)


بجواز أن يكون نسب إليهم والمتكلم به بعضهم، واحتج له أيضا بالاتفاق على أن من سلم على جماعة فرد عليه واحد من غيرهم لا يجزئ عنهم، وتعقب بظهور الفرق. واحتج للجمهور بحديث علي رفعه: "يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم" أخرجه أبو داود والبزار، وفي سنده ضعف لكن له شاهد من حديث الحسن ابن علي عند الطبراني وفي سنده مقال، وآخر مرسل في "الموطأ" عن زيد بن أسلم. واحتج ابن بطال بالاتفاق على أن المبتدئ لا يشترط في حقه تكرير السلام بعدد من يسلم عليهم كما في حديث الباب من سلام آدم وفي غيره من الأحاديث، قال: فكذلك لا يجب الرد على كل فرد فرد إذا سلم الواحد عليهم. واحتج الماوردي بصحة الصلاة الواحدة على العدد من الجنائز. وقال الحليمي: إنما كان الرد واجبا لأن السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه فإنه يتوهم منه الشر، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه. انتهى كلامه. وسيأتي بيان معاني لفظ السلام في "باب السلام اسم من أسماء الله تعالى" ويؤخذ من كلامه موافقة القاضي حسين حيث قال: لا يجب رد السلام على من سلم عند قيامه من المجلس إذا كان سلم حين دخل، ووافقه المتولي، وخالفه المستظهري فقال: السلام سنة عند الانصراف فيكون الجواب واجبا، قال النووي: هذا هو الصواب، كذا قال. قوله: "فكل من يدخل الجنة" كذا للأكثر هنا وللجميع في بدء الخلق، ووقع هنا لأبي ذر "فكل من يدخل يعني الجنة" وكأن لفظ الجنة سقط من روايته فزاد فيه يعني. قوله: "على صورة آدم" تقدم شرح ذلك في بدء الخلق، قال المهلب: في هذا الحديث أن الملائكة يتكلمون بالعربية ويتحيون بتحية الإسلام. قلت: وفي الأول نظر لاحتمال أن يكون في الأزل بغير اللسان العربي، ثم لما حكى للعرب ترجم بلسانهم، ومن المعلوم أن من ذكرت قصصهم في القرآن من غير العرب نقل كلامهم بالعربي فلم يتعين أنهم تكلموا بما نقل عنهم بالعربي، بل الظاهر أن كلامهم ترجم بالعربي. وفيه الأمر بتعلم العلم من أهله والأخذ بنزول مع إمكان العلو، والاكتفاء في الخبر مع إمكان القطع بما دونه. وفيه أن المدة التي بين آدم والبعثة المحمدية فوق ما نقل عن الإخباريين من أهل الكتاب وغيرهم بكثير، وقد تقدم بيان ذلك ووجه الاحتجاج به في بدء الخلق.

(11/7)


باب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ...}
...
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ قَالَ اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} : وَقَالَ قَتَادَةُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُمْ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} خَائِنَةَ الأَعْيُنِ مِنْ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ لاَ يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِي.

(11/7)


الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ"
6228- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ"
6229- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا فَقَالَ إِذْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ"
قوله: "باب قول الله تعالى" في رواية أبي ذر "قوله تعالى". "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم" إلى قوله تعالى: {وَمَا تَكْتُمُونَ} ، وساق في رواية كريمة والأصيلي الآيات الثلاث، والمراد بالاستئناس في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الاستئذان بتنحنح ونحوه عند الجمهور. وأخرج الطبري من طريق مجاهد "حتى تستأنسوا تتنحنحوا أو تتنخموا" ومن طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود "كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس يتكلم ويرفع صوته" وأخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف من حديث أبي أيوب قال: "قلت يا رسول الله هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت" وأخرج الطبري من طريق قتادة قال: الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا، فالأولى ليسمع، والثانية ليتأهبوا له، والثالثة إن شاءوا أذنوا له وإن شاءوا ردوا. والاستئناس في اللغة طلب الإيناس وهو من الأنس بالضم ضد الوحشة، وقد تقدم في أواخر النكاح في حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وفيه: "فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. قال فجلس" وقال البيهقي: معنى تستأنسوا تستبصروا ليكون الدخول على بصيرة، فلا يصادف حالة يكره صاحب المنزل أن يطلعوا عليها. وأخرج من طريق الفراء قال: الاستئناس في كلام العرب معناه انظروا من في الدار. وعن الحليمي: معناه حتى تستأنسوا بأن تسلموا. وحكى الطحاوي أن الاستئناس في لغة اليمن الاستئذان وجاء عن ابن عباس إنكار ذلك، فأخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح أن ابن عباس "كان يقرأ حتى تستأذنوا" ويقول: أخطأ الكاتب. وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب، ومن طريق مغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: في مصحف ابن مسعود "حتى تستأذنوا" وأخرج سعيد ابن منصور من

(11/8)


طريق مغيرة عن إبراهيم في مصحف عبد الله "حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا" وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في "أحكام القرآن" عن ابن عباس واستشكله، وكذا طعن في صحته جماعة ممن بعده، وأجيب بأن ابن عباس بناها على قراءته التي تلقاها عن أبي بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم الخروج عما يوافقه، وكان قراءة أبي من الأحرف التي تركت للقراءة بها كما تقدم تقريره في فضائل القرآن. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الأولى ثم نسخت تلاوته، يعني ولم يطلع ابن عباس على ذلك. قوله: "وقال سعيد بن أبي الحسن" هو البصري أخو الحسن. قوله: "للحسن" أي لأخيه. قوله: "إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، قال: اصرف بصرك عنهن، يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال قتادة: عما لا يحل لهم" كذا وقع في رواية الكشميهني: ووقع في رواية غيره بعد قوله: "اصرف بصرك" وقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلخ، فعلى رواية الكشميهني يكون الحسن استدل بالآية. وأورد المصنف أثر قتادة تفسيرا لها، وعلى رواية الأكثر تكون ترجمة مستأنفة، والنكتة في ذكرها في هذا الباب على الحالين للإشارة إلى أن أصل مشروعية الاستئذان للاحتراز من وقوع النظر إلى ما لا يريد صاحب المنزل النظر إليه لو دخل بغير إذن، وأعظم ذلك النظر إلى النساء الأجنبيات، وأثر قتادة عند ابن أبي حاتم وصله من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد بن أبي عروبة عنه في قوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال: عما لا يحل لهم. قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} كذا للأكثر تخلل أثر قتادة بين الآيتين، وسقط جميع ذلك من رواية النسفي فقال بعد قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآيتين وقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. قوله: "خائنة الأعين من النظر إلى ما نهى عنه" كذا للأكثر بضم نون "نهى" على البناء للمجهول. وفي رواية كريمة: "إلى ما نهى الله عنه" وسقط لفظ: "من" من رواية أبي ذر، وعند ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} قال هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمر به أو يدخل بيتا هي فيه فإذا فطن له غض بصره، وقد علم الله تعالى أنه يود لو اطلع على فرجها وإن قدر عليها لو زنى بها، ومن طريق مجاهد وقتادة نحوه، وكأنهم أرادوا أن هذا من جملة خائنة الأعين. وقال الكرماني. معنى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} أن الله يعلم النظرة المسترقة إلى ما لا يحل، وأما خائنة الأعين التي ذكرت في الخصائص النبوية فهي الإشارة بالعين إلى أمر مباح لكن على خلاف ما يظهر منه بالقول. قلت: وكذا السكوت المشعر بالتقرير فإنه يقوم مقام القول. وبيان ذلك في حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: "لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، فذكر منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، إلى أن قال: "فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى أوقفه فقال: يا رسول الله بايعه، فأعرض عنه، ثم بايعه بعد الثلاث مرات، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عنه فيقتله: فقالوا: هلا أومأت قال. إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" أخرجه الحاكم من هذا الوجه، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" من مرسل سعيد بن المسيب أخصر منه وزاد فيه: "وكان رجل من الأنصار نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله"، فذكر بقية الحديث نحو حديث ابن عباس. وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن يربوع. وله طرق أخرى يشد بعضها.

(11/9)


بعضا. قوله: "وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه وإن كانت صغيرة" كذا للأكثر.وفي رواية الكشميهني: "في النظر إلى ما لا يحل من النساء لا يصلح إلخ" وقال: "النظر إليهن" وسقط هذا الأثر والذي بعده من رواية النسفي. قوله: "وكره عطاء النظر إلى الجواري التي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري" وصله ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي قال: "سئل عطاء بن أبي رباح عن الجواري التي يبعن بمكة، فكره النظر إليهن، إلا لمن يريد أن يشتري" ووصله الفاكهي في "كتاب مكة" من وجهين عن الأوزاعي وزاد: "اللاتي يطاف بهن حول البيت" قال الفاكهي "زعموا أنهم كانوا يلبسون الجارية ويطوفون بها مسفرة حول البيت ليشهروا أمرها ويرغبوا الناس في شرائها. قوله: "أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل" هو ابن عباس، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، قال ابن بطال: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع، قال: ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه، قال: وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل، قال: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء، وأن قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} على الوجوب في غير الوجه. قلت: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة، و قوله: "عجز راحلته" بفتح العين المهملة وضم الجيم بعدها زاي أي مؤخرها، و قوله: "وضيئا" أي لحسن وجهه ونظافة صورته، وقوله: "فأخلف يده" أي أدارها من خلفه، و قوله: "بذقن الفضل" بفتح الذال المعجمة والقاف بعدها نون، قال ابن التين: أخذ منه بعضهم أن الفضل كان حينئذ أمرد، وليس بصحيح، لأن في الرواية الأخرى "وكان الفضل رجلا وضيئا". فإن قيل سماه رجلا باعتبار ما آل إليه أمره قلنا. بل الظاهر أنه وصف حالته حينئذ، ويقويه أن ذلك كان في حجة الوداع والفضل كان أكبر من أخيه عبد الله وقد كان عبد الله حينئذ راهق الاحتلام قلت: وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يزوج الفضل لما سأله أن يستعمله على الصدقة ليصيب ما يتزوج به، فهذا يدل على بلوغه قبل ذلك الوقت ولكن لا يلزم منه أن تكون نبتت لحيته كما لا يلزم من كونه لا لحية له أن يكون صبيا. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وزهير هو ابن محمد التميمي، وزيد ابن أسلم هو مولى ابن عمر، وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي عامر، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي عامر كذلك، وأخرجه أحمد وعبد بن حميد جميعا عن أبي عامر العقدي عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، فكأن لأبي عامر فيه شيخين، وهو عند أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن زهير به، وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن زهير، وقد مضى في المظالم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم. قوله: "إياكم" هو للتحذير. قوله: "والجلوس" بالنصب وقوله بالطرقات في رواية الكشميهني: "في الطرقات" وفي رواية حفص بن ميسرة "على الطرقات" وهي جمع الطرق بضمتين وطرق جمع طريق. وفي حديث أبي طلحة عند مسلم: "كنا قعودا بالأفنية" جمع فناء بكسر الفاء ونون ومد وهو المكان المتسع أمام الدار "فجاء رسول الله.

(11/10)


صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لكم ولمجالس الصعدات" بضم الصاد والعين المهملتين جمع صعيد وهو المكان الواسع وتقدم بيانه في كتاب المظالم، ومثله لابن حبان من حديث أبي هريرة، زاد سعيد بن منصور من مرسل يحيى بن يعمر "فإنها سبيل من سبيل الشيطان أو النار". قوله: "فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها" قال عياض: فيه دليل على أن أمره لهم لم يكن للوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، وقد يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب. قلت: ويحتمل أن يكونوا رجوا وقوع النسخ تخفيفا لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر "فظن القوم أنها عزمة" ووقع في حديث أبي طلحة "فقالوا إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتحدث ونتذاكر". قوله: "فإذا أبيتم" في رواية الكشميهني: "إذا أبيتم" بحذف الفاء. قوله: "إلا المجلس" كذا للجميع هنا بلفظ: "إلا" بالتشديد، وتقدم في أواخر المظالم بلفظ فإذا أتيتم إلى المجالس بالمثناة بدل الموحدة في أتيتم وبتخفيف اللام من إلى، وذكر عياض أنه للجميع هناك هكذا، وقد بينت هناك أنه للكشميهني هناك كالذي هنا، ووقع في حديث أبي طلحة "إما لا" بكسر الهمزة "ولا" نافية وهي ممالة في الرواية، ويجوز ترك الإمالة. ومعناه إلا تتركوا ذلك فافعلوا كذا. وقال ابن الأنباري افعل كذا إن كنت لا تفعل كذا، ودخلت "ما" صلة. وفي حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط "فإن أبيتم إلا أن تفعلوا" وفي مرسل يحيى بن يعمر "فإن كنتم لا بد فاعلين". قوله: "فأعطوا الطريق حقه" في رواية حفص بن ميسرة "حقها" والطريق يذكر ويؤنث، وفي حديث أبي شريح عند أحمد "فمن جلس منكم على الصعيد فليعطه حقه". قوله: "قالوا وما حق الطريق"؟ في حديث أبي شريح "قلنا: يا رسول الله وما حقه "؟. قوله: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" في حديث أبي طلحة الأولى والثانية وزاد: "وحسن الكلام" وفي حديث أبي هريرة الأولى والثالثة وزاد: "وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد" وفي حديث عمر عند أبي داود وكذا في مرسل يحيى بن يعمر من الزيادة وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال، وهو عند البزار بلفظ وإرشاد الضال، وفي حديث البراء عند أحمد والترمذي "اهدوا السبيل وأعينوا المظلوم وأفشوا السلام" وفي حديث ابن عباس عند البزار من الزيادة "وأعينوا على الحمولة". وفي حديث سهل بن حنيف عند الطبراني من الزيادة "ذكر الله كثيرا" وفي حديث وحشي بن حرب عند الطبراني من الزيادة "واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم" ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبا وقد نظمتها في ثلاثة أبيات وهي:
جمعت آداب من رام الجلوس على الطر ... يق من قول خير الخلق إنسانا
أفش السلام وأحسن في الكلام ... وشمت عاطسا وسلاما رد إحسانا
في الحمل عاون ومظلوما أعن وأغث ... لهفان اهد سبيلا واهد حيرانا
بالعرف مر وانه عن نكر وكف أذى ... وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا
وقد اشتملت على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق من التعرض للفتن بخطور النساء الشواب وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك، إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن، ومن التعرض لحقوق الله .

(11/11)


وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته وحيث لا ينفرد أو يشتغل بما يلزمه، ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار، ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسما للمادة، فلما ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة، ولكل من الآداب المذكورة شواهد في أحاديث أخرى: فأما إفشاء السلام فسيأتي في باب مفرد، وأما إحسان الكلام فقال عياض فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى قلت: وله شواهد من حديث أبي شريح هانئ رفعه: "من موجبات الجنة إطعام الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام" ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "في الجنة غرف لمن أطاب الكلام" الحديث، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رفعه: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". وأما تشميت العاطس فمضى مبسوطا في أواخر كتاب الأدب، وأما رد السلام فسيأتي أيضا قريبا، وأما المعاونة على الحمل فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رفعه: "كل سلامي من الناس عليه صدقة" الحديث، وفيه: "ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها ويرفع له عليها متاعه صدقة" وأما إعانة المظلوم فتقدم في حديث البراء قريبا، وله شاهد آخر تقدم في كتاب المظالم، وأما إغاثة الملهوف فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي موسى فيه: "ويعين ذا الحاجة الملهوف" وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: "وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث" وأخرج المرهبي في العلم من حديث أنس رفعه في حديث: "والله يحب إغاثة اللهفان" وسنده ضعيف جدا، لكن له شاهد من حديث ابن عباس أصلح منه "والله يحب إغاثة اللهفان" وأما إرشاد السبيل فروى الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعا: "وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة" وللبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه من حديث البراء رفعه: "من منح منيحة أو هدى زقاقا كان له عدل عتق نسمة" وهدى بفتح الهاء وتشديد المهملة، والزقاق بضم الزاي وتخفيف القاف وآخره قاف معروف، والمراد من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: "ويسمع الأصم ويهدي الأعمى ويدل المستدل على حاجته" وأما هداية الحيران فله شاهد في الذي قبله، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة منها في حديث أبي ذر المذكور قريبا وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر صدقة" وأما كف الأذى فالمراد به كف الأذى عن المارة بأن لا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق أو على باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه أو حيث يكشف عياله أو ما يريد التستر به من حاله قاله عياض، قال: ويحتمل أن يكون المراد كف أذى الناس بعضهم عن بعض انتهى. وقد وقع في الصحيح من حديث أبي ذر رفعه: "فكف عن الشر فإنها لك الصدقة" وهو يؤيد الأول، وأما غض البصر فهو المقصود من حديث الباب، وأما كثرة ذكر الله ففيه عدة أحاديث يأتي بعضها في الدعوات.

(11/12)


3 - باب السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

(11/12)


6230- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ السَّلاَمُ عَلَى مِيكَائِيلَ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنْ الْكَلاَمِ مَا شَاءَ"
قوله: "باب السلام اسم من أسماء الله تعالى" هذه الترجمة لفظ بعض حديث مرفوع له طرق ليس منها شيء على شرط المصنف في الصحيح، فاستعمله في الترجمة وأورد ما يؤدي معناه على شرطه وهو حديث التشهد لقوله فيه: "فإن الله هو السلام" وكذا ثبت في القرآن في أسماء الله "السلام المؤمن المهيمن" ومعنى السلام السالم من النقائص، وقيل المسلم لعباده، وقيل المسلم على أوليائه. وأما لفظ الترجمة فأخرجه في "الأدب المفرد" من حديث أنس بسند حسن وزاد: "وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم" وأخرجه البزار والطبراني من حديث ابن مسعود موقوفا ومرفوعا، وطريق الموقوف أقوى. وأخرجه البيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة مرفوعا بسند ضعيف وألفاظهم سواء. وأخرج البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس موقوفا "السلام اسم الله وهو تحية أهل الجنة" وشاهده حديث المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى توضأ وقال: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، ويحتمل أن يكون أراد ما في رد السلام من ذكر اسم الله صريحا في قوله: "ورحمة الله". وقد اختلف في معنى السلام: فنقل عياض أن معناه اسم الله أي كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال الله معك ومصاحبك. وقيل: معناه إن الله مطلع عليك فيما تفعل. وقيل: معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها. وقيل: معناه السلامة كما قال تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وكما قال الشاعر:
تحيى بالسلامة أم عمرو ... وهل لي بعد قومي من سلام
فكأن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه وأن لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": السلام يطلق بإزاء معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله. قال وقد يأتي بمعنى التحية محضا. وقد يأتي بمعنى السلامة محضا، وقد يأتي مترددا بين المعنيين كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} فإنه يحتمل التحية والسلامة، وقوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}. قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} لم يقع في رواية أبي ذر {أَوْ رُدُّوهَا} ومناسبة ذكر هذه الآية في هذه الترجمة للإشارة إلى أن عموم الأمر بالتحية مخصوص بلفظ السلام كما دلت عليه الأحاديث المشار إليها في الباب الأول. واتفق العلماء على ذلك إلا ما حكاه ابن التين عن ابن خويز منداد عن مالك أن المراد بالتحية في الآية الهدية لكن حكى القرطبي عن ابن خويز منداد أنه ذكره احتمالا، وادعى أنه قول الحنفية فإنهم احتجوا بذلك بأن

(11/13)


السلام لا يمكن رده بعينه بخلاف الهدية فإن الذي يهدى له إن أمكنه أن يهدي أحسن منها فعل وإلا ردها بعينها. وتعقب بأن المراد بالرد رد المثل لا رد العين، وذلك سائغ كثير. ونقل القرطبي أيضا عن ابن القاسم وابن وهب عن مالك أن المراد بالتحية في الآية تشميت العاطس والرد على المشمت، قال: وليس في السياق دلالة على ذلك، ولكن حكم التشميت والرد مأخوذ من حكم السلام والرد عند الجمهور، ولعل هذا هو الذي نحا إليه مالك. حديث ابن مسعود في التشهد، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصلاة، والغرض منه قوله فيه: "إن الله هو السلام" وهو مطابق لما ترجم له. واتفقوا على أن من سلم لم يجزئ في جوابه إلا السلام، ولا يجزئ في جوابه صبحت بالخير أو بالسعادة ونحو ذلك. واختلف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام هل يجب جوابه، أم لا؟ وأقل ما يحصل به وجوب الرد أن يسمع المبتدئ. وحينئذ يستحق الجواب، ولا يكفي الرد بالإشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه الترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم الإشارة بالإصبع، وتسليم النصارى بالأكف" قال الترمذي: غريب.قلت: وفي سنده ضعف، لكن أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرءوس والأكف والإشارة" قال النووي: لا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد "مر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم" فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ: "فسلم علينا" انتهى. والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حسا وشرعا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم، ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي هل يستحق الجواب؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها يجب لمن يحسن بالعربية. وقال ابن دقيق العيد: الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب وليس بمكروه إلا إن قصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم من أجل أكابر أهل الدنيا، ويجب الرد على الفور، فلو أخر ثم استدرك فرد لم يعد جوابا قاله القاضي حسين وجماعة، وكأن محله إذا لم يكن عذر. ويجب رد جواب السلام في الكتاب ومع الرسول، ولو سلم الصبي على بالغ وجب عليه الرد، ولو سلم على جماعة فيهم صبي فأجاب أجزأ عنهم في وجه.

(11/14)


4 - باب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ
6231- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
[الحديث 6231- أطرافه في 6232، 6233، 6234]
قوله: "باب تسليم القليل على الكثير" هو أمر نسبي يشمل الواحد بالنسبة للاثنين فصاعدا والاثنين بالنسبة للثلاثة فصاعدا وما فوق ذلك. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "يسلم" كذا للجميع بصيغة الخبر وهو بمعنى الأمر، وقد ورد صريحا في رواية عبد الرزاق عن معمر عند أحمد بلفظ: "ليسلم" ويأتي شرحه فيما بعده، قال الماوردي: لو دخل شخص مجلسا فإن كان الجمع قليلا يعمهم سلام واحد فسلم كفاه، فإن زاد فخصص بعضهم

(11/14)


فلا بأس، ويكفي أن يرد منهم واحد، فإن زاد فلا بأس، وإن كانوا كثيرا بحيث لا ينتشر فيهم فيبتدئ أول دخوله إذا شاهدهم، وتتأدى سنة السلام في حق جميع من يسمعه، ويجب على من سمعه الرد على الكفاية. وإذا جلس سقط عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وهل يستحب أن يسلم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه؟ وجهان: أحدهما إن عاد فلا بأس، وإلا فقد سقطت عنه سنة السلام لأنهم جمع واحد، وعلى هذا يسقط فرض الرد بفعل بعضهم، والثاني أن سنة السلام باقية في حق من لم يبلغهم سلامه المتقدم فلا يسقط فرض الرد من الأوائل عن الأواخر.

(11/15)


5 - باب تَسْلِيمِ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي
6232- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
قوله: "باب يسلم الراكب على الماشي" في رواية الكشميهني: "تسليم" على وفق الترجمة التي قبلها. قوله: "مخلد" هو ابن يزيد. قوله: "زياد" هو ابن سعد الخراساني نزيل مكة، وقد وقع في رواية الإسماعيلي هنا "زياد بن سعد". قوله: "أنه سمع ثابتا مولى ابن يزيد" في رواية غير أبي ذر "عبد الرحمن بن زيد" ووقع في رواية روح التي بعدها "أن ثابتا أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد" وزيد المذكور هو ابن الخطاب أخو عمر بن الخطاب ولذلك نسبوا ثابتا عدويا، وحكى أبو علي الجياني أن في رواية الأصيلي عن الجرجاني "عبد الرحمن بن يزيد" بزيادة ياء في أوله وهو وهم، وثابت هو ابن الأحنف وقيل ابن عياض بن الأحنف وقيل إن الأحنف لقب عياض، وليس لثابت في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في المصراة من كتاب البيوع. قوله: "يسلم الراكب على الماشي" كذا ثبت في هذه الرواية، ولم يذكر ذلك في رواية همام كما ذكر في رواية همام الصغير على الكبير ولم يذكر في هذه، فكأن كلا منهما حفظ ما لم يحفظ الآخر، وقد وافق هماما عطاء بن يسار كما سيأتي بعده، واجتمع من ذلك أربعة أشياء وقد اجتمعت في رواية الحسن عن أبي هريرة عند الترمذي وقال: روي من غير وجه عن أبي هريرة، ثم حكى قول أيوب وغيره أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.

(11/15)


6 - باب تَسْلِيمِ الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ
6233- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح بن عبادة حدثنا بن جريج قال أخبرني زياد أن ثابتا أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ثم يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير"
قوله: "باب يسلم الماشي على القاعد" ذكر فيه الحديث الذي قبله من وجه آخر عن ابن جريج؛ وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة بعدها لام بزيادة أخرجه عبد الرزاق وأحمد بسند

(11/15)


7 - باب تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ
6234- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
قوله: "باب يسلم الصغير على الكبير" وقال إبراهيم هو ابن طهمان: وثبت كذلك في رواية أبي ذر. وقد وصله البخاري في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا أحمد بن أبي عمرو حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان به سواء" وأبو عمرو هو حفص بن عبد الله بن راشد السلمي قاضي نيسابور، ووصله أيضا أبو نعيم من طريق عبد الله بن العباس، والبيهقي من طريق أبي حامد بن الشرفي كلاهما عن أحمد بن حفص به، وأما قول الكرماني: عبر البخاري بقوله: "وقال إبراهيم" لأنه سمع منه في مقام المذاكرة فغلط عجيب، فإن البخاري لم يدرك إبراهيم بن طهمان فضلا عن أن يسمع منه، فإنه مات قبل مولد البخاري بست وعشرين سنة، وقد ظهر بروايته في الأدب أن بينهما في هذا الحديث رجلين. قوله: "والمار على القاعد" هو كذا في رواية همام، وهو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ: "الماشي" لأنه أعم من أن يكون المار ماشيا أو راكبا، وقد اجتمعا في حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه والنسائي وصحيح ابن حبان بلفظ: "يسلم الفارس على الماشي والماشي على القائم" وإذا حمل القائم على المستقر كان أعم من أن يكون جالسا أو واقفا أو متكئا أو مضطجعا، وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعددت الصور، وتبقى صورة لم تقع منصوصة وهي ما إذا تلاقى ماران راكبان أو ماشيان وقد تكلم عليها المازري فقال: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرا في الدين إجلالا لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الحس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكب الفرس، أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدرا في الدين فيبتدؤه الذي دونه، هذا الثاني أظهر كما لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدرا من جهة الدنيا، إلا أن يكون سلطانا يخشى منه، وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام كما تقدم في حديث المتهاجرين في أبواب الأدب. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح من حديث جابر قال: "الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل" ذكره عقب رواية ابن جريج عن زياد بن سعد عن ثابت عن أبي هريرة بسنده المذكور عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وصرح فيه بالسماع. وأخرج أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما والبزار من وجه آخر عن ابن جريج الحديث بتمامه مرفوعا بالزيادة. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن الأغر المزني "قال لي أبو بكر لا يسبقك أحد إلى السلام" والترمذي من حديث أبي أمامة رفعه: "إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام" وقال: حسن. وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء "قلنا: يا رسول الله إنا نلتقي فأينا يبدأ بالسلام؟ قال: أطوعكم لله". قوله: "والقليل على الكثير" تقدم تقريره، لكن لو عكس الأمر فمر جمع كثير على جمع قليل، وكذا لو مر الصغير على الكبير، لم أر فيهما نصا. واعتبر النووي المرور فقال الوارد يبدأ سواء كان صغيرا أم كبيرا قليلا أم كثيرا،

(11/16)


ويوافقه قول المهلب: إن المار في حكم الداخل، وذكر الماوردي أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض، لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله ولخرج به عن العرف قلت: ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن الطفيل بن أبي ابن كعب قال: "كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق فلا يمر على بياع ولا أحد إلا سلم عليه. فقلت: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع؟ قال: إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا" لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر، والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام. وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء، فقال ابن بطال عن المهلب: تسليم الصغير لأجل حق الكبير لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع. وقال ابن العربي: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل. وقال المازري: أما أمر الراكب فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر ولا سيما إذا كان راكبا، فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا فصار للقاعد مزية فأمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة، بخلاف المار فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له، ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم وكأنه لمراعاة السن فإنه معتبر في أمور كثيرة في الشرع، فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلا فيه نظر، ولم أر فيه نقلا. والذي يظهر اعتبار السن لأنه الظاهر، كما تقدم الحقيقة على المجاز. ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير. وقال المازري وغيره: هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب، ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة، إلا إن بادر فيكون تاركا للمستحب أيضا. وقال المتولي: لو خالف الراكب أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال: والوارد يبدأ بكل حال. وقال الكرماني: لو جاء أن الكبير يبدأ الصغير والكثير يبدأ القليل لكان مناسبا، لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير والقليل من الكثير، فإذا بدأ الكبير والكثير أمن منه الصغير والقليل، لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضا اعتبر جانب التواضع كما تقدم، وحيث لا يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاقه التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعا إلى ما هو الأصل، فلو كان المشاة كثيرا والقعود قليلا تعارضا ويكون الحكم حكم اثنين تلاقيا معا فأيهما بدأ فهو أفضل، ويحتمل ترجيح جانب الماشي كما تقدم، والله أعلم.

(11/17)


8 - باب إِفْشَاءِ السَّلاَمِ

(11/17)


6235- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ "الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَصْرِ الضَّعِيفِ وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ"
قوله: "باب إفشاء السلام" كذا للنسفي وأبي الوقت, وسقط لفظ "باب" للباقين. الإفشاء الإظهار, والمراد نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عمر "إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله" قال النووي: أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه, فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة. ويستحب أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق أنه سمعه, فإن شك استظهر. ويستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام فالسنة فيه ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان" ونقل النووي عن المتولي أنه قال: "يكره إذا لقي جماعة أن يخص بعضهم بالسلام. لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة, وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام". قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، والشيباني هو أبو إسحاق، وأشعث هو ابن أبي الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة فيه وفي أبيه، واسم أبيه سليم بن أسود. قوله: "عن معاوية بن قرة" كذا للأكثر وخالفهم جعفر بن عوف فقال عن الشيباني عن أشعث عن سويد ابن غفلة عن البراء وهي رواية شاذة أخرجها الإسماعيلي. قوله: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض الحديث" تقدم في اللباس أنه ذكر في عدة مواضع لم يسقه بتمامه في أكثرها، وهذا الموضع مما ذكر فيه سبعا مأمورات وسبعا منهيات، والمراد منه هنا إفشاء السلام، وتقدم شرح عيادة المريض في الطب واتباع الجنائز فيه وعون المظلوم في كتاب المظالم وتشميت العاطس في أواخر الأدب وسيأتي إبرار القسم في كتاب الأيمان والنذور، وسبق شرح المناهي في الأشربة وفي اللباس، وأما نصر الضعيف المذكور هنا فسبق حكمه في كتاب المظالم، ولم يقع في أكثر الروايات في حديث البراء هذا، وإنما وقع بدله إجابة الداعي، وقد تقدم شرحه في كتاب الوليمة من كتاب النكاح. قال الكرماني: نصر الضعيف من جملة إجابة الداعي لأنه قد يكون ضعيفا وإجابته نصره، أو أن لا مفهوم للعدد المذكور وهو السبع فتكون المأمورات ثمانية، كذا قال؛ والذي يظهر لي أن إجابة الداعي سقطت من هذه الرواية، وأن نصر الضعيف المراد به عون المظلوم الذي ذكر في غير هذه الطريق، ويؤيد هذا الاحتمال أن البخاري حذف بعض المأمورات من غالب المواضع التي أورد الحديث فيها اختصارا. قوله: "وإفشاء السلام" تقدم في الجنائز بلفظ ورد السلام، ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء بلفظ آخر وهو عند المصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه رفعه: "أفشوا السلام تسلموا" وله شاهد من حديث أبي الدرداء مثله عند الطبراني، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما تحابون به؟ أفشوا السلام بينكم" قال ابن العربي: فيه أن من فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين، وكان ذلك لما فيه من ائتلاف الكلمة لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء

(11/18)


الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النفور إلى الإقبال على قائلها. وعن عبد الله بن سلام رفعه: "أطعموا الطعام وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وصححه الترمذي والحاكم، وللأولين وصححه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنان" والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة منها عند البزار من حديث الزبير وعند أحمد من حديث عبد الله بن الزبير وعند الطبراني من حديث ابن مسعود وأبي موسى وغيرهم، ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رفعه: "إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قال: "إن كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أسلم ويسلم علي" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق الطفيل بن أبي بن كعب عن ابن عمر نحوه لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري فاكتفى بما ذكره من حديث البراء، واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سرا بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه. وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف" ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم رد السلام وهو يصلي إشارة، منها حديث أبي سعيد "أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فرد عليه إشارة" ومن حديث ابن مسعود نحوه، وكذا من كان بعيدا بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: "يكره السلام باليد ولا يكره بالرأس" وقال ابن دقيق العيد: استدل بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، وفيه نظر إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين وهو أن يجب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه لما في ذلك من الحرج والمشقة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، قال: وإذا سقط على هذه الصورة لم يسقط الاستحباب لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن انتهى. وهذا البحث ظاهر في حق من قال إن ابتداء السلام فرض عين، وأما من قال فرض كفاية فلا يرد عليه إذا قلنا إن فرض الكفاية ليس واجبا على واحد بعينه، قال ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسلام كالكافر قلت: ويدل عليه قوله في الحديث المذكور قبل "إذا فعلتموه تحاببتم" والمسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبته ومواددته. وسيأتي البحث في ذلك في "باب التسليم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين"، وقد اختلف أيضا في مشروعية السلام على الفاسق وعلى الصبي، وفي سلام الرجل على المرأة وعكسه، وإذا جمع المجلس كافرا ومسلما هل يشرع السلام مراعاة لحق المسلمين؟ أو يسقط من أجل الكافر؟ وقد ترجم المصنف لذلك كله. وقال النووي يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلا بأكل أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء أو الحمام أو نائما أو ناعسا أو مصليا أو مؤذنا ما دام متلبسا بشيء مما ذكر، فلو لم تكن اللقمة في فم الآكل مثلا شرع السلام عليه، ويشرع في حق المتبايعين وسائر المعاملات، واحتج له ابن دقيق العيد بأن الناس غالبا يكونون في أشغالهم فلو روعي ذلك لم يحصل امتثال الإفشاء. وقال ابن دقيق العيد: احتج من منع السلام على من في الحمام بأنه بيت الشيطان وليس موضع التحية لاشتغال من فيه بالتنظيف، قال وليس هذا المعنى بالقوي في

(11/19)


الكراهة، بل يدل على عدم الاستحباب. قلت: وقد تقدم في كتاب الطهارة من البخاري "إن كان عليهم إزار فيسلم وإلا فلا" وتقدم البحث فيه هناك. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره فسلمت عليه" الحديث. قال النووي: وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عند من قال الإنصات واجب، ويجب عند من قال إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ. قال النووي: وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد، ثم قال: وأما من كان مشتغلا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه لأنه يتنكد به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل. وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن قطعه التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظا أن لو سلم عليه، قال: ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام إن كان مشتغلا بالبول ونحوه فيكره "وإن كان آكلا ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصليا لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح، فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب، وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا لأنه قدر يسير لا يبطل الموالاة. وقد تعقب والدي رحمه الله في نكته على الأذكار ما قاله الشيخ في القارئ لكونه يأتي في حقه نظير ما أبداه هو في الداعي، لأن القارئ قد يستغرق فكره في تدبر معاني ما يقرؤه، ثم اعتذر عنه بأن الداعي يكون مهتما بطلب حاجته فيغلب عليه التوجه طبعا، والقارئ إنما يطلب منه التوجه شرعا فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنه يوفق للحاجة العلية فهو على ندور انتهى. ولا يخفى أن التعليل الذي ذكره الشيخ من تنكد الداعي يأتي نظيره في القارئ، وما ذكره الشيخ في بطلان الصلاة إذا رد السلام بالخطاب ليس متفقا عليه، فعن الشافعي نص في أنه لا تبطل لأنه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدعاء، وإذا عذرنا الداعي والقارئ بعدم الرد فرد بعد الفراغ كان مستحبا. وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظاره الصلاة لا يشرع السلام عليهم، وإن سلم عليهم لم يجب الجواب، قال وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد. وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب الرد عليه، كذا قال. وهذا الأخير لا يوافق عليه. ويدخل في عموم إفشاء السلام، السلام على النفس لمن دخل مكانا ليس فيه أحد، لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر "فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وأخرج الطبري عن ابن عباس ومن طريق كل من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه، ويدخل فيه من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه فإنه يشرع له السلام ولا يتركه لهذا الظن لأنه قد يخطئ، قال النووي: وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببا لتأثيم الآخر فهو غباوة، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات. قال: وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة رد السلام واجب، فينبغي أن ترد ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك لأنه حق آدمي، ورجح ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" المقالة التي زيفها

(11/20)


النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه، ولا سيما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره.

(11/21)


9 - باب السَّلاَمِ لِلْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرِفَةِ
6236- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ :" تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ"
6237- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
قوله: "باب السلام للمعرفة وغير المعرفة" أي من يعرفه المسلم ومن لا يعرفه، أي لا يخص بالسلام من يعرفه دون من لا يعرفه. وصدر الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن مسعود أنه "مر برجل فقال السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فرد عليه ثم قال: إنه سيأتي على الناس زمان يكون السلام فيه للمعرفة" وأخرجه الطحاوي والطبراني والبيهقي في "الشعب" من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا ولفظه: "إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد لا يصلي فيه، وأن لا يسلم إلا على من يعرفه" ولفظ الطحاوي "إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة". حديث عبد الله بن عمر، قوله: "حدثني يزيد" هو ابن أبي حبيب كما ذكر في رواية قتيبة عن الليث في كتاب الإيمان. قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة وآخره دال مهملة والإسناد كله بصريون، وقد تقدم شرح الحديث في أوائل كتاب الإيمان، قال النووي معنى قوله: "على من عرفت ومن لم تعرف" تسلم على من لقيته ولا تخص ذلك بمن تعرف، وفي ذلك إخلاص العمل لله واستعمال التواضع وإفشاء السلام الذي هو شعار هذه الأمة قلت: وفيه من الفوائد أنه لو ترك السلام على من لم يعرف احتمل أن يظهر أنه من معارفه، فقد يوقعه في الاستيحاش منه، قال: وهذا العموم مخصوص بالمسلم، فلا يبتدئ السلام على كافر. قلت: قد تمسك به من أجاز ابتداء الكافر بالسلام، ولا حجة فيه لأن الأصل مشروعية السلام للمسلم فيحمل قوله: "من عرفت عليه" وأما "من لم تعرف" فلا دلالة فيه، بل إن عرف أنه مسلم فذاك وإلا فلو سلم احتياطا لم يمتنع حتى يعرف أنه كافر. وقال ابن بطال في مشروعية السلام على غير المعرفة استفتاح للمخاطبة للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش، ويشبه صدود المتهاجرين المنهي عنه. وأورد الطحاوي في "المشكل" حديث أبي ذر في قصة إسلامه وفيه: "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وقد صلى هو وصاحبه- فكنت أول من حياه بتحية الإسلام" قال الطحاوي وهذا لا ينافي حديث ابن مسعود في ذم السلام للمعرفة، لاحتمال أن يكون أبو ذر سلم على أبي بكر قبل

(11/21)


ذلك، أو لأن حاجته كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر.قلت: والاحتمال الثاني لا يكفي في تخصيص السلام، وأقرب منه أن يكون ذلك قبل تقرير الشرع بتعميم السلام، وقد ساق مسلم قصة إسلام أبي ذر بطولها ولفظه: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى فلما قضى صلاته قال أبو ذر: فكنت أول من حياه بتحية السلام فقال: وعليك ورحمة الله" الحديث وفي لفظ قال: "وصلى ركعتين خلف المقام فأتيته فإني لأول الناس حياه بتحية الإسلام فقال: وعليك السلام. من أنت"؟ وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو بكر توجه بعد الطواف إلى منزله ودخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فدخل عليه أبو ذر وهو وحده، ويزيده ما أخرجه مسلم، وقد تقدم للبخاري أيضا في المبعث من وجه آخر عن أبي ذر في قصة إسلامه أنه قام يلتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه ويكره أن يسأل عنه فرآه علي فعرفه أنه غريب، فاستتبعه حتى دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. حديث أبي أيوب "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه" الحديث تقدم شرحه في كتاب الأدب مستوفى، وهو متعلق بالركن الأول من الترجمة.

(11/22)


10 - باب آيَةِ الْحِجَابِ
6238- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا حَيَاتَهُ وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ وَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَيْ يَخْرُجُوا فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ ظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَظَنَّ أَنْ قَدْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا فَأُنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا
6239- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ دَخَلَ الْقَوْمُ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنْ الْقَوْمِ وَقَعَدَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ

(11/22)


قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ حِينَ قَامَ وَخَرَجَ وَفِيهِ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا"
6240- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْجُبْ نِسَاءَكَ قَالَتْ فَلَمْ يَفْعَلْ وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجْنَ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ عَرَفْتُكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الْحِجَابِ"
قوله: "باب آية الحجاب" أي الآية التي نزلت في أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب من الرجال. حديث أنس من وجهين عنه. وتقدم شرحه مستوفي في سورة الأحزاب، قوله في أول الطريق "عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك أنه قال كان" قال الكرماني فيه التفات أو تجريد، و قوله: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرا حياته" أي بقية حياته إلى أن مات، و قوله: "وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب" أي بسبب نزوله، وإطلاق مثل ذلك جائز للإعلام لا للإعجاب. و قوله: "وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه" فيه إشارة إلى اختصاصه بمعرفته، لأن أبي بن كعب أكبر منه علما وسنا وقدرا. وقوله في آخره: "فأنزل الله تعالى: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية" كذا اتفق عليه الرواة عن معتمر بن سليمان وخالفهم عمرو بن علي الفلاس عن معتمر فقال: "فأنزلت: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أخرجه الإسماعيلي وأشار إلى شذوذه فقال: "جاء بآية غير الآية التي ذكرها الجماعة". وقوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي، و قوله: "قال أبي" بفتح الهمزة وكسر الموحدة مخففا والقائل هو معتمر، ووقع في الرواية المتقدمة في سورة الأحزاب "سمعت أبي". قوله: "حدثنا أبو مجلز عن أنس" قد تقدم في "باب الحمد للعاطس" لسليمان التيمي حديث عن أنس بلا واسطة، وقد سمع من أنس عدة أحاديث، وروى عن أصحابه عنه عدة أحاديث، وفيه دلالة على أنه لم يدلس. قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "فيه" أي في حديث أنس هذا. قوله: "من الفقه أنه لم يستأذنهم حين قام وخرج، وفيه أنه تهيأ للقيام وهو يريد أن يقوموا" ثبت هذا كله للمستملي وحده هنا وسقط للباقين، وهو أولى فإنه أفرد لذلك ترجمة كما سيأتي بعد اثنين وعشرين بابا. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "أخبرنا يعقوب بن إبراهيم" أي ابن سعد الزهري. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان وقد سمع إبراهيم بن سعد الكثير من ابن شهاب ربما أدخل بينه وبينه واسطة كهذا. قوله: "كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك" تقدم شرحه مستوفي في كتاب الطهارة، وقوله في آخره: "قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب" فأنزل الله عز وجل الحجاب، ويجمع بينه وبين حديث أنس في نزول الحجاب بسبب قصة زينب أن عمر حرص على ذلك حتى قال لسودة ما قال، فاتفقت القصة للذين قعدوا في البيت في زواج زينب فنزلت الآية، فكان كل من الأمرين سببا لنزولها، وقد تقدم تقرير ذلك بزيادة فيه في تفسير سورة الأحزاب، وقد سبق إلى الجمع بذلك القرطبي: فقال: يحمل على أن عمر تكرر منه هذا القول قبل الحجاب

(11/23)


وبعده، ويحتمل أن بعض الرواة ضم قصة إلى أخرى. قال والأول أولى فإن عمر قامت عنده أنفة من أن يطلع أحد على حرم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يحجبهن، فلما نزل الحجاب كان قصده أن لا يخرجن أصلا فكان في ذلك مشقة فأذن لهن أن يخرجن لحاجتهن التي لا بد منها. قال عياض: خص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بستر الوجه والكفين، واختلف في ندبه في حق غيرهن، قالوا: فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، قال: ولا يجوز إبراز أشخاصهن وإن كن مستترات إلا فيما دعت الضرورة إليه من الخروج إلى البراز، وقد كن إذا حدثن جلسن للناس من وراء الحجاب وإذا خرجن لحاجة حجبن وسترن انتهى. وفي دعوى وجوب حجب أشخاصهن مطلقا إلا في حاجة البراز نظر، فقد كن يسافرن للحج وغيره ومن ضرورة ذلك الطواف والسعي وفيه بروز أشخاصهن، بل وفي حالة الركوب والنزول لا بد من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره. "تنبيه": حكى ابن التين عن الداودي أن قصة سودة هذه لا تدخل في باب الحجاب وإنما هي في لباس الجلابيب، وتعقب بأن إرخاء الجلابيب هو الستر عن نظر الغير إليهن وهو من جملة الحجاب.

(11/24)


11 - باب الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ
6241- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَا هُنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ :"لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ".
6242- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ
[الحديث 6242- طرفاه في 6889، 6900]
قوله: "باب الاستئذان من أجل البصر" أي شرع من أجله، لأن المستأذن لو دخل بغير إذن لرأى بعض ما يكره من يدخل إليه أن يطلع عليه، وقد ورد التصريح بذلك فيما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث ثوبان رفعه: "لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن فإن فعل فقد دخل" أي صار في حكم الداخل، وللأولين من حديث أبي هريرة بسند حسن رفعه: "إذا دخل البصر فلا إذن" وأخرج البخاري أيضا عن عمر من قوله: "من ملأ عينه من قاع بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق". قوله: "سفيان" قال الزهري كانت عادة سفيان كثيرا حذف الصيغة فيقول فلان عن فلان، لا يقول حدثنا ولا أخبرنا ولا عن، وقوله: "حفظته كما أنك هاهنا" هو قول سفيان وليس في ذلك تصريح بأنه سمعه من الزهري، لكن قد أخرج مسلم والترمذي الحديث المذكور من طرق عن سفيان فقالوا "عن الزهري" ورواه الحميدي وابن أبي عمر في مسنديهما عن سفيان فقالا "حدثنا الزهري" أخرجه أبو نعيم من طريق الحميدي والإسماعيلي من طريق ابن أبي

(11/24)


عمر، وقوله: "كما أنك هاهنا" أي حفظته حفظا كالمحسوس لا شك فيه. قوله: "عن سهل" في رواية الحميدي "سمعت سهل بن سعد" ويأتي في الديات من رواية الليث عن الزهري أن سهلا أخبره، وقد تقدم بعض هذا في كتاب اللباس ووعدت بشرحه في الديات، وقوله في هذه الرواية: "من جحر في حجر" الأول بضم الجيم وسكون المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط، وأصلها مكامن الوحش، والثاني بضم المهملة وفتح الجيم جمع حجرة وهي ناحية البيت. ووقع في رواية الكشميهني: "حجرة" بالإفراد. وقوله: "مدري يحك به" في رواية الكشميهني: "بها" والمدري تذكر وتؤنث. وقوله: "لو أعلم أنك تنتظر" كذا للأكثر بوزن تفتعل، وللكشميهني: "تنظر". و قوله: "من أجل البصر" وقع فيه عند أبي داود بسبب آخر من حديث سعد، كذا عنده مبهم، وهو عند الطبراني عن سعد بن عبادة "جاء رجل فقام على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن مستقبل الباب، فقال له: هكذا عنك، فإنما الاستئذان من أجل النظر" وأخرج أبو داود بسند قوي من حديث ابن عباس "كان الناس ليس لبيوتهم ستور فأمرهم الله بالاستئذان، ثم جاء الله بالخير فلم أر أحدا يعمل بذلك" قال ابن عبد البر: أظنهم اكتفوا بقرع الباب. وله من حديث عبد الله بن بسر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، وذلك أن الدور لم يكن عليها ستور" وقوله في حديث أنس "بمشقص أو مشاقص" بشين معجمة وقاف وصاد مهملة وهو شك من الراوي هل قاله شيخه بالإفراد أو بالجمع، والمشقص بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض. و قوله: "يختل" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر المثناة أي يطعنه وهو غافل، وسيأتي حكم من أصيبت عينه أو غيرها بسبب ذلك في كتاب الديات وهو مخصوص بمن تعمد النظر، وأما من وقع ذلك منه عن غير قصد فلا حرج عليه، ففي صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك" وقال لعلي "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الثانية" واستدل بقوله: "من أجل البصر" على مشروعية القياس والعلل، فإنه دل على أن التحريم والتحليل يتعلق بأشياء متى وجدت في شيء وجب الحكم عليه، فمن أوجب الاستئذان بهذا الحديث وأعرض عن المعنى الذي لأجله شرع لم يعمل بمقتضى الحديث، واستدل به على أن المرء لا يحتاج في دخول منزله إلى الاستئذان لفقد العلة التي شرع لأجلها الاستئذان، نعم لو احتمل أن يتجدد فيه ما يحتاج معه إليه شرع له، ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم لئلا تكون منكشفة العورة، وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن نافع "كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن" ومن طريق علقمة "جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها" ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغر "سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره" ومن طريق موسى بن طلحة "دخلت مع أبي على أمي فدخل واتبعته فدفع في صدري وقال: تدخل بغير إذن "؟ ومن طريق عطاء "سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم. قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة "؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة. وذكر الأصوليون هذا الحديث مثالا للتنصيص على العلة التي هي أحد أركان القياس.

(11/25)


12 - باب زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ

(11/25)


6343- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ح حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ"
[الحديث 6243- طرفه في 6612]
قوله: "باب زنا الجوارح دون الفرج" أي أن الزنا لا يختص إطلاقه بالفرج، بل يطلق على ما دون الفرج من نظر وغيره. وفيه إشارة إلى حكمة النهي عن رؤية ما في البيت بغير استئذان لتظهر مناسبته الذي قبله. قوله: "عن ابن طاوس" هو عبد الله، وفي مسند الحميدي عن سفيان "حدثنا عبد الله بن طاوس" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "لم أر شيئا أشبه باللمم من قول أبي هريرة" هكذا اقتصر البخاري على هذا القدر من طريق سفيان ثم عطف عليه رواية معمر عن ابن طاوس فساقه مرفوعا بتمامه، وكذا صنع الإسماعيلي فأخرجه من طريق ابن أبي عمر عن سفيان ثم عطف عليه رواية معمر، وهذا يوهم أن سياقهما سواء، وليس كذلك فقد أخرجه أبو نعيم من رواية بشر بن موسى عن الحميدي ولفظه: "سئل ابن عباس عن اللمم فقال: لم أر شيئا أشبه به من قول أبي هريرة: كتب على ابن آدم حظه من الزنا" وساق الحديث موقوفا، فعرف من هذا أن رواية سفيان موقوفة ورواية معمر مرفوعة، ومحمود شيخه فيه هو ابن غيلان، وقد أفرده عنه في كتاب القدر وعلقه فيه لورقاء عن ابن طاوس فلم يذكر فيه ابن عباس بين طاوس وأبي هريرة، فكأن طاوسا سمعه من أبي هريرة بعد ذكر ابن عباس له ذلك، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي، ولذلك قال: "والفرج يصدق ذلك ويكذبه" قال ابن بطال: استدل أشهب بقوله: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" على أن القاذف إذا قال زنت يدك لا يحد، وخالفه ابن القاسم فقال يحد، وهو قول للشافعي وخالفه بعض أصحابه، واحتج للشافعي فيما ذكر الخطابي بأن الأفعال تضاف للأيدي لقوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وليس المراد في الآيتين جناية الأيدي فقط بل جميع الجنايات اتفاقا فكأنه إذا قال زنت يدك وصف ذاته بالزنا لأن الزنا لا يتبعض ا ه. وفي التعليل الأخير نظر، والمشهور عند الشافعية أنه ليس صريحا.

(11/26)


باب التسليم و الا ستئذان ثلاثا
...
13 - باب التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِئْذَانِ ثَلاَثًا
6244- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا"
6245- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي

(11/26)


سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ" فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا"
قوله: "باب التسليم والاستئذان ثلاثا" أي سواء اجتمعا أو انفردا، وحديث أنس شاهد للأول وحديث أبي موسى شاهد للثاني، وقد ورد في بعض طرقه الجمع بينهما، واختلف هل السلام شرط في الاستئذان أو لا؟ فقال المازري: صلاة الاستئذان أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ ثم هو بالخيار أن يسمي نفسه أو يقتصر على التسليم، كذا قال، وسيأتي ما يعكر عليه في "باب إذا قال من ذا؟ فقال: أنا". قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث وعبد الله بن المثنى أي ابن عبد الله ابن أنس تقدم القول فيه في "باب من أعاد الحديث ثلاثا" في كتاب العلم، وقدم هنا السلام على الكلام وهناك بالعكس، وتقدم شرحه، وقول الإسماعيلي: إن السلام إنما يشرع تكراره إذا اقترن بالاستئذان، والتعقب عليه، وأن السلام وحده قد يشرع تكراره إذا كان الجمع كثيرا ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب، وبهذا جزم النووي في معنى حديث أنس، وكذا لو سلم وظن أنه لم يسمع فتسن الإعادة فيعيد مرة ثانية وثالثة ولا يزيد على الثالثة. وقال ابن بطال: هذه الصيغة تقتضي العموم ولكن المراد الخصوص وهو غالب أحواله، كذا قال، وقد تقدم من كلام الكرماني مثله وفيه نظر، و "كان" بمجردها لا تقتضي مداومة ولا تكثيرا، لكن ذكر الفعل المضارع بعدها يشعر بالتكرار. واختلف فيمن سلم ثلاثا فظن أنه لم يسمع، فعن مالك له أن يزيد حتى يتحقق، وذهب الجمهور وبعض المالكية إلى أنه لا يزيد اتباعا لظاهر الخبر. وقال المازري: اختلفوا فيما إذا ظن أنه لم يسمع هل يزيد على الثلاث؟ فقيل: لا، وقيل: نعم. وقيل: إذا كان الاستئذان بلفظ السلام لم يزد وإن كان بغير لفظ السلام زاد. قوله: "حدثنا يزيد بن خصيفة" بخاء معجمة وصاد مهملة وفاء مصغر، ووقع لمسلم عن عمرو الناقد "حدثنا سفيان حدثني والله يزيد بن خصيفة" وشيخه بسر بضم الموحدة وسكون المهملة، وقد صرح بسماعه من أبي سعيد في الرواية الثانية المعلقة. قوله: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار" في رواية مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان بسنده هذا إلى أبي سعيد قال: "كنت جالسا بالمدينة" وفي رواية الحميدي عن سفيان "إني لفي حلقة فيها أبي بن كعب" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور" في رواية عمرو الناقد "فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا" وزاد: "قلنا ما شأنك؟ فقال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه". قوله: "فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت" في رواية مسلم: "فسلمت على بابه ثلاثا فلم يردوا علي فرجعت" وتقدم في البيوع من طريق عبيد بن عمير "أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب فلم

(11/27)


يؤذن له وكأنه كان مشغولا، فرجع أبو موسى، ففزع عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له. قيل إنه رجع" وفي رواية بكير بن الأشج عن بسر عند مسلم: "استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئت اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت، قال قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال استأذنت كما سمعت" وله من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد "أن أبا موسى أتى باب عمر فاستأذن، فقال عمر واحدة ثم استأذن فقال عمر ثنتان ثم استأذن فقال عمر ثلاث ثم انصرف فاتبعه فرده" وله من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة "جاء أبو موسى إلى عمر فقال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف. فقال: ردوه علي" وظاهر هذين السياقين التغاير، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال. وقد وقع في رواية لمالك في الموطأ "فأرسل في أثره" ويجمع بينهما بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه فأرسل إليه فلم يجده الرسول في ذلك الوقت وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني. قوله: "فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي" في رواية عبيد بن حنين عن أبي موسى عند البخاري في الأدب المفرد "فقال: يا عبد الله اشتد عليك أن تحتبس على بابي؟ أعلم أن الناس كذلك يشتد عليهم أن يحتبسوا على بابك، فقلت بل استأذنت إلخ" وفي هذه الزيادة دلالة على أن عمر أراد تأديبه لما بلغه أنه قد يحتبس على الناس في حال إمرته، وقد كان عمر استخلفه على الكوفة، مع ما كان عمر فيه من الشغل. قوله: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" وقع في رواية عبيد بن عمير "كنا نؤمر بذلك" وفي رواية عبيد بن حنين عن أبي موسى "فقال عمر ممن سمعت هذا؟ قلت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي نضرة "إن هذا شيء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال والله لتقيمن عليه بينة" زاد مسلم: "وإلا أوجعتك". وفي رواية بكير بن الأشج "فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا" وفي رواية عبيد بن عمير لتأتيني على ذلك بالبينة. وفي رواية أبي نضرة "وإلا جعلتك عظة". قوله: "أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبيد بن عمير "فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم" وفي رواية أبي نضرة فقال: "ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الاستئذان ثلاث؟ قال فجعلوا يضحكون، فقلت أتاكم أخوكم وقد أفزع فتضحكون. قوله: "فقال أبي" هو ابن كعب وهو في رواية مسلم كذلك. قوله: "لا يقوم معي إلا أصغر القوم" في رواية بكير بن الأشج "فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا، قم يا أبا سعيد". قوله: "فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك" في رواية مسلم: "فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت" وفي رواية أبي نضرة "فقال أبو سعيد: انطلق، وأنا شريكك في هذه العقوبة" وفي رواية بكير ابن الأشج "فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا" واتفق الرواة على أن الذي شهد لأبي موسى عند عمر أبو سعيد، إلا ما عند البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عبيد ابن حنين فإن فيه: "فقام معي أبو سعيد الخدري أو أبو مسعود إلى عمر" هكذا بالشك. وفي رواية لمسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة في هذه القصة "فقال عمر إن وجد بينه تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلن تجدوه، فلما أن جاء بالعشي وجده قال: يا أبا موسى ما تقول، أقد وجدت؟ قال: نعم أبي بن كعب، قال: عدل. قال: يا أبا الطفيل - وفي لفظ له يا أبا المنذر - ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك

(11/28)


يا ابن الخطاب، فلا تكون عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله، أنا سمعت شيئا فأحببت أن أثبت" هكذا وقع في هذه الطريق، وطلحة بن يحيى فيه ضعف، ورواية الأكثر أولى أن تكون محفوظة، ويمكن الجمع بأن أبي بن كعب جاء بعد أن شهد أبو سعيد. وفي رواية عبيد بن حنين التي أشرت إليها في "الأدب المفرد" زيادة مفيدة وهي أن أبا سعيد أو أبا مسعود قال لعمر "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يريد سعد بن عبادة حتى أتاه فسلم فلم يؤذن له ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ثم سلم الثالثة فلم يؤذن له فقال: قضينا ما علينا ثم رجع، فأذن له سعد" الحديث، فثبت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله. وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد ابن عبادة مطولة بمعناه، وأحمد من طريق ثابت عن أنس أو غيره كذا فيه، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد، واتفق الرواة على أن أبا سعيد حدث بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحكى قصة أبي موسى عنه إلا ما أخرجه مالك في الموطأ عن الثقة عن بكير بن الأشج عن بسر عن أبي سعيد عن أبي موسى بالحديث مختصرا دون القصة، وقد أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن بكير بطوله وصرح في روايته بسماع أبي سعيد له من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا وقع في رواية أخرى عنده "فقال أبو موسى إن كان سمع ذلك منكم أحد فليقم معي، فقالوا لأبي سعيد قم معه" وأغرب الداودي فقال: روى أبو سعيد حديث الاستئذان عن أبي موسى وهو يشهد له عند عمر فأدى إلى عمر ما قال أهل المجلس، وكأنه نسي أسماءهم بعد ذلك فحدث به عن أبي موسى وحده لكونه صاحب القصة. وتعقبه ابن التين بأنه مخالف لما في رواية الصحيح لأنه قال: "فأخبرت عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله". قلت: وليس ذلك صريحا في رد ما قال الداودي. وإنما المعتمد في التصريح بذلك رواية عمرو بن الحارث وهي من الوجه الذي أخرجه منه مالك، والتحقيق أن أبا سعيد حكى قصة أبي موسى عنه بعد وقوعها بدهر طويل، لأن الذين رووها عنه لم يدركوها، ومن جملة قصة أبي موسى الحديث المذكور، فكأن الراوي لما اختصرها واقتصر على المرفوع خرج منها أن أبا سعيد ذكر الحديث المذكور عن أبي موسى وغفل عما في آخرها من رواية أبي سعيد المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، وهذا من آفات الاختصار، فينبغي لمن اقتصر على بعض الحديث أن يتفقد مثل هذا وإلا وقع في الخطأ وهو كحذف ما للمتن به تعلق، وتختلف الدلالة بحذفه؛ وقد اشتد إنكار ابن عبد البر على من زعم أن هذا الحديث إنما رواه أبو سعيد عن أبي موسى وقال إن الذي وقع في الموطأ لهما هو من النقلة لاختلاط الحديث عليهم. وقال في موضع آخر: ليس المراد أن أبا سعيد روى هذا الحديث عن أبي موسى، وإنما المراد عن أبي سعيد أن قصة أبي موسى والله أعلم. وممن وافق أبا موسى على رواية الحديث المرفوع جندب بن عبد الله أخرجه الطبراني عنه بلفظ: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع". قوله: "وقال ابن المبارك" هو عبد الله، وابن عيينة هو سفيان المذكور في الإسناد الأول، وأراد بهذا التعليق بيان سماع بسر له من أبي سعيد، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الحسن بن سفيان حدثنا حبان ابن موسى حدثنا عبد الله بن المبارك، وكذا وقع التصريح به عند مسلم عن عمرو الناقد، وأخرجه الحميدي عن سفيان. حدثنا يزيد بن خصيفة سمعت بسر بن سعيد يقول حدثني أبو سعيد" وقد استشكل ابن العربي إنكار عمر على أبي موسى حديثه المذكور مع كونه وقع له مثل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ابن عباس الطويل في هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في المشربة، فإن فيه أن عمر استأذن مرة بعد مرة فلما لم يؤذن له في الثالثة رجع حتى جاءه الإذن

(11/29)


وذلك بين في سياق البخاري، قال: والجواب عن ذلك أنه لم يقض فيه بعلمه، أو لعله نسى ما كان وقع له. ويؤيده قوله: "شغلني الصفق بالأسواق". قلت: والصورة التي وقعت لعمر ليست مطابقة لما رواه أبو موسى، بل استأذن في كل مرة فلم يؤذن له فرجع فلما رجع في الثالثة استدعى فأذن له، ولفظ البخاري الذي أحال عليه ظاهر فيما قلته، وقد استوفيت طرقه عند شرح الحديث في أواخر النكاح، وليس فيه ما ادعاه. وتعلق بقصة عمر من زعم أنه كان لا يقبل خبر الواحد، ولا حجة فيه لأنه قبل خبر أبي سعيد المطابق لحديث أبي موسى ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد، واستدل به من ادعى أن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره كما في الشهادة، قال ابن بطال: وهو خطأ من قائله وجهل بمذهب عمر، فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى "أما إني لم أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلت: وهذه الزيادة في الموطأ عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أن أبا موسى...فذكر القصة وفي آخره: "فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية عبيد بن حنين التي أشرت إليها آنفا "فقال عمر لأبي موسى والله إن كنت لأمينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحببت أن أستثبت" ونحوه في رواية أبي بردة حين قال أبي بن كعب لعمر "لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحان الله، إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت" قال ابن بطال: فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره، وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها وأخذ الجزية من المجوس إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك. وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة طلبا للمخرج مما يدخل فيه، فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج. وادعى بعضهم أن عمر لم يعرف أبا موسى، قال ابن عبد البر: وهو قول خرج بغير رؤية من قائله ولا تدبر، فإن منزلة أبي موسى عند عمر مشهورة. وقال ابن العربي: اختلف في طلب عمر من أبي موسى البينة على عشرة أقوال فذكرها، وغالبها متداخل، ولا تزيد على ما قدمته. واستدل بالخبر المرفوع على أنه لا تجوز الزيادة في الاستئذان على الثلاث، قال ابن عبد البر: فذهب أكثر أهل العلم إلى ذلك وقال بعضهم: إذا لم يسمع فلا بأس أن يزيد. وروى سحنون عن ابن وهب عن مالك: لا أحب أن يزيد على الثلاث إلا من علم أنه لم يسمع. قلت: وهذا هو الأصح عند الشافعية. قال ابن عبد البر: وقيل تجوز الزيادة مطلقا بناء على أن الأمر بالرجوع بعد الثلاث للإباحة والتخفيف عن المستأذن، فمن استأذن أكثر فلا حرج عليه قال: الاستئذان أن يقول السلام عليكم أأدخل؟ كذا قال، ولا يتعين هذا اللفظ. وحكى ابن العربي إن كان بلفظ الاستئذان لا يعيد وإن كان بلفظ آخر أعاد، قال: والأصح لا يعيد، وقد تقدم ما حكاه المازري في ذلك. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي العالية قال: أتيت أبا سعيد فسلمت فلم يؤذن لي ثم سلمت فلم يؤذن لي فتنحيت ناحية فخرج علي غلام فقال: ادخل، فدخلت فقال لي أبو سعيد: أما إنك لو زدت -يعني على الثلاث- لم يؤذن لك. واختلف في حكمة الثلاث فروى ابن أبي شيبة من قول علي بن أبي طالب: الأولى إعلام، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة إما أن يؤذن له وإما أن يرد. قلت: ويؤخذ من صنيع أبي موسى حيث ذكر اسمه أولا وكنيته ثانيا ونسبته ثالثا أن الأولى هي الأصل والثانية إذا جوز أن يكون التبس على من استأذن عليه والثالثة إذا

(11/30)


غلب على ظنه أنه عرفه، قال ابن عبد البر: وذهب بعضهم إلى أن أصل الثلاث في الاستئذان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} قال: وهذا غير معروف في تفسيرها. وإنما أطبق الجمهور على أن المراد بالمرات الثلاث الأوقات. قلت: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حبان قال: "بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا طعاما، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا، إنه ليدخل على المرأة وزوجها غلامهما وهما في ثوب واحد بغير إذن، فنزلت" وأخرج أبو داود وابن أبي حاتم بسند قوي من حديث ابن عباس أنه سئل عن الاستئذان في العورات الثلاث فقال: إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده وهو على أهله فأمروا أن يستأذنوا في العورات الثلاث. ثم بسط الله الرزق فاتخذوا الستور والحجال فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم الله به مما أمروا به. ومن وجه آخر صحيح عن ابن عباس: لم يعمل بها أكثر الناس، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن علي. وفي الحديث أيضا أن لصاحب المنزل إذا سمع الاستئذان أن لا يأذن سواء سلم مرة أم مرتين أم ثلاثا إذا كان في شغل له ديني أو دنيوي يتعذر بترك الإذن معه للمستأذن. وفيه أن العالم المتبحر قد يخفى عليه من العلم ما يعلمه من هو دونه ولا يقدح ذلك في وصفه بالعلم والتبحر فيه. قال ابن بطال: وإذا جاز ذلك على عمر فما ظنك بمن هو دونه. وفيه أن لمن تحقق براءة الشخص مما يخشى منه وأنه لا يناله بسبب ذلك مكروه أن يمازحه ولو كان قبل إعلامه بما يطمئن به خاطره مما هو فيه، لكن بشرط أن لا يطول الفصل لئلا يكون سببا في إدامة تأذي المسلمين بالهم الذي وقع له كما وقع للأنصار مع أبي موسى، وأما إنكار أبي سعيد عليهم فإنه اختار الأولى وهو المبادرة إلى إزالة ما وقع فيه قبل التشاغل بالممازحة.

(11/31)


14 - باب إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ
قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هُوَ إِذْنُهُ"
6246- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ و حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا"
قوله: "باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن"؟ يعني أو يكتفي بقرينة الطلب. قوله: "وقال سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هو إذنه" كذا للأكثر ووقع للكشميهني: "وقال شعبة" والأول هو المحفوظ. وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" وأبو داود من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة وأخرجه البيهقي من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن ابن أبي عروبة، ولفظ البخاري "إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فهو إذنه" ولفظ أبي داود مثله وزاد: "إلى طعام" قال أبو داود لم يسمع قتادة من أبي رافع، كذا في اللؤلؤي عن أبي داود ولفظه في رواية أبي الحسن بن العبد يقال لم يسمع قتادة من أبي رافع شيئا. كذا قال، وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أبا

(11/31)


رافع حدثه، وللحديث مع ذلك متابع أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود قال: "إذا دعي الرجل فهو إذنه" وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا.
واعتمد المنذري على كلام أبي داود فقال: أخرجه البخاري تعليقا لأجل الانقطاع، كذا قال، ولو كان عنده منقطعا لعلقه بصيغة التمريض كما هو الأغلب من صنيعه، وهو غالبا يجزم إذا صح السند إلى من علق عنه كما قال في الزكاة "وقال طاوس قال معاذ" فذكر أثرا وطاوس لم يدرك معاذا. وكذا إذا كان فوق من علق عنه من ليس على شرطه كما قال في الطهارة "وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده" وحيث وقع فيما طواه من ليس على شرطه مرضه كما قال في النكاح "ويذكر عن معاوية بن حيدة"، فذكر حديثا، ومعاوية هو جد بهز بن حكيم، وقد أوضحت ذلك في المقدمة. ثم أورد المصنف طرفا من حديث مجاهد عن أبي هريرة قال: "دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح فقال: أبا هر، الحق أهل الصفة فادعهم إلي. قال: فأتيهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فدخلوا" أقتصر منه على هذا القدر لأنه الذي أحتاج إليه هنا، وساقه في الرقاق بتمامه كما سيأتي، وظاهره يعارض الحديث الأول ومن ثم لم يجزم بالحكم. وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين: إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن. وقال ابن التين: لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله، والثاني بخلافه. قال: والاستئذان على كل حال أحوط. وقال غيره: إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول, ويكفيه سلام الملاقاة، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان. وبهذا جمع الطحاوي، واحتج بقوله في الحديث الثاني "فأقبلوا فاستأذنوا" فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم وإلا لقال فأقبلنا، كذا قال.

(11/32)


15 - باب التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبْيَانِ
6247- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ"
قوله: "باب التسليم على الصبيان" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر وكأنه ترجم بذلك للرد على من قال لا يشرع لأن الرد فرض وليس الصبي من أهل الفرض. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أشعث قال: كان الحسن لا يرى التسليم على الصبيان، وعن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولا يسمعهم. قوله: "عن سيار" بفتح المهملة وتشديد التحتانية هو أبو الحكم مشهور باسمه وكنيته معا فيجيء غالبا هكذا عن سيار أبي الحكم، وهو عنزي بفتح المهملة والنون بعدها زاي واسطي من طبقة الأعمش، وتقدمت وفاته على وفاة شيخه ثابت البناني بسنة وقيل أكثر، وليس له في الصحيحين عن ثابت إلا هذا الحديث. وقال البزار: لم يسند سيار عن ثابت غيره. قلت: ورواية شعبة عنه من رواية الأقران، وقد حدث شعبة عن ثابت نفسه بعدة أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه فأدخل بينهما واسطة. وقد روى شعبة أيضا عن آخر اسمه سيار وهو ابن سلامة أبو المنهال وليس هو المراد هنا، ولم نقف له على رواية عن ثابت. وأخرج النسائي حديث الباب من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت

(11/32)


بأتم من سياقه ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار فيسلم على صبيانهما ويمسح على رءوسهم ويدعو لهم" وهو مشعر بوقوع ذلك منه غير مرة، بخلاف سياق الباب حيث قال: "مر على صبيان فسلم عليهم" فإنها تدل على أنها واقعة حال، ولم أقف على أسماء الصبيان المذكورين، وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت بلفظ: "غلمان" بدل صبيان، ووقع لابن السني وأبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من طريق عثمان بن مطر عن ثابت بلفظ: "فقال السلام عليكم يا صبيان" وعثمان واه. ولأبي داود من طريق حميد عن أنس "انتهى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا، فأرسلني برسالة" الحديث، وسيأتي في "باب حفظ السر" وللبخاري في "الأدب المفرد" نحوه من هذا الوجه ولفظه: "ونحن صبيان فسلم علينا، وأرسلني في حاجة، وجلس في الطريق ينتظرني حتى رجعت" قال ابن بطال: في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة. وفيه طرح الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع ولين الجانب. قال أبو سعيد المتولي في "التتمة" من سلم على صبي لم يجب عليه الرد لأن الصبي ليس من أهل الفرض، وينبغي لوليه أن يأمره بالرد ليتمرن على ذلك، ولو سلم على جمع فيهم صبي فرد الصبي دونهم لم يسقط عنهم الفرض، وكذا قال شيخه القاضي حسين، ورده المستظهري. وقال النووي: الأصح لا يجزئ، ولو ابتدأ الصبي بالسلام وجب على البالغ الرد على الصحيح. قلت: ويستثنى من السلام على الصبي ما لو كان وضيئا وخشي من السلام عليه الافتتان فلا يشرع ولا سيما إن كان مراهقا منفردا.

(11/33)


باب تسليم الرجال على النساء , و النساء على الرجال
...
16 - باب تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ
6248- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ "كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قُلْتُ وَلِمَ قَالَ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
6249- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ قَالَتْ قُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَرَى مَا لاَ نَرَى تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَقَالَ يُونُسُ وَالنُّعْمَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ "وَبَرَكَاتُهُ"
قوله: "باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال" أشار بهذه الترجمة إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال. وهو مقطوع أو معضل. والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة. وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما. وورد فيه حديث ليس على شرطه، وهو حديث أسماء بنت يزيد "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا" حسنه الترمذي وليس على شرط البخاري فاكتفى بما هو على شرطه. وله شاهد من حديث جابر عند أحمد. وقال الحليمي: كان

(11/33)


النبي صلى الله عليه وسلم للعصمة مأمونا من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم وإلا فالصمت أسلم. وأخرج أبو نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث واثلة مرفوعا: "يسلم الرجال على النساء ولا تسلم النساء على الرجال" وسنده واه ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفا عليه وسنده جيد، وثبت في مسلم حديث أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه". قوله: "ابن أبي حازم" هو عبد العزيز، واسم أبي حازم سلمة بن دينار. قوله: "كنا نفرح يوم الجمعة" في رواية الكشميهني بيوم بزيادة موحدة في أوله، وتقدم في الجمعة من وجه آخر عن أبي حازم بلفظ: "كنا نتمنى يوم الجمعة" وذكر سبب الحديث ثم قال في آخره: "كنا نفرح بذلك". قوله: "قلت لسهل ولم"؟ بكسر اللام للاستفهام، والقائل هو أبو حازم راوي الحديث والمجيب هو سهل. قوله: "كانت لنا عجوز" في الجمعة "امرأة" ولم أقف على اسمها. قوله: "ترسل إلى بضاعة" بضم الموحدة على المشهور وحكى كسرها وبتخفيف المعجمة وبالعين المهملة وذكره بعضهم بالصاد المهملة. قوله: "قال ابن مسلمة نخل بالمدينة" القائل هو عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري فيه وهو القعنبي، وفسر بضاعة بأنها نخل بالمدينة، والمراد بالنخل البستان، ولذلك كان يؤتي منها بالسلق، وقد تقدم في كتاب الجمعة أنه كانت مزرعة للمرأة المذكورة، وفسرها غيره بأنها دور بني ساعدة، وبها بئر مشهورة وبها مال من أموال المدينة، كذا قال عياض ومراده بالمال البستان وقال الإسماعيلي: في هذا الحديث بيان أن بئر بضاعة بئر بستان، فيدل على أن قول أبي سعيد في حديثه يعني الذي أخرجه أصحاب السنن أنها كانت تطرح فيها خرق الحيض وغيرها أنها كانت تطرح في البستان فيجريها المطر ونحوه إلى البئر. قلت: وذكر أبو داود "السنن" أنه رأى بئر بضاعة وزرعها ورأى ماءها وبسط ذلك في كتاب الطهارة من سننه، وادعى الطحاوي أنها كانت سيحا وروى ذلك عن الواقدي، وليس هذا موضع استيعاب ذلك. قوله: "في قدر" في رواية الكشميهني في القدر "وتكركر" أي تطحن كما تقدم في الجمعة، قال الخطابي: الكركرة الطحن والجش. وأصله الكر، وضوعف لتكرار عود الرحى في الطحن مرة أخرى، وقد تكون الكركرة بمعنى الصوت كالجرجرة، والكركرة أيضا شدة الصوت للضحك حتى يفحش وهو فوق القرقرة. قوله: "حبات من شعير" بين في الرواية التي في الجمعة أنها قبضة، وقد تقدمت بقية شرحه هناك. قوله: "ابن مقاتل" هو محمد وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام" تقدم شرحه في المناقب، وحكى ابن التين أن الداودي اعترض فقال: لا يقال للملائكة رجال، ولكن الله ذكرهم بالتذكير. والجواب أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على صورة الرجل، كما تقدم في بدء الوحي وقال ابن بطال عن المهلب: سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سدا للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقا. وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، قالوا ويستثنى المحرم فيجوز لها السلام على محرمها. قال المهلب: وحجة مالك حديث سهل في الباب، فإن الرجال الذين كانوا يزورونها وتطعمهم لم يكونوا من محارمها انتهى. وقال المتولي: إن كان للرجل زوجة أو محرم أو أمة فكالرجل مع الرجل، وإن كانت أجنبية نظر: إن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يشرع السلام لا ابتداء ولا جوابا، فلو ابتدأ أحدهما كره للآخر الرد، وإن كانت عجوزا لا يفتتن بها جاز. وحاصل الفرق بين هذا وبين المالكية التفصيل في الشابة بين الجمال وعدمه، فإن الجمال مظنة الافتتان,

(11/34)


بخلاف مطلق الشابة. فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة. قوله: "تابعه شعيب. وقال يونس والنعمان عن الزهري: وبركاته" أما متابعة شعيب فوصلها المؤلف في الرقاق، وأما زيادة يونس وهو ابن يزيد فتقدم في الحديث بتمامه موصولا في كتاب المناقب، وأما متابعة النعمان وهو ابن رشد فوصلها الطبراني في الكبير، ووقعت لنا بعلو في "جزء هلال الحفار" قال الإسماعيلي: قد أخرجنا فيه من حديث ابن المبارك "وبركاته" وكان ساقه من طريق أبي إبراهيم البناني ومن طريق حبان بن موسى كلاهما عن ابن المبارك وكذا قال عقيل وعبيد الله بن أبي زياد عن الزهري.

(11/35)


17 - باب إِذَا قَالَ مَنْ ذَا فَقَالَ أَنَا
6250- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ "قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ ذَا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ أَنَا أَنَا كَأَنَّهُ كَرِهَهَا"
قوله: "باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، وكأنه لم يجزم بالحكم لأن الخبر ليس صريحا في الكراهة. قوله: "عن محمد بن المنكدر" في رواية الإسماعيلي: "عن أحمد بن محمد بن منصور وغيره عن علي بن الجعد شيخ البخاري فيه عن شعبة أخبرني محمد بن المنكدر عن جابر". قوله: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي" تقدم بيانه في كتاب البيوع من وجه آخر مطولا. قوله: "فدققت" بقافين للأكثر، وللمستملي والسرخسي "فدفعت" بفاء وعين مهملة. وفي رواية الإسماعيلي: "فضربت الباب" وهي تؤيد رواية فدققت بالقافين، وله من وجه آخر وهي عند مسلم: "استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم" ولمسلم في أخرى "دعوت النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقلت: أنا. فقال: أنا أنا. كأنه كرهها" وفي رواية لمسلم: "فخرج وهو يقول أنا أنا" وفي أخرى "كأنه كره ذلك" ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة "كره ذلك" بالجزم. قال المهلب: إنما كره قول أنا لأنه ليس فيه بيان إلا أن كان المستأذن ممن يعرف المستأذن عليه صوته ولا يلتبس بغيره، والغالب الالتباس. وقيل إنما كره ذلك لأن جابرا لم يستأذن بلفظ السلام، وفيه نظر لأنه ليس في سياق حديث جابر أنه طلب الدخول، وإنما جاء في حاجته فدق الباب ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئه، فلذلك خرج له. وقال الداودي إنما كرهه لأنه أجابه بغير ما سأله عنه، لأنه لما ضرب الباب عرف أن ثم ضاربا، فلما قال أنا كأنه أعلمه أن ثم ضاربا فلم يزده على ما عرف من ضرب الباب، قال: وكان هذا قبل نزول آية الاستئذان. قلت: وفيه نظر لأنه لا تنافي بين القصة وبين ما دلت عليه الآية، ولعله رأى أن الاستئذان ينوب عن ضرب الباب وفيه نظر لأن الداخل قد يكون لا يسمع الصوت بمجرده فيحتاج إلى ضرب الباب ليبلغه صوت الدق فيقرب أو يخرج فيستأذن عليه حينئذ، وكلامه الأول سبقه إليه الخطابي فقال: قوله: "أنا" لا يتضمن الجواب ولا يفيد العلم بما استعمله وكان حق الجواب أن يقول أنا جابر ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه. وقد أخرج المصنف في "الأدب المفرد" وصححه الحاكم من حديث بريدة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ. قال فجئت فقال: من هذا؟ قلت: أنا بريدة" وتقدم حديث أم هانئ "جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أنا أم هانئ" الحديث في صلاة الضحى، قال

(11/35)


النووي: إذا لم يقع التعريف إلا بأن يكني المرء نفسه لم يكره ذلك، وكذا لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان أو القارئ فلان أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا بذلك.وذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول "أنا" أن فيها نوعا من الكبر، كأن قائلها يقول أنا الذي لا أحتاج أذكر اسمي ولا نسبي.
وتعقبه مغلطاي بأن هذا لا يتأتى في حق جابر في مثل هذا المقام. وأجيب بأنه ولو كان كذلك فلا يمنع من تعليمه ذلك لئلا يستمر عليه ويعتاده والله أعلم. قال ابن العربي: في حديث جابر مشروعية دق الباب، ولم يقع في الحديث بيان هل كان بآلة أو بغير آلة. قلت: وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس "أن أبواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير" وأخرجه الحاكم في "علوم الحديث" من حديث المغيرة بن شعبة، وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حسن لمن قرب محله من بابه، أما من بعد عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه.وذكر السهيلي أن السبب في قرعهم بابه بالأظافير أن بابه لم يكن فيه حلق فلأجل ذلك فعلوه، والذي يظهر أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك توقيرا وإجلالا وأدبا.

(11/36)


باب من رد فقال : عليك السلام . وقالت عائشة : وعلية السلام وحمة الله وبركاته.....
...
18 - باب مَنْ رَدَّ فَقَالَ عَلَيْكَ السَّلاَمُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَدَّ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى آدَمَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" .
6251- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ :" إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الأَخِيرِ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا" .
6252- حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا"
قوله: "باب من رد فقال: عليك السلام" يحتمل أن يكون أشار إلى من قال: لا يقدم على لفظ السلام شيء، بل يقول في الابتداء والرد: السلام عليك، أو من قال لا يقتصر على الإفراد بل يأتي بصيغة الجمع، أو من قال لا يحذف الواو بل يجيب بواو العطف فيقول: "وعليك السلام"، أو من قال يكفي في الجواب أن يقتصر على "عليك" بغير لفظ السلام، أو من قال لا يقتصر على "عليك السلام" بل يزيد "ورحمة الله". وهذه خمسة

(11/36)


مواضع جاءت فيها آثار تدل عليها، فأما الأول فيؤخذ من الحديث الماضي "أن السلام اسم الله" فينبغي أن لا يقدم على اسم الله شيء، نبه عليه ابن دقيق العيد، ونقل عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال: "عليك السلام" لم يجزئ. وذكر النووي عن المتولي أن من قال في الابتداء "وعليكم السلام" لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، وتعقبه بالرد فإنه يشرع بتقديم لفظ عليكم، قال النووي فلو أسقط الواو فقال عليكم السلام قال الواحدي فهو سلام، ويستحق الجواب، وإن كان قلب اللفظ المعتاد. هكذا جعل النووي الخلاف في إسقاط الواو وإثباتها، والمتبادر أن الخلاف في تقديم عليكم على السلام كما يشعر به كلام الواحدي. قال النووي: ويحتمل وجهين كالوجهين في التحلل بلفظ عليكم السلام، والأصح الحصول. ثم ذكر حديث أبي جري وقد تقدم الكلام عليه في الباب الأول، وأما الثاني فأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق معاوية بن قرة قال: قال لي أبي قرة بن إياس المزني الصحابي: إذا مر بك الرجل فقال السلام عليكم، فلا تقل وعليك السلام فتخصه وحده، فإنه ليس وحده. وسنده صحيح. ومن فروع هذه المسألة لو وقع الابتداء بصيغة الجمع فإنه لا يكفي الرد بصيغة الإفراد، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم فلا يكون امتثل الرد بالمثل فضلا عن الأحسن، نبه عليه ابن دقيق العيد. وأما الثالث فقال النووي: اتفق أصحابنا أن المجيب لو قال: "عليك" بغير واو لم يجزئ، وإن قال بالواو فوجهان. وأما الرابع فأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان إذا سلم عليه يقول: "وعليك ورحمة الله" وقد ورد مثل ذلك في أحاديث مرفوعة سأذكرها في "باب كيف الرد على أهل الذمة". وأما الخامس فتقدم الكلام عليه في الباب الأول. قوله: "وقالت عائشة: وعليه السلام ووحمة الله وبركاته" هذا طرف من حديث تقدم ذكره قريبا في "باب تسليم الرجال والنساء" وفيه بيان من زاد فيه: "وبركاته". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: رد الملائكة على آدم السلام عليك ورحمة الله" هذا طرف من الحديث الآخر الذي تقدم في أول كتاب الاستئذان، وجزم المصنف بهذا اللفظ مما يقوي رواية الأكثر بخلاف رواية الكشميهني. قوله: "عبيد الله" هو ابن عمر بن حفص العمري. قوله: "عن أبي هريرة" قد قال فيه بعض الرواة "عن أبيه عن أبي هريرة" وهي رواية يحيى القطان المذكورة في آخر الباب، وبينت في كتاب الصلاة أي الروايتين أرجح. قوله: "أن رجلا دخل المسجد" الحديث في قصة المسيء صلاته، والغرض منه قوله فيه: "ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: وعليك السلام، ارجع" وتقدم في الصلاة بلفظ: "فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أخرى "فقال وعليك" وسقط ذلك أصلا من الرواية الآتية في الأيمان والنذور، وقد تقدم ما فيه مع بقية شرحه مستوفى في "باب أمر الذي لا يتم ركوعه بالإعادة" من كتاب الصلاة. قوله: "وقال أبو أسامة في الأخير: حتى تستوي قائما" وصل المصنف رواية أبي أسامة هذه في كتاب الأيمان والنذور كما سيأتي، وقد بينت في صفة الصلاة النكتة في اقتصار البخاري على هذه اللفظة من هذا الحديث. وحاصله أنه وقع هنا في الأخير "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" فأراد البخاري أن يبين أن راويها خولف فذكر رواية أبي أسامة مشيرا إلى ترجيحها. وأجاب الداودي عن أصل الإشكال بأن الجالس قد يسمى قائما لقوله تعالى: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً}. وتعقبه ابن التين بأن التعليم إنما وقع لبيان ركعة واحدة والذي يليها هو القيام، يعني فيكون قوله حتى تستوي قائما هو المعتمد، وفيه نظر لأن الداودي عرف ذلك وجعل القيام محمولا على الجلوس واستدل بالآية، والإشكال إنما وقع في قوله في الرواية الأخرى "حتى تطمئن جالسا"

(11/37)


وجلسة الاستراحة على تقدير أن تكون مرادة لا تشرع الطمأنينة فيها، فلذلك احتاج الداودي إلى تأويله، لكن الشاهد الذي أتى به عكس المراد، والمحتاج إليه هنا أن يأتي بشاهد يدل على أن القيام قد يسمى جلوسا، وفي الجملة المعتمد للترجيح كما أشار إليه البخاري وصرح به البيهقي، وجوز بعضهم أن يكون المراد به التشهد والله أعلم. قوله في الطريق الأخيرة "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث، وساقه في كتاب الصلاة بتمامه.

(11/38)


19 - باب إِذَا قَالَ فُلاَنٌ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ
6253- حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا قال سمعت عامرا يقول حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن "أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ثم إن جبريل يقرئك السلام قالت وعليه السلام ورحمة الله"
قوله: "باب إذا قال فلان يقرئك السلام" في رواية الكشميهني: "يقرأ عليك السلام" وهو لفظ حديث الباب وقد تقدم شرحه في مناقب عائشة؛ وتقدم شرح هذه اللفظة وهي "اقرأ السلام" في كتاب الإيمان، قال النووي: في هذا الحديث مشروعية إرسال السلام، ويجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة، وتعقب بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة وإلا فوديعة والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء. قال: وفيه إذا أتاه شخص بسلام من شخص أو في ورقة وجب الرد على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ كما أخرج النسائي عن رجل من بني تميم أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سلام أبيه، فقال له "وعليك وعلى أبيك السلام" وقد تقدم في المناقب أن خديجة لما بلغها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل سلام الله عليها قالت: "إن الله هو السلام ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام" ولم أر في شيء من طرق حديث عائشة أنها ردت على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه غير واجب، وقد ورد بلفظ الترجمة حديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم من حديث أنس "أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله إني أريد الجهاد، فقال ائت فلانا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: ادفع إلي ما تجهزت به".

(11/38)


20 - باب التَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
6254- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال أخبرني أسامة بن زيد ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج وذلك قبل وقعة بدر حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي كلاهما بردائه ثم قال لا تغبروا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن

(11/38)


21 - باب مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَلَمْ يَرُدَّ سَلاَمَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِي؟ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ
6255- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِنَا وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً وَآذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ"
قوله: "باب من لم يسلم على من اقترف ذنبا، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي"؟ أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع. قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي، وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال الله رقيب عليكم. وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة كما تقدم في الباب قبله. وقال ابن وهب يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافرا، واحتج بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وتعقب بأن الدليل أعم من الدعوى. وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، وحكى ابن رشد قال قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء. قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم. وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضا فقيل: يستبرأ حاله سنة وقيل ستة أشهر وقيل خمسين يوما كما في قصة كعب، وقيل ليس لذلك حد محدود بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مدعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني. وقد اعترض الداودي على من حده بخمسين ليلة أخذا من قصة كعب فقال: لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخر كلامهم إلى أن أذن الله فيه؛ يعني فتكون واقعة.

(11/40)


حال لا عموم فيها. وقال النووي: وأما المبتدع ومن اقترف ذنبا عظيما ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك انتهى. والتقييد بمن لم يتب جيد لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكنا، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم والإقلاع وأمارة صدق ذلك. قوله: "اقترف" أي اكتسب وهو تفسير الأكثر. وقال أبو عبيدة الاقتراف التهمة. قوله: "وقال عبد الله بن عمرو: لا تسلموا على شربة الخمر" بفتح الشين المعجمة والراء بعدها موحدة جمع شارب، قال ابن التين: لم يجمعه اللغويون كذلك وإنما قالوا شارب وشرب مثل صاحب وصحب انتهى. وقد قالوا فسقة وكذبة في جمع فاسق وكاذب، وهذا الأثر وصله البخاري في "الأدب المفرد" من طريق حبان بن أبي جبلة بفتح الجيم والموحدة عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: "لا تسلموا على شراب الخمر" وبه إليه قال: "لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا" وأخرج الطبري عن علي موقوفا نحوه، وفي بعض النسخ من الصحيح "وقال عبد الله بن عمر" بضم العين وكذا ذكره الإسماعيلي. وأخرج سعيد بن منصور بسند ضعيف عن ابن عمر "لا تسلموا على من شرب الخمر ولا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا" وأخرجه ابن عدي بسند أضعف منه عن ابن عمر مرفوعا. قوله: "حدثنا ابن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير، وذكر قطعا يسيرة من حديث كعب بن مالك في قصة توبته في غزوة تبوك، وقد ساقه في المغازي بطوله عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد. وقوله: "وآتى" هو بمد الهمزة فعل مضارع من الإتيان، وبين قوله: "عن كلامنا" وبين هذه الجملة كلام كثير آخره: "فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد" وفي الحديث أيضا قصته مع أبي قتادة وتسوره عليه الحائط وامتناع أبي قتادة من رد السلام عليه ومن جوابه له عما سأله عنه. واقتصر البخاري على القدر الذي ذكره لحاجته إليه هنا، وفيه ما ترجم به من ترك السلام تأديبا وترك الرد أيضا، وهو مما يخص به عموم الأمر بإفشاء السلام عند الجمهور، وعكس ذلك أبو أمامة فأخرج الطبري بسند جيد عنه أنه كان لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له، فقال: إنا أمرنا بإفشاء السلام، وكأنه لم يطلع على دليل الخصوص. واستثنى ابن مسعود ما إذا احتاج لذلك المسلم لضرورة دينية أو دنيوية كقضاء حق المرافقة، فأخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال: "كنت ردفا لابن مسعود، فصحبنا دهقان، فلما انشعبت له الطريق أخذ فيها، فأتبعه عبد الله بصره فقال: السلام عليكم. فقلت: ألست تكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم ولكن حق الصحبة. وبه قال الطبري حمل عليه سلام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مجلس فيه أخلاط من المسلمين والكفار، وقد تقدم الجواب عنه في الباب الذي قبله.

(11/41)


باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام ؟
...
22 - باب كَيْفَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ السَّلاَمُ
6356- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ

(11/41)


مَا قَالُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ "
6257- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْ وَعَلَيْكَ "
[الحديث 6257- طرفه في: 6928]
6258- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ"
[الحديث 6258- طرفه في: 6926]
قوله: "باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام"؟ في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا منع من رد السلام على أهل الذمة فلذلك ترجم بالكيفية، ويؤيده قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فإنه يدل على أن الرد يكون وفق الابتداء إن لم يكن أحسن منه كما تقدم تقريره، ودل الحديث على التفرقة في الرد على المسلم والكافر، قال ابن بطال: قال قوم رد السلام على أهل الذمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس أنه قال: "من سلم عليك فرد عليه ولو كان مجوسيا" وبه قال الشعبي وقتادة، ومنع من ذلك مالك والجمهور. وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين فلا يرد السلام على الكافر مطلقا، فإن أراد منع الرد بالسلام وإلا فأحاديث الباب ترد عليه. قوله: "أن عائشة قالت" كذا قال صالح بن كيسان مثله كما تقدم في الأدب. وقال سفيان عن الزهري عن عروة "عن عائشة قالت" وسيأتي في استتابة المرتدين. قوله: "دخل رهط من اليهود" لم أعرف أسماءهم، لكن أخرج الطبراني بسند ضعيف عن زيد بن أرقم قال: "بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من اليهود يقال له ثعلبة بن الحارث فقال: السام عليك يا محمد. فقال: وعليكم. فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أحد الرهط المذكورين، وكان هو الذي باشر الكلام عنهم كما جرت العادة من نسبة القول إلى جماعة والمباشر له واحد منهم، لأن اجتماعهم ورضاهم به في قوة من شاركه في النطق. قوله: "فقالوا السام عليك" كذا في الأصول بألف ساكنة، وسيأتي في الكلام على الحديث الثاني أنه جاء بالهمز، وقد تقدم تفسير السوم بالموت في كتاب الطب، وقيل هو الموت العاجل. قوله: "ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة" في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة كما تقدم في أوائل الأدب "فقالت عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم" ولمسلم من طريق أخرى عنها "بل عليكم السام والذام" بالذال المعجمة وهو لغة في الذم ضد المدح يقال ذم بالتشديد وذام بالتخفيف وذيم بتحتانية ساكنة. وقال عياض: لم يختلف الرواة أن الذام في هذا الحديث بالمعجمة، ولو روى بالمهملة من الدوام لكان له وجه ولكن كان يحتاج لحذف الواو ليصير صفة للسام، وقد حكى ابن الأعرابي الدام لغة في الدائم، قال ابن بطال: فسر أبو عبيد السام بالموت وذكر الخطابي أن قتادة تأوله على خلاف ذلك، ففي رواية عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان قتادة يقول تفسير السام عليكم تسامون دينكم وهو -يعني السام- مصدر سئمه سآمة وسآما مثل رضعه رضاعة ورضاعا. قال ابن بطال: ووجدت هذا الذي فسره قتادة مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه بقي بن مخلد في تفسيره من

(11/42)


طريق سعيد عن قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس مع أصحابه إذ أتى يهودي فسلم عليه فردوا عليه فقال: هل تدرون ما قال؟ سلم يا رسول الله، قال: قال سام عليكم" أي تسامون دينكم. قلت: يحتمل أن يكون قوله أي تسامون دينكم تفسير قتادة كما بينته رواية عبد الوارث التي ذكرها الخطابي، وقد أخرج البزار وابن حبان في صحيحه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس "مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسلم عليهم فرد عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدرون ما قال؟ قالوا نعم سلم علينا. قال فإنه قال السام عليكم" أي تسامون دينكم، ردوه علي، فردوه فقال كيف قلت قال السام عليكم. فقال إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليكم ما قلتم" لفظ البزار وفي رواية ابن حبان: "أن يهوديا سلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون" والباقي نحوه ولم يذكر قوله: "ردوه إلخ" وقال في آخره: "فإذا سلم عليكم رجل من أهل الكتاب فقولوا وعليك". قوله: "واللعنة" يحتمل أن تكون عائشة فهمت كلامهم بفطنتها فأنكرت عليهم وظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنهم تلفظوا بلفظ السلام فبالغت في الإنكار عليهم، ويحتمل أن يكون سبق لها سماع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديثي ابن عمر وأنس في الباب، وإنما أطلقت عليهم اللعنة إما لأنها كانت ترى جواز لعن الكافر المعين باعتبار الحالة الراهنة لا سيما إذا صدر منه ما يقتضي التأديب، وإما لأنها تقدم لها علم بأن المذكورين يموتون على الكفر فأطلقت اللعن ولم تقيده بالموت، والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب، وقد تقدم في أوائل الأدب في "باب الرفق" ما يتعلق بذلك، وسيأتي الكلام على جواز لعن المشرك المعين الحي في "باب الدعاء على المشركين" من كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله: "مهلا يا عائشة" تقدم بشرحه في "باب الرفق" من كتاب الأدب. قوله: "فقد قلت عليكم" وكذا في رواية معمر وشعيب عن الزهري عند مسلم بحذف الواو، وعنده في رواية سفيان، وعند النسائي من رواية أخرى عن الزهري بإثبات الواو. قال المهلب: في هذا الحديث جواز انخداع الكبير للمكايد ومعارضته من حيث لا يشعر إذا رجي رجوعه. قلت: في تقييده بذلك نظر، لأن اليهود حينئذ كانوا أهل عهد، فالذي يظهر أن ذلك كان لمصلحة التآلف. قوله: "عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر" يأتي في استتابة المرتدين من وجه آخر بلفظ: "حدثني عبد الله ابن دينار سمعت ابن عمر". قوله: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك، فقل: وعليك" هكذا هو في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه في "الأدب المفرد" عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، والذي عند جميع رواة الموطأ بلفظ: "فقل عليك" ليس فيه الواو، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن بكير، ومن طريق عبد الله بن نافع كلاهما عن مالك بإثبات الواو، وفيه نظر فإنه في الموطأ عن يحيى بن بكير بغير واو، ومقتضى كلام ابن عبد البر أن رواية عبد الله بن نافع بغير واو لأنه قال: لم يدخل من رواة الموطأ عن مالك الواو. قلت: لكن وقع عند الدار قطني في "الموطآت" من طريق روح بن عبادة عن مالك بلفظ: "فقل وعليكم" بالواو وبصيغة الجمع، قال الدار قطني: القول الأول أصح يعني عن مالك. قلت: أخرجه الإسماعيلي من طريق روح ومعن وقتيبة ثلاثتهم عن مالك بغير واو وبالإفراد كرواية الجماعة، وأخرجه البخاري في استتابة المرتدين من طريق يحيى القطان عن مالك والثوري جميعا عن عبد الله بن دينار بلفظ: "قل عليك" بغير واو، لكن وقع في رواية السرخسي وحده "فقل عليكم" بصيغة الجمع بغير واو أيضا، وأخرجه مسلم والنسائي من

(11/43)


طريق عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري وحده بلفظ: "فقولوا وعليكم" بإثبات الواو بصيغة الجمع، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار بغير واو، وفي نسخة صحيحة من مسلم بإثبات الواو، وأخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن ابن دينار بلفظ: "إذا سلم عليكم اليهودي والنصراني فإنما يقول السام عليكم فقل: عليكم" بغير واو وبصيغة الجمع. وأخرجه أبو داود من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار مثل ابن مهدي عن الثوري. وقال بعده وكذا رواه مالك والثوري عن عبد الله بن دينار قال فيه: "وعليكم" قال المنذري في الحاشية: حديث مالك أخرجه البخاري وحديث الثوري أخرجه البخاري ومسلم وهذا يدل على أن رواية مالك عندهما بالواو، فأما أبو داود فلعله حمل رواية مالك على رواية الثوري أو اعتمد رواية روح بن عبادة عن مالك، وأما المنذري فتجوز في عزوه للبخاري لأنه عنده بصيغة الإفراد، ولحديث ابن عمر هذا سبب أذكره في الذي بعده. الحديث أورده من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس حدثنا أنس بن مالك يعني جده بلفظ: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" كذا رواه مختصرا، ورواه قتادة عن أنس أتم منه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق شعبة عنه بلفظ: "إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال قولوا: وعليكم" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق همام عن قتادة بلفظ: "مر يهودي فقال السام عليكم، فرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال قال السام عليكم، فأخذ اليهودي فاعترف فقال: ردوا عليه" وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق شيبان نحو رواية همام وقال في آخره: "ردوه. فردوه، فقال: أقلت: السام عليكم؟ قال: نعم، فقال عند ذلك: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" وتقدم في الكلام على حديث عائشة من وجه آخر عن قتادة بزيادة فيه، وسيأتي في استتابة المرتدين من طريق هشام بن زيد بن أنس "سمعت أنس بن مالك يقول: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك. ثم قال: أتدرون ماذا يقول؟ قال: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا نقتله، قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وفي رواية الطيالسي أن القائل ألا نقتله عمر. والجمع بين هذه الروايات أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأتمها سياقا رواية هشام بن زيد هذه، وكأن بعض الصحابة لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود تقول ذلك سألوا حينئذ عن كيفية الرد عليهم كما رواه شعبة عن قتادة، ولم يقع هذا السؤال في رواية هشام بن زيد، ولم تختلف الرواة عن أنس في لفظ الجواب وهو "وعليكم" بالواو وبصيغة الجمع. قال أبو داود في السنن وكذا رواية عائشة وأبي عبد الرحمن الجهني وأبي بصرة. قال المنذري: أما حديث عائشة فمتفق عليه. قلت: هو أول أحاديث الباب قال: وأما حديث أبي عبد الرحمن فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أبي بصرة فأخرجه النسائي. قلت: ما حديث واحد اختلف فيه على يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير، فقال عبد الحميد بن جعفر: عن أبي بصرة، أخرجه النسائي والطحاوي. وقال ابن إسحاق: عن أبي عبد الرحمن، أخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي أيضا. وقد قال بعض أصحاب ابن إسحاق عنه مثل ما قال عبد الحميد أخرجه الطحاوي، والمحفوظ قول الجماعة، ولفظ النسائي: "فإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم" وقد اختلف العلماء في إثبات الواو وإسقاطها في الرد على أهل الكتاب لاختلافهم في أي الروايتين أرجح. فذكر ابن عبد البر عن ابن حبيب لا يقولها بالواو لأن فيها تشريكا، وبسط ذلك أن الواو في مثل هذا التركيب يقتضي تقرير الجملة الأولى

(11/44)


وزيادة الثانية عليها كمن قال زيد كاتب فقلت وشاعر فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد، قال وخالفه جمهور المالكية. وقال بعض شيوخهم: يقول عليكم السلام بكسر السين يعني الحجارة، ووهاه ابن عبد البر بأنه لم يشرع لنا سب أهل الذمة. ويؤيد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة لما سبتهم. وذكر ابن عبد البر عن ابن طاوس قال: يقول علاكم السلام، بالألف أي ارتفع. وتعقبه. وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم "عليكم السلام" كما يرد على المسلم، واحتج بعضهم بقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} وحكاه الماوردي وجها عن بعض الشافعية لكن لا يقول ورحمة الله، وقيل يجوز مطلقا، وعن ابن عباس وعلقمة يجوز ذلك عند الضرورة، وعن الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا. وعن طائفة من العلماء: لا يرد عليهم السلام أصلا. وعن بعضهم التفرقة بين أهل الذمة وأهل الحرب. والراجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث ولكنه مختص بأهل الكتاب. وقد أخرج أحمد بسند جيد عن حميد بن زادويه وهو غير حميد الطويل في الأصح عن أنس "أمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على: وعليكم" ونقل ابن بطال عن الخطابي نحو ما قال ابن حبيب فقال، رواية من روى عليكم بغير واو أحسن من الرواية بالواو لأن معناه رددت ما قلتموه عليكم، وبالواو يصير المعنى علي وعليكم لأن الواو حرف التشريك انتهى. وكأنه نقله من "معالم السنن للخطابي" فإنه قال فيه هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه بحذفها يصير قولهم بعينه مردودا عليهم، وبالواو يقع الاشتراك والدخول فيما قالوه انتهى. وقد رجع الخطابي عن ذلك فقال في الإعلام من شرح البخاري لما تكلم على حديث عائشة المذكور في كتاب الأدب من طريق ابن أبي مليكة عنها نحو حديث الباب وزاد في آخره: "أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في" قال الخطابي ما ملخصه: إن الداعي إذا دعا بشيء ظلما فإن الله لا يستجيب له ولا يجد دعاؤه محلا في المدعو عليه انتهى. وله شاهد من حديث جابر قال: "سلم ناس من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم. قال وعليكم. قالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى قد رددت عليهم فنجاب عليهم ولا يجابون فينا" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد" من طريق ابن جريج أخبرني أنه سمع جابرا. وقد غفل عن هذه المراجعة من عائشة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لها من أنكر الرواية بالواو، وقد تجاسر بعض من أدركناه فقال في الكلام على حديث أنس في هذا الباب: الرواية الصحيحة عن مالك بغير واو، وكذا رواه ابن عيينة وهي أصوب من التي بالواو، لأنه بحذفها يرجع الكلام عليهم وبإثباتها يقع الاشتراك انتهى. وما أفهمه من تضعيف الرواية بالواو وتخطئتها من حيث المعنى مردود عليه بما تقدم. وقال النووي: الصواب أن حذف الواو وإثباتها ثابتان جائزان وبإثباتها أجود ولا مفسدة فيه وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما أنهم قالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم. وقال البيضاوي: في العطف شيء مقدر، والتقدير وأقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون، وليس هو عطفا على "عليكم" في كلامهم. وقال القرطبي: قيل الواو للاستئناف وقيل زائدة، وأولى الأجوبة أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا. وحكى ابن دقيق العيد عن ابن رشد تفصيلا يجمع الروايتين إثبات الواو وحذفها فقال: من تحقق أنه قال السام أو السلام بكسر السين فليرد عليه بحذف الواو

(11/45)


ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو. فيجتمع من مجموع كلام العلماء في ذلك ستة أقوال. وقال النووي تبعا لعياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو ومن فسرها بالسآمة فإسقاطها هو الوجه. قلت: بل الرواية بإثبات الواو ثابتة وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة. واستدل بقوله: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب" بأنه لا يشرع للمسلم ابتداء الكافر بالسلام حكاه الباجي عن عبد الوهاب، قال الباجي: لأنه بين حكم الرد ولم يذكر حكم الابتداء، كذا قال، ونقل ابن العربي عن مالك: لو ابتدأ شخصا بالسلام وهو يظنه مسلما فبان كافرا كان ابن عمر يسترد منه سلامه. وقال مالك: لا. قال ابن العربي: لأن الاسترداد حينئذ لا فائدة له لأنه لم يحصل له منه شيء لكونه قصد السلام على المسلم. وقال غيره له فائدة وهو إعلام الكافر بأنه ليس أهلا للابتداء بالسلام. قلت: ويتأكد إذا كان هناك من يخشى إنكاره لذلك أو اقتداؤه به إذا كان الذي سلم ممن يقتدي به. واستدل به على أن هذا الرد خاص بالكفار فلا يجزئ في الرد على المسلم، وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ وإلا فلا. وقال ابن دقيق العيد التحقيق أنه كاف في حصول معنى السلام لا في امتثال الأمر في قوله :{فحيوا بأحسن منها أو ردوها} وكأنه أراد الذي بغير واو، وأما الذي بالواو فقد ورد في عدة أحاديث: منها في الطبراني عن ابن عباس "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلام عليكم فقال وعليك ورحمة الله" وله في الأوسط عن سلمان "أتى رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك". قلت: لكن لما اشتهرت هذه الصيغة للرد على غير المسلم ينبغي ترك جواب المسلم بها وإن كانت مجزئة في أصل الرد، والله أعلم.

(11/46)


23 - باب مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ
6259- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ حَدَّثَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَكُلُّنَا فَارِسٌ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَأَنَخْنَا بِهَا فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا قَالَ صَاحِبَايَ مَا نَرَى كِتَابًا قَالَ قُلْتُ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لاَجَرِّدَنَّكِ قَالَ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ قَالَ فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ مَا بِي إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا غَيَّرْتُ وَلاَ بَدَّلْتُ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ قَالَ صَدَقَ فَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا قَالَ فَقَالَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ فَقَالَ يَا عُمَرُ

(11/46)


وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"
قوله: "باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره" كأنه يشير إلى أن الأثر الوارد في النهي عن النظر في كتاب الغير يخص منه ما يتعين طريقا إلى دفع مفسدة هي أكثر من مفسدة النظر، والأثر المذكور أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ: "من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار" وسنده ضعيف. حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الممتحنة. ويوسف بن بهلول شيخه فيه بضم الموحدة وسكون الهاء شيخ كوفي أصله من الأنبار، ولم يرو عنه من الستة إلا البخاري، وما له في الصحيح إلا هذا الحديث، وقد أورده من طرق أخرى في المغازي والتفسير، منها في المغازي عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الله بن إدريس بالسند المذكور هنا، وبقية رجال الإسناد كلهم كوفيون أيضا. قال ابن التين: معنى بهلول الضحاك وسمى به ولا يفتح أوله لأنه ليس في الكلام فعلول بالفتح. وقال المهلب: في حديث على هتك ستر الذنب، وكشف المرأة العاصية، وما روي أنه لا يجوز النظر في كتاب أحد إلا بإذنه إنما هو في حق من لم يكن متهما على المسلمين، وأما من كان متهما فلا حرمة له. وفيه أنه يجوز النظر إلى عورة المرأة للضرورة التي لا يجد بدا من النظر إليها. وقال ابن التين: قول عمر دعني أضرب عنقه مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا له إلا خيرا يحمل على أنه لم يسمع ذلك أو كان قوله قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ويحتمل أن يكون عمر لشدته في أمر الله حمل النهي على ظاهره من منع القول السيئ له ولم ير ذلك مانعا من إقامة ما وجب عليه من العقوبة للذنب الذي ارتكبه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه صادق في اعتذاره، وأن الله عفا عنه.

(11/47)


24 - باب كَيْفَ يُكْتَبُ الْكِتَابُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ
6260- حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة "أن ابن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في نفر من قريش وكانوا تجارا بالشام فأتوه فذكر الحديث قال ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد.."
قوله: "باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب" ذكر فيه طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وهو واضح فيما ترجم له. قال ابن بطال: فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه. قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قلت: في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيد مثل ما في الخبر: السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك. وقد تقدم نقل الخلاف في ذلك في أوائل كتاب الاستئذان.

(11/47)


25 - باب بِمَنْ يُبْدَأُ فِي الْكِتَابِ
6261- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَجَرَ خَشَبَةً فَجَعَلَ الْمَالَ فِي جَوْفِهَا وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً مِنْ فُلاَنٍ إِلَى فُلاَنٍ"
قوله: "باب بمن يبدأ في الكتاب" أي بنفسه أو بالمكتوب إليه؟ ذكر فيه طرفا من حديث الرجل من بني إسرائيل الذي اقترض ألف دينار، وكأنه لما لم يجد فيه حديثا على شرطه مرفوعا اقتصر على هذا، وهو على قاعدته في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذا وردت حكايته في شرعنا ولم ينكر، ولا سيما إذا سيق مساق المدح لفاعله، والحجة فيه كون الذي عليه الدين كتب في الصحيفة من فلان إلى فلان وكان يمكنه أن يحتج بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل المشار إليه قريبا لكن قد يكون تركه لأن بداءة الكبير بنفسه إلى الصغير والعظيم إلى الحقير هو الأصل، وإنما يقع التردد فيما هو بالعكس أو المساوي. وقد أورد في "الأدب المفرد" من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن كبراء آل زيد بن ثابت هذه الرسالة لعبد الله معاوية أمير المؤمنين لزيد بن ثابت سلام عليك "وأورد عن ابن عمر نحو ذلك، وعند أبي داود من طريق ابن سيرين عن أبي العلاء بن الحضرمي عن العلاء أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب "قرأت كتابا من العلاء بن الحضرمي إلى محمد رسول الله وعن نافع كان ابن عمر يأمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا بأنفسهم. وعن نافع كان عمال عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. قال المهلب: السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه. وعن معمر عن أيوب أنه كان ربما بدأ باسم الرجل قبله إذا كتب إليه. وسئل مالك عنه فقال: لا بأس به وقال. هو كما لو أوسع له في المجلس. فقيل له إن أهل العراق يقولون لا تبدأ بأحد قبلك ولو كان أباك أو أمك أو أكبر منك، فعاب ذلك عليهم. قلت: والمنقول عن ابن عمر كان في أغلب أحواله، وإلا فقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن نافع كانت لابن عمر حاجة إلى معاوية فأراد أن يبدأ بنفسه فلم يزالوا به حتى كتب، بسم الله الرحمن الرحيم إلى معاوية. وفي رواية زيادة أما بعد، بعد البسملة وأخرج فيه أيضا من رواية عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك يبايعه "بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر سلام عليك إلخ" وقد ذكر في كتاب الاعتصام طرفا منه، ويأتي التنبيه عليه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال الليث" تقدم في الكفالة بيان من وصله. قوله: "أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل أخذ خشبة" كذا أورده مختصرا، وأورده في الكفالة وغيرها مطولا قوله: "وقال عمر بن أبي سلمة" أي ابن عبد الرحمن بن عوف" وعمر هذا مدني قدم واسط، وهو صدوق فيه ضعف، وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عمر" فذكر مثل اللفظ المعلق هنا. وقد رويناه في الجزء الثالث من "حديث أبي طاهر المخلص" مطولا فقال: "حدثنا البغوي حدثنا أحمد بن منصور

(11/48)


حدثنا موسى" وقد ذكرت فوائده عند شرحه من كتاب الكفالة. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الكشميهني: "سمع أبا هريرة" وكذا للنسفي والأصيلي وكريمة. قوله: "نجر" كذا للأكثر بالجيم وللكشميهني بالقاف، قال ابن التين: قيل في قصة صاحب الخشبة إثبات كرامات الأولياء، وجمهور الأشعرية على إثباتها، وأنكرها الإمام أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية والشيخان أبو محمد بن أبي زيد وأبو الحسن القابسي من المالكية. قلت: أما الشيرازي فلا يحفظ عنه ذلك. وإنما نقل ذلك عن أبي إسحاق الإسفرايني، وأما الآخران فإنما أنكرا ما وقع معجزة مستقلة لنبي من الأنبياء كإيجاد ولد عن غير والد والإسراء إلى السماوات السبع بالجسد في اليقظة، وقد صرح إمام الصوفية أبو القاسم القشيري في رسالته بذلك، وبسط هذا يليق بموضع آخر، وعسى أن يتيسر ذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(11/49)


26 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ
6262- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَقَالَ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ خَيْرِكُمْ فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِلَى حُكْمِكَ"
قوله: "عن سعد بن إبراهيم عن أبي أمامة بن سهل" تقدم بيان الاختلاف في ذلك في غزوة بني قريظة من كتاب المغازي مع شرح الحديث، ومما لم يذكر هناك أن الدار قطني حكى في "العلل" أن أبا معاوية رواه عن عياض بن عبد الرحمن عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده، والمحفوظ عن سعد عن أبي أمامة عن أبي سعيد. قوله: "على حكم سعد" هو ابن معاذ كما وقع التصريح به فيما تقدم. قوله في آخره "قال أبو عبد الله" هو البخاري "أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد" يعني شيخه في هذا الحديث بسنده هذا "من قول أبي سعيد إلى حكمك" يعني من أول الحديث إلى قوله فيه: "على حكمك" وصاحب البخاري في هذا الحديث يحتمل أن يكون محمد بن سعد كاتب الواقدي فإنه أخرجه في الطبقات عن أبي الوليد بهذا السند، أو ابن الضريس فقد أخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق محمد بن أيوب الرازي عن أبي الوليد، وشرحه الكرماني على وجه آخر فقال، قوله: "إلى حكمك" أي قال البخاري سمعت أنا من أبي الوليد بلفظ: "على حكمك" وبعض أصحابي نقلوا لي عنه بلفظ: "إلى" بصيغة الانتهاء بدل حرف الاستعلاء. كذا قال، قال ابن بطال، في هذا الحديث أمر الإمام الأعظم بإكرام الكبير من المسلمين، ومشروعية إكرام أهل الفضل في مجلس الإمام الأعظم والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافة بالقيام إلى الكبير منهم. وقد منع من ذلك قوم واحتجوا بحديث أبي أمامة قال: "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض"

(11/49)


وأجاب عنه الطبري بأنه حديث ضعيف مضطرب السند فيه من لا يعرف، واحتجوا أيضا بحديث عبد الله بن بريدة أن أباه دخل على معاوية فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما وجبت له النار" وأجاب عنه الطبري بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك، لا نهي من يقوم له إكراما له. وأجاب عنه ابن قتيبة بأن معناه من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدي ملوك الأعاجم، وليس المراد به نهي الرجل عن القيام لأخيه إذا سلم عليه. واحتج ابن بطال للجواز بما أخرجه النسائي من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت رحب بها ثم قام فقبلها ثم أخذ بيدها حتى يجلسها في مكانه. قلت: وحديث عائشة هذا أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان والحاكم وأصله في الصحيح كما مضى في المناقب وفي الوفاة النبوية لكن ليس فيه ذكر القيام. وترجم له أبو داود "باب القيام" وأورد معه فيه حديث أبي سعيد، وكذا صنع البخاري في "الأدب المفرد" وزاد معهما حديث كعب بن مالك في قصة توبته وفيه: "فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول" وقد أشار إليه في الباب الذي يليه، وحديث أبي أمامة المبدأ به أخرجه أبو داود وابن ماجه، وحديث ابن بريدة أخرجه الحاكم من رواية حسين المعلم عن عبد الله ابن بريدة عن معاوية فذكره وفيه: "ما من رجل يكون على الناس فيقوم على رأسه الرجال يحب أن يكثر عنده الخصوم فيدخل الجنة" وله طريق أخرى عن معاوية أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والمصنف في "الأدب المفرد" من طريق أبي مجلز قال: "خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" هذا لفظ أبي داود؛ وأخرجه أحمد من رواية حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز وأحمد عن إسماعيل بن علية عن حبيب مثله وقال: "العباد" بدل "الرجال" ومن رواية شعبة عن حبيب مثله وزاد فيه: "ولم يقم ابن الزبير وكان أرزنهما، قال: فقال مه" فذكر الحديث وقال فيه: "من أحب أن يتمثل له عباد الله قياما" وأخرجه أيضا عن مروان بن معاوية عن حبيب بلفظ: "خرج معاوية فقاموا له" وباقيه كلفظ حماد. وأما الترمذي فإنه أخرجه من رواية سفيان الثوري عن حبيب، ولفظه: "خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال اجلسا" فذكر مثل لفظ حماد، وسفيان وإن كان من رجال الحفظ إلا أن العدد الكثير وفيهم مثل شعبة أولى بأن تكون روايتهم محفوظة من الواحد، وقد اتفقوا على أن ابن الزبير لم يقم، وأما إبدال ابن عامر بابن صفوان فسهل لاحتمال الجمع بأن يكونا معا وقع لهما ذلك، ويؤيده الإتيان فيه بصيغة الجمع وفي رواية مروان بن معاوية المذكور، وقد أشار البخاري في "الأدب المفرد" إلى الجمع المنقول عن ابن قتيبة فترجم أولا "باب قيام الرجل لأخيه" وأورد الأحاديث الثلاثة التي أشرت إليها، ثم ترجم "باب قيام الرجل للرجل القاعد" و "باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس" وأورد فيهما، حديث جابر "اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال" إن كدتم لتفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، وترجم البخاري أيضا قيام الرجل للرجل تعظيما، وأورد فيه حديث معاوية من طريق أبي مجلز، ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه، فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه

(11/50)


وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا فعل الجبابرة وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. وقال الخطابي في حديث الباب: "جواز إطلاق السيد" على الخير الفاضل، وفيه أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات. ومعنى حديث: "من أحب أن يقام له" أي بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة، ورجح المنذري ما تقدم من الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس، وقد رد ابن القيم في "حاشية السنن" على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما، ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل، قال: والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه. قلت: وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أنس قال: "إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود" ثم حكى المنذري قول الطبري، وأنه قصر النهي على من سره القيام له لما في ذلك من محبة التعاظم ورؤية منزلة نفسه، وسيأتي ترجيح النووي لهذا القول، ثم نقل المنذري عن بعض من منع ذلك مطلقا أنه رد الحجة بقصة سعد بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالقيام لسعد لينزلوه عن الحمار لكونه كان مريضا، قال: وفي ذلك نظر. قلت: كأنه لم يقف على مستند هذا القائل، وقد وقع في مسند عائشة عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا وفيه: "قال أبو سعيد فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه" وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب القيام ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا، وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله بن الحاج فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار، فإن الأصل في أفعال القرب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو صلى الله عليه وسلم أول من فعله وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات، ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها فلذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين مع أن المراد بعض الأنصار لا كلهم وهم الأوس منهم لأن سعد بن معاذ كان سيدهم دون الخزرج، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة فليس هو المتنازع فيه، بل لأنه غائب قدم والقيام للغائب إذا قدم مشروع قال: ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة من تحكيمه والرضا بما يحكم به، والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضا. ثم نقل عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه: الأول محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه، والثاني مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. والثالث جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له

(11/51)


نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها. وقال التوربشتي في "شرح المصابيح" معنى قوله: "قوموا إلى سيدكم" أي إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم. وتعقبه الطيبي بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتل به من الفرق بين إلى واللام ضعيف لأن إلى في هذا المقام أفخم من اللام كأنه قيل قوموا وامشوا إليه تلقيا وإكراما، وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية، فإن قوله سيدكم علة للقيام له، وذلك لكونه شريفا علي القدر. وقال البيهقي: القيام على وجه البر والإكرام جائز كقيام الأنصار لسعد وطلحة لكعب، ولا ينبغي لمن يقام له أن يعتقد استحقاقه لذلك حتى إن ترك القيام له حنق عليه أو عاتبه أو شكاه قال أبو عبد الله وضابط ذلك أن كل أمر ندب الشرع المكلف بالمشي إليه فتأخر حتى قدم المأمور لأجله فالقيام إليه يكون عوضا عن المشي الذي فات، واحتج النووي أيضا بقيام طلحة لكعب بن مالك. وأجاب ابن الحاج بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته ولذلك لم يحتج به البخاري للقيام، وإنما أورده في المصافحة، ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به، فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضر، وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف. والتفاوت في المودة يقع بسبب التفاوت في الحقوق وهو أمر معهود. قلت: ويحتمل أن يكون من كان لكعب عنده من المودة مثل ما عند طلحة لم يطلع على وقوع الرضا عن كعب واطلع عليه طلحة، لأن ذلك عقب منع الناس من كلامه مطلقا، وفي قول كعب "لم يقم إلي من المهاجرين غيره: "إشارة إلى أنه قام إليه غيره من الأنصار ثم قال ابن الحاج: وإذا حمل فعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون من حضر من المهاجرين قد ترك المندوب، ولا يظن بهم ذلك. واحتج النووي بحديث عائشة المتقدم في حق فاطمة. وأجاب عنه ابن الحاج باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه إكراما لها لا على وجه القيام المنازع فيه، ولا سيما ما عرف من ضيق بيوتهم وقلة الفرش فيها، فكانت إرادة إجلاسه لها في موضعه مستلزمة لقيامه. وأمعن في بسط ذلك. واحتج النووي أيضا بما أخرجه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فجلس عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام فأجلسه بين يديه. واعترضه ابن الحاج بأن هذا القيام لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ، وإنما قام للأخ إما لأن يوسع له في الرداء أو في المجلس. واحتج النووي أيضا بما أخرجه مالك في قصة عكرمة بن أبي جهل أنه لما فر إلى اليمن يوم الفتح ورحلت امرأته إليه حتى أعادته إلى مكة مسلما فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء، وبقيام النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم جعفر من الحبشة فقال: ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر، وبحديث عائشة "قدم زيد بن حارثة المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فقرع الباب فقام إليه فأعتنقه وقبله" وأجاب ابن الحاج بأنها ليست من محل النزاع كما تقدم. واحتج أيضا بما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل". وأجاب ابن الحاج بأن قيامهم كان لضرورة الفراغ ليتوجهوا إلى أشغالهم، ولأن بيته كان بابه في المسجد والمسجد لم يكن واسعا إذ ذاك فلا يتأتى أن يستووا قياما إلا وهو قد دخل. كذا قال. والذي يظهر لي في الجواب أن يقال: لعل سبب تأخيرهم حتى يدخل لما يحتمل عندهم من أمر يحدث له حتى لا يحتاج إذا تفرقوا أن يتكلف استدعاءهم. ثم

(11/52)


راجعت سنن أبي داود فوجدت في آخر الحديث ما يؤيد ما قلته، وهو قصة الأعرابي الذي جبذ رداءه صلى الله عليه وسلم فدعا رجلا فأمره أن يحمل له على بعيره تمرا وشعيرا، وفي آخره: "ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا رحمكم الله تعالى" ثم احتج النووي بعمومات تنزيل الناس منازلهم وإكرام ذي الشيبة وتوقير الكبير. واعترضه ابن الحاج بما حاصله أن القيام على سبيل الإكرام داخل في العمومات المذكورة، لكن محل النزاع قد ثبت النهي عنه فيخص من العمومات. واستدل النووي أيضا بقيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف واعترضه ابن الحاج بأنه كان بسبب الذب عنه في تلك الحالة من أذى من يقرب منه من المشركين، فليس هو من محل النزاع. ثم ذكر النووي حديث معاوية وحديث أبي أمامة المتقدمين، وقدم قبل ذلك ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك" قال الترمذي حسن صحيح غريب، وترجم له "باب كراهية قيام الرجل للرجل" وترجم لحديث معاوية "باب كراهية القيام للناس" قال النووي: وحديث أنس أقرب ما يحتج به، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أنه خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه فكره قيامهم له لهذا المعنى كما قال: "لا تطروني" ولم يكره قيام بعضهم لبعض، فإنه قد قام لبعضهم وقاموا لغيره بحضرته فلم ينكر عليهم بل أقره وأمر به. ثانيهما أنه كان بينه وبين أصحابه من الأنس وكمال الود والصفاء ما لا يحتمل زيادة بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، وإن فرض للإنسان صاحب بهذه الحالة لم يحتج إلى القيام. واعترض ابن الحاج بأنه لا يتم الجواب الأول إلا لو سلم أن الصحابة لم يكونوا يقومون لأحد أصلا، فإذا خصوه بالقيام له دخل في الإطراء، لكنه قرر أنهم يفعلون ذلك لغيره فكيف يسوغ لهم أن يفعلوا مع غيره ما لا يؤمن معه الإطراء ويتركوه في حقه؟ فإن كان فعلهم ذلك للإكرام فهو أولى بالإكرام لأن المنصوص على الأمر بتوقيره فوق غيره، فالظاهر أن قيامهم لغيره إنما كان لضرورة قدوم أو تهنئة أو نحو ذلك من الأسباب المتقدمة لا على صورة محل النزاع، وأن كراهته لذلك إنما هي في صورة محل النزاع أو للمعنى المذموم في حديث معاوية. قال: والجواب عن الثاني أنه لو عكس فقال: إن كان الصاحب لم تتأكد صحبته له ولا عرف قدره فهو معذور بترك القيام بخلاف من تأكدت صحبته له وعظمت منزلته منه وعرف مقداره لكان متجها فإنه يتأكد في حقه مزيد البر والإكرام والتوقير أكثر من غيره، قال: ويلزم على قوله أن من كان أحق به وأقرب منه منزلة كان أقل توقيرا له ممن بعد لأجل الأنس وكمال الود، والواقع في صحيح الأخبار خلاف ذلك كما وقع في قصة السهو وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وقد كلمه ذو اليدين مع بعد منزلته منه بالنسبة إلى أبي بكر وعمر، قال: ويلزم على هذا أن خواص العالم والكبير والرئيس لا يعظمونه ولا يوقرونه لا بالقيام ولا بغيره؛ بخلاف من بعد منه، وهذا خلاف ما عليه عمل السلف والخلف انتهى كلامه. وقال النووي في الجواب عن حديث معاوية: إن الأصح والأولى، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه، أن معناه زجر المكلف أن يجب قيام الناس له. قال: وليس فيه تعرض للقيام بمنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. قال: والمنهي عنه محبة القيام، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم سواء قاموا أو لم يقوموا. قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام. فإن قيل: فالقيام سبب للوقوع في المنهي عنه، قلنا: هذا فاسد، لأنا قدمنا أن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة خاصة انتهى ملخصا. ولا يخفى ما فيه. واعترضه ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك

(11/53)


من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام الموقع للذي يقام له في المحذور، فصوب فعل من امتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك، وكذا قال ابن القيم في حواشي السنن: في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته، لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له. ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره كأهل الدين والخير والعلم. أو يجوز كالمستورين، وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم أو يكره كمن لا يتصف بالعدالة وله جاه، فلولا اعتياد القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يحرم إكرامه أو يكره، بل جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر. وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المجذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس، وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به. قلت: ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم. وقد قال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره. وهذا تفصيل حسن. قال ابن التين: قوله في هذه الرواية: "حكمت فيهم بحكم الملك" ضبطناه في رواية القابسي بفتح اللام أي جبريل فيما أخبر به عن الله. وفي رواية الأصيلي بكسر اللام أي بحكم الله أي صادفت حكم الله.

(11/54)


27 - باب الْمُصَافَحَةِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي
6263-حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ "عَنْ قَتَادَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَعَمْ"
6264- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"
قوله: "باب المصافحة" هي مفاعلة من الصفحة والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد، وقد أخرج الترمذي بسند ضعيف من حديث أبي أمامة رفعه: "تمام تحيتكم بينكم المصافحة" وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" وأبو داود بسند صحيح من طريق حميد عن أنس رفعه: "قد أقبل أهل اليمن وهم أول من حيانا بالمصافحة" وفي "جامع ابن وهب" من هذا الوجه "وكانوا أول من أظهر المصافحة". قوله: "وقال ابن مسعود: علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفى بين كفيه" سقط هذا التعليق من رواية أبي ذر وحده وثبت للباقين، وسيأتي موصولا في الباب الذي بعده. قوله: "وقال كعب بن مالك دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى طلحة بن عبيد الله

(11/54)


يهرول حتى صافحني وهنأني" هو طرف من قصة كعب بن مالك الطويل في غزوة تبوك في قصة توبته، وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله، وجاء ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر كما سيأتي في أثناء "باب المعانقة". قوله: "عن قتادة قلت لأنس بن مالك: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" زاد الإسماعيلي في روايته عن همام "قال قتادة وكان الحسن يعني البصري يصافح" وجاء من وجه آخر عن أنس "قيل يا رسول الله الرجل يلقي أخاه أينحني له؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم" أخرجه الترمذي وقال حسن. قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته. وقال النووي: المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي. وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن البراء رفعه: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا" وزاد فيه ابن السني "وتكاشرا بود ونصيحة" وفي رواية لأبي داود، وحمدا الله واستغفراه، وأخرجه أبو بكر الروياني في مسنده من وجه آخر عن البراء "لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحني، فقلت: يا رسول الله كنت أحسب أن هذا من زي العجم، فقال: نحن أحق بالمصافحة" فذكر نحو سياق الخبر الأول. وفي مرسل عطاء الخراساني في الموطأ "تصافحوا يذهب الغل" ولم نقف علنه موصولا، واقتصر ابن عبد البر على شواهده من حديث البراء وغيره، قال النووي: وأما تخصيص المصافحة بما بعد صلاتي الصبح والعصر فقد مثل ابن عبد السلام في "القواعد" البدعة المباحة منها. قال النووي: وأصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السنة. قلت: للنظر فيه مجال، فإن أصل صلاة النافلة سنة مرغب فيها، ومع ذلك فقد كره المحققون تخصيص وقت بها دون وقت، ومنهم من أطلق تحريم مثل ذلك كصلاة الرغائب التي لا أصل لها، ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن. قوله: "أخبرني حيوة" بفتح المهملة والواو بينهما تحتانية ساكنة وآخرها هاء تأنيث هو ابن شريح المصري. قوله: "سمع جده عبد الله بن هشام" أي ابن زهرة بن عثمان من بني تميم بن مرة. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب" كذا اختصره، وكذا أورده في مناقب عمر بن الخطاب، وساقه بتمامه في الأيمان والنذور، وسيأتي البحث فيه هناك. وأغفل المزي ذكره هنا. ولم يقع في رواية النسفي أيضا. وذكره الإسماعيلي هنا من رواية رشدين بن سعد وابن لهيعة جميعا عن زهرة بن معبد بتمامه، وأسقطه من كتاب الأيمان والنذور. وابن لهيعة ورشدين لميسا من شرط الصحيح، ولم يقع لأبي نعيم أيضا من طريق ابن وهب عن حيوة، فأخرجه في الأيمان والنذور بتمامه من طريق البخاري. وأخرج القدر المختصر هنا من رواية أبي زرعة وهب الله بن راشد عن زهرة بن معبد، ووهب الله هذا مختلف فيه، وليس من رجال الصحيح، ووجه إدخال هذا الحديث في المصافحة أن الأخذ باليد يستلزم التقاء صفحة اليد بصفحة اليد غالبا ومن ثم أفردها بترجمة تلي هذه لجواز وقوع الأخذ باليد من غير حصول المصافحة، قال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ، وعلى جوازه جماعة العلماء سلفا وحلفا، والله أعلم.

(11/55)


28 - باب الأَخْذِ بِالْيَد وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ

(11/55)


6265- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا السَّلاَمُ يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب الأخذ باليد" كذا في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي، وللباقين "باليدين" وفي نسخة "باليمين" وهو غلط.وسقطت هذه الترجمة وأثرها وحديثها من رواية النسفي.قوله: "وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه" وصله غنجار في "تاريخ بخاري" من طريق إسحاق بن أحمد بن خلف قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول سمع أبي من مالك، ورأى حماد بن زيد يصافح ابن المبارك بكلتا يديه. وذكر البخاري في "التاريخ" في ترجمة أبيه نحوه وقال في ترجمة عبد الله بن سلمة المرادي حدثني أصحابنا يحيى وغيره عن أبي إسماعيل بن إبراهيم قال: رأيت حماد بن زيد وجاءه ابن المبارك بمكة فصافحه بكلتا يديه، ويحيى المذكور هو ابن جعفر البيكندي، وقد أخرج الترمذي من حديث ابن مسعود رفعه: "من تمام التحية الأخذ باليد" وفي سنده ضعف، وحكى الترمذي عن البخاري أنه رجح أنه موقوف على عبد الرحمن بن يزيد النخعي أحد التابعين. وأخرج ابن المبارك في "كتاب البر والصلة" من حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل لا ينزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرفه". قوله: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى بين كفيه التشهد" كذا عنده بتأخير المفعول عن الجملة الحالية. وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة الآتي التنبيه عليها بتقديم المفعول وهو لفظ التشهد. قوله في آخره "وهو بين ظهرانينا" بفتح النون وسكون التحتانية ثم نون أصله ظهرنا والتثنية باعتبار المتقدم عنه والمتأخر أي كائن بيننا والألف والنون زيادة للتأكيد ولا يجوز كسر النون الأولى قاله الجوهري وغيره. قوله: "فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا جاء في هذه الرواية، وقد تقدم الكلام على حديث التشهد هذا في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة من رواية شقيق بن سلمة عن ابن مسعود وليست فيه هذه الزيادة، وتقدم شرحه مستوفى وأما هذه الزيادة فظاهرها أنهم كانوا يقولون "السلام عليك أيها النبي" بكاف الخطاب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تركوا الخطاب وذكروه بلفظ الغيبة فصاروا يقولون "السلام على النبي" وأما قوله في آخره: "يعني على النبي" فالقائل "يعني" هو البخاري، وإلا فقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده ومصنفه عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال في آخره: "فلما قبض صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على النبي" وهكذا أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق أبي بكر، وقد أشبعت القول في هذا عند شرح الحديث المذكور، قال ابن بطال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا في تقبيل اليد فأنكره مالك وأنكر ما روى فيه، وأجازه آخرون واحتجوا بما روى عن عمر أنهم "لما رجعوا من الغزو حيث فروا قالوا نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العكارون أنا فئة المؤمنين، قال فقبلنا يده" قال: "وقبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله

(11/56)


عليهم" ذكره الأبهري، وقبل أبو عبيدة يد عمر حين قدم، وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه، قال الأبهري: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإن ذلك جائز. قال ابن بطال: وذكر الترمذي من حديث صفوان بن عسال "أن يهوديين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات" الحديث وفي آخره: "فقبلا يده ورجله" قال الترمذي حسن صحيح قلت: حديث ابن عمر أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود، وحديث أبي لبابة أخرجه البيهقي في "الدلائل" وابن المقري، وحديث كعب وصاحبيه أخرجه ابن المقري، وحديث أبي عبيدة أخرجه سفيان في جامعه، وحديث ابن عباس أخرجه الطبري وابن المقري، وحديث صفوان أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه الحاكم. وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءا في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثارا، فمن جيدها حديث الزارع العبدي وكان في وقد عبد القيس قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله" أخرجه أبو داود، ومن حديث مزيدة العصري مثله، ومن حديث أسامة بن شريك قال: "قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده" وسنده قوي ومن حديث جابر "أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده" ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة فقال: "يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من رواية عبد الرحمن بن رزين قال: "أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفا له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها" وعن ثابت أنه قبل يد أنس. وأخرج أيضا أن عليا قبل يد العباس ورجله، وأخرجه ابن المقري؛ وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال: قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فناولنيها فقبلتها. قال النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب، فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز.

(11/57)


29 - باب الْمُعَانَقَةِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ
6266- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَلِيًّا يَعْنِي ابْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ أَلاَ تَرَاهُ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ الثَّلاَثِ عَبْدُ الْعَصَا وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ وَإِنِّي لاَعْرِفُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الأَمْرُ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا قَالَ عَلِيٌّ وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا

(11/57)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمْنَعُنَا لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا وَإِنِّي لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا"
قوله: "باب المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت" كذا للأكثر، وسقط لفظ: "المعانقة" وواو العطف من رواية النسفي ومن رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي وضرب عليها الدمياطي في أصله. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه كما بينته في الوفاة النبوية. وقال الكرماني لعله ابن منصور لأنه روى عن بشر بن شعيب في "باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم".قلت: وهو استدلال على الشيء بنفسه لأن الحديث المذكور هناك وهنا واحد والصيغة في الموضعين واحدة فكان حقه إن قام الدليل عنده على أن المراد بإسحاق هناك ابن منصور أن يقول هنا كما تقدم بيانه في الوفاة النبوية. قوله: "وحدثنا أحمد بن صالح" هو إسناد آخر إلى الزهري يرد على من ظن انفراد شعيب به، وقد بينت هناك أن الإسماعيلي أخرجه أيضا من رواية صالح بن كيسان، ولم أستحضر حينئذ رواية يونس هذه، فهم على هذا ثلاثة من حفاظ أصحاب الزهري رووه عنه، وسياق المصنف على لفظ أحمد بن صالح هذا، وسياقه هناك على لفظ شعيب، والمعنى متقارب وقد ذكرت شرحه هناك. قال ابن بطال عن المهلب: ترجم للمعانقة ولم يذكرها في الباب، وإنما أراد أن يدخل فيه معانقة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن الحديث الذي تقدم ذكره في "باب ما ذكر من الأسواق" في كتاب البيوع فلم يجد له سندا غير السند الأول فمات قبل أن يكتب فيه شيئا فبقي الباب فارغا من ذكر المعانقة، وكان بعده "باب قول الرجل كيف أصبحت" وفيه حديث علي، فلما وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنهما واحدة إذ لم يجد بينهما حديثا. وفي الكتاب مواضع من الأبواب فارغة لم يدرك أن يتمها بالأحاديث، منها في كتاب الجهاد انتهى، وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أنه أراد ما أخرجه في "الأدب المفرد" فإنه ترجم فيه: "باب المعانقة" وأورد فيه حديث جابر أنه بلغه حديث عن رجل من الصحابة قال: "فابتعت بعيرا فشددت إليه رحلي شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فبعثت إليه فخرج، فاعتنقني واعتنقته" الحديث فهذا أولى بمراده. وقد ذكر طرفا منه في كتاب العلم معلقا فقال: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر في حديث واحد" وتقدم الكلام على سنده هناك. وأما جزمه بأنه لم يجد لحديث أبي هريرة سندا آخر ففيه نظر لأنه أورده في كتاب اللباس بسند آخر وعلقه في مناقب الحسن فقال: وقال نافع بن جبير عن أبي هريرة، فذكر طرفا منه، فلو كان أراد ذكره لعلق منه موضع حاجته أيضا بحذف أكثر السند أو بعضه كأن يقول: وقال أبو هريرة، أو قال عبيد الله بن أبي يزيد عن نافع بن جبير عن أبي هريرة، وأما قوله إنهما ترجمتان خلت الأولى عن الحديث فضمهما الناسخ فإنه محتمل - ولكن في الجزم به نظر. وقد ذكرت في المقدمة عن أبي ذر راوي الكتاب ما يؤيد ما ذكره من أن بعض من سمع الكتاب كان يضم بعض التراجم إلى بعض ويسد البياض وهي قاعدة يفزع إليها عند العجز عن تطبيق الحديث على الترجمة، ويؤيده إسقاط لفظ المعانقة من رواية من ذكرنا، وقد ترجم في الأدب "باب كيف أصبحت" وأورد فيه حديث ابن عباس المذكور وأفرد باب المعانقة عن هذا الباب وأورد فيه حديث جابر كما ذكرت، وقوى ابن التين ما قال ابن بطال بأنه وقع عنده في رواية: "باب المعانقة" قول الرجل كيف أصبحت بغير واو فدل على أنهما ترجمتان. وقد أخذ ابن جماعة كلام ابن بطال جازما به واختصره وزاد عليه فقال: ترجم بالمعانقة ولم يذكرها وإنما ذكرها في كتاب البيوع، وكأنه ترجم ولم

(11/58)


يتفق له حديث يوافقه في المعنى ولا طريق آخر لسند معانقة الحسن، ولم ير أن يرويه بذلك السند لأنه ليس من عادته إعادة السند الواحد، أو لعله أخذ المعانقة من عادتهم عند قولهم كيف أصبحت فاكتفى بكيف أصبحت لاقتران المعانقة به عادة. قلت: وقد قدمت الجواب عن الاحتمالين الأولين، وأما الاحتمال الأخير فدعوى العادة تحتاج إلى دليل وقد أورد البخاري في "الأدب المفرد" في "باب كيف أصبحت" حديث محمود بن لبيد "أن سعد بن معاذ لما أصيب أكحله كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: كيف أصبحت" الحديث، وليس فيه للمعانقة ذكر، وكذلك أخرج النسائي من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: "دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أصبحت؟ فقال: صالح من رجل لم يصبح صائما" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن أبي عمر نحوه. وأخرج البخاري أيضا في "الأدب المفرد" من حديث جابر قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت؟ قال بخير" الحديث. ومن حديث مهاجر الصائغ "كنت أجلس إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا قيل له كيف أصبحت؟ قال: لا نشرك بالله" ومن طريق أبي الطفيل قال: "قال رجل لحذيفة: كيف أصبحت، أو كيف أمسيت يا أبا عبد الله؟ قال: أحمد الله" ومن طريق أنس أنه "سمع عمر سلم عليه رجل فرد ثم قال له: كيف أنت؟ قال أحمد الله. قال هذا الذي أردت منك" وأخرج الطبراني في "الأوسط" نحو هذا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، فهذه عدة أخبار لم تقترن فيها المعانقة بقول كيف أصبحت ونحوها بل ولم يقع في حديث الباب أن اثنين تلاقيا فقال أحدهما للآخر كيف أصبحت حتى يستقيم الحمل على العادة في المعانقة حينئذ، وإنما فيه أن من حضر باب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا خروج علي من عند النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن حاله في مرضه فأخبرهم، فالراجح أن ترجمة المعانقة كانت خالية من الحديث كما تقدم، وقد ورد في المعانقة أيضا حديث أبي ذر أخرجه أحمد وأبو داود من طريق رجل من عنزة لم يسم قال: "قلت لأبي ذر هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه. قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلي ذات يوم فلم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني، فكانت أجود وأجود" ورجاله ثقات، إلا هذا الرجل المبهم. وأخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس "كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا" وله في الكبير "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتى يسلم عليهم" قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة. ثم ساق قصتهما في ذلك من طريق سعيد بن إسحاق وهو مجهول عن علي بن يونس الليثي المدني وهو كذلك، وأخرجها ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه من وجه آخر عن علي بن يونس قال: استأذن سفيان بن عيينة على مالك فأذن له فقال: السلام عليكم فردوا عليه، ثم قال: السلام خاص وعام، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته. ثم قال: لولا أنها بدعة لعانقتك. قال قد عانق من هو خير منك قال جعفر؟ قال: نعم.قال: ذاك خاص قال: ما عمه يعمنا. ثم ساق سفيان الحديث عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "لما قدم جعفر من الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث. قال الذهبي في "الميزان ": هذه الحكاية باطلة، وإسنادها مظلم. قلت: والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد، فأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن الأجلح عن الشعبي "أن جعفرا لما قدم تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل جعفرا بين عيينة" وأخرج البغوي في "معجم الصحابة" من حديث عائشة "لما قدم جعفر استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه" وسنده

(11/59)


موصول لكن في سنده محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو ضعيف. وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه فاعتنقه وقبله" قال الترمذي: حديث حسن. وأخرج قاسم بن أصبغ" عن أبي الهيثم بن التيهان أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه فاعتنقه وقبله" وسنده ضعيف. قال المهلب: في أخذ العباس بيد علي جواز المصافحة والسؤال عن حال العليل كيف أصبح، وفيه جواز اليمين على غلبة الظن، وفيه أن الخلافة لم تذكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أصلا لأن العباس حلف أنه يصير مأمورا لا آمرا لما كان يعرف من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بها إلى غيره، وفي سكوت علي دليل على علم علي بما قال العباس، قال: وأما قول علي لو صرح النبي صلى الله عليه وسلم بصرفها عن بني عبد المطلب لم يمكنهم أحد بعده منها فليس كما ظن، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" وقيل له لو أمرت عمر فامتنع ثم لم يمنع ذلك عمر من ولايتها بعد ذلك. قلت: وهو كلام من لم يفهم مراد علي. وقد قدمت في شرح الحديث في الوفاة النبوية بيان مراده، وحاصله أنه إنما خشي أن يكون منع النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الخلافة حجة قاطعة بمنعهم منها على الاستمرار تمسكا بالمنع الأول لو رده بمنع الخلافة نصا، وأما منع الصلاة فليس فيه نص على منع الخلافة وإن كان في التنصيص على إمامة أبي بكر في مرضه إشارة إلى أنه أحق بالخلافة فهو بطريق الاستنباط لا النص، ولولا قرينة كونه في مرض الموت ما قوى، وإلا فقد استناب في الصلاة قبل ذلك غيره في أسفاره والله أعلم. وأما ما استنبطه أولا ففيه نظر، لأن مستند العباس في ذلك الفراسة وقرائن الأحوال، ولم ينحصر ذلك في أن معه من النبي صلى الله عليه وسلم النص على منع علي من الخلافة، وهذا بين من سياق القصة، وقد قدمت هناك أن في بعض طرق هذا الحديث أن العباس قال لعلي بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط يدك أبايعك فيبايعك الناس فلم يفعل، فهذا دال على أن العباس لم يكن عنده في ذلك نص والله أعلم. وقول العباس في هذه الرواية لعلي "ألا تراه: أنت والله بعد ثلاث إلخ" قال ابن التين: الضمير في تراه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن الأظهر أنه ضمير الشأن وليست الرؤية هنا الروية البصرية، وقد وقع في سائر الروايات "ألا ترى" بغير ضمير. وقوله: "لو لم تكن الخلافة فينا آمرناه" قال ابن التين: فهو بمد الهمزة أي شاورناه، قال وقرأناه بالقصر من الأمر. قلت: وهو المشهور. والمراد سألناه، لأن صيغة الطلب كصيغة الأمر، ولعله أراد أنه يؤكد عليه في السؤال حتى يصير كأنه آمر له بذلك. وقال الكرماني: فيه دلالة على أن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء. وحكى ابن التين عن الداودي أن أول ما استعمل الناس "كيف أصبحت" في زمن طاعون عمواس، وتعقبه بأن العرب كانت تقوله قبل الإسلام. وبأن المسلمين قالوه في هذا الحديث. قلت: والجواب حمل الأولية على ما وقع في الإسلام، لأن الإسلام جاء بمشروعية السلام للمتلاقيين، ثم حدث السؤال عن الحال، وقل من صار يجمع بينهما، والسنة البداءة بالسلام، وكأن السبب فيه ما وقع من الطاعون فكانت الداعية متوفرة على سؤال الشخص من صديقه عن حاله فيه ثم كثر ذلك حتى اكتفوا به عن السلام، ويمكن الفرق بين سؤال الشخص عمن عنده ممن عرف أنه متوجع وبين سؤال من حاله يحتمل الحدوث.

(11/60)


باب من أجاب بلبيك و سعديك
...
30 - باب مَنْ أَجَابَ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
6267- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن قتادة عن أنس "عن معاذ قال أنا رديف النبي

(11/60)


صلى الله عليه وسلم فقال:" يا معاذ قلت لبيك وسعديك قال مثله ثلاثا هل تدري ما حق الله على العباد قلت لا قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة فقال يا معاذ قلت لبيك وسعديك قال هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم حدثنا هدبة حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس عن معاذ.. بهذا"
6268- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا زيد بن وهب "حدثنا والله أبو ذر بالربذة قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء استقبلنا أحد فقال يا أبا ذر ما أحب أن أحدا لي ذهبا يأتي علي ليلة أو ثلاث عندي منه دينار إلا أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وأرانا بيده ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك يا رسول الله قال الأكثرون هم الأقلون إلا من قال هكذا وهكذا ثم قال لي مكانك لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع فانطلق حتى غاب عني فسمعت صوتا فخشيت أن يكون عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأردت أن أذهب ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبرح فمكثت قلت يا رسول الله سمعت صوتا خشيت أن يكون عرض لك ثم ذكرت قولك فقمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك جبريل أتاني فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت لزيد إنه بلغني أنه أبو الدرداء فقال أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة قال الأعمش وحدثني أبو صالح عن أبي الدرداء نحوه وقال أبو شهاب عن الأعمش يمكث عندي فوق ثلاث"
قوله: "باب من أجاب بلبيك وسعديك" ذكر فيه حديث أنس عن معاذ قال: "أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ، قلت: لبيك وسعديك" وقد تقدم شرح هاتين الكلمتين في كتاب الحج وتقدم شرح بعض حديث معاذ في كتاب العلم وفي الجهاد ويأتي مستوفى في كتاب الرقاق، وكذلك حديث أبي ذر المذكور في الباب بعده وقوله فيه: "قلت لزيد" أي ابن وهب، والقائل هو الأعمش وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد بين في الرواية التي تليها أن الأعمش رواه عن أبي صالح عن أبي الدرداء، وقوله: "وقال أبو شهاب عن الأعمش" يعني عن زيد بن وهب عن أبي ذر كما تقدم موصولا في كتاب الاستقراض، والمراد أنه أتى بقوله: "يمكث عندي فوق ثلاث" بدل قوله في رواية هذا الباب: "تأتي على ليلة أو ثلاث عندي منه دينار" وبقية سياق الحديث سواء إلا الكلام الأخير في سؤال الأعمش زيد بن وهب إلى آخره، وقوله: "أرصده" بضم أوله، وقوله: "فقمت" أي أقمت في موضعي وهو كقوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} وقد ورد ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم فأخرج النسائي وصححه ابن حبان من حديث محمد بن حاطب قال: "انطلقت بي أمي إلى رجل جالس فقالت له: يا رسول الله قال: لبيك وسعديك"

(11/61)


قلت: وأمه هي أم جميل بالجيم بنت المحلل بمهملة ولامين الأولى ثقيلة.

(11/62)


باب لايقيم الرجل للرجل من مجلسه
...
31 - باب لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ
6269- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ"
قوله: "باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه" هكذا ترجم بلفظ الخبر وهو خبر معناه النهي، وقد رواه ابن وهب بلفظ النهي "لا يقم" وكذا رواه ابن الحسن، ورواه القاسم بن يزيد وطاهر بن مدرار بلفظ: "لا يقيمن" وكذا وقع في رواية الليث عند مسلم بلفظ النهي الموكد، وكذا عنده من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس" وهذا الحديث ليس في الموطأ إلا عند ابن وهب ومحمد بن الحسن، وقد أخرجه الدار قطني من رواية إسماعيل وابن وهب وابن الحسن والوليد بن مسلم والقاسم بن يزيد وطاهر بن مدرار كلهم عن مالك، وأخرجه الإسماعيلي من رواية القاسم بن يزيد الجرمي وعبد الله بن وهب جميعا عن مالك؛ وضاق على أبي نعيم فأخرجه من طريق البخاري نفسه، وقد تقدم في كتاب الجمعة من رواية ابن جريج عن نافع، ويأتي في الباب الذي يليه من رواية عبد الله بن عمر العمري عن نافع وسياقه أتم ويأتي شرحه فيه.

(11/62)


باب { إذا قيل تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم....}
...
32 - باب {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشِزُوا فَانْشِزُوا} الْآيَةَ
6270- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ"
قوله: "باب إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا" كذا لأبي ذر، وزاد غيره { وإذا قيل انشزوا فانشزوا} الآية. اختلف في معنى الآية فقيل إن ذلك خاص بمجلس النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن بطال قال بعضهم: هو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة عن مجاهد وقتادة قلت: لفظ الطبري عن قتادة "كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأوه مقبلا ضيقوا مجلسهم، فأمرهم الله تعالى أن يوسع بعضهم لبعض". قلت: لا يلزم من كون الآية نزلت في ذلك الاختصاص. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان بفتح المهملة والتحتانية الثقيلة قال: "نزلت يوم الجمعة أقبل جماعة من المهاجرين والأنصار من أهل بدر فلم يجدوا مكانا، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم ناسا ممن تأخر إسلامه فأجلسهم في أماكنهم، فشق ذلك عليهم، وتكلم المنافقون في ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا}" وعن الحسن البصري: المراد بذلك مجلس القتال، قال: ومعنى قوله: {انْشُزُوا} انهضوا للقتال.وذهب الجمهور إلى أنها عامة في كل مجلس من مجالس الخير، وقوله: {فَافْسَحُوا

(11/62)


33 - باب مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ
6271- حدثنا الحسن بن عمر حدثنا معتمر سمعت أبي يذكر عن أبي مجلز "عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون قال فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام معه من الناس وبقى ثلاثة وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا قال فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ -إلى قوله- إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً}

(11/64)


قوله: "باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه، أو تهيأ للقيام ليقوم الناس" ذكر فيه حديث أنس في قصة زواج زينب بنت جحش ونزول آية الحجاب، وفيه: "فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة الأحزاب. قال ابن بطال: فيه أنه لا ينبغي لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بإذنه، وأن المأذون له لا يطيل الجلوس بعد تمام ما أذن له فيه لئلا يؤذي أصحاب المنزل ويمنعهم من التصرف في حوائجهم. وفيه أن من فعل ذلك حتى تضرر به صاحب المنزل أن لصاحب المنزل أن يظهر التثاقل به وأن يقوم بغير إذن حتى يتفطن له، وأن صاحب المنزل إذا خرج من منزله لم يكن للمأذون له في الدخول أن يقيم إلا بإذن جديد، والله أعلم.

(11/65)


34 - باب الِاحْتِبَاءِ بِالْيَدِ وَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ
6272- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ "ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا..."
قوله: "باب الاحتباء باليد وهو" وقع في رواية الكشميهني: "وهي" "القرفصاء" بضم القاف والفاء بينهما راء ساكنة ثم صاد مهملة ومد. وقال الفراء: إن ضممت القاف والفاء مددت وإن كسرت قصرت، والذي فسر به البخاري الاحتباء أخذه من كلام أبي عبيدة فإنه قال: القرفصاء جلسة المحتبى، ويدير ذراعيه ويديه على ساقيه. وقال عياض: قيل هي الاحتباء، وقيل جلسة الرجل المستوفز، وقيل جلسة الرجل على أليتيه. قال: وحديث قيلة يدل عليه لأن فيه: "وبيده عسيب نخلة" فدل على أنه لم يحتب بيديه. قلت: ولا دلالة فيه على نفي الاحتباء فإنه تارة يكون باليدين وتارة بثوب، فلعله في الوقت الذي رأته قيلة كان محتبيا بثوبه، وقد قال ابن فارس وغيره: الاحتباء أن يجمع ثوبه ظهره وركبتيه. قلت: وحديث قيلة وهي بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها لام أخرجه أبو داود والترمذي في "الشمائل" والطبراني وطوله بسند لا بأس به أنها قالت. فذكر الحديث وفيه: "قالت فجاء رجل قال السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه أسمال مليتين قد كانتا بزعفران فنفضتا، وبيده عسيب نخلة مقشرة قاعدا القرفصاء. قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال له جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال ولم ينظر إلي: يا مسكينة عليك السكينة، فذهب عني ما أجد من الرعب" الحديث. وقوله فيه: "وعليه أسمال" بمهملة جمع سمل بفتحتين وهو الثوب البالي و "مليتين" بالتصغير تثنية ملاءة وهي الرداء. وقيل القرفصاء الاعتماد على عقبيه ومس أليتيه بالأرض، والذي يتحرر من هذا كله أن الاحتباء قد يكون بصورة القرفصاء، لا أن كل احتباء قرفصاء والله أعلم. قوله: "حدثني محمد بن أبي غالب" هو القومسي بضم القاف وسكون الواو وبالسين المهملة، نزل بغداد، وهو من صغار شيوخ البخاري ومات قبله بست سنين، وليس له عنده سوى هذا الحديث وحديث آخر في كتاب التوحيد. ولهم شيخ آخر يقال له محمد بن أبي غالب الواسطي نزيل بغداد، قال أبو نصر الكلاباذي سمع من هشيم ومات قبل القومسي بست وعشرين سنة. قوله: "محمد بن فليح عن أبيه" هو فليح بن سليمان المدني، وقد نزل البخاري في حديثه هذا درجتين لأنه سمع الكثير من أصحاب فليح مثل يحيى بن صالح ونزل في حديث إبراهيم بن المنذر درجة

(11/65)


لأنه سمع منه الكثير وأخرج عنه بغير واسطة. قوله: "بفناء الكعبة" بكسر الفاء ثم نون ثم مد أي جانبها من قبل الباب. قوله: "محتبيا بيده هكذا" كذا وقع عنده مختصرا، ورويناه في الجزء السادس من "فوائد أبي محمد بن صاعد" عن محمود بن خالد عن أبي غزية وهو بفتح المعجمة وكسر الزاي وتشديد التحتانية وهو محمد بن موسى الأنصاري القاضي عن فليح نحوه وزاد: "فأرانا فليح موضع يمينه على يساره موضع الرسغ" وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي موسى محمد بن المثنى عن أبي غزية بسند آخر قال: "حدثنا إبراهيم بن سعد عن عمر بن محمد بن زيد عن نافع" فذكر نحو حديث الباب دون كلام فليح، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن أبي غزية عن فليح ولم يذكر كلام فليح أيضا، والذي يظهر أن لأبي غزية فيه شيخين، وأبو غزية ضعفه ابن معين وغيره، ووقع عند أبي داود من حديث أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيديه" زاد البزار "ونصب ركبتيه" وأخرج البزار أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: "جلس عند الكعبة فضم رجليه فأقامهما واحتبى بيديه" ويستثنى من الاحتباء باليدين ما إذا كان في المسجد ينتظر الصلاة فاحتبى بيديه فينبغي أن يمسك إحداهما بالأخرى كما وقعت الإشارة إليه في هذا الحديث من وضع إحداهما على رسغ الأخرى، ولا يشبك بين أصابعه في هذه الحالة، فقد ورد النهي عن ذلك عند أحمد من حديث أبي سعيد بسند لا بأس به والله أعلم. وتقدمت مباحث التشبيك في المسجد في أبواب المساجد من كتاب الصلاة. وقال ابن بطال: لا يجوز للمحتبى أن يصنع بيديه شيئا ويتحرك لصلاة أو غيرها لأن عورته تبدو إلا إذ كان عليه ثوب يستر عورته فيجوز، وهذا بناء على أن الاحتباء قد يكون باليدين فقط وهو المعتمد، وفرق الداودي فيما حكاه عنه ابن التين بين الاحتباء والقرفصاء فقال: الاحتباء أن يقيم رجليه ويفرج بين ركبيته ويدير عليه ثوبا ويعقده، فإن كان عليه قميص أو غيره فلا ينهى عنه، وإن لم يكن عليه شيء فهو القرفصاء. كذا قال والمعتمد ما تقدم.

(11/66)


باب من اتكأ بين أصحابه
...
35 - باب مَنْ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ
قَالَ خَبَّابٌ "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً قُلْتُ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ"
6273-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ "عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ"
6274- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ مِثْلَهُ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ"
قوله: "باب من اتكأ بين يدي أصحابه" قيل: الاتكاء الاضطجاع، وقد مضى في حديث عمر في كتاب الطلاق "وهو متكئ على سرير" أي مضطجع، بدليل قوله: "قد أثر السرير في جنبه" كذا قال عياض، وفيه نظر لأنه يصح مع عدم تمام الاضطجاع، وقد قال الخطابي: كل معتمد على شيء متمكن منه فهو متكئ، وإيراد البخاري حديث خباب المعلق يشير به إلى أن الاضطجاع اتكاء وزيادة. وأخرج الدارمي والترمذي وصححه هو

(11/66)


وأبو عوانة وابن حبان عن جابر بن سمرة "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئا على وسادة" ونقل ابن العربي عن بعض الأطباء أنه كره الاتكاء، وتعقبه بأن فيه راحة كالاستناد والاحتباء. قوله: "وقال خباب" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة وآخره موحدة أيضا هو ابن الأرت الصحابي، وهذا القدر المعلق طرف من حديث له تقدم موصولا في علامات النبوة. حديث أبي بكرة في أكبر الكبائر وأورده من طريقين لقوله فيه: "وكان متكئا فجلس" وقد تقدمت الإشارة إليه في أوائل كتاب الأدب، وورد في مثل ذلك حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة لما قال: "أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ذلك الأبيض المتكئ" قال المهلب: يجوز للعالم والمفتي والإمام الاتكاء في مجلسه بحضرة الناس لألم يجده في بعض أعضائه أو لراحة يرتفق بذلك ولا يكون ذلك في عامة جلوسه.

(11/67)


36 - باب مَنْ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ لِحَاجَةٍ أَوْ قَصْدٍ
6275- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ"
قوله: "باب من أسرع في مشيه لحاجة" أي لسبب من الأسباب، وقوله: "أو قصد" أي لأجل قصد شيء معروف، والقصد هنا بمعنى المقصود، أي أسرع لأمر المقصود. حديث عقبة بن الحارث، قال ابن بطال: فيه جواز إسراع الإمام في حاجته، وقد جاء أن إسراعه عليه الصلاة والسلام في دخوله إنما كان لأجل صدقة أحب أن يفرقها في وقته. قلت: وهذا الذي أشار إليه متصل في حديث عقبة بن الحارث المذكور كما تقدم واضحا في كتاب الزكاة، فإنه أخرجه هناك بالإسناد الذي ذكره هنا تاما، وتقدم أيضا في صلاة الجماعة. وقال في الترجمة "لحاجة أو قصد" لأن الظاهر من السياق أنه كان لتلك الحاجة الخاصة فيشعر بأن مشيه لغير الحاجة كان على هينته، ومن ثم تعجبوا من إسراعه، فدل على أنه وقع على غير عادته. فحاصل الترجمة أن الإسراع في المشي إن كان لحاجة لم يكن به بأس، وإن كان عمدا لغير حاجة فلا. وقد أخرج ابن المبارك في كتاب الاستئذان بسند مرسل أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشية السوقي لا العاجز ولا الكسلان. وأخرج أيضا: "كان ابن عمر يسرع في المشي ويقول هو أبعد من الزهو، وأسرع في الحاجة". قال غيره: وفيه اشتغال عن النظر إلى ما لا ينبغي التشاغل به. وقال ابن العربي: المشي على قدر الحاجة هو السنة إسراعا وبطئا، لا التصنيع فيه ولا التهور.

(11/67)


37 - باب السَّرِيرِ
6276- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلاَلًا"
قوله: "باب السرير" بمهملات وزن عظيم معروف. ذكر الراغب أنه مأخوذ من السرور لأنه في الغالب لأولى

(11/67)


38 - باب مَنْ أُلْقِيَ لَهُ وِسَادَةٌ
6277- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقَالَ لِي " أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خَمْسًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ سَبْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تِسْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِحْدَى عَشْرَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ شَطْرَ الدَّهْرِ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ"
6278- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّأْمَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ "ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَلِيسًا فَقَعَدَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي كَانَ لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ يَعْنِي حُذَيْفَةَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ كَانَ فِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَمَّارًا أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ كَيْفَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ { وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} فَقَالَ مَا زَالَ هَؤُلاَءِ حَتَّى كَادُوا يُشَكِّكُونِي وَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب من ألقي له وسادة" ألقى بضم أوله على البناء للمجهول، وذكره لأن التأنيث ليس حقيقيا. ويقال وسادة ووساد وهي بكسر الواو وتقولها هذيل بالهمز بدل الواو ما يوضع عليه الرأس وقد يتكأ عليه وهو المراد هنا. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن شاهين الواسطي؛ وخالد شيخه هو ابن عبد الله الطحان، وقوله: "وحدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وعمرو بن عون من شيوخ البخاري وقد أخرج عنه في الصلاة وغيرها.

(11/68)


بغير واسطة، وشيخه هو الطحان المذكور، وشيخه خالد هو ابن مهران الحذاء، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد الثاني درجة، وقد تقدم هذا الحديث عن إسحاق بن شاهين بهذا الإسناد في كتاب الصلاة، وتقدمت مباحث المتن في الصيام، وساقه المصنف هنا على لفظ عمرو بن عون، وهذا هو السر في إيراده له من هذا الوجه النازل حتى لا تتمحض إعادته بسند واحد على صفة واحدة، وقد أطرد له هذا الصنيع إلا في مواضع يسيرة إما ذهولا وإما لضيق المخرج. قوله: "أخبرني أبو المليح" بوزن عظيم اسمه عامر وقيل زيد بن أسامة الهذلي. قوله: "دخلت مع أبيك زيد" هذا الخطاب لأبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد، ولم أر لزيد ذكرا إلا في هذا الخبر، وهو ابن عمرو وقيل ابن عامر بن ناتل بنون ومثناة ابن مالك بن عبيد الجرمي. قوله: "فألقيت له وسادة" قال المهلب فيه إكرام الكبير، وجواز زيارة الكبير تلميذه وتعليمه في منزله ما يحتاج إليه في دينه، وإيثار التواضع وحمل النفس عليه، وجواز رد الكرامة حيث لا يتأذى بذلك من تردد عليه. قوله: "حدثنا يحيى بن جعفر" هو البيكندي، ويزيد هو ابن هارون، ومغيرة هو ابن مقسم، وإبراهيم هو النخعي، وقد تقدم الحديث في مناقب عمار مشروحا، وقوله فيه: "ارزقني جليسا" في رواية سليمان بن حرب عن شعبة في مناقب عمار "جليسا صالحا" وكذا في معظم الروايات وقوله: "أو ليس فيكم صاحب السواك والوساد" في رواية الكشميهني: "الوسادة" يعني أن ابن مسعود كان يتولى أمر سواك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووساده، ويتعاهد خدمته في ذلك بالإصلاح وغيره، وقد تقدم في المناقب بزيادة "والمطهرة" وتقدم الرد على الداودي في زعمه أن المراد أن ابن مسعود لم يكن في ملكه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الأشياء الثلاثة، وقد قال ابن التين هنا: المراد أنه لم يكن له سواهما جهازا وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه إياهما، وليس ذلك مراد أبي الدرداء، بل السياق يرشد إلى أنه أراد وصف كل واحد من الصحابة بما كان اختص به من الفضل دون غيره من الصحابة، وقضية ما قاله الداودي هناك وابن التين هنا أن يكون وصفه بالتقلل، وتلك صفة كانت لغالب من كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضلاء الصحابة والله أعلم. وقوله فيه: "أليس فيكم أو كان فيكم" هو شك من شعبة، وقد رواه إسرائيل عن مغيرة. بلفظ: "وفيكم" وهي في مناقب عمار، ورواه أبو عوانة عن مغيرة بلفظ: "أو لم يكن فيكم" وهي في مناقب ابن مسعود. قوله: "الذي أجاره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان يعني عمارا" في رواية إسرائيل "الذي أجاره الله من الشيطان" يعني على لسان رسوله. وفي رواية أبي عوانة "ألم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان" وقد تقدم بيان المراد بذلك في المناقب، ويحتمل أن يكون أشير بذلك إلى ما جاء عن عمار أن كان ثابتا، فإن الطبراني أخرج من طريق الحسن البصري قال: كان عمار يقول قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس، أرسلني إلى بئر بدر فلقيت الشيطان في صورة إنسي فصارعني فصرعته الحديث. وفي سنده الحكم بن عطية مختلف فيه، والحسن لم يسمع من عمار.

(11/69)


39 - باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
6279- حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن أبي حازم "عن سهل بن سعد قال: كنا نقيل ونتغدى بعد الجمعة"
قوله: "باب القائلة بعد الجمعة" أي بعد صلاة الجمعة، وهي النوم في وسط النهار عند الزوال وما قاربه من قبل

(11/69)


أو بعد، قيل لها قائلة لأنها يحصل فيها ذلك، وهي فاعلة بمعنى مفعولة مثل {عيشة راضية} ويقال لها أيضا القيلولة. وأخرج ابن ماجه وابن خزيمة من حديث ابن عباس رفعه استعينوا على صيام النهار بالسحور، وعلى قيام الليل بالقيلولة وفي سنده زمعة بن صالح وفيه ضعف، وقد تقدم شرح حديث سهل المذكور في الباب في أواخر كتاب الجمعة، وفيه إشارة إلى أنهم كانت عادتهم ذلك في كل يوم، وورود الأمر بها في الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس رفعه قال: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" وفي سنده كثير بن مروان وهو متروك. وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه من حديث خوات بن جبير رضي الله عنه موقوفا قال: "نوم أول النهار حرق، وأوسطه خلق، وآخره حمق" وسنده صحيح.

(11/70)


40 - باب الْقَائِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ
6180- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِيَ بِهَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ فَقَالَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِإِنْسَانٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ"
قوله: "باب القائلة في المسجد" ذكر فيه حديث علي في سبب تكنيته أبا تراب، وقد تقدم في أواخر كتاب الأدب، والغرض منه قول فاطمة عليها السلام "فغاضبني فخرج فلم يقل عندي" وهو بفتح أوله وكسر القاف. قوله: "هو في المسجد راقد" قال المهلب: فيه جواز النوم في المسجد من غير ضرورة إلى ذلك، وعكسه غيره وهو الذي يظهر من سياق القصة.

(11/70)


41 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ
6281- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ قَالَ فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ قَالَ فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ قَالَ فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ"
6282-6283- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ

(11/70)


42 - باب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ
6284- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ"
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قوله: "باب الجلوس كيف ما تيسر" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر. حديث أبي سعيد في النهي عن لبستين وبيعتين، وقد تقدم شرحه في ستر العورة من كتاب الصلاة وفي كتاب البيوع، قال المهلب: هذه الترجمة قائمة من دليل الحديث، وذلك أنه نهى عن حالتين ففهم منه إباحة غيرهما مما تيسر من الهيئات والملابس إذا ستر العورة. قلت: والذي يظهر لي أن المناسبة تؤخذ من جهة العدول عن النهي عن هيئة الجلوس إلى النهي عن لبستين يستلزم كل منهما انكشاف العورة، فلو كانت الجلسة مكروهة لذاتها لم يتعرض لذكر اللبس، فدل على أن النهي عن جلسة تفضي إلى كشف العورة وما لا يفضي إلى كشف العورة يباح في كل صورة، ثم ادعى المهلب أن النهي عن هاتين اللبستين خاص بحالة الصلاة لكونهما لا يستران العورة في الخفض والرفع، وأما الجالس في غير الصلاة فإنه لا يصنع شيئا ولا يتصرف بيديه فلا تنكشف عورته فلا حرج عليه، قال: وقد سبق في باب الاحتباء أنه صلى الله عليه وسلم احتبى. قلت: وغفل رحمه الله عما وقع من التقييد في نفس الخبر، فإن فيه: "والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء" وتقدم في "باب اشتمال الصماء" من كتاب اللباس وفيه: "والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه" وستر العورة مطلوب في كل حالة وإن تأكد في حالة الصلاة لكونها قد تبطل بتركه، ونقل ابن بطال عن ابن طاوس أنه كان يكره التربع ويقول هي جلسة مملكة، وتعقب بما أخرجه مسلم والثلاثة من حديث جابر بن سمرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس" ويمكن الجمع. قوله: "تابعه معمر ومحمد بن أبي حفص وعبد الله بن بديل عن الزهري" أما متابعة معمر فوصلها المؤلف في البيوع، وأما متابعة محمد بن أبي حفص فهي عند أبي أحمد بن عدي في نسخة أحمد بن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن أبي حفص، وأما متابعة عبد الله بن بديل فأظنها في "الزهريات" جمع الذهلي، والله أعلم.

(11/79)


43 - باب مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ
6285-6286- حدثنا موسى عن أبي عوانة حدثنا فراس عن عامر عن مسروق "حدثتني عائشة أم المؤمنين قالت إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعا لم تغادر منا واحدة فأقبلت فاطمة عليها السلام

(11/79)


44 - باب الِاسْتِلْقَاءِ
6287- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا الزهري قال أخبرني عباد بن تميم عن عمه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى"

(11/80)


قوله: "باب الاستلقاء" هو الاضطجاع على القفا سواء كان معه نوم أم لا. وقد تقدمت هذه الترجمة وحديثها في آخر كتاب اللباس قبيل كتاب الأدب، وتقدم بيان الحكم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وذكرت هناك قول من زعم أن النهي عن ذلك منسوخ وأن الجمع أولى، وأن محل النهي حيث تبدو العورة والجواز حيث لا تبدو، وهو جواب الخطابي ومن تبعه. ونقلت قول من ضعف الحديث الوارد في ذلك وزعم أنه لم يخرج في الصحيح، وأوردت عليه بأنه غفل عما في كتاب اللباس من الصحيح والمراد بذلك صحيح مسلم، وسبق القلم هناك فكتبت صحيح البخاري وقد أصلحته في أصلي، ولحديث عبد الله بن زيد في الباب شاهد من حديث أبي هريرة صححه ابن حبان.

(11/81)


باب لايتناجى اثنان دون الثالث
...
45 - باب لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى -إلى قوله- وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ -إلى قوْله- وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
6288- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةٌ فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ"
قوله: "باب لا يتناجى اثنان دون الثالث" أي لا يتحدثان سرا، وسقط لفظ باب من رواية أبي ذر. قوله: "وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا} - إلى قوله: {الْمُؤْمِنُونَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين بتمامهما، وأشار بإيراد هاتين الآيتين إلى أن التناجي الجائز المأخوذ من مفهوم الحديث مقيد بأن لا يكون في الإثم والعدوان. قوله: "وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً - إلى قوله: بِمَا تَعْمَلُونَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين أيضا. وزعم ابن التين أنه وقع عنده {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} قال: والتلاوة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ}. قلت: ولم أقف في شيء من نسخ الصحيح على ما ذكره ابن التين. وقوله تعالى: {قَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أخرج الترمذي عن علي أنها منسوخة. وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن عاصم الأحول قال: لما نزلت كان لا يناجي النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا تصدق، فكان أول من ناجاه على بن أبي طالب فتصدق بدينار، ونزلت الرخصة {إِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية. وهذا مرسل رجاله ثقات. وجاء مرفوعا على غير هذا السياق عن علي أخرجه الترمذي وابن حبان وصححه وابن مردويه من طريق علي بن علقمة عنه قال: "لما نزلت هذه الآية قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: في نصف دينار، قلت: لا يطيقونه. قال فكم؟ قلت: شعيرة قال: إنك لزهيد. قال: فنزلت أأشفقتم الآية، قال علي: فبي خفف عن هذه الأمة" وأخرج ابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص له شاهدا. قوله: "عن نافع" كذا أورده هنا عن مالك عن نافع؛ ولمالك فيه شيخ آخر عن ابن عمر، وفيه قصة سأذكرها بعد باب إن شاء الله تعالى. قوله: "إذا كانوا ثلاثة" كذا للأكثر بنصب ثلاثة على.

(11/81)


أنه الخبر، ووقع في رواية لمسلم: "إذا كان ثلاثة" بالرفع على أن كان تامة. قوله: "فلا يتناجى اثنان دون الثالث" كذا للأكثر بألف مقصورة ثابتة في الخط صورة ياء وتسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر ومعناه النهي. وفي بعض النسخ بجيم فقط بلفظ النهي وبمعناه، زاد أيوب عن نافع كما سيأتي بعد باب "فإن ذلك يحزنه" وبهذه الزيادة تظهر مناسبة الحديث للآية الأولى من قوله: "ليحزن الذين آمنوا" وسيأتي بسطه بعد أبواب.

(11/82)


46 - باب حِفْظِ السِّرِّ
6289- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرًّا فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ"
قوله: "باب حفظ السر" أي ترك إفشائه. قوله: "معتمر بن سليمان" هو التيمي. قوله: "أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم سرا" في رواية ثابت عن أنس عند مسلم أثناء حديث: "فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت ما حبسك" ولأحمد وابن سعد من طريق حميد عن أنس فأرسلني في رسالة فقالت أم سليم ما حبسك. قوله: "فما أخبرت به أحدا بعده ولقد سألتني أم سليم" في رواية ثابت فقالت: "ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا" وفي رواية حميد عن أنس "فقالت احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ثابت "والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت". قال بعض العلماء: كأن هذا السر يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه. وقال ابن بطال: الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة قلت: الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك. ومن الأحاديث الواردة في حفظ السر حديث أنس "احفظ سري تكن مؤمنا" أخرجه أبو يعلى والخرائطي، وفيه على ابن زيد وهو صدوق كثير الأوهام، وقد أخرج أصله الترمذي وحسنه؛ ولكن لم يسق هذا المتن بل ذكر بعض الحديث ثم قال: وفي الحديث طول. وحديث: "إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره" أخرجه عبد الرزاق من مرسل أبي بكر بن حزم. وأخرج القضاعي في "مسند الشهاب" من حديث علي مرفوعا: "المجالس بالأمانة" وسنده ضعيف. ولأبي داود من حديث جابر مثله وزاد: "إلا ثلاثة مجالس: ما سفك فيه دم حرام، أو فرج حرم أو اقتطع فيه مال بغير حق" وحديث جابر رفعه: "إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة" أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي، وله شاهد من حديث أنس عند أبي يعلى.

(11/82)


47 - باب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ
6290- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال النبي

(11/82)


48 - باب طُولِ النَّجْوَى
وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ
6292- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى"
قوله: "باب طول النجوى {وإذ هم نجوى} مصدر من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون" هذا التفسير في رواية المستملى وحده، وقد تقدم بيانه في تفسير الآية في سورة "سبحان"، وتقدم منه أيضا في تفسير سورة يوسف في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيّاً}. حديث أنس "أقيمت الصلاة ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث وعبد العزيز راويه عن أنس هو ابن صهيب، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في "باب الإمام تعرض له الحاجة" وهو قبيل صلاة الجماعة. قوله: "حتى نام أصحابه" تقدم هناك بلفظ: "حتى نام بعض القوم" فيحمل الإطلاق في حديث الباب على ذلك.

(11/85)


باب لاتترك النار فى البيت عند النوم
...
49 - باب لاَ تُتْرَكُ النَّارُ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ
6293- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ"
6294- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ"
6295- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ"
قوله: "باب لا تترك النار في البيت عند النوم" بضم أول "تترك" ومثناة فوقانية على البناء للمجهول وبفتحة ومثناة تحتانية بصيغة النهي المفرد. ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول حديث ابن عمر في النهي عن ذلك. الثاني حديث أبي موسى وفيه بيان حكمة النهي وهي خشية الاحتراق. الثالث حديث جابر وفيه بيان علة الخشية المذكورة. فأما حديث ابن عمر فقوله في السند "ابن عيينة عن الزهري" وقع في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري ".

(11/85)


باب غلق الابواب بلليل
...
50 - باب غلقِ الأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ
6296- حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ"
قوله: "باب غلق الأبواب بالليل" في رواية الأصيلي والجرجاني وكذا لكريمة عن الكشميهني: "إغلاق" وهو الفصيح. وقال عياض هو الصواب. قلت: لكن الأول ثبت في لغة نادرة. قوله: "همام" هو ابن يحيى، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "أطفئوا المصابيح بالليل" تقدم شرحه في الذي قبله. قوله: "وأغلقوا الأبواب" في رواية المستملي والسرخسي "وغلقوا" بتشديد اللام، وتقدم في الباب الذي قبله بلفظ: "أجيفوا" بالجيم والفاء وهي بمعنى أغلقوا وتقدم شرحها في "باب ذكر الجن" وكذا بقية الحديث. قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا" فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيها على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال: واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فردا بعينه، وقوله في هذه الرواية: "وخمروا الطعام والشراب" قال همام: وأحسبه قال: "ولو بعود يعرضه" وهو بضم الراء بعدها ضاد معجمة، وقد تقدم الجزم بذلك عن عطاء في رواية ابن جريج في الباب المذكور، ولفظه: "وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه" وزاد في كل من الأوامر المذكورة "واذكر اسم الله تعالى" وتقدم في "باب شرب اللبن" من كتاب الأشربة بيان الحكمة في ذلك، وقد حمله ابن بطال على عمومه وأشار إلى استشكاله فقال: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لم يعط قوة على شيء من ذلك، وإن كان أعطى ما هو أعظم منه وهو ولوجه في الأماكن التي لا يقدر الآدمي أن يلج فيها. قلت: والزيادة التي أشرت إليها قبل ترفع الإشكال، وهو أن ذكر اسم الله يحول بينه وبين فعل هذه الأشياء.ومقتضاه أنه يتمكن من كل ذلك إذا لم يذكر اسم الله، ويؤيده ما أخرجه مسلم والأربعة عن جابر رفعه: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم" وقد تردد ابن دقيق العيد في ذلك فقال في شرح الإمام: يحتمل أن يؤخذ قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا" على عمومه،

(11/87)


ويحتمل أن يخص بما ذكر اسم الله عليه، ويحتمل أن يكون المنع لأمر يتعلق بجسمه، ويحتمل أن يكون لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه، قال: والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج، فأما الشيطان الذي كان داخلا فلا يدل الخبر على خروجه، قال: فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه. واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب مجازا.

(11/88)


51 - باب الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَنَتْفِ الإِبْطِ
6297- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ"
6298- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَقَالَ بِالْقَدُّومِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ"
6299- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ قَالَ وَكَانُوا لاَ يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ "
6300- وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا خَتِينٌ"
قوله: "باب الختان بعد الكبر" بكسر الكاف وفتح الموحدة. قال الكرماني: وجه مناسبة هذه الترجمة بكتاب الاستئذان أن الختان يستدعي الاجتماع في المنازل غالبا. قوله: "الفطرة خمس" تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس، وكذلك حكم الختان. واستدل ابن بطال على عدم وجوبه بأن سلمان لما أسلم لم يؤمر بالاختتان، وتعقب باحتمال أن يكون ترك لعذر أو لأن قصته كانت قبل إيجاب الختان أو لأنه كان مختتنا. ثم لا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقد ثبت الأمر لغيره بذلك. قوله: "اختتن إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين سنة" تقدم بيان ذلك والاختلاف في سنة حين اختتن وبيان قدر عمره في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام، وذكرت هناك أنه وقع في الموطأ من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة موقوفا على أبي هريرة أن إبراهيم أول من اختتن وهو ابن عشرين ومائة، واختتن بالقدوم، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، ورويناه.

(11/88)


في "فوائد ابن السماك" من طريق أبي أويس عن أبي الزناد بهذا السند مرفوعا، وأبو أويس فيه لين، وأكثر الروايات على ما وقع في حديث الباب أنه عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وقد حاول الكمال بن طلحة في جزء له في الختان الجمع بين الروايتين فقال: نقل في الحديث الصحيح أنه اختتن لثمانين. وفي رواية أخرى صحيحة أنه اختتن لمائة وعشرين، والجمع بينهما أن إبراهيم عاش مائتي سنة منها ثمانين سنة غير مختون ومنها مائة وعشرين وهو مختون، فمعنى الحديث الأول اختتن لثمانين مضت من عمره، والثاني لمائة وعشرين بقيت من عمره. وتعقبه الكمال بن العديم في جزء سماه "الملحة في الرد على ابن طلحة" بأن في كلامه وهما من أوجه: أحدها تصحيحه لرواية مائة وعشرين وليست بصحيحة، ثم أوردها من رواية الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعة وتعقبه بتدليس الوليد، ثم أورده من "فوائد ابن المقري" من رواية جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد به موقوفا، ومن رواية علي بن مسهر وعكرمة بن إبراهيم كلاهما عن يحيى بن سعيد كذلك. ثانيها قوله في كل منهما لثمانين لمائة وعشرين، ولم يرد في طريق من الطرق باللام وإنما ورد بلفظ اختتن وهو ابن ثمانين وفي الأخرى وهو ابن مائة وعشرين، وورد الأول أيضا بلفظ: "على رأس ثمانين" ونحو ذلك. ثالثها أنه صرح في أكثر الروايات أنه عاش بعد ذلك ثمانين سنة، فلا يوافق الجمع المذكور أن المائة وعشرين هي التي بقيت من عمره. ورابعها أن العرب لا تزال تقول خلون إلى النصف فإذا تجاوزت النصف قالوا بقين، والذي جمع به ابن طلحة يقع بالعكس، ويلزم أن يقول فيما إذا مضى من الشهر عشرة أيام لعشرين بقين وهذا لا يعرف في استعمالهم. ثم ذكر الاختلاف في سن إبراهيم وجزم بأنه لا يثبت منها شيء. منها قول هشام بن الكلبي عن أبيه قال: دعا إبراهيم الناس إلى الحج ثم رجع إلى الشام فمات به وهو ابن مائتي سنة. وذكر أبو حذيفة البخاري أحد الضعفاء في "المبتدأ" بسند له ضعيف أن إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا من مرسل عبيد بن عمير في وفاة إبراهيم وقصته مع ملك الموت ودخوله عليه في صورة شيخ فأضافه، فجعل يضع اللقمة في فيه فتتناثر ولا تثبت في فيه، فقال له: كم أتى عليك؟ قال: مائة وإحدى وستون سنة. فقال إبراهيم في نفسه وهو يومئذ ابن ستين ومائة: ما بقي أن أصير هكذا إلا سنة واحدة فكره الحياة، فقبض ملك الموت حينئذ روحه برضاه. فهذه ثلاثة أقوال مختلفة يتعسر الجمع بينها، لكن أرجحها الرواية الثالثة. وخطر لي بعد أنه يجوز الجمع بأن يكون المراد بقوله: "وهو ابن ثمانين" أنه من وقت فارق قومه وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى "وهو ابن مائة وعشرين" أي من مولده، أو أن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها إلا عشرين أو بالعكس، والله أعلم. قال المهلب: ليس اختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين مما يوجب علينا مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن وقت أوحى الله إليه بذلك وأمره به، قال: والنظر يقتضي أنه لا ينبغي الاختتان إلا قرب وقت الحاجة إليه لاستعمال العضو في الجماع، كما وقع لابن عباس حيث قال: "كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" ثم قال: والاختتان في الصغر لتسهيل الأمر على الصغير لضعف عضوه وقلة فهمه. قلت: يستدل بقصة إبراهيم عليه السلام لمشروعية الختان حتى لو أخر لمانع حتى بلغ السن المذكور لم يسقط طلبه، وإلى ذلك أشار البخاري بالترجمة، وليس المراد أن الختان يشرع تأخيره إلى الكبر حتى يحتاج إلى الاعتذار عنه. وأما التعليل الذي ذكره من طريق النظر ففيه نظر، فإن حكمة الختان لم تنحصر في تكميل ما يتعلق بالجماع بل

(11/89)


ولما يخشى من انحباس بقية البول في الغرلة ولا سيما للمستجمر فلا يؤمن أن يسيل فينجس الثوب أو البدن، فكانت المبادرة لقطعها عند بلوغ السن الذي يؤمر به الصبي بالصلاة أليق الأوقات، وقد بينت الاختلاف في الوقت الذي يشرع فيه فيما مضى. قوله: "واختتن بالقدوم مخففة" ثم أشار إليه من طريق أخرى مشددة وزاد: "وهو موضع" وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، وأشرت إليه أيضا في أثناء اللباس. وقال المهلب: القدوم بالتخفيف الآلة كقول الشاعر على خطوب مثل نحت القدوم وبالتشديد الموضع، قال: وقد يتفق لإبراهيم عليه السلام الأمران يعني أنه اختتن بالآلة وفي الموضع. قلت: وقد قدمت الراجح من ذلك هناك، وفي المتفق للجوزقي بسند صحيح عن عبد الرزاق قال: القدوم القرية. وأخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن عبيد الله بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "اختتن إبراهيم بالقدوم" فقلت ليحيى: ما القدوم؟ قال الفأس. قال الكمال بن العديم في الكتاب المذكور. الأكثر على أن القدوم الذي اختتن به إبراهيم هو الآلة، يقال بالتشديد والتخفيف والأفصح التخفيف، ووقع في روايتي البخاري بالوجهين، وجزم النضر بن شميل أنه اختتن بالآلة المذكورة، فقيل له: يقولون قدوم قرية بالشام، فلم يعرفه وثبت على الأول. وفي صحاح الجوهري: القدوم الآلة والموضع بالتخفيف معا. وأنكر ابن السكيت التشديد مطلقا. ووقع في متفق البلدان للحازمي: قدوم قرية كانت عند حلب وكانت مجلس إبراهيم. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم" هو البغدادي المعروف بصاعقة، وشيخه عباد بن موسى هو الختلي بضم المعجمة وتشديد المثناة الفوقانية وفتحها بعدها لام من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجة بالنسبة لإسماعيل بن جعفر فإنه أخرج الكثير عن إسماعيل بن جعفر بواسطة واحدة كقتيبة وعلي بن حجر، ونزل فيه درجتين بالنسبة لإسرائيل فإنه أخرج عنه بواسطة واحدة كعبد الله بن موسى ومحمد بن سابق. قوله: "أنا مختون" أي وقع له الختان، يقال صبي مختون ومختتن وختين بمعنى. قوله: "وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" أي حتى يبلغ الحلم، قال الإسماعيلي: لا أدري من القائل "وكانوا يختنون" أهو أبو إسحاق أو إسرائيل أو من دونه، وقد قال أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر" وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وأنا قد ناهزت الاحتلام" قال: والأحاديث عن ابن عباس في هذا مضطربة. قلت: وفي كلامه نظر، أما أولا فلأن الأصل أن الذي يثبت في الحديث معطوفا على ما قبله فهو مضاف إلى من نقل عنه الكلام السابق حتى يثبت أنه من كلام غيره. ولا يثبت الإدراج بالاحتمال. وأما ثانيا فدعوى الاضطراب مردودة مع إمكان الجمع أو الترجيح، فإن المحفوظ الصحيح أنه ولد بالشعب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير وصححه ابن عبد البر وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: "ولدت وبنو هاشم في الشعب" وهذا لا ينافي قوله: "ناهزت الاحتلام" أي قاربته ولا قوله: "وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع، وأما قوله: "وأنا ابن عشر" فمحمول على إلغاء الكسر، وروى أحمد من طريق أخرى عن ابن عباس أنه كان حينئذ ابن خمس عشرة، ويمكن رده إلى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء وولد في أثناء السنة فجبر الكسرين بأن يكون ولد مثلا في شوال فله من السنة الأولى ثلاثة.

(11/90)


أشهر فأطلق عليها سنة وقبض النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال ثلاث عشرة ألغى الكسرين ومن قال خمس عشرة جبرهما والله أعلم. قوله: "وقال ابن إدريس" هو عبد الله وأبوه هو ابن يزيد الأودي، وشيخه أبو إسحاق هو السبيعي. قوله: "قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ختين" أي مختون كقتيل ومقتول، وهذا الطريق وصله الإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس.

(11/91)


52 - باب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
6301- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ"
قوله: "باب كل لهو باطل إذا شغله" أي شغل اللاهي به "عن طاعة الله" أي كمن النهي بشيء من الأشياء مطلقا سواء كان مأذونا في فعله أو منهيا عنه كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكر في معاني القرآن مثلا حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدا فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها، وأول هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه: "كل ما يلهو به المرء المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله" الحديث. وكأنه لما لم يكن على شرط المصنف استعمله لفظ ترجمة، واستنبط من المعنى ما قيد به الحكم المذكور. وإنما أطلق على الرمي أنه لهو لإمالة الرغبات إلى تعليمه لما فيه من صورة اللهو لكن المقصود من تعلمه الإعانة على الجهاد، وتأديب الفرس إشارة إلى المسابقة عليها، وملاعبة الأهل للتأنيس ونحوه، وإنما أطلق على ما عداها البطلان من طريق المقابلة لا أن جميعها من الباطل المحرم. قوله: "ومن قال لصاحبه تعال أقامرك" أي ما يكون حكمه. قوله: "وقوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية" كذا في رواية أبي ذر والأكثر؛ وفي رواية الأصيلي وكريمة "ليضل عن سبيل الله" الآية. وذكر ابن بطال أن البخاري استنبط تقييد اللهو في الترجمة من مفهوم قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن مفهومه أنه إذا اشتراه لا ليضل لا يكون مذموما، وكذا مفهوم الترجمة أنه إذا لم يشغله اللهو عن طاعة الله لا يكون باطلا. لكن عموم هذا المفهوم يخص بالمنطوق، فكل شيء نص على تحريمه مما يلهي يكون باطلا سواء شغل أو لم يشغل، وكأنه رمز إلى ضعف ما ورد في تفسير اللهو في هذه الآية بالغناء. وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رفعه: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن" الحديث، وفيه: "وفيهن أنزل الله {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية، وسنده ضعيف. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود موقوفا أنه فسر اللهو في هذه الآية بالغناء، وفي سنده ضعف أيضا. حديث أبي هريرة وفيه: "ومن قال لصاحبه تعال أقامرك" الحديث. وأشار بذلك إلى أن القمار من جملة اللهو، ومن دعا إليه دعا إلى المعصية، فلذلك أمر بالتصدق ليكفر عنه تلك المعصية، لأن من دعا إلى معصية وقع بدعائه إليها في

(11/91)


معصية. وقال الكرماني: وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة والترجمة بالاستئذان أن الداعي إلى القمار لا ينبغي أن يؤذن له في دخول المنزل، ثم لكونه يتضمن اجتماع الناس، ومناسبة بقية حديث الباب للترجمة أن الحلف باللات لهو يشغل عن الحق بالخلق فهو باطل انتهى. ويحتمل أن يكون لما قدم ترجمة ترك السلام على من اقترف ذنبا أشار إلى ترك الإذن لمن يشتغل باللهو عن الطاعة، وقد تقدم شرح حديث الباب في تفسير سورة والنجم، قال مسلم في صحيحه. بعد أن أخرج هذا الحديث: هذا الحرف "تعال أقامرك" لا يرويه أحد إلا الزهري، وللزهري نحو تسعين حرفا لا يشاركه فيها غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد. قلت: وإنما قيد التفرد بقوله: "تعال أقامرك" لأن لبقية الحديث شاهدا من حديث سعد بن أبي وقاص يستفاد منه سبب حديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند قوي قال: "كنا حديثي عهد الجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك وتعوذ بالله ثم لا تعد" فيمكن أن يكون المراد بقوله في حديث أبي هريرة "فليقل لا إله إلا الله" إلى آخر الذكر المذكور إلى قوله: "قدير" ويحتمل الاكتفاء بلا إله إلا الله لأنها كلمة التوحيد، والزيادة المذكورة في حديث سعد تأكيد.

(11/92)


باب ماجاء في البناء
...
53 - باب مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ
6302- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَيْتُ بِيَدِي بَيْتًا يُكِنُّنِي مِنْ الْمَطَرِ وَيُظِلُّنِي مِنْ الشَّمْسِ مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ"
6303- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو "قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَلاَ غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُفْيَانُ فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ بَنَى قَالَ سُفْيَانُ قُلْتُ فَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ"
قوله: "باب ما جاء في البناء" أي من منع وإباحة. والبناء أعم من أن يكون بطين أو مدر أو بخشب أو من قصب أو من شعر. قوله: "قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان" كذا للأكثر بضم الراء وبهاء تأنيث في آخره. وفي رواية الكشميهني: "رعاء" بكسر الراء وبالهمز مع المد، وقد تقدم هذا الحديث موصولا مطولا مع شرحه في كتاب الإيمان، وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان، وفي الاستدلال بذلك نظر، وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة ابن عامر "إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا فاسق إلى أين؟" وفي سنده ضعف مع كونه موقوفا. وفي ذم البناء مطلقا حديث خباب رفعه قال: "يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب" أو قال: "البناء" أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدا عن أنس بلفظ: "إلا البناء فلا خير فيه" وللطبراني من حديث جابر رفعه: "إذا أراد الله

(11/92)


بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني" ومعنى "خضر" بمعجمتين حسن، وزنا ومعنى. وله شاهد في "الأوسط" من حديث أبي بشر الأنصاري بلفظ: "إذا أراد الله بعبد سوءا أنفق ماله في البنيان" وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا فقال: الأمر أعجل من ذلك" وصححه الترمذي وابن حبان، وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر، وقد أخرج أبو داود أيضا من حديث أنس رفعه: "أما أن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا" أي إلا ما لا بد منه، ورواته موثقون إلا الراوي عن أنس وهو أبو طلحة الأسدي فليس بمعروف، وله شاهد عن واثلة عند الطبراني. قوله: "حدثنا إسحاق هو ابن سعيد" كذا في الأصل وسعيد المذكور هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، ونسب كذلك عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق وإسحاق بن سعيد يقال له السعيدي سكن مكة. وقد روي هذا الحديث عن والده وهو المراد بقوله: "عن سعيد". قوله: "رأيتني" بضم المثناة كأنه استحضر الحالة المذكورة فصار لشدة علمه بها كأنه يرى نفسه يفعل ما ذكر. قوله: "مع النبي صلى الله عليه وسلم" أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "يكنني" بضم أوله وكسر الكاف وتشديد النون من أكن إذا وقى، وجاء بفتح أوله من كن. وقال أبو زيد الأنصاري: كننته وأكننته بمعنى أي سترته وأسررته. وقال الكسائي كننته صنته وأكننته أسررته. قوله: "ما أعانني عليه أحد من خلق الله" هو تأكيد لقوله: "بنيت بيدي" وإشارة إلى خفة مؤنته. ووقع في رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم عن إسحاق بن سعيد السعيدي بهذا السند عند الإسماعيلي وأبي نعيم في المستخرجين "بيتا من شعر"، واعترض الإسماعيلي على البخاري بهذه الزيادة فقال أدخل هذا الحديث في البناء بالطين والمدر والخبر إنما هو في بيت الشعر، وأجيب بأن راوي الزيادة ضعيف عندهم، وعلى تقدير ثبوتها فليس في الترجمة تقييد بالطين والمدر. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار. قوله: "لبنة" بفتح اللام وكسر الموحدة مثل كلمة، ويجوز كسر أوله وسكون الموحدة. قوله: "ولا غرست نخلة" قال الداودي: ليس الغرس كالبناء، لأن من غرس ونيته طلب الكفاف أو لفضل ما ينال منه ففي ذلك الفضل لا الإثم. قلت: لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه التفصيل، وليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به الأجر مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني فإنه يحصل للباني به الثواب، والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله: "فذكرته لبعض أهله" لم أقف على تسميته، والقائل هو سفيان. قوله: "قال والله لقد بنى" زاد الكشميهني في روايته: "بيتا". قوله: "قال سفيان قلت فلعله قال قبل" أي قال ما وضعت لبنة إلخ قيل أن يبنى الذي ذكرت، وهذا اعتذار حسن من سفيان راوي الحديث، ويحتمل أن يكون ابن عمر نفى أن يكون بنى بيده بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، والذي أثبته بعض أهله كان بنى بأمره فنسبه إلى فعله مجازا، ويحتمل أن يكون بناؤه بيتا من قصب أو شعر، ويحتمل أن يكون الذي نفاه ابن عمر ما زاد على حاجته، والذي أثبته بعض أهله بناء بيت لا بد له منه أو إصلاح ما وهي من بيته، قال ابن بطال: يؤخذ من جواب سفيان أن العالم إذا جاء عنه قولان مختلفان أنه ينبغي لسامعهما أن يتأولهما على وجه ينفي عنهما التناقض تنزيها له عن الكذب انتهى. ولعل سفيان فهم من قول بعض أهل ابن

(11/93)


عمر الإنكار على ما رواه له عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، فبادر سفيان إلى الانتصار لشيخه ولنفسه وسلك الأدب مع الذي خاطبه بالجمع الذي ذكره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الاستئذان من الأحاديث المرفوعة على خمسة وثمانين حديثا، المعلق منها وما في معناه اثنا عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منه فيه وفيما مضى خمسة وستون حديثا والخالص عشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث لأبي هريرة "رسول الرجل إذنه" وحديث أنس في المصافحة، وحديث ابن عمر في الاحتباء، وحديثه في البناء، وحديث ابن عباس في ختانه. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار. والله أعلم.

(11/94)


كتاب الدعوات
مدخل
...
80 - كِتَاب الدَّعَوَاتِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الدعوات" بفتح المهملتين جمع دعوة بفتح أوله وهي المسألة الواحدة، والدعاء الطلب، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله ودعوت فلانا سألته ودعوته استغثته ويطلق أيضا على رفعة القدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضا على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} والادعاء كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} وقال الراغب: الدعاء على التسمية كقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وقال الراغب: الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم والدعاء لا يكاد يتجرد. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في "شرح الأسماء الحسنى" ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه: منها العبادة "ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك" ومنها الاستغاثة "وادعوا شهداءكم"، ومنها السؤال "ادعوني أستجب لكم"، ومنها القول "دعواهم فيها سبحانك اللهم" والنداء "يوم يدعوكم"، والثناء "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن". قوله: "وقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله: "داخرين" وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض.وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي" واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية أخرجه الأربعة وصححه الترمذي والحاكم. وشذت طائفة فقالوا: المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر "الحج عرفه" أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه: "الدعاء مخ العبادة" وقد تواردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان

(11/94)


والحاكم وحديثه رفعه: "من لم يسأل الله يغضب عليه" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عنه، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبو زرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه أبو صالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه، وليس كما قال فقد جزم شيخه المزي في "الأطراف" بما قلته. ووقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي "سمعت أبا هريرة" قال الطيبي: معنى الحديث أن من لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه والله يحب أن يسأل انتهى. ويؤيده حديث ابن مسعود رفعه: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" أخرجه الترمذي، وله من حديث ابن عمر رفعه: "إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء" وفي سنده لين، وقد صححه مع ذلك الحاكم. وأخرج الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وقال الشيخ تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك "عن عبادتي" فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه. قلت: وقد دلت الآية الآتية قريبا في السورة المذكورة أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وهو قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال الطيبي: معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. وحكى القشيري في "الرسالة" الخلاف في المسألة فقال: اختلف أي الأمرين أولى: الدعاء أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة، لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار. وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل. قلت: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار، وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها، قال وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيا بلسانه راضيا بقلبه، قال: والأولى أن يقال إذا وجد في قلبه إشارة الدعاء فالدعاء أفضل وبالعكس. قلت: القول الأول أعلى المقامات أن يدعو بلسانه ويرضى بقلبه، والثاني لا يتأتى من كل أحد بل ينبغي أن يختص به الكمل. قال القشيري: ويصح أن يقال ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظ فالسكوت أفضل، وعبر ابن بطال ن هذا القول لما حكاه بقوله: يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وإن كثيرا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف. والجواب عن ذلك أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع

(11/95)


الإجابة: فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه. وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة ابن الصامت رفعه: "ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها" ولأحمد من حديث أبي هريرة "إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له" وله في حديث أبي سعيد رفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" وصححه الحاكم. وهذا شرط ثان للإجابة، ولها شروط أخرى منها أن يكون طيب المطعم والملبس لحديث: "فأنى يستجاب لذلك" وسيأتي بعد عشرين بابا من حديث أبي هريرة، ومنها ألا يكون يستعجل لحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يقل دعوت فلم يستجب لي" أخرجه مالك.

(11/96)


1 - باب لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
6304- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ"
[الحديث 6304- طرفه في: 7474]
6305- وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ قَالَ مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا أَوْ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب لكل نبي دعوة مستجابة" كذا لأبي ذر وسقط لفظ: "باب" لغيره فصار من جملة الترجمة الأولى. ومناسبتها للآية الإشارة إلى أن بعض الدعاء لا يستجاب عينا. قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "مستجابة" كذا لأبي ذر ولم أرها عند الباقين ولا في شيء من نسخ الموطأ. قوله: "يدعو بها" زاد في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة "فيعجل كل نبي دعوته" وفي حديث أنس ثاني حديثي الباب: "فاستجيب له". قوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة الآتية في التوحيد "فأريد إن شاء الله أن أختبئ" وزيادة "إن شاء الله" في هذا للتبرك. ولمسلم: من رواية أبي صالح عن أبي هريرة "وإني اختبأت" وفي حديث أنس "فجعلت دعوتي" وزاد: "يوم القيامة" وزاد أبو صالح "فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" وقوله: "من مات" في محل نصب على المفعولية و "لا يشرك بالله" في محل نصب على الحال، والتقدير شفاعتي نائلة من مات غير مشرك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل ورجا وقوع ذلك فأعلمه الله به فجزم به، وسيأتي تتمة الكلام على الشفاعة وأنواعها في أول كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة. وقيل معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها

(11/96)


ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب، وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح "لا تذر على الأرض" وقول زكريا "فهب لي من لدنك وليا يرثني" وقول سليمان "وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" حكاه ابن التين. وقال بعض شراح "المصابيح" ما لفظه: اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة. وتعقبه الطيبي1 بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب ودعا على أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ودعا على مضر، قال: والأولى أن يقال إن الله جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا، وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فبقي تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا. وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح "سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة" الحديث: قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم. وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين. وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم. وأما قوله: "فهي نائلة" ففيه دليل لأهل السنة أن من مات غير مشرك لا يخلد في النار، ولو مات مصرا على الكبائر. قوله: "وقال معتمر" هو ابن سليمان التيمي، كذا للأكثر وبه جزم الإسماعيلي والحميدي، لكن عند الأصيلي وكريمة في أوله "قال لي خليفة حدثنا معتمر" فعلى هذا هو متصل، وقد وصله أيضا مسلم عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر. قوله: "لكل نبي سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة" هكذا وقع بالشك، ولم يسق مسلم لفظه بل أحال به على طريق قتادة عن أنس، وقد أخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من طريق محمد بن عبد الأعلى به، ومن طريق الحسن بن الربيع ومسدد وغيرهما عن معتمر بالشك، ولفظه: "كل نبي قد سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة قد دعا بها" الحديث ولفظ قتادة عند مسلم: "لكل نبي دعوة لأمته" فذكره ولم يشك.

(11/97)


2 - باب أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
6306- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ "قَالَ حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يقُولَ اللَّهُمَّ

(11/97)


أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
[الحديث 6306- طرفه في 6323]
قوله: "باب أفضل الاستغفار" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر. ووقع في شرح ابن بطال بلفظ: "فضل الاستغفار" وكأنه لما رأى الآيتين في أول الترجمة وهما دالتان على الحث على الاستغفار ظن أن الترجمة لبيان فضيلة الاستغفار، ولكن حديث الباب يؤيد ما وقع عند الأكثر، وكأن المصنف أراد إثبات مشروعية الحث على الاستغفار بذكر الآيتين. ثم بين بالحديث أولى ما يستعمل من ألفاظه، وترجم بالأفضلية. ووقع الحديث بلفظ السيادة وكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية ومعناها الأكثر نفعا لمستعمله، ومن أوضح ما وقع في فضل الاستغفار ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث يسار وغيره مرفوعا: "من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف" قال أبو نعيم الأصبهاني: هذا يدل على أن بعض الكبائر تغفر ببعض العمل الصالح، وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكما في نفس ولا مال، ووجه الدلالة منه أنه مثل بالفرار من الزحف وهو من الكبائر، فدل على أن ما كان مثله أو دونه يغفر إذا كان مثل الفرار من الزحف، فإنه لا يوجب على مرتكبه حكما في نفس ولا مال. قوله: "وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً الآية } كذا رأيت في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وسقطت الواو من رواية غيره وهو الصواب. فإن التلاوة {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} وساق غير أبي ذر الآية إلى قوله تعالى: {أنهارا} وكأن المصنف لمح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن البصري: إن رجلا شكى إليه الجدب فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر جفاف بستانه فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر عدم الولد فقال استغفر الله، ثم تلا عليهم هذه الآية. وفي الآية حث على الاستغفار وإشارة إلى وقوع المغفرة لمن استغفر وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من جود كفيك ما علمتني الطلبا
قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} واختلف في معنى قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ} فقيل إن قوله: {فَاسْتَغْفَرُوا} تفسير للمراد بالذكر، وقيل هو على حذف تقديره ذكروا عقاب الله، والمعنى تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم فاستغفروا لذنوبهم أي لأجل ذنوبهم وقد ورد في حديث حسن صفة الاستغفار المشار إليه في الآية أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب قال: "حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهما وصدق أبو بكر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له" ثم تلا: {وَالَّذِينَ إِذَا

(11/98)


فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية. وقوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. وورد في فضل الاستغفار والحث عليه آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منها حديث أبي سعيد رفعه: "قال إبليس: يا رب لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله تعالى: وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" أخرجه أحمد، وحديث أبي بكر الصديق رفعه: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" أخرجه أبو داود والترمذي وذكر السبعين للمبالغة، وإلا ففي حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد مرفوعا: "أن عبدا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفر لي فغفر له" الحديث وفي آخره: "علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، اعمل ما شئت فقد غفرت لك". قوله: "حدثنا الحسين" هو ابن ذكوان المعلم، ووقع عند النسائي من رواية غندر حدثنا الحسين المعلم، وكذا عند الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن حسين المعلم.قوله: "حدثنا عبد الله بن بريدة" أي ابن الحصيب الأسلمي. قوله: "حدثنا بشير" بالموحدة ثم المعجمة مصغر، وقد تابع حسينا على ذلك ثابت البناني وأبو العوام عن بريدة ولكنهما لم يذكرا بشير بن كعب بل قالا عن ابن بريدة عن شداد أخرجه النسائي، وخالفهم الوليد بن ثعلبة فقال: عن ابن بريدة عن أبيه أخرجه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم لكن لم يقع في رواية الوليد أول الحديث، قال النسائي حسين المعلم أثبت من الوليد بن ثعلبة وأعلم بعبد الله بن بريدة وحديثه أولى بالصواب. قلت: كأن الوليد سلك الجادة، لأن جل رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه، وكأن من صححه جوز أن يكون عن عبد الله بن بريدة على الوجهين، والله أعلم. قوله: "حدثني شداد بن أوس" أي ابن ثابت بن المنذر بن حرام بمهملتين الأنصاري ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر، وشداد صحابي جليل نزل الشام وكنيته أبو يعلى. واختلف في صحبة أبيه وليس لشداد في البخاري إلا هذا الحديث الواحد. قوله: "سيد الاستغفار" قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور. قوله: "أن يقول" أي العبد، وثبت في رواية أحمد والنسائي: "إن سيد الاستغفار أن يقول العبد" وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد "ألا أدلك على سيد الاستغفار" وفي حديث جابر عند النسائي: "تعلموا سيد الاستغفار". قوله: "لا إله إلا أنت خلقتني" كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت، وسقطت الثانية من معظم الروايات، ووقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة "من قال حين يصبح: اللهم لك الحمد لا إله إلا أنت" والباقي نحو حديث شداد وزاد فيه: "آمنت لك مخلصا لك ديني".قوله: "وأنا عبدك" قال الطيبي: يجوز أن تكون مؤكدة، ويجوز أن تكون مقدرة، أي أنا عابد لك، ويؤيده عطف قوله: "وأنا على عهدك". قوله: "وأنا على عهدك" سقطت الواو في رواية النسائي، قال الخطابي: يريد أنا على ما عهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك. ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إلى من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر. واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. وقال ابن بطال: قوله: "وأنا على عهدك ووعدك" يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية. وبالوعد ما قال على لسان نبيه

(11/99)


"أن من مات لا يشرك بالله شيئا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة" . قلت: وقوله وأدى ما افترض علي زيادة ليست بشرط في هذا المقام لأنه جعل المراد بالعهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة. قال وفي قوله: "ما استطعت" إعلام لأمته أن أحدا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله. ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم، فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة، كذا قال: والتفريق بين العهد والوعد أوضح. قوله: "أبوء لك بنعمتك علي" سقط لفظ لك من رواية النسائي، وأبوء بالموحدة والهمز ممدود معناه أعترف. ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد "وأعترف بذنوبي" وأصله البواء ومعناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به. قوله: "وأبوء لك بذنبي" أي أعترف أيضا، وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني. وقال الطيبي: اعترف أولا بأنه أنعم عليه، ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها، ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: "أبوء لك بذنبي" أعترف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه، لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا. قوله: "فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل وفيه: "العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه". قوله: "من قالها موقنا بها" أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها. وقال الداودي يحتمل أن يكون هذا من قوله إن الحسنات يذهبن السيئات ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وغيره، لأنه بشر بالثواب ثم بشر بأفضل منه فثبت الأول وما زيد عليه، وليس يبشر بالشيء ثم يبشر بأقل منه مع ارتفاع الأول، ويحتمل أن يكون ذلك ناسخا وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء. كذا حكاه ابن التين عنه، وبعضه يحتاج إلى تأمل. قوله: "ومن قالها من النهار" في رواية النسائي: "فإن قالها حين يصبح" وفي رواية عثمان بن ربيعة "لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح، أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي". قوله: "فهو من أهل الجنة" في رواية النسائي: "دخل الجنة" وفي رواية عثمان بن ربيعة "إلا وجبت له الجنة" قال ابن أبي جمرة: جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى. وهذا القدر الذي يكني عنه بالحقيقة. فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل أو العفو بمقتضى الفضل، انتهى ملخصا. أيضا: من شروط الاستغفار صحة النية، والتوجه والأدب، فلو أن أحدا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان؟ فالجواب أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة، والله أعلم

(11/100)


3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
6307- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لاَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"
قوله: "باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم" أي وقوع الاستغفار منه.أو التقدير مقدار استغفاره في كل يوم، ولا يحمل على الكيفية لتقدم بيان الأفضل وهو لا يترك الأفضل.قوله: "قال: قال أبو هريرة" في رواية يونس بن يزيد عن الزهري "أخبرني أبو سلمة أنه سمع أبا هريرة" أخرجه النسائي. قوله: "والله إني لأستغفر الله" فيه القسم على الشيء تأكيدا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك. قوله: "لأستغفر الله وأتوب إليه" ظاهره أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة" ويحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة" وله من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة" . قوله: "أكثر من سبعين مرة" وقع في حديث أنس "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة"، فيحتمل أن يريد المبالغة ويحتمل أن يريد العدد بعينه. وقوله: "أكثر" مبهم فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة. وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة من رواية معمر عن الزهري بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" لكن خالف أصحاب الزهري في ذلك. نعم أخرج النسائي أيضا من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة" وأخرج النسائي أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" وله في حديث الأغر المزني رفعه مثله، وهو عنده وعند مسلم بلفظ: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة" قال عياض: المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر ما عد ذلك ذنبا فاستغفر عنه. وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى قلبه والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه، وقيل هي حالة خشية وإعظام والاستغفار شكرها، ومن ثم قال المحاسبي: خوف المتقربين خوف إجلال وإعظام.وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لا يعتقد أن الغين في حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال. ثم مثل ذلك بجفن العين حين يسبل ليدفع القذى عن العين مثلا فإنه يمنع العين من الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال. هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال: فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك انتهى. وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية. وأجيب بعدة أجوبة: منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر. كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا. ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة,