Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 31. و32.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) فيه الطلاق {من ح 5333- الي ح 5747- }

 مجلد 31. و32.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

31.

مجلد 31.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

== أُخْرَى ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لِأَحَدِهِمْ إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا"
قوله: "باب وبعولتهن أحق بردهن" في العدة، وكيف يراجع المرأة إذا طلقها واحدة أو ثنتين، وقوله: فلا تعضلوهن" كذا للأكثر، وفصل أبو ذر أيضا بين قوله: "بردهن" وبين قوله: "في العدة" بدائرة إشارة إلى أن المراد بأحقية الرجعة من كانت في العدة، وهو قول مجاهد وطائفة من أهل التفسير، وسقط قوله: "فلا تعضلوهن" من رواية النسفي. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين. حديث معقل بن يسار في تزويج أخته، أورده من طريقين: الأولى قوله: "حدثني محمد" كذا للجميع غير منسوب وهو ابن سلام، وعبد الوهاب شيخه هو ابن عبد المجيد الثقفي، ويونس هو ابن عبيد البصري. الطريق الثانية من طريق سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة قال في روايته: "حدثنا الحسن أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل" وقال في رواية يونس عن الحسن "زوج معقل أخته" وقد تقدم هذا الحديث وشرحه في "باب لا نكاح إلا بولي" من كتاب النكاح وبينت هناك من وصله وأرسله، وتقدم في تفسير البقرة أيضا موصولا ومرسلا. سعيد هو ابن أبي عروبة عن قتادة قال في روايته: "حدثنا الحسن أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل" وقال في رواية يونس عن الحسن "زوج معقل أخته" وقد تقدم هذا الحديث وشرحه في "باب لا نكاح إلا بولي" من كتاب النكاح وبينت هناك من وصله وأرسله، وتقدم في تفسير البقرة أيضا موصولا ومرسلا، وقوله: "فحمى" بوزن علم بكسر ثانيه، وقوله: "أنفا" بفتح الهمزة والنون منون أي ترك الفعل غيظا وترفعا، وقوله: "فترك الحمية" بالتشديد، وقوله: "واستقاد لأمر الله" كذا للأكثر بقاف أي أعطى مقادته، والمعنى أطاع وامتثل. وفي رواية الكشميهني: "واستراد" براء بدل القاف من الرود وهو الطلب، أو المعنى أراد رجوعها ورضي به. ونقل ابن التين عن رواية القابسي واستقاد بتشديد الدال، ورده بأن المفاعلة لا تجتمع مع سين الاستفعال. حديث ابن عمر في طلاق الحائض، وتقدم شرحه مستوفى في أول كتاب الطلاق، وقوله: "وزاد فيه غيره عن الليث" تقدم بيانه في أول الطلاق أيضا حيث قال فيه: "وقال الليث إلخ" وفيه تسمية الغير المذكور. وقال ابن بطال ما ملخصه. المراجعة على ضربين، إما في العدة فهي على ما في حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها ولم يذكر أنه احتاج إلى عقد جديد، وإما بعد العدة فعلى ما في حديث معقل، وقد أجمعوا على أن الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول بها تطليقة أو تطليقتين فهو أحق برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك، فإن لم يراجع حتى انقضت العدة فتصير أجنبية فلا تحل له إلا بنكاح مستأنف. واختلف السلف فيما يكون به الرجل مراجعا، فقال الأوزاعي إذا جامعها فقد راجعها وجاء ذلك عن بعض التابعين وبه قال مالك وإسحاق بشرط أن ينوي به الرجعة. وقال الكوفيون كالأوزاعي وزادوا: ولو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة. وقال الشافعي لا تكون الرجعة إلا بالكلام، وانبنى على هذا الخلاف جواز الوطء وتحريمه، وحجة الشافعي أن الطلاق مزيل للنكاح، وأقرب ما يظهر ذلك في حل الوطء وعدمه، لأن الحل معنى يجوز أن يرجع في النكاح ويعود كما في إسلام أحد المشركين ثم إسلام الآخر في العدة، وكما يرتفع بالصوم والإحرام والحيض ثم يعود بزوال هذه المعاني. وحجة من أجاز أن النكاح لو زال لم تعد المرأة إلا بعقد جديد وبصحة الخلع في الرجعية ولوقوع الطلقة الثانية، والجواب عن كل ذلك أن النكاح ما زال أصله وإنما زال وصفه. وقال  ابن السمعاني: الحق إن القياس يقتضي أن الطلاق إدا وقع زال النكاح كالعتق، لكن الشرع أثبت الرحمة في النكاح دون العتق فافترقا.

  45- باب مُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ
5333- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَ مِنْ قُبُلِ عِدَّتِهَا قُلْتُ فَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ"
قوله: "باب مراجعة الحائض" ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل الطلاق. حديث ابن عمر في ذلك، ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل الطلاق.

باب نحد المتوفي عنها أربعة أشهر وعشرا
...
46- باب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لاَ أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيبَ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الثَّلاَثَةَ:
5334- قَالَتْ زَيْنَبُ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
5335- قالت زينب: "فدخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: أما والله ما لي بالطيب من أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"
5336- قَالَتْ زَيْنَبُ وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ لاَ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ"
[الحديث 5336- طرفاه في: 5338، 5706]
5337- قَالَ حُمَيْدٌ فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ كَانَتْ الْمَرْأَةُ

(9/484)


47- باب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ
5338- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَقَالَ لاَ تَكَحَّلْ قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلاَسِهَا أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعَرَةٍ فَلاَ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ"
5339- وَسَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
5340- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ
قوله: "باب الكحل للحادة" كذا وقع من الثلاثي، ولو كان من الرباعي لقال المحدة. قال ابن التين: الصواب الحاد بلا هاء لأنه نعت للمؤنث كطالق وحائض. قلت: لكنه جائز فليس بخطأ وإن كان الآخر أرجح. ذكر فيه حديث أم سلمة الماضي في الباب قبله، وكذا حديث أم حبيبة، أوردهما من طريق شعبة باختصار، وقد تقدم ما فيه قبل. حديث أم سلمة الماضي في الباب قبله، وكذا حديث أم حبيبة، أوردهما من طريق شعبة باختصار، وقد تقدم

(9/490)


ما فيه قبل. وقوله: "لا تكتحل" في رواية المستملي بلا تاء بين الكاف والحاء. أورد حديث أم عطية مختصرا، وفي الباب الذي يليه مطولا، وقوله: "إلا بزوج" في رواية الكشميهني: "إلا على زوج"

(9/491)


48- باب الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ
5341- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلاَ نَكْتَحِلَ وَلاَ نَطَّيَّبَ وَلاَ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ"
قوله: "باب القسط للحادة عند الطهر" أي عند طهرها من المحيض إذا كانت ممن تحيض. قوله: "كنا ننهى" بضم أوله، وقد صرح برفعه في الباب الذي بعده. قوله: "ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب" بمهملتين مفتوحة ثم ساكنة ثم موحدة وهو بالإضافة وهي برود اليمن يعصب غزلها أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج معصوبا فيخرج موشى لبقاء ما عصب به أبيض لم ينصبغ، وإنما يعصب السدي دون اللحمة. وقال صاحب "المنتهى" العصب هو المفتول من برود اليمن. وذكر أبو موسى المدني في "ذيل الغريب" عن بعض أهل اليمن أنه من دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز وغيره ويكون أبيض، وهذا غريب، وأغرب منه قول السهيلي: إنه نبات لا ينبت إلا باليمن وعزاه لأبي حنيفة الدينوري، وأغرب منه قول الداودي: المراد بالثوب العصب الخضرة وهي الحبرة، وليس له سلف في أن العصب الأخضر، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة، إلا ما صبغ بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة بل هو من لباس الحزن، وكره عروة العصب أيضا، وكره مالك غليظه. قال النووي: الأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقا، وهذا الحديث حجة لمن أجازه. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من مفهوم الحديث جواز ما ليس بمصبوغ وهي الثياب البيض، ومنع بعض المالكية المرتفع منها الذي يتزين به، وكذلك الأسود إذا كان مما يتزين به، قال النووي: ورخص أصحابنا فيما لا يتزين به ولو كان مصبوغا. واختلف في الحرير فالأصح عند الشافعية منعه مطلقا مصبوغا أو غير مصبوغ، لأنه أبيح للنساء للتزين به والحادة ممنوعة من التزين فكان في حقها كالرجال، وفي التحلي بالذهب والفضة وباللؤلؤ ونحوه وجهان الأصح جوازه، وفيه نظر من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنه عند تأملها يترجح المنع والله أعلم. قوله: "وقد رخص لنا" بضم أوله أيضا وقد صرح برفعه في الباب الذي بعده. قوله: "عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها" في رواية الكشميهني: "حيضها" وفي الذي بعده "ولا تمس طيبا إلا أدنى طهرها إذا طهرت". قوله: "في نبذة" بضم النون وسكون الموحدة بعدها معجمة أي قطعة، وتطلق على الشيء اليسير. قوله: "من كست أظفار" كذا فيه بالكاف وبالإضافة، وفي الذي بعده "من قسط وأظفار" بقاف وواو عاطفة وهو أوجه، وخطأ عياض الأول، وقد تقدم بيانه في كتاب الحيض. وقال بعده "قال أبو عبد الله" وهو البخاري "القسط والكست مثل الكافور والقافور" أي يجوز في كل منهما الكاف

(9/491)


والقاف وزاد القسط أنه يقال بالتاء المثناة بدل الطاء، فأراد المثلية في الحرب الأول فقط. قال النووي: القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب. قلت: المقصود من التطيب بهما أن يخلطا في أجزاء أخر من غيرهما ثم تسحق فتصير طيبا، والمقصود بهما هنا كما قال الشيخ أن تتبع بهما أثر الدم لإزالة الرائحة لا للتطيب، وزعم الداودي أن المراد أنها تسحق القسط وتلقيه في الماء آخر غسلها لتذهب رائحة الحيض، ورده عياض بأن ظاهر الحديث يأباه، وأنه لا يحصل منه رائحة طيبة إلا من التبخر به، كذا قال وفيه نظر، واستدل به على جواز استعمال ما فيه منفعة لها من جنس ما منعت منه إذا لم يكن للتزين أو التطيب كالتدهن بالزيت في شعر الرأس أو غيره.

(9/492)


49- باب تَلْبَسُ الْحَادَّةُ ثِيَابَ الْعَصْبِ
5342- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا لاَ تَكْتَحِلُ وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ"
5343- وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ تَمَسَّ طِيبًا إِلاَّ أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقُسْطُ وَالْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ"
قوله: "باب تلبس الحادة ثياب العصب" ذكر فيه حديث أم عطية مصرحا برفعه، وزاد في أوله "لا يحل لامرأة" الحديث مثل حديث أم حبيبة الماضي قبله. حديث أم عطية مصرحا برفعه، وزاد في أوله "لا يحل لامرأة" الحديث مثل حديث أم حبيبة الماضي قبله، وزاد بعد قوله إلا على زوج "فإنها لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب" وقد تقدم شرحه في الذي قبله، ووقع فيه: "فوق ثلاث" وتقدم في حديث أم حبيبة في الطريق الأولى "ثلاث ليال" وفي الطريق الثانية "ثلاثة أيام" وجمع بإرادة الليالي بأيامها، ويحمل المطلق هنا على المقيد الأول ولذلك أنث، وهو محمول أيضا على أن المراد ثلاث ليال بأيامها، وذهب الأوزاعي إلى أنها تحد ثلاث ليال فقط، فإن مات في أول الليل أقلعت في أول اليوم الثالث وإن مات في أثناء الليل أو في أول النهار أو في أثنائه لم تقلع إلا في صبيحة اليوم الرابع، ولا تلفيق. قوله: "وقال الأنصاري" هو محمد بن عبد الله بن المثنى شيخ البخاري، وقد أخرج عنه الكثير بواسطة وبلا واسطة، وهشام هو الدستوائي المذكور في الذي قبله. قوله: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تمس طيبا" كذا أورده مختصرا، وهو في الأصل مثل الحديث الذي قبله، وقد وصله البيهقي من الطريق أبي حاتم الرازي عن الأنصاري بلفظ. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا". قوله: "إلا أدنى طهرها" أي عند قرب طهرها أو أقل طهرها، وقد تقدم شرحه قبل. ثم ذكر المصنف حديث أم حبيبة من طريق سفيان وهو الثوري عن عبد الله بن أبي بكر وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم شيخ مالك فيه، وقد مضى شرحه أيضا

(9/492)


باب(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً إلى قوله ـ بما تعملون خبير)
...
50- باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
5344- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قَالَ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} قَالَ عَطَاءٌ ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلاَ سُكْنَى لَهَا"
5345- حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم حدثني حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان لما جاءها نعي أبيها دعت بطيب فمسحت ذراعيها وقالت ما لي بالطيب من حاجة لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قوله: {خَبِيرٌ} كذا لأبي ذر والأكثر، وساق في رواية كريمة الآية بكمالها. قوله: "حدثني إسحاق بن منصور" تقدم في تفسير البقرة هذا الحديث بهذا السند، وبينت هناك ما قيل فيه من تعليق وغيره، ووقع هناك "إسحاق" غير منسوب وفسر بابن راهويه، وقد ظهر من هذه الطريق أنه ابن منصور، ولعله كان عنده عنهما جميعا. وقوله: "كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجبا" كذا لأبي ذر عن الكشميهني، وذكر "واجبا" إما لأنه صفة محذوف أي أمرا واجبا، أو ضمن العدة معنى الاعتداد. وفي رواية كريمة: "واجب" على أنه خبر مبتدأ محذوف، قال ابن بطال: ذهب مجاهد إلى أن الآية وهي قوله تعالى :{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} نزلت قبل الآية التي فيها {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} كما هي قبلها في التلاوة، وكأن الحامل له على ذلك استشكال أن يكون الناسخ قبل المنسوخ، فرأى أن استعمالها ممكن بحكم غير متدافع، لجواز أن يوجب الله على المعتدة تربص أربعة أشهر وعشر ويوجب على أهلها أن تبقى عندهم سبعة أشهر وعشرين ليلة تمام الحول إن أقامت عندهم ا هـ ملخصا. قال: وهو قول لم يقله أحد من المفسرين غيره ولا تابعه عليها من الفقهاء أحد، وأطبقوا على أن آية الحول منسوخة وأن السكنى تبع للعدة، فلما نسخ الحول في العدة بالأربعة أشهر وعشر نسخت السكنى أيضا. وقال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء أن العدة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وإنما اختلفوا في قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فالجمهور على أنه نسخ أيضا،

(9/493)


وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد فذكر حديث الباب قال: ولم يتابع على ذلك، ولا قال أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين به في مدة العدة، بل روى ابن جريج عن مجاهد في قدرها مثل ما عليه الناس، فارتفع الخلاف واختص ما نقل عن مجاهد وغيره بمدة السكنى، على أنه أيضا شاذ لا يعول عليه. والله أعلم

(9/494)


51- باب مَهْرِ الْبَغِيِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ.وَقَالَ الْحَسَنُ:
إِذَا تَزَوَّجَ مُحَرَّمَةً وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَهَا مَا أَخَذَتْ وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ لَهَا صَدَاقُهَا.
5346- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ"
5347- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ"
5348- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ"
قوله: "باب مهر البغي والنكاح الفاسد" البغي بكسر المعجمة وتشديد التحتانية بوزن فعيل من البغاء وهو الزنا، يستوي في لفظه المذكر والمؤنث. قال الكرماني: وقيل وزنه فعول، لأن أصله بغوي أبدلت الواو ياء ثم كسرت الغين لأجل الياء التي بعدها، والتقدير ومهر من نكحت في النكاح الفاسد، أي بشبهة من إخلال شرط أو نحو ذلك. قوله: "وقال الحسن" هو البصري "إذا تزوج محرمة" بتشديد الراء والمستملي بفتح الميم والراء وسكون الحاء بينهما وبالضمير، وبهذا الثاني حزم ابن التين وقال: أي ذا محرمه. قوله: "وهو لا يشعر" احتراز عما إذا تعمد، وبهذا القيد ومفهومه يطابق الترجمة. وقال ابن بطال: اختلف العلماء فيها على قولين: فمنهم من قال لها المسمى، ومنهم من قال لها مهر المثل وهم الأكثر. قوله: "فرق بينهما" بضم أوله. قوله: "وليس لها غيره. ثم قال بعد: لها صداقها" هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة عن هشيم عن يونس عن الحسن مثله إلى قوله: "وليس لها غيره:" ومن طريق مطر الوراق عن الحسن نحوه وقال: لها صداقها، أي صداق مثلها. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أبي مسعود - وهو عقبة بن عمرو الأنصاري - في النهي عن ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي، وقوله: "عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن" هو ابن الحارث بن هشام، في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن". وتقدم شرحه في آخر البيوع حديث أبي جحيفة في لعن الواشمة الحديث، وفيه: "ونهى عن ثمن الكلب وكسب البغي ولعن المصورين" وتقدم شرحه في آخر البيوع حديث أبي هريرة في النهي عن كسب الإماء، قد تقدم شرح الأحاديث الثلاثة في آخر البيوع. قال ابن بطال: قال الجمهور من عقد على محرم وهو عالم بالتحريم وجب عليه الحد للإجماع على تحريم العقد، فلم يكن هناك شبهة يدرأ بها الحد. وعن أبي حنيفة العقد شبهة. واحتج له بما لو وطئ جارية له فيها شركة فإنها محرمة عليه بالاتفاق ولا حد عليه للشبهة. وأجيب بأن حصته من الملك

(9/494)


اقتضت حصول الشبهة، بخلاف المحرم له فلا ملك له فيها أصلا فافترقا ومن ثم قال ابن القاسم من المالكية: يجب الحد في وطء الحرة ولا يجب في المملوكة والله أعلم.

(9/495)


52- باب الْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ الدُّخُولُ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ
5349- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ فَرَّقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَيُّوبُ فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ لاَ أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ قَالَ قَالَ الرَّجُلُ مَالِي قَالَ لاَ مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ"
قوله: "باب المهر للمدخول عليها" أي وجوبه أو استحقاقه. وقوله: "كيف الدخول" يشير إلى الخلاف فيه، وقد تمسك بقوله في حديث الباب: "فقد دخلت بها" على أن من أغلق بابا وأرخى سترا على المرأة فقد وجب لها الصداق وعليها العدة، وبذلك قال الليث والأوزاعي وأهل الكوفة وأحمد، وجاء ذلك عن عمر وعلي وزيد ابن ثابت ومعاذ بن جبل وابن عمر، قال الكوفيون: الخلوة الصحيحة يجب معها المهر كاملا سواء وطئ أم لم يطأ، إلا إن كان أحدهما مريضا أو صائما أو محرما أو كانت حائضا فلها النصف وعليها العدة كاملة، واحتجوا أيضا بأن الغالب عند إغلاق الباب وإرخاء الستر على المرأة وقوع الجماع فأقيمت المظنة مقام المئنة لما جبلت عليه النفوس في تلك الحالة من عدم الصبر عن الوقاع غالبا لغلبة الشهوة وتوفر الداعية. وذهب الشافعي وطائفة إلى أن المهر لا يجب كاملا إلا بالجماع، واحتج بقوله تعالى :{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وقال: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وجاء ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وشريح والشعبي وابن سيرين. والجواب عن حديث الباب أنه ثبت في الرواية الأخرى في حديث الباب: "فهو بما استحللت من فرجها" فلم يكن في قوله: "دخلت عليها" حجة لمن قال إن مجرد الدخول يكفي. وقال مالك: إذا دخل بالمرأة في بيته صدقت عليه، وإن دخل بها في بيتها صدق عليها، ونقله عن ابن المسيب. وعن مالك رواية أخرى كقول الكوفيين. قوله: "أو طلقها قبل الدخول" قال ابن بطال: التقدير أو كيف طلاقها؟ فاكتفى بذكر الفعل عن ذكر المصدر لدلالته عليه. قلت: ويحتمل أن يكون التقدير: أو كيف الحكم إذا طلقها قبل الدخول؟ قوله: "والمسيس" ثبت هذا في رواية النسفي والتقدير وكيف المسيس؟ وهو معطوف على الدخول أي إذا طلقها قبل الدخول وقبل المسيس. حديث ابن عمر من رواية سعيد بن جبير عنه في قصة الملاعنة وقد تقدم شرحه مستوفى في أبواب اللعان.

(9/495)


53- باب الْمُتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} إِلَى قَوْلِهِ - بَصِيرٌ} وَقَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ

(9/495)


كتاب النفقات
باب فضل النفقة على الأهل
...
4- كِتَاب النَّفَقَاتِ
1- باب فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأَهْلِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَقَالَ الْحَسَنُ الْعَفْوُ الْفَضْلُ
5351- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ فَقُلْتُ عَنْ النَّبِيِّ فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً"
5352- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"
5353- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ"
[الحديث 5353- طرفاه في: 6006، 6007]
5354- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لِي مَالٌ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالشَّطْرِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالثُّلُثِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ"
قوله: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ- كتاب النفقات وفضل النفقة على الأهل" كذا لكريمة، وقد تقدم في رواية أبي ذر والنسفي "كتاب النفقات" ثم البسملة ثم قال: "باب فضل النفقة على الأهل" وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كذا للجميع، ووقع للنسفي عند قوله: "قل العفو" وقد قرأ الأكثر { قُلِ الْعَفْوَ} بالنصب أي تنفقون العفو أو أنفقوا العفو، وقرأ أبو عمرو وقبله الحسن وقتادة "قل العفو" بالرفع أي هو العفو، ومثله قولهم: ماذا ركبت أفرس أم بعير؟ يجوز الرفع والنصب. قوله: "وقال الحسن: العفو الفضل" وصله عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد بسند صحيح عن الحسن البصري وزاد: ولا لوم على الكفاف.

(9/497)


وأخرج عبد بن حميد أيضا من وجه آخر عن الحسن قال : "أن لا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس" فعرف بهذا المراد بقوله: "الفضل" أي ما لا يؤثر في المال فيمحقه. وقد أخرج ابن أبي حاتم من مرسل يحيى بن أبي كثير بسند صحيح إليه أنه "بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: إن لنا أرقاء وأهلين، فما ننفق من أموالنا؟ فنزلت". وبهذا يتبين مراد البخاري من إيرادها في هذا الباب. وقد جاء عن ابن عباس وجماعة أن المراد بالعفو ما فضل عن الأهل، أخرجه ابن أبي حاتم أيضا، ومن طريق مجاهد قال: العفو الصدقة المفروضة. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس العفو ما لا يتبين في المال، وكان هذا قبل أن تفرص الصدقة. فلما اختلفت هذه الأقوال كان ما جاء من السبب في نزولها أولى أن يؤخذ به، ولو كان مرسلا. ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث. حديث أبي مسعود الأنصاري وهو عقبة بن عمرو. قوله: "عن عدي بن ثابت" تقدم في الإيمان من وجه آخر عن شعبة "أخبرني عدي بن ثابت". قوله: "عن أبي مسعود الأنصاري فقلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم" القائل "فقلت" هو شعبة، بينه الإسماعيلي في رواية له من طريق علي بن الجعد عن شعبة فذكره إلى أن قال: "عن أبي مسعود فقال. قال شعبة: قلت قال عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم" وتقدم في كتاب الإيمان عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير مراجعة، وذكر المتن مثله. وفي المغازي عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن عدي عن عبد الله بن يزيد أنه سمع أبا مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وذكر المتن مختصرا ليس فيه: "وهو يحتسبها" وهذا مقيد لمطلق ما جاء في أن الإنفاق على الأهل صدقة كحديث سعد رابع أحاديث الباب حيث قال فيه: "ومهما أنفقت فهو لك صدقة" والمراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر، والمراد بالصدقة الثواب وإطلاقها عليه مجاز وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلا. وهو من مجاز التشبيه والمراد به أصل الثواب لا في كميته ولا كيفيته، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية، ولهذا أدخل البخاري حديث أبي مسعود المذكور في "باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة" وحذف المقدار من قوله: "إذا أنفق" لإرادة التعميم ليشمل الكثير والقليل. وقوله: "على أهله" يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، ويحتمل أن يختص الزوجة ويلحق به من عداها بطريق الأولى، لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب فثبوته فيما ليس بواجب أولي. وقال الطبري ما ملخصة: الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع. وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم؛ ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع. وقال ابن المنير: تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نحلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها - في اللذة والتأنيس والتحصين وطلب الولد - كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء، إلا أن الله خص الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثم جاز إطلاق النحلة على الصداق، والصدقة على النفقة قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وهذا الحديث ليس في "الموطأ" وهو على شرط شيخنا في "تقريب الأسانيد"، لكنه لما لم يكن في "الموطأ" لم يخرجه كأنظاره، لكنه أخرجه من رواية همام عن أبي هريرة وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن القاسم، وأبو نعيم من

(9/498)


طريق عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك. قوله: "قال الله أنفق يا ابن آدم أنفق عليك" أنفق الأولى بفتح أوله وسكون القاف بصيغة الأمر بالإنفاق، والثانية بضم أوله وسكون القاف على الجواب بصيغة المضارع، وهو وعد بالخلف، ومنه قوله تعالى :{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وقد تقدم القدر المذكور من هذا الحديث في تفسير سورة هود من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد في أثناء حديث ولفظه: "قال الله أنفق أنفق عليك" وقال: "يد الله ملأى" الحديث وهذا الحديث الثاني أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق سعيد بن داود عن مالك وقال صحيح تفرد به سعيد عن مالك. وأخرج مسلم الأول من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ: "إن الله تعالى قال لي: أنفق أنفق عليك" الحديث، وفرقه البخاري كما سيأتي في كتاب التوحيد، وليس في روايته: "قال لي" فدل على أن المراد بقوله في رواية الباب: "يا ابن آدم" النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد جنس بني آدم ويكون تخصيصه صلى الله عليه وسلم بإضافته إلى نفسه لكونه رأس الناس، فتوجه الخطاب إليه ليعمل به ويبلغ أمته، وفي ترك تقييد النفقة بشيء معين ما يرشد إلى أن الحث على الإنفاق يشمل جميع أنواع الخير، وسيأتي شرح حديث شعيب مبسوطا في التوحيد إن شاء الله تعالى قوله: "عن ثور بن زيد" في رواية محمد بن الحسن في "الموطأ" عن مالك "أخبرني ثور". قوله: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" كذا قال جميع أصحاب مالك عنه في "الموطأ" وغيره، وأكثرهم ساقه على لفظ رواية مالك عن صفوان بن سليم به مرسلا ثم قال: "وعن ثور بسنده مثله" وسيأتي في كتاب الأدب عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك كذلك، واقتصر أبو قرة موسى بن طارق على رواية مالك عن ثور فقال: "الساعي على الأرملة والمسكين له صدقة" بين ذلك الدار قطني في "الموطآت". قوله: "أو القائم الليل الصائم النهار" هكذا للجميع عن مالك بالشك لكن لأكثرهم - مثل معن بن عيسى وابن وهب وابن بكير في آخرين - بلفظ: "أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل"، وقد أخرجه ابن ماجه من رواية الدراوردي عن ثور بمثل هذا اللفظ، لكن قاله بالواو لا بلفظ أو، وسيأتي في الأدب من رواية القعنبي عن مالك بلفظ: "وأحسبه قال: كالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر" شك القعنبي، وقد ذكره الأكثر بالشك عن مالك لكن بمعناه، فيحمل اختصاص القعنبي باللفظ الذي أورده، ومعنى الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين. والأرملة بالراء المهملة التي لا زوج لها، والمسكين تقدم بيانه في كتاب الزكاة، وقوله: "القائم الليل" يجوز في الليل الحركات الثلاث كما في قولهم الحسن الوجه، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة إمكان اتصاف الأهلي أي الأقارب بالصفتين المذكورين، فإذا ثبت هذا الفضل لمن ينفق على من ليس له بقريب ممن اتصف بالوصفين، فالمنفق على المتصف، أولى. حديث سعد بن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد تقدم شرحه في الوصايا، والمراد منه هنا قوله: "ومهما أنفقت فهو لك صدقة، حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك" وقد أخرج مسلم من حديث مجاهد عن أبي هريرة رفعه: "دينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، قال:. الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظم أجرا" ومن حديث أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رقعه "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله" قال أبو قلابة بدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عياله يعفهم وينفعهم الله به؟ قال الطبري: البداءة في الإنفاق بالعيال، يتناول النفس، لأن نفس المرء من جملة عياله بل هي

(9/499)


أعظم حقا عليه من بقية عياله، إذ ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه، ثم الإنفاق على عياله كذلك.

(9/500)


2- باب وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الأَهْلِ وَالْعِيَالِ
5355- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَيَقُولُ الِابْنُ أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ"
قوله: "باب وجوب النفقة على الأهل والعيال" الظاهر أن المراد بالأهل في الترجمة الزوجة، وعطف العيال عليها من العام بعد الخاص، أو المراد بالأهل الزوجة والأقارب والمراد بالعيال الزوجة والخدم فتكون الزوجة ذكرت مرتين تأكيدا لحقها، ووجوب نفقة الزوجة تقدم دليله أول النفقات. ومن السنة حديث جابر عند مسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" ومن جهة المعنى أنها محبوسة عن التكسب لحق الزوج، وانعقد الإجماع على الوجوب، لكن اختلفوا في تقديرها فذهب الجمهور إلى أنها بالكفاية، والشافعي وطائفة - كما قال ابن المنذر - إلى أنها بالأمداد، ووافق الجمهور من الشافعية أصحاب الحديث كابن خزيمة وابن المنذر ومن غيرهم أبو الفضل ابن عبدان. وقال الروياني في "الحلية" هو القياس. وقال النووي في "شرح مسلم:" ما سيأتي في "باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ" بعد سبعة أبواب. وتمسك بعض الشافعية بأنها لو قدرت بالحاجة لسقطت نفقة المريضة والغنية في بعض الأيام، فوجب إلحاقها بما يشبه الدوام وهو الكفارة لاشتراكهما في الاستقرار في الذمة، ويقويه قوله تعالى :{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} فاعتبروا الكفارة بها "والأمداد معتبرة في الكفارة" ويخدش في هذا الدليل أنهم صححوا الاعتياض عنه، وبأنها لو أكلت معه على العادة سقطت بخلاف الكفارة فيهما، والراجح من حيث الدليل أن الواجب الكفاية، ولا سيما وقد نقل بعض الأئمة الإجماع الفعلي في زمن الصحابة والتابعين على ذلك ولا يحفظ عن أحد منهم خلافه. قوله: "أفضل الصدقة ما ترك غنى" تقدم شرحه في أول الزكاة وبيان اختلاف ألفاظه وكذا قوله: "واليد العليا" وقوله: "وابدأ بمن تعول" أي بمن يجب عليك نفقته، يقال عال الرجل أهله إذا مانهم، أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة. وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب. وقال ابن المنذر اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا وذكرانا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها، وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم

(9/500)


حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زمنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب. وألحق الشافعي ولد الولد وإن سفل بالولد في ذلك، وقوله: "تقول المرأة" وقع في رواية للنسائي من طريق محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح به "فقيل من أعول يا رسول الله؟ قال امرأتك" الحديث، وهو وهم والصواب ما أخرجه هو من وجه آخر عن ابن عجلان به وفيه: "فسئل أبو هريرة: من تعول يا أبا هريرة" وقد تمسك بهذا بعض الشراح وغفل عن الرواية الأخرى، ورجح ما فهمه بما أخرجه الدار قطني من طريق عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة تقول لزوجها أطعمني" ولا حجة فيه لأن في حفظ عاصم شيئا، والصواب التفصيل، وكذا وقع للإسماعيلي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بسند حديث الباب: "قال أبو هريرة تقول امرأتك إلخ" وهو معنى قوله في آخر حديث الباب: "لا هذا من كيس أبي هريرة" وقع في رواية الإسماعيلي المذكورة "قالوا يا أبا هريرة شيء تقول من رأيك أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هذا من كيسي" وقوله من كيسي هو بكسر الكاف للأكثر أي من حاصله إشارة إلى أنه من استنباطه مما فهمه من الحديث المرفوع مع الواقع، ووقع في رواية الأصيلي بفتح الكاف أي من فطنته. قوله: "تقول المرأة إما أن تطعمني" في رواية النسائي عن محمد بن عبد العزيز عن حفص بن غياث بسند حديث الباب: "إما أن تنفق علي". قوله: "ويقول العبد أطعمني واستعملني" في رواية الإسماعيلي: "ويقول خادمك أطعمني وإلا فبعني. قوله: "ويقول الابن أطعمني، إلى من تدعني" ؟ في رواية النسائي والإسماعيلي: "تكلني" وهو بمعناه. واستدل به على أن من كان من الأولاد له مال أو حرفة لا تجب نفقته على الأب، لأن الذي يقول: "إلى من دعني" ؟ إنما هو من لا يرجع إلى شيء سوى نفقة الأب، ومن له حرفة أو مال لا يحتاج إلى قول ذلك. واستدل بقوله: "إما أن تطعمني وإما أن تطلقني" من قال يفرق بين الرجل وامرأته إذا أعسر بالنفقة واختارت فراقه، وهو قول جمهور العلماء. وقال الكوفيون: يلزمها الصبر، وتتعلق النفقة بذمته. واستدل الجمهور بقوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}، وأجاب المخالف بأنه لو كان الفراق واجبا لما جاز الإبقاء إذا رضيت، ورد عليه بأن الإجماع دل على جواز الإبقاء إذا رضيت فبقي ما عداه على عموم النهي. وطعن بعضهم في الاستدلال بالآية المذكورة بأن ابن عباس وجماعة من التابعين قالوا: نزلت فيمن كان يطلق فإذا كادت العدة تنقضي راجع، والجواب أن من قاعدتهم "أن العبرة بعموم اللفظ". حتى تمسكوا بحديث جابر بن سمرة "اسكنوا في الصلاة" اترك رفع اليدين عند الركوع مع أنه إنما ورد في الإشارة بالأيدي في التشهد بالسلام على فلان وفلان، وهنا تمسكوا بالسبب. واستدل للجمهور أيضا بالقياس على الرقيق والحيوان، فإن من أعسر بالإنفاق عليه أجبر على بيعه اتفاقا. والله أعلم.

(9/501)


باب حبس الرجل قوت سنة على أهله وكيف نفقات العيال
...
3- باب حَبْسِ نَفَقَةِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أَهْلِهِ وَكَيْفَ نَفَقَاتُ الْعِيَالِ
5357- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ قَالَ لِي مَعْمَرٌ قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ هَلْ سَمِعْتَ فِي الرَّجُلِ يَجْمَعُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ قَالَ مَعْمَرٌ فَلَمْ يَحْضُرْنِي ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ

(9/501)


وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ"
5358- حدثنا سعيد بن عفير قال حدثني الليث قال حدثني عقيل عن بن شهاب قال أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكرا من حديثه فانطلقت حتى دخلت على مالك بن أوس فينبغي فقال مالك انطلقت حتى أدخل على عمر إذ أتاه حاجبه يرفأ فقال ثم هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون قال نعم فأذن لهم قال فدخلوا وسلموا فجلسوا ثم لبث يرفأ قليلا فقال لعمر هل لك في علي وعباس قال نعم فأذن لهما فلما دخلا سلما وجلسا فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال الرهط عثمان وأصحابه يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي به تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قال الرهط قد قال ذلك فأقبل عمر على علي وعباس فقال أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قالا قد قال ذلك قال عمر فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا المال بشيء لم يعطه أحدا غيره قال الله {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ - إلى قوله- قَدِيرٌ} فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما احتازها دونكم ولا أستأثر بها عليكم لقد أعطاكموها حتى بقى منها هذا المال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك قالوا نعم قال لعلي وعباس أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك قالا نعم ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله فقبضها أبو بكر يعمل فيها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتما حينئذ وأقبل على علي وعباس تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا والله يعلم أنه فيها صادق بار راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع جئتني تسألني نصيبك من بن أخيك وأتى هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها فقلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل به فيها أبو بكر وبما عملت به فيها منذ وليتها وإلا فلا تكلماني فيها فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما بذلك أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك فقال الرهط نعم قال فأقبل على علي وعباس فقال أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما

(9/502)


بذلك قالا نعم قال أفتلتمسان مني ذلك فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها فأنا أكفيكماها"
قوله: "باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال" ؟ ذكر فيه حديث عمر، وهو مطابق لركن الترجمة الأول، وأما الركن الثاني وهو كيفية النفقة على العيال فلم يظهر لي أولا وجه أخذه من الحديث، ولا رأيت من تعرض له، ثم رأيت أنه بمكن أن يؤخذ منه دليل التقدير لأن مقدار نفقة السنة إذا عرف عرف منه توزيعها على أيام السنة فيعرف حصة كل يوم من ذلك، فكأنه قال: لكل واحدة في كل يوم قدر معين من المغل المذكور، والأصل في الإطلاق التسوية. قوله: "حدثني محمد بن سلام" كذا في رواية كريمة، وللأكثر "حدثني محمد" حسب. قوله: "قال لي معمر قال لي الثوري" هذا الحديث مما فات ابن عيينة سماعه من الزهري فرواه عنه بواسطة معمر، وقد رواه أيضا عن عمرو بن دينار عن الزهري بأتم من سياق معمر، وتقدم في تفسير سورة الحشر. وأخرجه الحميدي وأحمد في مسنديهما عن سفيان عم معمر وعمرو بن دينار جميعا عن الزهري، وقد أخرج مسلم رواية معمر وحدها عن يحيى بن يحيى عن سفيان عن معمر عن الزهري ولكنه لم يسق لفظه وقد أخرج إسحاق بن راهويه رواية معمر منفردة عن سفيان عنه عن الزهري بلفظ: "كان ينفق على أهله نفقة سنة من مال بني النضير ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح" وقد أخرج مسلم الحديث مطولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وفي كل من الإسنادين رواية الأقران، فإن ابن عيينة عن معمر قرينان، وعمرو بن دينار عن الزهري كذلك. ويؤخذ منه المذاكرة بالعلم وإلقاء العالم المسألة على نظيره ليستخرج ما عنده من الحفظ، وتثبت معمر وإنصافه لكونه اعترف أنه لا يستحضر إذ ذاك في المسألة شيئا، ثم لما تذكرها أخبر بالواقعة كما هي ولم يأنف مما تقدم. قوله: "كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم" كذا أورده مختصرا ثم ساق المصنف الحديث بطوله من طريق عقيل عن ابن شهاب الزهري، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل فرض الخمس. قال ابن دقيق العيد: في الحديث جواز الادخار للأهل قوت سنة، وفي السياق ما يؤخذ منه الجمع بينه وبين حديث: "كان لا يدخر شيئا لغد" فيحمل على الادخار لنفسه وحديث الباب على الادخار لغيره، ولو كان له في ذلك مشاركة، لكن المعنى أنهم المقصد بالادخار دونه حتى لو لم يوجدوا لم يدخر، قال: والمتكلمون على لسان الطريقة جعلوا أو بعضهم ما زاد على السنة خارجا عن طريقة التوكل انتهى. وفيه إشارة إلى الرد على الطبري حيث استدل بالحديث على جواز الادخار مطلقا خلافا لمن منع ذلك، وفي الذي نقله الشيخ تقييد بالسنة اتباعا للخبر الوارد، لكن استدلال الطبري قوي، بل التقييد بالسنة إنما جاء من ضرورة الواقع لأن الذي كان يدخر لم يكن يحصل إلا من السنة إلى السنة، لأنه كان إما تمرا وإما شعيرا، فلو قدر أن شيئا مما يدخر كان لا يحصل إلا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادخار لأجل ذلك، والله أعلم. ومع كونه صلى الله عليه وسلم كان يحتبس قوت سنة لعياله فكان في طول السنة ربما استجره منهم لمن يرد عليه ويعوضهم عنه، ولذلك مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير اقترضه قوتا لأهله. واختلف في جواز ادخار القوت لمن يشتريه من السوق، قال عياض: أجازه قوم واحتجوا بهذا الحديث، ولا حجة فيه لأنه إنما كان من مغل الأرض، ومنعه قوم إلا أن كان لا يضر بالسعر، وهو متجه إرفاقا بالناس. ثم محل هذا

(9/503)


الاختلاف إذا لم يكن في حال الضيق، وإلا فلا يجوز الادخار في تلك الحالة أصلا.

(9/504)


4- باب نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَنَفَقَةِ الْوَلَد ِ
5359- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لاَ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ"
5360- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ"
قوله: "باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها ونفقة الولد" ذكر فيه حديث عائشة في قصة هند امرأة أبي سفيان وسيأتي شرحه بعد أربعة أبواب. وحديث أبي هريرة "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها" وقد مر شرحه في أواخر النكاح. "تنبيه": وقعت هذه الترجمة وحديثها متأخرة عن الباب الذي بعده عند النسفي.

(9/504)


باب قوله تعالى:(والوالدات يرضهن أولادهن حولين كاملين إلى قوله تعالى بما تعملون بصير)
...
5- باب وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَقَالَ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} وَقَالَ {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى قَوْلِهِ- بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَهَى اللَّهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ وَهِيَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فِصَالُهُ فِطَامُهُ
قوله: "باب والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين - إلى قوله :{بَصِيرٌ} كذا لأبي ذر والأكثر.
وفي رواية كريمة:" إلى قوله :{بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} قيل دلت الآية الأولى على إيجاب الإنفاق على المرضعة من أجل رضاعها الولد، كانت في العصمة أم لا. وفي الثانية الإشارة إلى قدر المدة التي يجب ذلك فيها. وفي الثالثة الإشارة إلى مقدار الإنفاق وأنه بالنظر لحال المنفق. وفيها أيضا الإشارة إلى أن الإرضاع لا يتحتم على الأم، وقد تقدم في أوائل النكاح في "باب لا رضاع بعد حولين" البحث في معنى قوله تعالى :{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وأخرج الطبري عن ابن عباس أن إرضاع الحولين مختص بمن وضعت لستة أشهر، فمهما وضعت لأكثر من ستة أشهر نقص من مدة

(9/504)


6- باب عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
5361- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ قَالَ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ"
قوله: "باب عمل المرأة في بيت زوجها" أورد فيه حديث علي في طلب فاطمة الخادم، والحجة منه قوله فيه: "تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى"، وقد تقدم الحديث في أوائل فرض الخمس وأن شرحه يأتي في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وسأذكر شيئا مما يتعلق بهذا الباب في الباب الذي يليه. حديث علي في طلب فاطمة الخادم، والحجة منه قوله فيه: "تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى"، وقد تقدم الحديث في أوائل فرض الخمس وأن شرحه يأتي في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وسأذكر شيئا مما يتعلق بهذا الباب في الباب الذي يليه. ويستفاد من قوله: "ألا أدلكما على خير مما سألتما" أن الذي يلازم ذكر الله يعطي قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم لها، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث، والذي يظهر أن المراد أن نفع التسبيح مختص بالدار الآخرة ونفع الخادم مختص بالدار الدنيا، والآخرة خير وأبقى

(9/506)


7- باب خَادِمِ الْمَرْأَةِ
5362- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ مُجَاهِدًا سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَقَالَ أَلاَ أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ قِيلَ وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ قَالَ وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ"
قوله: "باب خادم المرأة" أي هل يشرع ويلزم الزوج إخدامها؟ حديث على المذكور في الذي قبله وسياقه أخصر منه، قال الطبري: يؤخذ منه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفا أن مثلها يلي ذلك بنفسه. ووجه الأخذ أن فاطمة لما سألت أباها صلى الله عليه وسلم الخادم لم يأمر زوجها بأن يكفيها ذلك إما بإخدامها خادما أو باستئجار من يقوم بذلك أو بتعاطي ذلك

(9/506)


8- باب خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ
5363- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي الْبَيْتِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ خَرَجَ"
قوله: "باب خدمة الرجل في أهله" أي بنفسه. قوله: "كان يكون" سقط لفظ: "يكون" من رواية المستملي والسرخسي، وقد تقدم ضبط المهنة وأنه بفتح الميم ويجوز كسرها في كتاب الصلاة. وقال ابن التين: ضبط في الأمهات بكسر الميم، وضبطه الهروي بالفتح، وحكى الأزهري عن شمر عن مشايخه أن كسرها خطأ. قوله: "فإذا سمع الأذان خرج" تقدم شرحه مع شرح بقية الحديث مستوفى في أبواب فضل الجماعة من كتاب الصلاة. "تنبيه": وقع هنا للنسفي وحده ترجمة نصها "باب هل لي من أجر في بني أبي سلمة" وبعده الحديث الآتي في "باب وعلى الوارث مثل ذلك" والراجح ما عند الجماعة

(9/507)


باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ يفير علمه مايكفيها وولدها بالمعروف
...
9- باب إِذَا لَمْ يُنْفِقْ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ
5364- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ"
قوله: "باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف" أخذ المصنف هذه

(9/507)


10- باب حِفْظِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ
5365- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ وَقَالَ الْآخَرُ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، والنفقة" المراد بذات اليد المال، وعطف النفقة عليه من عطف الخاص على العام. ووقع في شرح ابن بطال "والنفقة عليه" وزيادة لفظة "عليه" غير محتاج إليها في هذا الموضع

(9/511)


وليست من حديث الباب في شيء. قوله: "حدثنا ابن طاوس" اسمه عبد الله. قوله: "عن أبيه وأبو الزناد" هو عطف على ابن طاوس لا على طاوس. وحاصله أن لسفيان بن عيينة فيه إسنادين إلى أبي هريرة. ووقع في مسند الحميدي عن سفيان "وحدثنا أبو الزناد" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش. وقال الآخر: صالح نساء قريش" في رواية الكشميهني: "صلح" بضم الصاد وتشديد اللام بعدها مهملة وهي صيغة جمع، وحاصله أن أحد شيخي سفيان اقتصر على نساء قريش وزاد الآخر صالح، ووقع عند مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان "قال أحدهما: صالح نساء قريش. وقال الآخر: نساء قريش" ولم أره عن سفيان إلا مبهما، لكن ظهر من رواية شعيب عن أبي الزناد الماضية في أول النكاح ومن رواية معمر عن ابن طاوس عند مسلم أن الذي زاد لفظة "صالح" هو ابن طاوس ووقع في أوله عند مسلم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بيان سبب الحديث ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال" فذكر الحديث، وله "أحناه علي" بمهملة ثم نون من الحنو وهو العطف والشفقة "وأرعاه" من الرعاية وهي الإبقاء، قال ابن التين: الحانية عند أهل اللغة التي تقيم على ولدها فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية. قوله: "في ذات يده" قال قاسم بن ثابت في "الدلائل" : ذات يده وذات بيننا ونحو ذلك صفة لمحذوف مؤنث كأنه يعني الحال التي هي بينهم، والمراد بذات يده ماله ومكسبه. وأما قولهم لقيته ذات يوم فالمراد لقاة أو مرة، فلما حذف الموصوف وبقيت الصفة صارت كالحال. قوله: "ويذكر عن معاوية وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث معاوية وهو ابن أبي سفيان فأخرجه أحمد والطبراني من طريق زيد بن غياث عن معاوية "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكر مثل رواية ابن طاوس في جملة أحاديث ورجاله موثقون، وفي بعضهم مقال لا يقدح. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد أيضا من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سوده وكان لها خمسة صبيان أو ستة من بعل لها مات، فقالت له: ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي إلا أني أكرمك أن تضغو هذه الصبية عند رأسك، فقال لها: يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل صالح نساء قريش" الحديث وسنده حسن، وله طريق أخرى أخرجها قاسم بن ثابت في "الدلائل" من طريق، الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس باختصار القصة، وهذه المرأة يحتمل أن تكون أم هانئ المذكورة في حديث أبي هريرة فلعلها كانت تلقب سودة فإن المشهور أن اسمها فاختة وقيل غير ذلك، ويحتمل أن تكون امرأة أخرى، وليست سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قديما بمكة بعد موت خديجة ودخل بها قبل أن يدخل بعائشة ومات وهي في عصمته، وقد تقدم ذلك واضحا، وتقدم شرح المتن مستوفى في أوائل كتاب النكاح

(9/512)


11- باب كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ
5366- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آتَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي"
قوله: "باب كسوة المرأة بالمعروف" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم من حديث جابر المطول في صفة

(9/512)


الحج، ومن جملته في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة "اتقوا الله في النساء، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" ولما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه واستنبط الحكم من حديث آخر على شرطه. حديث علي في الحلة السيراء وقوله: "فشققتها بين نسائي" قال ابن المنير وجه المطابقة أن الذي حصل لزوجته فاطمة عليها السلام من الحلة قطعة فرضيت بها اقتصادا بحسب الحال لا إسرافا، وأما حكم المسألة فقال ابن بطال: أجمع العلماء على أن للمرأة مع النفقة على الزوج كسوتها وجوبا، وذكر بعضهم أنه يلزمه أن يكسوها من الثياب كذا، والصحيح في ذلك أن لا يحمل أهل البلدان على نمط واحد، وأن على أهل كل بلد ما يجري في عادتهم بقدر ما يطيقه الزوج على قدر الكفاية لها، وعلى قدر يسره وعسره ا هـ. وأشار بذلك إلى الرد على الشافعية، وقد تقدم البحث في ذلك في النفقة قريبا والكسوة في معناها، وحديث علي سيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وقوله: "آتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" بالمد أي أعطى، ثم ضمن أعطى معنى أهدى أو أرسل لذلك عداه بإلي وهي بالتشديد، وقد وقع في رواية النسفي "بعث" وفي رواية ابن عبدوس "أهدى" ولا تضمين فيها، ومن قرأ: إلى "بالتخفيف بلفظ حرف الجر و "أتى" بمعنى جاء لزمه أن يقول: "حلة سيراء" بالرفع ويكون في الكلام حذف تقديره فأعطانيها فلبستها إلى آخره، قال ابن التين: ضبط عند الشيخ أبي الحسن "أتى" بالقصر أي جاء، فيحتمل أن يكون المعنى جاءني النبي صلى الله عليه وسلم بحلة فحذف ضمير المتكلم وحذف الباء فانتصبت؛ والحلة إزار ورداء، والسيراء بكسر المهملة وفتح التحتانية وبالمد من أنواع الحرير، وقوله: "بين نسائي" يوهم زوجاته وليس كذلك، فإنه لم يكن له حينئذ زوجة إلا فاطمة، فالمراد بنسائه زوجته مع أقاربه، وقد جاء في رواية: "بين الفواطم"

(9/513)


12- باب عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي وَلَدِهِ
5367- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْ قَالَ خَيْرًا
قوله: "باب عون المرأة زوجها في ولده" سقط في ولده من رواية النسفي وذكر فيه حديث جابر في تزويجه الثيب لتقوم على أخواته وتصلحهن، وكأنه استنبط قيام المرأة على ولد زوجها من قيام امرأة جابر على أخواته ووجه ذلك منه بطريق الأولى، قال ابن بطال: وعون المرأة زوجها في ولده ليس بواجب عليها وإنما هو من جميل العشرة ومن شيمة صالحات النساء، وقد تقدم الكلام على خدمة المرأة زوجها هل تجب عليها أم لا قريبا

(9/513)


13- باب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ
5368- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(9/513)


باب:(وعلى الوارث مثل ذلك) وهل على المرأة منه شيئ
...
14- باب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} إِلَى قَوْلِهِ {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
5369- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ قَالَ نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ"
5370- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هِنْدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ قَالَ خُذِي بِالْمَعْرُوفِ"
قوله: "باب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، وهل على المرأة منه شيء؟ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } الآية" كذا لأبي ذر ولغيره بعد قوله {أَبْكَمُ} "إلى قوله :{صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال ابن بطال ما ملخصه: اختلف السلف في المراد بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فقال ابن عباس: عليه أن لا يضار، وبه قال الشعبي ومجاهد، والجمهور قالوا: ولا غرم على أحد من الورثة، ولا يلزمه نفقة ولد الموروث. وقال آخرون: على من يرث الأب مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له. ثم اختلفوا في المراد بالوارث فقال الحسن والنخعي: هو كل من يرث الأب من الرجال والنساء، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو من كان ذا رحم محرم للمولود دون غيره. وقال قبيصة بن ذؤيب: هو المولود نفسه. وقال زيد بن ثابت: إذا خلف أما وعما فعلى كل منهما إرضاع الولد بقدر ما يرث، وبه مال الثوري. قال ابن بطال: وإلى هذا القول أشار البخاري بقوله وعلى، وهل على

(9/514)


المرأة منه شيء؟ ثم أشار إلى رده بقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} فنزل المرأة من الوارث منزلة الأبكم من المتكلم ا هـ وقد أخرج الطبري هذه الأقوال عن قائلها، وسبب الاختلاف حمل المثلية في قوله: {مِثْلُ ذَلِكَ} على جميع ما تقدم أو على بعضه، والذي تقدم الإرضاع والإنفاق والكسوة وعدم الإضرار، قال ابن العربي: قالت طائفة لا يرجع إلى الجميع بل إلى الأخير، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع إلى الجميع فعليه الدليل لأن الإشارة بالإفراد، وأقرب مذكور هو عدم الإضرار فرجع الحمل عليه. ثم أورد حديث أم سلمة في سؤالها: هل لها أجر في الإنفاق على أولادها من أبي سلمة ولم يكن لهم مال؟ فأخبرها أن لها أجرا، فدل على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، إذ لو وجبت عليها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذا قصة هند بنت عتبة فإنه أذن لها في أخذ نفقة بنيها من مال الأب فدل على أنها تجب عليه دونها، فأراد البخاري أنه لما لم يلزم الأمهات نفقة الأولاد في حياة الآباء فالحكم بذلك مستمر بعد الآباء، ويقويه قوله تعالى :{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أي رزق الأمهات وكسوتهن من أجل الرضاع للأبناء، فكيف يجب لهن في أول الآية ويجب عليهن نفقة الأبناء في آخرها؟ وأما قول قبيصة فيرده أن الوارث لفظ يشمل الولد وغيره فلا يخص به وارث دون آخر إلا بحجة ولو كان الولد هو المراد لقيل وعلى المولود، وأما قول الحنفية فيلزم منه أن النفقة تجب على الخال لابن أخته ولا تجب على العم لابن أخيه وهو تفصيل لا دلالة عليه من الكتاب ولا السنة ولا القياس قاله إسماعيل القاضي، وأما قول الحسن ومن تابعه فتعقب بقوله تعالى :{إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فلما وجب على الأب الإنفاق على من يرضع ولده ليغذي ويربي فكذلك يجب عليه إذا فطم فيغذيه بالطعام كما كان يغذيه بالرضاع ما دام صغيرا، ولو وجب مثل ذلك على الوارث لوجب إذا مات عن الحامل أنه يلزم العصبة بالإنفاق عليها لأجل ما في بطنها، وكذا يلزم الحنفية إلزام كل ذي رحم محرم. وقال ابن المنير: إنما قصر البخاري الرد على من زعم أن الأم يجب عليها نفقة ولدها وإرضاعه بعد أبيه لدخولها في الوارث، فبين أن الأم كانت كلا على الأب واجبة النفقة عليه؛ ومن هو كل بالأصالة لا يقدر على شيء غالبا كيف يتوجه عليه أن ينفق على غيره؟ وحديث أم سلمة صريح في أن إنفاقها على أولادها كان على سبيل الفضل والتطوع، فدل على أن لا وجوب عليها. وأما قصة هند فظاهرة في سقوط النفقة عنها في حياة الأب فيستصحب هذا الأصل بعد وفاة الأب، وتعقب بأنه لا يلزم من السقوط عنها في حياة الأب السقوط عنها بعد فقده، وإلا فقد القيام بمصالح الولد بفقده، فيحتمل أن يكون مراد البخاري من الحديث الأول وهو حديث أم سلمة في إنفاقها على أولادها الجزء الأول من الترجمة وهو أن وارث الأب كالأم يلزمه نفقة المولود بعد موت الأب، ومن الحديث الثاني الجزء الثاني وهو أنه ليس على المرأة شيء عند وجود الأب، وليس فيه تعرض لما بعد الأب، والله أعلم

(9/515)


15- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ
5371- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى وَإِلاَ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ أَنَا أَوْلَى

(9/515)


بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك كلا" بفتح الكاف والتشديد والتنوين "أو ضياعا" بفتح الضاد المعجمة "فإلي" بالتشديد. ذكر حديث أبي هريرة بلفظ: "من توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته" وأما لفظ الترجمة فأورده في الاستقراض من طريق أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ: "من ترك مالا فلورثته؛ ومن ترك كلا فإلينا" ومن طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة "ومن ترك دنيا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه" والضياع تقدم ضبطه وتفسيره في الكفالة وفي الاستقراض، وتقدم شرح الحديث في الكفالة وفي تفسير الأحزاب، ويأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. وأراد المصنف بإدخاله في أبواب النفقات الإشارة إلى أن من مات وله أولاد ولم يترك لهم شيئا فإن نفقتهم تجب في بيت مال المسلمين والله أعلم

(9/516)


16- باب الْمَرَاضِعِ مِنْ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ
5372- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ قُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي فَقَالَ إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ لِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ"
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ
قوله: "باب المراضع من المواليات وغيرهن" كذا للجميع، قال ابن التين: ضبط في رواية بضم الميم، وبفتحها في أخرى، والأول أولى لأنه اسم فاعل من والت توالي. قلت: وليس كما قال، بل المضبوط في معظم الروايات بالفتح، وهو من الموالي لا من الموالاة. وقال ابن بطال: كان الأولى أن يقول الموليات جمع مولاة، وأما المواليات فهو جمع الجمع جمع مولى جمع التكسير ثم جمع موالي جمع السلامة بالألف والتاء فصار مواليات. ذكر حديث أم حبيبة في قولها "انكح أختي" وفي قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له درة بنت أبي سلمة فقال: "بنت أم سلمة" ؟ وإنما استثبتها في ذلك ليترتب عليه الحكم، لأن بنت أبي سلمة من غير أم سلمة تحل له لو لم يكن أبو سلمة رضيعه، لأنها ليست ربيبة، بخلاف بنت أبي سلمة من أم سلمة. وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب النكاح وقوله في آخره: "قال شعيب عن الزهري قال عروة ثويبة أعتقها أبو لهب" تقدم هذا التعليق موصولا في جملة الحديث الذي أشرت إليه في أوائل النكاح، وسياق مرسل عروة أتم مما هنا، وتقدم شرحه، وأراد بذكره هنا إيضاح أن ثويبة كانت مولاة ليطابق الترجمة، ووجه إيرادها في أبواب النفقات الإشارة إلى أن إرضاع الأم ليس متحتما بل لها أن ترضع ولها أن تمتنع، فإذا امتنعت كان للأب أو الولي إرضاع الولد بالأجنبية حرة كانت أو أمة متبرعة كانت أو

(9/516)


بأجرة والأجرة تدخل في النفقة. وقال ابن بطال: كانت العرب تكره رضاع الإماء وترغب في رضاع العربية لنجابة الولد، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد رضع من غير العرب وأنجب وأن رضاع الإماء لا يهجن ا هـ وهو معنى حسن، إلا أنه لا يفيد الجواب عن السؤال الذي أوردته. وكذا قول ابن المنير: أشار المصنف إلى أن حرمة الرضاع تنتشر، سواء كانت المرضعة حرة أم أمة. والله أعلم "خاتمة": اشتمل كتاب النفقات من الأحاديث المرفوعة على خمسة وعشرين حديثا، المعلق منها ثلاثة وجميعها مكرر إلا ثلاثة أحاديث وهي حديث أبي هريرة "الساعي على الأرملة" وحديث ابن عباس ومعاوية في نساء قريش وهما معلقان، وافقه مسلم على تخريج حديث أبي هريرة دونهما. وفيه من الآثار الموقوفة عن الصحابة والتابعين، ثلاثة آثار: أثر الحسن في أوله، وأثر الزهري في الوالدات يرضعن، وأثر أبي هريرة المتصل بحديث: "أفضل الصدقة ما ترك عن غنى" الحديث، وفيه: "تقول المرأة إما أن تعطيني وإما أن تطلقني إلخ" وبين في آخره أنه من كلام أبي هريرة فهو موقوف متصل الإسناد، وهو من أفراده عن مسلم، بخلاف غالب الآثار التي يوردها فإنها معلقة. والله أعلم

(9/517)


كتاب الأطعمة
باب قوله تعالى:(كلوا من طيبات مارزقناكم)
...
5- كتاب الأطعمة
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية
وَقَوْلِهِ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وَقَوْلِهِ {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
5373- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ قَالَ سُفْيَانُ وَالْعَانِي الأَسِيرُ"
5374- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَعَامٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ"
5375- وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنْ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ عُدْ يَا أَبَا هِرٍّ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ عُدْ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالْقِدْحِ قَالَ فَلَقِيتُ عُمَرَ وَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي

(9/517)


كَانَ مِنْ أَمْرِي وَقُلْتُ لَهُ فَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَقْرَأْتُكَ الْآيَةَ وَلاَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لاَنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ"
[الحديث5375- طرفاه في: 6246، 6452]
"بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأطعمة وقول الله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية. وقوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وقوله {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} : كذا في أكثر الروايات في الآية الثانية "أنفقوا" على وفق التلاوة، ووقع في رواية النسفي "كلوا" بدل أنفقوا، وهكذا في بعض الروايات عن أبي الوقت وفي قليل من غيرها وعليها شرح ابن بطال، وأنكرها وتبعه من بعده، حتى زعم عياض أنها كذلك للجميع، ولم أرها في رواية أبي ذر إلا على وفق التلاوة كما ذكرت، وكذا في نسخة معتمدة من رواية كريمة، ويؤيد ذلك أن المصنف ترجم بهذه الآية وحدها في كتاب البيوع فقال: "باب قوله أنفقوا من طيبات ما كسبتم" كذا وقع على وفق التلاوة للجميع إلا النسفي، وعليه شرح ابن بطال أيضا، وفي بعض النسخ من رواية أبي الوقت وزعم عياض أنه وقع للجميع "كلوا" إلا أبا ذر عن المستملي فقال: "أنفقوا"، وتقدم هناك التنبيه على أنه وقع على الصواب في كتاب الزكاة حيث ترجم "باب صدقة الكسب والتجارة" لقول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ولا اختلاف بين الرواة في ذلك، ويحسن التمسك به في أن التغيير فيما عداه من النساخ. والطيبات جمع طيبة وهي تطلق على المستلذ مما لا ضرر فيه وعلى النظيف، وعلى ما لا أذى فيه، وعلى الحلال. فمن الأول قوله تعالى :{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وهذا هو الراجح في تفسيرها، إذ لو كان المراد الحلال لم يزد الجواب على السؤال، ومن الثاني {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ، ومن الثالث: هذا يوم طيب وهذه ليلة طيبة، ومن الرابع الآية الثانية في الترجمة، فقد تقدم في تفسيرها في الزكاة أن المراد بالتجارة الحلال، وجاء أيضا ما يدل على أن المراد بها الجيد لاقترانها بالنهي عن الإنفاق من الخبيث والمراد به الرديء، كذلك فسره ابن عباس، وورد فيه حديث مرفوع ذكره في "باب تعليق القنو في المسجد" من أوائل الصلاة من حديث عوف بن مالك، وأوضح منه فيما يتعلق بهذه الترجمة ما أخرجه الترمذي من حديث البراء قال: "كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي بالقنو فيعلقه في المسجد؛ وكان بعض من لا يرغب في الخير يأتي بالقنو من الحشف والشيص فيعلقه، فنزلت هذه الآية {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} فكنا بعد ذلك يجيء في الصدقة، فنزلت هذه الآية" وليس بين تفسير الطيب في هذه الآية بالحلال وبما يستلذ منافاة، ونظيرها قوله تعالى :{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقد جعلها الشافعي أصلا في تحريم ما تستخبثه العرب مما لم يرد فيه نص بشرط سيأتي بيانه، وكأن المصنف - حيث أورد هذه الآيات - لمح بالحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الحديث:" وهو من رواية فضيل بن مرزوق، وقد قال الترمذي إنه تفرد به، وهو ممن انفرد مسلم بالاحتجاج به دون

(9/518)


البخاري، وقد وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: يهم كثيرا ولا يحتج به، وضعفه النسائي. وقال ابن حبان: كان يخطئ على الثقات. وقال الحاكم: عيب على مسلم إخراجه. فكأن الحديث لما لم يكن على شرط البخاري اقتصر على إيراده في الترجمة. قال ابن بطال لم يختلف أهل التأويل في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وأنها نزلت فيمن حرم على نفسه لذيذ الطعام واللذات المباحة. ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث تتعلق بالجوع والشبع. قوله: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض" الحديث تقدم في الوليمة من كتاب النكاح بلفظ: "أجيبوا الداعي" بدل أطعموا الجائع ومخرجهما واحد، وكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر. قال الكرماني: الأمر هنا للندب وقد يكون واجبا في بعض الأحوال ا هـ. ويؤخذ من الأمر بإطعام الجائع جواز الشبع لأنه ما دام قبل الشبع فصفة الجوع قائمة به والأمر بإطعامه مستمر. قوله: "وفكوا العاني" أي خلصوا الأسير، من فككت الشيء فانفك. قوله: "قال سفيان: والعاني الأسير" تقدم بيان من أدرجه في النكاح، وقيل للأسير عان من عنا يعنو إذا خضع. قوله: "ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض" في رواية مسلم من طريق يزيد بن كيسان عن أبي حازم بلفظ: "ما شبع محمد وأهله ثلاثة أيام تباعا" أي متوالية، وسيأتي بعد هذا من حديث عائشة التقييد أيضا بثلاث، لكن فيه: "من خبز البر" وعند مسلم: "ثلاث ليال" ويؤخذ منها أن المراد بالأيام هنا بلياليها، كما أن المراد بالليالي هناك بأيامها، وأن الشبع المنفي بقيد التوالي لا مطلقا. ولمسلم والترمذي من طريق الأسود عن عائشة "ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين" ويؤخذ مقصوده من جواز الشبع في الجملة من المفهوم، والذي يظهر أن سبب عدم شبعهم غالبا كان بسب قلة الشيء عندهم، على أنهم كانوا قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم، وسيأتي بعد هذا وفي الرقاق أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير" ويأتي بسط القول في شرحه في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: أصابني جهد شديد" هو موصول بالإسناد الذي قبله. وذكر محدث الديار الحلبية برهان الدين أن شيخنا الشيخ سراج الدين البلقيني استشكل هذا التركيب وقال: قوله: "وعن أبي حازم" لا يصح عطفه على قوله عن أبيه لأنه يلزم منه إسقاط فضيل فيكون منقطعا إذ يصير التقدير عن أبيه وعن أبي حازم، قال: ولا يصح عطفه على قوله: "وعن أبي حازم" لأن المحدث الذي لم يعين هو محمد ابن فضيل فيلزم الانقطاع أيضا. قال: وكان اللائق أن يقول: وبه إلى أبي حازم انتهى. وكأنه تلقفه من شيخنا في مجلس بسماعه للبخاري، وإلا فلم يسمع بأن الشيخ شرح هذا الموضع، والأول مسلم، والثاني مردود لأنه لا مانع من عطف الراوي لحديث على الراوي بعينه لحديث آخر، فكأن يوسف قال: حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم بكذا وعن أبي حازم بكذا، واللائق الذي ذكره صحيح لكنه لا يتعين، بل لو قال: وبه إلى أبيه عن أبي حازم لصح، أو حذف قوله: "عن أبيه" فقال: وبه عن أبي حازم لصح، وحدثنا تكون به مقدرة والمقدرة في حكم الملفوظ. وأوضح منه أن قوله: "وعن أبي حازم" معطوف على قوله: "حدثنا محمد بن فضيل إلخ" فحذف ما بينهما للعلم به، وزعم بعض الشراح أن هذا متعلق، وليس كما قال، فقد أخرجه أبو يعلى عن عبد الله بن عمر بن أبان عن محمد بن فضيل بسند البخاري فيه، فظهر أنه معطوف على السند المذكور كما قلته أولا ولله الحمد. قوله: "أصابني جهد شديد" أي من الجوع، والجهد تقدم أنه بالضم وبالفتح بمعنى

(9/519)


والمراد به المشقة، وهو في كل شيء بحسبه. قوله: "فاستقرأته آية" أي سألته أن يقرأ علي آية من القرآن معينة على طريق الاستفادة، وفي غالب النسخ "فاستقريته" بغير همزة، وهو جائز على التسهيل وإن كان أصله الهمزة. قوله: "فدخل داره وفتحها علي" أي قرأها علي وأفهمني إياها، ووقع في ترجمة أبي هريرة في "الحلية لأبي نعيم" من وجه آخر عن أبي هريرة أن الآية المذكورة من سورة آل عمران، وفيه: "فقلت له أقرئني وأنا لا أريد القراءة وإنما أريد الإطعام" وكأنه سهل الهمزة فلم يفطن عمر لمراده. قوله: "فخررت لوجهي من الجهد" أي الذي أشار إليه أولا وهو شدة الجوع، ووقع في الرواية التي في "الحلية" أنه كان يومئذ صائما وأنه لم يجد ما يفطر عليه. قوله: "فأمر لي بعس" بضم العين المهملة بعدها مهملة هو القدح الكبير. قوله: "حتى استوى بطني" أي استقام من امتلائه من اللبن. قوله: "كالقدح" بكسر القاف وسكون الدال بعدها حاء مهملة هو السهم الذي لا ريش له، وسيأتي لأبي هريرة قصه في شرب اللبن مطولة في كتاب الرقاق، وفيها أنه قال: "اشرب، فقال: لا أجد له مساغا" ويستفاد منه جواز الشبع ولو حمل المراد بنفي المساغ على ما جرت به عادته لا أنه أراد أنه زاد على الشبع، والله أعلم. "تنبيه": ذكر لي محدث الديار الحلبية برهان الدين أن شيخنا سراج الدين البلقيني قال: ليس في هذه الأحاديث الثلاثة ما يدل على الأطعمة المترجم عليها المتلو فيها الآيات المذكورة قلت: وهو ظاهر إذا كان المراد مجرد ذكر أنواع الأطعمة، أما إذا كان المراد بها ذلك وما يتعلق به من أحوالها وصفاتها فالمناسبة ظاهرة، لأن من جملة أحوالها الناشئة عنها الشبع والجوع؛ ومن جملة صفاتها الحل والحرمة والمستلذ والمستخبث، ومما ينشأ عنها الإطعام وتركه، وكل ذلك ظاهر من الأحاديث الثلاثة. وأما الآيات فإنها تضمنت الإذن في تناول الطيبات، فكأنه أشار بالأحاديث إلى أن ذلك لا يختص بنوع من الحلال ولا المستلذ ولا بحالة الشبع ولا بسد الرمق، بل يتناول ذلك بحسب الوجدان وبحسب الحاجة، والله أعلم. قوله: "تولى ذلك" أي باشره من إشباعي ودفع الجوع عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى الكرماني أن في رواية: "تولى الله ذلك" قال و "من" على هذا مفعول، وعلى الأول فاعل انتهى. ويكون "تولى" على الثاني بمعنى ولى. قوله: "ولأنا أقرأ لها منك" فيه إشعار بأن عمر لما قرأها عليه توقف فيها أو في شيء منها حتى ساغ لأبي هريرة ما قال، ولذلك أقره عمر على قوله. قوله: "أدخلتك" أي الدار وأطعمتك. قوله: "حمر النعم" أي الإبل، وللحمر منها فضل، على غيرها من أنواعها، وقد تقدم في المناقب البحث في تخصيصها بالذكر والمراد به، وتقدم من وجه آخر عن أبي هريرة "كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب معي فيطعمني" قال ابن بطال: فيه أنه كان من عادتهم إذا استقرأ أحدهم صاحبه القرآن أن يحمله إلى منزله ويطعمه ما تيسر، ويحمل ما وقع من عمر على أنه كان له شغل عاقه عن ذلك، أو لم يكن عنده ما يطعمه حينئذ انتهى ويبعد الأخير تأسف عمر على فوت ذلك. وذكر لي محدث الديار الحلبية أن شيخنا سراج الدين البلقيني استبعد قول أبي هريرة لعمر "لأنا أقرأ لها منك يا عمر" من وجهين: أحدهما مهابة عمر، والثاني عدم اطلاع أبي هريرة على أن عمر لم يكن يقرؤها مثله. قلت: عجبت من هذا الاعتراض، فإنه يتضمن الطعن على بعض رواة الحديث المذكور بالغلط مع وضوح توجيهه، أما الأول فإن أبا هريرة خاطب عمر بذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حالة كان عمر فيها في صورة الخجلان منه فجسر عليه، وأما الثالث فيعكس ويقال: وما كان أبو هريرة ليقول ذلك إلا بعد اطلاعه، فلعله سمعها من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت وما سمعها عمر مثلا إلا بواسطة.

(9/520)


2- باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالأَكْلِ بِالْيَمِينِ
5376- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"
[الحديث 5376- طرفاه في: 5377، 5378]
قوله: "باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين" المراد بالتسمية على الطعام قول بسم الله في ابتداء الأكل، وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعا: "إذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره:" وله شاهد من حديث أمية ابن مخشي عند أبي داود والنسائي، وأما قول النووي في أدب الأكل من "الأذكار" : صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته، والأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال بسم الله كفاه وحصلت السنة. فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلا خاصا، وأما ما ذكره الغزالي في آداب الأكل من "الإحياء" أنه لو قال في كل لقمة بسم الله كان حسنا، وأنه يستحب أن يقول مع الأولى بسم الله ومع الثانية بسم الله الرحمن ومع الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم، فلم أر لاستحباب ذلك دليلا، والتكرار قد بين هو وجهه بقوله حتى لا يشغله الأكل عن ذكر الله. وأما قوله: "والأكل باليمين" فيأتي البحث فيه، وهو يتناول من يتعاطى ذلك بنفسه، وكذا بغيرة بأن يحتاج إلى أن يلقمه غيره ولكنه بيمينه لا بشماله. قوله: "أخبرنا سفيان، قال الوليد بن كثير أخبرني" كذا وقع هنا وهو من تأخير الصيغة عن الراوي، وهو جائز. وقد أخرجه الحميدي في مسنده وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه عن سفيان قال: "حدثنا الوليد بن كثير" وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن خلاد عن سفيان عن الوليد بالعنعنة ثم قال آخره: "فسألوه عن إسناده فقال: حدثني الوليد بن كثير" ولعل هذا هو السر في سياق علي بن عبد الله له على هذه الكيفية، ولسفيان بن عيينة في هذا الحديث سند آخر أخرجه النسائي عن محمد بن منصور وابن ماجه عن محمد بن الصباح كلاهما عن سفيان عن هشام عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة، وقد اختلف على هشام في سنده فكأن البخاري عرج عن هذه الطريق، لذلك. قوله: "عمر بن أبي سلمة" أي ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسم أبي سلمة عبد الله، وأم عمر المذكور هي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في آخر الباب الذي يليه وصفه بأنه "ربيب النبي صلى الله عليه وسلم:" قوله: "كنت غلاما" أي دون البلوغ، يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الحلم غلام، وقد ذكر ابن عبد البر أنه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة بأرض الحبشة، وتبعه غير واحد، وفيه نظر بل الصواب أنه ولد قبل ذلك، فقد صح في حديث عبد الله بن الزبير أنه قال: "كنت أنا وعمر بن أبي سلمة مع النسوة يوم الخندق، وكان أكبر مني بسنتين" انتهى. ومولد ابن الزبير في السنة الأولى على الصحيح فيكون مولد عمر قبل الهجرة بسنتين. قوله: "في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم" بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم، أي في تربيته وتحت نظره وأنه يربيه في حضنه تربية الولد، قال عياض: الحجر يطلق على الحضن وعلى الثوب فيجوز فيه الفتح والكسر، وإذا أريد به معنى الحضانة فبالفتح لا غير، فإن أريد به المنع من التصرف فبالفتح في المصدر

(9/521)


وبالكسر في الاسم لا غير. قوله: "وكانت يدي تطيش في الصحفة" أي عند الأكل، ومعنى تطيش - وهو بالطاء المهملة والشين المعجمة بوزن تطير تتحرك فتميل إلى نواحي القصعة ولا تقتصر على موضع واحد، قاله الطيبي قال: والأصل أطيش بيدي فأسند الطيش إلى يده مبالغة. وقال غيره: معنى تطيش تخف وتسرع وسيأتي في الباب الذي يليه بلفظ: "أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما فجعلت آكل من نواحي الصحفة" وهو يفسر المراد، والصحفة ما تشبع خمسة ونحوها، وهي أكبر من القصعة. ووقع في رواية الترمذي من طريق عروة "عن عمر بن أبي سلمة أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده طعام فقال: ادن يا بني" ويأتي في الرواية التي في آخر الباب الذي يليه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام وعنده ربيبه" والجمع بينهما أن مجيء الطعام وافق دخوله. قوله: "يا غلام سم الله" قال النووي: أجمع العلماء على استحباب التسمية على الطعام في أوله، وفي نقل الإجماع على الاستحباب نظر، إلا إن أريد بالاستحباب أنه راجح الفعل، وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك، وهو قضية القول بإيجاب الأكل باليمين لأن صيغة الأمر بالجميع واحدة. قوله: "وكل بيمينك ومما يليك" قال شيخنا في "شرح الترمذي". حمله أكثر الشافعية على الندب، وبه جزم الغزالي ثم النووي، لكن نص الشافعي في "الرسالة" وفي موضع آخر من "الأم" على الوجوب. قلت: وكذا ذكره عنه الصيرفي في "شرح الرسالة" ونقل "البويطي في مختصره" أن الأكل من رأس الثريد والتعريس على الطريق والقران في التمر وغير ذلك مما ورد الأمر بضده حرام، ومثل البيضاوي في منهاجه للندب بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مما يليك" وتعقبه تاج الدين السبكي في شرحه بأن الشافعي نص في غير موضع على أن من أكل مما لا يليه عالما بالنهي كان عاصيا آثما. قال: وقد جمع والدي نظائر هذه المسألة في كتاب له سماه "كشف اللبس عن المسائل الخمس" ونصر القول بأن الأمر فيها للوجوب. قلت: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله فقال: كل بيمينك قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت. فما رفعها إلى فيه بعد" وأخرج الطبراني من حديث سبيعة الأسلمية من حديث عقبة بن عامر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها فقال: أخذها داء غزة، فقال: إن بها قرحة، قال: وإن، فمرت بغزة فأصابها طاعون فماتت" وأخرج محمد بن الربيع الجيزي في "مسند الصحابة الذين نزلوا مصر" وسنده حسن وثبت النهي عن الأكل بالشمال وأنه من عمل الشيطان من حديث ابن عمر ومن حديث جابر عند مسلم وعند أحمد بسند حسن عن عائشة رفعته "من أكل بشماله أكل معه الشيطان" الحديث. ونقل الطيبي أن معنى قوله: "إن الشيطان يأكل بشماله أي يحمل أولياءه من الإنس على ذلك ليضاد به عباد الله الصالحين" قال الطيبي: وتحريره لا تأكلوا بالشمال، فإن فعلتم كنتم من أولياء الشيطان، فإن الشيطان يحمل أولياءه على ذلك انتهي. وفيه عدول عن الظاهر، والأولى حمل الخبر على ظاهره وأن الشيطان يأكل حقيقة لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به فلا يحتاج إلى تأويله، وحكى القرطبي في ذلك احتمالين ثم قال: والقدرة صالحة. ثم ذكر من عند مسلم أن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، قال: وهذا عبارة عن تناوله، وقيل معناه استحسانه رفع البركة من ذلك الطعام إذا لم يذكر اسم الله قال القرطبي وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الشيطان يأكل بشماله" ظاهره أن من فعل ذلك تشبه بالشيطان، وأبعد وتعسف من أعاد الضمير في شماله على الآكل، قال النووي: في هذه الأحاديث استحباب الأكل والشرب باليمين وكراهة ذلك بالشمال، وكذلك كل أخذ وعطاء كما وقع في بعض طرق حديث ابن عمر،

(9/522)


وهذا إذا لم يكن عذر من مرض أو جراحة فإن كان فلا كراهة كذا قال، وأجاب عن الإشكال في الدعاء على الرجل الذي فعل ذلك واعتذر فلم يقبل عذره بأن عياضا ادعى أنه كان منافقا، وتعقبه النووي بأن جماعة ذكروه في الصحابة وسموه بسرا بضم الموحدة وسكون المهملة، واحتج عياض بما ورد في خبره أن الذي حمله على ذلك الكبر، ورده النووي بأن الكبر والمخالفة لا يقتضي النفاق لكنه معصية إن كان الأمر أمر إيجاب. قلت: ولم ينفصل عن اختياره أن الأمر أمر ندب، وقد صرح ابن العربي بإثم من أكل بشماله، واحتج بأن كل فعل ينسب إلى الشيطان حرام. وقال القرطبي هذا الأمر على جهة الندب لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال لأنها أقوى في الغالب وأسبق للأعمال وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة إذ نسبهم إلى اليمين، وعكسه في أصحاب الشمال قال: وعلى الجملة فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعا ودينا، والشمال على نقيض ذلك، وإذا تقرر ذلك فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة والأحوال النظيفة. وقال أيضا: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة والمكارم المستحسنة والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب قال: وقوله: "كل مما يليك" محله ما إذا كان الطعام نوعا واحدا، لأن كل أحد كالحائز لما يليه من الطعام، فأخذ الغير له تعد عليه، مع ما فيه من تقذر النفس مما خاضت فيه الأيدي، ولما فيه من إظهار الحرص والنهم، وهو مع ذلك سوء أدب بغير فائدة، أما إذا اختلفت الأنواع فقد أباح ذلك العلماء. كذا قال. قوله: "فما زالت تلك طعمتي بعد" بكسر الطاء أي صفة أكلي، أي لزمت ذلك وصار عادة لي. قال الكرماني: وفي بعض الروايات بالضم يقال طعم إذا أكل والطعمة الأكلة، والمراد جميع ما تقدم من الابتداء بالتسمية والأكل باليمين مما يليه. وقوله بعد بالضم على البناء أي استمر ذلك من صنيعي في الأكل، وفي الحديث أنه ينبغي اجتناب الأعمال التي تشبه أعمال الشياطين والكفار، وأن للشيطان يدين، وأنه يأكل ويشرب ويأخذ ويعطي. وفيه جواز ا الدعاء على من خالف الحكم الشرعي. وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في حال الأكل. وفيه استحباب تعليم أدب الأكل والشرب. وفيه منقبة لعمر بن أبي سلمة لامتثاله الأمر ومواظبته على مقتضاه.

(9/523)


3- باب الأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ
وَقَالَ أَنَسٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ
5377- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكَلْتُ يَوْمًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلْ مِمَّا يَلِيكَ"
5378- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ وَمَعَهُ رَبِيبُهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ"
قوله: "باب الأكل مما يليه. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه" هذا التعليق

(9/523)


طرف من حديث الجعد أبي عثمان عن أنس في قصة الوليمة على زينب بنت جحش، وقد تقدم في "باب الهدية للعروس" في أوائل النكاح معلقا من طريق إبراهيم بن طهمان عن الجعد، وفيه: "ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون ويقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه" وقد ذكرت هناك من وصله، وسيأتي أصله موصولا بعد بابين من وجه آخر عن أنس لكن ليس فيه مقصود الترجمة، وعزاه شيخنا ابن الملقن تبعا لمغلطاي لتخريج ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق بكر وثابت عن أنس، وهو ذهول منهما، فليس في الحديث المذكور مقصود الترجمة، وهو عند أبي يعلى والبزار أيضا من الوجه الذي أخرجه ابن أبي عاصم. قوله: "حدثني محمد بن جعفر" يعني ابن أبي كثير المدني، وحلحلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة ثم لام مفتوحة. قوله: "عن وهب بن كيسان أبي نعيم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا رواه أصحاب مالك في "الموطأ" عنه وصورته الإرسال وقد وصله خالد بن مخلد ويحيى بن صالح الوحاظي فقالا "عن مالك عن وهب بن كيسان عن جابر" وهو منكر، وإنما استجاز البخاري إخراجه - وإن كان المحفوظ فيه عن مالك الإرسال - لأنه تبين بالطريق الذي قبله صحة سماع وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة، واقتضى ذلك أن مالكا قصر بإسناده حيث لم يصرح بوصله وهو في الأصل موصول، ولعله وصله مرة فحفظ ذلك عنه خالد ويحيى بن صالح وهما ثقتان، أخرج ذلك الدار قطني في "الغرائب" عنهما، واقتصر ابن عبد البر في "التمهيد" على ذكر رواية خالد بن مخلد وحده.

(9/524)


4- باب مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ مَعَ صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ كَرَاهِيَةً
5379- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسٌ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ"
قوله: "باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه" حوالي بفتح اللام وسكون التحتانية أي جوانب، يقال رأيت الناس حوله وحوليه وحواليه واللام مفتوحة في الجميع ولا يجوز كسرها. قوله: "إذا لم يعرف منه كراهية" ذكر فيه حديث أنس في تتبع النبي صلى الله عليه وسلم الدباء من الصحفة، وهذا ظاهره يعارض الذي قبله في الأمر بالأكل مما يليه، فجمع البخاري بينهما يحمل الجواز على ما إذا علم رضا من يأكل معه، ورمز بذلك إلى تضعيف حديث عكراش الذي أخرجه الترمذي حيث جاء فيه التفصيل بين ما إذا كان لونا واحدا فلا يتعدى ما يليه، أو أكثر من لون فيجوز، وقد حمل بعض الشراح فعله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على ذلك فقال: كان الطعام مشتملا على مرق ودباء وقديد فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء ويترك ما لا يعجبه وهو القديد، وحمله الكرماني كما تقدم له في "باب الخياط" من كتاب البيع على أن الطعام كان للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، قال: فلو كان له ولغيره لكان المستحب أن يأكل مما يليه قلت: إن أراد بالوحدة أن غيره لم يأكل معه فمردود لأن أنسا أكل معه، وإن أراد به المالك وأذن لأنس أن يأكل معه فليطرده في كل مالك ومضيف، وما أظن أحدا يوافقه عليه. وقد نقل ابن بطال عن مالك جوابا يجمع الجوابين

(9/524)


المذكورين فقال: إن المؤاكل لأهله وخدمه يباح له أن يتبع شهوته حيث رآها إذا علم أن ذلك لا يكره منه، فإذا علم كراهتهم لذلك لم يأكل إلا مما يليه. وقال أيضا إنما جالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام لأنه علم أنه أحدا لا يتكره ذلك منه ولا يتقذره، بل كانوا يتباكون بريقه ومماسة يده، بل كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها، فكذلك من لم يتقذر من مؤاكله يجوز له أن تجول يده في الصحفة. وقال ابن التين: إذا أكل المرء مع خادمه وكان في الطعام نوع منفرد جاز له أن ينفرد به. وقال في موضع آخر: إنما فعل ذلك لأنه كان يأكل وحده فسيأتي في رواية أن الخياط أقبل على عمله. قلت: هي رواية ثمامة عن أنس كما سيأتي بعد أبواب، لكن لا يثبت المدعي لأن أنسا أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "إن خياطا" لم أقف على اسمه لكن في رواية ثمامة عن أنس أنه كان غلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: "إن مولى له خياطا دعاه". قوله: "لطعام صنعه" كان الطعام المذكور ثريدا كما سأبينه. قوله: "قال أنس فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء" هكذا أورده مختصرا، وأخرجه مسلم عن قتيبة شيخ البخاري فيه بتمامه، وقد تقدم في البيوع عن عبد الله بن يوسف عن مالك بالزيادة ولفظه: "فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا فيه دباء وقديد" وأفاد شيخنا ابن الملقن عن "مستخرج الإسماعيلي:" أن الخبز المذكور كان خبز شعير وغفل عما أورده البخاري في "باب المرق" كما سيأتي عن عبد الله بن مسلمة عن مالك بلفظ: "خبز شعير" والثاني مثله، وكذا أورده بعد باب آخر عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بتمامه، وهو عند مسلم عن قتيبة أيضا، وقد أفرد البخاري لكل واحدة ترجمة، وهي المرق والدباء والثريد والقديد. قوله: "الدباء" بضم الدال المهملة وتشديد الموحدة ممدود ويجوز القصر حكاه القزاز وأنكره القرطبي هو القرع، وقيل خاص بالمستدير منه، ووقع في "شرح المهذب للنووي" أنه القرع اليابس، وما أظنه إلا سهوا، وهو اليقطين أيضا واحده دباة ودبة، وكلام أبي عبيد الهروي يقتضي أن الهمزة زائدة فإنه أخرجه في "دبب" وأما الجوهري فأخرجه في المعتل على أن همزته منقلبة، وهو أشبه بالصواب، لكن قال الزمخشري: لا ندري هي منقلبة عن واو أو ياء، ويأتي في رواية ثمامة عن أنس "فلما رأيت ذلك جعلت أجمعه بين يديه. وفي رواية حميد عن أنس "فجعلت أجمعه وأدنيه منه". قوله:" فلم أزل أحب الدباء من يومئذ" في رواية ثمامة "قال أنس: لا أزال أحب الدباء بعدما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع ما صنع" وفي رواية مسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس فجعلت ألقيه إليه ولا أطعمه "وله من طريق معمر عن ثابت وعاصم عن أنس فذكر الحديث: "قال ثابت فسمعت أنسا يقول: فما صنع لي طعام بعد أقدر على أن يصنع فيه دباء إلا صنع"، ولابن ماجه بسند صحيح عن حميد عن أنس قال: "بعثت معي أم سليم بمكتل فيه رطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجده، وخرج قريبا إلى مولى له دعاه فصنع له طعاما، فأتيته وهو يأكل فدعاني فأكلت معه، قال وصنع له ثريدة بلحم وقرع فإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه فأدنيه منه" الحديث. وأخرج مسلم بعضه من هذا الوجه بلفظ: "كان يعجبه القرع" وللنسائي: "كان يحب القرع ويقول: إنها شجرة أخي يونس" ويجمع بين قوله في هذه الرواية: "فلم أجده" وبين حديث الباب: "ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنه أطلق المعية باعتبار ما آل إليه الحال، ويحتمل تعدد القصة على بعد، وفي الحديث جواز أكل الشريف طعام من دونه من محترف وغيره وإجابة دعوته، ومؤاكلة الخادم، وبيان ما كان في النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع واللطف بأصحابه وتعاهدهم بالمجيء إلى منازلهم، وفيه الإجابة إلى الطعام ولو كان قليلا ومناولة الضيفان بعضهم بعضا مما

(9/525)


وضع بين أيديهم، وإنما يمتنع من يأخذ من قدام الآخر شيئا لنفسه أو لغيره، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد. وفيه جواز ترك المضيف الأكل مع الضيف لأن في رواية ثمامة عن أنس في حديث الباب: "أن الخياط قدم لهم الطعام ثم أقبل على عمله" فيؤخذ جواز ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الطعام كان قليلا فآثرهم به، ويحتمل أن يكون كان مكتفيا من الطعام أو كان صائما أو كان شغله قد تحتم عليه تكميله. وفيه الحرص على التشبه بأهل الخير والاقتداء بهم في المطاعم وغيرها. وفيه فضيلة ظاهرة لأنس لاقتفائه أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى في الأشياء الجبلية، وكان يأخذ نفسه باتباعه فيها، رضي الله عنه.

(9/526)


باب التين في الأكل وغيره
...
5- باب التَّيَمُّنِ فِي الأَكْلِ وَغَيْرِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلْ بِيَمِينِكَ
5380- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَكَانَ قَالَ بِوَاسِطٍ قَبْلَ هَذَا فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ"
قوله: "باب التيمن في الأكل وغيره" ذكر في حديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن" الحديث، وهو ظاهر فيما ترجم له، وظن بعضهم أن في هذه الترجمة تكرارا لأنه تقدم في قوله: "باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين" وقد أجاب عنه ابن بطال بأن هذه الترجمة أعم من الأولى، لأن الأولى لفعل الأكل فقط وهذه لجميع الأفعال فيدخل فيه الأكل والشرب بطريق التعميم ا هـ، ومن جملة العموم عموم متعلقات الأكل كالأكل من جهة اليمين وتقديم من على اليمين في الأتحاف ونحوه على من على الشمال وغير ذلك. قوله: "قال عمر بن أبي سلمة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك" كذا ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر عن الحموي والكشميهني وسقط للباقين وهو الأشبه وقد مضى موصولا قبل باب، والذي يظهر لي أن محله بعد الترجمة التي تليه. قوله: "وكان قال بواسط قبل هذا في شأنه كله" القائل هو شعبة، والمقول عنه أنه قال بواسط هو أشعث وهو ابن أبي الشعثاء، وقد تقدم بيان ذلك مع مباحث الحديث في "باب التيمن" من كتاب الوضوء. وقال الكرماني قال بعض المشايخ: القائل بواسط هو أشعث، كذا نقل، وليس بصواب ممن قال.

(9/526)


6- باب مَنْ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ
5381- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِطَعَامٍ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ أَبُو

(9/526)


باب:(ليس على الأعمى حرج إلى قوله تعالى لعلكم تعقلون) والنهد والإجتماع على الطعام
...
7- باب {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ - إِلَى قَوْلِهِ- لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والنهد والإجتماع على الطعام
5384- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ بُشَيْرَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ قَالَ يَحْيَى وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ سُفْيَانُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا وَبَدْءًا"
قوله: "باب {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} إلى هنا للأكثر، وساق في رواية أبي ذر الصنفين الآخرين ثم قال: "الآية" وأراد بقبة الآية التي في سورة النور لا التي في سورة الفتح لأنها المناسبة لأبواب الأطعمة، ويؤيد ذلك أنه وقع عند الإسماعيلي إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وكذا لبعض رواة الصحيح. قوله: "والنهد والاجتماع على الطعام" ثبتت هذه الترجمة في رواية المستملي وحده، والنهد بكسر النون وسكون الهاء تقدم تفسيره في أول الشركة حيث قال: "باب الشركة في الطعام والنهد" وتقدم هناك بيان حكمه، وذكر فيه عدة أحاديث في ذلك، ثم ذكر حديث سويد بن النعمان وفيه: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام فلم يؤت إلا بسويق الحديث:" وليس هو ظاهرا في المراد من النهد لاحتمال أن يكون ما جيء بالسويق إلا من جهة واحدة، لكن مناسبته لأصل الترجمة ظاهرة في اجتماعهم على لوك السويق من غير تمييز بين أعمى وبصير وبين صحيح ومريض، وحكى ابن بطال عن المهلب قال: مناسبة الآية لحديث سويد ما ذكره أهل التفسير أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل عزل الأعمى على حدة والأعرج على حدة والمريض على حده لتقصيرهم عن أكل الأصحاء فكانوا يتحرجون أن يتفضلوا عليهم وهذا عن ابن الكلبي. وقال عطاء بن يزيد: كان الأعمى يتحرج أن يأكل طعام غيره لجعله يده في غير موضعها، والأعرج كذلك لاتساعه في موضع الأكل، والمريض لرائحته، فنزلت هذه الآية، فأباح لهم الأكل مع غيرهم. وفي حديث سويد معنى الآية، لأنهم جعلوا أيديهم فيما حضر من الزاد سواء، مع أنه لا يمكن أن يكون أكلهم بالسواء لاختلاف أحوال الناس في ذلك، وقد سوغ لهم الشارع ذلك مع ما فيه من الزيادة والنقصان، فكان مباحا والله أعلم. ا هـ كلامه. وقد جاء في سبب نزول الآية أثر آخر من وجه صحيح، قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو أخيه أو قريبه، فكان الزمنى يتحرجون من ذلك ويقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت الآية رخصة لهم" وقال ابن المنير: موضع المطابقة من الترجمة وسط الآية وهي قوله تعالى :{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} وهي أصل في جواز أكل المخارجة، ولهذا ذكر في الترجمة النهد، والله أعلم.

(9/529)


8- باب الْخُبْزِ الْمُرَقَّقِ وَالأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ وَالسُّفْرَةِ
8385- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ فَقَالَ مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلاَ شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
[الحديث 5385- طرفاه في: 5421، 6357]
5386- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ عَلِيٌّ هُوَ الإِسْكَافُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلاَمَ كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ"
[الحديث 5386- طرفاه في: 5415، 6455]
5387- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْنِي بِصَفِيَّةَ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ أَنَسٍ بَنَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ"
5388- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُونَ يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ يَا بُنَيَّ إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطَاقَانِ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ فَأَوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحَدِهِمَا وَجَعَلْتُ فِي سُفْرَتِهِ آخَرَ قَالَ فَكَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ إِيهًا وَالإِلَهِ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا"
5389- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا فَدَعَا بِهِنَّ فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُسْتَقْذِرِ لَهُنَّ وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ"
قوله: "باب الخبز المرقق "والأكل على الخوان والسفرة" أما الخبز المرقق فقال عياض قوله مرققا أي ملينا محسنا كخبز الحواري وشبهه، والترقيق التليين، ولم يكن عندهم مناخل. وقد يكون المرقق الرقيق الموسع ا هـ. وهذا هو المتعارف، وبه جزم ابن الأثير قال: الرقاق الرقيق مثل طوال وطويل، وهو الرغيف الواسع الرقيق، وأغرب ابن التين فقال: هو السميد وما يصنع منه من كعك وغيره. وقال ابن الجوزي: هو الخفيف كأنه مأخوذ من

(9/530)


الرقاق وهي الخشبة التي يرقق بها. وأما الخوان فالمشهور فيه كسر المعجمة، ويجوز ضمها، وفيه لغة ثالثة إخوان بكسر الهمزة وسكون الخاء، وسئل ثعلب: هل يسمى الخوان لأنه يتخون ما عليه أي ينتقص؟ فقال: ما يبعد. قال الجواليقي: والصحيح أنه أعجمي معرب، ويجمع على أخونة في القلة، وخون مضموم الأول في الكثرة. وقال غيره: الخوان المائدة ما لم يكن عليها طعام، وأما السفرة فاشتهرت لما يوضع عليها الطعام، وأصلها الطعام نفسه. قوله: "كنا عند أنس وعنده خباز له" لم أقف على تسميته، ووقع عند الإسماعيلي عن قتادة "كنا نأتي أنسا وخبازه قائم" زاد ابن ماجه: "وخوانه موضوع، فيقول: كلوا" وفي الطبراني من طريق راشد بن أبي راشد قال: "كان لأنس غلام يعمل له النقانق يطبخ له لونين طعاما ويخبز له الحواري ويعجنه بالسمن" ا هـ. والحواري بضم المهملة وتشديد الواو وفتح الراء: الخالص الذي ينخل مرة بعد مرة. قوله: "ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزا مرققا ولا شاة مسموطة" المسموط الذي أزيل شعره بالماء المسخن وشوي بجلده أو يطبخ، وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري، وهو من فعل المترفين من وجهين: أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه، وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره والسمط يفسده، وقد جرى ابن بطال على أن المسموط المشوي، فقال ما ملخصه: يجمع بين هذا وبين حديث عمرو بن أمية "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يجتز من كتف شاة" وحديث أم سلمة الذي أخرجه الترمذي "أنها قربت للنبي صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه" بأن يقال: محتمل أن يكون لم يتفق أن تسمط له شاة بكمالها، لأنه قد احتز من الكتف مرة ومن الجنب أخرى، وذلك لحم مسموط. أو يقال: إن أنسا قال: "لا أعلم" ولم يقطع به، ومن علم حجة على من لم يعلم. وتعقبه ابن المنير بأنه ليس في حز الكتف ما يدل على أن الشاة كانت مسموطة، بل إنما حزها لأن العرب كانت عادتها غالبا أنها لا تنضج اللحم فاحتيج إلى الحز، قال: ولعل ابن بطال لما رأى البخاري ترجم بعد هذا "باب شاة مسموطة، والكتف والجنب" ظن أن مقصوده إثبات أنه أكل السميط. قلت: ولا يلزم أيضا من كونها مشوية واحتز من كتفها أو جنبها أن تكون مسموطة؛ فإن شي المسلوخ أكثر من شي المسموط، لكن قد ثبت أنه أكل الكراع وهو لا يؤكل إلا مسموطا. وهذا لا يرد على أنس في نفي رواية الشاة المسموطة، وقد وافقه أبو هريرة على نفي أكل الرقاق أخرجه ابن ماجه من طريق ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أنه "زار قومه فأتوه برقاق فبكى وقال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعينه" قال الطيبي: قول أنس "ما أعلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم إلخ" نفى العلم وأراد نفي المعلوم، وهو من باب نفي الشيء بنفي لازمه، وإنما صح هذا من أنس لطول لزومه النبي صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقته له إلى أن مات. قوله: "عن يونس قال عن علي: هو الإسكاف" علي هو شيخ البخاري فيه وهو ابن المديني "ومراده أن يونس وقع في السند غير منسوب فنسبه علي ليتميز، فإن في طبقته يونس بن عبيد البصري أحد الثقات المكثرين، وقد وقع في رواية ابن ماجه عن محمد بن مثنى عن معاذ بن هشام عن أبيه عن يونس بن أبي الفرات الإسكاف، وليس ليونس هذا في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وهو بصري وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن عدي: ليس بالمشهور. وقال ابن سعد: كان معروفا وله أحاديث. وقال ابن حبان. لا يجوز أن يحتج به، كذا قال ومن وثقه أعرف بحاله من ابن حبان، والراوي عنه هشام هو الدستوائي وهو من المكثرين عن قتادة وكأنه لم يسمع منه هذا، وفي الحديث رواية الأقران لأن هشاما

(9/531)


ويونس من طبقة واحدة، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة وصرح بالتحديث كما سيأتي في الرقاق، لكن ذكر ابن عدي أن يزيد بن زريع رواه عن سعيد فقال: "عن يونس عن قتادة" فيحتمل أن يكون سمعه أولا عن قتادة بواسطة ثم حمله عنه بغير واسطة فكان يحدث به على الوجهين. قوله: "عن أنس" هذا هو المحفوظ ورواه سعيد بن بشر عن قتادة فقال: "عن الحسن قال دخلنا على عاصم ابن حدرة فقال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان قط" الحديث أخرجه ابن منده في "المعرفة" فإن كان سعيد بن بشر حفظه فهو حديث آخر لقتادة لاختلاف مساق الخبرين. قوله: "على سكرجة" بضم السين والكاف والراء الثقيلة بعدها جيم مفتوحة، قال عياض: كذا قيدناه ونقل عن ابن مكي أنه صوب فتح الراء، قلت: وبهذا جزم التوربشتي وزاد: لأنه فارس معرب، والراء في الأصل مفتوحة ولا حجة في ذلك لأن الاسم الأعجمي إذا نطقت به العرب لم تبقه على أصله غالبا. وقال ابن الجوزي: قاله لنا شيخنا أبو منصور اللغوي يعني الجواليقي بفتح الراء، قال: وكان بعض أهل اللغة يقول: الصواب أسكرجة وهي فارسية معربة، وترجمتها مقرب الخل، وقد تكلمت بها العرب قال أبو علي فإن حقرت حذفت الجيم والراء1، وقلت أسكر، ويجوز إشباع الكاف حتى تزيد ياء، وقياس ما ذكره سيبويه في "بريهم بريهيم" أن يقال في سكيرجة سكيريجة، والذي سبق أولى. قال ابن مكي وهي صحاف صغار يؤكل فيها، ومنها الكبير والصغير، فالكبيرة تحمل قدر ست أواق وقيل ما بين ثلثي أوقية إلى أوقية، قال: ومعنى ذلك أن العجم كانت تستعمله في الكواميخ والجوارش للتشهي والهضم، وأغرب الداودي فقال: السكرجة قصعة مدهونة، ونقل ابن قرقول عن غيره أنها قصعة ذات قوائم من عود كمائدة صغيرة والأول أولى، قال شيخنا في "شرح الترمذي" : تركه الأكل في السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم إذ ذاك أو استصغارا لها لأن عادتهم الاجتماع على الأكل أو لأنها - كما تقدم - كانت تعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم ولم يكونوا غالبا يشبعون، فلم يكن لهم حاجة بالهضم. قوله: "قيل لقتادة" القائل هو الراوي. قوله: "فعلام" كذا للأكثر ووقع في رواية المستملي بالإشباع. قوله: "يأكلون" كذا عدل عن الواحد إلى الجمع، إشارة إلى أن ذلك لم يكن مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده بل كان أصحابه يقتفون أثره ويقتدون بفعله. قوله: "على السفر" جمع سفرة وقد تقدم بيانها في الكلام على حديث عائشة الطويل في الهجرة إلى المدينة، وأن أصلها الطعام الذي يتخذه المسافر، وأكثر ما يصنع في جلد فنقل اسم الطعام إلى ما يوضع فيه كما سميت المزادة رواية ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة صفية فساقه مختصرا، وقد ساقه في غزوة خيبر بالإسناد الذي أورده هنا بعينه أتم من سياقه هنا ولفظه: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية" وزاد فيه أيضا بين قوله إلى وليمته وبين قوله أمر بالإنطاع "وما كان فيها من خبز ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر" فذكره وزاد بعد قوله والسمن "فقال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "وقال عمرو عن أنس: بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيسا في نطع" هو أيضا طرف من حديث وصله المؤلف في المغازي مطولا من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن أنس بن مالك بتمامه. قوله: "هشام عن أبيه وعن وهب بن كيسان" هشام هو ابن عروة حمل هذا الحديث عن أبيه وعن وهب ابن كيسان، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن يونس عن أبي معاوية فقال فيه: "عن هشام عن وهب بن كيسان" فقط وتقدم أصل هذا الحديث في "باب الهجرة
ـــــــ
1 لعله "والهاء"

(9/532)


إلى المدينة" من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه وعن امرأته فاطمة بنت المنذر كلاهما عن أسماء، وهو محمول على أن هشاما حمله عن أبيه وعن امرأته وعن وهب بن كيسان ولعل عنده عن بعضهم ما ليس عند الآخر، فإن الرواية التي تقدمت ليس فيها قوله يعيرون وهو بالعين المهملة من العار، وابن الزبير هو عبد الله، والمراد بأهل الشام عسكر الحجاج بن يوسف حيث كانوا يقاتلونه من قبل عبد الملك بن مروان، أو عسكر الحصين بن نمير الذين قاتلوه قبل ذلك من قبل يزيد ابن معاوية. قوله: "يعيرونك بالنطاقين" قيل الأفصح أن يعدي التعيير بنفسه تقول عيرته كذا، وقد سمع هكذا مثل ما هنا. قوله: "وهل تدري ما كان النطاقين" كذا أورده بعض الشراح، وتعقبه بأن الصواب النطاقان بالرفع، وأنا لم أقف عليه في النسخ إلا بالرفع، فإن ثبت رواية بغير الألف أمكن توجيهها، ويحتمل أن يكون كان في الأصل "وهل تدري ما كان شأن النطاقين" فسقط لفظ شأن أو نحوه. قوله: "إنما كان نطاقي شققته نصفين فأوكيت" تقدم في الهجرة إلى المدينة أن أبا بكر الصديق هو الذي أمرها بذلك لما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قوله: "يقول إيها" كذا للأكثر ولبعضهم "ابنها" بموحدة ونون وهو تصحيف، وقد وجه بأنه مقول الراوي والضمير لأسماء وابنها هو ابن الزبير، وأغرب ابن التين فقال: هو في سائر الروايات "ابنها" وذكره الخطابي بلفظ: "إيها" ا هـ و قوله: "والإله" في رواية أحمد بن يونس "إيها ورب الكعبة" قال الخطابي إيها بكسر الهمزة وبالتنوين معناها الاعتراف بما كانوا يقولونه والتقرير له، تقول العرب في استدعاء القول من الإنسان: إيها وإيه بغير تنوين، وتعقب بأن الذي ذكره ثعلب وغيره إذا استزدت من الكلام قلت إيه، وإذا أمرت بقطعه قلت إيها ا هـ. وليس هذا الاعتراض بجيد لأن، غير ثعلب قد جزم بأن إيها كلمة استزادة، وارتضاه وحرره بعضهم فقال: إيها بالتنوين، للاستزادة وبغير التنوين لقطع الكلام، وقد تأتي أيضا بمعنى كيف. قوله: "تلك شكاة ظاهر عنك عارها" شكاة بفتح الشين المعجمة معناه رفع الصوت بالقول القبيح، ولبعضهم بكسر الشين، والأول أولى. وهو مصدر شكا يشكو شكاية وشكوى وشكاة، وظاهر أي زائل، قال الخطابي أي ارتفع عنك فلم يعلق بك، والظهور يطلق على الصعود والارتفاع، ومن هذا قول الله تعالى :{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي يعلوا عليه منه {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قال: وتمثل ابن الزبير بمصراع بيت لأبي ذؤيب الهذلي وأوله "وعيرها الواشون أني أحبها" يعني لا بأس بهذا القول ولا عار فيه، قال مغلطاي: وبعد بيت الهذلي:
فإن أعتذر منها فإني مكذب
...
وإن تعتذر يردد عليك اعتذارها
وأول هذه القصيدة:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها
...
وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
أبى القلب إلا أم عمرو فأصبحت
...
تحرق ناري بالشكاة ونارها
وبعده "وعيرها الواشون أني أحبها" البيت، وهي قصيدة تزيد على ثلاثين بيتا. وتردد ابن قتيبة هل أنشأ ابن الزبير هذا المصراع أو أنشده متمثلا به؟ والذي جزم به غيره الثاني وهو المعتمد، لأن هذا مثل مشهور، وكان ابن الزبير يكثر التمثل بالشعر، وقلما أنشأه. ذكر حديث ابن عباس في أكل خالد الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي شرحه بعد في كتاب الصيد والذبائح. وقوله: "على مائدته" أي الشيء الذي يوضع على الأرض صيانة للطعام كالمنديل والطبق وغير ذلك، ولا يعارض هذا حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أكل على الخوان" لأن

(9/533)


الخوان أخص من المائدة. ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وهذا أولى من جواب بعض الشراح بأن أنسا إنما نفى علمه قال: ولا يعارضه قول من علم، واختلف في المائدة فقال الزجاج هي عندي من ماد يميد إذا تحرك. وقال غيره: من ماد يميد إذا أعطى، قال أبو عبيد: وهي فاعلة بمعنى مفعولة من العطاء قال الشاعر كنت للمنتجعين مائدا

(9/534)


9- باب السَّوِيقِ
5390- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ عَلَى رَوْحَةٍ مِنْ خَيْبَرَ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَلَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ سَوِيقًا فَلاَكَ مِنْهُ فَلُكْنَا مَعَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ ثُمَّ صَلَّى وَصَلَّيْنَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب السويق" ذكر فيه حديث سويد بن النعمان، وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة

(9/534)


باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يسمى له فيعلم ماهو
...
10- باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَأْكُلُ حَتَّى يُسَمَّى لَهُ فَيَعْلَمُ مَا هُوَ
5391- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَيْفُ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدْ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ فَقَدَّمَتْ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيَّ"
[الحديث 5391- طرفاه في : 5400، 5537 ]
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يسمى له فيعلم ما هو" كذا في جميع النسخ التي وقفت عليها بالإضافة، وشرحه الزركشي على أنه "باب" بالتنوين فقال قال ابن التين: إنما كان يسأل لأن العرب كانت لا تعاف شيئا من المآكل لقلتها عندهم، وكان هو صلى الله عليه وسلم قد يعاف بعض الشيء فلذلك كان يسأل. قلت: ويحتمل أن يكون سبب السؤال أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يكثر الكون في البادية فلم يكن له خبرة بكثير من الحيوانات، أو لأن الشرع ورد بتحريم بعض الحيوانات وإباحة بعضها وكانوا لا يحرمون منها شيئا، وربما أتوا به مشويا أو مطبوخا فلا يتميز عن غيره إلا بالسؤال عنه. حديث ابن عباس في قصة الضب، سيأتي شرحه في كتاب الصيد والذبائح. ووقع

(9/534)


11- باب طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ
5392- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ وَطَعَامُ الثَّلاَثَةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ"
قوله: "باب طعام الواحد يكفي الاثنين" أورد فيه حديث أبي هريرة "طعام الاثنين يكفي الثلاثة وطعام الثلاثة يكفي الأربعة" واستشكل الجمع بين الترجمة والحديث، فإن قضية الترجمة مرجعها النصف وقضية الحديث مرجعها الثلث ثم الربع. وأجيب بأنه أشار بالترجمة إلى لفظ حديث آخر ورد ليس على شرطه وبأن الجامع بين الحديثين أن مطلق طعام القليل يكفي الكثير لكن أقصاه الضعف، وكونه يكفي مثله لا ينفي أن يكفي دونه. نعم كون طعام الواحد يكفي الاثنين يؤخذ منه أن طعام الاثنين يكفي الثلاثة بطريق الأولى بخلاف عكسه. حديث أبي هريرة "طعام الاثنين يكفي الثلاثة وطعام الثلاثة يكفي الأربعة" واستشكل الجمع بين الترجمة والحديث، فإن قضية الترجمة مرجعها النصف وقضية الحديث مرجعها الثلث ثم الربع. وأجيب بأنه أشار بالترجمة إلى لفظ حديث آخر ورد ليس على شرطه وبأن الجامع بين الحديثين أن مطلق طعام القليل يكفي الكثير لكن أقصاه الضعف، وكونه يكفي مثله لا ينفي أن يكفي دونه. نعم كون طعام الواحد يكفي الاثنين يؤخذ منه أن طعام الاثنين يكفي الثلاثة بطريق الأولى بخلاف عكسه. ونقل عن إسحاق بن راهويه عن جرير قال: معنى الحديث أن الطعام الذي يشبع الواحد يكفي قوت الاثنين، ويشبع الاثنين قوت الأربعة. وقال المهلب المراد بهذه الأحاديث الحض على المكارم والتقنع بالكفاية، يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما وإدخال رابع أيضا بحسب من يحضر. وقد وقع في حديث عمر عند ابن ماجه بلفظ: "طعام الواحد يكفي الاثنين وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة وأن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة" ووقع في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في قصة أضياف أبي بكر "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس" وعند الطبراني من حديث ابن عمر ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله "كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين" الحديث فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة وقد أشار الترمذي إلى حديث ابن عمر وعند البزار من حديث سرة نحو حديث عمر وزاد به آخره: "ويد الله على الجماعة" وقال ابن المنذر يؤخذ من حديث أبي هريرة استحباب الاجتماع على الطعام، وأن لا يأكل المرء وحده ا ه. وفي الحديث أيضا الإشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصلت معها البركة فتعم الحاضرين. وفيه أنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء، بمعنى حصول سد الرمق وقيام البنية، لا حقيقة الشبع. وقال ابن المنير: ورد حديث بلفظ الترجمة لكنه لم يوافق شرط البخاري فاستقرأ معناه من حديث الباب، لأن من أمكنه ترك الثلث أمكنه ترك النصف لتقاربهما انتهى. وتعقبه مغلطاي بأن الترمذي أخرج الحديث من طريق أبي سفيان عن جابر، وهو على شرط البخاري انتهى. وليس كما زعم فإن البخاري وإن كان أخرج لأبي سفيان،

(9/535)


لكن أخرج له مقرونا بأبي صالح عن جابر ثلاثة أحاديث فقط، فليس على شرطه، ثم لا أدري لم خصه بتخريج الترمذي مع أن مسلما أخرجه من طريق الأعمش عن أبي سفيان أيضا، ولعل ابن المنير اعتمد على ما ذكره ابن بطال أن ابن وهب روى الحديث بلفظ الترجمة عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر، وابن لهيعة ليس من شرط البخاري قطعا، لكن يرد عليه أن ابن بطال قصر بنسبه الحديث، وإلا فقد أخرجه مسلم أيضا من طريق ابن جريج ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن أبي الزبير عن جابر وصرح بطريق ابن جريج بسماع أبي الزبير عن جابر، فالحديث صحيح لكن لا على شرط البخاري والله أعلم. وفي الباب عن ابن عمر وسمرة كما تقدم، وفيه عن ابن مسعود أيضا في الطبراني.

(9/536)


12- باب الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5393- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا فَقَالَ يَا نَافِعُ لاَ تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
5394- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَإِنَّ الْكَافِرَ أَوْ الْمُنَافِقَ فَلاَ أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ"
[الحديث 5393- طرفاه في: 5394، 5395]
5395- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلًا أَكُولًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ فَقَالَ فَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ"
5396- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
[الحديث 5396- طرفه في: 5397]
5397- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"

(9/536)


قوله: "باب المؤمن يأكل في معي واحد" المعي بكسر الميم مقصور، وفي لغة حكاها في المحكم بسكون العين بعدها تحتانية، والجمع أمعاء ممدود وهي المصارين. وقد وقع في شعر القطامي بلفظ الإفراد في الجمع فقال في أبيات له حكاها أبو حاتم "حوالب غزرا ومعي جياعا". وهو كقوله تعالى :{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} وإنما عدي يأكل بفي لأنه بمعنى يوقع الأكل فيها ويجعلها ظرفا للمأكول، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} أي ملء بطونهم قال أبو حاتم السجستاني: المعي مذكر ولم أسمع من أثق به يؤنثه فيقول معي واحدة، لكن قد رواه من لا يوثق به. قوله: "باب المؤمن يأكل في معي واحد، فيه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ثبت هذا الكلام في رواية أبي ذر عن السرخسي وحده، وليس هو في رواية أبي الوقت عن الداودي عن السرخسي، ووقع في رواية النسفي ضم الحديث الذي قبله إلى ترجمة "طعام الواحد يكفي الاثنين" وإيراد هذه الترجمة لحديث ابن عمر بطرقه وحديث أبي هريرة بطريقيه ولم يذكر فيها التعليق، وهذا أوجه فإنه ليس لإعادة الترجمة بلفظها معنى، وكذا ذكر حديث أبي هريرة في الترجمة ثم إيراده فيها موصولا من وجهين. قوله: "حدثنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" منسوبا. قوله: "عن واقد بن محمد" هو ابن زيد بن عبد الله بن عمر. قوله: "فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا" لعله أبو نهيك المذكور بعد قليل. ووقع في رواية مسلم: "فجعل ابن عمر يضع بين يديه ويضع بين يديه فجعل يأكل أكلا كثيرا. قوله: "لا تدخل هذا على" وذكر الحديث هكذا حمل ابن عمر الحديث على ظاهره، ولعله كره دخوله عليه لما رآه متصفا بصفة وصف بها الكافر. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري قوله: "وإن الكافر، أو المنافق فلا أدري أيهما قال عبيد الله" هذا الشك من عبدة، وقد أخرجه مسلم من طريق يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "الكافر" بغير شك، وكذا رواه عمرو بن دينار كما يأتي في الباب، وكذا هو في رواية غير ابن عمر ممن روى الحديث من الصحابة، إلا أنه ورد عند الطبراني في رواية له من حديث سمرة بلفظ: "المنافق" بدل الكافر. قوله: "وقال ابن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير، وقد وصله أبو نعيم في المستخرج من طريقه، ووقع لنا في الموطأ من روايته عن مالك ولفظه: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن وهب "أخبرني مالك وغير واحد أن نافعا حدثهم" فذكره بلفظ: "المسلم:" فظهر أن مراد البخاري بقوله: "مثله" أي مثل أصل الحديث لا خصوص الشك الواقع في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، ووقع التصريح بتحديثه لسفيان في رواية الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "كن أبو نهيك" بفتح النون وكسر الهاء" رجلا أكولا "في رواية الحميدي" قيل لابن عمر إن أبا نهيك رجل من أهل مكة يأكل أكلا كثيرا". قوله: "فقال فأنا أومن بالله ورسوله" في رواية الحميدي "فقال الرجل أنا أومن بالله" إلخ ومن ثم أطبق العلماء على حمل الحديث على غير ظاهره كما سيأتي إيضاحه. قوله في حديث أبي هريرة "يأكل المسلم في معي واحد" في رواية مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة "المؤمن يشرب في معي واحد" الحديث. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمان بسكون اللام الأشجعي وليس هو سلمة بن دينار الزاهد فإنه أصغر من الأشجعي ولم يدرك أبا هريرة. قوله: "إن رجلا كان يأكل أكلا كثيرا فأسلم" وقع في رواية مسلم من طريق أبي

(9/537)


صالح عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى ثم أخرى حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له بشاة فشرب حلابها ثم بأخرى فلم يستتمها" الحديث وهذا الرحل يشبه أن يكون جهجاه الغفاري، فأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار والطبراني من طريقه أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام، فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فلما سلم قال : ليأخذ كل رجل بيد جليسه، فلم يبق غيري، فكنت رجلا عظيما طويلا لا يقدم على أحد، فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله فحلب لي عنزا فأتيت عليه ثم حلب لي آخر حتى حلب سبعة أعنز فأتيت عليها، ثم أتيت بصنيع برمة فأتيت عليها، فقالت أم أيمن: أجاع الله من أجاع رسول الله، فقال: مه يا أم أيمن، أكل رزقه، ورزقنا على الله. فلما كانت الليلة الثانية وصلينا المغرب صنع ما صنع في التي قبلها فحلب لي عنزا ورويت وشبعت، فقالت أم أيمن: أليس هذا ضيفنا؟ قال: إنه أكل في معي واحد الليلة وهو مؤمن، وأكل قبل ذلك في سبعة أمعاء، الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد" وفي إسناد الجميع موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وأخرج الطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمر وقال: "جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعة رجال، فأخذ كل رجل من الصحابة رجلا وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال له ما اسمك؟ قال: أبو غزوان. قال فحلب له سبع شياه فشرب لبنها كله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟ قال: نعم. فأسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، فلما أصبح حلب له شاة واحدة فلم يتم لبنها، فقال: مالك يا أبا غنوان؟ قال: والذي بعثك نبيا لقد رويت. قال: إنك أمس كان لك سبعة أمعاء وليس لك اليوم إلا معي واحد" وهذه الطريق أقوى من طريق جهجاه، ويحتمل أن تكون تلك كنيته، لكن يقوى التعدد أن أحمد أخرج من حديث أبي بصرة الغفاري قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجرت قبل أن أسلم، فحلب لي شويهة كان يحلبها لأهله فشربتها، فلما أصبحت أسلمت حلب لي فشربت منها فرويت، فقال: أرويت؟ قلت: قد رويت مالا رويت قبل اليوم" الحديث، وهذا لا يفسر به المبهم في حديث الباب وإن كان المعنى واحدا، لكن ليس في قصته خصوص العدد. ولأحمد أيضا ولأبي مسلم الكجي وقاسم بن ثابت في "الدلائل" والبغوي في "الصحابة" من طريق محمد بن معن بن نضلة الغفاري "حدثني جدي نضلة بن عمرو قال: أقبلت في لقاح لي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم أخذت علبة فحلبت فيها فشربها فقلت: يا رسول الله إن كنت لأشربها مرارا لا أمتلئ" وفي لفظ: "إن كنت لأشرب السبعة، فما أمتلئ" فذكر الحديث. وهذا أيضا لا ينبغي أن يفسر به مبهم حديث الباب لاختلاف السياق. ووقع في كلام النووي تبعا لعياض أنه نضرة بن نضرة الغفاري، وذكر ابن إسحاق في السيرة من حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال أنه لما أسر ثم أسلم وقعت له قصة تشبه قصة جهجاه، فيجوز أن يفسر به، وبه صدر المازري كلامه. واختلف في معنى الحديث فقيل: ليس المراد به ظاهره وإنما هو مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا والكافر وحرصه عليها، فكان المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معي واحد، والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار مها، فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر، وقيل المعنى أن المؤمن يأكل الحلال والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود نقله ابن التين، ونقل الطحاوي نحو الذي قبله عن أبي جعفر بن أبي عمران فقال: حمل قوم هذا الحديث على الرغبة في الدنيا كما تقول فلان يأكل

(9/538)


الدنيا أكلا أي يرغب فيها ويحرص عليها، فمعنى المؤمن يأكل في معي واحد أي يزهد فيها فلا يتناول منها إلا قليلا، والكافر في سبعة أي يرغب فيها فيستكثر منها. وقيل المراد حض المؤمن على قلة الأكل إذا علم أن كثرة الأكل صفة الكافر، فإن نفس المؤمن تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى :{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} وقيل بل هو على ظاهره. ثم اختلفوا في ذلك على أقوال: أحدها أنه ورد في شخص بعينه واللام عهدية لا جنسية، جزم بذلك ابن عبد البر فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلا من مؤمن وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله، قال: وحديث أبي هريرة يدل على أنه ورد في رجل بعينه، ولذلك عقب به مالك الحديث المطلق، وكذا البخاري، فكأنه قال: هذا إذا كان كافرا كان يأكل في سبعة أمعاء فلما أسلم عوفي وبورك له في نفسه فكفاه جزء من سبعة أجزاء مما كان يكفيه وهو كافر ا ه. وقد سبقه إلى ذلك الطحاوي في "مشكل الآثار" فقال: قيل إن هذا الحديث كان في كافر مخصوص وهو الذي شرب حلاب السبع شياه، قال: وليس للحديث عندنا محمل غير هذا الوجه، والسابق إلى ذلك أولا أبو عبيدة، وقد تعقب هذا الحمل بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم فلذلك منع الذي رآه يأكل كثيرا من الدخول عليه واحتج بالحديث. ثم كيف يتأتى حمله على شخص بعينه مع ما تقدم من ترجيح بعدد الواقعة ويورد الحديث المذكور عقب كل واحدة منها في حق الذي وقع له نحو ذلك. القول الثاني أن الحديث خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادة، قالوا تخصيص السبعة للمبالغة في التكثير كما قوله تعالى :{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} والمعنى أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع ويمسك الرمق ويعين على العبادة، ولخشيته أيضا من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كله فإنه لا يقف مع مقصود الشرع، بل هو تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن - لما ذكرته - إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطراده في حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيرا إما بحسب العادة وإما لعارض يعرض له من مرض باطن أو لغير ذلك، ويكون في الكفار من يأكل قليلا إما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة. قال الطيبي: ومحصل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة، بخلاف الكافر، فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف لا يقدح في الحديث. ومن هذا قوله تعالى :{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية، وقد يوجد من الزاني نكاح الحرة ومن الزانية نكاح الحر. القول الثالث أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته، كما ورد في حديث لأبي أمامة رفعه: "من كثر تفكره قل طعمه، ومن قل تفكره كثر طعمه وقسا قلبه" ويشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الصحيح "إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع" فدل على أن المراد بالمؤمن، من يقتصد في مطعمه، وأما الكافر فمن شأنه الشره فيأكل بالنهم كما تأكل البهيمة ولا يأكل بالمصلحة لقيام البنية، وقد رد هذا الخطابي وقال: قد ذكر عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير، فلم يكن ذلك نقصا في إيمانهم. الرابع أن المراد

(9/539)


أن المؤمن يسمى الله تعالى عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل، والكافر لا يسمى فيشركه الشيطان كما تقدم تقريره قبل، وفي صحيح مسلم في حديث مرفوع "إن الشيطان يستحل الطعام إن لم يذكر اسم الله تعالى عليه". الخامس أن المؤمن يقل حرصه على الطعام فيبارك له فيه وفي مأكله فيشبع من القليل، والكافر طامح البصر إلى المأكل كالأنعام فلا يشبعه القليل، وهذا يمكن ضمه إلى الذي قبله ويجعلان جوابا واحدا مركبا. السادس قال النووي المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معي واحد وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معي المؤمن ا ه، ويدل على تفاوت الأمعاء ما ذكره عياض عن أهل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة، ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها: البواب، ثم الصائم. ثم الرقيق والثلاثة رقاق، ثم الأعور، والقولون، والمستقيم وكلها غلاظ. فيكون المعنى أن الكافر لكونه يأكل بشراهة لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معي واحد. ونقل الكرماني عن الأطباء في تسمية الأمعاء السبعة أنها المعدة، ثم ثلاثة متصلة بها رقاق وهي الاثنا عشري، والصائم، والقولون، ثم ثلاثة غلاظ وهي الفانفي بنون وفاءين أو قافين، والمستقيم، والأعور. السابع قال النووي يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر صفات هي الحرص والشره وطول الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد وحب السمن، وبالواحد في المؤمن سد خلته. الثامن قال القرطبي: شهوات الطعام سبع. شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع. ثم رأيت أصل ما ذكره في كلام القاضي أبي بكر بن العربي ملخصا وهو أن الأمعاء السبعة كناية عن الحواس الخمس والشهوة والحاجة، قال العلماء يؤخذ من الحديث الحض على التقلل من الدنيا والحث على الزهد فيها والقناعة بما تيسر منها، وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يتمدحون بقلة الأكل ويذمون كثرة الأكل كما تقدم في حديث أم زرع أنها قالت في معرض المدح لابن أبي زرع "ويشبعه ذراع الجفرة" وقال حاتم الطائي:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله
...
وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يليه. وقال ابن التين: قيل إن الناس في الأكل على ثلاث طبقات: طائفة تأكل كل مطعوم من حاجة وغير حاجة وهذا فعل أهل الجهل، وطائفة تأكل عند الجوع بقدر ما يسد الجوع حسب، وطائفة يجوعون أنفسهم يقصدون بذلك قمع شهوة النفس وإذا أكلوا أكلوا ما يسد الرمق ا هـ ملخصا. وهو صحيح، لكنه لم يتعرض لتنزيل الحديث عليه وهو لائق بالقول الثاني.

(9/540)


13- باب الأَكْلِ مُتَّكِئًا
5398- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ آكُلُ مُتَّكِئًا"
[الحديث 5398- 5399]
5399- حدثني عثمان بن أبي شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن علي بن الأقمر عن أبي جحيفة قال: كنت ثم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده لا آكل وأنا متكئ"

(9/540)


قوله: "باب الأكل متكئا" أي ما حكمه؟ وإنما لم يجزم به لأنه لم يأت فيه نهي صريح. قوله: "حدثنا مسعر" كذا أخرجه البخاري عن أبي نعيم، وأخرجه أحمد عن أبي نعيم فقال: "حدثنا سفيان هو الثوري" فكان لأبي نعيم فيه شيخين. قوله: "عن علي بن الأقمر" أي ابن عمرو بن الحارث بن معاوية الهمداني بسكون الميم الوادعي الكوفي، ثقة عند الجميع، وماله في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "سمعت أبا جحيفة" في رواية سفيان عن علي بن الأقمر "عن عون بن أبي جحيفة" وهذا يوضح أن رواية رقية لهذا الحديث عن علي بن الأقمر عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه من المزيد في متصل الأسانيد لتصريح علي بن الأقمر في رواية مسعر بسماعه له من أبي جحيفة بدون واسطة. ويحتمل أن يكون سمعه من عون أولا عن أبيه ثم لقي أباه، أو سمعه من أبي جحيفة وثبته فيه عون. قوله: "إني لا آكل متكئا" ذكر في الطريق التي بعدها له سببا مختصرا ولفظه: "فقال لرجل عنده لا آكل وأنا متكئ" قال الكرماني: اللفظ الثاني أبلغ من الأول في الإثبات، وأما في النفي فالأول أبلغ ا هـ. وكان سبب هذا الحديث قصة الأعرابي المذكور في حديث عبد الله بن يسر عند ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن قال: "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فجثا على ركبتيه يأكل، فقال له أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا" قال ابن بطال: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا لله. ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهري قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك لم يأته قبلها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا، قال فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن تواضع، فقال: بل عبدا نبيا. قال فما أكل متكئا" ا هـ وهذا مرسل أو معضل، وقد وصله النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن عباس قال: كان ابن عباس يحدث، فذكر نحوه. وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "ما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط" وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: "ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم متكئا إلا مرة ثم نزع فقال: اللهم إني عبدك ورسولك" وهذا مرسل، ويمكن الجمع بأن تلك المرة التي في أثر مجاهد ما اطلع عليها عبد الله بن عمرو، فقد أخرج ابن شاهين في ناسخه من مرسل عطاء بن يسار "أن جبريل رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا فنهاه" ومن حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاه جبريل عن الأكل متكئا لم يأكل متكئا بعد ذلك" واختلف في صفة الاتكاء فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان، وقيل أن يميل على أحد شقيه، وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، قال الخطابي تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته، قال ومعنى الحديث إني لا أقعد متكئا على الوطاء عند الأكل فعل من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزا. وفي حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمرا وهو مقع" وفي رواية: "وهو محتفز" والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن. وأخرج ابن عدي بسند ضعيف: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل، قال مالك هو نوع من الاتكاء. قلت: وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئا، ولا يختص بصفة بعينها. وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه بالميل على أحد الشقين، ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك. وحكى ابن الأثير في "النهاية" أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئا وربما تأذى به، واختلف السلف في حكم الأكل متكئا فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية، وتعقبه البيهقي فقال: قد يكره لغيره

(9/541)


أيضا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئا لم يكن في ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة، وفي الحمل نظر. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقا، وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى، واستثنى الغزالي من كراهة الأكل مضطجعا أكل البقل، واختلف في علة الكراهة، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة مخافة أن تعظم بطونهم" وإلى ذلك بقية ما ورد فيه من الأخبار فهو المعتمد، ووجه الكراهة فيه ظاهر، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب والله أعلم.

(9/542)


14- باب الشِّوَاءِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ مَشْوِيٍّ
5400- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ ضَبٌّ فَأَمْسَكَ يَدَهُ فَقَالَ خَالِدٌ أَحَرَامٌ هُوَ قَالَ لاَ وَلَكِنَّهُ لاَ يَكُونُ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَأَكَلَ خَالِدٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ قَالَ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ"
قوله: "باب الشواء" بكسر المعجمة وبالمد معروف. قوله: "وقول الله تعالى فجاء بعجل حنيذ" كذا في الأصل وهو سبق قلم والتلاوة "إن جاء" كما سيأتي. قوله: "مشوي" كذا ثبت قوله مشوي في رواية السرخسي، وأورده النسفي بلفظ: "أي مشوي" وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى :{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي محنوذ وهو المشوي مثل قتيل في مقتول، وروى الطبري عن وهب بن منبه عن سفيان الثوري مثله، وعن ابن عباس أخص منه قال حنيذ أي نضيج، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد الحنيذ المشوي النضيج، ومن طرق عن قتادة والضحاك وابن إسحاق مثله، ومن طريق السدي قال: الحنيذ المشوي في الرضف أي الحجارة المحماة، وعن مجاهد والضحاك نحوه، وهذا أخص من جهة أخرى وبه جزم الخليل صاحب اللغة. ومن طريق شمر بن عطية قال: الحنيذ قال الذي يقطر ماؤه بعد أن يشوي، وهذا أخص من جهة أخرى والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس في قصة خالد بن الوليد في الضب، وسيأتي شرحها في كتاب الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى. وأشار ابن بطال إلى أن أخذ الحكم للترجمة ظاهر من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهوى ليأكل ثم لم يمتنع إلا لكونه ضبا فلو كان غير ضب لأكل. حديث ابن عباس في قصة خالد بن الوليد في الضب، سيأتي شرحها في كتاب الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى. وأشار ابن بطال إلى أن أخذ الحكم للترجمة ظاهر من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهوى ليأكل ثم لم يمتنع إلا لكونه ضبا فلو كان غير ضب لأكل. قوله في آخره "وقال مالك عن ابن شهاب بضب محنوذ" يأتي موصولا في الذبائح من طريق مالك

(9/542)


15- باب الْخَزِيرَةِ، قَالَ النَّضْرُ الْخَزِيرَةُ مِنْ النُّخَالَةِ وَالْحَرِيرَةُ مِنْ اللَّبَنِ
5401- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ

(9/542)


16- باب الأَقِطِ. وَقَالَ حُمَيْدٌ سَمِعْتُ أَنَسًا بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَفِيَّةَ فَأَلْقَى التَّمْرَ وَالأَقِطَ وَالسَّمْنَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْسًا"
5402- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَهْدَتْ خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضِبَابًا وَأَقِطًا وَلَبَنًا فَوُضِعَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَتِهِ فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُوضَعْ وَشَرِبَ اللَّبَنَ وَأَكَلَ الأَقِطَ"
قوله: "باب الأقط" بفتح الهمزة وكسر القاف وقد تسكن بعدها طاء مهملة، وهو جبن اللبن المستخرج زبده وقد تقدم تفسيره في "باب زكاة الفطر" وغيره. قوله: "وقال حميد إلخ" تقدم موصولا في "باب الخبز المرقق". قوله: "وقال عمرو بن أبي عمرو عن أنس" تقدم أيضا في الباب المذكور لكن معلقا. وبينت الموضع الذي وصله فيه مع شرحه. ذكر طرفا من حديث ابن عباس في الضب لقوله فيه: "أهدت خالتي ضبابا وأقطا ولبنا" وسيأتي شرحه في الذبائح.

(9/544)


17- باب السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ
5403- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلاَ نَقِيلُ إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلاَ وَدَكٌ"

(9/544)


18- باب النَّهْسِ وَانْتِشَالِ اللَّحْمِ
5404- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ تَعَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِفًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
5405- وَعَنْ أَيُّوبَ وَعَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْتَشَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرْقًا مِنْ قِدْرٍ فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب النهش وانتشال اللحم" النهش بفتح النون وسكون الهاء بعدها شين معجمة أو مهملة، وهما بمعنى عند الأصمعي وبه جزم الجوهري، وهو القبض على اللحم بالفم وإزالته عن العظم وغيره، وقيل بالمعجمة هذا وبالمهملة تناوله بمقدم الفم، وقيل النهس بالمهملة للقبض على اللحم ونتره عند الأكل، قال شيخنا في "شرح الترمذي" الأمر فيه محمول على الإرشاد، فإنه علله بكونه أهنأ وأمرأ أي أشد هناء ومراءة، ويقال هنيء صار هنيئا ومريء صار مريئا وهو أن لا يثقل على المعدة وينهضم عنها، قال: ولم يثبت النهي عن قطع اللحم بالسكين بل ثبت الحز من الكتف، فيختلف باختلاف اللحم كما إذا عسر نهشه بالسن قطع بالسكين، وكذا إذا لم تحضر السكين، وكذا يختلف بحسب العجلة والتأني والله أعلم. والانتشال بالمعجمة التناول والقطع والاقتلاع، يقال نشلت اللحم من المرق أخرجته منه، ونشلت اللحم إذا أخذت بيدك عضوا فتركت ما عليه، وأكثر ما يستعمل في أخذ اللحم قبل أن ينضح، ويسمى اللحم نشيلا. وقال الإسماعيلي: ذكر الانتشال مع النهش، والانتشال التناول والاستخراج، ولا يسمى نهشا حتى يتناول من اللحم. قلت: فحاصله أن النهش بعد الانتشال، ولم يقع في شيء من الطريقين اللذين ساقهما البخاري بلفظ النهش وإنما ذكره بالمعنى حيث قال: "تعرق كتفا" أي تناول اللحم الذي عليه بفمه، وهذا هو النهش كما تقدم، ولعل البخاري أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف الحديث الذي سأذكره في الباب الذي يلي الباب الذي بعد هذا في النهي عن قطع اللحم بالسكين. قوله: "عن محمد" هو ابن سيرين. ووقع منسوبا رواية الإسماعيلي، قال ابن بطال: لا يصح لابن سيرين، سماع من ابن عباس ولا من ابن عمر. قلت: سبق

(9/545)


إلى ذلك يحيى بن معين، وكذا قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لم يسمع محمد بن سيرين من ابن عباس، يقول: بلغنا. وقال ابن المديني قال شعبة: أحاديث محمد بن سيرين عن عبد الله بن عباس إنما سمعها من عكرمة، لقيه أيام المختار. قلت: وكذا قال خالد الحذاء: كل شيء يقول ابن سيرين "ثبت عن ابن عباس" سمعه من عكرمة ا هـ. واعتماد البخاري في هذا المتن إنما هو على السند الثاني، وقد ذكرت أن ابن الطباع أدخل في الأول عكرمة بين ابن سيرين وابن عباس، وكأن البخاري أشار بإيراد السند الثاني إلى ما ذكرت من أن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس قلت: وماله في البخاري عن ابن عباس غير هذا الحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن عيسى بن الطباع عن حماد بن زيد فأدخل بين محمد بن سيرين وابن عباس عكرمة، وإنما صح عنده لمجيئه بالطريق الأخرى الثانية فأورده على الوجه الذي سمعه. قوله: "تعرق رسول الله صلى الله عليه وسلم كتفا" في رواية عطاء بن يسار عن ابن عباس كما تقدم في الطهارة "أكل كتفا" وعند مسلم من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بهدية خبز ولحم فأكل ثلاث لقم" الحديث، فأفادت تعيين جهة اللحم ومقدار ما أكل منه. قوله: "وعن أيوب" هو معطوف على السند الذي قبله، وأخطأ من زعم أنه معلق. وقد أورده أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الفضل بن الحباب عن الحجبي وهو عبد الله بن عبد الوهاب شيخ البخاري فيه بالسند المذكور، حاصله أن الحديث عند حماد بن زيد عن أيوب بسندين على لفظين: أحدها عن ابن سيرين باللفظ الأول، والثاني عنه عن عكرمة وعاصم الأحول باللفظ الثاني، ومفاد الحديثين واحد وهو ترك إيجاب الوضوء مما مست النار، قال الإسماعيلي: وصله إبراهيم بن زياد وأحمد بن إبراهيم الموصلي وعارم ويحيى بن غيلان والحوضي كلهم عن حماد بن زيد، وأرسله محمد بن عبيد بن حساب فلم يذكر فيه ابن عباس. قلت: ووصله صحيح اتفاقا لأنهم أكثر وأحفظ وقد وصلوا وأرسل فالحكم لهم عليه، وقد وصله آخرون غير من سمي عن حماد بن زيد، والله أعلم

(9/546)


19- باب تَعَرُّقِ الْعَضُدِ
5406- حدثني محمد بن المثنى قال حدثني عثمان بن عمر حدثنا فليح حدثنا أبو حازم المدني حدثنا عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو مكة"
5407- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلٌ أَمَامَنَا وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فَلَمْ يُؤْذِنُونِي لَهُ وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:

(9/546)


مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلَهُ"
قوله: "باب تعرق العضد" مضى تفسير التعرق، وأما العضد فهو العظم الذي بين الكتف والمرفق. ذكر المصنف حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي، وقد مضى شرحه مستوفى في كتاب الحج. وأبو حازم المدني في إسناده هو سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد، ومراده منه قوله في آخره: "فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها" أي حتى لم يبق على عظمها لحما. وقوله في آخره: "قال محمد بن جعفر وحدثني زيد بن أسلم" هو معطوف على السند الذي قبله. والحاصل أن لمحمد بن جعفر - أي ابن أبي كثير شيخ شيخ البخاري - فيه إسنادين، ووقع للنسفي والأكثر "قال ابن جعفر" غير مسمى. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "قال أبو جعفر" فإن كان محمد بن جعفر يكنى أبا جعفر صحت رواية الكشمهيني، وإلا فهو ابن لا أب. والله أعلم

(9/547)


20- باب قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ
5408- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب قطع اللحم بالسكين" ذكر فيه حديث عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة الحديث وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، حديث عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة الحديث وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، ومعنى يحتز يقطع. و أخرج أصحاب السنن الثلاثة من حديث المغيرة بن شعبة "بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يجز لي من جنب حتى أذن بلال، فطرح السكين. وقال: ماله تربت يداه؟ قال ابن بطال: هذا الحديث يرد حديث أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رفعته " لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم، وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ " قال أبو داود: وهو حديث ليس بالقوى. قلت: له شاهد من حديث صفوان بن أمية أخرجه الترمذي بلفظ: "انهشوا اللحم نهشا فإنه أهنأ وأمرأ" وقال لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم ا هـ. وعبد الكريم هو أبو أمية بن أبي المخارق ضعيف، لكن أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن صفوان بن أمية فهو حسن، لكن ليس فيه ما زاده أبو معشر من التصريح بالنهي عن قطع اللحم بالسكين وأكثر ما في حديث صفوان أن النهش أولى، وقد وقع في أول حديث الشفاعة الطويل الماضي في التفسير من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم الذراع فنهش منها نهشة" الحديث.

(9/547)


باب ماعاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً
...
21- باب مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا
5409- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ"
قوله: "باب ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما" أي مباحا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهي عنه، وذهب بعضهم

(9/547)


22- باب النَّفْخِ فِي الشَّعِيرِ
5410- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَهْلًا هَلْ رَأَيْتُمْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ قَالَ لاَ فَقُلْتُ فَهَلْ كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ قَالَ لاَ وَلَكِنْ كُنَّا نَنْفُخُهُ"
قوله: "باب النفخ في الشعير" أي بعد طحنه لتطير منه قشوره وكأنه نبه بهذه الترجمة على أن النهي عن النفخ في الطعام خاص بالطعام المطبوخ. قوله: "أبو غسان" هو محمد بن مطرف، وأبو حازم هو سلمة بن دينار وهو غير الذي قبله وهو أصغر منه وإن اشتركا في كون كل منهما تابعيا. قوله: "النقي" بفتح النون أي خبز الدقيق الحواري وهو النظيف الأبيض، وفي حديث البعث "يحشر الناس على أرض عفراء كقرصة النقي" وذكره في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أبي حازم أتم منه. قوله: "قال لا" هو موافق لحديث أنس المتقدم "ما رأى مرققا قط". قوله: "فهل كنتم تنخلون الشعير" أي بعد طحنه. قوله: "ولكن كنا ننفخه" ذكره في الباب الذي بعده بلفظ: "هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله تعالى" وأظنه احترز عما قبل البعثة لكونه صلى الله عليه وسلم كان سافر في تلك المدة إلى الشام تاجرا وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقي عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه، فلا ريب أنه رأى ذلك عندهم، فأما بعد البعثة فلم يكن إلا بمكة والطائف والمدينة، ووصل إلى تبوك وهي من أطراف الشام لكن لم يفتحها ولا طالت إقامته بها، وقول الكرماني: نخلت الدقيق أي غربلته، الأولى أن يقول: أي أخرجت منه النخالة.

(9/548)


باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون
...
23- باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ
5411- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهَا شَدَّتْ فِي مَضَاغِي"
[الحديث 5411- طرفاه في: 5441، 5441]
5412- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ أَوْ الْحَبَلَةِ حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلاَمِ خَسِرْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي"
5413- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَقُلْتُ هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ فَقَالَ سَهْلٌ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ فَقُلْتُ هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَاخِلُ قَالَ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ قَالَ كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ"
5414- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ"
5415- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ وَلاَ فِي سُكْرُجَةٍ وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قُلْتُ لِقَتَادَةَ عَلاَمَ يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ"
5416- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ"
[الحديث 5416- طرفه في: 6454]
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون" أي في زمانه صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه ستة أحاديث. حديث أبي هريرة في قسمة التمر، سيأتي شرحه في باب بعد "باب القثاء والرطب" وقوله في هذه الرواية: "شدت من مضاغي" بفتح الميم وقد تكسر وتخفيف الضاد المعجمة وبعد الألف غين معجمة هو ما يمضغ أو هو المضغ نفسه

(9/549)


ومراده أنها كانت فيها قوة عند مضغها فطال مضغه لها كالعلك، وسيأتي بعد أبواب بلفظ: "هي أشدهن لضرسي". حديث إسماعيل وهو ابن خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم عن سعد وهو ابن أبي وقاص، ووقع في شرح ابن بطال وتبعه ابن المقن "عن قيس بن سعد عن أبيه" كأنه توهمه قيس بن سعد بن عيادة، وهو غلط فاحش، فقد مضى الحديث في مناقب سعد من طريق وهو ابن أبي حازم "سمعت سعدا" ووقع في رواية مسلم عن قيس "سمعت سعد بن أبي وقاص". قوله: "رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا فيه إشارة إلى قدم إسلامه، وقد تقدم بيان ذلك في مناقبه من كتاب المناقب، ووقع عند ابن أبي خيثمة أن السبعة المذكورين أبو بكر وعثمان وعلي وزيد ابن حارثة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكان إسلام الأربعة بدعاء أبي بكر لهم إلى الإسلام في أوائل البعثة، وأما علي وزيد بن حارثة فأسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث. قوله: "إلا ورق الحبلة أو الحبلة" الأول بفتح المهملة وسكون الموحدة، والثاني بضمهما وقيل غير ذلك، والمراد به ثمر العضاه وثمر السمر، وهو يشبه اللوبيا، وقيل المراد عروق الشجر وسيأتي بسطه في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. حديث سهل في النقي والمناخل، تقدم في الباب الذي قبله، وقوله في آخره: "وما بقي ثريناه" بمثلثة وراء ثقيلة أي بللناه بالماء. قوله: "فأكلناه" يحتمل أن يريد أكلوه بغير عجن ولا خبز، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى عجنه بعد البل وخبزه ثم أكله. والمنخل من الأدوات التي جاءت بضم أولها. حديث أبي هريرة أنه "مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية" أي مشوية، والصلاء بالكسر والمد الشي. قوله: "فدعوه فأبى أن يأكل" ليس هذا من ترك إجابة الدعوة لأنه في الوليمة لا في كل الطعام، وكأن أبا هريرة استحضر حينئذ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه من شدة العيش فزهد في أكل الشاة ولذلك قال: "خرج ولم يشبع من خبز الشعير" وقد مضت الإشارة إلى ذلك في أول الأطعمة، ويأتي مزيد له في كتاب الرقاق. حديث أنس في الخوان والسكرجة، تقدم شرحه قريبا. حديث عائشة في طعام البر، تقدمت الإشارة إليه في أول الأطعمة، ويأتي في الرقاق أيضا إن شاء الله تعالى.

(9/550)


24- باب التَّلْبِينَةِ
5417- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلاَّ أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ"
[ الحديث 5417، طرفاه في:5686، 5690]
قوله: "باب التلبينة" بفتح المثناة وسكون اللام كسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم نون: طعام يتخذ من دقيق أو نخالة وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقا نضيجا لا غليظا نيئا. وقوله: "مجمة" بفتح الجيم والميم الثقيلة أي مكان الاستراحة، ورويت بضم الميم أي مريحة، والجمام بكسر الجيم الراحة، وجم الفرس إذا ذهب إعياؤه. سيأتي شرح حديث عائشة في كتاب الطب إن شاء الله تعالى.

(9/550)


25- باب الثَّرِيدِ
5418- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"
5419- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي طُوَالَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"
5420- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ الأَشْهَلَ بْنَ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُلاَمٍ لَهُ خَيَّاطٍ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ قَالَ وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ قَالَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ قَالَ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ فَمَا زِلْتُ بَعْدُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ"
قوله: "باب الثريد "بفتح المثلثة وكسر الراء معروف وهو أن يثرد الخبر بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم، ومن أمثالهم الثريد أحد اللحمين" وربما كان أنفع وأقوى من نفس اللحم النضيج إذا ثرد بمرقته. وذكر المصنف فيه ثلاثة أحاديث. حديث أبي موسى في فضل عائشة، قد تقدم في المناقب وفي أحاديث الأنبياء في ترجمة موسى عليه السلام عند ذكر امرأة فرعون وفي ترجمة مريم. والجملي في إسناد حديث أبي موسى بفتح الجيم وتخفيف الميم نسبة إلى بني جمل حي من مراد، وقد تقدم شرح الحديث هناك، وتقرير فضل الثريد، وورد فيه أخص من هذا: فعند أحمد من حديث أبي هريرة "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة في السحور والثريد" وفي سنده ضعف، وللطبراني من حديث سلمان رفعه: "البركة في ثلاثة: الجماعة والسحور والثريد" حديث أنس في فضل عائشة، قد تقدم في المناقب وفي أحاديث الأنبياء وأبو طوالة في حديث أنس هو عبد الله بن عبد الرحمن بن حرم، ورعم عياض أنه وقع في رواية أبي ذر هنا "عن ابن أبي طوالة" وهو خطأ ولم أره في النسخة التي عندنا من طريق أبي ذر إلا على الصواب، وذكر القابسي "حدثنا خالد بن عبد الله بن أبي طوالة" وهو تصحيف، وإنما هو "عن أبي طوالة" حديث أنس في الخياط. قوله: "سمع أبا حاتم" هو أشهل بن حاتم البصري، ووقع في نسخه الصغاني تسميته وتسمية أبيه في الأصل وفي نسخة حدثنا أشهل بن حاتم، وابن عون هو عبد الله. قوله: "على غلام له خياط" تقدم أنه لم يسم، وتقدم شرح الحديث في "باب من تتبع حوالي القصعة"

(9/551)


26- باب شَاةٍ مَسْمُوطَةٍ وَالْكَتِفِ وَالْجَنْبِ
5421- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ قَالَ كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ

(9/551)


اللَّهُ عَنْهُ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ قَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ"
5422- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب شاة مسموطة والكتف والجنب" ذكر فيه حديث أنس وفيه: "ولا رأى شاة سميطة" وفي رواية الكشميهني: "مسموطة" وحديث عمرو بن أمية "يحتز من كتف شاة" وقد تقدما قريبا. وأما الجنب فأشار به إلى حديث أم سلمة "إنها قربت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة" أخرجه الترمذي وصححه، وتقدم في "باب قطع اللحم بالسكين" الإشارة إلى حديث المغيرة بن شعبة، وفيه عند أبي داود والنسائي: "ضعفت النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بجنب فشوى، فأخذ الشفرة - فجعل يحتز لي بها منه" قال ابن بطال: يجمع بين هذا الحديث وكذا حديث عمرو بن أمية وبين قول أنس "إنه صلى الله عليه وسلم ما رأى شاة مسموطة" فذكر ما تقدم في "باب الخبز المرقق" وقد مضى البحث فيه مستوفى.

(9/552)


باب ماكان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم من الطعام واللحم وغيره
...
27- باب مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ صَنَعْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ سُفْرَةً
5423- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ قَالَتْ مَا فَعَلَهُ إِلاَّ فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ قِيلَ مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ فَضَحِكَتْ قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ"
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ بِهَذَا"
[الحديث5423- أطرافه في: 5438، 5570، 6687]
5424- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْيِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ لاَ"
قوله: "باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم من الطعام واللحم" ليس في شيء من أحاديث الباب للطعام ذكر، وإنما يؤخذ منها بطريق الإلحاق، أو من مقتضى قول عائشة "ما شبع من خبز البر المأدوم ثلاثا" فإنه

(9/552)


لا يلزم من نفي كونه مأدوما نفي كونه مطلقا، وفي وجود ذلك ثلاثا مطلقا دلالة على جواز تناوله وإبقائه في البيوت، ويحتمل أن يكون المراد بالطعام ما يطعم فيدخل فيه كل إدام. قوله: "وقالت عائشة وأسماء: صنعنا للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر سفرة" تقدم حديث عائشة موصولا في "باب الهجرة إلى المدينة" مطولا، وحديث أسماء تقدم في الجهاد وسبق الكلام فيه قريبا. قوله: "عن عبد الرحمن بن عابس عن أبيه" هو عابس بمهملة ثم موحدة ثم مهملة ابن ربيعة النخعي الكوفي، تابعه كبير، ويلتبس به عابس بن ربيعة الغطبفي صحابي ذكره ابن يونس وقال: له صحبة وشهد فتح مصر، ولم أحد لهم عنه رواية. قوله: "قالت ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير" بينت عائشة في هذا الحديث أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث نسخ وأن سبب النهي كان خاصا بذلك العام للعلة التي ذكرتها، وسيأتي بسط هذا في أواخر كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. وغرض البخاري منه قولها "وإن كنا لنرفع الكراع إلخ" فإن فيه بيان جواز ادخار اللحم وأكل القديد، وثبت أن سبب ذلك قلة اللحم عندهم بحيث أنهم لم يكونوا يشبعون من خبز البر ثلاثة أيام متوالية. قوله: "وقال ابن كثير" هو محمد وهو من مشايخ البخاري، وغرضه تصريح سفيان وهو الثوري بإخبار عبد الرحمن بن عابس له به وقد وصله الطبراني في "الكبير" عن معاذ بن المثنى عن محمد بن كثير به. قوله في حديث جابر "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وسفيان الذي قبله لي حديث عائشة هو الثوري كما بينته. قوله: "تابعه محمد عن ابن عيينة" قيل إن محمدا هذا هو ابن سلام. وقد وقع لي الحديث في مسند محمد ابن يحيى بن أبي عمر عن سفيان ولفظه: "كنا نعزل عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، وكنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة". قوله: "وقال ابن جريج إلخ" وصل المصنف أصل الحديث في "باب ما يؤكل من البدن" من كتاب الحج ولفظه: "كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث. فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا" ولم يذكر هذه الزيادة، وقد ذكرها مسلم في روايته عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد بالسند الذي أخرجه به البخاري فقال بعد قوله كلوا وتزودوا "قلت لعطاء: أقال جابر حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم" كذا وقع عنده بخلاف ما وقع عند البخاري "قال لا" والذي وقع عند البخاري هو المعتمد، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن يحيى بن سعيد كذلك، وكذلك أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد، وقد نبه على اختلاف البخاري ومسلم في هذه اللفظة الحميدي في جمعه وتبعه عياض ولم يذكرا ترجيحا، وأغفل ذلك شراح البخاري أصلا فيما وقفت عليه. ثم ليس المراد بقوله: "لا" نفي الحكم بل مراده أن جابرا لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار عن عطاء "كنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة" أي لتوجهنا إلى المدينة، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة والله أعلم، لكن قد أخرج مسلم من حديث ثوبان قال: "ذبح النبي صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال لي: يا ثوبان أصلح لحم هذه، فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة. قال ابن بطال: في الحديث رد على من زعم من الصوفية أنه لا يجوز ادخار طعام لغد، وأن اسم الولاية لا يستحق لمن ادخر شيئا ولو قل، وأن من ادخر أساء الظن بالله. وفي هذه الأحاديث كفاية في الرد على من زعم ذلك.

(9/553)


28- باب الْحَيْسِ
5425- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

(9/553)


حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ الْتَمِسْ غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ بِكِسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ"
قوله: "باب الحيس" بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها مهملة، تقدم تفسيره مع شرح حديث الباب في قصة صفية في غزوة خيبر من كتاب المغازي. وأصل الحيس ما يتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأقط الفتيت أو الدقيق. قوله: "وضلع الدين" بفتح الضاد المعجمة واللام أي ثقله، وحكى ابن التين سكون اللام وفسره بالميل، ويأتي مزيد لشرح هذا الدعاء في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. وقوله: "يحوي" بحاء مهملة وواو ثقيلة أي يجعل لها حوية، وهو كساء محشو يدار حول سنام الراحلة يحفظ راكبها من السقوط ويستريح بالاستناد إليه. قوله: "ثم أقبل حتى بدا له أحد" تقدم الكلام عليه في أواخر الحج، وقوله: "مثل ما حرم به إبراهيم مكة" قال الكرماني "مثل" منصوب بنزع الخافض أي بمثل ما حرم به، وليست لفظة "به" زائدة.

(9/554)


باب الأكل في إناء مغضض
...
29- باب الأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ
5426- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ وَقَالَ لَوْلاَ أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَمْ أَفْعَلْ هَذَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ وَلاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ"
قوله: "باب الأكل في إناء مفضض" أي الذي جعلت فيه الفضة، كذا اقتصر من الآنية على هذا، والأكل في جميع الآنية مباح إلا إناء الذهب وإناء الفضة، واختلف في الإناء الذي فيه شيء من ذلك إما بالتضبيب وإما بالخلط وإما بالطلاء، وحديث حذيفة الذي ساقه في الباب فيه النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، ويؤخذ منع الأكل بطريق الإلحاق وهذا بالنسبة لحديث حذيفة، وقد ورد في حديث أم سلمة عند مسلم كما سيأتي التنبيه عليه في كتاب الأشربة ذكر الأكل، فيكون المنع منه بالنص أيضا، وهذا في الذي جميعه من ذهب أو فضة أما المخلوط أو المضبب

(9/554)


أو المموه وهو المطلي فورد فيه حديث أخرجه الدار قطني والبيهقي عن ابن عمر رفعه: "من شرب في آنية الذهب والفضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم" قال البيهقي: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه، ثم أخرجه كذلك وهو عند ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضه، ومن طريق أخرى عنه "أنه كان يكره ذلك" وفي "الأوسط للطبراني" من حديث أم عطية "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفضيض الأقداح، ثم رخص فيه للنساء. قال مغلطاي: لا يطابق الحديث الترجمة إلا إن كان الإناء الذي سقى فيه حذيفة كان مضببا فإن الضبة موضع الشفة عند الشرب، وأجاب الكرماني بأن لفظ مفضض وإن كان ظاهرا فيما فيه فضة لكنه يشمل ما إذا كان متخذا كله من فضة، والنهي عن الشرب في آنية الفضة يلحق به الأكل للعلة الجامعة فيطابق الحديث الترجمة، والله أعلم.

(9/555)


30- باب ذِكْرِ الطَّعَامِ
5427- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ"
5428- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"
5429- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ"
قوله: "باب ذكر الطعام" ذكر فيه ثلاثة أحاديث. حديث أبي موسى "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن" وقد سبق شرحه في فضائل القرآن، والغرض منه تكرار ذكر الطعم فيه، والطعام يطلق بمعنى الطعم. حديث أنس في فضل عائشة، وقد مضى التنبيه عليه قريبا وذكر فيه الطعام. "السفر قطعة من العذاب" ذكره لقوله فيه: "يمنع أحدكم نومه وطعامه" وقد مضى شرحه في أواخر أبواب العمرة بعد كتاب الحج، قال ابن بطال: معنى هذه الترجمة إباحة أكل الطعام الطيب، وأن الزهد ليس في خلاف ذلك، فإن تشبيه المؤمن بما طعمه طيب وتشبيه الكافر بما طعمه مر ترغيبا في أكل الطعام الطيب والحلو، قال: وإنما كره السلف الإدمان على أكل الطيبات خشية أن يصير ذلك عادة فلا تصبر النفس على فقدها. قال: وأما حديث أبي هريرة ففيه إشارة إلى أن الآدمي لا بد له في الدنيا من طعام يقيم به جسده ويقوى به على طاعة ربه، وأن الله جل وعلا جبل النفوس على ذلك لقوام الحياة، لكن المؤمن يأخذ من ذلك بقدر إيثاره أمر الآخرة على الدنيا. وزعم مغلطاي أن ابن بطال قال قبل حديث أبي هريرة ما معناه: ليس فيه ذكر الطعام، قال مغلطاي: قوله: "ليس

(9/555)


فيه ذكر الطعام" ذهول شديد، فإن لفظ المتن "يمنع أحدكم نومه وطعامه" ا هـ وتعقبه صاحبه الشيخ سراج الدين بن الملقن بأنه لا ذهول، فإن عبارة ابن بطال ليس فيها ذكر أفضل الطعام ولا أدناه، وهو كما قال فلم يذهل.

(9/556)


31- باب الأُدْمِ
5430- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَهَا فَتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا وَلَنَا الْوَلاَءُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ شِئْتِ شَرَطْتِيهِ لَهُمْ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَ وَأُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي أَنْ تَقِرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا أَوْ تُفَارِقَهُ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْتَ عَائِشَةَ وَعَلَى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ فَدَعَا بِالْغَدَاءِ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ لَحْمًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَأَهْدَتْهُ لَنَا فَقَالَ هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا وَهَدِيَّةٌ لَنَا"
قوله: "باب الأدم" بضم الهمزة والدال المهملة ويجوز إسكانها، جمع إدام، وقيل هو بالإسكان المفرد وبالضم الجمع. ذكر فيه حديث عائشة في قصة بريرة، وفيه: "فأتى بأدم من أدم البيت" وفيه ذكر اللحم الذي تصدق به على بريرة وقد مضى شرحه مستوفى في الكلام على قصة بريرة في الطلاق. وحكى ابن بطال عن الطبري قال: دلت القصة على إيثاره عليه الصلاة والسلام اللحم إذا وجد إليه السبيل. حديث عائشة في قصة بريرة، وفيه: "فأتى بأدم من أدم البيت" وفيه ذكر اللحم الذي تصدق به على بريرة وقد مضى شرحه مستوفى في الكلام على قصة بريرة في الطلاق. وحكى ابن بطال عن الطبري قال: دلت القصة على إيثاره عليه الصلاة والسلام اللحم إذا وجد إليه السبيل. ثم ذكر حديث بريرة رفعه: "سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم" وأما ما ورد عن عمر وغيره من السلف من إيثار أكل غير اللحم على اللحم فإما لقمع النفس عن تعاطي الشهوات والإدمان عليها، وإما لكراهة الإسراف والإسراع في تبذير المال لقلة الشيء عندهم إذ ذاك. ثم ذكر حديث جابر لما أضاف النبي صلى الله عليه وسلم وذبح له الشاة، فلما قدمها إليه قال له: كأنك قد علمت حبنا للحم. وكان ذلك لقلة الشيء عندهم فكان حبهم له لذلك ا هـ ملخصا. وحديث بريرة أخرجه ابن ماجه، وحديث جابر أخرجه أحمد مطولا من طريق نبيح العنزي عنه، وأصله في الصحيح بدون الزيادة. وقد اختلف الناس في الأدم: فالجمهور أنه ما يؤكل به الخبز بما يطيبه سواء كان مرقا أم لا، واشترط أبو حنيفة وأبو يوسف الاصطناع، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى ووقع في حديث عائشة "فقال أهلها ولنا الولاء" هو معطوف على محذوف تقديره نبيعها ولنا الولاء، وفيه: "فقال لو شئت شرطتيه" بإثبات التحتانية وهي ناشئة عن إشباع حركة المثناة، وفيه: "وأعتقت، فخيرت بين أن تقر تحت زوجها أو تفارقه" قال ابن التين: يصح أن يكون أصله من وقر فتكون الراء مخففة يعني والقاف مكسورة، يقال وقرت أقر إذا جلست مستقرا والمحذوف فاء الفعل، قال: ويصح أن تكون القاف مفتوحة - يعني مع تشديد الراء - من قولهم قررت بالمكان أقر، يقال بفتح القاف ويجوز بكسرها من قريقر ا هـ ملخصا، والثالث هو المحفوظ في الرواية. "تنبيه": أورد البخاري هذا الحديث هنا من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عن القاسم بن محمد قال: كان في بريرة ثلاث سنن. وساق الحديث. وليس فيه أنه أسنده عن عائشة وتعقبه الإسماعيلي فقال: هذا الحديث الذي صححه مرسل. وهو كما قال من ظاهر سياقه، لكن البخاري اعتمد على إيراده موصولا من طريق مالك عن ربيعة عن القاسم عن عائشة كما تقدم في النكاح والطلاق، ولكنه

(9/556)


جرى على عادته من تجنب إيراد الحديث على هيئته كلها في باب آخر، وقد بينت وصل هذا الحديث في "باب لا يكون بيع الأمة طلاقا" من كتاب الطلاق، والله أعلم.

(9/557)


باب الحلوة والعسل
...
32- باب الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ
5431- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ"
5432- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الْفُدَيْكِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَلْزَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِبَعِ بَطْنِي حِينَ لاَ آكُلُ الْخَمِيرَ وَلاَ أَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَلاَ يَخْدُمُنِي فُلاَنٌ وَلاَ فُلاَنَةُ وَأُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ وَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ وَهِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَنَشْتَقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا"
قوله: "باب الحلوى والعسل" كذا لأبي ذر مقصور، ولغيره ممدود وهما لغتان، قال ابن ولاد: هي عند الأصمعي بالقصر تكتب بالياء، وعند الفراء بالمد تكتب بالألف، وقيل تمد وتقصر. وقال الليث: الأكثر على المد، وهو كل حلو يؤكل. وقال الخطابي: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة. وفي المخصص لابن سيده: هي ما عولج من الطعام بحلاوة، وقد تطلق على الفاكهة. قوله: "يحب الحلوى والعسل" كذا في الرواية للجميع بالقصر، وقد تقدم في أبواب الطلاق بالوجهين. وهو طرف من حديث تقدم في قصة التخيير، قال ابن بطال: الحلوى والعسل من جملة الطيبات المذكورة في قوله تعالى :{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وفيه تقوية لقول من قال المراد به المستلذ من المباحات. ودخل في معنى هذا الحديث كل ما يشابه الحلوى والعسل من أنواع المآكل اللذيذة كما تقدم تقريره في أول كتاب الأطعمة. وقال الخطابي وتبعه ابن التين: لم يكن حبه صلى الله عليه وسلم لها على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها، وإنما كان ينال منها إذا أحضرت إليه نيلا صالحا فيعلم بذلك أنها تعجبه. ويؤخذ منه جواز اتخاذ الأطعمة من أنواع شتى، وكان بعض أهل الورع يكره ذلك ولا يرخص أن يأكل من الحلاوة إلا ما كان حلوه بطبعه كالتمر والعسل، وهذا الحديث يرد عليه، وإنما تورع عن ذلك من السلف من آثر تأخير تناول الطيبات إلى الآخرة مع القدرة على ذلك في الدنيا تواضعا لا شحا. ووقع في كتاب "فقه اللغة للثعالبي" أن حلوى النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يحبها هي المجيع بالجيم وزن عظيم، وهو ثمر يعجن بلبن، وسيأتي في باب الجمع بين لونين ذكر من روى حديث الله أنه كان يحب الزبد والتمر، وفيه رد على من زعم أن المراد بالحلوى أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب كل يوم قدح عسل يمزج بالماء، وأما الحلوى المصنوعة فما كان يعرفها. وقيل المراد بالحلوى الفالوذج لا المعقودة على النار والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن شيبة" هو عبد الرحمن بن عبد الملك بن محمد بن شيبة الحزامي بالمهملة والزاي المدني نسبه إلى جد أبيه، وغلط بعضهم فقال: عبد الرحمن بن أبي شيبة ولفظ: "أبي"

(9/557)


زيادة على سبيل الغلط المحض، وما لعبد الرحمن في البخاري سوى موضعين هذا أحدهما. قوله: "ابن أبي الفديك" هو محمد بن إسماعيل، وأكثر ما يرد بغير ألف ولام. قوله: "كنت ألزم" تقدم هذا الحديث في المناقب من وجه آخر عن ابن أبي ذئب وأوله "يقول الناس أكثر أبو هريرة" الحديث. قوله: "لشبع بطني" في رواية الكشميهني: "بشبع" بالموحدة والمعنى مختلف، فإن الذي بالباء يشعر بالمعاوضة لكن رواية اللام لا تنفيها. قوله: "ولا ألبس الحرير" كذا هنا للجميع. وتقدم في المناقب بلفظ: "الحبير" بالموحدة بدل الراء الأولى، وتقدم أنه للكشميهني براءين. وقال عياض: هو بالموحدة في رواية القابسي والأصيلي وعبدوس، وكذا لأبي ذر عن الحموي وكذا هو للنسفي، وللباقين براءين كالذي هنا، ورجح عياض الرواية بالموحدة وقال: هو الثوب المحبر، وهو المزين الملون مأخوذ من التحبير وهو التحسين، وقيل الحبير ثوب وشي مخطط، وقيل هو الجديد. وإنما كانت رواية الحرير مرجوحة لأن السياق يشعر بأن أبا هريرة كان يفعل ذلك بعد أن كان لا يفعله، وهو كان لا يلبس الحرير لا أولا ولا آخرا، بخلاف أكله الخمير ولبسه الحبير فإنه صار يفعله بعد أن كان لا يجده. قوله: "ولا يخدمني فلان وفلانة" يحتمل أن يكون أبو هريرة هو الذي كنى وقصد الإبهام لإرادة التعظيم والتهويل، ويحتمل أن يكون سمي معينا وكنى عنه الراوي. وقد أخرج ابن سعد من طريق أيوب عن ابن سرين عن أبي هريرة قال: "ولقد رأيتني وإني لأجير لابن عفان وبنت غزوان بطعام بطنى وعقبة رجلي أسوق بهم إذا ارتحلوا وأخدمهم إذا نزلوا، فقالت لي يوما، لتردن حافيا ولتركبن قائما، فزوجنيها الله تعالى فقلت لها لتردن حافية ولتركبن قائمة" وسنده صحيح، وهو في آخر حديث أخرجه البخاري، والترمذي بدون هذه الزيادة. وأخرج ابن سعد أيضا وابن ماجه من طريق سليم بن حيان سمعت أبي يقول: "سمعت أبا هريرة يقول: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان" الحديث. قوله: "واستقرئ الرجل الآية وهي معي" تقدم شرح قصته في ذلك مع عمر في أوائل الأطعمة، وقصته في ذلك مع جعفر في كتاب المناقب. قوله: "وخير الناس للمساكين جعفر" تقدم شرحه في المناقب، ووقع في رواية الإسماعيلي من الزيادة في هذا الحديث من طريق إبراهيم المخزومي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة "وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين" قلت: وإبراهيم المخزومي هو ابن الفضل ويقال ابن إسحاق المخزومي مدني ضعيف ليس من شرط هذا الكتاب، وقد أوردت هذه الزيادة في المناقب عن الترمذي وهي من رواية إبراهيم أيضا وأشار إلى ضعف إبراهيم، قال ابن المنير: مناسبة حديث أبي هريرة للترجمة أن الحلوى تطلق على الشيء الحلو، ولما كانت العكة يكون فيها غالبا العسل وربما جاء مصرحا به في بعض طرقه ناسب التبويب قلت: إذا كان ورد في بعض طرقه العسل طابق الترجمة لأنها مشتملة على ذكر الحلوى والعسل معا، فيؤخذ من الحديث أحد ركني الترجمة ولا يشترط أن يشتمل كل حديث في الباب على جميع ما تضمنته الترجمة بل يكفي التوزيع، وإطلاق الحلوى على كل شيء حلو خلاف العرف، وقد جزم الخطابي بخلافه كما تقدم فهو المعتمد. قوله: "فنشتفها" قيده عياض بالشين المعجمة والفاء، ورجح ابن التين أنه بالقاف لأن معنى الذي بالفاء أن يشرب ما في الإناء كما تقدم، والمراد هنا أنهم لعقوا ما في العكة بعد أن قطعوها ليتمكنوا من ذلك.

(9/558)


33- باب الدُّبَّاءِ
5433- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَوْلًى لَهُ خَيَّاطًا فَأُتِيَ بِدُبَّاءٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُهُ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُهُ"
قوله: "باب الدباء" ذكر فيه حديث أنس في قصة الخياط من طريق ثمامة عن أنس وقد تقدم شرحه وضبطه، وتقدمت الإشارة إلى موضع شرحه قريبا حديث أنس في قصة الخياط من طريق ثمامة عن أنس وقد تقدم شرحه وضبطه، وتقدمت الإشارة إلى موضع شرحه قريبا وأخرج الترمذي والنساء وابن ماجه من طريق حكيم بن جابر عن أبيه قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعنده هذا الدباء فقلت ما هذا؟ قال القرع، وهو الدباء، نكثر به طعامنا".

(9/559)


باب الرجل يتكف الطعام لإخوانه
...
24- باب الرَّجُلِ يَتَكَلَّفُ الطَّعَامَ لِإِخْوَانِه ِ
5434- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ فَقَالَ اصْنَعْ لِي طَعَامًا أَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ قَالَ بَلْ أَذِنْتُ لَهُ"
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُولُ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَائِدَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوا مِنْ مَائِدَةٍ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى وَلَكِنْ يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تِلْكَ الْمَائِدَةِ أَوْ يَدَعُوا
قوله: "باب الرجل يتكلف الطعام لإخوانه" قال الكرماني وجه التكلف من حديث الباب أنه حصر العدد بقوله خامس خمسة، ولولا تكلفه لما حصر، وسبق إلى نحو ذلك ابن التين وزاد أن التحديد ينافي البركة، ولذلك لما لم يحدد أبو طلحة حصلت في طعامه البركة حتى وسع العدد الكثير. قوله: "عن أبي وائل عن أبي مسعود" في رواية أبي أسامة عن الأعمش "حدثنا شقيق وهو أبو وائل حدثنا أبو مسعود" وسيأتي بعد اثنين وعشرين بابا. وللأعمش فيه شيخ آخر نبهت عليه في أوائل البيوع أخرجه مسلم من طريق زهير وغيره عن أبي سفيان عن جابر مقرونا برواية أبي وائل عن أبي مسعود وهو عقبة بن عمرو، ووقع في بعض النسخ المتأخرة "عن ابن مسعود" وهو تصحيف. قوله: "كان من الأنصار رجل يقال له أبو شعيب" لم أقف على اسمه، وقد تقدم في أوائل البيوع أن ابن نمير عند أحمد والمحاملي رواه عن الأعمش فقال فيه عن أبي مسعود عن أبي شعيب "جعله من مسند أبي شعيب. قوله: "وكان له غلام لحام" لم أقف على اسمه، وقد تقدم في البيوع من طريق حفص بن غياث عن الأعمش بلفظ: "قصاب" ومضى تفسيره. قوله: "فقال اصنع لي طعاما أدعو رسول الله خامس خمسة" زاد في رواية حفص "اجعل لي طعاما يكفي خمسة فإني أريد أن أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرفت في وجهه الجوع" وفي رواية أبي أسامة "اجعل لي طعيما" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "اصنع لنا طعاما لخمسة نفر". قوله: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة" في الكلام حذف تقديره فصنع فدعاه، وصرح بذلك في رواية أبي أسامة، ووقع في رواية أبي معاوية عن الأعمش عند مسلم والترمذي وساق لفظها "فدعاه وجلساءه الذين معه" وكأنهم كانوا أربعة وهو

(9/559)


خامسهم، يقال خامس أربعة وخامس خمسة بمعنى، قال الله تعالى :{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وقال: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} "وفي حديث ابن مسعود "رابع أربعة" ومعنى خامس أربعة أي زائد عليهم وخامس خمسة أي أحدهم، والأجود نصب خامس على الحال، ويجوز الرفع على تقدير حذف أي وهو خامس أو وأنا خامس والجملة حينئذ حالية. قوله: "فتبعهم رجل" في رواية أبي عوانة عن الأعمش في المظالم "فاتبعهم" وهي بالتشديد بمعنى تبعهم وكذا في رواية جرير وأبي معاوية، وذكرها الداودي بهمزة قطع، وتكلف ابن التين في توجهها، ووقع في رواية حفص بن غياث "فجاء معهم رجل". قوله: "وهذا رجل تبعنا" في رواية أبي عوانة وجرير "اتبعنا" بالتشديد. وفي رواية أبي معاوية "لم يكن معنا حين دعوتنا". قوله: "فإن شئت أذنت له وإن شئت تركته" في رواية أبي عوانة "وإن شئت أن يرجع رجع" وفي رواية جرير "وإن شئت رجع" وفي رواية أبي معاوية "فإنه اتبعنا ولم يكن معنا حين دعوتنا فإن أذنت له دخل" قوله: "بل أذنت له" في رواية أبي أسامة "لا بل أذنت له" وفي رواية جرير "لا بل أذنت له يا رسول الله" وفي رواية أبي معاوية "فقد أذنا له فليدخل" ولم أقف على اسم هذا الرجل في شيء من طرق هذا الحديث ولا على اسم واحد من الأربعة. وفي الحديث من الفوائد جواز الاكتساب بصنعة الجزارة واستعمال العبد فيما يطيق من الصنائع وانتفاعه بكسبه منها. وفيه مشروعية الضيافة وتأكد استحبابها لمن غلبت حاجته لذلك. وفيه أن من صنع طعاما لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه أو يدعوه إلى منزله، وأن من دعا أحدا استحب أن يدعو معه من يرى من أخصائه وأهل مجالسته، وفيه الحكم بالدليل لقوله: "إني عرفت في وجهه الجوع". وأن الصحابة كانوا يديمون النظر إلى وجهه تبركا به، وكان منهم من لا يطيل النظر في وجهه حياء منه كما صرح به عمرو بن العاص فيما أخرجه مسلم، وفيه أنه كان صلى الله عليه وسلم يجوع أحيانا، وفيه إجابة الإمام والشريف والكبير دعوة من دونهم وأكلهم طعام ذي الحرفة غير الرفيعة كالجزار وأن تعاطى مثل تلك الحرفة لا يضع قدر من يتوقى فيها ما يكره ولا تسقط بمجرد تعاطيها شهادته، وإن من صنع طعاما لجماعة فليكن على قدرهم إن لم يقدر على أكثر ولا ينقص من قدرهم مستندا إلى أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وفيه أن من دعا قوما متصفين بصفة ثم طرأ عليهم من لم يكن معهم حينئذ أنه لا يدخل في عموم الدعوة، وإن قال قوم إنه يدخل في الهدية كما تقدم أن جلساء المرء شركاؤه فيما يهدي إليه، وأن من تطفل في الدعوة كان لصاحب الدعوة الاختيار في حرمانه فإن دخل بغير إذنه كان له إخراجه، وإن من قصد التطفيل لم يمنع ابتداء لأن الرجل تبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له، وينبغي أن يكون هذا الحديث أصلا في جواز التطفيل لكن يقيد بمن احتاج إليه، وقد جمع الخطيب في أخبار الطفيليين جزءا فيه عدة فوائد: منها أن الطفيلي منسوب إلى رجل كان يقال له طفيل من بني عبد الله بن غطفان كثر منه الإتيان إلى الولائم بغير دعوة فسمى "طفيل العرائس" فسمى من اتصف بعد بصفته طفيليا، وكانت العرب تسميه الوارش بشين معجمة وبقول لمن يتبع المدعو بغير دعوه "ضيفين" بنون زائدة. قال الكرماني: في هذه التسمية مناسبة اللفظ للمعنى في التبعية من حيث أنه تابع للضيف والنون تابعة للكلمة، واستدل به على منع استتباع المدعو غيره إلا إذا علم من الداعي الرضا بذلك، وأن الطفيلي يأكل حراما، ولنصر بن علي الجهضمي في ذلك قصة جرت له مع طفيلي، واحتج نصر بحديث ابن عمر رفعه: "من دخل بغير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا" وهو حديث ضعيف أخرجه أبو داود، واحتج عليه الطفيلي بأشياء يؤخذ منها تقييد المنع بمن لا

(9/560)


يحتاج إلى ذلك ممن يتطفل، وبمن يتكره صاحب الطعام الدخول إليه إما لقلة الشيء أو استثقال الداخل، وهو يوافق قول الشافعية لا يجوز التطفيل إلا لمن كان بينه وبين صاحب الدار انبساط. وفيه أن المدعو لا يمتنع من الإجابة إذا امتنع الداعي من الإذن لبعض من صحبه، وأما ما أخرجه مسلم من حديث أنس "أن فارسيا كان طيب المرق صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ثم دعاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه لعائشة؟ قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا" فيجاب عنه بأن الدعوة لم تكن لوليمة وإنما صنع الفارسي طعاما يقدر ما يكفي الواحد فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الفرق أن عائشة كانت حاضرة عند الدعوة بخلاف الرجل، وأيضا فالمستحب للداعي أن يدعو خواص المدعو معه كما فعل اللحام بخلاف الفارسي فلذلك امتنع من الإجابة إلا أن يدعوها، أو علم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه، أو أحب أن تأكل معه منه لأنه كان موصوفا بالجودة ولم يعلم مثله في قصة اللحام، وأما قصة أبي طلحة حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصيدة كما تقدم في علامات النبوة فقال لمن معه: قوموا، فأجاب عنه المازري أنه يحتمل أن يكون علم رضا أبي طلحة فلم يستأذنه ولم يعلم رضا أبي شعيب فاستأذنه، ولأن الذي أكله القوم عند أبي طلحة كان مما خرق الله فيه العادة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكان جل ما أكلوه من البركة التي لا صنيع لأبي طلحة فيها فلم يفتقر إلى استئذانه، أو لأنه لم يكن بينه وبين القصاب من المودة ما بيته وبين أبي طلحة، أو لأن أبا طلحة صنع الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم فتصرف فيه كيف أراد وأبو شعيب صنعه له ولنفسه ولذلك حدد بعدد معين ليكون ما يفضل عنهم له ولعياله مثلا وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فاستأذنه لذلك لأنه أخبر بما يصلح نفسه وعياله. وفيه أنه ينبغي لمن استؤذن في مثل ذلك أن يأذن للطارئ كما فعل أبو شعيب وذلك من مكارم الأخلاق، ولعله سمع الحديث الماضي "طعام الواحد يكفي الاثنين" أو رجا أن يعم الزائد بركة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما استأذنه النبي صلى الله عليه وسلم تطييبا لنفسه، ولعله علم أنه لا يمنع الطارئ. وأما توقف الفارسي في الإذن لعائشة ثلاثا وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من إجابته فأجاب عياض بأنه لعله إنما صنع قدر ما يكفي النبي صلى الله عليه وسلم وحده علم حاجته لذلك فلو تبعه غيره لم يسد حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمد على ما ألف من إمداد الله تعالى له بالبركة وما اعتاده من الإيثار على نفسه ومن مكارم الأخلاق مع أهله، وكان من شأنه أن لا يراجع بعد ثلاث فلذلك رجع الفارسي عن المنع. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه اتبعنا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا" إشارة إلى أنه لو كان معهم حالة الدعوة لم يحتج إلى الاستئذان عليه، فيؤخذ منه أن الداعي لو قال لرسوله ادع فلانا وجلساءه جاز لكل من كان جليسا له أن يحضر معه، وإن كان ذلك لا يستحب أو لا يجب حيث قلنا بوجوبه إلا بالتعيين. وفيه أنه لا ينبغي أن يظهر الداعي الإجابة وفي نفسه الكراهة لئلا يطعم ما تكرهه نفسه، ولئلا يجمع الرياء والبخل وصفة ذي الوجهين، كذا استدل به عياض، وتعقبه شيخنا في "شرح الترمذي" بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل فيه مطلق الاستئذان والإذن ولم يكلفه أن يطلع على رضاه بقلبه؛ قال: وعلى تقدير أن يكون الداعي يكره ذلك في نفسه فينبغي له مجاهدة نفسه على دفع تلك الكراهة. وما ذكره من أن النفس تكون بذلك طيبة لا شك أنه أولى لكن ليس في سياق هذه القصة ذلك فكأنه أخذه من غير هذا الحديث، والتعقب عليه واضح لأنه ساقه مساق من يستنبطه من حديث الباب وليس ذلك فيه. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "اتبعنا رجل" فأبهمه ولم يعينه أدب حسن لئلا ينكسر خاطر الرجل، ولا بد أن ينضم إلى هذا أنه اطلع على أن الداعي لا يرده وإلا فكان يتعين في ثاني الحال فيحصل كسر خاطره، وأيضا ففي رواية لمسلم: "إن هذا اتبعنا" ويجمع بين الروايتين

(9/561)


بأنه أبهمه لفظا وعينه إشارة، وفيه نوع رفق به بحسب الطاقة. "تنبيه": وقع هنا عند أبي ذر عن المستملي وحده "قال محمد بن يوسف وهو الفريابي سمعت محمد بن إسماعيل هو البخاري يقول: إذا كان القوم على المائدة فليس لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن يناول بعضهم بعضا في تلك المائدة أو يدعوا" أي يتركوا، وكأنه استنبط ذلك من استئذان النبي صلى الله عليه وسلم الداعي في الرجل الطارئ، ووجه أخذه منه أن الذين دعوا صار لهم بالدعوة عموم إذن بالتصرف في الطعام المدعو إليه بخلاف من لم يدع فيتنزل من وضع بين يديه الشيء منزلة من دعي له أو ينزل الشيء الذي وضع بين يدي غيره منزلة من لم يدع إليه، وأغفل من وقفت على كلامه من الشراح التنبيه على ذلكبأنه أبهمه لفظا وعينه إشارة، وفيه نوع رفق به بحسب الطاقة. "تنبيه": وقع هنا عند أبي ذر عن المستملي وحده "قال محمد بن يوسف وهو الفريابي سمعت محمد بن إسماعيل هو البخاري يقول: إذا كان القوم على المائدة فليس لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن يناول بعضهم بعضا في تلك المائدة أو يدعوا" أي يتركوا، وكأنه استنبط ذلك من استئذان النبي صلى الله عليه وسلم الداعي في الرجل الطارئ، ووجه أخذه منه أن الذين دعوا صار لهم بالدعوة عموم إذن بالتصرف في الطعام المدعو إليه بخلاف من لم يدع فيتنزل من وضع بين يديه الشيء منزلة من دعي له أو ينزل الشيء الذي وضع بين يدي غيره منزلة من لم يدع إليه، وأغفل من وقفت على كلامه من الشراح التنبيه على ذلك

(9/562)


35- باب مَنْ أَضَافَ رَجُلًا إِلَى طَعَامٍ وَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى عَمَلِهِ
4535- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ النَّضْرَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ غُلاَمًا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُلاَمٍ لَهُ خَيَّاطٍ فَأَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ قَالَ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ فَأَقْبَلَ الْغُلاَمُ عَلَى عَمَلِهِ قَالَ أَنَسٌ لاَ أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ مَا صَنَعَ"
قوله: "باب من أضاف رجلا وأقبل هو على عمله" أشار بهذه الترجمة إلى أنه لا يتحتم على الداعي أن يأكل مع المدعو. حديث أنس في قصة الخياط، قد تقدم شرحه مستوفى، وقد تعقبه الإسماعيلي بأن قوله: "وأقبل على عمله" ليس فيه فائدة، قال: وإنما أراد البخاري إيراده من رواية النضر بن شميل عن ابن عون. قلت: بل لترجمته فائدة، ولا مانع من إرادة الفائدتين الإسنادية والمتنية، ومع اعتراف الإسماعيلي بغرابة الحديث من حديث النضر فإنما أخرجه من رواية أزهر عن ابن عون فكأنه لم يقع له من حديث النضر. وقال ابن بطال: لا أعلم في اشتراط أكل الداعي مع الضيف إلا أنه أبسط لوجهه، وأذهب لاحتشامه، فمن فعل فهو أبلغ في قرى الضيف ومن ترك فجائز، وقد تقدم في قصة أضياف أبي بكر أنهم امتنعوا أن يأكلوا حتى يأكل معهم وأنه أنكر ذلك

(9/562)


36- باب الْمَرَقِ
5436- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ"
قوله: "باب المرق" أورد فيه حديث أنس المذكور قيل وهو ظاهر فيما ترجم له، قال ابن التين: في قصة الخياط روايات فيما أحضر، ففي بعضها قوب مرقا وفي بعضها قديدا وفي أخرى خبز شعير وفي أخرى ثريدا، قال:

(9/562)


37- باب الْقَدِيدِ
5437- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَرَقَةٍ فِيهَا دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ يَأْكُلُهَا"
5438- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا فَعَلَهُ إِلاَّ فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثًا"
قوله: "باب القديد" ذكر فيه حديث أنس المذكور وهو ظاهر فيه، وحديث عائشة "ما فعله إلا في عام جاع الناس أراد أن يطعم الغني الفقير" الحديث، قلت. وهو مختصر من حديثها الماضي في "باب ما كان السلف يدخرون" وقد تقدم قريبا وأوله سؤال التابعي عن النهي عن الأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأجابت بذلك، فيعرف منه أن مرجع الضمير في قولها "ما فعله" إلى النهى عن ذلك. قوله: "باب القديد" ذكر فيه حديث أنس المذكور وهو ظاهر فيه، وحديث عائشة "ما فعله إلا في عام جاع الناس أراد أن يطعم الغني الفقير" الحديث، قلت. وهو مختصر من حديثها الماضي في "باب ما كان السلف يدخرون" وقد تقدم قريبا وأوله سؤال التابعي عن النهي عن الأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأجابت بذلك، فيعرف منه أن مرجع الضمير في قولها "ما فعله" إلى النهى عن ذلك. حديث عائشة "ما فعله إلا في عام جاع الناس أراد أن يطعم الغني الفقير" الحديث، قلت. وهو مختصر من حديثها الماضي في "باب ما كان السلف يدخرون" وقد تقدم قريبا وأوله سؤال التابعي عن النهي عن الأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأجابت بذلك، فيعرف منه أن مرجع الضمير في قولها "ما فعله" إلى النهى عن ذلك.

(9/563)


38- باب مَنْ نَاوَلَ أَوْ قَدَّمَ إِلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا
قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلاَ يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى
5439- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسٌ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوْلِ الصَّحْفَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ وَقَالَ ثُمَامَةُ عَنْ أَنَسٍ فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ"
قوله: "باب من ناول أو قدم إلى صاحبه على المائدة شيئا. قال ابن المبارك لا بأس أن يناول بعضهم بعضا ولا يناول من هذه المائدة إلى مائدة أخرى" تقدم هذا المعنى قريبا والأثر فيه عن ابن المبارك موصول عنه في كتاب

(9/563)


39- باب الرُّطَبِ بِالْقِثَّاءِ
5440- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ"
قوله: "باب القثاء بالرطب" أي أكلهما معا، وقد ترجم له بعد سبعة أبواب "الجمع بين اللونين". قوله: "عن أبيه" هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من صغار التابعين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب من صغار الصحابة. قوله: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء" قال الكرماني: في الحديث أكل الرطب بالقثاء والترجمة بالعكس، وأجاب بأن الباء للمصاحبة أو للملاصقة، فكل منهما مصاحب للآخر أو ملاصق. قلت: وقد وقعت الترجمة في رواية النسفي على وفق لفظ الحديث، وهو عند مسلم عن يحيى بن يحيى وعبد الله ابن عون جميعا عن إبراهيم بن سعد بسند البخاري فيه بلفظ: "يأكل القثاء بالرطب" كلفظ الترجمة، وكذلك أخرجه الترمذي، وسيأتي الكلام على الحديث في "باب الجمع بين اللونين".

(9/564)


باب تضيفت أباهريرة سبعاً فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً
...
40- باب 5441- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاَثًا يُصَلِّي هَذَا ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابهِ تَمْرًا فَأَصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ"
5441م- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَنَا تَمْرًا فَأَصَابَنِي مِنْهُ خَمْسٌ أَرْبَعُ تَمَرَاتٍ وَحَشَفَةٌ ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَشَفَةَ هِيَ أَشَدُّهُنَّ لِضِرْسِي"
قوله باب كذا هو في رواية الجميع بغير ترجمة وسقط ثم الإسماعيلي فاعترض بأنه ليس فيه للرطب والقثاء

(9/564)


41- باب الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}
5442- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَبِعْنَا مِنْ الأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ"
5443- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الْجِدَادِ وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ فَجَلَسَتْ فَخَلاَ عَامًا فَجَاءَنِي الْيَهُودِيُّ عِنْدَ الْجَدَادِ وَلَمْ أَجُدَّ مِنْهَا شَيْئًا فَجَعَلْتُ أَسْتَنْظِرُهُ إِلَى قَابِلٍ فَيَأْبَى فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنْ الْيَهُودِيِّ فَجَاءُونِي فِي نَخْلِي فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ الْيَهُودِيَّ فَيَقُولُ أَبَا الْقَاسِمِ لاَ أُنْظِرُهُ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلِ رُطَبٍ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ افْرُشْ لِي فِيهِ فَفَرَشْتُهُ فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ قَامَ فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَالَ يَا جَابِرُ جُدَّ وَاقْضِ فَوَقَفَ فِي الْجَدَادِ فَجَدَدْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ وَفَضَلَ مِنْهُ فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرْتُهُ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ عُرُوشٌ وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْرُوشَاتٍ مَا يُعَرَّشُ مِنْ الْكُرُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يُقَالُ عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا. قال محمد بن يوسف قال أبو جعفر قال محمد بن إسماعيل فحلا ليس عندي مقيدا ثم قال فخلا ليس فيه شك"
قوله: "باب الرطب والتمر" كذا للجميع فيما وقفت عليه، إلا ابن بطال ففيه: "باب الرطب بالتمر" وقع فيه بموحدة بدل الواو، ووقع لعياض في باب ح ل إن في البخاري "باب أكل التمر بالرطب" وليس في حديثي الباب ما يدل لذلك أصلا. قوله: "وقول الله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآية" وروى عبد بن حميد من طريق شقيق بن سلمة قال: "لو علم الله أن شيئا للنفساء خير من الرطب لأمر مريم به" ومن طريق عمرو بن ميمون قال: "ليس للنفساء خير من الرطب أو التمر" ومن طريق الربيع بن خثيم قال: "ليس للنفساء مثل الرطب، ولا للمريض مثل العسل" أسانيدها صحيحه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى من حديث على رفعه قال: "أطعموا نفساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم "وفي إسناده ضعف. وقد قرأ الجمهور {تُسَاقِطْ} بتشديد السين وأصله تتساقط، وقراءة حمزة وهي رواية عن أبي عمرو التخفيف على حذف إحدى التاءين، وفيها قراءات أخرى في الشواذ ثم ذكر فيه حديثين: الأول حديث عائشة. قوله: "وقال محمد بن يوسف" هو الفريابي شيخ البخاري، وسفيان هو الثوري، وقد تقدم الحديث

(9/566)


وشرحه في أوائل الأطعمة من طريق، أخرى عن منصور وهو ابن عبد الرحمن بن طلحة العبدري ثم الشيبي الحجبي وأمه هي صفية بنت شيبة من صغار الصحابة، وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق ومن رواية ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري مثله، وأخرجه مسلم من رواية أبي أحمد الزبيري عن سفيان بلفظ: "وما شبعنا" والصواب رواية الجماعة، فقد أخرجه أحمد ومسلم أيضا من طريق داود بن عبد الرحمن عن منصور بلفظ: "حين شبع الناس" وإطلاق الأسود على الماء من باب التغليب، وكذا إطلاق الشبع موضع الري، والعرب تفعل ذلك في الشيئين يصطحبان فتسميهما معا باسم الأشهر منهما، وأما التسوية بين الماء والتمر مع أن الماء كان عندهم متيسرا لأن الري معه لا يحصل بدون الشبع من الطعام لمضرة شرب الماء صرفا بغير أكل، لكنها قرنت بينهما لعدم التمتع بأحدهما إذا فات ذلك من الآخر، ثم عبرت عن الأمرين الشبع والري بفعل أحدها كما عبرت عن التمر والماء بوصف أحدهما، وقد تقدم شيء من هذا في "باب من أكل حتى شبع". الثاني حديث جابر. قوله: "أبو غسان" هو محمد بن مطرف، وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة" هو المخزومي، واسم أبي ربيعة عمرو ويقال حذيفة وكان يلقب ذا الرمحين، وعبد الله بن أبي ربيعة من مسلمة الفتح وولي الجند من بلاد اليمن لعمر فلم يزل بها إلى أن جاء سنة حصر عثمان لينصره فسقط عن راحلته فمات، ولإبراهيم عنه رواية في النسائي، قال أبو حاتم إنها مرسلة، وليس لإبراهيم في البخاري سوى هذا الحديث، وأمه أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وله رواية عن أمه وخالته عائشة. قوله: "كان بالمدينة يهودي" لم أقف على اسمه. قوله: "وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ" بكسر الجيم ويجوز فتحها والذال معجمة ويجوز إهمالها، أي زمن قطع ثمر النخل وهو الصرام، قد استشكل الإسماعيلي ذلك وأشار إلى شذوذ هذه الرواية فقال: هذه القصة - يعني دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في النخل بالبركة - رواها الثقات المعروفون فيما كان على والد جابر من الدين، وكذا قال ابن التين: الذي في أكثر الأحاديث أن الدين كان على والد جابر قال الإسماعيلي والسلف إلى الجذاذ مما لا يجيزه البخاري وغيره. وفي هذا الإسناد نظر. قلت: ليس في الإسناد من ينظر في حاله سوى إبراهيم، وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وروى عنه أيضا ولده إسماعيل والزهري، وأما ابن القطان فقال: لا يعرف حاله. وأما السلف إلى الجذذ فيعارضه الأمر بالسلم إلى أجل معلوم فيحمل على أنه وقع في الاقتصار على الجذاذ اختصار، وأن الوقت كان في أصل العقد معينا، وأما الشذوذ الذي أشار إليه فيندفع بالتعدد، فإن في السياق اختلافا ظاهرا، فهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم برك في النخل المخلف عن والد جابر حتى وفى ما كان على أبيه من التمر كما تقدم بيان طرقه واختلاف ألفاظه في علامات النبوة، ثم برك أيضا في النخل المختص بجابر فيما كان عليه هو من الدين والله أعلم. قوله: "وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة" فيه التفات، أو هو مدرج من كلام الراوي، لكن يرده ويعضد الأول أن في رواية أبي نعيم في "المستخرج" من طريق الرمادي عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري فيه: "وكانت لي الأرض التي بطريق رومة" ورومة بضم الراء وسكون الواو هي البئر التي اشتراها عثمان رضي الله عنه وسبلها وهي في نفس المدينة، وقد قيل إن رومة رجل من بني غفار كانت له البئر قبل أن يشتريها عثمان نسبت إليه، ونقل الكرماني أن في بعض الروايات "دومة" بدال بدل الراء قال ولعلها دومة الجندل. قلت: وهو باطل فإن دومة الجندل لم تكن إذ ذاك فتحت حتى يمكن أن يكون لجابر فيها أرض، وأيضا ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى إلى أرض جابر وأطعمه

(9/567)


من رطبها ونام فيها وقام فبرك فيها حتى أوفاه، فلو كانت بطريق دوم الجندل لاحتاج إلى السفر، لأن بين دومة الجندل وبين المدينة عشر مراحل كل بينه أبو عبيد البكري، وقد أشار صاحب "المطالع" إلى أن دومة هذه هي بئر رومة التي اشتراها عثمان وسبلها وهي داخل المدينة فكأن أرض جابر كانت بين المسجد النبوي ورومة. قوله: "فجلست فخلا عاما" قال عياض: كذا للقابسي وأبي ذر وأكثر الرواة بالجيم واللام، قال: وكان أبو مروان بن سراج يصوب هذه الرواية إلا أنه يضبطها فجلست أي بسكون السين وضم التاء على أنها مخاطبة جابر وتفسيره. أي تأخرت عن القضاء، فخلا بفاء معجمة ولام مشددة من التخلية أو مخففة من الخلو أي تأخر السلف عاما، قال عياض: لكن ذكر الأرض أول الحديث يدل على أن الخبر عن الأرض لا عن نفسه انتهى، فاقتضى ذلك أن ضبط الرواية عند عياض بفتح السين المهملة وسكون التاء والضمير للأرض، وبعده نخلا بنون ثم معجمة ساكنة أي تأخرت الأرض عن الإثمار من جهة النخل، قال: ووقع للأصيلي: "فحبست" بحاء مهملة ثم موحدة، وعند أبي الهيثم "فخاست" بعد الخاء المعجمة ألف أي خالفت معهودها وحملها، يقال خاس عهده إذا خانه أو تغير عن عادته وخاس الشيء إذا تغير قال وهذه الرواية أثبتها. قلت: وحكى غيره: "خنست" بخاء معجمة ثم نون أي تأخرت، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" بهذه الصورة، فما أدري بحاء مهملة ثم موحدة أو بمعجمة ثم نون. وفي رواية الإسماعيلي فخنست علي عاما وأظنها بمعجمة ثم سين مهملة ثقيلة وبعدها على بفتحتين وتشديد التحتانية، فكأن الذي وقع في الأصل بصورة نخلا وكذا فخلا تصحيف من هذه اللفظة، وهي على كتب الياء بألف ثم حرف العين والعلم عند الله. ووقع في رواية أبي ذر عن المستملي: "قال محمد بن يوسف" هو الفربري قال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري قال محمد بن إسماعيل هو البخاري فحلا ليس عندي مقيدا أي مضبوطا ثم قال: "فخلا ليس فيه شك". قلت: وقد تقدم توجيهه، لكني وجدته في النسخة بجيم وبالحاء المعجمة أظهر. قوله: "ولم أجد" بفتح الهمزة وكسر الجيم بشديد الدال. قوله: "أستنظره" أي أستمهله "إلى قابل" أي إلى عام ثان. قوله: "فأخبر" بضم الهمزة وكسر الموحدة وفتح الراء على الفعل الماضي المبني للمجهول، ويحتمل أن يكون بضم الراء على صيغة المضارعة والفاعل جابر، وذكره كذلك مبالغة في استحضار صورة الحال، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" فأخبرت. قوله: "فيقول أبا القاسم لا أنظره" كذا فيه بحذف أداة النداء. قوله: "أين عريشك" أي المكان الذي اتخذته في البستان لتستظل به وتقيل فيه، وسيأتي الكلام عليه في آخر الحديث. قوله: "فجئته بقبضة أخرى" أي من طب. قوله: "فقام في الرطاب في النخل الثانية" أي المرة الثانية. وفي رواية أبي نعيم "فقام فطاف" بدل قوله في الرطاب. قوله: "ثم قال يا جابر جذ" فعل أمر بالجذاذ "واقض" أي أوف. قوله: "فقال أشهد أني رسول الله" قال ذلك صلى الله عليه وسلم لما فيه من خرق العادة الظاهر من إيفاء الكثير من القليل الذي لم يكن يظن أنه يوفي منه البعض فضلا عن الكل فضلا عن أن تفضل فضلة فضلا عن أن يفضل قدر الذي كان عليه من الدين. قوله: "عرش وعريش بناء. وقال ابن عباس: معروشات ما يعرش من الكرم وغير ذلك، يقال عروشها أبنيتها" ثبت هذا في رواية المستملي، والنقل عن ابن عباس في ذلك تقدم موصولا في أول سورة الأنعام، وفيه النقل عن غيره بأن المعروش من الكرم ما يقوم على ساق، وغير المعروش ما يبسط على وجه الأرض، وقوله عرش وعريش بناء هو تفسير أبي عبيدة، وقد تقدم نقله عنه في تفسير الأعراف،

(9/568)


وقوله: "عروشها أبنيتها" هو تفسير قوله: {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وهو تفسير أبي عبيدة أيضا، والمراد هنا تفسير عرش جابر الذي رقد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فالأكثر على أن المراد به ما يستظل به، وقيل المراد به السرير، قال ابن التين: في الحديث أنهم كانوا لا يخلون من دين لقلة الشيء إذ ذاك عندهم، وأن الاستعاذة من الدين أريد بها الكثير منه أو ما لا يجد له وفاء، ومن ثم مات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير أخذه لأهله. وفيه زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ودخول البساتين والقيلولة فيها والاستظلال بظلالها، والشفاعة في إنظار الواجد غير العين التي استحقت عليه ليكون أرفق به.

(9/569)


42- باب أَكْلِ الْجُمَّارِ
5444- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ"
قوله: "باب أكل الجمار" بضم الجيم وتشديد الميم، ذكر فيه حديث ابن عمر في النخلة، وقد تقدم شرحه في كتاب العلم مستوفى، وتقدم الكلام على خصوص الترجمة بأكل الجمار في كتاب البيوع. حديث ابن عمر في النخلة، قد تقدم شرحه في كتاب العلم مستوفى.

(9/569)


43- باب الْعَجْوَةِ
5445- حَدَّثَنَا جُمْعَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ"
قوله: "باب العجوة" بفتح العين المهملة وسكون الجيم نوع من التمر معروف. قوله: "حدثنا جمعة" بضم الجيم وسكون الميم "ابن عبد الله" أي ابن زياد بن شداد السلمي أبو بكر البلخي، يقال إن اسمه يحيى وجمعه لقبه. ويقال له أيضا أبو خاقان، كان من أئمة الرأي أولا ثم صار من أئمة الحديث قاله ابن حبان في الثقات، ومات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وماله في البخاري بل ولا في الكتب الستة سوى هذا الحديث، وسيأتي شرح حديث العجوة في كتاب الطب إن شاء الله تعالى. وقوله هنا "من تصبح كل يوم سبع تمرات" وقع في نسخة الصغاني بزيادة الباء في أوله فقال: "بسبع".

(9/569)


44- باب الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ
4556- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَرَزَقَنَا تَمْرًا فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ نَأْكُلُ وَيَقُولُ لاَ تُقَارِنُوا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(9/569)


45- باب الْقِثَّاءِ
5447- حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ"
قوله: "باب القثاء" يأتي شرح حديثه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.

(9/572)


46 - باب بَرَكَةِ النَّخْلِ
5448- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً تَكُونُ مِثْلَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ النَّخْلَةُ"
قوله: "باب بركة النخلة" ذكر فيه حديث ابن عمر مختصرا وقد تقدم التنبيه عليه قريبا وأنه مر شرحه مستوفي في كتاب العلم.

(9/572)


47- باب جَمْعِ اللَّوْنَيْنِ أَوْ الطَّعَامَيْنِ بِمَرَّةٍ
5449- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ"
قوله: "باب جمع اللونين أو الطعامين بمرة" أي في حالة واحدة، ورأيت في بعض الشروح "بمرة مرة" ولم أر التكرار في الأصول، ولعل البخاري لمح إلى تضعيف حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بإناء - أو بقعب - فيه لبن وعسل فقال : أدمان في إناء، لا آكله ولا أحرمه" أخرجه الطبراني وفيه راو مجهول. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، وقد تقدم إخراج البخاري لهذا الحديث قبل هذا الباب سواء وكذا فيما قبله بأبواب بأعلى من هذا درجة والسبب في ذلك أن مداره على إبراهيم بن سعد، قال الترمذي صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه. قوله: "يأكل الرطب بالقثاء" وقع في رواية الطبراني كيفية أكله لهما، فأخرج في "الأوسط" من حديث عبد الله بن جعفر قال: "رأيت في يمين النبي صلى الله عليه وسلم قثاء وفي شماله رطبا وهو يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة" وفي سنده ضعف. وأخرج فيه وهو في الطب لأبي نعيم من حديث أنس "كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه" وسنده ضعيف أيضا. وأخرج النسائي بسند صحيح عن حميد عن أنس "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرطب والخربز" وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي نوع من البطيخ الأصفر، وقد تكبر القثاء فتصفر من شدة الحر فتصير كالخربز كما شاهدته كذلك بالحجاز، وفي هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر، واعتل بأن في الأصفر حرارة كما في الرطب، وقد ورد التعليل بأن أحدهما يطفئ حرارة الأخر، والجواب عن ذلك بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة وإن كان فيه - لحلاوته - طرف حرارة، والله أعلم. وفي النسائي أيضا بسند صحيح عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل البطيخ بالرطب" وفي رواية له جمع بين البطيخ والرطب جميعا. وأخرج ابن ماجه عن عائشة "أرادت أمي تعالجني للسمنة لتدخلني على النبي صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء فسمنت كأحسن سمنة" وللنسائي من حديثها "لما تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم عالجوني بغير شيء، فأطعموني القثاء بالتمر فسمنت عليه كأحسن الشحم" وعند أبي نعيم في الطب من وجه آخر عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبويها بذلك" ولابن ماجه من حديث ابن بسر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الزبد والتمر" الحديث، ولأحمد من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: "دخلت على رجل وهو يتمجع لبنا بتمر فقال: ادن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماهما الأطيبين" وإسناده قوي، قال النووي: في حديث الباب جواز أكل الشيئين من الفاكهة وغيرها معا وجواز أكل طعامين معا، ويؤخذ منه جواز التوسع في المطاعم، ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك. وما نقل عن السلف من خلاف هذا محمول على الكراهة منعا لاعتياد التوسع والترفه والإكثار لغير مصلحة دينية. وقال القرطبي، يؤخذ منه جواز مراعاة صفات الأطعمة وطبائعها واستعمالها على الوجه اللائق بها على قاعدة الطب، لأن في الرطب حرارة وفي القثاء برودة، فإذا أكلا معا اعتدلا، وهذا أصل كبير في المركبات من الأدوية. وترجم أبو نعيم في الطب "باب الأشياء التي تؤكل مع الرطب ليذهب ضرره" فساق هذا الحديث، لكن لم يذكر الزيادة التي ترجم بها، وهي عند أبي داود في حديث عائشة بلفظ: "كان يأكل البطيخ بالرطب فيقول: يكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا" والطبيخ بتقديم الطاء لغة في البطيخ بوزنه،والمراد

(9/573)


به الأصفر بدليل ورود الحديث بلفظ الخربز بدل البطيخ، وكان يكثر وجوده بأرض الحجاز بخلاف البطيخ الأخضر. "تنبيه": سقطت هذا الترجمة وحديثها من رواية النسفي، ولم يذكرهما الإسماعيلي أيضا.

(9/574)


48- باب مَنْ أَدْخَلَ الضِّيفَانَ عَشَرَةً عَشَرَةً وَالْجُلُوسِ عَلَى الطَّعَامِ عَشَرَةً عَشَرَةً
5450- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَنَسٍ ح وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ سِنَانٍ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أُمَّهُ عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ وَجَعَلَتْ مِنْهُ خَطِيفَةً وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا ثُمَّ بَعَثَتْنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَدَعَوْتُهُ قَالَ وَمَنْ مَعِي فَجِئْتُ فَقُلْتُ إِنَّهُ يَقُولُ وَمَنْ مَعِي فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَدَخَلَ فَجِيءَ بِهِ وَقَالَ أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ قَالَ أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ قَالَ أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ"
قوله: "باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة، والجلوس على الطعام عشرة عشرة" أي إذا احتيج إلى ذلك لضيق الطعام أو مكان الجلوس عليه. قوله: "عن الجعد أبي عثمان عن أنس، وعن هشام عن محمد عن أنس، وعن سنان أبي ربيعة عن أنس" هذه الأسانيد الثلاثة لحماد بن زيد، وهشام هو ابن حسان، ومحمد هو ابن سيرين، وسنان أبو ربيعة قال عياض وقع في رواية ابن السكن سنان بن أبي ربيعة وهو خطأ وإنما هو سنان أبو ربيعة وأبو ربيعة كنيته. قلت: الخطأ فيه ممن دون ابن السكن، وسنان هو ابن ربيعة وهو أبو ربيعة وافقت كنيته اسم أبيه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وهو مقرون بغيره، وقد تكلم فيه ابن معين وأبو حاتم. وقال ابن عدي: له أحاديث قليلة، وأرجو أنه لا بأس به. قوله: "جشته" بجيم وشين معجمة أي جعلته جشيشا، والجشيش دقيق غير ناعم. قوله: "خطيفة" بخاء معجمة وطاء مهملة وزن عصيدة ومعناه، كذا تقدم الجزم به في "علامات النبوة" وقيل أصله أن يؤخذ لبن ويدر عليه دقيق ويطبخ ويلعقها الناس فيخطفونها بالأصابع والملاعق فسميت بذلك، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وقد تقدم شرح هذه القصة مستوفى في "علامات النبوة" وسياق الحديث هناك أتم مما هنا. وقوله في هذه الرواية: "إنما هو شيء صنعته أم سليم" أي هو شيء قليل، لأن الذي يتولى صنعته امرأة بمفردها لا يكون كثيرا في العادة، وقد قدمت في "علامات النبوة" أن في بعض روايات مسلم ما يدل على أن في سياق الباب هنا اختصارا مثل قوله في رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس "فقال أبو طلحة يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى" وفي رواية عمرو بن عبد الله عن أنس "فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: إن الله سيبارك فيه:" قال ابن بطال: الاجتماع على الطعام من أسباب البركة، وقد روى أبو داود من حديث وحشي بن حرب رفعه: "اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم" قال: وإنما أدخلهم عشرة عشرة والله أعلم لأنها كانت قصعة واحدة ولا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا

(9/574)


على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلهم عشرة عشرة ليتمكنوا من الأكل ولا يزدحموا، قال: وليس في الحديث المنع عن اجتماع أكثر من عشرة على الطعام.

(9/575)


باب مايكره من الثوم والبقول
...
49- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثُّومِ، وَالْبُقُولِ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5441- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ قِيلَ لِأَنَسٍ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الثُّومِ فَقَالَ مَنْ أَكَلَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا"
5452- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا زَعَمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا"
قوله: "باب ما يكره من الثوم والبقول" أي التي لها رائحة كريهة، وهل النهي عن دخول المسجد لأكلها على التعميم أو على من أكل النيئ منها دون المطبوخ؟ وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الصلاة. ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث أحدها قوله: "فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" تقدم في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة من رواية نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر "من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا" ووقع لنا سبب هذا الحديث: فأخرج عثمان بن سعيد الدارمي في "كتاب الأطعمة" من رواية أبي عمرو هو بشر بن حرب عنه قال: "جاء قوم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكلوا الثوم والبصل، فكأنه تأذى بذلك فقال:" فذكره. ثانيها حديث أنس أورده عن مسدد، وتقدم في الصلاة عن أبي معمر، كلاهما عن عبد الوارث وهو ابن سعيد عن عبد العزيز هو ابن صهيب. ثالثها حديث جابر، وقد تقدم أيضا هناك موصولا ومعلقا وفيه ذكر البقول، ولكنه اختصره هنا. وقوله: "كل فإني أناجي من لا تناجي" فيه إباحته لغير صلى الله عليه وسلم حيت لا يتأذى به المصلون جمعا بين الأحاديث. واختلف في حقه هو صلى الله عليه وسلم فقيل: كان ذلك محرما عليه، والأصح أنه مكروه لعموم قوله: "لا" في جواب أحرام هو؟ وحجة الأول أن العلة في المنع ملازمة الملك له صلى الله عليه وسلم، وأنه ما من ساعة إلا وملك يمكن أن يلقاه فيها. وفي هذه الأحاديث بيان جواز أكل الثوم والبصل والكراث، إلا أن من أكلها يكره له حضور المسجد، وقد ألحق بها الفقهاء ما في معناها من البقول الكريهة الرائحة كالفجل، وقد ورد فيه حديث في الطبراني وقيده عياض بمن يتجشى منه، وألحق به بعض الشافعية الشديد البخر ومن به جراحة تفوح رائحتها، واختلف في الكراهية: فالجمهور على التنزيه، وعن الظاهرية التحريم، وأغرب عياض فنقل عن أهل الظاهر تحريم تناول هذه الأشياء مطلقا لأنها تمنع حضور الجماعة، والجماعة فرض عين، ويكن صرح ابن حزم بالجواز، ثم يحرم على من يتعاطى ذلك حضور المسجد، وهو أعلم بمذهبه من غيره.

(9/575)


باب الكباث وهو ورق الأراك
...
50- باب الْكَبَاثِ وَهُوَ ثَمَرُ الأَرَاكِ
5453- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ

(9/575)


باب المضمضة بعض الطعام
...
51- باب الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ
5445- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعَا بِطَعَامٍ فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ فَأَكَلْنَا

(9/576)


فَقَامَ إِلَى الصَّلاَةِ فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا"
5455- قَالَ يَحْيَى سَمِعْتُ بُشَيْرًا يَقُولُ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ قَالَ يَحْيَى وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ دَعَا بِطَعَامٍ فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مَعَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا مَعَهُ ثُمَّ صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَقَالَ سُفْيَانُ كَأَنَّكَ تَسْمَعُهُ مِنْ يَحْيَى"
قوله: "باب المضمضة بعد الطعام" ذكر فيه حديث سويد بن النعمان في المضمضة بعد السويق، وساقه بسند واحد بلفظين قال في أحدهما "فأكلنا" وزاد في الآخر "فلكناه" وقد تقدم بإسناده ومتنه في أوائل الأطعمة. حديث سويد بن النعمان في المضمضة بعد السويق، وساقه بسند واحد بلفظين قال في أحدهما "فأكلنا" وزاد في الآخر "فلكناه" وقد تقدم بإسناده ومتنه في أوائل الأطعمة. وقال في آخره هناك "قال سمعته منه عودا على بدء" وقال في آخره هنا "قال سفيان: كأنك تسمعه من يحيى بن سعيد" وهو محمول على أن عليا وهو ابن المديني سمعه من سفيان مرارا فربما غير في بعضها بعض الألفاظ.

(9/577)


52- باب لَعْقِ الأَصَابِعِ وَمَصِّهَا قَبْلَ أَنْ تُمْسَحَ بِالْمِنْدِيلِ
5456- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا"
قوله: "باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل" كذا قيده بالمنديل، وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرق الحديث كما أخرجه مسلم من طريق سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه لكن حديث جابر المذكور في الباب الذي يليه صريح في أنهم لم يكن لهم مناديل، ومفهومه يدل على أنهم لو كانت لهم مناديل لمسحوا بها، فيحمل حدث النهي على من وجد ولا مفهوم له بل الحكم كذلك لو مسح بغير المنديل، وأما قوله في الترجمة "ومصها" فيشير إلى ما وقع في بعض طرقه عن جابر أيضا، وذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي سفيان عنه بلفظ: "إذا طعم أحدكم فلا يمسح يده حتى يمصها" وذكر القفال في "محاسن الشريعة" أن المراد بالمنديل هنا المنديل المعد لإزالة الزهومة، لا المنديل المعد للمسح بعد الغسل. قوله: "عن عمرو بن دينار عن عطاء" في رواية الحميدي ومن طريقه الإسماعيلي: "حدثنا عمرو بن دينار أخبرني عطاء". قوله: "عن ابن عباس" في رواية ابن جريج عند مسلم: "سمعت عطاء سمعت ابن عباس" زاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان سمعت عمر بن قيس يسأل عمرو بن دينار عن هذا الحديث فقال: هو عن ابن عباس، قال: فإن عطاء حدثناه عن جابر، قال حفظناه عن عطاء عن ابن عباس قبل أن يقدم علينا جابر" ا ه. وهذا إن كان عمر بن قيس حفظه احتمل أن يكون عطاء سمعه من جابر بعد أن سمعه من ابن عباس، ويؤيده ثبوته من حديث جابر عند سلم وإن كان من غير طريق عطاء، وفي سياقه زيادة ليست في حديث ابن عباس، ففي أوله "إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان" ثم ذكر حديث الباب، وفي آخره زيادة أيضا سأذكرها، فلعل ذلك سبب أخذ عطاء له عن جابر. قوله: "إذا أكل أحدكم" زاد مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وآخرين عن سفيان "طعاما". وفي رواية ابن جريج "إذا أكل أحدكم من الطعام". قوله: "فلا يمسح يده" في حديث كعب بن

(9/577)


مالك عند مسلم : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها" فيحتمل أن يكون أطلق على الأصابع اليد، ويحتمل وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكف كلها فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها أو بأصابعه فقط أو ببعضها: وقال ابن العربي في "شرح الترمذي" : يدل على الأكل بالكف كلها أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرق العظم وينهش اللحم، ولا يمكن ذلك عادة إلا بالكف كلها. وقال شيخنا: فيه نظر لأنه يمكن بالثلاث، سلمنا لكن هو ممسك بكفه كلها لا آكل بها، سلمنا لكن محل الضرورة لا يدل على عموم الأحوال. ويؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السنة الأكل بثلاث أصابع وإن كان الأكل بأكثر منها جائزا، وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان "عن عبيد الله ابن أبي يزيد أنه رأى ابن عباس إذا أكل أصابعه الثلاث" قال عياض: والأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب وتكبير اللقمة، ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن اضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلفيفه بالثلاث فيدعمه بالرابعة أو الخامسة، وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس" فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال. قوله: "حتى يلعقها" بفتح أوله من الثلاثي أي يلعقها هو "أو يلعقها" بضم أوله من الرباعي أي يلعقها غيره، قال النووي: المراد إلعاق غيره ممن لا يتقذر ذلك من زوجة وجارية وخادم وولد، وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد البركة بلعقها، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها. وقال البيهقي: إن قوله: "أو" شك من الراوي، ثم قال: فإن كانا جميعا محفوظين فإنما أراد أن يلعقها صغيرا أو من يعلم أنه لا يتقدر بها، ويحتمل أن يكون أراد أن يلعق إصبعه فمه فيكون بمعنى يلعقها، يعني فتكون "أو" للشك. قال ابن دقيق العيد: جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات فإنه "لا يدري في أي طعامه البركة" وقد يعلل بأن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صح الحديث بالتعليل لم يعدل عنه. قلت: الحديث صحيح أخرجه مسلم في آخر حديث جابر ولفظه من حديث جابر "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما أصابها من أذى وليأكلها، ولا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها، فإنه لا يدري أي طعامه البركة" زاد فيه النسائي من هذا الوجه "ولا يرفع الصحفة حتى يلعقها أو يلعقها" ولأحمد من حديث ابن عمر نحوه بسند صحيح، وللطبراني من حديث أبى سعيد نحوه بلفظ: "فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له" ولمسلم نحوه من حديث أنس ومن حديث أبي هريرة أيضا، والعلة المذكورة لا تمنع ما ذكره الشيخ، فقد يكون للحكم علتان فأكثر، والتنصيص على واحدة لا ينفي غيرها، وقد أبدى عياض علة أخرى فقال: إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام. قال النووي: معنى قوله: "في أي طعامه البركة" : أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أن تلك البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة ا ه. وقد وقع لمسلم في رواية أبي سفيان عن جابر أول الحديث: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان" وله نحوه في حديث أنس وزاد: "وأمر بأن تسلت القصعة" قال الخطابي: السلت تتبع ما بقي فيها من الطعام، قال النووي: والمراد بالبركة ما تحصل به التغذية وتسلم عاقبته من الأذى ويقوى على الطاعة، والعلم عند الله. وفي الحديث رد على من كره لعق الأصابع استقذارا، نعم يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل لأنه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثر ريقه، قال الخطابي: عاب قوم أفسد

(9/578)


عقلهم الترفه فزعموا أن لعق الأصابع مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع أو الصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرا، وليس في ذلك أكبر من مصه أصابعه بباطن شفتيه. ولا يشك عاقل في أن لا بأس بذلك، فقد يمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه ثم لم يقل أحد إن ذلك قذارة أو سوء أدب. وفيه استحباب مسح اليد بعد الطعام، قال عياض: محله فيما لم يحتج فيه إلى الغسل مما ليس فيه غمر ولزوجة مما لا يذهبه إلا الغسل، لما جاء في الحديث من الترغيب في غسله والحذر من تركه. كذا قال وحديث الباب يقتضي منع الغسل والمسح بغير لعق لأنه صريح في الأمر باللعق دونهما تحصيلا للبركة، نعم قد يتعين الندب إلى الغسل بعد اللعق لإزالة الرائحة، وعليه يحمل الحديث الذي أشار إليه، وقد أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة رفعه: "من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه" أخرجه الترمذي دون قوله: "ولم يغسله" وفيه المحافظة على عدم إهمال شيء من فضل الله كالمأكول أو المشروب وإن كان تافها حقيرا في العرف. "تكملة": وقع في حديث كعب بن عجرة عند الطبراني في "الأوسط" صفة لعق الأصابع ولفظه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث: بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها: الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام" قال شيخنا في "شرح الترمذي" كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثا لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما تنزل في الطعام، ويحتمل أن الذي يلعق يكون بطن كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ بالوسطى انتقل إلى السبابة على جهة يمينه وكذلك الإبهام، والله أعلم

(9/579)


53- باب الْمِنْدِيلِ
5457- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَقَالَ لاَ قَدْ كُنَّا زَمَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ إِلاَّ قَلِيلًا فَإِذَا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ إِلاَّ أَكُفَّنَا وَسَوَاعِدَنَا وَأَقْدَامَنَا ثُمَّ نُصَلِّي وَلاَ نَتَوَضَّأُ"
قوله: "باب المنديل" ترجم له ابن ماجه: "مسح اليد بالمنديل". قوله: "حدثني محمد بن فليح" أي ابن سليمان المدني. قوله: "حدثني أبي عن سعيد بن الحارث" أي ابن يحيى المعلى الأنصاري، وقد أخرجه ابن ماجه من رواية ابن وهب عن محمد بن أبي يحيى عن أبيه عن سعيد، فجزم أبو نعيم في "المستخرج" بأن محمد بن أبي يحيى هو ابن فليح لأن فليحا يكنى أبا يحيى وهو معرف بالرواية عن سعيد بن الحارث. وقال غيره: هو محمد بن أبي يحيى الأسلمي والد إبراهيم شيخ الشافعي، واسم أبي يحيى سمعان، وكأن الحامل على ذلك كون ابن وهب يروي عن فليح نفسه فاستبعد قائل ذلك أن يروى عن ابنه محمد بن فليح عنه، ولا عجب في ذلك. والذي ترجح عندي الأول فإن لفظهما واحد. قوله: "سأله عن الوضوء مما مست النار" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي عامر عن فليح عن سعيد "قلت لجابر: هل علي فيما مست النار وضوء" ؟ وقد تقدم حكم المسح في الباب الذي قبله، وحكم الوضوء مما مست

(9/579)


النار في كتاب الطهارة.

(9/580)


باب مايقول إذا فرغ من طعامه
...
54- باب مَا يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ
5458- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا"
[الحديث 5458- طرفه في: 5459]
5459- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ وَقَالَ مَرَّةً إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مَكْفُورٍ وَقَالَ مَرَّةً الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى رَبَّنَا"
قوله: "باب ما يقول إذا فرغ من طعامه" قال ابن بطال: اتفقوا على استحباب الحمد بعد الطعام، ووردت في ذلك أنواع، يعني لا يتعين شيء منها. قوله: "سفيان" هو الثوري، وثور بن يزيد هو الشامي، وأول اسم أبيه ياء تحتانية. وقد أورد البخاري هذا الإسناد عن ثور نازلا ثم أورده عاليا عنه ومداره في أكثر الطرق عليه، وقد تابعه بعضه عامر بن جشيب وهو بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة وآخره موحدة وزن عظيم، أخرجه الطبراني وابن أبي عاصم من طريقه فقال في سياقه "عن عامر عن خالد قال: شهدنا صنيعا - أي وليمة - في منزل عبد الأعلى ومعنا أبو أمامة" وذكره البخاري في تاريخه من هذا الوجه فقال: "عبد الأعلى بن هلال السلمي". قوله: "إذا رفع مائدته" قد ذكره في الباب بلفظ: "إذا فرغ من طعامه" وأخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع عن ثور بلفظ: "إذا فرغ من طعامه ورفعت مائدته" فجمع اللفظين، ومن وجه آخر عن ثور بلفظ: "إذا رفع طعامه من بين يديه" ووقع في رواية عامر بن جشيب بسنده عن أبي أمامة "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول عند فراغي من الطعام ورفع المائدة" الحديث، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يأكل على خوان قط، وقد فسروا المائدة بأنها خوان عليه طعام، وأن بعضهم أجاب أن أنسا ما رأى ذلك ورواه غيره، والمثبت مقدم على النافي، أو المراد بالخوان صفة مخصوصة، والمائدة تطل على كل ما يوضع عليه الطعام لأنها إما من ماد يميد إذا تحرك أو أطعم، ولا يختص ذلك بصفة مخصوصة، وقد تطلق المائدة ويراد بها نفس الطعام أو بقيته أو إناؤه، وقد نقل عن البخاري أنه قال: إذا أكل الطعام على شيء ثم رفع قيل رفعت المائدة. قوله: "الحمد لله كثيرا" في رواية الوليد عن ثور عند ابن ماجه: "الحمد لله حمدا كثيرا". قوله: "غير مكفي" بفتح الميم وسكون الكاف وكسر الفاء وتشديد التحتانية، قال ابن بطال يحتمل أن يكون من كفأت الإناء، فالمعنى: غير مردود عليه إنعامه. ويحتمل أن يكون من الكفاية أي أن الله غير مكفي رزق عباده، لأنه يكفيهم أحد غيره. وقال ابن التين: أي غير محتاج إلى أحد، لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم، وهذا قول الخطابي. وقال القزاز:. معناه أنا غير مكتف بنفسي عن كفايته. وقال الداودي: معناه لم أكتف من فضل الله ونعمته. وقال ابن التين: وقول الخطابي أولى لأن مفعولا بمعنى مفتعل فيه بعد وخروج عن الظاهر، وهذا كله على أن الضمير لله، ويحتمل أن يكون الضمير للحمد. وقال إبراهيم الحربي: الضمير للطعام، ومكفي بمعنى

(9/580)


مقلوب من الإكفاء وهو القلب غير أنه لا يكفي الإناء للاستغناء عنه. وذكر ابن الجوزي عن أبي منصور الجواليقي أن الصواب غير مكافأ بالهمزة، أي أن نعمة الله لا تكافأ. قلت: وثبتت هذه اللفظة هكذا في حديث أبي هريرة، لكن الذي في حديث الباب غير مكفي بالياء، ولكل معنى. قوله: "كفانا وأروانا" هذا يؤيد الضمير إلى الله تعالى لأنه تعالى هو الكافي لا المكفي، وكفانا هو من الكفاية، وهي أعم من الشبع والري وغيرهما، فأروانا على هذا من الخاص بعد العام. ووقع في رواية ابن السكن عن الفربري "وأوانا" بالمد من الإيواء. ووقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" ولأبي داود والترمذي من حديث أبي أيوب "الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا" وأخرج النسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة ما في حديث أبي سعيد وأبي أمامة وزيادة في حديث مطول، وللنسائي من طريق عبد الرحمن بن جبير المصري أنه حدثه رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين أنه "كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه طعامه يقول: بسم الله، فإذا فرغ قال: اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت" وسنده صحيح. قوله: "ولا مكفور" أي مجحود فضله ونعمته، وهذا مما يقوى أن الضمير لله تعالى. قوله: "ولا مودع" بفتح الدال الثقيلة أي غير متروك، ويحتمل كسرها على أنه حال من القائل أي غير تارك. قوله: "ولا مستغنى عنه" بفتح النون وبالتنوين. قوله: "ربنا" بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو ربنا، أو على أنه مبتدأ خبره متقدم، ويجوز النصب على المدح أو الاختصاص أو إضمار أعنى، قال ابن التين ويجوز الجر على أنه يدل على الضمير في عنه. وقال غيره على البدل من الاسم في قوله: "الحمد لله" وقال ابن الجوزي "ربنا" بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء. قال الكرماني: بحسب رفع غير أي ونصبه ورفع ربنا ونصبه، والاختلاف في مرجع الضمير يكثر التوجيهات في هذا الحديث.

(9/581)


55- باب الأَكْلِ مَعَ الْخَادِمِ
5460- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ"
قوله: "باب الأكل مع الخادم" أي على قصد التواضع، والخادم يطلق على الذكر والأنثى أعم من أن يكون رقيقا أو حرا، محله فيما إذا كان السيد رجلا أن يكون الخادم إذا كان أنثى ملكه أو محرمه أو ما في حكمه وبالعكس قوله: "محمد بن زياد" هو الجمحي. قوله: "إذا أتى أحدكم" بالنصب "خادمه" بالرفع. قوله: "فإن لم يجلسه معه" في رواية مسلم: "فليقعده معه فليأكل" وفي رواية إسماعيلي بن أبي خالد عن أبيه عن أبي هريرة عند أحمد والترمذي "فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله" وفي رواية لأحمد عن عجلان عن أبي هريرة "فادعه فإن أبي فأطعمه منه" ولابن ماجه من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة "فليدعه فليأكل معه، فإن لم يفعل" وفاعل أبي وكذا إن لم يفعل يحتمل أن يكون السيد، والمعنى إذا ترفع عن مؤاكلة غلامه، ويحتمل أن يكون الخادم إذا تواضع عن مؤاكلة سيده، ويؤيد الاحتمال الأول أن في رواية جابر عند أحمد "أمرنا أن ندعوه، فإن كره أحدنا

(9/581)


أن يطعم معه فليطعمه في يده" وإسناده حسن. قوله: "فليناوله أكلة أو أكلتين" بضم الهمزة أي اللقمة، وأو للتقسيم بحسب حال الطعام وحال الخادم، وقوله: "أو لقمة أو لقمتين" هو شك من الراوي وقد رواه الترمذي بلفظ: "لقمة" فقط وفي رواية مسلم تقييد ذلك بما إذا كان الطعام قليلا ولفظه: "فإن كان الطعام مشفوها قليلا" وفي رواية أبي داود "يعني قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين" قال أبو داود: يعني لقمة أو لقمتين، ومقتضى ذلك أن الطعام إذا كان كثيرا فإما أن يقعده معه وإما أن يجعل حظه منه كثيرا. قوله: "فإنه ولي حره" أي عند الطبخ "وعلاجه" أي عند تحصيل آلاته، وقبل وضع القدر على النار، ويؤخذ من هذا أن في معنى الطباخ حامل الطعام لوجود المعنى فيه وهو تعلق نفسه به، بل يؤخذ منه الاستحباب في مطلق خدم المرء ممن يعاني ذلك، وإلى ذلك يومئ إطلاق الترجمة، وفي هذا تعليل الأمر المذكور، وإشارة إلى أن للعين حظا في المأكول فينبغي صرفها بإطعام صاحبها من ذلك الطعام لتسكن نفسه فيكون أكف لشره. قال المهلب: هذا الحديث يفسر حديث أبي ذر في الأمر بالتسوية مع الخادم في المطعم والملبس، فإنه جعل الخيار إلى السيد في إجلاس الخادم معه وتركه. قلت: وليس في الأمر في قوله في حديث أبي ذر "أطعموهم مما تطعمون" إلزام بمؤاكلة الخادم، بل فيه أن لا يستأثر عليه بشيء بل يشركه في كل شيء، لكن بحسب ما يدفع به شر عينه. وقد نقل ابن المنذر عن جميع أهل العلم أن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلد، وكذلك القول في الأدم والكسوة، وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان الأفضل أن يشرك معه الخادم في ذلك والله أعلم. واختلف حكم هذا الأمر بالإجلاس أو المناولة، فقال الشافع بعد أن ذكر الحديث: هذا عندنا والله أعلم على وجهين: أولهما بمعناه أن إجلاسه معه أفضل، فإن لم فعل فليس بواجب، أو يكون بالخيار بين أن يجلسه أو يناوله، وقد يكون أمره اختيارا غير حتم ا ه. ورجح الرافعي الاحتمال الأخير، وحمل الأول على الوجوب، ومعناه أن الإجلاس لا يتعين، لكن إن فعله كان أفضل وإلا تعينت المناولة، ويحتمل أن الواجب أحدهما لا بعينه. والثاني أن الأمر للندب مطلقا. "تنبيه": في قوله في رواية مسلم: "فإن كان الطعام مشفوها" بالشين المعجمة والفاء فسره بالقليل، وأصله الماء الذي تكثر عليه الشفاه حتى يقل إشارة إلى أن محل الإجلاس أو المناولة ما إذا كان الطعام قليلا وإنما كان كذلك لأنه إذا كان كثيرا وسع السيد والخادم، وقد تقدم أن العلة في الأمر بذلك أن تسكن نفس الخادم بذلك، وهو حاصل مع الكثرة دون القلة، فإن القلة مظنة أن لا يفضل منه شيء. ويؤخذ من قوله: "فإن كان مشفوها" أن الأمر الوارد لمن طبخ بتكثير المرق ليس على سبيل الوجوب، والله أعلم.

(9/582)


56- باب الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ. فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر. فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" هذا الحديث من الأحاديث المعلقة التي لم تقع في هذا الكتاب موصولة، وقد أخرجه المصنف في "التاريخ" والحاكم في "المستدرك" من رواية سليمان بن بلال عن محمد بن عبد الله بن أبي حرة بضم المهملة وتشديد الراء عن عمه حكيم بن أبي، حرة عن سليمان الأغر عن أبي هريرة ولفظه: "إن للطاعم الشاكر من الأجر مثل ما للصائم الصابر" وقد اختلف فيه على محمد فأخرجه ابن ماجه من رواية الدراوردي عنه عن عمه حكيم عن سنان بن سنة الأسلمي وقيل عن الدراوردي عن موسى بن عقبة

(9/582)


عن محمد عن عمه عن رجل من أسلم، لكن صرح الدراوردي في رواية أحمد بأن محمد بن أبي حرة أخبره، فلعله كان حمله عن موسى بن عقبة عنه ثم سمعه منه، وقد رجح أبو زرعة رواية الدراوردي هذه، وذكر البخاري في التاريخ من رواية وهيب عن موسى بن عقبة عن حكيم بن أبي حرة عن بعض الصحابة. وأخرج ابن خزيمة وابن ماجه من رواية محمد بن معن بن محمد الغفاري عن أبيه عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم من رواية محمد بن معن عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأخرجه ابن خزيمة من رواية عمر بن علي عن معن بن محمد عن سعيد المقبري قال: "كنت أنا وحنظلة بن علي الأسلمي بالبقيع مع أبي هريرة، فحدثنا أبو هريرة به" وهذا محمول على أن معن بن محمد حمله عن سعيد ثم حمله عن حنظلة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية معتمر بن سليمان عن معمر عن سعيد المقبري به لكن هذه الرواية انقطاع خفي على ابن حبان فقد رويناه في "مسند مسدد" عن معتمر عن معمر عن رجل من بني غفار عن المقبري، وكذلك أخرجه عبد الرزاق في جامعه عن معمر، وهذا الرجل هو معن بن محمد الغفاري فيما أظن لاشتهار الحديث من طريقه، قال ابن التين: الطاعم هو الحسن الحال في المطعم وقال ابن بطال: هذا من تفضل الله على عباده أن جعل للطاعم إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه ثواب الصائم الصابر. وقال الكرماني: التشبيه هنا في أصل الثواب لا في الكمية ولا الكيفية، والتشبيه لا يستلزم المماثلة من جميع الأوجه. وقال الطيبي: ربما توهم متوهم أن ثواب الشكر بقصر عن ثواب الصبر فأزيل توهمه، أو وجه الشبه اشتراكهما في حبس النفس، فالصابر يحبس نفسه على طاعة المنعم والشاكر يحبس نفسه على محبته ا ه. وفي الحديث الحث على شكر الله على جميع نعمه إذ لا يختص ذلك بالأكل. وفيه رفع الاختلاف المشهور في الغنى الشاكر والفقير الصابر وأنهما سواء، كذا قيل، ومساق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر لأن الأصل أن المشبه به أعلى درجة من المشبه، والتحقيق عند أهل الحذق أن لا يجاب في ذلك بجواب كلي، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأحوال. نعم عند الاستواء من كل جهة، وفرض رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، ولا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيء، والله أعلم. وسيكون لنا عودة إلى الكلام على هذه المسألة في كتاب الرقاق إن لله تعالى. وقد تقدم القول فيها في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة في الكلام على حديث: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى".

(9/583)


57- باب الرَّجُلِ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَقُولُ وَهَذَا مَعِي
وَقَالَ أَنَسٌ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لاَ يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ
5461- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَعَرَفَ الْجُوعَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ إِلَى غُلاَمِهِ اللَّحَّامِ فَقَالَ اصْنَعْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَصَنَعَ لَهُ طُعَيِّمًا ثُمَّ أَتَاهُ فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يَا أَبَا شُعَيْبٍ إِنَّ رَجُلًا تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ قَالَ لاَ بَلْ أَذِنْتُ لَهُ"

(9/583)


قوله: "باب الرجل يدعى إلى طعام فيقول: وهذا معي" ذكر فيه حديث أبي مسعود في قصة الغلام اللحام، وقد مضى شرحه مستوفى قبل أكثر من عشرين بابا، واعترضه الإسماعيلي فقال: ترجم الباب بالطاعم الشاكر ولم يذكر فيه شيئا وقال: "وهذا معي" ثم نازعه في أن القصة ليس فيها ما ذكر، وأن الرجل تبعهم من تلقاء نفسه. قلت: أما الجواب عن الأول فكأنه سقط من روايته قول البخاري "فيه عن أبي هريرة" وأما الثاني فأشار به البخاري إلى حديث أنس في قصة الخياط الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وهذه" يعني عائشة، وقد تقدم شرح ذلك مستوفى، وإنما عدل البخاري عن إيراد حديث أنس هنا إلى حديث أبي مسعود إشارة منها إلى تغاير القصتين واختلاف الحالين. قوله: "وقال أنس إذا دخلت على مسلم لا يهتم فكل من طعامه واشرب من شرابه" وصله ابن أبي شيبة من طريق عمير الأنصاري "سمعت أنسا يقول مثله" لكن قال: "على رجل لا تتهمه" وجاء نحو ذلك عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه أحمد والحاكم والطبراني من طرق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عن" قال الطبراني: تفرد به مسلم بن خالد. قلت: وفيه مقال لكن أخرج له الحاكم شاهد من رواية ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رواية بنحوه. وأخرج ابن أبي شيبة من هذا الوجه موقوفا، ومطابقة الأثر للحديث من جهة كون اللحام لم يكن متهما، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعامه ولم يسأله وعلى هذا القيد يحمل مطلق حديث أبي هريرة، والله أعلم حديث أبي مسعود في قصة الغلام اللحام، قد مضى شرحه مستوفى قبل أكثر من عشرين بابا.

(9/584)


58- باب إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فَلاَ يَعْجَلْ عَنْ عَشَائِهِ
5462- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي كَانَ يَحْتَزُّ بِهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
5463- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"
وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ"
5464- وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَعَشَّى مَرَّةً وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ"
5465- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"
قَالَ وُهَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ"
قوله: "باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه" قال الكرماني العشاء في الترجمة يحتمل أن يراد به ضد الغداء وهو بالفتح، ويحتمل أن يراد به صلاة العشاء وهي بالكسر ولفظ: "عن عشائه" بالفتح لا غير. قلت:

(9/584)


الرواية عندنا بالفتح، وإنما في الترجمة عدول عن المضمر إلى المظهر لمعنى قصده، ويبعد الكسر أن الحديث إنما ورد في صلاة المغرب، وقد ورد النهي عن تسميتها عشاء، ولفظ هذه الترجمة وقع معناه في حديث أورده المصنف في الصلاة في أوائل صلاة الجماعة من طريق ابن شهاب عن أنس بلفظ: "إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم" وأورده فيه من حديث ابن عمر بلفظ: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه". قوله: "وقال الليث حدثني يونس" أي ابن يزيد "عن ابن شهاب" وصله الذهلي في الزهريات عن أبي صالح عن الليث، وأخرجه الإسماعيلي من رواية أبي ضمرة عن يونس. قوله: "فألقاها" أي القطعة اللحم التي كان احتزها. وقال الكرماني: الضمير للكتف، وأنث باعتبار أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه أو هو مؤنث سماعي، قال: ودلالته على الترجمة من جهة أنه استنبط من اشتغاله صلى الله عليه وسلم بالأكل وقت الصلاة. قلت: ويظهر لي أن البخاري أراد بتقديم هذا الحديث بيان أن الأمر في حديث ابن عمر وعائشة بترك المبادرة إلى الصلاة قبل تناول الطعام ليس على الوجوب. قوله: "وعن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" هو معطوف على السند الذي قبله، وهو من رواية وهيب عن أيوب، وكذا أثر ابن عمر أنه تعشى، مرة وهو يسمع قراءة الإمام، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن سهل بن عسكر عن معلى بن أسد شيخ البخاري فيه بهذا الإسناد الثاني ولفظه: "إذا وضع العشاء" الحديث. وأخرج أثر ابن عمر من طريق عبد الوارث عن أيوب ولفظه: "قال فتعشى ابن عمر ليلة وهو يسمع قراءة الإمام". قوله في رواية عائشة "قال وهيب ويحيى بن سعيد عن هشام" يعني ابن عروة "إذا وضع العشاء" يعني أن هذين روياه عن هشام بلفظ: "إذا وضع" بدل "إذا حضر" وهي التي وصلها في الباب من رواية سفيان وهو الثوري عن هشام، فأما رواية وهيب فوصلها الإسماعيلي من رواية يحيى بن حسان ومعلى بن أسد قالا حدثنا وهيب به ولفظه: "إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء" وأما رواية يحيى بن سعيد وهو القطان فوصلها أحمد عنه بهذا اللفظ أيضا، وقد أخرجها المصنف بلفظ: "إذا حضر" وفي بعض الروايات عنه "وضع" وأخرجه الإسماعيلي من رواية عمرو بن علي الفلاس عن يحيى بن سعيد بلفظ: "إذا أقيمت الصلاة وقرب العشاء فكلوا ثم صلوا" وذكر الإسماعيلي أن أكثر أصحاب هشام رووه عنه بلفظ: "إذا وضع" وأن بعضهم قال: "إذا حضر" وجاء عن شعبة وضع وحضر. وقال ابن إسحاق "إذا قدم". قلت: قدم وقرب ووضع متقاربات المعنى، فيحمل حضر عليها، وإن كان معناها في الأصل أعم، والله أعلم.

(9/585)


باب قوله تعالى:(فإذا طعمتم فانتشروا).
...
59- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}
5466- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسًا قَالَ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَةِ فَدَعَا النَّاسَ لِلطَّعَامِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَ مَا قَامَ الْقَوْمُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ

(9/585)


ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ مَكَانَهُمْ فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ قَامُوا فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ذكر فيه حديث أنس في قصة زينب بنت جحش والبناء عليها ونزول آية الحجاب وقوله: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب" العروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة والعرس مدة بناء الرجل بالمرأة وأصله اللزوم، وقد تقدم بيان الاختلاف في الأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة في أول البيع في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وأما الانتشار هنا بعد الأكل فالمراد به التوجه عن مكان الطعام للتخفيف عن صاحب المنزل هو مقتضى الآية، وقد مر مستوفى في تفسير سورة الأحزاب. حديث أنس في قصة زينب بنت جحش والبناء عليها ونزول آية الحجاب وقوله: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب" العروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة والعرس مدة بناء الرجل بالمرأة وأصله اللزوم، وقد تقدم بيان الاختلاف في الأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة في أول البيع في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وأما الانتشار هنا بعد الأكل فالمراد به التوجه عن مكان الطعام للتخفيف عن صاحب المنزل هو مقتضى الآية، وقد مر مستوفى في تفسير سورة الأحزاب. "خاتمة": اشتمل كتاب الأطعمة من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث واثني عشر حديثا، المعلق أربعة عشر طريقا والباقي موصول، المكرر منه فيه وفيما مضى تسعون حديثا والخالص اثنان وعشرون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في استقرائه عمر الآية، وحديث أنس "ما رأى شاة سميطا"، وحديث أبى جحيفة "لا آكل متكئا"، وحديث سهل "ما رأى النقى"، وحديث جابر في وفاء دينه لما تقرر أنها قصة له غير قصته في وفاء دين أبيه، وحديث أنس "إذا حضر الطعام والصلاة"، وحديث جابر في المناديل، وحديث أبي أمامة في الدعاء بعد الأكل، وحديث أبي هريرة في الطاعم الشاكر. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة آثار. والله أعلم.

(9/586)


كتاب العقيقة
باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه
...
6- كِتَاب الْعَقِيقَةِ
1- باب تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ وَتَحْنِيكِهِ
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب العقيقة" بفتح العين المهملة، وهو اسم لما يذبح عن المولود. واختلف في اشتقاقها، فقال أبو عبيد والأصمعي: أصلها الشعر الذي يخرج على رأس المولود، وتبعه الزمخشري وغيره. وسميت الشاة التي تذبح عنه في تلك الحالة عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح. وعن أحمد أنها مأخوذة من العق وهو الشق والقطع، ورجحه ابن عبد البر وطائفة. قال الخطابي: العقيقة اسم الشاة المذبوحة عن الولد، سميت بذلك لأنها تعق مذابحها أي تشق وتقطع. قال: وقيل هي الشعر الذي يحلق. وقال ابن فارس: الشاة التي تذبح والشعر كل منهما يسمى عقيقة، يقال عق يعق إذا حلق عن ابنه عقيقته وذبح للمساكين شاة. وقال القزاز: أصل العق الشق، فكأنها قيل لها عقيقة بمعنى معقوقة، وسمي شعر المولود عقيقة باسم ما يعق عنه، وقيل باسم المكان الذي انعق عنه فيه، وكل مولود من البهائم فشعره عقيقة، فإذا سقط وبر البعير ذهب عقه. ويقال: أعقت الحامل نبتت عقيقة ولدها في بطنها. قلت: ومما ورد في تسمية الشاة عقيقة ما أخرجه البزار من طريق عطاء عن ابن عباس رفعه: "للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة" وقال: لا نعلمه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ا ه. ووقع في عدة أحاديث "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة".

(9/586)


5467- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُرَيْدٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى"
[الحديث 5467- طرفه في: 6198]
5468- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ"
5469- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَالَتْ فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَنَزَلْتُ قُبَاءً فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا لِأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلاَ يُولَدُ لَكُمْ"
5470- حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ مَا فَعَلَ ابْنِي قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ وَارُوا الصَّبِيَّ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا فَوَلَدَتْ غُلاَمًا قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَمَعَهُ شَيْءٌ قَالُوا نَعَمْ تَمَرَاتٌ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ"
قوله: "باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه" كذا في رواية أبي ذر عن الكشميهني، وسقط لفظة "عن" للجمهور، وللنسفي "وإن لم يعق عنه" بدل "لمن لم يعق عنه" ورواية الفربري أول لأن قضية رواية النسفي تعين التسمية غداة الولادة سواء حصلت العقيقة عن ذلك المولود أم لا، وهذا يعارضه الأخبار الواردة في التسمية يوم السابع كما

(9/587)


سأذكرها قريبا. وقضية رواية الفربري أن من لم يرد أن يعق عنه لا يؤخر تسميته إلى السابع كما وقع في قصة إبراهيم بن أبي موسى وعبد الله بن أبي طلحة وكذلك إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن الزبير، فإنه لم ينقل أنه عق عن أحد منهم، ومن أريد أن يعق عنه تؤخر تسميته إلى السابع كما سيأتي في الأحاديث الأخرى، وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري. قوله: "وتحنيكه" أي غداة يولد، وكأنه قيد بالغداة اتباعا للفظ الخبر. والغداة تطلق ويراد بها مطلق الوقت وهو المراد هنا، وإنما اتفق تأخير ذلك لضرورة الواقع، فلو اتفق أنها تلد نصف النهار مثلا فوقت التحنيك والتسمية بعد الغداة قطعا. والتحنيك مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل ويقوى عليه. وينبغي عند التحنيك أن يفتح فاه حتى ينزل جوفه، وأولاه التمر فإن لم يتيسر تمر فرطب، وإلا فشيء حلو، وغسل النحل أولى من غيره، ثم ما لم تمسه نار كما في نظيره مما يفطر الصائم عليه. ويستفاد من قوله: "وإن لم يعق عنه" الإشارة إلى أن العقيقة لا تجب، قال الشافعي أفرط فيها رجلان قال أحدهما هي بدعة والآخر قال واجبة؛ وأشار بقائل الوجوب إلى الليث بن سعد، ولم يعرف إمام الحرمين الوجوب إلا عن داود فقال: لعل الشافعي أراد غير داود إنما كان بعده، وتعقب بأنه ليس للعل هنا معنى بل هو أمر محقق فإن الشافعي مات ولداود أربع سنين، وقد جاء الوجوب أيضا عن أبي الزناد وهي رواية عن أحمد. والذي نقل عنه أنها بدعة أبو حنيفة قال ابن المنذر: أنكر أصحاب الرأي أن تكون سنة وخالفوا في ذلك الآثار الثابتة، واستدل بعضهم بما رواه مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه "سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق" كأنه كره الاسم وقال: "من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل". وفي رواية سعيد بن منصور عن سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن عمه "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن العقيقة وهو على المنبر بعرفة فذكره" وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه أبو داود، ويقوى أحد الحديثين بالآخر، قال أبو عمر: لا أعلمه مرفوعا إلا عن هذين. قلت: وقد أخرجه البزار وأبو الشيخ في العقيقة من حديث أبي سعيد، ولا حجة فيه لنفي مشروعيتها. بل آخر الحديث يثبتها، وإنما غايته أن يؤخذ منه أن الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة وأن لا تسمى عقيقة. وقد نقله ابن أبي الدم عن بعض الأصحاب قال كما في تسمية العشاء عتمة، وادعى محمد بن الحسن نسخها بحديث: "نسخ الأضحى كل ذبح" أخرجه الدار قطني من حديث علي وفي سنده ضعف. وأما نفي ابن عبد البر وروده فمتعقب، وعلى تقدير أن يثبت أنها كانت واجبة ثم نسخ وجوبها فيبقى الاستحباب كما جاء في صوم عاشوراء، فلا حجة فيه أيضا لمن نفى مشروعيتها. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. قوله: "بريد" بالموحدة والراء مصغر هو ابن عبد الله بن أبي بردة وهو يروي عن جده أبي ردة عن أبي موسى الأشعري نسخه1 وإبراهيم بن أبي موسى المذكور في هذا الحديث ذكره جماعة في الصحابة لما وقع في هذا الحديث، وذلك يقتضي أن تكون له رواية، وقد ذكره ابن حبان في الصحابة وقال: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم ذكره في ثقات التابعين وليس ذلك تناقضا منه بل هو بالاعتبارين. قوله: "فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم فحنكه" فيه إشعار بأنه أسرع بإحضاره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تحنيكه كان بعد تسميته،
ـــــــ
(1 ) كذا في النسخ، والذي يظهر انها زائدة.

(9/588)


ففيه تعجيل تسمية المولود ولا ينتظر بها إلى السابع. وأما ما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث الحسن عن سمرة في حديث العقيقة "تذبح عنه يوم السابع ويسمى" فقد اختلف في هذه اللفظة هل هي "يسمى" أو "يدمى" بالدال بدل السين؟ وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي يليه. ويدل على أن التسمية لا تختص بالسابع ما تقدم في النكاح من حديث أبي أسيد أنه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بابنه حين ولد فسماه المنذر" وما أخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس رفعه قال: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف" الحديث. قال البيهقي: تسمية المولود حين أصح من الأحاديث في تسميته يوم السابع. قلت: قد ورد فيه غير ما ذكر، ففي البزار وصحيحي ابن حبان والحاكم بسند صحيح عن عائشة قالت: "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين يوم السابع وسماها" وللترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسمية المولود لسابعه" وهذا من الأحاديث التي يتعين فيها أن الجد هو الصحابي لا جد عمرو الحقيقي محمد بن عبد الله بن عمرو. وفي الباب عن ابن عباس قال: "سبعة من السنة في الصبي: يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الأذى وتثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ من عقيقته ويتصدق بوزن شعر رأسه ذهبا أو فضة" أخرجه الطبراني في "الأوسط" وفي سنده ضعف، وفيه أيضا عن ابن عمر رفعه: "إذا كان يوم السابع للمولود فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى وسموه" وسنده حسن. قوله: "يحيى" هو القطان وهشام هو ابن عروة. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه" تقدم في الطهارة من وجه آخر عن هشام بن عروة ليس فيه ذكر التحنيك، وبينت هناك ما قيل في اسمه. حديث أسماء في ولادة عبد الله بن الزبير، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة "وبيان الاختلاف في سنده. ووقع في آخره هنا من الزيادة" ففرحوا به فرحا شديدا "لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم" وهذا يدل على ما قدمته أن ولادته كانت بعد استقرارهم بالمدينة، وما وقع في أول الحديث أنه ولدته بقباء ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أنها أحضرته له بقباء، وإنما حملته من قباء إلى المدينة. وقد أخرج "ابن سعد في الطبقات" من رواية أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال: "لما قدم المهاجرون المدينة أقاموا لا يولد لهم، فقالوا: سحرتنا يهود، حتى كثرت في ذلك القالة، فكان أول مولود بعد الهجرة عبد الله بن الزبير، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة حتى ارتجت المدينة تكبيرا" وقوله: "وأنا متم" بكسر المثناة أي شارفت تمام الحمل، وقوله: "تفل" بمثناة ثم فاء "وبرك" بالتشديد أي دعا له بالبركة: حديث أنس في قصة ابن أبي طلحة واسمه عبد الله وهو والد إسحاق، وقد تقدم شرحه في الجنائز وفي الزكاة. قوله: "أعرستم" ؟ هو استفهام محذوف الأداة والعين ساكنة، أعرس الرجل إذا بنى بامرأته، ويطلق أيضا على الوطء لأنه يتبع البناء غالبا، ووقع رواية الأصيلي: "أعرستم" ؟ بفتح العين وتشديد الراء فقال عياض: هو غلط لأن التعريس النزول، وأثبت غيره أنها لغة، يقال أعرس وعرس إذا دخل بأهله والأفصح أعرس قاله ابن التيمي في كتاب التحرير في شرح مسلم له. قوله: "قال لي أبو طلحة احفظه" في رواية الكشميهني: "احفظيه" والأول أولى. قوله: "حدثني محمد بن المثنى - إلى أن قال - وساق الحديث" هذا يوهم أنه يريد الحديث الذي قبله وليس كذلك لأن لفظهما مختلف، وهما حديثان عند ابن عون: أحدهما عنده عن أنس بن سيرين وهو المذكور هنا، والثاني عنده عن محمد بن سيرين عن أنس، وقد ساقه المصنف في اللباس بهذا الإسناد ولفظه: "أن أم سليم قالت لي: يا أنس، انظر هذا الغلام

(9/589)


فلا تصيبن شيئا حتى تغدو به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغدوت به فإذا هو في حائط له وعليه خميصة وهو يسم الظهر الذي قدم عليه في الفتح" ثم وجدت في نسخة الصغاني بعد قوله وساق الحديث: "قال أبو عبد الله اختلفا في أنس بن سيرين ومحمد بن سيرين أي أن ابن أبي عدى ويزيد بن هارون اختلفا شيخ عبد الله بن عون وهذا يتعين أنهما عنده حديث اختلفت ألفاظه. وذكر المزي أن حماد بن سعد وافق ابن أبي عدي أخرجه مسلم من طريقه لكني لم أره في كتاب مسلم مسمى بل قال: "عن ابن سيرين" ويؤيد رواية ابن أبي عدي أن أحمد أخرج الحديث مطولا من طريق همام عن محمد بن سيرين

(9/590)


2- باب إِمَاطَةِ الأَذَى عَنْ الصَّبِيِّ فِي الْعَقِيقَةِ
5471- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ وَقَالَ حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ وَقَتَادَةُ وَهِشَامٌ وَحَبِيبٌ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَاصِمٍ وَهِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ الرَّبَابِ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ سَلْمَانَ قَوْلَهُ"
[الحديث 5471- طرفه في: 5472]
5472- وَقَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ حَدَّثَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ الضَّبِّيُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ أَمَرَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ
قوله: "باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة" الإماطة الإزالة. قوله: "عن محمد" هو ابن سيرين. قوله: "عن سلمان بن عامر" هو الضبي، وهو صحابي سكن البصرة، ماله في البخاري غير هذا الحديث، وقد أخرجه من عدة طرق موقوفا ومرفوعا موصولا من الطريق الأولى لكنه لم يصرح برفعه فيها؛ ومعلقا من الطرق الأخرى صرح في طريق منها بوقفه وما عداها مرفوع. قال الإسماعيلي لم يخرج البخاري في الباب حديثا صحيحا على شرطه، أما حديث حماد بن زيد يعني الذي أورده موصولا فجاء به موقوفا وليس فيه ذكر إماطة الأذى الذي ترجم به، وأما حديث جرير بن حازم فذكره بلا خبر، وأما حديث حماد بن سلمة فليس من شرطه في الاحتجاج. قلت: أما حديث حماد بن زيد فهو المعتمد عليه عند البخاري، لكنه أورده مختصرا، فكأنه سمعه كذلك من شيخه أبي النعمان، واكتفى به كعادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض الحديث الذي يورده، وقد أخرجه أحمد عن يونس بن محمد عن حماد بن زيد فزاد في المتن "فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى" ولم يصرح برفعه، وأخرجه أيضا عن يونس بن محمد عن حماد بن زيد عن هشام عن محمد بن سيرين فصرح برفعه، وأخرجه أيضا عن عبد الوهاب عن ابن عون وسعيد عن محمد بن سيرين عن سلمان مرفوعا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب عن حماد

(9/590)


بن زيد عن أيوب فقال فيه: "رفعه:" وأما حديث جرير بن حازم وقوله أنه ذكره بلا خبر، يعني لم يقل في أول الإسناد أنبأنا أصبغ بل قال: "قال أصبغ" لكن أصبغ من شيوخ البخاري قد أكثر عنه في الصحيح، فعلى قول الأكثر هو موصول كما قرره ابن الصلاح في "علوم الحديث:" وعلى قول ابن حزم هو منقطع وهذا كلام الإسماعيلي يشير إلى موافقته، وقد زيف الناس كلام ابن حزم في ذلك، وأما كون حماد ابن سلمة على شرطه في الاحتجاج فمسلم، لكن لا يضره إيراده للاستشهاد كعادته. قوله: "وقال حجاج" هو ابن منهال، وحماد هو ابن سلمة، وقد وصله الطحاوي وابن عبد البر والبيهقي من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن حجاج بن منهال "حدثنا حماد بن سلمة به" وقد أخرجه النسائي من رواية عفان والإسماعيلي من طريق حبان بن هلال وعبد الأعلى بن حماد وإبراهيم بن الحجاج كلهم عن حماد بن سلمة فزادوا مع الأربعة الذين ذكرهم البخاري - وهم أيوب وقتادة وهشام وهو ابن حسان وحبيب وهو ابن الشهيد - يونس وهو ابن عبيد ويحيى بن عتيق، لكن ذكر بعضهم عن حماد ما لم يذكر الآخر، وساق المتن كله على لفظ حبان، وصرح برفعه ولفظه: "في الغلام عقيقة فأهرقوا عنه الدم، وأميطوا عنه الأذى" قال الإسماعيلي: وقد رواه الثوري موصولا مجردا ثم ساقه من طريق أبي حذيفة عن سفيان عن أيوب كذلك، فاتفق هؤلاء على أنه من حديث سلمان بن عامر، وخالفهم وهيب فقال: "عن أيوب عن محمد عن أم عطية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مع الغلام" فذكر مثله سواء، أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من رواية حوثرة بن محمد بن أبي هشام عن وهيب به، ووهيب من رجال الصحيحين وأبو هشام اسمه المغيرة بن سلمة احتج به مسلم وأخرج له البخاري تعليقا ووثقه ابن المديني والنسائي وغيرهما، وحوثرة بحاء مهملة ومثلثة وزن جوهرة بصري يكنى أبا الأزهر احتج به ابن خزيمة في صحيحه. وأخرج عنه من الستة ابن ماجه، وذكر أبو علي الجياني أن أبا داود روى عنه في كتاب بدء الوحي خارج السنن، وذكره ابن حبان في الثقات، فالإسناد قوي إلا أنه شاذ، والمحفوظ عن محمد بن سيرين عن سلمان بن عامر، فلعل بعض رواته دخل عليه حديث في حديث. قوله: "وقال غير واحد عن عاصم وهشام عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم" قلت من الذين أبهمهم عن عاصم سفيان بن عيينة أخرجه أحمد عنه بهذا الإسناد فصرح برفعه، وذكر المتن المذكور وحديثين آخرين: أحدهما في الفطر على التمر، والثاني في الصدقة على ذي القرابة، وأخرجه الترمذي من طريق عبد الرزاق والنسائي عن عبد الله بن محمد الزهري كلاهما عن ابن عيينة بقصة العقيقة حسب. وقال النسائي في روايته عن الرباب عن عمها سلمان به، والرباب بفتح الراء وبموحدتين مخففا ما لها في البخاري غير هذا الحديث، وممن رواه عن هشام بن حسان عبد الرزاق أخرجه أحمد عنه عن هشام بالأحاديث الثلاثة، وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق عبد الرزاق، ومنهم عبد الله بن نمير أخرجه ابن ماجه من طريقه عن هشام به، وأخرجه أحمد أيضا عن يحيى القطان ومحمد بن جعفر كلاهما عن هشام لكن لم يذكر الرباب في إسناده، وكذا أخرجه الدارمي عن سعيد بن عامر والحارث بن أبي أسامة عن عبد الله بن بكير السهمي كلاهما عن هشام، قوله: "ورواه يزيد بن إبراهيم عن ابن سيرين عن سلمان قوله" قلت: وصله الطحاوي في "بيان المشكل" فقال: "حدثنا محمد بن خزيمة حدثنا حجاج بن منهال حدثنا يزيد بن إبراهيم به موقوفا". قوله: "وقال أصبغ أخبرني ابن وهب إلخ" وصله الطحاوي عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به قال الإسماعيلي: ذكر البخاري ابن وهب بلا خبر، وقد قال أحمد بن حنبل: حديث جرير بن حازم

(9/591)


كأنه على التوهم أو كما قال. قلت: لفظ الأثرم عن أحمد حدث بالوهم بمصر ولم يكن يحفظ، وكذا ذكر الساجي ا ه وهذا مما حديث به جرير بمصر، لكن قد وافقه غيره على رفعه عن أيوب، نعم قوله عن محمد "حدثنا سلمان بن عامر" هو الذي تفرد به، وبالجملة فهذه الطرق يقوى بعضها بعضا، والحديث مرفوع لا يضره رواية من وقفه. قوله: "مع الغلام عقيقة" تمسك بمفهومه الحسن وقتادة فقالا: يعق عن الصبي ولا يعق عن الجارية، وخالفهم الجمهور فقالوا: يعق عن الجارية أيضا، وحجتهم الأحاديث المصرحة بذكر الجارية، وسأذكرها بعد هذا، فلو ولد اثنان في بطن استحب عن كل واحد عقيقه، ذكره ابن عبد البر عن الليث وقال: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافه. قوله: "فأهريقوا عنه دما" كذا أبهم ما يهراق في هذا الحديث وكذا في حديث سمرة الآتي بعده، وفسر ذلك في عدة أحادث منها حديث عائشة أخرجه الترمذي وصححه من رواية يوسف بن ماهك "أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن - أي ابن أبي بكر الصديق - فسألوها عن العقيقة، فأخبرتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة" وأخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أم كرز أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة واحدة، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا" قال الترمذي صحيح، وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه أثناء حديث قال: "من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل: عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة" قال داود بن قيس رواية عن عمرو "سألت زيد بن أسلم عن قوله مكافئتان فقال: متشابهتان تذبحان جميعا أي لا يؤخر ذبح إحداهما عن الأخرى" وحكى أبو داود عن أحمد المكافئتان المتقاربتان، قال الخطابي: أي في السن. وقال الزمخشري: معناه متعادلتان لما يجزي في الزكاة وفي الأضحية، وأولى من ذلك كله ما وقع في رواية سعيد بن منصور في حديث أم كرز من وجه آخر عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ: "شاتان مثلان" ووقع عند الطبراني في حديث آخر "قيل: ما المكافئتان؟ قال المثلان" وما أشار إليه زيد بن أسلم من ذبح إحداهما عقب الأخرى حسن، ويحتمل الحمل على المعنيين معا، وروى البزار وأبو الشيخ من حديث أبي هريرة رفعه: "أن اليهود تعق عن الغلام كبشا ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام كبشين وعن الجارية كبشا" وعند أحمد من حديث أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العقيقة حق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة" وعن أبي سعيد نحو حديث عمرو بن شعيب أخرجه أبو الشيخ، وتقدم حديث ابن عباس أول الباب، وهذه الأحاديث حجة للجمهور في التفرقة بين الغلام والجارية، وعن مالك هما سواء فيعق عن كل واحد منهما شاة، واحتج له بما جاء "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" أخرجه أبو داود ولا حجة فيه فقد أخرجه أبو الشيخ من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "كبشين كبشين" وأخرج أيضا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وعلى تقدير ثبوت رواية أبي داود فليس في الحديث ما يرد به الأحاديث المتواردة في التنصيص على التثنية للغلام، بل غايته أن يدل على جواز الاقتصار، وهو كذلك، فإن العدد ليس شرطا بل مستحب. وذكر الحليمي أن الحكمة في كون الأنثى على النصف من الذكر أن المقصود استبقاء النفس فأشبهت الدية، وقواه ابن القيم بالحديث الوارد في أن من أعتق ذكرا أعتق عضو منه، ومن أعتق جاريتين كذلك، إلى غير ذلك مما ورد. ويحتمل أن يكون في ذلك الوقت ما تيسر العدد. واستدل بإطلاق الشاة والشاتين على أنه لا يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، وفيه وجهان للشافعية، وأصحهما يشترط وهو بالقياس

(9/592)


لا بالخبر، ويذكر الشاة والكبش على أنه يتعين الغنم للعقيقة، وبه ترجم أبو الشيخ الأصبهاني ونقله ابن المنذر عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. وقال البندنيجي من الشافعية: لا نص للشافعي في ذلك، وعندي أنه لا يجزئ غيرها، والجمهور على إجزاء الإبل والبقر أيضا، وفيه حديث عند الطبراني وأبي الشيخ عن أنس رفعه: "يعق عنه من الإبل والبقر والغنم" ونص أحمد على اشتراط كاملة، وذكر الرافعي بحثا أنها تتأدى بالسبع كما في الأضحية والله أعلم. قوله: "وأميطوا" أي أزيلوا وزنا ومعنى. قوله: "الأذى" وقع عند أبي داود من طريق سعيد بن أبي عروبة وابن عون عن محمد بن سيرين قال: "إن لم يكن الأذى حلق الرأس فلا أدري ما هو" وأخرج الطحاوي من طريق يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال: "لم أجد من يخبرني عن تفسير الأذى" ا ه. وقد جزم الأصمعي بأنه حلق الرأس، وأخرجه أبو داود بسند صحيح عن الحسن كذلك، ووقع في حديث عائشة عند الحاكم "وأمر أن يماط عن رءوسهما الأذى" ولكن لا يتعين ذلك في حلق الرأس، فقد وقع في حديث ابن عباس عند الطبراني "ويماط عنه الأذى ويحلق رأسه" فعطفه عليه، فالأولى حمل الأذى على ما هو أعم من حلق الرأس، ويؤيد ذلك أن في بعض طرق حديث عمرو بن شعيب "ويماط عنه أقذاره" رواه أبو الشيخ. قوله: "حدثنا عبد الله بن أبي الأسود" هو عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود بن أبي الأسود - نسب لجد جده - وربما ينسب لجد أبيه فقيل عبد الله بن الأسود معروف من شيوخ البخاري، وشيخه قريش بن أنس بصري ثقة يكنى أبا أنس، كان قد تغير سنة ثلاث ومائتين، واستمر على ذلك ست سنين، فمن سمع منه قبل ذلك فسماعه صحيح، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد أخرجه الترمذي عن البخاري عن علي بن المديني عنه، ولم أره في نسخ الجامع إلا عن عبد الله بن أبي الأسود، فكأن له فيه شيخين. وقد توقف البرزنجي في صحة هذا الحديث من أجل اختلاط قريش، وزعم أنه تفرد به وأنه وهم، وكأنه تبع في ذلك ما حكاه الأثرم عن أحمد أنه ضعف حديث قريش هذا وقال: ما أراه بشيء لكن وجدنا له متابعا أخرجه أبو الشيخ والبزار عن أبي هريرة كما سأذكره، وأيضا فسماع على بن المديني وأقرانه من قريش كان قبل اختلاطه، فلعل أحمد إنما ضعفه لأنه ظن أنه إنما حدث به بعد الاختلاط. قوله: "حديث العقيقة" لم يقع في البخاري بيان الحديث المذكور وكأنه اكتفى عن إيراده بشهرته، وقد أخرجه أصحاب السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه، ويسمى" قال الترمذي: حسن صحيح، وقد جاء مثله عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أخرجه البزار وأبو الشيخ في كتاب العقيقة من رواية إسرائيل عن عبد الله بن المختار عنه ورجاله ثقات، فكأن ابن سيرين لما كان الحديث عنده عن أبي هريرة وبلغه أن الحسن يحدث به احتمل عنده أن يكون يرويه عن أبي هريرة أيضا وعن غيره فسأل فأخبر الحسن أنه سمعه من سمرة فقوى الحديث برواية هذين التابعيين الجليلين عن الصحابيين، ولم تقع في حديث أبي هريرة هذه الكلمة الأخيرة وهي "ويسمى" وقد اختلف فيها أصحاب قتادة فقال أكثرهم "يسمى" بالسين. وقال همام عن قتادة "يدمى" بالدال. قال أبو داود: خولف همام وهو وهم منه ولا يؤخذ به، قال: ويسمى أصح. ثم ذكره من رواية غير قتادة بلفظ: "ويسمى" واستشكل ما قاله أبو داود بما في بقية رواية همام عنده أنهم سألوا قتادة عن الدم كيف يصنع به فقال إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت به أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. فيبعد مع هذا الضبط أن يقال أن هماما وهم عن

(9/593)


قتادة في قوله: "ويدمى" إلا أن يقال إن أصل الحديث: "ويسمى" وأن قتادة ذكر الدم حاكيا عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، ومن ثم قال ابن عبد البر: لا يحتمل همام في هذا الذي انفرد به، فإن كان حفظه فهو منسوخ ا ه. وقد رجح ابن حزم رواية همام وحمل بعض المتأخرين قوله: "ويسمى" على التسمية عند الذبح، لما أخرج ابن أبي شيبة من طريق هشام عن قتادة قال: "يسمى على العقيقة كما سمى على الأضحية: بسم الله عقيقة فلان" ومن طريق سعيد عن قتادة نحوه وزاد: "اللهم منك ولك، عقيقة فلان، بسم الله والله أكبر. ثم ذبح" وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يسمى يوم يعق عنه ثم يحلق، وكان يقول: يطلي رأسه بالدم. وقد ورد ما يدل على النسخ في عدة أحاديث، منها ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: "كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا مكان الدم خلوقا" زاد أبو الشيخ "ونهى أن يمس رأس المولود بدم". وأخرج ابن ماجه من رواية أيوب بن موسى عن يزيد ابن عبد الله المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعق عن الغلام، ولا يمس رأسه بدم" وهذا مرسل، فإن يزيد لا صحبه له، وقد أخرجه البزار من هذا الوجه فقال: "عن يزيد بن عبد الله المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ومع ذلك فقالوا إنه مرسل، ولأبي داود والحاكم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "كنا في الجاهلية" فذكر نحو حديث عائشة ولم يصرح برفعه، قال: "فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران" وهذا شاهد لحديث عائشة، ولهذا كره الجمهور التدمية. ونقل ابن حزم استحباب التدمية عن ابن عمر وعطاء ولم ينقل ابن المنذر استحبابها إلا عن الحسن وقتادة، بل عند ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن أنه كره التدمية، وسيأتي ما يتعلق بالتسمية وآدابها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. واختلف في معنى قوله: "مرتهن بعقيقته" قال الخطابي: اختلف الناس في هذا، وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل قال: هذا في الشفاعة، يريد أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلا لم يشفع في أبويه، وقيل معناه أن العقيقة لازمة لا بد منها، فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن، وهذا يقوى قول من قال بالوجوب، وقيل المعنى أنه مرهون بأذى شعره، ولذلك جاء "فأميطوا عنه الأذى" ا ه والذي نقل عن أحمد قاله عطاء الخراساني أسنده عنه البيهقي. وأخرج ابن جزم عن بريدة الأسلمي قال: إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس، وهذا لو ثبت لكان قولا آخر يتمسك به من قال بوجوب العقيقة، قال ابن حزم: ومثله عن فاطمة بنت الحسين. وقوله: "يذبح عنه يوم السابع" تمسك به من قال إن العقيقة مؤقتة باليوم السابع، وأن من ذبح قبله لم يقع الموقع، وأنها تفوت بعده، وهو قول مالك. وقال أيضا: إن من مات قبل السابع سقطت العقيقة. وفي رواية ابن وهب عن مالك: إن من لم يعق عنه في السابع الأول عق عنه في السابع الثاني، قال ابن وهب: ولا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث. ونقل الترمذي عن أهل العلم أنهم يستحبون أن تذبح العقيقة يوم السابع، فإن لم يتهيأ فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيأ عق عنه يوم أحد وعشرين ولم أر هذا صريحا إلا عن أبي عبد الله البوشنجي، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه. وورد فيه حديث أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وإسماعيل ضعيف، وذكر الطبراني أنه تفرد به. وعند الحنابلة في اعتبار الأسابيع بعد ذلك روايتان، وعند الشافعية أن ذكر الأسابيع للاختيار لا للتعيين، فنقل الرافعي أنه يدخل وقتها بالولادة، قال: وذكر السابع في الخبر بمعنى أن لا تؤخر عنه اختيارا، ثم قال:

(9/594)


والاختيار أن لا تؤخر عن البلوغ فإن أخرت عن البلوغ سقطت عمن كان يريد أن يعق عنه، لكن إن أراد أن يعق عن نفسه فعل. وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين قال: لو أعلم أني لم يعق عني لعققت عن نفسي. واختاره القفال. ونقل عن نص الشافعي في البويطي أنه لا يعق عن كبير، وليس هذا نصا في منع أن يعق الشخص عن نفسه، بل يحتمل أن يريد أن لا يعق عن غيره إذا كبر، وكأنه أشار بذلك إلى أن الحديث الذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة لا يثبت. وهو كذلك، فقد أخرجه البزار من رواية عبد الله بن محرر - وهو بمهملات - عن قتادة عن أنس، قال البزار: تفرد به عبد الله وهو ضعيف ا ه. وأخرجه أبو الشيخ من وجهين آخرين: أحدهما من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة وإسماعيل ضعيف أيضا، وقد قال عبد الرزاق: أنهم تركوا حديث عبد الله بن محرر من أجل هذا الحديث، فلعل إسماعيل سرقه منه. ثانيهما من رواية أبي بكر المستملى عن الهيثم بن جميل وداود بن المخبر قالا حدثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس، وداود ضعيف لكن الهيثم ثقة، وعبد الله من رجال البخاري، فالحديث قوي الإسناد، وقد أخرجه محمد بن عبد الملك بن أيمن عن إبراهيم بن إسحاق السراج عن عمرو الناقد، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده به، فلولا ما في عبد الله بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحا، لكن قد قال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بقوي. وقال أبو داود: لا أخرج حديثه. وقال الساجي: فيه ضعف لم يكن من أهل الحديث روى مناكير. وقال العقيلي: لا يتابع على أكثر حديثه، قال ابن حبان في الثقات: ربما أخطأ، ووثقه العجلي والترمذي وغيرهما، فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد أحدهم بالحديث لم يكن حجة، وقد مشى الحافظ الضياء على ظاهر الإسناد فأخرج هذا الحديث في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين، ويحتمل أن يقال: إن صح هذا الخبر كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما قالوا في تضحيته عمن لم يضح من أمته، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "من لم يعق عنه أجزأته أضحيته" وعند ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين والحسن "يجزئ عن الغلام الأضحية من العقيقة" وقوله: "يوم السابع" أي من يوم الولادة، وهل يحسب يوم الولادة؟ قال ابن عبد البر نص مالك على أن أول السبعة اليوم الذي يلي يوم الولادة، إلا إن ولد قبل طلوع الفجر، وكذا نقله البويطي عن الشافعي، ونقل الرافعي وجهين ورجح الحسبان، واختلف ترجيح النووي. وقوله: "يذبح" بالضم على البناء للمجهول، فيه أنه لا يتعين الذابح، وعند الشافعية يتعين من تلزمه نفقة المولود، وعن الحنابلة يتعين الأب إلا أن تعذر بموت أو امتناع، قال الرافعي: وكأن الحديث أنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين مؤول، قال النووي: يحتمل أن يكون أبواه حينئذ كانا معسرين أو تبرع بإذن الأب، أو قوله: "عق" أي أمر، أو هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما ضحى عمن لم يضح من أمته، وقد عده بعضهم من خصائصه، ونص مالك على أنه يعق عن اليتيم من ماله، ومنعه الشافعية، وقوله: "ويحلق رأسه" أي جميعه لثبوت النهي عن القزع كما سيأتي في اللباس، وحكى الماوردي كراهة حلق رأس الجارة، وعن بعض الحنابلة يحلق، وفي حديث علي عند الترمذي والحاكم في حديث العقيقة عن الحسن والحسين "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره، قال فوزناه فكان درهما أو بعض درهم" وأخرج أحمد من حديث أبي رافع "لما ولدت فاطمة حسنا قالت. يا رسول الله ألا أعق عن ابني بدم؟ قال: لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة، ففعلت، فلما ولدت حسينا فعلت مثل ذلك" قال شيخنا في "شرح الترمذي" يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان عق عنه ثم استأذنته فاطمة

(9/595)


أن تعق هي عنه أيضا فمنعها، قلت: ويحتمل أن يكون منعها لضيق ما عندهم حينئذ فأرشدها إلى نوع من الصدقة أخف، ثم تيسر له عن قرب ما عق به عنه، وعلى هذا فقد يقال يختص ذلك بمن لم يعق عنه، لكن أخرج سعيد ابن منصور من مرسل أبي جعفر الباقر صحيحا "إن فاطمة كانت إذا ولدت ولدا حلقت شعره وتصدقت بزنته ورقا" واستدل بقوله: "يذبح ويحلق ويسمى" بالواو على أنه لا يشترط الترتيب في ذلك، وقد وقع في رواية لأبي الشيخ في حديث سمرة "يذبح يوم سابعه ثم يحلق" وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج يبدأ بالذبح قبل الحلق، وحكى عن عطاء عكسه، ونقله الروياني عن نص الشافعي. وقال البغوي في "التهذيب" يستحب الذبح قبل الحلق، وصححه النووي في. "شرح المهذب" والله أعلم

(9/596)


باب القزع
...
3- باب الْفَرَعِ
5473- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ"
وَالْفَرَعُ أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ
[الحديث 5473، طرفه: 5474]
قوله: "باب الفرع" بفتح الفاء والراء بعدها مهملة، ذكر فيه حديث أبي هريرة "لا فرع ولا عتيرة" من رواية عبد الله - وهو ابن المبارك - عن معمر حدثنا الزهري، وفيه تفسير الفرع والعتيرة، وظاهره الرفع. ووقع في "المحكم" أن الفرع أول نتاج الإبل والغنم، كان أهل الجاهلية يذبحونه لأصنامهم، والفرع ذبح كانوا إذا بلغت الإبل ما تمناه صاحبها ذبحوه، وكذلك إذا بلغت الإبل مائة يعتر منها بعيرا كل عام ولا يأكل منه هو ولا أهل بيته، والفرع أيضا طعام يصنع لنتاج الإبل كالخرس للولادة، وسيأتي القول في العتيرة آخر الباب الذي يليه، ويؤخذ من هذا مناسبة ذكر البخاري حديث الفرع مع العقيقة حديث أبي هريرة "لا فرع ولا عتيرة" من رواية عبد الله - وهو ابن المبارك - عن معمر حدثنا الزهري، وفيه تفسير الفرع والعتيرة، وظاهره الرفع. ووقع في "المحكم" أن الفرع أول نتاج الإبل والغنم، كان أهل الجاهلية يذبحونه لأصنامهم، والفرع ذبح كانوا إذا بلغت الإبل ما تمناه صاحبها ذبحوه، وكذلك إذا بلغت الإبل مائة يعتر منها بعيرا كل عام ولا يأكل منه هو ولا أهل بيته، والفرع أيضا طعام يصنع لنتاج الإبل كالخرس للولادة، وسيأتي القول في العتيرة آخر الباب الذي يليه، ويؤخذ من هذا مناسبة ذكر البخاري حديث الفرع مع العقيقة

(9/596)


4- باب الْعَتِيرَةِ
5474- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ"
قَالَ وَالْفَرَعُ أَوَّلُ نِتَاجٍ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيَتِهِمْ وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ
قال: "باب العتيرة"، وذكر فيه الحديث بعينه من رواية سفيان وهو ابن عيينة عن الزهري، ووقع في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا الزهري" وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وشذ ابن أبي عمر فرواه عن سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر أخرجه ابن ماجه وقال إنه من فوائد ابن أبي عمر. قوله: "ولا عتيرة" بفتح المهملة وكسر المثناة بوزن عظيمة، قال القزاز سميت عتيرة بما يفعل من الذبح وهو العتر "فهي فعيلة بمعنى مفعولة هكذا جاء بلفظ النفي والمراد به النهي، وقد ورد بصيغة النهي في رواية النسائي وللإسماعيلي بلفظ: "نهى رسول الله

(9/596)


كتاب الذبائح والصيد
باب التسمية على الصيد
...
7- كِتَاب الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ
1- باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعُقُودُ الْعُهُودُ مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ إِلاَّ {مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} الْخِنْزِيرُ يَجْرِمَنَّكُمْ يَحْمِلَنَّكُمْ شَنَآنُ عَدَاوَةُ الْمُنْخَنِقَةُ تُخْنَقُ فَتَمُوتُ الْمَوْقُوذَةُ تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ يُوقِذُهَا فَتَمُوتُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ تَتَرَدَّى مِنْ الْجَبَلِ وَالنَّطِيحَةُ تُنْطَحُ الشَّاةُ فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أَوْ

(9/598)


بِعَيْنِهِ فَاذْبَحْ وَكُلْ"
5475- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ قَالَ مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ فَقَالَ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ أَوْ كِلاَبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ"
قوله: "باب التسمية على الصيد" سقط "باب" لكريمة والأصيلي وأبي ذر، وثبت للباقين. والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيدا، وعومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصاد. قوله وقول الله تعالى :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ - إلى قوله- فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وقول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} كذا لأبي ذر، وقدم وأخر في رواية كريمة والأصيلي، وزاد بعد قوله: "الصيد" : {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الآية إلى قوله- عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعند النسفي من قوله :{ أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الآيتين، وكذا لأبي الوقت لكن قال: "إلى قوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وفرقهما في رواية كريمة والأصيلي. قوله: "قال ابن عباس: العقود العهود، ما أحل وحرم" وصله ابن أبي حاتم أتم منه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}: يعني بالعهود، ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وأخرجه الطبري من هذا الوجه مفرقا، ونقل مثله عن مجاهد والسدي وجماعة، ونقل عن قتادة: المراد ما كان في الجاهلية من الحلف. ونقل عن غيره: هي العقود التي يتعاقدها الناس. قال: والأول أولى، لأن الله أتبع ذلك البيان عما أحل وحرم، قال: والعقود جمع عقد، وأصل عقد الشيء بغيره وصله به كما يعقد الحبل بالحبل. قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} :الخنزير، وصله أيضا ابن أبي حاتم عنه من هذا الوجه بلفظ :{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني الميتة والدم ولحم الخنزير". قوله: "يجرمنكم: يحملنكم" يعني قوله تعالى :{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أي لا يحملنكم بغض قوم على العدوان، وقد وصله ابن أبي حاتم أيضا من الوجه المذكور إلى ابن عباس، وحكى الطبري عن غيره غير ذلك لكنه راجع إلى معناه. قوله: "المنخنقة إلخ" وصله البيهقي بتمامه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقال في آخره: "فما أدركته من هذا يتحرك له ذنب أو تطرف له عين فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال" وأخرجه الطبري من هذا الوجه بلفظ: "المنخنقة التي تخنق فتموت، والموقوذة التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت، والمتردية التي تتردى من الجبل، والنطيحة الشاة تنطح الشاة، وما أكل السبع ما أخذ السبع، إلا ما ذكيتم إلا ما أدركتم ذكاته من هذا كله يتحرك له ذنب أو تطرف له عين فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال" ومن وجه آخر عن ابن عباس أنه قرأ: {وأكيل السبع "ومن طريق قتادة" كل ما ذكر غير الخنزير إذا أدركت منه عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو قائمة ترتكض فذكيته فقد أحل لك "ومن طريق علي نحو قول ابن عباس، ومن طريق قتادة: كان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصا حتى إذا ماتت أكلوها

(9/599)


قال: والمتردية التي تتردى في البئر. قوله: "حدثنا زكريا" هو ابن أبي زائدة، وعامر هو الشعبي، وهذا السند كوفيون. قوله: "عن عدي بن حاتم" هو الطائي، في رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس عن زكريا حدثنا عامر حدثنا عدي قال الإسماعيلي ذكرته بقوله: "حدثنا عامر حدثنا عدي" يشير إلى أن زكريا مدلس وقد عنعنه. قلت: وسيأتي في رواية عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي "سمعت عدي بن حاتم" وفي رواية سعيد بن مسروق "حدثني الشعبي سمعت عدي بن حاتم وكان لنا جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين" أخرجه مسلم، وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضا جوادا، وكان إسلامه سنة الفتح، وثبت هو وقومه على الإسلام، وشهد الفتوح بالعراق، ثم كان مع علي وعاش إلى سنة ثمان وستين. قوله: "المعراض" بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة، قال الخليل وتبعه جماعة: سهم لا ريش له ولا نصل. وقال ابن دريد وتبعه ابن سيده: سهم طويل له أربع قذذ رقاق، فإذا رمى به اعترض. وقال الخطابي: المعراض نصل عريض له ثقل ورزانة، وقيل عود رقيق الطرفين غليظ الوسط وهو المسمى بالحذافة، وقيل خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وقد لا يحدد؛ وقوى هذا الأخير النووي تبعا لعياض. وقال القرطبي: إنه المشهور. وقال ابن التين: المعراض عصا في طرفها حديدة يرمي الصائد بها الصيد، فما أصاب بحده فهو ذكي فيؤكل، وما أصاب بغير حده فهو وقيذ. قوله: "وما أصاب بعرضه فهو وقيذ" في رواية ابن أبي السفر عن الشعبي في الباب الذي يليه "بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل" وقيذ بالقاف وآخره ذال معجمة وزن عظيم، فعيل بمعنى مفعول، وهو ما قتل بعصا أو حجر أو ما لا حد له، والموقوذة تقدم تفسيرها وأنها التي تضرب بالخشبة حتى تموت. ووقع في رواية همام بن الحارث عن عدي الآتية بعد باب "قلت إنا نرمي بالمعراض قال: كل ما خزق" وهو بفتح المعجمة والزاي بعدها قاف أي نفذ، يقال سهم خازق أي نافذ، ويقال بالسين المهملة بدل الزاي، وقيل الخزق - بالزاي وقيل تبدل سينا - الخدش ولا يثبت فيه، فإن قيل بالراء فهو أن يثقبه. وحاصله أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد بحده حل وكانت تلك ذكاته، وإذا أصابه بعرضه لم يحل لأنه في معنى الخشبة الثقيلة والحجر ونحو ذلك من المثقل، وقوله: "بعرضه" بفتح العين أي بغير طرفه المحدد، وهو حجة للجمهور في التفصيل المذكور، وعن الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام حل ذلك، وسيأتي في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.قوله: "وسألته عن صيد الكلب فقال: ما أمسك عليك فكل، فإن أخذ الكلب ذكاة" في رواية ابن أبي السفر "إذا أرسلت كلبك فسميت فكل" وفي رواية بيان بن عمرو عن الشعبي الآتية بعد أبواب "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك" والمراد بالمعلمة التي إذا أغراها صاحبها على الصيد طلبته، وإذا زجرها انزجرت وإذا أخذت الصيد حبسته على صاحبها.وهذا الثالث مختلف في اشتراطه، واختلف متى يعلم ذلك منها فقال البغوي في "التهذيب" : أقله ثلاث مرات، وعن أبي حنيفة وأحمد يكفي مرتين.وقال الرافعي: لم يقدره المعظم لاضطراب العرف واختلاف طباع الجوارح فصار المرجع إلى العرف. ووقع في رواية مجالد عن الشعبي عن عدي في هذا الحديث عند أبي داود والترمذي أما الترمذي فلفظه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فكل" وأما أبو داود فلفظه: "ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك.قلت: وإن قتل؟ قال: إذا قتل ولم يأكل منه" قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بصيد الباز والصقور بأسا ا ه.وفي معنى الباز الصقر والعقاب والباشق والشاهين، وقد فسر مجاهد الجوارح في الآية

(9/600)


بالكلاب والطيور، وهو قول الجمهور إلا ما روى عن ابن عمر وابن عباس من التفرقة بين صيد الكلب والطير.قوله: "إذ أرسلت كلابك المعلمة فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره" في رواية بيان "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل" وزاد في روايته بعد قوله مما أمسكن عليك "وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" وفي رواية ابن أبي السفر "قلت، فإن أكل؟ قال: فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه"، وسيأتي بعد أبواب زيادة في رواية عاصم عن الشعبي في رمي الصيد إذا غاب عنه ووجده بعد يوم أو أكثر.وفي الحديث اشتراط التسمية عند الصيد، وقد وقع في حديث أبي ثعلبة كما سيأتي بعد أبواب "وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل" وقد أجمعوا على مشروعيتها إلا أنهم اختلفوا في كونها شرطا في حل الأكل فذهب الشافعي وطائفة - وهي رواية عن مالك وأحمد - أنها سنة، فمن تركها عمدا أو سهوا لم يقدح في حل الأكل. وذهب أحمد في الراجح عنه وأبو ثور وطائفة إلى أنها واجبة لجعلها شرطا في حديث عدي، ولإيقاف الإذن في الأكل عليها في حديث أبي ثعلبة، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصف، ويتأكد القول بالوجوب بأن الأصل تحريم الميتة، وما أذن فيه منها تراعي صفته، فالمسمى عليها وافق الوصف وغير المسمى باق على أصل التحريم. وذهب أبو حنيفة ومالك والثوري وجماهير العلماء إلى الجواز لمن تركها ساهيا لا عمدا، لكن اختلف عن المالكية: هل تحرم أو تكره؟ وعند الحنفية تحرم، وعند الشافعية في العمد ثلاثة أوجه: أصحها يكره الأكل، وقيل خلاف الأولى، وقيل يأثم بالترك ولا يحرم الأكل. والمشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة، فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث، وسيأتي حجة من لم يشترطه فيها في الذبائح مفصلة، وفيه إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، واستثنى أحمد وإسحاق الكلب الأسود وقالا: لا يحل الصيد به لأنه شيطان ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك. وفيه جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المتقدمة ولو لم يذبح لقوله: "إن أخذ الكلب ذكاة" فلو قتل الصيد بظفره أو نابه حل، وكذا بثقله على أحد القولين للشافعي وهو الراجح عندهم، وكذا لو لم يقتله الكلب لكن تركه وبه رمق ولم يبق زمن يمكن صاحبه فيه لحاقه وذبحه فمات حل، لعموم قوله: "فإن أخذ الكلب ذكاة" وهذا في المعلم، فلو وجده حيا حياة مستقرة وأدرك ذكاته لم يحل إلا بالتذكية، فلو لم يذبحه مع الإمكان حرم، سواء كان عدم الذبح اختيارا أو إضرارا كعدم حضور آلة الذبح، فإن كان الكلب غير معلم اشترط إدراك تذكيته، فلو أدركه ميتا لم يحل. وفيه أنه لا يحل أكل ما شاركه فيه كلب آخر في اصطياده، ومحله ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حل، ثم ينظر فإن أرسلاهما معا فهو لهما وإلا فللأول، ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله: "فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره:" فإنه يفهم منه أن المرسل لو سمي على الكلب لحل. ووقع في رواية بيان عن الشعبي "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل" فيؤخذ منه أنه لو وجده حيا وفيه حياة مستقرة فذكاة حل، لأن الاعتماد في الإباحة على التذكية لا على إمساك الكلب. وفيه تحريم أكل الصيد الذي أكل الكلب منه ولو كان الكلب معلما، وقد علل في الحديث بالخوف من أنه "إنما أمسك على نفسه" وهذا قول الجمهور، وهو الراجح من قولي الشافعي. وقال في القديم - وهو قول مالك ونقل عن بعض الصحابة - يحل، واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مكلبة، فأفتني في صيدها. قال: كل مما

(9/601)


أمسكن عليك. قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه" أخرجه أبو داود. ولا بأس بسنده. وسلك الناس في الجمع بين الحديثين طرقا: منها للقائلين بالتحريم حمل حديث أبي ثعلبة: على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، ومنها الترجيح فرواية عدي في الصحيحين متفق على صحتها، ورواية أبي ثعلبة المذكورة في غير الصحيحين مختلف في تضعيفها، وأيضا فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم وهو خوف الإمساك على نفسه متأيدة بأن الأصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل وظاهر القرآن أيضا وهو قوله تعالى :{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فإن مقتضاها أن الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشاهد من حديث ابن عباس عند أحمد "إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنما أمسك على صاحبه" وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع بمعناه، ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة {عَلَيْكُمْ}. ومنها للقائلين بالإباحة حمل حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث أبي ثعلبة على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا فاختير له الحمل على الأولى، بخلاف أبي ثعلبة فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك مع التصريح بالتعليل في الحديث بخوف الإمساك على نفسه. وقال ابن التين: قال بعض أصحابنا هو عام فيحمل على الذي أدركه ميتا من شدة العدو أو من الصدمة فأكل منه، لأنه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال ولا الإمساك على صاحبه، قال: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "فإن أكل فلا تأكل أي لا يوجد منه غير مجرد الأكل دون إرسال الصائد له، وتكون هذه الجملة مقطوعة عما قبلها. ولا يخفى تعسف هذا وبعده. وقال ابن القصار: مجرد إرسالنا الكلب إمساك علينا، لأن الكلب لا نية له ولا يصح منه ميزها، وإنما يتصيد بالتعليم؛ فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك بنية من له نية وهو مرسله، فإذا أرسله فقد أمسك عليه وإذا لم يرسله لم يمسك عليه، كذا قال: ولا يخفى بعده أيضا ومصادمته لسياق الحديث. وقد قال الجمهور: إن معنى قوله: " {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} صدن لكم، وقد جعل الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه فلا يعدل عن ذلك، وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: "إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلم ما علمته" وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله دل على أنه ليس بمعلم التعليم المشترط. وسلك بعض المالكية الترجيح فقال: هذه اللفظة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام، وعارضها حديث أبي ثعلبة، وهذا ترجيح مردود لما تقدم. وتمسك بعضهم بالإجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهم بأكله فأدرك قبل أن يأكل، قال فلو كان أكله منه دالا على أنه أمسك على نفسه لكان تناوله بفيه وشروعه في أكله كذلك، ولكن يشترط أن يقف الصائد حتى ينظر هل يأكل أو لا والله أعلم. وفيه إباحة الاصطياد للانتفاع بالصيد للأكل والبيع وكذا اللهو، بشرط قصد التذكية والانتفاع، وكرهه مالك، وخالفه. الجمهور. قال الليث: لا أعلم حقا أشبه بباطل منه، فلو لم يقصد الانتفاع به حرم لأنه من الفساد في الأرض بإتلاف نفس عبثا. وينقدح أن يقال: يباح، فإن لازمه وأكثر منه كره، لأنه قد يشغله عن بعض الواجبات وكثير من المندوبات. وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس رفعه: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل" وله شاهد عن أبي هريرة عند الترمذي أيضا وآخر عند الدار قطني في "الأفراد" من حديث البراء بن عازب وقال: تفرد به شريك. وفيه جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد، وسيأتي البحث فيه في حديث: "من اقتنى

(9/602)


كلبا" واستدل به على جواز بيع كلب الصيد للإضافة في قوله: "كلبك" وأجاب من منع بأنها إضافة اختصاص، واستدل به على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولم يذكر الغسل ولو كان واجبا لبينه لأنه وقت الحاجة إلى البيان. وقال بعض العلماء: يعفى عن معض الكلب ولو كان نجسا لهذا الحديث، وأجاب من قال بنجاسته بأن وجوب الغسل كان قد اشتهر عندهم وعلم فاستغنى عن ذكره، وفيه نظر، وقد يتقوى القول بالعفو لأنه بشدة الجري يجف ريقه فيؤمن معه ما يخشى من إصابة لعابه موضع العض، واستدل بقوله: "كل ما أمسك عليك" بأنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطياد غيره حل، للعموم الذي في قوله: "ما أمسك" وهذا قول الجمهور. وقال مالك: لا يخل، وهو رواية البويطي عن الشافعي. "تنبيه": قال ابن المنير ليس في جميع ما ذكر من الآي والأحاديث تعرض للتسمية المترجم عليها إلا آخر حديث عدي، فكأنه عده بيانا لما أجملته الأدلة من التسمية، وعند الأصوليين خلاف في المجمل إذا اقترنت به قرينة لفظية مبينة هل يكون ذلك الدليل المجمل معها أو إباها خاصة؟ انتهى. وقوله: "الأحاديث" يوهم أن في الباب عدة أحاديث، وليس كذلك لأنه لم يذكر فيه إلا حديث عدي، نعم ذكر فيه تفاسير ابن عباس فكأنه عدها أحاديث، بحثه في التسمية المذكورة في آخر حديث عدي مردود، وليس ذلك مراد البخاري، وإنما جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده، وقد أورد البخاري بعده بقليل من طريق ابن أبي السفر عن الشعبي "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل" ومن رواية بيان عن الشعبي "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل" فلما كان الأخذ بقيد "المعلم" متفقا عليه وإن لم يذكر في الطريق الأولى كانت التسمية كذلك، والله أعلم

(9/603)


2- باب صَيْدِ الْمِعْرَاضِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ وَكَرِهَهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَكَرِهَ الْحَسَنُ رَمْيَ الْبُنْدُقَةِ فِي الْقُرَى وَالأَمْصَارِ وَلاَ يَرَى بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ
5476- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُلْ فَقُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي قَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ قُلْتُ فَإِنْ أَكَلَ قَالَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ قَالَ لاَ تَأْكُلْ فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآخَرَ"
قوله: "باب صيد المعراض" تقدم تفسيره في الذي قبله. قوله: "وقال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة، وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن" أما أثر ابن عمر فوصله البيهقي من طريق أبي عامر العقدي عن زهير هو ابن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول: "المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق نافع عن ابن عمر أنه "كان لا يأكل ما أصابت البندقة" ولمالك في الموطأ عن

(9/603)


نافع "رميت طائرين بحجر فأصبتهما، فإما أحدهما فمات فطرحه ابن عمر". وأما سالم وهو ابن عبد الله بن عمر والقاسم وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق فأخرج ابن أبي شيبة عن الثقفي عن عبيد الله بن عمر عنهما "إنهما كانا يكرهان البندقة، إلا ما أدركت ذكاته". ولمالك في "الموطأ" أنه "بلغه أن القاسم بن محمد كان يكره ما قتل بالمعراض والبندقة". وأما مجاهد فأخرج ابن أبي شيبة من وجهين أنه كرهه، زاد في أحدهما "لا تأكل إلا أن يذكى". وأما إبراهيم وهو النخعي فأخرج ابن أبي شيبة من رواية الأعمش عنه "لا تأكل ما أصبت بالبندقة إلا أن يذكى". وأما عطاء فقال عبد الرزاق عن ابن جريج "قال عطاء: إن رميت صيدا ببندقة فأدركت ذكاته فكله، وإلا فلا تأكله" وأما الحسن وهو البصري فقال ابن أبي شيبة: "حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن: إذا رمى الرجل الصيد بالجلاهقة فلا تأكل، إلا أن تدرك ذكاته". والجلاهقة بضم الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء بعدها قاف هي البندقة بالفارسية والجمع جلاهق. قوله: "وكره الحسن رمي البندقة في القرى والأمصار، ولا يرى به بأسا فيما سواه" وصله1 ثم ذكر حديث عدي بن حاتم من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، وقد تقدم شرحه مستوفى في الباب الذي قبله.

(9/604)


باب مأصاب المعراض بعرضه
...
3- باب مَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ
5477- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُرْسِلُ الْكِلاَبَ الْمُعَلَّمَةَ قَالَ كُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ قُلْتُ وَإِنْ قَتَلْنَ قَالَ وَإِنْ قَتَلْنَ قُلْتُ وَإِنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ قَالَ كُلْ مَا خَزَقَ وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلاَ تَأْكُلْ"
قوله: "باب ما أصاب المعراض بعرضه" ذكر فيه حديث عدي بن حاتم من طريق همام بن الحارث عنه مختصرا وقد بينت ما فيه في الباب الأول.

(9/604)


4- باب صَيْدِ الْقَوْسِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ إِذَا ضَرَبَ صَيْدًا فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ لاَ تَأْكُلُ الَّذِي بَانَ وَكُلْ سَائِرَهُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ وَسَطَهُ فَكُلْهُ وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ زَيْدٍ اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ حِمَارٌ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ دَعُوا مَا سَقَطَ مِنْهُ وَكُلُوهُ"
5478- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ فَمَا يَصْلُحُ لِي قَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ

(9/604)


باب الخذف والبندقية
...
5- باب الْخَذْفِ وَالْبُنْدُقَةِ
5473- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَاللَّفْظُ لِيَزِيدَ عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ لاَ تَخْذِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ وَقَالَ إِنَّهُ لاَ يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلاَ يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ أَوْ كَرِهَ الْخَذْفَ وَأَنْتَ تَخْذِفُ لاَ أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب الخذف والبندقة" أما الخذف فسيأتي تفسيره في الباب، وأما البندقة معروفة تتخذ من طين وتيبس فيرمى بها، وقد تقدمت أشياء تتعلق بها في "باب صيد المعراض". قوله: "حدثني يوسف بن راشد" وهو يوسف بن موسى بن راشد بن بلال القطان الرازي نزيل بغداد، نسبه البخاري إلى جده، وفي طبقته يوسف بن موسى التستري نزل الري. فلعل البخاري كان يخشى أن يلتبس به. قوله: "واللفظ ليزيد" قلت قد أخرج أحمد الحديث عن وكيع مقتصرا على المتن دون القصة، وأخرجه الإسماعيلي من رواية يحيى القطان ووكيع كلاهما عن كهمس مقرونا وقال: إن السياق ليحيى والمعنى واحد. قوله: "إنه رأى رجلا" لم أقف على اسمه، ووقع في رواية مسلم من رواية معاذ بن معاذ عن كهمس "رأى رجلا من أصحابه" وله من رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل أنه قريب لعبد الله بن مغفل. قوله: "يخذف" بخاء معجمة وآخره فاء أي يرمي بحصاة أو نواة بين سبابتيه أو بين الإبهام والسبابة أو على ظاهر الوسطى وباطن الإبهام. وقال ابن فارس: خذفت الحصاة رميتها بين أصبعيك، وقيل في حصى الخذف: أن يجعل الحصاة بين السبابة من اليمنى والإبهام من اليسرى ثم يقذفها بالسبابة من اليمين. وقال ابن سيده: خذف بالشيء يخذف فارسي وخص بعضهم به الحصى، قال: والمخذفة التي يوضع فيها الحجر ويرمي بها الطير ويطلق على المقلاع أيضا قاله في الصحاح. قوله: "نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف" في رواية أحمد عن وكيع "نهى عن الحذف" ولم يشك، وأخرجه عن محمد بن جعفر عن كهمس بالشك وبين أن الشك من كهمس. قوله: "إنه لا يصاد به صيد" قال المهلب: أباح الله الصيد على صفة فقال: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك وإنما هو وقيذ، وأطلق الشارع أن الحذف لا يصاد به لأنه ليس من المجهزات، وقد اتفق العلماء - إلا من شذ منهم - على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر انتهى. وإنما كان كذلك لأنه يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده. قوله: "ولا ينكأ به عدو" قال عياض: الرواية بفتح الكاف وبهمزة في آخره وهي لغة،

(9/607)


والأشهر بكسر الكاف بغير همز. وقال في شرح مسلم: لا ينكأ بفتح الكاف مهموز، وروى لا ينكي بكسر الكاف وسكون التحتانية، وهو أوجه لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة وليس هذا موضعه فإنه من النكاية، لكن قال في "العين" نكأت لغة في نكيت، فعلى هذا تتوجه هذه الرواية قال: ومعناه المبالغة في الأذى. وقال ابن سيده، نكأ العدو نكاية أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم، فظهر أن الرواية صحيحة المعنى ولا معنى لتخطئتها. وأغرب ابن التين فلم يعرج على الرواية التي بالهمز أصلا بل شرحه على التي بكسر الكاف بغير همز، ثم قال: ونكأت القرحة بالهمز. قوله: "ولكنها قد تكسر السن" أي الرمية، وأطلق السن فيشمل سن المرمى وغيره من آدمي وغيره. قوله: "لا أكلمك كذا وكذا" في رواية معاذ ومحمد بن جعفر "لا أكلمك كلمة كذا وكذا" وكلمة بالنصب والتنوين، كذا وكذا أبهم الزمان، ووقع في رواية سعيد بن جبير عند مسلم: "لا أكلمك أبدا" وفي الحديث جواز هجران من خالف السنة وترك كلامه، ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأدب، وفيه تغيير المنكر ومنع الرمي بالبندقة لأنه إذا نفى الشارع أنه لا يصيد فلا معنى للرمي به بل فيه تعريض للحيوان بالتلف لغير مالكه وقد ورد النهي عن ذلك، نعم قد يدرك ذكاة ما رمي بالبندقة فيحل أكله، ومن ثم اختلف في جوازه فصرح مجلي في "الذخائر" بمنعه وبه أفتى ابن عبد السلام، وجزم النووي له لأنه طريق إلى الاصطياد، والتحقيق التفصيل: فإن كان الأغلب من حال الرمي ما ذكر في الحديث امتنع، وإن كان عكسه جاز ولا سيما أن كان المرمى مما لا يصل إليه الرمي إلا بذلك ثم لا يقتله غالبا، وقد تقدم قبل بابين من هذا الباب قول الحسن في كراهية رمي البندقة في القرى والأمصار، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل مدار النهي على خشية إدخال الضرر على أحد من الناس والله أعلم

(9/608)


6- باب مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ
5480- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ"
[الحديث 5480- طرفاه في: 5481، 5482]
5481- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"
5482- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"

(9/608)


قوله: "باب من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية" يقال اقتنى الشيء إذا اتخذه للادخار، ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك من ثلاثة طرق عنه، ووقع في الرواية الأولى "ليس بكلب ماشية أو ضارية" وفي الثانية "إلا كلبا ضاريا لصيد أو كلب ماشية" وفي الثالثة "إلا كلب ماشية أو ضاربا" فالرواية الثانية تفسر الأولى والثالثة، فالأولى إما للاستعارة على أن ضاربا صفة للجماعة الضارين أصحاب الكلاب المعتادة الضارية على الصيد، يقال ضرا على الصيد ضراوة أي تعود ذلك واستمر عليه، وضرا الكلب وأضراه صاحبه أي عوده وأغراه بالصيد، والجمع ضوار، وإما للتناسب للفظ ماشية مثل لا دريت ولا تليت والأصل تلوت، والرواية الثالثة فيها حذف تقديره أو كلبا ضاريا، ووقع في الرواية الثانية في غير رواية أبي ذر "إلا كلب ضاري" بالإضافة وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، أو لفظ ضاري صفة للرجل الصائد أي إلا كلب رجل معتاد للصيد، وثبوت الياء في الاسم المنقوص مع حذف الألف واللام منه لغة. وقد أورد المصنف حديث الباب من حديث أبي هريرة في المزارعة وفي بدء الخلق، وأورده فيهما أيضا من حديث سفيان بن أبي زهير، وتقدم شرح المتن مستوفى في كتاب المزارعة، وفيه التنبيه على زيادة أبي هريرة وسفيان بن أبي زهير في الحديث: "أو كلب زرع"، وفي لفظ: "حرث" وكذا وقعت الزيادة في حديث عبد الله بن مغفل عند الترمذي.

(9/609)


7- باب إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} مكلبين وَالْكَوَاسِبُ اجْتَرَحُوا اكْتَسَبُوا {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ - سَرِيعُ الْحِسَابِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَقَدْ أَفْسَدَهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ يَقُولُ {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} فَتُضْرَبُ وَتُعَلَّمُ حَتَّى يَتْرُكَ وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ
5483- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلاَبِ فَقَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَإِنْ قَتَلْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَطَهَا كِلاَبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُلْ"
قوله: "باب إذا أكل الكلب" ذكر فيه حديث عدي بن حاتم من رواية بيان بن عمرو عن الشعبي عنه، وقد تقدم شرحه مستوفى في الباب الأول. قوله: "وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} الآية. مكلبين الكواسب" في رواية الكشميهني: "الصوائد" وجمعهما في نسخة الصغاني، وهو صفة محذوف تقديره الكلاب الصوائد أو الكواسب، وقوله: "مكلبين" أي مؤدبين أو معودين، قيل وليس هو تفعيل من الكلب الحيوان المعروف وإنما هو من الكلب بفتح اللام وهو الحرص، نعم هو راجع إلى الأول لأنه أصل فيه لما طبع عليه من شدة الحرص، ولأن الصيد غالبا إنما بكون بالكلاب، فمن علم الصيد من غيرها كان في معناها. وقال أبو عبيدة في قوله: "مكلبين" : أي أصحاب كلاب. وقال الراغب: الكلاب والمكلب الذي يعلم الكلاب. قوله: "اجترحوا اكتسبوا" هو تفسير

(9/609)


أبي عبيدة، وليست هذه الآية في هذا الموضع وإنما ذكرها استطرادا لبيان أن الاجتراح يطلق على الاكتساب وأن المراد بالمكلبين المعلمين، وهو وإن كان أصل المادة الكلاب لكن ليس الكلب شرطا فيصح الصيد بغير الكلب من أنواع الجوارح، ولفظ أبي عبيدة، وما علمتم من الجوارح أي الصوائد، ويقال فلان جارحة أهله أي كاسبهم. وفي رواية أخرى: ومن يجترح أي يكتسب. وفي رواية أخرى: الذين اجترحوا السيئات اكتسبوا. "تنبيه": اعترض بعض الشراح على قوله: "الكواسب والجوارح" فإنه قال في تفسير براءة في الهوالك ما تقدم ذكره فألزمه التناقض، وليس كما قال، بل الذي هنا على الأصل في جمع المؤنث. قوله: "وقال ابن عباس: إن أكل الكلب فقد أفسده، إنما أمسك على نفسه، والله يقول: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} فتضرب وتعلم حتى تترك وصله سعيد بن منصور مختصرا من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. وأخرج أيضا من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا أرسلت كلبك المعلم فسميت فأكل فلا تأكل، وإذا أكل قبل أن يأتي صاحبه فليس بعالم لقول الله عز وجل :{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وينبغي إذا فعل ذلك أن يضربه حتى يدع ذلك الخلق، فعرف بهذا المراد بقوله: "حتى يترك" أي يترك خلقه في الشره ويتمرن على الصبر عن تناول الصيد حتى يجئ صاحبه. قوله: "وكرهه ابن عمر" وصله ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قل: إذا أكل الكلب من صيده فإنه ليس بعلم. وأخرج من وجه آخر عن ابن عمر الرخصة فيه. وكذا أخرج سعيد بن منصور وعبد الرزاق. قوله: "وقال عطاء إن شرب الدم ولم يأكل فكل" وصله ابن أبي شيبة من طريق ابن جريج عنه بلفظ: "إن أكل فلا تأكل وإن شرب فلا" وتقدمت مباحث هذه المسألة في الباب الأول. حديث عدي بن حاتم من رواية بيان بن عمرو عن الشعبي عنه، قد تقدم شرحه مستوفى في الباب الأول.

(9/610)


8- باب الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنْهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً
5484- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِذَا خَالَطَ كِلاَبًا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلاَّ أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلاَ تَأْكُلْ وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الصَّيْدَ فَيَقْتَفِرُ أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ ثُمَّ يَجِدُهُ مَيِّتًا وَفِيهِ سَهْمُهُ قَالَ يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ"
قوله: "باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة" أي عن الصائد. قوله: "ثابت بن يزيد" هو أبو زيد البصري الأحول وحكى الكلاباذي أنه قيل فيه ثابت بن زيد قال والأول أصح. قلت: زيد كنيته لا اسم أبيه، وشيخه عاصم هو ابن سليمان الأحول وقد زاد عن الشعبي في حديث عدي قصة السهم. قوله: "وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل" ومفهومه أنه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يأكل، وهو نظير ما تقدم في الكلب من التفصيل فيما إذا خالط الكلب الذي أرسله الصائد كلب آخر، لكن التفصيل في مسألة الكلب فيما إذا

(9/610)


شارك الكلب في قتله كلب آخر، وهنا الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد، وقد جاءت فيه زيادة من رواية سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم عند الترمذي والنسائي والطحاوي بلفظ: "إذا وجدت سهمك فيه ولم يجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل منه" قال الرافعي: يؤخذ منه أنه لو جرحه ثم غاب ثم جاء فوجده ميتا أنه لا يحل، وهو ظاهر نص الشافعي في "المختصر". وقال النووي: الحل أصح دليلا. وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أنه قال في قول ابن عباس "كل ما أصميت ودع ما أنميت" : معنى "ما أصميت" ما قتله الكلب وأنت تراه، وما "أنميت" وما غاب عنك مقتله. قال وهذا لا يجوز عندي غيره إلا أن يكون جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء فيسقط كل شيء خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقوم معه رأي ولا قياس، قال البيهقي: وقد ثبت الخبر يعني حديث الباب فينبغي أن يكون هو قول الشافعي. قوله: "وإن وقع في الماء فلا تأكل" يؤخذ سبب منع أكله من الذي قبله، لأنه حينئذ يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء؟ فلو تحقق أن السهم أصابه فملت فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله، قال النووي في "شرح مسلم:" إذا وجد الصيد في الماء غريقا حرم بالاتفاق ا ه، وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلا فقد تمت زكاته، ويؤيده قوله في رواية مسلم: "فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل. قوله: "وقال عبد الأعلى" يعني ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري، وداود هو ابن أبي هند، وعامر هو الشعبي، وهذا التعليق وصله أبو داود عن الحسين بن معاذ عن عبد الأعلى به. قوله: "فيفتقر" بفاء ثم مثناة ثم قاف أي يتبع فقاره حتى يتمكن منه، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن بطال. وفي رواية الكشميهني فيقتفي أي يتبع، وكذا لمسلم والأصيلي وفي رواية: "فيقفو" وهي أوجه. قوله: "اليومين والثلاثة" فيه زيادة على رواية عاصم بن سليمان "بعد يوم أو يومين" ووقع في رواية سعيد بن جبير "فيغيب عنه الليلة والليلتين" ووقع عند مسلم في حديث أبي ثعلبة بسند فيه معاوية بن صالح "إذا رميت سهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن" وفي لفظ في الذي يدرك الصيد بعد ثلاث "كله ما لم ينتن" ونحوه عند أبي داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما تقدم التنبيه عليه قريبا، فجعل الغاية أن ينتن الصيد فلو وجده مثلا بعد ثلاث ولم ينتن حل، وإن وجده بلونها وقد أنتن فلا، هذا ظاهر الحديث، وأجاب النووي بأن النهي عن أكله إذا أنتن للتنزيه، وسأذكر في ذلك بحثا في "باب صيد البحر" واستدل به على أن الرامي لو أخر الصيد عقب الرمي إلى أن يجده أن يحل بالشروط المتقدمة ولا يحتاج إلى استفصال عن سبب غيبته عنه أكان مع الطلب أو عدمه، لكن يستدل للطلب بما وقع في الرواية الأخيرة حيث قال: "فيقتفي أثره" فدل على أن الجواب خرج على حسب السؤال، فاختصر بعض الرواة السؤال، فلا يتمسك فيه بترك الاستفصال. واختلف في صفة الطلب: فعن أبي حنيفة إن أخر ساعة فلم يطلب لم يحل، وإن اتبعه عقب الرمي فوجده ميتا حل. وعن الشافعية لا بد أن يتبعه. وفي اشتراط العدو وجهان أظهرهما يكفي المشي على عادته حتى لو أسرع وجده حيا حل. وقال إمام الحرمين: لا بد من الإسراع قليلا ليتحقق صورة الطلب، وعند الحنفية نحو هذا الاختلاف.

(9/611)


9- باب إِذَا وَجَدَ مَعَ الصَّيْدِ كَلْبًا آخَرَ
5486- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَأَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لاَ أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ فَقَالَ لاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُلْ"
قوله: "باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر" ذكر فيه حديث عدي بن حاتم من رواية عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، وقد تقدم البحث في ذلك في الباب الأول.

(9/612)


باب ماجاء في التصيد
...
10- باب مَا جَاءَ فِي التَّصَيُّدِ
5487- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنِي ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلاَبِ فَقَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُلْ"
5488- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَالَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ تَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ"
5489- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَوْا عَلَيْهَا حَتَّى لَغِبُوا فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَرِكَيْهَا أَوْ فَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ"

(9/612)


5490- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطًا فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى بَعْضُهُمْ فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ"
5490- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلَهُ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ"؟
قوله: "باب ما جاء في التصيد". قال ابن المنير مقصوده بهذه الترجمة التنبيه على أن الاشتغال بالصيد لمن هو عيشه به مشروع، ولمن عرض له ذلك وعيشه بغيره مباح، وأما التصيد لمجرد اللهو فهو محل الخلاف. قلت: وقد تقدم البحث في ذلك في الباب الأول. وذكر فيه أربعة أحاديث. حديث عدي بن حاتم من رواية بيان بن عمرو عن الشعبي عنه وقد تقدم ما فيه. حديث أبي ثعلبة أخرجه عاليا عن أبي عاصم عن حيوة، ونازلا من رواية ابن المبارك عن حيوة وهو ابن شريح، وساقه على رواية ابن المبارك، وسيأتي لفظ أبي عاصم حيث أفرده بعد ثلاثة أبواب، وقد تقدم قبل خمسة أبواب من وجه آخر عاليا. "أنفجنا أرنبا" يأتي شرحه في أواخر الذبائح حيث عقد للأرنب ترجمة مفردة، ومعنى "أنفجنا" أثرنا. وقوله هنا "لغبوا" بغين معجمة بعد اللام أي تعبوا وزنه ومعناه، وثبت بلفظ تعبوا في رواية الكشميهني، وقوله: "بوركها" كذا للأكثر بالإفراد، وللكشميهني: "بوركيها" بالتثنية. حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي، وتقدم شرحها مستوفى في كتاب الحج.

(9/613)


11- باب التَّصَيُّدِ عَلَى الْجِبَالِ
5492- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَنَا رَجُلٌ حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ لِشَيْءٍ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ فَقُلْتُ لَهُمْ مَا هَذَا قَالُوا لاَ نَدْرِي قُلْتُ هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ فَقَالُوا هُوَ مَا رَأَيْتَ وَكُنْتُ نَسِيتُ سَوْطِي فَقُلْتُ لَهُمْ نَاوِلُونِي سَوْطِي فَقَالُوا لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُ ثُمَّ ضَرَبْتُ فِي أَثَرِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِلاَّ ذَاكَ حَتَّى عَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ لَهُمْ قُومُوا فَاحْتَمِلُوا قَالُوا لاَ نَمَسُّهُ فَحَمَلْتُهُ حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ فَقُلْتُ لَهُمْ أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمْ

(9/613)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكْتُهُ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ لِي أَبَقِيَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ كُلُوا فَهُوَ طُعْمٌ أَطْعَمَكُمُوهُ اللَّهُ"
قوله: "باب التصيد على الجبال" هو بالجيم جمع جبل بالتحريك. أورد فيه حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي لقوله فيه: "كنت رقاء على الجبال" وهو بتشديد القاف مهموز أي كثير الصعود عليها. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن الحارث المصري، وأبو النضر هو المدني واسمه سالم. قوله: "وأبي صالح" هو مولى التوأمة واسمه نبهان، ليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وقرنه بنافع مولى أبي قتادة. وغفل الداودي فظن أن أبا صالح هذا هو ولده صالح مولى التوأمة فقال: إنه تغير بأخرة، فمن أخذ عنه قديما مثل ابن أبي ذئب وعمرو بن الحارث فهو صحيح، وذكر أبو علي الجياني أن أبا أحمد كتب على حاشية نسخته مقابل "وأبي صالح" : هذا خطأ، يعني أن الصواب عن نافع وصالح، قال: وليس هو كما ظن، فإن الحديث محفوظ لنبهان لا لابنه صالح، وقد نبه على ذلك عبد الغني بن سعيد الحافظ، فإنه سئل عمن روى هذا الحديث فقال: "عن صالح مولى التوأمة"، فقال: هذا خطأ إنما هو عن نافع وأبي صالح وهو والد صالح، ولم يأت عنه غير هذا الحديث فلذلك غلط فيه. والتوأمة ضبطت في بعض النسخ بضم المثناة حكاه عياض عن المحدثين قال: والصواب بفتح أوله، قال: ومنهم من ينقل حركة الهمزة فيفتح بها الواو، وحكى ابن التين التومة بوزن الحطمة ولعل هذه الضمة أصل ما حكى عن المحدثين، وقوله: "رقاء على الجبال" في رواية أبي صالح دون نافع مولى أبي قتادة، قال ابن المنير: نبه بهذه الترجمة على جواز ارتكاب المشاق لمن له غرض لنفسه أو لدابته إذا كان الغرض مباحا، وأن التصيد في الجبال كهو في السهل، وأن إجراء الخيل في الوعر جائز للحاجة وليس هو من تعذيب الحيوان.

(9/614)


باب قوله تعالى:(أحل لكم صيد البحر)
...
12- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}
وَقَالَ عُمَرُ صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّافِي حَلاَلٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلاَّ مَا قَذِرْتَ مِنْهَا وَالْجِرِّيُّ لاَ تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ وَقَالَ عَطَاءٌ أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ يَذْبَحَهُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ صَيْدُ الأَنْهَارِ وَقِلاَتِ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ تَلاَ {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}.
وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلاَم عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلاَبِ الْمَاءِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لاَطْعَمْتُهُمْ وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِي ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ"

(9/614)


5493- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن بن جريج قال أخبرني عمرو انه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته"
حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا سفيان عن عمرو قال سمعت جابرا يقول: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمى جيش الخبط وألقى البحر حوتا يقال له العنبر فأكلنا نصف شهر وادهنا بودكه حتى صلحت أجسامنا قال فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه فمر الراكب تحته وكان فينا رجل فلما اشتد الجوع نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة"
قوله: "باب قول الله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} كذا للنسفي، واقتصر الباقون على "أحل لكم صيد البحر". قوله: "وقال عمر" هو ابن الخطاب "صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به" وصله المصنف في "التاريخ" وعبد بن حميد من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر فأمرتهم أن يأكلوه، فلما قدمت على عمر - فذكر قصة - قال فقال عمر قال الله عز وجل في كتابه {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فصيده ما صيد، وطعامه ما قذف به". قوله: "وقال أبو بكر" هو الصديق "الطافي حلال" وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدار قطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: "السمكة الطافية حلال" زاد الطحاوي "لمن أراد أكله" وأخرجه الدار قطني وكذا عبد بن حميد والطبري منها وفي بعضها "أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء" ا ه والطافي بغير همز من طفا يطفو إذا علا الماء ولم يرسب، وللدار قطني من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بكر: إن الله ذبح لكم ما في البحر، فكلوه كله فإنه ذكي. قوله: "وقال ابن عباس: طعامه ميتته إلا ما قذرت منها" وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال طعامه ميتته. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس وذكر صيد البحر: لا تأكل منه طافيا. في سنده الأجلح وهو لين، ويوهنه حديث ابن عباس الماضي قبله. قوله: "والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله" وصله عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس أنه سأل عن الجري فقال: لا بأس به، إنما هو كرهته اليهود، وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري به. وقال في روايته: سألت ابن عباس عن الجري فقال: لا بأس به، إنما تحرمه اليهود ونحن نأكله. وهذا على شرط الصحيح. وأخرج عن علي وطائفة نحوه. والجري بفتح الجيم قال ابن التين: وفي نسخة بالكسر وهو ضبط الصحاح وكسر الراء الثقيلة قال: ويقال له أيضا الجريت وهو ما لا قشر له. قال وقال ابن حبيب من المالكية: أنا أكرهه لأنه يقال إنه من الممسوخ. وقال الأزهري: الجريت نوع من السمك يشبه الحيات، وقيل سمك لا قشر له، ويقال له أيضا المرماهي والسلور مثله. وقال الخطابي: هو ضرب من السمك يشبه الحيات. وقال غيره: نوع عريض الوسط دقيق الطرفين. قوله: "وقال

(9/615)


شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوح. وقال عطاء: أما الطير فأرى أن تذبحه" وصله المصنف في "التاريخ" وابن منده في "المعرفة" من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير أنهما سمعا شريحا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء في البحر مذبوح. قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: أما الطير فأرى أن تذبحه". وأخرجه الدار قطني وأبو نعيم في "الصحابة" مرفوعا من حديث شريح، والموقوف أصح. وأخرجه ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق عمرو بن دينار سمعت شيخا كبيرا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم" وأخرج الدار قطني من حديث عبد الله بن سرجس رفعه: "إن الله قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم" وفي سنده ضعف. والطبراني من حديث ابن عمر رفعه نحوه وسنده ضعيف أيضا. وأخرج عبد الرزاق بسندين جيدين عن عمر ثم عن علي: الحوت ذكي كله. "تنبيه": سقط هذا التعليق من رواية أبي زيد وابن السكن والجرجاني، ووقع في رواية الأصيلي: "وقال أبو شريح وهو وهم نبه على ذلك أبو علي الجياني وتبعه عياض وزاد: وهو شريح بن هانئ أبو هانئ كذا قال، والصواب أنه غيره وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وشريح بن هانئ لأبيه صحبة، وأما هو فله إدراك ولم يثبت له سماع ولا لقاء. وأما شريح المذكور فذكره البخاري في "التاريخ" وقال: له صحبة. وكذا قال أبو حاتم الرازي وغيره. قوله: "وقال ابن جريج: قلت لعطاء صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم، ثم تلا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} وصله عبد الرزاق في التفسير عن ابن جريج بهذا سواء، وأخرجه الفاكهي في "كتاب مكة" من رواية عبد المجيد بن أبي داود عن ابن جريج أتم من هذا وفيه: وسألته عن حيتان بركة القشيري - وهي بئر عظيمة في الحرم - أتصاد؟ قال: نعم. وسألته عن ابن الماء وأشباهه أصيد بحر أم صيد بر؟ فقال حيث يكون أكثر فهو صيد. وقلات بكسر القاف وتخفيف اللام وآخره مثناة، ووقع في رواية الأصيلي مثلثة والصواب الأول: جمع قلت بفتح أوله مثل بحر وبحار هو النقرة في الصخرة يستنقع فيها الماء. قوله: "وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء، وفال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم، ولم ير الحسن بالسلحفاة بأسا" أما قول الحسن الأول فقيل إنه ابن علي وقيل البصري؛ ويؤيد الأول أنه وقع في رواية: "وركب الحسن عليه السلام" وقوله: "على سرج من جلود" أي متخذ من جلود "كلاب الماء"، وأما قول الشعبي فالضفادع جمع ضفدع بكسر أوله وبفتح الدال وبكسرها أيضا، وحكى ضم أوله مع فتح الدال، والضفادي بغير عين لغة فيه، قال ابن التين. لم يبين الشعبي هل تذكى أم لا؟ ومذهب مالك أنها تؤكل بغير تذكية، ومنهم من فصل بين ما مأواه الماء وغيره، وعن الحنفية ورواية عن الشافعي لا بد من التذكية، وأما قول الحسن في السلحفاة فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى بأكل السلحفاة بأسا، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن قال: لا بأس بها، كلها. والسلحفاة بضم المهملة وفتح اللام وسكون المهملة بعدها فاء ثم ألف ثم هاء، ويجوز بدل الهاء همزة حكاه ابن سيده وهي رواية عبدوس، وحكى أيضا في "المحكم" سكون اللام وفتح الحاء، وحكى أيضا سلحفية كالأول لكن بكسر الفاء بعدها تحتانية مفتوحة. قوله: "وقال ابن عباس: كل من صيد البحر نصراني أو يهودي أو مجوسي" قال الكرماني: كذا في النسخ القديمة وفي بعضها "ما صاده" قبل لفظ نصراني. قلت: وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل ما ألقى البحر وما صيد منه صاده يهودي أو نصراني

(9/616)


أو مجوسي، قال ابن التين: مفهومه أن صيد البحر لا يؤكل إن صاده غير هؤلاء، وهو كذلك عند قوم. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء وسعيد بن جبير، وبسند آخر عن علي كراهية صيد المجوسي السمك. قوله: "وقال أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس" قال البيضاوي: ذبح بصيغة الفعل الماضي ونصب راء الخمر على أنه المفعول، قال: ويروى بسكون الموحدة على الإضافة والخمر بالكسر أي تطهيرها. قلت: والأول هو المشهور وهذا الأثر سقط من رواية النسفي، وقد وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:" له من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكره سواء، قال الحربي: هذا مري يعمل بالشام: يؤخذ الخمر فيجعل فيه الملح والسمك ويوضع في الشمس فيتغير عن طعم الخمر. وأخرج أبو بشر الدولابي في "الكنى" من طريق يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه قال في مري النينان: غيرته الشمس. ولابن أبي شيبة من طريق مكحول عن أبي الدرداء: لا بأس بالمري ذبحته النار والملح. وهذا منقطع، وعليه اقتصر مغلطاي ومن تبعه، واعترضوا على جزم البخاري به وما عثروا على كلام الحربي، وهو مراد البخاري جزما، وله طرق أخرى أخرجها الطحاوي من طريق بشر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني: أن أبا الدرداء كان يأكل المري الذي يجعل فيه الخمر ويقول ذبحته الشمس والملح. وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس قال: مر رجل من أصحاب أبي الدرداء بآخر - فذكر قصة في اختلافهم في المري - فأتيا أبا الدرداء فسألاه فقال: ذبحت خمرها الشمس والملح والحيتان. ورويناه في جزء إسحاق بن الفيض من طريق عطاء الخراساني قال: سئل أبو الدرداء عن أكل المري فقال: ذبحت الشمس سكر الخمر، فنحن نأكل، لا نرى به بأسا. قال أبو موسى في "ذيل الغريب" : عبر عن قوة الملح والشمس وغلبتهما على الخمر وإزالتهما طعمها ورائحتها بالذبح، وإنما ذكر النينان دون الملح لأن المقصود من ذلك يحصل بدونه، ولم يرد أن النينان وحدها هي التي خللته. قال: وكان أبو الدرداء ممن يفتي بجواز تخليل الخمر فقال: إن السمك بالآلة التي أضيفت إليه يغلب على ضراوة الخمر ويزيل شدتها، والشمس تؤثر في تخليلها فتصير حلالا. قال: وكان أهل الريف من الشام يعجنون المري بالخمر وربما يجعلون فيه أيضا السمك الذي يربى بالملح والأبزار مما يسمونه الصحناء، والقصد من المري هضم الطعام فيضيفونه إليه كل ثقيف أو حريف ليزيد في جلاء المعدة واستدعاء الطعام بحرافته. وكان أبو الدرداء وجماعة من الصحابة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر وأدخله البخاري في طهارة صيد البحر يريد أن السمك طاهر حلال وأن طهارته وحله يتعدى إلى غيره كالملح حتى يصير الحرام النجس بإضافتها إليه طاهرا حلالا، وهذا رأي من يجوز تحليل الخمر، وهو قول أبي الدرداء وجماعة. وقال ابن الأثير في "النهاية" استعار الذبح للإحلال فكأنه يقول: كما أن الذبح يحل أكل المذبوحة دون الميتة فكذلك هذه الأشياء إذا وضعت في الخمر قامت مقام الذبح فأحلتها. وقال البيضاوي: يريد أنها حلت بالحوت المطروح فيها وطبخها بالشمس، فكان ذلك كالذكاة للحيوان. وقال غيره معنى ذبحتها أبطلت فعلها، وذكر الحاكم في النوع العشرين من "علوم الحديث:" من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع عثمان بن عفان يقول: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث. قال ابن شهاب: في هذا الحديث أن لا خير في الخمر، وأنها إذا أفسدت لا خير فيها حتى يكون الله هو الذي يفسدها فيطيب حينئذ الخل. قال ابن وهب: وسمعت مالكا يقول سمعت ابن شهاب يسأل عن خمر جعلت في قلة وجعل معها ملح وأخلاط كثيرة ثم تجعل في الشمس حتى

(9/617)


تعود مريا، فقال ابن شهاب: شهدت قبيصة ينهى أن يجعل الخمر مريا إذا أخذ وهو خمر. قلت: وقبيصة من كبار التابعين وأبوه صحابي وولد هو في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر في الصحابة لذلك، وهذا يعارض أثر أبي الدرداء المذكور ويفسر المراد به. والنينان بنونين الأول مكسورة بينهما تحتانية ساكنة جمع نون وهو الحوت، والمري بضم الميم وسكون الراء بعدها تحتانية، وضبط في "النهاية" تبعا للصحاح بتشديد الراء نسبة إلى المر وهو الطعم المشهور، وجزم الشيخ محيي الدين بالأول، ونقل الجواليقي في "لحن العامة" أنهم يحركون الراء والأصل بسكونها، ثم ذكر المصنف حديث جابر في قصة جيش الخبط من طريقين: إحداهما رواية ابن جريج: أخبرني عمرو وهو ابن دينار أنه سمع جابرا، وقد تقدم بسنده ومتنه في المغازي، وزاد هناك عن أبي الزبير عن جابر، وتقدمت مشروحة مع شرح سائر الحديث. الطريق الثانية رواية سفيان عن عمرو بن دينار أيضا، وفيه من الزيادة "وكان فينا رجل نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة، وهذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة كما تقدم إيضاحه في المغازي، وكان اشترى الجزر من أعرابي جهني كل جزور بوسق من تمر يوفيه إياه بالمدينة، فلما رأى عمر ذلك - وكان في ذلك الجيش - سأل أبا عبيدة أن ينهى قيسا عن النحر، فعزم عليه أبو عبيدة أن ينتهي عن ذلك فأطاعه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك هناك أيضا. والمراد بقوله: "جزائر" جمع جزور، وفيه نظر فإن جزائر جزيرة والجزور إنما يجمع على جزر بضمتين، فلعله جمع الجمع، والغرض من إيراده هنا قصة الحوت فإنه يستفاد منها جواز أكل ميتة البحر لتصريحه في الحديث بقوله: "فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر" وتقدم في المغازي أن في بعض طرقه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، وبهذا تتم الدلالة، وإلا فمجرد أكل الصحابة منه وهم في حالة المجاعة قد يقال إنه للاضطرار، ولا سيما وفيه قول أبي عبيدة "ميتة" ثم قال: "لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا" وهذه رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم، وتقدمت للمصنف في المغازي من هذا الوجه، لكن قال: "قال أبو عبيدة كلوا" ولم يذكر بقيته. وحاصل قول أبي عبيدة أنه بناه أولا على عموم تحريم الميتة، ثم تذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغ ولا عاد، وهم بهذه الصفة لأنهم في سبيل الله وفي طاعة رسوله وقد تبين من آخر الحديث أن جهة كونها حلالا ليست سبب الاضطرار بل كونها من صيد البحر، ففي آخره عندهما جميعا "فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بعضو فأكله" فتبين لهم أنه حلال مطلقا. وبالغ في البيان بأكله منها لأنه لم يكن مضطرا، فيستفاد منه إباحة ميتة البحر سواء مات بنفسه أو ما مات بالاصطياد، وهو قول الجمهور. وعن الحنفية يكره، وفرقوا بين ما لفظه فمات وبين ما مات فيه من غير آفة، وتمسكوا بحديث أبي الزبير عن جابر "ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه" أخرجه أبو داود مرفوعا من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن أبي الزبير عن جابر ثم قال: رواه الثوري وأيوب وغيرهما عن أبي الزبير هذا الحديث موقوفا. وقد أسند من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال ليس بمحفوظ، ويروى عن جابر خلافه ا هـ. ويحيى بن سليم صدوق وصفوه بسوء الحفظ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال يعقوب بن سفيان: إذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا يعرف وينكر. وقال أبو حازم: لم يكن بالحافظ. وقال ابن حبان في الثقات: كان يخطئ، وقد توبع على رفعه. وأخرجه الدار قطني من رواية أبي أحمد الزبيري عن

(9/618)


الثوري مرفوعا لكن قال: خالفه وكيع وغيره فوقفوه عن الثوري وهو الصواب، وروى عن ابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية مرفوعا ولا يصح والصحيح موقوف، وإذا لم يصح إلا موقوفا فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله، لأنه سمك لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر. ويستفاد من قوله: "أكلنا منه نصف شهر" جواز أكل اللحم ولو أنتن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكل منه بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالبا بلا نتن في هذه المدة لا سيما في الحجاز مع شدة الحر، لكن يحتمل أن يكونوا ملحوه وقددوه فلم يدخله نتن، وقد تقدم قريبا قول النووي: إن النهي عن أكل اللحم إذا أنتن للتنزيه إلا أن خيف منه الضرر فيحرم، وهذا الجواب على مذهبه، ولكن المالكية حملوه على التحريم مطلقا. وهو الظاهر والله أعلم. ويأتي في الطافي نظير ما قاله في النتن إذا خشي منه الضرر، وفيه جواز أكل حيوان البحر مطلقا لأنه لم يكن عند الصحابة نص يخص العنبر وقد أكلوا منه، كذا قال بعضهم، ويخدش فيه أنهم أولا إنما أقدموا عليه بطريق الاضطرار، ويجاب بأنهم أقدموا عليه مطلقا من حيث كونه صيد البحر ثم توقفوا من حيث كونه ميتة، فدل على إباحة الإقدام على أكل ما صيد من البحر، وبين لهم الشارع آخرا أن ميتته أيضا حلال، ولم يفرق بين طاف ولا غيره. واحتج بعض المالكية بأنهم أقاموا يأكلون منه أياما، فلو كانوا أكلوا منه على أنه ميتة بطريق الاضطرار ما داوموا عليه، لأن المضطر إذا أكل الميتة يأكل منها بحسب الحاجة ثم ينتقل لطلب المباح غيرها، وجمع بعض العلماء بين مختلف الأخبار في ذلك بحمل النهي على كراهة التنزيه وما عدا ذلك على الجواز، ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختلف فيما كان على صورة حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير والثعبان، فعند الحنفية - وهو قول الشافعية - يحرم ما عدا السمك، واحتجوا عليه بهذا الحديث، فإن الحوت المذكور لا يسمى سمكا. وفيه نظر، فإن الخبر ورد في الحوت نصا، وعن الشافعية الحل مطلقا على الأصح المنصوص. وهو مذهب المالكية إلا الخنزير في رواية، وحجتهم قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وحديث: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وعن الشافعية ما يؤكل نظيره في البر حلال ومالا فلا، واستثنوا على الأصح ما يعيش في البحر والبر وهو نوعان: النوع الأول ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع، وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله ورد ذلك من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي أخرجه أبو داود والنسائي وصححه والحاكم، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبي عاصم، وآخر عن عبد الله بن عمر، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" وزاد: فإن نقيقها تسبيح. وذكر الأطباء أن الضفدع نوعان بري وبحري، فالبري يقتل آكله والبحري يضره. ومن المستثنى أيضا التمساح لكونه يعدو بنابه. وعند أحمد فيه رواية، ومثله القرش في البحر الملح خلافا لما أفتى به المحب الطبري، والثعبان والعقرب والسرطان والسلحفاة للاستخباث والضرر اللاحق من السم، ودنيلس قيل إن أصله السرطان فإن ثبت حرم. النوع الثاني ما لم يرد فيه مانع فيحل لكن بشرط التذكية، كالبط وطير الماء والله أعلم. "تنبيه": وقع في أواخر صحيح مسلم في الحديث الطويل من طريق الوليد بن عبادة بن الصامت أنهم "دخلوا على جابر فرأوه يصلي في ثوب" الحديث وفيه قصة النخامة في المسجد، وفيه أنهم خرجوا في غزاة ببطن بواط، وفيه قصة الحوض، وفيه قيام المأمومين خلف الإمام كل ذلك مطول، وفيه قال: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا تمرة

(9/619)


كل يوم فكان يمصها وكنا نختبط بقسينا ونأكل، وسرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح" فذكر قصة الشجرتين اللتين التقتا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستر بهما عند قضاء الحاجة، وفيه قصة القبرين اللذين غرس في كل منهما غصنا، وفيه: "فأتينا العسكر فقال: يا جابر ناد الوضوء" فذكر القصة بطولها في نبع الماء من بين أصابعه، وفيه: "وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم. فأتينا سيف البحر، فزجر البحر زجرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا". وذكر أنه دخل هو وجماعة في عينها، وذكر قصة الذي دخل تحت ضلعها ما يطأطئ رأسه وهو أعظم رجل في الركب على أعظم جمل، وظاهر سياق هذه القصة يقتضي مغايرة القصة المذكورة في هذا الباب وهي من رواية جابر أيضا، حتى قال عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين" : هذه واقعة أخرى غير تلك، فإن هذه كانت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وما ذكره ليس بنص في ذلك لاحتمال أن تكون الفاء في قول جابر "فأتينا سيف البحر" هي الفصيحة وهي معقبة لمحذوف تقديره فأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة فأتينا سيف البحر فتتحد القصتان، وهذا هو الراجح عندي، والأصل عدم التعدد. ومما تنبه عليه هنا أيضا أن الواقدي زعم أن قصة بعث أبي عبيدة كانت في رجب سنة ثمان، وهو عندي خطأ لأن في نفس الخبر الصحيح أنهم خرجوا يترصدون عير قريش وقريش في سنة ثمان كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة، وقد نبهت على ذلك في المغازي، وجوزت أن يكون ذلك قبل الهدنة في سنة ست أو قبلها، ثم ظهر لي الآن تقوية ذلك بقول جابر في رواية مسلم هذه أنهم خرجوا في غزاة بواط وغزاة بواط كانت في السنة الثانية من الهجرة قبل وقعة بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف فبلغ بواطا، وهي بضم الموحدة جبال لجهينة مما يلي الشام، بينها وبين المدينة أربعة برد، فلم يلق أحدا فرجع، فكأنه أفرد أبا عبيدة فيمن معه يرصدون العير المذكورة. ويؤيد تقدم أمرها ما ذكر فيها من القلة والجهد، والواقع أنهم في سنة ثمان كان حالهم اتسع بفتح خيبر وغيرها، والجهد المذكور في القصة يناسب ابتداء الأمر فيرجح ما ذكرته، والله أعلم.

(9/620)


13- باب أَكْلِ الْجَرَادِ
5495- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ سِتًّا كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ"
قَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَإِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى "سَبْعَ غَزَوَاتٍ"
قوله: "باب أكل الجراد" بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف والواحدة جرادة والذكر والأنثى سواء كالحمامة ويقال إنه مشتق من الجرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده، وخلقه الجراد عجيبة فيها عشرة من الحيوانات ذكر بعضها ابن الشهرزوري في قوله:
لها فخدا بكر وساقا نعامة
وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت
عليها جياد الخيل بالرأس والفم
قيل وفاته عين الفيل وعنق الثور وقرن الآيل وذنب الحية. وهو صنفان طيار ووثاب، ويبيض في الصخر

(9/620)


فيتركه حتى ييبس وينتشر فلا يمر بزرع إلا اجتاحه، وقيل.1 واختلف في أصله فقيل إنه نثرة حوت فلذلك كان أكله بغير ذكاة، وهذا ورد في حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه عن أنس رفعه: "أن الجراد نثرة حوت من البحر" ومن حديث أبى هريرة "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد، فجعلنا نضرب بنعالنا وأسواطنا، فقال: كلوه فإنه من صيد البحر" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وسنده ضعيف، ولو صح لكان فيه حجة لمن قال لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، وجمهور العلماء على خلافه، قال ابن المنذر: لم يقل لا جزاء فيه غير أبي سعيد الخدري وعروة بن الزبير، واختلف عن كعب الأحبار، وإذا ثبت فيه الجزاء دل على أنه بري. وقد أجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية إلا أن المشهور عند المالكية اشتراط تذكيته. واختلفوا في صفتها فقيل بقطع رأسه وقيل إن وقع في قدر أو نار حل.وقال ابن وهب أخذه ذكاته، ووافق مطرف منهم الجمهور في أنه لا يفتقر إلى ذكاته لحديث ابن عمر "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال" أخرجه أحمد والدار قطني مرفوعا وقال إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي أيضا الموقوف إلا أنه قال إن له حكم الرفع. قوله: "عن أبي يعفور" بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم الفاء هو العبدي، واسمه وقدان وقيل واقد. وقال مسلم اسمه واقد ولقبه وقدان، وهو الأكبر، وأبو يعفور الأصغر اسمه عبد الرحمن بن عبيد، وكلاهما ثقة من أهل الكوفة، وليس للأكبر في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الصلاة في أبواب الركوع من صفة الصلاة، وقد ذكرت كلام النووي فيه وجزمه بأنه الأصغر وأن الصواب أنه الأكبر، وبذلك جزم الكلاباذي وغيره والنووي تبع في ذلك ابن العربي وغيره والذي يرجح كلام الكلاباذي جزم الترمذي بعد تخريجه بأن راوي حديث الجراد هو الذي اسمه واقد ويقال وقدان وهذا هو الأكبر، ويؤيده أيضا أن ابن أبي حاتم جزم في ترجمة الأصغر بأنه لم يسمع من عبد الله بن أبي أوفى قوله: "سبع غزوات أو ستا" كذا للأكثر ولا إشكال فيه، ووقع في رواية النسفي "أو ست" بغير تنوين، ووقع في "توضيح ابن مالك، سبع غزوات أو ثماني" وتكلم عليه فقال: الأجود أن يقال سبع غزوات أو ثمانية بالتنوين لأن لفظ ثمان وإن كان كلفظ جوار في أن ثالث حروفه ألف بعدها حرفان ثانيهما ياء فهو يخالفه في أن جواري جمع وثمانية ليس بجمع واللفظ بهما في الرفع والجر سواء، ولكن تنوين ثمان تنوين صرف وتنوين جوار تنوين عوض، وإنما يفترقان بالنصب. واستمر يتكلم على ذلك ثم قال: وفي ذكره له بلا تنوين ثلاثة أوجه أجودها أن يكون حذف المضاف إليه وأبقى المضاف على ما كان عليه قبل الحذف، ومثله قول الشاعر خمس ذود أو ست عوضت منها البيت. الوجه الثاني أن يكون المنصوب كتب بغير ألف على لغة ربيعة، وذكر وجها آخر يختص بالثمان، ولم أره في شيء من طرق الحديث لا في البخاري ولا في غيره بلفظ ثمان، فما أدري كيف وقع هذا. وهذا الشك في عدد الغزوات من شعبة، وقد أخرجه مسلم من رواية شعبة بالشك أيضا؛ والنسائي من روايته بلفظ الست من غير شك، والترمذي من طريق غندر عن شعبة فقال: "غزوات" ولم يذكر عددا. قوله: "وكنا نأكل معه الجراد" يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد، ويحتمل أن يريد مع أكله، ويدل على الثاني أنه وقع في رواية أبي نعيم
ـــــــ
1 بياض بالأصل

(9/621)


في الطب "ويأكل معنا" وهذا إن صح يرد على الصيمري من الشافعية في زعمه أنه صلى الله عليه وسلم عافه كما عاف الضب. ثم وقفت على مستند الصيمري وهو ما أخرجه أبو داود من حديث سلمان "سئل صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال: لا آكله ولا أحرمه" والصواب مرسل، ولابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه، وسئل عن الجراد فقال مثل ذلك" وهذا ليس ثابتا لأن ثابتا قال فيه النسائي ليس بثقة، ونقل النووي الإجماع على حل أكل الجراد، لكن فصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الأندلس فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل لأنه ضرر محض. وهذا إن ثبت أنه يضر أكله بأن يكون فيه سمية تخصه دون غيره من جراد البلاد تعين استثناؤه والله أعلم. قوله: "وقال سفيان" هو الثوري وقد وصله الدارمي عن محمد بن يوسف وهو الفريابي عن سفيان وهو الثوري ولفظه: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد" وكذا أخرجه الترمذي من وجه آخر عن الثوري وأفاد أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث أيضا عن أبي يعفور لكن قال: "ست غزوات". قلت: وكذا أخرجه أحمد بن حنبل عن ابن عيينة جازما بالست. وقال الترمذي: كذا قال ابن عيينة ست وقال غيره سبع. قلت: ودلت رواية شعبة على أن شيخهم كان يشك فيحمل على أنه جزم مرة بالسبع ثم لما طرأ عليه الشك صار يجزم بالست لأنه المتيقن، ويؤيد هذا الحمل أن سماع سفيان بن عيينة عنه متأخر دون الثوري ومن ذكر معه، ولكن وقع عند ابن حبان من رواية أبي الوليد شيخ البخاري فيه: "سبعا أو ستا، يشك شعبة". قوله: "وأبو عوانة" وصله مسلم عن أبي كامل عنه ولفظه مثل الثوري، وذكره البزار من رواية يحيى بن حماد عن أبي عوانة فقال مرة عن أبي يعفور ومرة عن الشيباني، وأشار إلى ترجيح كونه عن أبي يعفور، وهو كذلك كما تقدم صريحا أنه عند أبي داود. قوله: "وإسرائيل" وصله الطبراني من طريق عبد الله بن رجاء عنه ولفظه: "سبع غزوات فكنا نأكل معه الجراد".

(9/622)


14- باب آنِيَةِ الْمَجُوسِ وَالْمَيْتَةِ
5496- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ فَلاَ تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لاَ تَجِدُوا بُدًّا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكُمْ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْهُ"
5497- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلاَمَ أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ قَالُوا لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ قَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا فَقال

(9/622)


النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْ ذَاكَ"
قوله: "باب آنية المجوس" قال ابن التين: كذا ترجم وأتى بحديث أبي ثعلبة وفيه ذكر أهل الكتاب فلعله يرى أنهم أهل كتاب. وقال ابن المنير: ترجم للمجوس والأحاديث في أهل الكتاب لأنه بنى على أن المحذور منهما واحد وهو عدم توقيهم النجاسات. وقال الكرماني: أو حكمه على أحدهما بالقياس على الآخر، أو باعتبار أن المجوس يزعمون أنهم أهل كتاب. قلت: وأحسن من ذلك أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث منصوصا على المجوس، فعند الترمذي من طريق أخرى عن أبي ثعلبة "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس، فقال: أنقوها غسلا واطبخوا فيها" وفي لفظ من وجه آخر عن أبى ثعلبة "قلت إنا نمر بهذا اليهود والنصارى والمجوس فلا تجد غير آنيتهم، الحديث، وهذه طريقة يكثر منها البخاري فما كان في سنده مقال يترجم به ثم يورد في الباب ما يؤخذ الحكم منه بطريق الإلحاق ونحوه، والحكم في آنية المجوس لا يختلف مع الحكم في آنية أهل الكتاب لأن العلة إن كانت لكونهم تحل ذبائحهم كأهل الكتاب فلا إشكال، أو لا تحل كما سيأتي البحث فيه بعد أبواب فتكون الآنية التي يطبخون فيها ذبائحهم ويغرقون قد تنجست بملاقاة الميتة، فأهل الكتاب كذلك باعتبار أنهم لا يتدينون باجتناب النجاسة وبأنهم يطبخون فيها الخنزير ويضعون فيها الخمر وغيرها، ويؤيد الثاني ما أخرجه أبو داود والبزار عن جابر "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين فنستمتع بها فلا يعيب ذلك علينا" لفظ أبي داود. وفي رواية البزار "فنغسلها ونأكل فيها". قوله: "والميتة" قال ابن المنير: نبه بذكر الميتة على أن الحمير لما كانت محرمة لم تؤثر فيها الذكاة فكانت ميتة، ولذلك أمر بغسل الآنية منها. حديث أبي ثعلبة عن أبي عاصم عاليا وساقه على لفظه، وقد تقدم شرحه قبل حديث سلمة بن الأكوع في الحمر الأهلية أورده عاليا وهو من ثلاثياته، وسيأتي شرحه بعد ثلاثة عشر بابا.

(9/623)


15- باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ نَسِيَ فَلاَ بَأْسَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالنَّاسِي لاَ يُسَمَّى فَاسِقًا وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
5498- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَدُفِعَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا قَالَ وَقَالَ جَدِّي إِنَّا لَنَرْجُو أَوْ نَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا

(9/623)


الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب التسمية على الذبيحة ومن تركه متعمدا" كذا للجميع ووقع في بعض الشروح هنا "كتاب الذبائح" وهو خطأ لأنه ترجم أولا كتاب الصيد والذبائح أو كتاب الذبائح والصيد فلا يحتاج إلى تكرار، وأشار بقوله متعمدا إلى ترجيح التفرقة بين المتعمد لترك التسمية فلا تخل تذكيته ومن نسي فتحل، لأنه استظهر لذلك بقول ابن عباس وبما ذكر بعده من قوله تعالى :{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ثم قال: "والناسي لا يسمى فاسقا" يشير إلى قوله تعالى الآية {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فاستنبط منها أن الوصف للعامد فيختص الحكم به، والتفرقة بين الناسي والعامد في الذبيحة قول أحمد وطائفة وقواه الغزالي في "الإحياء" محتجا بأن ظاهر الآية الإيجاب مطلقا وكذلك الأخبار، وأن الأخبار الدالة على الرخصة تحتمل التعميم وتحتمل الاختصاص بالناسي فكان حمله عليه أولى لتجري الأدلة كلها على ظاهرها ويعذر الناسي دون العامد. قوله: "وقال ابن عباس: من نسي فلا بأس" وصله الدار قطني من طريق شعبة عن مغيرة عن إبراهيم في المسلم يذبح وينسى التسمية قال: لا بأس به. وبه عن شعبة عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء حدثني "ع" عن ابن عباس أنه لم ير به بأسا. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عيينة بهذا الإسناد فقال في سنده عن "ع" يعني عكرمة عن ابن عباس فيمن ذبح ونسي التسمية فقال: المسلم فيه اسم الله وإن لم يذكر التسمية، وسنده صحيح، وهو موقوف. وذكره مالك بلاغا عن ابن عباس، وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا. وأما قول المصنف وقوله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} فكأنه يشير بذلك إلى الزجر عن الاحتجاج لجواز ترك التسمية بتأويل الآية وحملها على غير ظاهرها لئلا يكون ذلك من وسوسة الشيطان ليصد عن ذكر الله تعالى، وكأنه لمح بما أخرجه أبو داود وابن ماجه والطبري بسند صحيح عن ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال: "كانوا يقولون ما ذكر عليه اسم الله فلا تأكلوه وما لم يذكر عليه اسم الله فكلوه، قال الله تعالى :{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وأخرج أبو داود والطبري أيضا من وجه آخر عن ابن عباس قال: "جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تأكل مما قتلنا ولا تأكل مما قتله الله؟ فنزلت: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الآية. وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه وساق إلى قوله: {لَمُشْرِكُونَ} إن أطعتموهم فيما نهيتكم عنه، ومن طريق معمر عن قتادة في هذه الآية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال جادلهم المشركون في الذبيحة فذكر نحوه، ومن طريق أسباط عن السدي نحوه، ومن طريق ابن جريج قلت لعطاء: ما قوله: { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ؟ قال: يأمركم بذكر اسمه على الطعام والشراب والذبح، قلت: فما قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال ينهي عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان. قال الطبري: من قال إن ما ذبحه المسلم فنسى أن يذكر اسم الله عليه لا يحل فهو قول بعيد من الصواب لشذوذه وخروجه عما عليه الجماعة، قال: وأما قوله :{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإنه يعني أن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة وما أهل به لغير الله فسق، ولم يحك الطبري عن أحد خلاف ذلك. وقد استشكل بعض المتأخرين كون قوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} منسوقا على ما قبله، لأن الجملة الأولى طلبية وهذه خبرية وهذا غير سائغ، ورد هذا القول بأن سيبويه ومن تبعه من المحققين يجيزون ذلك، ولهم شواهد كثيرة، وادعى المانع أن الجملة مستأنفة، ومنهم من قال الجملة حالية أي لا تأكلوه والحال أنه فسق

(9/624)


أي لا تأكلوه في حال كونه فسقا، والمراد بالفسق قد بين في قوله تعالى في الآية الأخرى {أ َوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فرجع الزجر إلى النهي عن أكل ما ذبح لغير الله، فليست الآية صريحة في فسق من أكل ما ذبح بغير تسمية ا هـ، ولعل هذا القدر هو الذي حذرت منه الآية، وقد نوزع المذكور فيما حمل عليه الآية ومنع ما ادعاه من كون الآية مجملة والأخرى مبينة لأن ثم شروطا ليست هنا. قوله: "عن سعيد بن مسروق" هو الثوري والد سفيان، ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه. قوله: "عن عباية" بفتح المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف تحتانية. قوله: "عن جده رافع بن خديج" كذا قال أكثر أصحاب سعيد بن مسروق عنه كما سيأتي في آخر كتاب الصيد والذبائح. وقال أبو الأحوص "عن سعيد عن عباية عن أبيه عن جده" وليس لرفاعة بن رافع ذكر في كتب الأقدمين ممن صنف في الرجال، وإنما ذكروا ولده عباية بن رفاعة. نعم ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: إنه يكنى أبا خديج، وتابع أبا الأحوص على زيادته في الإسناد حسان بن إبراهيم الكرماني عن سعيد بن مسروق أخرجه البيهقي من طريقه، وهكذا رواه ليث بن أبي سليم عن أبي سليم عن عباية عن أبيه عن جده، قاله الدار قطني في "العلل"، قال: وكذا قال مبارك بن سعيد الثوري عن أبيه، وتعقب بأن الطبراني أخرجه من طريق مبارك فلم يقل في الإسناد عن أبيه، فلعله اختلف على المبارك فيه فإن الدار قطني لا يتكلم في هذا الفن جزافا، ورواية ليث بن أبي سليم عند الطبراني، وقد أغفل الدار قطني ذكر طريق حسان بن إبراهيم، قال الجياني: روى البخاري حديث رافع من طريق أبي الأحوص فقال: "عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رافع عن أبيه عن جده" هكذا عند أكثر الرواة، وسقط قوله: "عن أبيه" في رواية أبي علي بن السكن عند الفربري وحده وأظنه من إصلاح ابن السكن فإن ابن أبي شيبة أخرجه عن أبي الأحوص بإثبات قوله: "عن أبيه" ثم قال أبو بكر: لم يقل أحد في هذا السند عن أبيه غير أبي الأحوص ا هـ. وقد قدمت في "باب التسمية على الذبيحة" ذكر من تابع أبا الأحوص على ذلك. ثم نقل الجياني عن عبد الغني بن سعيد حافظ مصر أنه قال: خرج البخاري هذا الحديث عن مسدد عن أبي الأحوص على الصواب، يعني بإسقاط "عن أبيه"، قال: وهو أصل يعمل به من بعد البخاري إذا وقع في الحديث خطأ لا يعول عليه، قال: وإنما يحسن هذا في النقص دون الزيادة فيحذف الخطأ، قال الجياني: وإنما تكلم عبد الغني على ما وقع في رواية ابن السكن ظنا منه أنه من عمل البخاري، وليس كذلك لما بينا أن الأكثر رووه عن البخاري بإثبات قوله:" عن أبيه". قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة" زاد سفيان الثوري عن أبيه "من تهامة" تقدمت في الشركة، وذو الحليفة هذا مكان غير ميقات المدينة، لأن الميقات في طريق الذاهب من المدينة ومن الشام إلى مكة، وهذه بالقرب من ذات عرق بين الطائف ومكة، كذا جزم به أبو بكر الحازمي وياقوت، ووقع للقابسي أنها الميقات المشهور وكذا ذكر النووي قالوا: وكان ذلك عند رجوعهم من الطائف سنة ثمان. وتهامة اسم لكل ما نزل من بلاد الحجاز، سميت بذلت من التهم بفتح المثناة والهاء وهو شدة الحر وركود الريح وقيل تغير الهواء. قوله: "فأصاب الناس جوع" كأن الصحابي قال هذا ممهدا لعذرهم في ذبحهم الإبل والغنم التي أصابوا. قوله: "فأصبنا إبلا وغنما" في رواية أبي الأحوص "وتقدم سرعان الناس فأصابوا من المغانم" ووقع في رواية الثوري الآتية بعد أبواب "فأصبنا نهب إبل وغنم". قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس" أخريات جمع أخرى. وفي رواية أبي الأحوص "في آخر الناس"، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك صونا للعسكر

(9/625)


وحفظا، لأنه لو تقدمهم لخشي أن ينقطع الضعيف منهم دونه، وكان حرصهم على مرافقته شديدا فيلزم من سيره في مقام الساقة صون الضعفاء لوجود من يتأخر معه قصدا من الأقوياء. قوله: "فعجلوا فنصبوا القدور" يعني من الجوع الذي كان بهم، فاستعجلوا فذبحوا الذي غنموه ووضعوه في القدور، ووقع في رواية داود بن عيسى عن سعيد بن مسروق "فانطلق ناس من سرعان الناس فذبحوا ونصبوا قدورهم قبل أن يقسم" وقد تقدم في الشركة من رواية علي بن الحكم عن أبي عوانة "فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور" وفي رواية الثوري "فأغلوا القدور" أي أوقدوا النار تحتها حتى غلت. وفي رواية زائدة عن عمر بن سعيد عند أبي نعيم في "المستخرج على مسلم:" وساق مسلم إسنادها "فعجل أولهم فذبحوا ونصبوا القدور". قوله: "فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم" دفع بضم أوله على البناء للمجهول، والمعنى أنه وصل إليهم، ووقع في رواية زائدة عن سعيد بن مسروق "فانتهى إليهم" أخرجه الطبراني. قوله: "فأمر بالقدور فأكفئت" بضم الهمزة وسكون الكاف أي قلبت وأفرغ ما فيها، وقد اختلف في هذا المكان في شيئين: أحدهما سبب الإراقة، والثاني هل أتلف اللحم أم لا؟ فأما الأول فقال عياض: كانوا انتهوا إلى دار الإسلام والمحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة إلا بعد القسمة، وأن محل جواز ذلك قبل القسمة إنما هو ما داموا دار الحرب، قال: ويحتمل أن سبب ذلك كونهم انتهبوها، ولم يأخذوها باعتدال وعلى قدر الحاجة. قال: وقد وقع في حديث آخر ما يدل لذلك، يشير إلى ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه وله صحبة عن رجل من الأنصار قال: "أصاب الناس مجاعة شديدة وجهد فأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة" ا ه. وهذا يدل على أنه عملهم من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم كما عومل القاتل بمنع الميراث. وأما الثاني فقال النووي: المأمور به من إراقة القدور إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يتلفوه بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال وهذا من مال الغانمين، وأيضا فالجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة فإن منهم من لم يطبخ ومنهم المستحقون للخمس فإن قيل لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم قلنا: ولم ينقل أنهم أحرقوه أو أتلفوه، فيجب تأويله على وفق القواعد ا هـ. ويرد عليه حديث أبي داود فإنه جيد الإسناد وترك تسمية الصحابي لا يضر، ورجال الإسناد على شرط مسلم، ولا يقال لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه لإمكان تداركه بالغسل، لأن السياق يشعر بأنه أريد المبالغة في الزجر عن ذلك الفعل، فلو كان بصدد أن ينتفع به بعد ذلك لم يكن فيه كبير زجر، لأن الذي يخص الواحد منهم نزر يسير فكان إفسادها عليهم مع تعلق قلوبهم بها وحاجتهم إليها وشهوتهم لها أبلغ في الزجر. وأبعد المهلب فقال: إنما عاقبهم لأنهم استعجلوا وتركوه في آخر القوم متعرضا لمن يقصده من عدو ونحوه، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم كان مختارا لذلك كما تقدم تقريره، ولا معنى للحمل على الظن مع ورود النص بالسبب. وقال الإسماعيلي: أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور يجوز أن يكون من أجل أن ذبح من لا يملك الشيء كله لا يكون مذكيا، ويجوز أن يكون من أجل أنهم تعجلوا إلى الاختصاص بالشيء دون بقية من يستحقه من قبل أن يقسم ويخرج منه الخمس، فعاقبهم بالمنع من تناول ما سبقوا إليه زجرا لهم عن معاودة مثله، ثم رجح الثاني وزيف الأول بأنه لو كان كذلك لم يحل أكل البعير الناد الذي رماه أحدهم بسهم، إذ لم يأذن لهم الكل في رميه، مع أن رميه ذكاة له كما نص عليه في نفس حديث الباب ا هـ ملخصا.

(9/626)


وقد جنح البخاري إلى المعنى الأول وترجم عليه كما سيأتي في أواخر أبواب الأضاحي، ويمكن الجواب عما ألزمه به الإسماعيلي من قصة البعير بأن يكون الرامي رمى بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة فأقروه، فدل سكوتهم على رضاهم بخلاف ما ذبحه أولئك قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فافترقا، والله أعلم. قوله: "ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير" في رواية1. وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعل الإبل كانت قليلة أو نفيسة والغنم كانت كثيرة أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي من أن البعير يجزئ عن سبع شياه، لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين، وأما هذه القسمة فكانت واقعة عين فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم، وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" والبدنة تطلق على الناقة والبقرة، وأما حديث ابن عباس "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة" فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وعضده بحديث رافع بن خديج هذا. والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبعة ما لم يعرض عارض من نفاسة ونحوها فيتغير الحكم بحسب ذلك، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك. ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم التي كانوا غنموها، ويحتمل - إن كانت الواقعة تعددت - أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحا مثلا فلما أريق مرقها ضمت إلى المغنم لتقسم ثم يطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه عن العادة، والله أعلم. قوله: "فند" بفتح النون وتشديد الدال أي هرب نافرا. قوله: "منها" أي من الإبل المقسومة. قوله: "وكان في القوم خيل يسيرة" فيه تمهيد لعذرهم في كون البعير الذي ند أتعبهم ولم يقدروا على تحصيله، فكأنه يقول: لو كان فيهم خيول كثيرة لأمكنهم أن يحيطوا به فيأخذوه. ووقع في رواية أبي الأحوص "ولم يكن معهم خيل" أي كثيرة أو شديدة الجري، فيكون النفي لصفة في الخيل لا لأصل الخيل جمعا بين الروايتين. قوله: "فطلبوه فأعياهم" أي أتعبهم ولم يقدروا على تحصيله. قوله: "فأهوى إليه رجل" أي قصد نحوه ورماه، ولم أقف على اسم هذا الرامي. قوله: "فحبسه الله" أي أصابه السهم فوقف. قوله: "إن لهذه البهائم" في رواية الثوري وشعبة المذكورتين بعد "إن لهذه الإبل" قال بعض شراح المصابيح: هذه "اللام" تفيد معنى "من" لأن البعضية تستفاد من اسم إن لكونه نكرة. قوله: "أوابد" جمع آبدة بالمد وكسر الموحدة أي غريبة، يقال جاء فلان بآبدة أي بكلمة أو فعلة منفرة، يقال أبدت بفتح الموحدة تأبد بضمها ويجوز الكسر أبودا، ويقال تأبدت أي توحشت، والمراد أن لها توحشا. قوله: "فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا" في رواية الثوري "فما غلبكم منها" وفي رواية أبي الأحوص "فما فعل منها هذا فافعلوا مثل هذا" زاد عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه "فاصنعوا به ذلك وكلوه" أخرجه الطبراني، وفيه جواز أكل ما رمى بالسهم فجرح في أي موضع كان من جسده، بشرط أن يكون وحشيا أو متوحشا، وسيأتي البحث فيه بعد ثمانية أبواب. قوله: "وقال جدي" زاد عبد الرزاق عن الثوري في روايته: "يا رسول الله" وهذا صورته مرسل، فإن
ـــــــ
(1) بيان بالأصل.

(9/627)


عباية ابن رفاعة لم يدرك زمان القول، وظاهر سائر الروايات أن عباية نقل ذلك عن جده، ففي رواية شعبة عن جده أنه قال: "يا رسول الله" وفي رواية عمر بن عبيد الآتية أيضا: "قال قلت يا رسول الله" وفي رواية أبي الأحوص "قلت يا رسول الله. قوله: "إنا لنرجو أو نخاف" هو شك من الراوي، وفي التعبير بالرجاء إشارة إلى حرصهم على لقاء العدو لما يرجونه من فضل الشهادة أو الغنيمة، وبالخوف إشارة إلى أنهم لا يحبون أن يهجم عليهم العدو بغتة، ووقع في رواية أبي الأحوص "إنا نلقى العدو غدا" بالجزم، ولعله عرف ذلك بخبر من صدقه أو بالقرائن. وفي رواية يزيد ابن هارون عن الثوري عند أبي نعيم في المستخرج على مسلم: "إنا نلقى العدو غدا وإنا نرجو" كذا بحذف متعلق الرجاء، ولعل مراده الغنيمة. قوله: "وليست معنا مدى" بضم أوله - مخفف مقصور - جمع مدية بسكون الدال بعدها تحتانية وهي السكين، سميت بذلك لأنها تقطع مدى الحيوان أي عمره، والرابط بين قوله: "نلقى العدو وليست معنا مدى" يحتمل أن يكون مراده أنهم إذا لقوا العدو صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه، ويحتمل أن يكون مراده أنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتقووا به على العدو إذا لقوه، ويؤيده ما تقدم من قسمة الغنم والإبل بينهم فكان معهم ما يذبحونه، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم لئلا يضر ذلك بحدها والحاجة ماسة له. فسأل عن الذي يجزئ في الذبح غير السكين والسيف، وهذا وجه الحصر في المدية والقصب ونحوه مع إمكان ما في معنى المدية وهو السيف. وقد وقع في حديث غير هذا "إنكم لاقو العدو غدا والفطر أقوى لكم" فندبهم إلى الفطر ليتقووا. قوله: "أفنذبح بالقصب" ؟ يأتي البحث فيه بعد بابين. قوله: "ما أنهر الدم" أي أساله وصبه بكثرة، شبه بجري الماء في النهر. قال عياض: هذا هو المشهور في الروايات بالراء، وذكره أبو ذر الخشني بالزاي وقال: النهر بمعنى الرفع وهو غريب، و "ما" موصولة في موضع رفع بالابتداء وخبرها "فكلوا" والتقدير ما أنهر الدم فهو حلال فكلوا، ويحتمل أن تكون شرطية، ووقع في رواية أبي إسحاق عن الثوري "كل ما أنهر الدم ذكاة" و "ما" في هذا موصوفة. قوله: "وذكر اسم الله" هكذا وقع هنا، وكذا هو عند مسلم بحذف قوله: "عليه" وثبتت هذه اللفظة في هذا الحديث عند المصنف في الشركة، وكلام النووي في "شرح مسلم:" يوهم أنها ليست في البخاري إذ قال: هكذا هو في النسخ كلها يعني من مسلم وفيه محذوف أي ذكر اسم الله عليه أو معه، ووقع في رواية أبي داود وغيره: "وذكر اسم الله عليه" ا هـ فكأنه لما لم يرها في الذبائح من البخاري أيضا عزاها لأبي داود، إذ لو استحضرها من البخاري ما عدل عن التصريح بذكرها فيه اشتراط التسمية، لأنه علق الإذن بمجموع الأمرين وهما الإنهار والتسمية، والمعلق على شيئين لا يكتفي فيه إلا باجتماعهما وينتفي بانتفاء أحدهما، وقد تقدم البحث في اشتراط التسمية أول الباب، ويأتي أيضا قريبا. قوله: "ليس السن والظفر" بالنصب على الاستثناء بليس، ويجوز الرفع أي ليس السن والظفر مباحا أو مجزئا. ووقع في رواية أبي الأحوص "ما لم يكن سن أو ظفر" وفي رواية عمر بن عبيد "غير السن والظفر". وفي رواية داود بن عيسى "إلا سنا أو ظفرا". قوله: "وسأحدثكم عن ذلك" في رواية غير أبي ذر "وسأخبركم" وسيأتي البحث فيه وهل هو من جملة المرفوع أو مدرج في "باب إذا أصاب قوم غنيمة" قبيل كتاب الأضاحي. قوله: "أما السن فعظم" قال البيضاوي: هو قياس حذفت منه المقدمة الثانية لشهرتها عندهم، والتقدير أما السن فعظم، وكل عظم لا يحل الذبح به، وطوى النتيجة لدلالة الاستثناء عليها. وقال ابن الصلاح في

(9/628)


"مشكل الوسيط" هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قد قرر كون الذكاة لا تحصل بالعظم فلذلك اقتصر على قوله: "فعظم"، قال: ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل، وكذا وقع في كلام ابن عبد السلام. وقال النووي: معنى الحديث لا تذبحوا بالعظام فإنها تنجس بالدم وقد نهيتكم عن تنجيسها لأنها زاد إخوانكم من الجن ا هـ، وهو محتمل ولا يقال كان يمكن تطهيرها بعد الذبح بها لأن الاستنجاء بها كذلك، وقد تقرر أنه لا يجزئ. وقال ابن الجوزي في "المشكل" : هذا يدل على أن الذبح بالعظم كان معهودا عندهم أنه لا يجزئ، وقررهم الشارع على ذلك وأشار إليه هنا. قلت: وسأذكر بعد بابين من حديث حذيفة ما يصلح أن يكون مستندا لذلك إن ثبت. قوله: "وأما الظفر فمدى الحبشة" أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم، قاله ابن الصلاح وتبعه النووي: وقيل نهى عنهما لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالبا إلا الخنق الذي ليس هو على صورة الذبح، وقد قالوا: إن الحبشة تدمي مذابح الشاة بالظفر حتى تزهق نفسها خنقا. واعترض على التعليل الأول بأنه لو كان كذلك لامتنع الذبح بالسكين وسائر ما يذبح به الكفار، وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل وأما ما يلتحق بها فهو الذي يعتبر فيه التشبيه لضعفها، ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها كما سيأتي واضحا، ثم وجدت في "المعرفة للبيهقي" من رواية حرملة عن الشافعي أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في البخور فقال: معقول في الحديث أن السن إنما يذكى بها إذا كانت منتزعة، فأما وهي ثابتة فلو ذبح بها لكانت منخنقة، يعني فدل على أن المراد بالسن السن المنتزعة وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفية من جوازه بالسن المنفصلة قال: وأما الظفر فلو كان المراد به ظفر الإنسان لقال فيه ما قال في السن، لكن الظاهر أنه أراد به الظفر الذي هو طيب من بلاد الحبشة وهو لا يفري فيكون في معنى الخنق. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم تحريم التصرف في الأموال المشتركة من غير إذن ولو قلت ولو وقع الاحتياج إليها، وفيه انقياد الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى في ترك ما بهم إليه الحاجة الشديدة. وفيه أن للإمام عقوبة الرعية بما فيه إتلاف منفعة ونحوها إذا غلبت المصلحة الشرعية، وأن قسمة الغنيمة يجوز فيها التعديل والتقويم، ولا يشترط قسمة كل شيء منها على حدة، وأن ما توحش من المستأنس يعطي حكم المتوحش وبالعكس، وجواز الذبح بما يحصل المقصود سواء كان حديدا أم لا، وجواز عقر الحيوان الناد لمن عجز عن ذبحه كالصيد البري والمتوحش من الإنسي ويكون جميع أجزائه مذبحا فإذا أصيب فمات من الإصابة حل، أما المقدور عليه فلا يباح إلا بالذبح أو النحر إجماعا. وفيه التنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها فيها. وفيه منع الذبح بالسن والظفر متصلا كان أو منفصلا طاهرا كان أو متنجسا، وفرق الحنفية بين السن والظفر المتصلين فخصوا المنع بهما وأجازوه بالمنفصلين، وفرقوا بأن المتصل يصير في معنى الخنق والمنفصل في معنى الحجر، وجزم ابن دقيق العيد بحمل الحديث على المتصلين ثم قال: واستدل به قوم على منع الذبح بالعظم مطلقا لقوله: "أما السن فعظم" فعلل منع الذبح به لكونه عظما، والحكم يعم بعموم علته، وقد جاء عن مالك في هذه المسألة أربع روايات ثالثها يجوز بالعظم دون السن مطلقا رابعها يجوز بهما مطلقا حكاها ابن المنذر، وحكى الطحاوي الجواز مطلقا عن قوم، واحتجوا بقوله في حديث عدي بن حاتم "أمر الدم بما شئت" أخرجه أبو داود، لكن عمومه مخصوص بالنهي الوارد صحيحا في حديث رافع عملا بالحديثين، وسلك الطحاوي طريقا آخر فاحتج لمذهبه بعموم حديث عدي قال: والاستثناء في حديث رافع يقتضي تخصيص هذا العموم، لكنه في المنزوعين غير محقق وفي غير

(9/629)


المنزوعين محقق من حيث النظر، وأيضا فالذبح بالمتصلين يشبه الخنق وبالمنزوعين يشبه الآلة المستقلة من حجر وخشب. والله أعلم.

(9/630)


باب ماذبح على النصب والأصنام
...
16- باب مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالأَصْنَامِ
5499- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ الْمُخْتَارِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ وَذَاكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ إِنِّي لاَ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ"
قوله: "باب ما ذبح على النصب والأصنام" النصب بضم أوله وبفتحه واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت تنصب حول البيت يذبح عليها باسم الأصنام، وقيل النصب ما يعبد من دون الله، فعلى هذا فعطف الأصنام عطف تفسيري، والأول هو المشهور وهو اللائق بحديث الباب. حديث ابن عمر في قصة زيد ابن عمرو بن نفيل ووقع فيه من الاختلاف نظير ما وقع في الرواية التي في أواخر المناقب، وهو أنه وقع للأكثر "فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة" وللكشميهني: "فقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة" وجمع ابن المنير بين هذا الاختلاف بأن القوم الذين كانوا هناك قدموا السفرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقدمها لزيد، فقال زيد مخاطبا لأولئك القوم ما قال، وقوله: "سفرة لحم" في رواية أبي ذر "سفرة فيها لحم" وقد سبق شرح الحديث مستوفى في أواخر المناقب.

(9/630)


17- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ
5500- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ قَالَ ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُضْحِيَةً ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم فليذبح على اسم الله" ذكر فيه حديث جندب بن عبد الله في ذبح الضحايا قبل صلاة العيد، وفيه اللفظ المذكور وهو يحتمل أن يكون المراد به الإذن في الذبيحة حينئذ، أو المراد به الأمر بالتسمية على الذبيحة، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. حديث جندب بن عبد الله في ذبح الضحايا قبل صلاة العيد، وفيه اللفظ المذكور وهو يحتمل أن يكون المراد به الإذن في الذبيحة حينئذ، أو المراد به الأمر بالتسمية على الذبيحة، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. وقد استدل به ابن المنير على اشتراط تسمية العامد دون الناسي، ويأتي تقريره هناك إن شاء الله تعالى. ووقع في هذه الرواية: "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاة" بفتح أوله بمعنى الأضحية.

(9/630)


باب ماأنهر الدم من القصب والمروة والحديد
...
18- باب مَا أَنْهَرَ الدَّمَ مِنْ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ وَالْحَدِيدِ
5501- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ

(9/630)


19- باب ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالأَمَةِ
5504- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ يُخْبِرُ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبٍ بِهَذَا"
5505- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُلُوهَا"
قوله: "باب ذبيحة الأمة والمرأة" كأنه يشير إلى الرد على من منع ذلك، وقد نقل محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته، وفي "المدونة" جوازه، وفي وجه للشافعية يكره ذبح المرأة الأضحية، وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي: لا بأس إذا أطاق الذبيحة وحفظ التسمية، وهو قول الجمهور. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان الكلابي الكوفي وافق معتمر بن سليمان التيمي البصري على روايته عن عبيد الله بن عمر، وذكر الدار قطني أن غيرهما رواه عن عبيد الله فقال: "عن نافع أن رجلا من الأنصار". قلت: وكذا تقدم في الباب الذي قبله من رواية جويرية عن نافع، وكذا علقه هنا من رواية الليث عن نافع، ووصله الإسماعيلي من رواية أحمد بن يونس عن الليث به، قال الدار قطني "وكذا قال محمد بن إسحاق عن نافع" وهو أشبه، وسلك الجادة قوم منهم يزيد بن هارون فقال عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر، وكذا قال مرحوم العطار عن داود العطار عن نافع، وذكر الدار قطني عن غيرهم أنهم رووه كذلك، قال: ومنهم من أرسله عن نافع وهو أشبه بالصواب، وأغفل ما ذكره البخاري أواخر الباب من رواية مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ "أن جارية لكعب" وقد أورده في "الموطآت" له كذلك من حديث جماعة عن مالك، منهم محمد بن الحسن. وقال في روايته عن رجل من الأنصار معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ، وأشار إلى تفرد محمد بذلك. وقال الباقون عن رجل عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ، ومنهم ابن وهب أخرجه من طريقه كالجماعة قال: وأخرجه ابن وهب في غير الموطأ فقال: "أخبرني مالك وغيره من أهل العلم عن رجل من الأنصار أن جارية لكعب بن مالك" فذكره وقال: الصواب ما في الموطأ يعني عن مالك، وأما عن غيره فيحتمل أن يكون ابن وهب أراد الليث وحمل

(9/632)


رواية مالك على روايته، وأغرب ابن التين فقال: فيه رواية صحابي عن تابعي لأن ابن كعب تابعي وابن عمر صحابي قلت: لكن ليس في شيء من طرقه أن ابن عمر رواه عنه، وإنما فيها أن ابن كعب حدث ابن عمر بذلك فحمله عنه نافع، وأما الرواية التي فيها عن ابن عمر فقال راويها فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن كعب، وقد تقدم أنها شاذة والله أعلم. وقال الكرماني الشك من الراوي في معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ لا يقدح لأن الصحابة كلهم عدول، وهو كما قال، لكن الراوي الذي لم يسم يقدح في صحة الخبر إلا أنه قد تبين بالطريق الأخرى أن له أصلا. قوله: "جارية" وفي لفظ: "أمة" لا ينافي قوله في الرواية الأخرى "امرأة" لأنها أعم، فيؤخذ بقول من زاد في روايته صفة وهي كونها أمة. قوله: "فذبحتها" في رواية الكشميهني: "فذكتها" ووقع في رواية معن بن عيسى عن مالك في "الموطأ" فأدركت ذكاتها بحجر. قوله: "فسئل النبي صلى الله عليه وسلم "في رواية الليث" فكسرت حجرا فذبحتها به فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: كلوها " فيستفاد من روايته تعيين الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد سبق في الباب الذي قبله من رواية جويرية عن نافع فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم من رواية عبيد الله بن عمر فيه على الشك والله أعلم. وفي الحديث تصديق الأجير الأمين فيما ائتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة. وفيه جواز تصرف الأمين كالمودع بغير إذن المالك بالمصلحة، وقد تقدمت ترجمة المصنف بذلك في كتاب الوكالة. وقال ابن القاسم: إذا ذبح الراعي شاة بغير إذن المالك وقال خشيت عليها الموت لم يضمن على ظاهر هذا الحديث، وتعقب بأن الجارية كانت أمة لصاحب الغنم فلا يتصور تضمينها، وعلى تقدير أن تكون غير ملكه فلم ينقل في الحديث أنه أراد تضمينها، وكذا لو أنزى على الإناث فحلا بغير إذن فهلكت، قال ابن القاسم لا يضمن لأنه من صلاح المال، وقد أومأ البخاري في كتاب الوكالة إلى موافقته حيث قدم الجواز بقصد الإصلاح، وقد تقدم بيان ذلك، وفيه جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه ولو ضمن الذابح، وخالف في ذلك طاوس وعكرمة كما سيأتي في أواخر كتاب الذبائح، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر، وإليه جنح البخاري لأنه أورد في الباب المذكور حديث رافع بن خديج في الأمر بإكفاء القدور وقد سبق ما فيه، وعورض بحديث الباب، وبما أخرجه أحمد وأبو داود بسند قوي من طريق عاصم بن كليب عن أبيه في قصة الشاة التي ذبحتها المرأة بغير إذن صاحبها فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكلها لكنه قال: "أطعموها الأسارى" فلو لم تكن ذكية ما أمر بإطعامها الأسارى. وفيه جواز أكل ما ذبحته المرأة سواء كانت حرة أو أمة كبيرة أو صغيرة مسلمة أو كتابية طاهرا أو غير طاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بأكل ما ذبحته ولم يستفصل، نص على ذلك الشافعي، وهو قول الجمهور، وقد تقدم في صدر الباب.

(9/633)


باب لايذكى بالسن والعظم والظفر
...
20- باب لاَ يُذَكَّى بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ وَالظُّفُرِ
5506- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلْ يَعْنِي مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إِلاَّ السِّنَّ وَالظُّفُرَ"
قوله: "باب لا يذكي بالسن والعظم والظفر" قال الكرماني: السن عظم خاص وكذلك الظفر ولكنهما في العرف ليسا بعظمين، وكذا عند الأطباء، وعلى الأول فذكر العظم من عطف العام على الخاص ثم الخاص على العام، ذكر فيه طرفا من حديث رافع بن خديج وقد تقدمت مباحثه، وسفيان هو الثوري. قال الكرماني: ترجم

(9/633)


بالعظم ولم يذكره في الحديث ولكن حكمه يعلم منه. قلت: والبخاري في هذا ماش على عادته في الإشارة إلى ما يتضمنه أصل الحديث، فإن فيه: "أما السن فعظم" وإن كانت هذه الجملة لم تذكر هنا لكنها ثابتة مشهورة في نفس الحديث. حديث رافع بن خديج قد تقدمت مباحثه، وسفيان هو الثوري قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل يعني ما أنهر الدم إلا السن والظفر" كذا عند الجميع، ولم أره عند أحمد ممن رواه عن الثوري بهذا اللفظ، و "كل" فعل أمر بالأكل ولفظ: "يعني" تفسير، كأن الراوي قال كلاما هذا معناه، وقد أخرجه البيهقي من طريق الباغندي عن قبيصة شيخ البخاري فيه بلفظ: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس إبلا وغنما" قال وذكر الحديث بنحوه وزاد في آخره: "قال عباية: ثم إن ناضحا تردى بالمدينة فذبح من قبل شاكلته، فأخذ منه ابن عمر عشيرا بدرهمين" وسيأتي الحديث بعد قليل من طريق يحيى القطان عن الثوري مطولا.

(9/634)


21- باب ذَبِيحَةِ الأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ
5507- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لاَ نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لاَ فَقَالَ سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ قَالَتْ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَتَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ وَالطُّفَاوِيُّ"
قوله: "باب ذبيحة الأعراب ونحوهم" كذا للأكثر بالواو والكشميهني بالراء بدل الواو وكذا هو عند النسفي ولكل وجه. قوله: "أسامة بن حفص المدني" هو شيخ لم يزد البخاري في التاريخ في تعريفه على ما في هذا الإسناد، وذكر غيره أنه روى عنه أيضا يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة بالقاف والمثناة مصغر، ولم يحتج البخاري بأسامة هذا لأنه قد أخرج هذا الحديث من رواية الطفاوي وغيره كما سأبينه. قوله: "تابعه على عن الدراوردي" هو علي بن عبد الله بن المديني شيخ البخاري والدراوردي هو عبد العزيز ابن محمد، وإنما يخرج له البخاري في المتابعات، ومراد البخاري أن الدراوردي رواه عن هشام بن عروة مرفوعا كما رواه أسامة بن حفص، وقد أخرجه الإسماعيلي من طر يق يعقوب بن حميد عن الدراوردي به. قوله: "وتابعه أبو خالد والطفاوي" يعني عن هشام بن عروة في رفعه أيضا، فأما رواية أبي خالد - وهو سليمان بن حبان الأحمر - فقد وصلها عنه المصنف في كتاب التوحيد وقال عقبه "وتابعه محمد بن عبد الرحمن والدراوردي وأسامة بن حفص" وأما رواية الطفاوي وهو محمد بن عبد الرحمن فقد وصلها عنه المصنف في كتاب البيوع، وحالفهم مالك فرواه عن هشام عن أبيه مرسلا ليس فيه عائشة، قال الدار قطني في "العلل" : رواه عبد الرحيم بن سليمان ومحاضر بن المورع والنضر بن شميل وآخرون عن هشام موصولا ورواه مالك مرسلا عن هشام، ووافق مالكا على إرساله الحمادان وابن عيينة والقطان عن هشام، وهو أشبه بالصواب، وذكر أيضا أن يحيى بن أبي طالب رواه عن عبد الوهاب بن عطاء عن مالك موصولا. قلت: رواية عبد الرحيم عند ابن ماجه ورواية النضر عند النسائي ورواية محاضر عند أبي داود، وقد أخرجه البيهقي من رواية جعفر بن عون عن هشام مرسلا، ويستفاد من صنيع البخاري أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله حكم للواصل بشرطين: أحدهما أن يزيد عدد من وصله على من أرسله، والآخر أن يحتف بقرينة تقوي

(9/634)


الرواية الموصولة، لأن عروة معروف بالرواية عن عائشة مشهور بالأخذ عنها، ففي ذلك إشعار بحفظ من وصله عن هشام دون من أرسله. ويؤخذ من صنيعه أيضا أنه وإن اشترط في الصحيح أن يكون راويه من أهل الضبط والإتقان أنه إن كان في الراوي قصور عن ذلك ووافقه على رواية ذلك الخبر من هو مثله انجبر ذلك القصور بذلك وصح الحديث على شرطه. قوله: "إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على تعيينهم، ووقع في رواية مالك "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "إن قوما يأتوننا بلحم" في رواية أبي خالد "يأتونا بلحمان" وفي رواية النضر بن شميل عن هشام عند النسائي: "إن ناسا من الأعراب" وفي رواية مالك "من البادية". قوله: "لا ندري أذكر اسم الله عليه" كذا هنا بضم الذال على البناء للمجهول. وفي رواية الطفاوي الماضية في البيوع "اذكروا" وفي رواية أبي خالد "لا ندري يذكرون" زاد أبو داود في روايته: "أم لم يذكروا، أفنأكل منها" ؟. قوله: "سموا عليه أنتم وكلوا" في رواية الطفاوي "سموا الله" وفي رواية النضر وأبي خالد "اذكروا اسم الله" زاد أبو خالد "أنتم". قوله: "قالت وكانوا حديثي عهد بالكفر" وفي لفظ: "حديث عهدهم" وهي جملة إسمية قدم خبرها ووقعت صفة لقوله: "أقواما" ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا بعد الخبر الأول وهو قوله: "يأتوننا بلحم". قوله: "بالكفر" وفي لفظ: "بكفر" وفي رواية أبي خالد "بشرك" وفي رواية أبي داود "بجاهلية" زاد مالك في آخره: "وذلك في أول الإسلام" وقد تعلق بهذه الزيادة قوم فزعموا أن هذا الجواب كان قبل نزول قوله تعالى :{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال ابن عبد البر: وهو تعلق ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده لأنه أمرهم فيه بالتسمية عند الأكل فدل على أن الآية كانت نزلت بالأمر بالتسمية عند الأكل، وأيضا فقد اتفقوا على أن الأنعام مكية وأن هذه القصة جرت بالمدينة، وأن الأعراب المشار إليهم في الحديث هم بادية أهل المدينة، وزاد ابن عيينة في روايته: "اجتهدوا أيمانهم كلوا" أي حلفوهم على أنهم سموا حين ذبحوا، وهذه الزيادة غريبة في هذا الحديث، وابن عيينة ثقة لكن روايته هذه مرسلة، نعم أخرج الطبراني من حديث أبي سعيد نحوه لكن قال: "اجتهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها" ورجاله ثقات، وللطحاوي في "المشكل" : "سأل ناس من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أعاريب يأتوننا بلحمان وجبن وسمن ما ندري ما كنه إسلامهم، قال: انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه، وما سكت عنه فقد عفا لكم عنه، وما كان ربك نسيا، اذكروا اسم الله عليه" قال المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية على الذبيحة لا تجب، إذ لو كانت واجبة لاشترطت على كل حال، وقد أجمعوا على أن التسمية على الأكل ليست فرضا، فلما نابت عن التسمية على الذبح دل على أنها سنة لأن السنة لا تنوب عن الفرض، ودل هذا على أن الأمر في حديث عدي وأبي ثعلبة محمول على التنزيه من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية فعلمهما النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح فرضه ومندوبه لئلا يواقعا شبهة من ذلك، وليأخذا بأكمل الأمور فيما يستقبلان، وأما الذين سألوا عن هذه الذبائح فإنهم سألوا عن أمر قد وقع ويقع لغيرهم ليس فيه قدرة على الأخذ بالأكمل، فعرفهم بأصل الحل فيه. وقال ابن التين: يحتمل أن يراد بالتسمية هنا عند الأكل، وبذلك جزم النووي، قال ابن التين: وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم من غير علمهم فلا تكليف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها، ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن تستبيحون بها أكل ما لم تعلموا أذكر اسم الله عليه أم لا إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمي. ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية،

(9/635)


وبهذا الأخير جزم ابن عبد البر فقال: فيه أن ما ذبحه المسلم يؤكل ويحمل على أنه سمي، لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير حتى يتبين خلاف ذلك، وعكس هذا الخطابي فقال: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة لأنها لو كانت شرطا لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبح فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أو لا، وهذا هو المتبادر من سياق الحديث حيث وقع الجواب فيه: "فسموا أنتم وكلوا" كأنه قيل لهم لا تهتموا بذلك بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا، وهذا من أسلوب الحكيم كما نبه عليه الطيبي. ومما يدل على عدم الاشتراط قوله تعالى :{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فأباح الأكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا. "تكملة": قال الغزالي في "الأحياء" في مراتب الشبهات: المرتبة الأولى ما يتأكد الاستحباب في التورع عنه. هو ما يقوى فيه دليل المخالف، فمنه التورع عن أكل متروك التسمية، فإن الآية ظاهرة في الإيجاب، والأخبار متواترة بالأمر بها، ولكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يذبح على اسم الله سمي أو لم يسم" احتمل أن يكون عاما موجبا لصرف الآية والإخبار عن ظاهر الأمر، واحتمل أن يخصص بالناسي ويبقى من عداه على الظاهر، وهذا الاحتمال الثاني أولى والله أعلم. قلت: الحديث الذي اعتمد عليه وحكم بصحته بالغ النووي في إنكاره فقال: هو مجمع على ضعفه، قال: وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة وقال: منكر لا يحتج به. وأخرج أبو داود في "المراسيل" عن الصلت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر" قلت: الصلت يقال له السدوسي وذكره ابن حبان في الثقات، وهو مرسل جيد، وحديث أبي هريرة فيه مروان بن سالم وهو متروك، لكن ثبت ذلك عن ابن عباس كما تقدم في أول "باب التسمية على الذبيحة" واختلف في رفعه ووقفه، فإذا انضم إلى المرسل المذكور قوي، أما كونه يبلغ درجة الصحة فلا. والله أعلم.

(9/636)


22- باب ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُومِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لاَ بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّي لِغَيْرِ اللَّهِ فَلاَ تَأْكُلْ وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ لاَ بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الأَقْلَفِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ
5508- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ"
قوله: "باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها، من أهل الحرب وغيرهم" أشار إلى جواز ذلك، وهو قول الجمهور وعن مالك وأحمد تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. وقال ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم، وليس الشحوم من طعامهم ولا يقصدونها عند الزكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسر طعامهم بذبائحهم كما سيأتي آخر

(9/636)


الباب، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح، والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض، وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر، فكان يلزم على قول هذا القائل أن اليهودي إذا ذبح ماله ظفر لا يحل للمسلم أكله، وأهل الكتاب أيضا يحرمون أكل الإبل فيقع الإلزام كذلك. قوله: "وقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {حِلٌّ لَهُمْ}، وبهذه الزيادة يتبين مراده من الاستدلال على الحل لأنه لم يخص ذميا من حربي ولا خص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا، وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال أن الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا فيكون على أصل الإباحة. قوله: "وقال الزهري: لا بأس بذبيحة نصارى العرب. وإن سمعته يهل لغير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله لك وعلم كفرهم" وصله عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري عن ذبائح نصارى العرب فذكر نحوه وزاد في آخره قال: وإهلاله أن يقول: باسم المسيح، وكذا قال الشافعي إن كان لهم ذبح يسمون عليه غير اسم الله مثل اسم المسيح لم يحل، وإن ذكر المسيح على معنى الصلاة عليه لم يحرم، وحكى البيهقي عن الحليمي بحثا أن أهل الكتاب إنما يذبحون لله تعالى، وهم في أصل دينهم لا يقصدون بعبادتهم إلا الله، فإذا كان قصدهم في الأصل ذلك اعتبرت ذبيحتهم ولم يضر قول من قال منهم مثلا باسم المسيح لأنه لا يريد بذلك إلا الله وإن كان قد كفر بذلك الاعتقاد. قوله: "ويذكر عن علي نحوه" لم أقف على من وصله، وكأنه لا يصح عنه، ولذلك ذكره بصيغة التمريض. بل قد جاء عن علي من وجه آخر صحيح المنع من ذبائح بعض نصارى العرب أخرجه الشافعي وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة "عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر" ولا تعارض بين الروايتين عن علي لأن منع الذي منعه فيه أخص من الذي نقل فيه عنه الجواز قوله: "وقال الحسن وإبراهيم لا بأس بذبيحة الأقلف" بالقاف ثم الفاء: هو الذي لم يختن، والقلفة بالقاف ويقال بالغين المعجمة الغرلة وهي الجلدة التي تستر الحشفة، وأثر الحسن أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: كان الحسن يرخص في الرجل إذا أسلم بعدما يكبر فخاف على نفسه إن اختتن أن لا يختتن، وكان لا يرى بأكل ذبيحته بأسا. وأما أثر إبراهيم فأخرجه أبو بكر الخلال من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: لا بأس بذبيحة الأقلف. وقد ورد ما يخالفه فأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: الأقلف لا تؤكل ذبيحته ولا تقبل صلاته ولا شهادته. وقال ابن المنذر: قال جمهور أهل العلم تجوز ذبيحته لأن الله سبحانه أباح ذبائح أهل الكتاب ومنهم من لا يختتن. قوله: "وقال ابن عباس طعامهم ذبائحهم" كذا ثبت هذا التعليق هنا عند المستملي، وثبت عند السرخسي والحموي في آخر الباب عقب الحديث المرفوع، وهو موصول عند البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: ذبائحهم، وقائل هذا يلزمه أن يجيز ذبيحة الأقلف لأن كثيرا من أهل الكتاب لا يختتنون، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم هرقل وقومه بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وهرقل وقومه ممن لا يختتن وقد سموا أهل الكتاب. حديث عبد الله بن مغفل "كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت" بنون وزاي أي وثبت. وفي رواية الكشميهني: "فبدرت" أي سارعت، وقد تقدمت مباحثه في فرض الخمس، وفيه حجة على من منع ما حرم

(9/637)


عليهم كالشحوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور، وفيه جواز أكل الشحم مما ذبحه أهل الكتاب ولو كانوا أهل حرب.

(9/638)


باب ماند من البهائم فهو بمنزلة الوحش
...
23- باب مَا نَدَّ مِنْ الْبَهَائِمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ
وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا أَعْجَزَكَ مِنْ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِي يَدَيْكَ فَهُوَ كَالصَّيْدِ وَفِي بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَذَكِّهِ وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ
5509- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ اعْجَلْ أَوْ أَرِنْ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُحَدِّثُكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا"
قوله: "باب ما ند" أي نفر "من البهائم" أي الإنسية "فهو بمنزلة الوحش" أي في جواز عقره على أي صفة اتفقت، وهو مستفاد من قوله في الخبر "فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا" وأما قوله: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش" فالظاهر أن تقديم ذكر هذا التشبيه كالتمهيد لكونها تشارك المتوحش في الحكم. وقال ابن المنير: بل المراد أنها تنفر كما ينفر الوحش لا أنها تعطي حكمها، كذا قال، وآخر الحديث يرد عليه. قوله: "وأجازه ابن مسعود" يشير إلى ما تقدم في "باب صيد القوس" عن ابن مسعود. وأخرج البيهقي من طريق أبي العميس عن غضبان بن يزيد البجلي عن أبيه قال: "أعرس رجل من الحي فاشترى جزورا فندت فعرقبها وذكر اسم الله، فأمرهم عبد الله - يعني ابن مسعود - أن يأكلوا، فما طابت أنفعهم حتى جعلوا له منها بضعة ثم أتوه بها فأكل". قوله: "وقال ابن عباس: ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد، وفي بعير تردى في بئر فذكه من حيث قدرت" في رواية كريمة: "من حيث قدرت عليه فذكه". أما الأثر الأول فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عنه بهذا قال: فهو بمنزلة الصيد، وأما الثاني فوصله عبد الرزاق من وجه آخر عن عكرمة عنه قال: إذا وقع البعير في البئر فاطعنه من قبل خاصرته واذكر اسم الله وكل. قوله:" ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة "أما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق أبي راشد السلماني قال: كنت أرعى منائح لأهلي بظهر الكوفة، فتردى منها بعير، فخشيت أن يسبقني بذكاته" فأخذت حديدة فوجأت بها في جنبه أو سنامه، ثم قطعته أعضاء وفرقته على أهلي، فأبوا أن يأكلوه، فأتيت عليا فقمت على باب قصره ففلت: يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين، فقال: يالبيكاه يالبيكاه، فأخبرته خبره، فقال: كل وأطعمني. وأما أثر ابن عمر فوصله عبد الرزاق في أثر حديث رافع بن خديج من رواية سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة، وقد تقدم في "باب لا يذكى بالسن والعظم" وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عباية بلفظ: "تردى بعير في ركية، فنزل رجل لينحره فقال: لا أقدر على نحره، فقال له ابن عمر: اذكر اسم الله ثم اقتل

(9/638)


شاكلته - يعني خاصرته - ففعل" وأخرج مقطعا، فأخذ منه ابن عمر عشيرا بدرهمين أو أربعة. وأما أثر عائشة فلم أقف عليه بعد موصولا؛ وقد نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور، وخالفهم مالك والليث، ونقل أيضا عن سعيد بن المسيب وربيعة فقالوا: لا يحل أكل الإنسي إذا توحش إلا بتذكيته في حلقه أو لبته، وحجة الجمهور حديث رافع، ثم ذكر حديث رافع بن خديج من رواية يحيى القطان عن سفيان الثوري، ولم يذكر فيه قصة نصب القدور وإكفائها وذكر سائر الحديث. قوله فيه "عن عباية بن رفاعة بن خديج" كذا فيه نسب رفاعة إلى جده، ووقع في رواية كريمة: "رفاعة بن رافع بن خديج" بغير نقص فيه. قوله: "فقال أعجل أو أرن" في رواية كريمة بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون النون، وكذا ضبطه الخطابي في سنن أبي داود. وفي رواية أبي ذر بسكون الراء وكسر النون، ووقع في رواية الإسماعيلي من هذا الوجه الذي هنا "وأرني" بإثبات الياء آخره، قال الخطابي: هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة، وسألت عنه أهل اللغة فلم أجد عندهم ما يقطع بصحته، وقد طلبت له مخرجا. فذكر أوجها: أحدها أن يكون على الرواية بكسر الراء من أران القوم إذا هلكت مواشيهم فيكون المعنى أهلكها ذبحا. ثانيها أن يكون على الرواية بسكون الراء بوزن أعط يعني انظروا نظروا نتظر بمعنى، قال الله تعالى حكاية عمن قال: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي انظرونا، أو هو بضم الهمزة بمعنى أدم الحز من قولك رنوت إذا أدمت النظر إلى الشيء، وأراد أدم النظر إليه وراعه ببصرك. ثالثها أن يكون مهموزا من قولك أر أن يرئن إذا نشط وخف، كأنه فعل أمر بالإسراع لئلا يموت خنقا ورجح في "شرح السنن" هذا الوجه الأخير فقال: صوابه أرئن بهمزة ومعناه خف واعجل لئلا تخنقها، فإن الذبح إذا كان بغير الحديد احتاج صاحبه إلى خفة يد وسرعة في إمرار تلك الآلة والإتيان على الحلقوم والأوداج كلها قبل أن تهلك الذبيحة بما ينالها من ألم الضغط قبل قطع مذابحها. ثم قال: وقد ذكرت هذا الحرف في "غريب الحديث:" وذكرت فيه وجوها يحتملها التأويل وكأن قال فيه يجوز أن تكون الكلمة تصحفت، وكان في الأصل أزز بالزاي من قولك أزز الرجل إصبعه إذا جعلها في الشيء، وأززت الجرادة أززا إذا أدخلت ذنبها في الأرض، والمعنى شد يدك على النحر. وزعم أن هذا الوجه أقرب الجميع. قال ابن بطال عرضت كلام الخطابي على بعض أهل النقد فقال: أما أخذه من أران القوم فمعترض لأن أران لا يتعدى وإنما يقال أران هو ولا يقال أران الرجل غنمه. وأما الوجه الذي صوبه ففيه نظر وكأنه من جهة أن الرواية لا تساعده. وأما الوجه الذي جعله أقرب الجميع فهو أبعدها لعدم الرواية به. وقال عياض: ضبطه الأصيلي أرني فعل أمر من الرؤية، ومثله في مسلم لكن الراء ساكنة قال: وأفادني بعضهم أنه وقف على هذه اللفظة في "مسند علي بن عبد العزيز" مضبوطة هكذا أرني أو أعجل، فكأن الراوي شك في أحد اللفظين وهما بمعنى واحد، والمقصود الذبح بما يسرع القطع ويجري الدم، ورجح النووي أن أرن بمعنى أعجل وأنه شك من الراوي، وضبط أعجل بكسر الجيم، وبعضهم قال في رواية لمسلم أرني بسكون الراء وبعد النون ياء أي أحضرني الآلة التي تذبح بها لأراها ثم أضرب عن ذلك فقال: أو أعجل، وأو تجي. للإضراب فكأنه قال قد لا يتيسر إحضار الآلة فيتأخر البيان فعرف الحكم فقال أعجل ما أنهر الدم إلخ، قال وهذا أولى من حمله على الشك. وقال المنذري: اختلف في هذه اللفظة هلى هي بوزن أعط أو بوزن أطع أو هي فعل أمر من الرؤية؟ فعلى الأول المعنى أدم الحز من رنوت إذا أدمت النظر، وعلى الثاني أهلكها ذبحا من أران القوم إذا هلكت مواشيهم، وتعقب بأنه لا يتعدى، وأجيب بأن المعنى كن ذا

(9/639)


شاة هالكة إذا أزهقت نفسها بكل ما أنهر الدم. قلت: ولا يخفى تكلفه. وأما على أنه بصيغة فعل الأمر فمعناه أرني سيلان الدم، ومن سكن الراء اختلس الحركة، ومن حذف الياء جاز، وقوله واعجل بهمزة وصل وفتح الجيم وسكون اللام فعل أمر من العجلة أي اعجل لا تموت الذبيحة خنقة قال: ورواه بعضهم بصيغة أفعل التفضيل أي ليكن الذبح أعجل ما أنهر الدم، قلت: وهذا وإن تمشى على رواية أبي داود بتقديم لفظ أرني على أعجل لم يستقم على رواية البخاري بتأخيرها، وجوز بعضهم في رواية أرن بسكون الراء أن يكون من أرناني حسن ما رأيته أي حملني على الرنو إليه، والمعنى على هذا أحسن الذبح حتى تحب أن ننظر إليك، ويؤيده حديث: "إذا ذبحتم فأحسنوا" أخرجه مسلم. وقد سبقت مباحث هذا الحديث مستوفاة قبل، وسياقه هناك أتم مما هنا. والله أعلم.

(9/640)


باب الذبح والنحر
...
24- باب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ لاَ ذَبْحَ وَلاَ مَنْحَرَ إِلاَّ فِي الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ قُلْتُ أَيَجْزِي مَا يُذْبَحُ أَنْ أَنْحَرَهُ قَالَ نَعَمْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَبْحَ الْبَقَرَةِ فَإِنْ ذَبَحْتَ شَيْئًا يُنْحَرُ جَازَ وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ وَالذَّبْحُ قَطْعُ الأَوْدَاجِ قُلْتُ فَيُخَلِّفُ الأَوْدَاجَ حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ قَالَ لاَ إِخَالُ وَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَهَى عَنْ النَّخْعِ يَقُولُ يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى تَمُوتَ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - إلى- فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلاَ بَأْسَ"
5510- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ امْرَأَتِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ"
[الحديث 5510- أطرافه في: 5511، 5512، 5519]
5511- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ سَمِعَ عَبْدَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلْنَاهُ"
5512- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ تَابَعَهُ وَكِيعٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي النَّحْرِ"
قوله: "باب النحر والذبح" في رواية أبي ذر "والذبائح" بصيغة الجمع، وكأنه جمع باعتبار أنه الأكثر فالنحر في الإبل خاصة، وأما غير الإبل فيذبح، وقد جاءت أحاديث في ذبح الإبل وفي نحر غيرها. وقال ابن التين الأصل في الإبل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وأما البقر فجاء في القرآن ذكر ذبحها وفي السنة ذكر نحرها، واختلف في ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح فأجازه الجمهور ومنع ابن القاسم. قوله: "وقال ابن جريج عن عطاء إلخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج مقطعا، وقوله والذبح قطع الأوداج جمع ودج بفتح الدال المهملة والجيم وهو العرق الذي في الأخدع، وهما عرقان متقابلان، قيل ليس لكل بهيمة غير ودجين فقط وهما محيطان

(9/640)


بالحلقوم، ففي الإتيان بصيغة الجمع نظر، ويمكن أن يكون أضاف كل ودجين إلى الأنواع كلها، هكذا اقتصر عليه بعض الشراح، وبقي وجه آخر وهو أنه أطلق على ما يقطع في العادة ودجا تغليبا، فقد قال أكثر الحنفية في كتبهم: إذا قطع من الأوداج الأربعة ثلاثة حصلت التذكية، وهما الحلقوم والمريء وعرقان من كل جانب، وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج أجزأ، فإن قطع أقل فلا خير فيها. وقال الشافعي يكفي ولو لم يقطع من الودجين شيئا، لأنهما قد يسلان من الإنسان وغيره فيعيش. وعن الثوري إن قطع الودجين أجزأ ولو لم يقطع الحلقوم والمريء، وعن مالك والليث يشترط قطع الودجين والحلقوم فقط، واحتج له بما في حديث رافع "ما أنهر الدم" وإنهاره إجراؤه، وذلك يكون بقطع الأوداج لأنها مجرى الدم، وأما المريء فهو مجرى الطعام وليس به من الدم ما يصل به إنهار، كذا قال. وقوله: "فأخبرني نافع" القائل هو ابن جريج، وقوله: "النخع" بفتح النون وسكون الخاء المعجمة فسره في الخبر بأنه قطع ما دون العظم، والنخاع عرق أبيض في فقار الظهر إلى القلب، يقال له خيط الرقبة. وقال الشافعي: النخع أن تذبح الشاة ثم يكسر قفاها من موضع المذبح، أو تضرب ليعجل قطع حركتها. وأخرج أبو عبيد في "الغريب" عن عمر أنه نهى عن الفرس في الذبيحة، ثم حكى عن أبي عبيدة أن الفرس هو النخع، يقال فرست الشاة ونخعتها، وذلك أن ينتهي بالذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة، قال: ويقال أيضا هو الذي يكون في فقار الصلب شبيه بالمخ وهو متصل بالقفا، نهى أن ينتهي بالذبح إلى ذلك. قال أبو عبيد أما النخع فهو على ما قال، وأما الفرس فيقال هو الكسر، وإنما نهى أن تكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد. ويبين ذلك أن في الحديث: "ولا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق" قلت يعني في حديث عمر المذكور، وكذا ذكره الشافعي عن عمر. قوله: "وإذ قال موسى لقومه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - إلى– فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} زاد في رواية كريمة:" وقول الله تعالى :{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وهذا من تمام الترجمة، وأراد أن يفسر به قول ابن جريج في الأثر المذكور ذكر الله ذبح البقرة، وفي هذا إشارة منه إلى اختصاص البقر بالذبح، وقد روى شيخه إسماعيل بن أبي أويس عن مالك "من نحر البقر فبئس ما صنع. ثم تلا هذه الآية" وعن أشهب إن ذبح بعيرا من غير ضرورة لم يؤكل. قوله: "وقال سعيد عن ابن عباس: الذكاة في الحلق واللبة" وصله سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الذكاة في الحلق واللبة، وهذا إسناد صحيح، وأخرجه سفيان الثوري في جامعه عن عمر مثله، وجاء مرفوعا من وجه واه. واللبة بفتح اللام وتشديد الموحدة هي موضع القلادة من الصدر وهي المنحر، وكأن المصنف لمح بضعف الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن من رواية حماد ابن سلمة عن أبي المعشر الدارمي عن أبيه قال: "قلت يا رسول الله ما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة، قال لو طعنت في فخذها لأجزأك" لكن من قواه حمله على الوحش والمتوحش. قوله: "وقال ابن عمر وابن عباس وأنس: إذا قطع الرأس فلا بأس" أما أثر ابن عمر فوصله أبو موسى الزمن من رواية أبي مجلز "سألت ابن عمر عن ذبيحة قطع رأسها، فأمر ابن عمر بأكلها" وأما أثر ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة بسند صحيح "أن ابن عباس سئل عمن ذبح دجاجة فطير رأسها فقال ذكاة وحية بفتح الواو وكسر الحاء المهملة بعدها تحتانية ثقيلة أي سريعة، منسوبة إلى الوحاء وهو الإسراع والعجلة. وأما

(9/641)


أثر أنس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس "أن جزارا لأنس ذبح دجاجة فاضطربت فذبحها من قفاها فأطار رأسها، فأرادوا طرحها، فأمرهم أنس بأكلها. ذكر المصنف في الباب حديث أسماء بنت أبي بكر في أكل الفرس، أورده من رواية سفيان الثوري ومن رواية جرير كلاهما عن هشام بن عروة موصولا بلفظ: "نحرنا" وقال في آخره: "تابعه وكيع وابن عيينة عن هشام في النحر"، وأورده أيضا من رواية عبدة وهو ابن سليمان عن هشام بلفظ: "ذبحنا" ورواية ابن عيينة التي أشار إليها ستأتي موصولة بعد بابين من رواية الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة به وقال: "نحرنا".ورواية وكيع أخرجها أحمد عنه بلفظ: "نحرنا"، وأخرجها مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير "حدثنا أبي وحفص بن غياث ووكيع ثلاثتهم عن هشام" بلفظ: "نحرنا"، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر والثوري جميعا عن هشام بلفظ: "نحرنا" وقال الإسماعيلي: قال همام وعيسى بن يونس وعلي بن مسهر عن هشام بلفظ: "نحرنا"، واختلف على حماد بن زيد وابن عيينة فقال أكثر أصحابهما "نحرنا" وقال بعضهم "ذبحنا"، وأخرجه الدار قطني من رواية مؤمل بن إسماعيل عن الثوري ووهيب بن خالد ومن رواية ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ومن رواية يحيى القطان كلهم عن هشام بلفظ: "ذبحنا" ومن رواية أبي معاوية عن هشام "انتحرنا" وكذا أخرجه مسلم من رواية أبي معاوية وأبي أسامة ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة عنهما بلفظ: "نحرنا" وهذا الاختلاف كله عن هشام، وفيه إشعار بأنه كان تارة يرويه بلفظ - "ذبحنا" وتارة بلفظ: "نحرنا" وهو مصير منه إلى استواء اللفظين في المعنى، وأن النحر يطلق عليه ذبح والذبح يطلق عليه نحر ولا يتعين مع هذا الاختلاف ما هو الحقيقة في ذلك من المجاز إلا إن رجح أحد الطريقين، وأما أنه يستفاد من هذا الاختلاف جواز نحر المذبوح وذبح المنحور كما قاله بعض الشراح فبعيد، لأنه يستلزم أن يكون الأمر في ذلك وقع مرتين، والأصل عدم التعدد مع اتحاد المخرج، وقد جرى النووي على عادته في الحمل على التعدد فقال بعد أن ذكر اختلاف الرواة في قولها نحرنا وذبحنا: يجمع بين الروايتين بأنهما قضيتان، فمرة نحروها ومرة ذبحوها: ثم قال: ويجوز أن تكون قصة واحدة وأحد اللفظين مجاز والأول أصح، كذا قال والله أعلم

(9/642)


باب مايكره من المثلة والمصبورة والمجثمة
...
25- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ وَالْمَصْبُورَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ
5513- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا أَوْ فِتْيَانًا نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا فَقَالَ أَنَسٌ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ"
5514- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغُلاَمٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلاَمِ مَعَهُ فَقَالَ ازْجُرُوا غُلاَمَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ"

(9/642)


5515- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ أَوْ بِنَفَرٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ وَقَالَ عَدِيٌّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
5516- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ"
قوله: "باب ما يكره من المثلة" بضم الميم وسكون المثلثة هي قطع أطراف الحيوان أو بعضها وهو حي، يقال مثلت به أمثل بالتشديد للمبالغة. قوله: "والمصبورة" بصاد مهملة ساكنة وموحدة مضمومة، "والمجثمة" بالجيم والمثلثة المفتوحة: التي تربط وتجعل غرضا للرمي، فإذا ماتت من ذلك لم يحل أكلها، والجثوم للطير ونحوها بمنزلة البروك للإبل، فلو جثمت بنفسها فهي جاثمة ومجثمة بكسر المثلثة، وتلك إذا صيدت على تلك الحالة فذبحت جاز أكلها، وإن رميت فماتت لم يجز لأنها تصير موقذة. ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث. قوله: "عن هشام بن زيد" يعني ابن أنس بن مالك. قوله: "دخلت مع أنس على الحكم بن أيوب" يعني ابن أبي عقيل الثقفي ابن عم الحجاج بن يوسف ونائبه على البصرة وزوج أخته زينب بنت يوسف، وهو الذي يقول فيه جرير يمدحه:
حتى أنخناها على باب الحكم
...
خليفة الحجاج غير المتهم
وقع ذكره في عدة أحاديث، وكان يضاهي في الجور ابن عمه، وليزيد الضبي معه قصة طويلة تدل على ذلك أوردها أبو يعلى الموصلي في مسند أنس له، ووقع في رواية الإسماعيلي بلفظ خرجت مع أنس بن مالك من دار الحكم بن أيوب أمير البصرة. قوله: "فرأى غلمانا أو فتيانا" شك من الراوي، ولم أقف على أسمائهم، وظاهر السياق أنهم من أتباع الحكم بن أيوب المذكور. قوله: "أن تصبر" بضم أوله أي تحبس لترمي حتى تموت. وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "سمعت أنس بن مالك يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح" وأصل الصبر الحبس. وأخرج العقيلي في "الضعفاء" من طريق الحسن عن سمرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهيمة، وأن يؤكل لحمها إذا صبرت" قال العقيلي: جاء في النهي عن صبر البهيمة أحاديث جياد، وأما النهي عن أكلها فلا يعرف إلا في هذا. قلت: إن ثبت فهو محمول على أنها ماتت بذلك بغير تذكية كما تقدم في المقتول بالبندقة. قوله: "أنه دخل على يحيى بن سعيد" أي ابن العاص وهو أخو عمرو المعروف بالأشدق ابن سعيد بن العاص والد سعيد بن عمرو راويه من ابن عمر. قوله: "وغلام من بني يحيى" أي ابن سعيد المذكور لم أقف على اسمه، وكان ليحيى من الذكور عثمان وعنبسة وأبان وإسماعيل وسعيد ومحمد وهشام وعمرو، وكان يحيى بن سعيد قد ولى إمرة المدينة وكذا أخوه عمرو. قوله: "فمشى إليها ابن عمر حتى حلها" بتشديد اللام، في رواية السرخسي والمستلمي "حملها" ورواية الكشميهني أوضح لقوله في أول الحديث: "رابط دجاجة" ووقع في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم في "المستخرج" : فحل الدجاجة. قوله: "ازجروا غلامكم" في رواية الكشميهني: "غلمانكم".

(9/643)


"عن أن يصبر" في رواية الكشميهني: "أن يصبروا" بصيغة الجمع وهو على نسق الذي قبله، وزاد أبو نعيم في آخر الحديث: "وإن أردتم ذبحها فاذبحوها". قوله: "هذا الطير" قال الكرماني: هذا على لغة قليلة وهي إطلاق الطير على الواحد، واللغة المشهورة في الواحد طائر والجمع الطير. قلت: وهو هنا محتمل لإرادة الجمع، بل الأولى أنه لإرادة الجنس. قوله: "أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل" "أو" للتنويع لا للشك، وهو زائد على حديث أنس فيدخل فيه البهائم والطيور وغيرهما، ونحوه حديث أبي أيوب قال: "والذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل الصبر" أخرجه أبو داود بسند قوي، ويجمع ذلك حديث شداد بن أوس عند مسلم رفعه: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" قال ابن أبي جمرة: فيه رحمة الله لعباده حتى في حال القتل، فأمر بالقتل، وأمر بالرفق فيه. ويؤخذ منه قهره لجميع عباده لأنه لم يترك لأحد التصرف في شيء إلا وقد حد له فيه كيفية. قوله: "عن أبي بشر" هو جعفر بن أبي وحشية. قوله: "فمروا بفتية أو بنفر" شك من الراوي. وفي رواية الإسماعيلي: "فإذا فتية نصبوا دجاجة يرمونها وله كل خاطئة" يعني أن الذي يصيبها يأخذ السهم الذي ترمي به إذ لم يصبها. قوله: "وقال ابن عمر: من فعل هذا" زاد في رواية الإسماعيلي: "فتفرقوا". قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا" في رواية مسلم: "لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا" بمعجمتين والفتح أي منصوبا للرمي. وفي رواية الإسماعيلي: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان" وفي رواية له "بالبهائم" وفي رواية له "من تجثم" واللعن من دلائل التحريم، ولأحمد من وجه آخر عن أبي صالح الحنفي عن رجل من الصحابة أراه عن ابن عمر رفعه: "من مثل بذي روح ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة" رجاله ثقات. قوله: "تابعه سليمان" هو ابن حرب. قوله: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان" أي صبره مثله بضم الميم وبالمثلثة، وهذه المتابعة وصلها البيهقي من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب، وزاد فيه أيضا قصة أن ابن عمر خرج في طريق من طرق المدينة فرأى غلمانا، فذكر مثل رواية أبي بشر، وفيه: "فلما رأوه فروا فغضب" الحديث. ووهم مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن وغيره فجزموا بأن سليمان هذا هو أبو داود الطيالسي، واستند إلى أن أبا نعيم أخرجه في مستخرجه من طريق أبي خليفة عن الطيالسي. قلت: وهو غلط ظاهر، فإن الطيالسي الذي يروي عنه أبو خليفة هو أبو الوليد واسمه هشام بن عبد الملك، ولم يدرك أبو خليفة أبا داود الطيالسي فإن مولده بعد وفاته بسنتين، مات أبو داود سنة أربع ومائتين على الصحيح، وولد أبو خليفة سنة ست ومائتين، والمنهال المذكور في السند هو ابن عمرو، يعني أنه تابع أبا بشر في روايته لهذا الحديث عن سعيد بن جبير وخالفهما عدي بن ثابت فرواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس كما بينه في الطريق التي بعدها. قوله: "وقال عدي" هو ابن ثابت "عن عيد" هو ابن جبير "عن ابن عباس" هو موصول بالإسناد الذي ساقه إلى عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد، وقد ساقه البخاري في تاريخه عن حجاج بن منهال الذي ساق حديث عبد الله بن يزيد به، ولكن لفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا". قوله: "سمعت عبد الله بن يزيد" هو الخطمي بفتح المعجمة وسكون المهملة، تقدم ذكره في الاستسقاء. قوله: "نهى عن النهبى" بضم النون وسكون الهاء ثم بالموحدة مقصور، أي أخذ مال المسلم قهرا جهرا، ومنه أخذ مال الغنيمة قبل القسمة اختطافا بغير تسوية. قوله: "والمثلثة" تقدم ضبطها وتفسيرها وتقدم في المغازي في

(9/644)


"باب قصة عكل وعرينة" لهذا الحديث طريق أخرى، وذكر الإسماعيلي الاختلاف على شعبة فيه، وبين أن يعقوب الحضرمي رواه عن شعبة كما قال حجاج بن منهال، لكن أدخل بين عبد الله بن يزيد والنبي صلى الله عليه وسلم أبا أيوب، ورواية يعقوب بن إسحاق المذكورة وصلها الطبراني. وفي هذه الأحاديث تحريم تعذيب الحيوان الآدمي وغيره، وفي الحديث الأول قوة أنس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع معرفته بشدة الأمير المذكور، لكن كان الخليفة عبد الملك بن مروان نهى الحجاج عن التعرض له بعد أن كان صدر من الحجاج في حقه خشونة، فشكاه لعبد الملك فأغلظ للحجاج وأمره بإكرامه.

(9/645)


26- باب لَحْمِ الدَّجَاجِ
5517- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى يَعْنِي الأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ دَجَاجًا"
5518- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ فَلَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ ادْنُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ آكُلَهُ فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ أَوْ أُحَدِّثْكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا قَالَ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبٍ مِنْ إِبِلٍ فَقَالَ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ قَالَ فَأَعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرَّ الذُّرَى فَلَبِثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اسْتَحْمَلْنَاكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا فَظَنَنَّا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ حَمَلَكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قوله: "باب لحم الدجاج" هو اسم جنس مثلث الدال، ذكره المنذري في الحاشية وابن مالك وغيرهما، ولم يحك النووي الضم، والواحدة دجاجة مثلث أيضا، وقيل إن الضم فيه ضعيف، قال الجوهري دخلتها الهاء للوحدة مثل الحمامة، وأفاد إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:" أن الدجاج بالكسر اسم للذكران دون الإناث والواحد منها ديك، وبالفتح الإناث دون الذكران والواحدة دجاجة بالفتح أيضا، قال: وسمى لإسراعه في الإقبال والإدبار من دج يدج إذا أسرع. قلت: ودجاجة اسم امرأة وهي بالفتح فقط، ويسمى بها الكبة من الغزل. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى البلخي، نسبه أبو علي بن السكن، وجزم الكلاباذي وأبو نعيم بأنه

(9/645)


ابن جعفر. قوله: "عن أيوب" في الرواية الثانية "ابن أبي تميمة" وهو السختياني، وعند أحمد عن عبد الله بن الوليد عن سفيان "حدثنا أيوب حدثني أبو قلابة". قوله: "عن أبي قلابة" كذا رواه سفيان الثوري عن أيوب ووافقه سفيان بن عيينة عن أيوب عند مسلم، وهكذا قال عبد السلام بن حرب عن أيوب كما مضى في المغازي. وقال عبد الوارث كما في الحديث الذي يليه "عن أيوب عن القاسم" بدل أبي قلابة، وكذا قال ابن علية عن أيوب كما يأتي في الأيمان والنذور أيضا. وقال حماد بن زيد "عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم" قال: "وأنا لحديث قاسم أحفظ" أخرجه في فرض الخمس، وكذا قال وهيب عن أيوب عنهما عند مسلم. قوله: "عن زهدم" بفتح الزاي هو ابن مضرب بضم أوله وبفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها موحدة "الجرمي" بفتح الجيم، بصرى ثقة، ليس له في البخاري سوى حديثين: هذا الحديث وقد أخرجه في مواضع له، وحديث آخر أخرجه عن عمران بن حصين تقدم في المناقب وذكره في مواضع أخرى أيضا. قوله: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجا" كذا أورده مختصرا، وكذا ساقه أحمد عن وكيع، وأخرجه عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان أتم منه، وساقه الترمذي في "الشمائل" من وجه آخر مطولا، كما ذكره المصنف من طريق عبد الوارث عن أيوب عن القاسم وهو ابن عاصم التميمي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، فقد أورده عنه في مواضع مقرونا ومفردا مختصرا ومطولا مشتملا على قصة الرجل الذي امتنع من أكل الدجاج وحلف على ذلك، وفتوى أبي موسى له بأن يكفر عن يمينه ويأكل، وقص له الحديث في ذلك وسببه، وهو طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، وقد أورد المصنف قصة الاستحمال وما يليها من حكم اليمين وكفارته دون قصة الدجاج أيضا من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه في كفارة الأيمان، وأوردها أيضا في المغازي من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة أتم سياقا منه في قصة الاستحمال، وليس فيه ذكر كفارة اليمين، وقد أحلت في فرض الخمس وفي المغازي بشرحه على كتاب الأيمان والنذور، فأذكر هنا ما يتعلق بالدجاج. قوله: "كنا عند أبي موسى الأشعري وكان بيننا وبينه هذا الحي" بالخفض بدل من الضمير في بينه كذا قال ابن التين، وليس بجيد لأنه يصير تقدير الكلام أن زهدما الجرمي قال كان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء، وليس ذلك المراد، وإنما المراد أن أبا موسى وقومه الأشعريين كانوا أهل مودة وإخاء لقوم زهدم وهم بنو جرم، وقد وقع هنا في رواية الكشميهني: "وكان بيننا وبين هذا الحي" وكذا وقع في رواية إسماعيل عن أيوب عن القاسم وأبي قلابة كما سيأتي في كفارة الأيمان، وهو يؤيد ما قال ابن التين إلا أن المعنى لا يصح، وقد أخرجه في أواخر كتاب التوحيد من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم كلاهما عن زهدم قال: "كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود أو إخاء" وهذه الرواية هي المعتمدة. قوله: "إخاء" بكسر أوله والمد قال ابن التين ضبطه بعضهم بالقصر وهو خطأ. قوله: "وفي القوم رجل جالس أحمر" أي اللون. وفي رواية حماد بن زيد رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي أي العجم، وهذا الرجل هو زهدم الراوي أبهم نفسه، فقد أخرج الترمذي من طريق قتادة عن زهدم قال: "دخلت على أبي موسى وهو يأكل دجاجا فقال: ادن فكل، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله" مختصرا. وقد أشكل هذا لكونه وصف الرجل في رواية الباب بأنه من بني تيم الله وزهدم من بني جرم، فقال بعض الناس: الظاهر أنهما امتنعا معا زهدم والرجل التيمي، وحمله على دعوى التعدد استبعاد أن يكون

(9/646)


الشخص الواحد ينسب إلى تيم الله وإلى جرم، ولا بعد في ذلك بل قد أخرج أحمد الحديث المذكور عن عبد الله ابن الوليد هو العدني عن سفيان هو الثوري فقال في روايته: "عن رجل من بني تيم الله يقال له زهدم قال: كنا عند أبي موسى، فأتى بلحم دجاج" فعلى هذا فلعل زهدما كان تارة ينسب إلى بني جرم وتارة إلى بني تيم الله، وجرم قبيلة في قضاعة ينسبون إلى جرم بن زبان بزاي وموحدة ثقيلة ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، وتيم الله بطن من بني كلب وهم قبيلة في قضاعة أيضا ينسبون إلى تيم الله بن رفيدة - براء وفاء مصغرا - ابن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فحلوان عم جرم، قال الرشاطي في الأنساب: وكثيرا ما ينسبون الرجل إلى أعمامه. قلت: وربما أبهم الرجل نفسه كما تقدم في عدة مواضع، فلا بعد في أن يكون زهدم صاحب القصة والأصل عدم التعدد، وقد أخرج البيهقي من طريق الفريابي عن الثوري بسنده المذكور في هذا الباب إلى زهدم قال: "رأيت أبا موسى يأكل الدجاج فدعاني فقلت: إني رأيته يأكل نتنا، قال ادنه فكل" فذكر الحديث المرفوع. ومن طريق الصعق بن حزن عن مطر الوراق عن زهدم قال: "دخلت على أبي موسى وهو يأكل لحم دجاج فقال: ادن فكل، فقلت إني حلفت لا آكله" الحديث، وقد أخرجه موسى عن شيبان بن فروخ عن الصعق لكن لم يسق لفظه، وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر عن زهدم نحوه وقال فيه: "فقال لي: ادن فكل، فقلت: إني لا أريده" الحديث. فهذه عدة طرق صرح زهدم فيها بأنه صاحب القصة فهو المعتمد، ولا يعكر عليه إلا ما وقع في الصحيحين مما ظاهره المغايرة بين زهدم والممتنع من أكل الدجاج، ففي رواية عن زهدم "كنا عند أبي موسى فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم، فتلكأ" الحديث، فإن ظاهره أن الداخل دخل وزهدم جالس عند أبي موسى، لكن يجوز أن يكون مراد زهدم بقوله: "كنا" قومه الذين دخلوا قبله على أبي موسى، وهذا مجاز قد استعمل غيره مثله كقول ثابت البناني "خطبنا عمران بن حصين" أي خطب أهل البصرة، ولم يدرك ثابت خطبة عمران المذكورة، فيحتمل أن يكون زهدم دخل فجرى له ما ذكر، وغاية ما فيه أنه أبهم نفسه، ولا عجب فيه والله أعلم. قوله: "إني رأيته يأكل شيئا فقذرته" بكسر الذال المعجمة. وفي رواية أبي عوانة "إني رأيتها تأكل قذرا" وكأنه ظن أنها أكثرت من ذلك بحيث صارت جلاله فبين له أبو موسى أنها ليست كذلك أو أنه لا يلزم من كون تلك الدجاجة التي رآها كذلك أن يكون كل الدجاج كذلك. قوله: "فقال ادن" كذا للأكثر فعل أمر من الدنو، ووقع عند المستملي والسرخسي "إذا" بكسر الهمزة وبذال معجمة مع التنوين حرف نصب، وعلى الأول فقوله: "أخبرك" مجزوم، وعلى الثاني هو منصوب، وقوله: "أو أحدثك" شك من الراوي. قوله: "إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" سيأتي شرحه في الأيمان والنذور، وقوله: "فأعطانا خمس ذود غر الذري" الغر بضم المعجمة جمع أغر والأغر الأبيض. والذري بضم المعجمة والقصر جمع ذروة وذروة كل شيء أعلاه، والمراد هنا أسنمة الإبل ولعلها كانت بيضاء حقيقة، أو أراد وصفها بأنها لا علة فيها ولا دبر، ويجوز في غر النصب والجر، وقوله: "خمس ذود" كذا وقع بالإضافة، واستنكره أبو البقاء في غريبه قال: والصواب تنوين خمس وأن يكون ذود بدلا من خمس، فإنه لو كان بغير تنوين لتغير المعنى، لأن العدد المضاف غير المضاف إليه فيلزم أن يكون خمس ذود خمسة عشر بعيرا لأن الإبل الذود ثلاثة انتهى، وما أدري كيف يحكم بفساد المعنى إذا كان العدد كذا؛ وليكن عدد الإبل خمسة عشر بعيرا فما الذي يضر؟ وقد ثبت في بعض طرقه: "خذ هذين

(9/647)


القرينين والقرينين" إلى أن عد ست مرات، والذي قاله إنما يتم أن لو جاءت رواية صريحة أنه لم يعطهم سوى خمسة أبعرة، وعلى تقدير ذلك فأطلق لفظ ذود على الواحد مجازا كإبل، وهذه الرواية الصحيحة لا تمنع إمكان التصوير. وفي الحديث دخول المرء على صديقه في حال أكله، واستدناء صاحب الطعام الداخل وعرضه الطعام عليه ولو كان قليلا، لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه كما تقدم. وفيه جواز أكل الدجاج إنسيه ووحشيه، وهو بالاتفاق إلا عن بعض المتعمقين على سبيل الورع، إلا أن بعضهم استثنى الجلالة وهي ما تأكل الأقذار، وظاهر صنيع أبي موسى أنه لم يبال بذلك، والجلالة عبارة عن الدابة التي تأكل الجلة بكسر الجيم والتشديد وهي البعر، وادعى ابن حزم اختصاص الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا. وقال مالك والليث: لا بأس بأكل الجلالة من الدجاج وغيره، وإنما جاء النهي عنها للتقذر، وقد ورد النهي عن أكل الجلالة من طرق أصحها ما أخرجه الترمذي وصححه وأبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المجثمة، وعن لبن الجلالة، وعن الشرب من في السقاء" وهو على شرط البخاري في رجاله، إلا أن أيوب رواه عن عكرمة فقال: "عن أبي هريرة" وأخرجه البيهقي والبزار من وجه آخر عن أبي هريرة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة وعن شرب ألبانها وأكلها وركوبها" ولابن أبي شيبة بسند حسن عن جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة أن يؤكل لحمها أو يشرب لبنها، ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحمها" وسنده حسن. وقد أطلق الشافعية كراهة أكل الجلالة إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، وفي وجه إذا أكثرت من ذلك، ورجح أكثرهم أنها كراهة تنزيه، وهو قضية صنيع أبي موسى، ومن حجتهم أن العلف الظاهر إذا صار في كرشها تنجس فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك فلا يحكم على اللحم واللبن بالنجاسة. فكذلك هذا. وتعقب بأن العلف الطاهر إذا تنجس بالمجاورة جاز إطعامه للدابة لأنها إذا أكلته لا تتغذى بالنجاسة وإنما تتغذى بالعلف، بخلاف الجلالة، وذهب جماعة من الشافعية وهو قول الحنابلة إلى أن النهي للتحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء، وهو الذي صححه أبو إسحاق المروزي والقفال وإمام الحرمين والبغوي والغزالي وألحقوا بلبنها ولحمها بيضها، وفي معنى الجلالة ما يتغذى بالنجس كالشاة ترضع من كلبة، والمعتبر في جواز أكل الجلالة زوال رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر على الصحيح، وجاء عن السلف فيه توقيت فعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا، كما تقدم. وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يوما.

(9/648)


27- باب لُحُومِ الْخَيْلِ
5519- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ"
5520- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ"

(9/648)


قوله: "باب لحوم الخيل" قال ابن المنير: لم يذكر الحكم لتعارض الأدلة، كذا قال، ودليل الجواز ظاهر القوة كما سيأتي. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة، وهشام هو ابن عروة. وفاطمة هي بنت المنذر بن الزبير وهي ابنة عم هشام المذكور وزوجته، وقد تقدم ذلك صريحا في "باب النحر والذبح". وقد اختلف في سنده على هشام فقال أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه عن أبيه عن أسماء، وكذا قال ابن ثوبان من رواية عتبة بن حماد عنه عن هشام ابن عروة. وقال المغيرة بن مسلم عن هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام أخرجه البزار، وذكر الدار قطني الاختلاف ثم رجح رواية ابن عيينة ومن وافقه. قوله: "نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه" زاد عبدة بن سليمان عن هشام "ونحن بالمدينة" وقد تقدم ذلك قبل بابين. وفي رواية للدار قطني "فأكلناه نحن وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وتقدم الاختلاف في قولها "نحرنا" و "ذبحنا" واختلف الشارحون في توجيهه فقيل يحمل النحر على الذبح مجازا. وقيل وقع ذلك مرتين، وإليه جنح النووي، وفيه نظر لأن الأصل عدم التعدد والمخرج متحد، والاختلاف فيه على هشام: فبعض الرواة قال عنه نحرنا وبعضهم قال ذبحنا، والمستفاد من ذلك جواز الأمرين عندهم وقيام أحدهما في التذكية مقام الآخر، وإلا لما ساغ لهم الإتيان بهذا موضع هذا، وأما الذي وقع بعينه فلا يتحرر لوقوع التساوي بين الرواة المختلفين في ذلك، ويستفاد من قولها "ونحن بالمدينة" أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد، ومن قولها "نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم:" الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه، لشدة اختلاطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عن الأحكام، ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: "كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:" كان له حكم الرفع، لأن الظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر الصديق. قوله: "حماد" هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، ومحمد بن علي أي ابن الحسين بن علي وهو الباقر أبو جعفر كذا أدخل حماد بن زيد بين عمرو بن دينار وبين جابر في هذا الحديث محمد بن علي ولما أخرجه النسائي قال: لا أعلم أحدا وافق حمادا على ذلك، وأخرجه من طريق حسين بن واقد، وأخرجه هو والترمذي من رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن عمرو بن دينار عن جابر ليس فيه محمد بن علي، ومال الترمذي أيضا إلى ترجيح رواية ابن عيينة وقال: سمعت محمدا يقول ابن عيينة أحفظ من حماد. قلت: لكن اقتصر البخاري ومسلم على تخريج طريق حماد بن زيد، وقد وافقه ابن جريج عن عمرو على إدخال الواسطة بين عمرو وجابر لكنه لم يسمه، أخرجه أبو داود من طريق ابن جريج، وله طريق أخرى عن جابر أخرجها مسلم من طريق ابن جريج، وأبو داود من طريق حماد، والنسائي من طريق حسين بن واقد كلهم عن أبي الزبير عنه، وأخرجه النسائي صحيحا عن عطاء عن جابر أيضا، وأغرب البيهقي فجزم بأن عمرو بن دينار لم يسمعه من جابر، واستغرب بعض الفقهاء دعوى الترمذي أن رواية ابن عيينة أصح مع إشارة البيهقي إلى أنها منقطعة، وهو ذهول فإن كلام الترمذي محمول على أنه صح عنده اتصاله، ولا يلزم من دعوى البيهقي انقطاعه كون الترمذي يقول بذلك، والحق أنه إن وجدت رواية فيها تصريح عمرو بالسماع من جابر فتكون رواية حماد من المزيد في متصل بالأسانيد وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة وعلى تقدير وجود التعارض

(9/649)


من كل جهة فللحديث طرق أخرى عن جابر غير هذه، فهو صحيح على كل حال. قوله: "يوم خيبر عن لحوم الحمر" زاد مسلم في روايته: "الأهلية". قوله: "ورخص في لحوم الخيل" في رواية مسلم: "وأذن" بدل "رخص"، وله في رواية ابن جريج "أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي" وفي حديث ابن عباس عند الدار قطني "أمر". قال الطحاوي: وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال بها مما يوجبه النظر، ولا سيما وقد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكمهما. قلت: وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال: "لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم". وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين، ويدل على ضعف ذلك عنه ما سيأتي في الباب الذي بعده صحيحا عنه أنه استدل لإباحة الحمر الأهلية بقوله تعالى :{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} فإن هذا إن صلح مستمسكا لحل الحمر صلح للخيل ولا فرق، وسيأتي فيه أيضا أنه توقف في سبب المنع من أكل الحمر هل كان تحريما مؤبدا أو بسبب كونها كانت حمولة الناس؟ وهذا يأتي مثله من الخيل أيضا فيبعد أن يثبت عنه القول بتحريم الخيل والقول بالتوقف في الحمر الأهلية، بل أخرج الدار قطني بسند قوي عن ابن عباس مرفوعا مثل حديث جابر ولفظه: "نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل" وصح القول بالكراهة عن الحكم بن عيينة ومالك وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية والحنفية التحريم. وقال الفاكهي: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم. وقال أبو حنيفة في "الجامع الصغير" : أكره لحم الخيل فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم وليس هو عنده كالحمار الأهلي، وصحح عنه أصحاب المحيط والهداية والذخيرة التحريم، وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم يأثم آكله ولا يسمى حراما، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك المنع وإنه احتج بالآية الآتي ذكرها. وأخرج محمد بن الحسن في "الآثار" عن أبي حنيفة بسند له عن ابن عباس نحو ذلك. وقال القرطبي في "شرح مسلم:" : مذهب مالك الكراهة، واستدل له ابن بطال بالآية. وقال ابن المنير: الشبه الخلقي بينها وبين البغال والحمير مما يؤكد القول بالمنع، فمن ذلك هيئتها وزهومة لحمها، وغلظة، وصفة أرواثها، وأنها لا تجتر، قال: وإذا تأكد الشبة الخلقي التحق بنفي الفارق وبعد الشبه بالأنعام المتفق على أكلها ا هـ. وقد تقدم من كلام الطحاوي ما يؤخذ منه الجواب عن هذا. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الدليل في الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله ولو كثر لأدى إلى قتلها فيفضي إلى فنائها فيئول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى :{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}. قلت: فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه، وكذا قوله إن وقوع أكلها في الزمن النبوي كان نادرا، فإذا قيل بالكراهة قل استعماله فيوافق ما وقع قبل انتهى. وهذا لا ينهض دليلا للكراهة بل غايته أن يكون خلاف الأولى، ولا يلزم من كون أصل

(9/650)


الحيوان حل أكله فناؤه بالأكل. وأما قول بعض المانعين لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها فمنتض بحيوان البر فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به، ولعل السبب في كون الخيل لا تشرع الأضحية بها استبقاؤها لأنه لو شرع فيها جميع ما جاز في غيرها لفاتت المنفعة بها في أهم الأشياء منها وهو الجهاد. وذكر الطحاوي وأبو بكر الرازي وأبو محمد بن حزم من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال" قال الطحاوي: وأهل الحديث يضعفون عكرمة ابن عمار. قلت: لا سيما في يحيى بن أبي كثير، فإن عكرمة وإن كان مختلفا في توثيقه فقد أخرج له مسلم، لكن إنما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير، وقد قال يحيى بن سعيد القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة. وقال البخاري حديثه عن يحيى مضطرب. وقال النسائي: ليس به بأس إلا في يحيى. وقال أحمد: حديثه عن غير إياس بن سلمة مضطرب، وهذا أشد مما قبله، ودخل في عمومه يحيى بن أبي كثير أيضا، وعلى تقدير صحة هذه الطريق فقد اختلف عن عكرمة فيها، فإن الحديث عند أحمد والترمذي من طريقه ليس فيه للخيل ذكر، وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فالروايات المتنوعة عن جابر المفصلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتصالا وأتقن رجالا وأكثر عددا، وأعل بعض الحنفية حديث جابر بما نقله عن ابن إسحاق أنه لم يشهد خيبر، وليس بعلة لأن غايته أن يكون مرسل صحابي، ومن حجج من منع أكل الخيل حديث خالد ابن الوليد المخرج في السنن "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل" وتعقب بأنه شاذ منكر، لأن في سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح، والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح، والعمدة في ذلك على ما قال مصعب الزبيري وهو أعلم الناس بقريش قال: "كتب الوليد ابن الوليد إلى خالد حين فر من مكة في عمرة القضية حتى لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فذكر القصة في سبب إسلام خالد، وكانت عمرة القضية بعد خيبر جزما، وأعل أيضا بأن في السند راويا مجهولا، لكن قد أخرج الطبري من طريق يحيى بن أبي كثير عن رجل من أهل حمص قال: كنا مع خالد، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها، وأعل بتدليس يحيى وإبهام الرجل، وادعى أبو داود أن حديث خالد بن الوليد منسوخ ولم يبين ناسخه، وكذا قال النسائي: الأحاديث في الإباحة أصح، وهذا إن صح كان منسوخا، وكأنه لما تعارض عنده الخبران ورأى في حديث خالد "نهى" وفي حديث جابر "أذن" حمل الإذن على نسخ التحريم وفيه نظر لأنه لا يلزم من كون النهي سابقا على الإذن أن يكون إسلام خالد سابقا على فتح خيبر، والأكثر على خلافه والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد قرر الحازمي النسخ بعد أن ذكر حديث خالد وقال: هو شامي المخرج، جاء من غير وجه بما ورد في حديث جابر من "رخص" و "أذن" لأنه من ذلك يظهر أن المنع كان سابقا والإذن متأخرا فيتعين المصير إليه، قال: ولو لم ترد هذه اللفظة لكانت دعوى النسخ مردودة لعدم معرفة التاريخ ا هـ. وليس في لفظ رخص وأذن ما يتعين معه المصير إلى النسخ، بل الذي يظهر أن الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصلية، فلما نهاهم الشارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خشي أن يظنوا أن الخيل كذلك لشبهها بها فأذن في أكلها دون الحمير والبغال، والراجح أن الأشياء قبل بيان حكمها في الشرع لا توصف لا بحل ولا حرمة فلا يثبت النسخ في هذا. ونقل الحازمي أيضا تقرير النسخ بطريق أخرى فقال: إن النهي عن أكل الخيل والحمير كان عاما من أجل أخذهم لها قبل القسمة والتخميس، ولذلك أمر بإكفاء القدور، ثم بين بندائه بأن لحوم الحمر رجس أن تحريمها

(9/651)


لذاتها، وأن النهي عن الخيل إنما كان بسبب ترك القسمة خاصة. ويعكر عليه أن الأمر بإكفاء القدور إنما كان بطبخهم فيها الحمر كما هو مصرح به في الصحيح لا الخيل فلا يتم مراده، والحق أن حديث خالد ولو سلم أنه ثابت لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء، وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدار قطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون، وجمع بعضهم بين حديث جابر وخالد بأن حديث جابر دال على الجواز في الجملة وحديث خالد دال على المنع في حالة دون حالة، لأن الخيل في خيبر كانت عزيزة وكانوا محتاجين إليها للجهاد، فلا يعارض النهي المذكور، ولا يلزم وصف أكل الخيل بالكراهة المطلقة فضلا عن التحريم. وقد وقع عند الدار قطني في حديث أسماء "كانت لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها" وأجاب عن حديث أسماء بأنها واقعة عين فلعل تلك الفرس كانت كبرت بحيث صارت لا ينتفع بها في الجهاد فيكون النهي عن الخيل لمعنى خارج لا لذاتها، وهو جمع جيد، وزعم بعضهم أن حديث جابر في الباب دال على التحريم لقوله: "رخص" لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم فيها بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق. وأجيب بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن وبعضها بالأمر فدل على أن المراد بقوله رخص أذن لا خصوص الرخصة باصطلاح من تأخر عن عهد الصحابة. ونوقض أيضا بأن الإذن في أكل الخيل لو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، ولأن الخيل ينتفع بها فيما ينتفع بالحمير من الحمل وغيره، والحمير لا ينتفع بها فيما ينتفع بالخيل من القتال عليها، والواقع كما سيأتي صريحا في الباب الذي يليه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة القدور التي طبخت فيها الحمر مع ما كان بهم من الحاجة فدل ذلك على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة، وأما ما نقل عن ابن عباس ومالك وغيرهما من الاحتجاج للمنع بقوله تعالى :{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فقد تمسك بها أكثر القائلين بالتحريم، وقرروا ذلك بأوجه: أحدها أن اللام للتعليل فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية. ثانيها عطف البغال والحمير فدل على اشتراكها معها في حكم التحريم فيحتاج من أفرد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل. ثالثها أن الآية سبقت مساق الامتنان، فلو كانت ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم لأنه يتعلق به بقاء البنية بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها. رابعها لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة، هذا ملخص ما تمسكوا به من هذه الآية، والجواب على سبيل الإجمال أن آية النحل مكية اتفاقا والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل. وأيضا فآية النحل ليست نصا في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه. وأيضا على سبيل التنزل فإنما يدل ما ذكر على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو خلاف الأولى، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز وعلى سبيل التفصيل، أما أولا فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: "إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث" فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به الأغلب،

(9/652)


وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا، وأيضا فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به. وأما ثانيا فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة. وأما ثالثا فالامتنان إنما قصد به غالبا ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام فإن أكثر انتفاعهم بها كان لخمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر. وأما رابعا فلو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان بمنفعة له أخرى، والله أعلم.

(9/653)


28- باب لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ فِيهِ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5521- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ"
5522- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ تَابَعَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَالِمٍ"
5523- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ"
5524- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ"
5525، 5526- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيٌّ عَنْ الْبَرَاءِ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ"
5527- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَعُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ"
5528- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ

(9/653)


فَإِنَّهَا رِجْسٌ فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ"
5529- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ حُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَقَالَ قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}"
قوله: "باب لحوم الحمر الإنسية" القول في عدم جزمه بالحكم في هذا كالقول في الذي قبله، لكن الراجح في الحمر المنع بخلاف الخيل، والإنسية بكسر الهمزة وسكون النون منسوبة إلى الإنس، ويقال فيه أنسية بفتحتين، وزعم ابن الأثير أن في كلام أبي موسى المديني ما يقتضي أنها بالضم ثم السكون لقوله الأنسية هي التي تألف البيوت، والأنس ضد الوحشة، ولا حجة في ذلك لأن أبا موسى إنما قاله بفتحتين، وقد صرح الجوهري أن الأنس بفتحتين ضد الوحشة، ولم يقع في شيء من روايات الحديث بضم ثم سكون مع احتمال جوازه، نعم زيف أبو موسى الرواية بكسر أوله ثم السكون، فقال ابن الأثير: إن أراد من جهة الرواية فعسى، وإلا فهو ثابت في اللغة. ونسبتها إلى الأنس، وقد وقع في حديث أبي ثعلبة وغيره: "الأهلية" بدل الأنسية، ويؤخذ من التقييد بها جواز أكل الحمر الوحشية، وقد تقدم صريحا في حديث أبي قتادة في الحج. قوله: "فيه سلمة" هو ابن الأكوع وقد تقدم حديثه موصولا في المغازي مطولا. ثم ذكر في الباب أحاديث. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان وعبيد الله هو العمري. قوله: "عن سالم ونافع" كذا قال عبد الله بن نمير عن عبيد الله عند مسلم ومحمد بن عبيد عنه كما سبق في المغازي، ثم ساقه المصنف من طريق يحيى القطان عن عبيد الله عن نافع وحده، وقوله: "تابعه ابن المبارك" وصله المؤلف في المغازي. قوله: "وقال أبو أسامة عن عبيد الله عن سالم" وصله في المغازي من طريقه، وفصل في روايته بين أكل الثوم والحمر، فبين أن النهي عن الثوم من رواية نافع فقط، وأن النهي عن الحمر عن سالم فقط، وهو تفصيل بالغ، لكن يحيى القطان حافظ فلعل عبيد الله لم يفصله إلا لأبي أسامة، وكان يحدث به عن سالم ونافع معا مدمجا فاقتصر بعض الرواة عنه على أخذ شيخه تمسكا بظاهر الإطلاق. حديث علي، ذكره مختصرا وتقدم مطولا في كتاب النكاح. حديث جابر، قد سبق في الباب الذي قبله. حديث البراء وابن أبي أوفى أورده مختصرا، وقد تقدم عنهما أتم سياقا من هذا في المغازي، وأفرده عن ابن أبي أوفى هنا وفي فرض الخمس وفيه زيادة اختلافهم في السبب. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه، ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعيد، وصالح هو ابن كيسان. قوله: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية" تابعه الزبيدي وعقيل عن الزهري، فرواية الزبيدي وصلها النسائي من طريق بقية قال: "حدثني الزبيدي - ولفظه - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الحمر الأهلية" ورواية عقيل وصلها أحمد بلفظ الباب وزاد: "ولحم كل ذي ناب من السباع" وسيأتي البحث فيه بعد هذا. ووقع عند النسائي من وجه آخر عن أبي ثعلبة فيه قصة ولفظه: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر والناس جياع، فوجدوا حمرا أنسية فذبحوا منها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فنادى: ألا إن لحوم الحمر الأنسية لا تحل". قوله: "وقال مالك ومعمر والماجشون ويونس وابن إسحاق عن الزهري: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع " يعني لم يتعرضوا فيه لذكر الحمر، فأما حديث مالك

(9/654)


فسيأتي موصولا في الباب الذي يليه، وأما حديث معمر ويونس فوصلهما الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن المبارك عنهما، وأما حديث الماجشون وهو يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة فوصله مسلم عن يحيى بن يحيى عنه، وأما حديث ابن إسحاق فوصلة إسحاق بن راهويه عن عبدة بن سليمان ومحمد بن عبيد كلاهما عنه. حديث أنس في النداء بالنهي عن لحوم الحمر، وقع عند مسلم أن الذي نادى بذلك هو أبو طلحة وعزاه النووي لرواية أبي يعلى فنسب إلى التقصير، ووقع عند مسلم أيضا أن بلالا نادى بذلك، وقد تقدم قريبا عند النسائي أن المنادي بذلك عبد الرحمن بن عوف، ولعل عبد الرحمن نادى أولا بالنهي مطلقا، ثم نادى أبو طلحة وبلال بزيادة على ذلك وهو قوله: "فإنها رجس، فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم" ووقع في "الشرح الكبير للرافعي" أن المنادي بذلك خالد بن الوليد وهو غلط فإنه لم يشهد خيبر وإنما أسلم بعد فتحها. قوله: "جاءه جاء فقال: أكلت الحمر" لم أعرف اسم هذا الرجل ولا اللذين بعده، ويحتمل أن يكونوا واحدا فإنه قال أولا: "أكلت" فإما لم يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وإما لم يكن أمر فيها بشيء، وكذا في الثانية، فلما قال الثالثة "أفنيت الحمر" أي لكثرة ما ذبح منها لتطبخ صادف نزول الأمر بتحريمها، ولعل هذا مستند من قال: إنما نهى عنها لكونها كانت حمولة الناس كما سيأتي. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار. قوله: "قلت لجابر بن زيد" هو أبو الشعثاء بمعجمة ومثلثة البصري. قوله: "يزعمون" لم أقف على تسمية أحد منهم، وقد تقدم في الباب الذي قبله أن عمرو بن دينار روى ذلك عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله، وأن من الرواة من قال عنه عن جابر بلا واسطة. قوله: "قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة" زاد الحميدي في مسنده عن سفيان بهذا السند "قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأخرجه أبو داود من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار مضموما إلى حديث جابر بن عبد الله في النهي عن لحوم الحمر مرفوعا. ولم يصرح برفع حديث الحكم. قوله: "ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس" و "أبى" من الإباء أي امتنع، والبحر صفة لابن عباس قيل له لسعة علمه، وهو من تقديم الصفة على الموصوف مبالغة في تعظيم الموصوف كأنه صار علما عليه، وإنما ذكر لشهرته بعد ذلك لاحتمال خفائه على بعض الناس، ووقع في رواية ابن جريج "وأبى ذلك البحر يريد ابن عباس" وهذا يشعر بأن في رواية ابن عيينة إدراجا. قوله: "وقرأ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} في رواية ابن مردويه وصححه الحاكم من طريق محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا" فبعث لله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فيه فهو حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا هذه: قل لا أجد إلى آخرها "والاستدلال بهذا للحل إنما يتم فيما لم يأت فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس، وقد تقدم في المغازي عن ابن عباس أنه توقف في النهي عن الحمر: هل كان لمعنى خاص، أو للتأييد؟ ففيه عن الشعبي عنه أنه قال: لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمها البتة يوم خيبر؟ وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة، وكذا فيما أخرجه الطبراني وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عباس قال: "إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر" وسنده ضعيف، وتقدم في المغازي في حديث ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس "وقال بعضهم نهى

(9/655)


عنها لأنها كانت تأكل العذرة. قلت: وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو كانت انتهبت حديث أنس المذكور قبل هذا حيث جاء فيه: "فإنها رجس" وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة، قال القرطبي: قوله: "فإنها رجس" ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج. وقال ابن دقيق العيد: الأمر بإكفاء القدر ظاهر إنه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة، وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه. وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل، فإن في حديث جابر النهي عن الحمر والإذن في الخيل مقرونا، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزتها وشدة حاجتهم إليها. والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم، وأيضا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السباع والحشرات، قال النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا لهم إلا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات ثالثها الكراهة، وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن الحر قال: "أصابتنا سنة، فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة، قال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية" يعني الجلالة، وإسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها. وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية فقال: أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر؟ قال: نعم، قال فأصب من لحومها" وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال: "سألت" فذكر نحوه، ففي السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم. قال الطحاوي: لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي. قلت: ما ادعاه من الإجماع مردود، فإن كثيرا من الحيوان الأهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر، وفي الحديث أن الذكاة لا تطهر ما لا يحل أكله، وإن كل شيء تنجس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرة واحدة لإطلاق الأمر بالغسل فإنه يصدق بالامتثال بالمرة، والأصل أن لا زيادة عليها، وأن الأصل في الأشياء الإباحة لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا مع توفر دواعيهم على السؤال عما يشكل، وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع أشاع منعه إما بنفسه كأن يخاطبهم وإما بغيره بأن يأمر مناديا فينادي لئلا يغتر به من رآه فيظنه جائزا.

(9/656)


29- باب أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ
5530- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْمَاجِشُونُ عَنْ الزُّهْرِيِّ"
قوله: "باب أكل كل ذي ناب من السباع" لم يبت القول بالحكم للاختلاف فيه أو للتفصيل كما سأبينه. قوله: "من السباع" يأتي في الطب بلفظ: "من السبع" وليس المراد حقيقة الإفراد بل هو اسم جنس. وفي رواية ابن عيينة في الطب أيضا عن الزهري "قال ولم أسمعه حتى أتيت الشام" ولمسلم من رواية يونس عن الزهري "ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس وكان من فقهاء أهل الشام" وكأن الزهري لم يبلغه حديث عبيدة بن سفيان وهو مدني عن أبي هريرة، وهو صحيح أخرجه مسلم من طريقه ولفظه: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام" ولمسلم أيضا من طريق ميمون بن مهران عن ابن عباس "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير" والمخلب بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام بعدها موحدة وهو للطير كالظفر لغيره لكنه أشد منه وأغلظ واحد فهو له كالناب للسبع. وأخرج الترمذي من حديث جابر بسند لا بأس به قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير" ومن حديث العرباض بن سارية مثله وزاد: "يوم خيبر". قوله: "تابعه يونس ومعمر وابن عيينة والماجشون عن الزهري" تقدم بيان من وصل أحاديثهم في الباب قبله، إلا ابن عيينة فقد أشرت إليه في هذا الباب قريبا، قال الترمذي: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وعن بعضهم لا يحرم، وحكى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك كالجمهور. وقال ابن العربي: المشهور عنه الكراهة. وقال ابن عبد البر: اختلف فيه علي ابن عباس وعائشة وجابر عن ابن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير، واحتجوا بعموم {قُلْ لا أَجِدُ} والجواب أنها مكية وحديث التحريم بعد الهجرة. ثم ذكر نحوه ما تقدم من أن نصر الآية عدم تحريم غير ما ذكر إذ ذاك، فليس فيها نفي ما سيأتي، وعن بعضهم أن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم فنزلت الآية {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} أي من المذكورات إلا الميتة منها والدم المسفوح، ولا يرد كون لحم الخنزير ذكر معها لأنها قرنت به علة تحريمه وهو كونه رجسا، ونقل إمام الحرمين عن الشافعي أنه يقول بخصوص السبب إذا ورد في مثل هذه القصة لأنه لم يجعل الآية حاصرة لما يحرم من المأكولات مع ورود صيغة العموم فيها، وذلك أنها وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ويحرمون كثيرا مما أباحه الشرع، فكأن الغرض من الآية إبانة حالهم وأنهم يضادون الحق، فكأنه قيل لا حرام إلا ما حللتموه مبالغة في الرد عليهم، وحكى القرطبي عن قوم أن آية الأنعام المذكورة نزلت في حجة الوداع فتكون ناسخة، ورد بأنها مكية كما صرح به كثير من العلماء، ويؤيده ما تقدم قبلها من الآيات من الرد على مشركي العرب في تحريمهم ما حرموه من الأنعام وتخصيصهم بعض ذلك بآلهتهم إلى غير ذلك مما سبق للرد عليهم، وذلك كله قبل الهجرة إلى المدينة. واختلف القائلون بالتحريم في المراد بما له ناب فقيل: إنه ما يتقوى به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبا كالأسد والفهد والصقر والعقاب، وأما ما لا يعود كالضبع والثعلب فلا، وإلى

(9/657)


هذا ذهب الشافعي والليث ومن تبعهما، وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها، وأما الثعلب فورد في تحريمه حديث خزيمة بن جزء عند الترمذي وابن ماجه، ولكن سنده ضعيف.
[الحديث 5530- طرفاه في: 5780، 5781]

(9/658)


30- باب جُلُودِ الْمَيْتَةِ
5531- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ هَلاَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا إِنَّهَا مَيِّتَةٌ قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا"
5532- حَدَّثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلاَنَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَنْزٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ مَا عَلَى أَهْلِهَا لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا"
قوله: "باب جلود الميتة" زاد في البيوع "قبل أن تدبغ" فقيده هناك بالدباغ وأطلق هنا، فيحمل مطلقه على مقيده. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "مر بشاة" كذا للأكثر عن الزهري، وزاد في بعض الرواة عن الزهري "عن ابن عباس عن ميمونة" أخرجه مسلم وغيره من رواية ابن عيينة، والراجح عند الحفاظ في حديث الزهري ليس فيه ميمونة، نعم أخرج مسلم والنسائي من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس "أن ميمونة أخبرته". قوله: "بإهابها" بكسر الهمزة وتخفيف الهاء هو الجلد قبل أن يدبغ، وقيل هو الجلد دبغ أو لم يدبغ، وجمعه أهب بفتحتين ويجوز بضمتين، زاد مسلم من طريق ابن عيينة "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" وأخرج مسلم أيضا من طريق ابن عيينة أيضا عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس نحوه قال: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به" وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الدار قطني وقال حسن. قوله: "قالوا إنها ميتة" لم أقف على تعيين القائل. قوله: "قال إنما حرم أكلها" قال ابن أبي جمرة: فيه مراجعة الإمام فيما لا يفهم السامع معنى ما أمره، كأنهم قالوا كيف تأمرنا بالانتفاع بها وقد حرمت علينا؟ فبين له وجه التحريم. ويؤخذ منه جواز تخصيص الكتاب بالسنة، لأن لفظ القرآن {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهو شامل لجميع أجزائها في كل حال، فخصت السنة ذلك بالأكل، وفيه حسن مراجعتهم وبلاغتهم في الخطاب لأنهم جمعوا معاني كثيرة في كلمة واحدة وهي قولهم "إنها ميتة" واستدل به الزهري بجواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا سواء أدبغ أم لم يدبغ، لكن صح التقييد من طرق أخرى بالدباغ، وهي حجة الجمهور، واستثنى الشافعي من الميتات الكلب والخنزير وما تولد منهما لنجاسة عينها عنده، ولم يستثن أبو يوسف وداود شيئا أخذا بعموم الخبر، وهي رواية عن مالك، وقد أخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" ولفظ الشافعي والترمذي وغيرهما من هذا الوجه "أيما إهاب دبغ ففد طهر" وأخرج مسلم إسنادها ولم يسق لفظها، فأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه باللفظ المذكور، وفي لفظ مسلم من هذا الوجه عن ابن عباس "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: دباغه طهوره" وفي رواية للبزار من وجه آخر قال: "دباغ الأديم طهوره" وجزم الرافعي وبعض أهل الأصول أن هذا اللفظ ورد في شاة ميمونة، ولكن لم أقف على ذلك صريحا مع قوة الاحتمال فيه لكون الجميع من رواية

(9/658)


ابن عباس، وقد تمسك بعضهم بخصوص هذا السبب فقصر الجواز على المأكول لورود الخبر في الشاة، ويتقوى ذلك من حيث النظر بأن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة، وغير المأكول لو ذكى لم يطهر بالذكاة عند الأكثر فكذلك الدباغ، وأجاب من عمم بالتمسك بعموم اللفظ فهو أولى من خصوص السبب وبعموم الإذن بالمنفعة، ولأن الحيوان طاهر ينتفع به قبل الموت فكان الدباغ بعد الموت قائما له مقام الحياة والله أعلم. وذهب قوم إلى أنه لا ينتفع من الميتة بشيء سواء دبغ الجلد أم لم يدبغ، وتمسكوا بحديث عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي. وفي رواية للشافعي ولأحمد ولأبي داود "قبل موته بشهر" قال الترمذي: كان أحمد يذهب إليه ويقول: هذا آخر الأمر، ثم تركه لما اضطربوا في إسناده، وكذا قال الخلال نحوه، ورد ابن حبان على من ادعى فيه الاضطراب وقال: سمع ابن عكيم الكتاب يقرأ وسمعه من مشايخ من جهينة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا اضطراب، وأعله بعضهم بالانقطاع وهو مردود، وبعضهم بكونه كتابا وليس بعلة قادحة؛ وبعضهم بأن ابن أبي ليلى راويه عن ابن عكيم لم يسمعه منه لما وقع عند أبي داود عنه أنه "انطلق وناس معه إلى عبد الله بن عكيم قال: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني" فهذا يقتضي أن في السند من لم يسم، ولكن صح تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بسماعه من ابن عكيم فلا أثر لهذه العلة أيضا، وأقوى ما تمسك به من لم يأخذ بظاهره معارضة الأحاديث الصحيحة له وأنها عن سماع وهذا عن كتابة وأنها أصح مخارج، وأقوى من ذلك الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب عل الجلد قبل الدباغ وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهابا إنما يسمى قربة وغير ذلك، وقد نقل ذلك عن أئمة اللغة كالنضر بن شميل، وهذه طريقة ابن شاهين وابن عبد البر والبيهقي، وأبعد من جمع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد والإذن على ظاهره "وحكى الماوردي عن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان لعبد الله ابن عكيم سنة، وهو كلام باطل فإنه كان رجلا". قوله: "حدثنا خطاب بن عثمان" هو الفوزي بفتح الفاء وسكون الواو بعدها زاي، ومحمد بن حمير بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتانية، وأخطأ من قاله بالتصغير، وهو قضاعي حمصي، وكذا شيخه والراوي عنه حمصيون ما لهم في البخاري سوى هذا الحديث، إلا محمد بن حمير وله آخر سبق في الهجرة إلى المدينة، فأما ثابت فوثقه ابن معين ودحيم. وقال أحمد: أنا أتوقف فيه، وساق له ابن عدي ثلاثة أحاديث غرائب قال العقيلي: لا يتابع في حديثه، وأما محمد بن حمير فوثقه أيضا ابن معين ودحيم. وقال أبو حاتم لا يحتج به، وأما خطاب فوثقه الدار قطني وابن حبان لكن قال ربما أخطأ، فهذا الحديث من أجل هؤلاء من المتابعات لا من الأصول، والأصل فيه الذي قبله، ويستفاد منه خروج الحديث عن الغرابة، وقد ادعى الخطيب تفرد هؤلاء الرواة به فقال بعد أن أخرجه من طريق عمر بن يحيى بن الحارث الحراني "حدثنا جدي خطاب بن عثمان به هذا حديث عزيز ضيق المخرج" انتهى. وقد وجدت لمحمد بن حمير فيه متابعا أخرجه الطبراني من رواية عبد الملك بن محمد الصغائي عن ثابت بن عجلان، ووجدت لخطاب فيه متابعا أخرجه الإسماعيلي من رواية علي بن بحر عن محمد بن حمير، ولابن عباس حديث آخر في المعنى سيأتي في الأيمان والنذور من طريق عكرمة عنه عن سودة قالت: "ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها" الحديث، والمسك بفتح الميم وسكون المهملة الجلد، وهذا غير حديث الباب جزما، وهو مما يتأيد به من زاد ذكر الدباغ في الحديث؛ وقد أخرجه أحمد مطولا من

(9/659)


طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: "ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، فقال: فلولا أخذتم مسكها، فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال: إنما قال الله {ُقلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به، قال فأرسلت إليها فسخلت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة. الحديث. قوله: "بعنز" بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي هي الماعزة وهي الأنثى من المعز، ولا ينافي رواية سماك "ماتت شاة" لأنه يطلق عليها شاة كالضأن.

(9/660)


31- باب الْمِسْكِ
5533- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ"
5534- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"
قوله: "باب المسك" بكسر الميم الطيب المعروف. قال الكرماني مناسبة ذكره في الذبائح أنه فضلة من الظبي. قلت: ومناسبته للباب الذي قبله وهو جلد الميتة إذا دبغ تطهر مما سأذكره، قال الجاحظ: هو من دويبة تكون في الصين تصاد لنوافجها وسررها، فإذا صيدت شدت بعصائب وهي مدلية يجتمع فيها دمها، فإذا ذبحت قورت السرة التي عصبت ودفنت في الشعر حتى يستحيل ذلك الدم المختنق الجامد مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام من النتن، ومن ثم قال القفال: إنها تندبغ بما فيها من المسك فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات، والمشهور أن غزال المسك كالظبي لكن لونه أسود وله نابان لطيفان أبيضان في فكه الأسفل، وإن المسك دم يجتمع في سرته في وقت معلوم من السنة فإذا اجتمع ورم الموضع فمرض الغزال إلى أن يسقط منه، ويقال إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادا في البرية تحتك بها ليسقط. ونقل ابن الصلاة في "مشكل الوسيط" أن النافجة في جوف الظبية كالأنفحة في جوف الجدي، وعن علي بن مهدي الطبري الشافعي أنها تلقيها من جوفها كما تلقى الدجاجة البيضة، ويمكن الجمع بأنها تلقيها من سرتها فتتعلق بها إلى أن تحتك، قال النووي: أجمعوا على أن المسك طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه. ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبا باطلا وهو مستثنى من القاعدة: ما أبين من حي فهو ميت ا هـ، وحكى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها لأنها تستحيل عن كونها دما حتى تصير مسكا كما يستحيل الدم إلى اللحم فيطهر ويحل أكله، وليست بحيوان حتى يقال نجست بالموت، وإنما هي شيء يحدث بالحيوان كالبيض، وقد أجمع  المسلمون على طهارة المسك إلا ما حكى عن عمر من كراهته، وكذا حكى ابن المنذر عن جماعة ثم قال: ولا يصح المنع فيه إلا عن عطاء بناء على أنه جزء منفصل، وقد أخرج مسلم في أثناء حديث عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسك أطيب الطيب" وأخرجه أبو داود مقتصرا منه على هذا القدر. قوله: "ما من مكلوم" أي مجروح "وكلمه" بفتح الكاف وسكون اللام "يدمى" بفتح أوله وثالثه، وقد تقدم شرح هذا الحديث في كتاب الجهاد، قال النووي: ظاهر قوله: "في سبيل الله" اختصاصه بمن وقع له ذلك في قتال الكفار، لكن يلتحق به من قتل في حرب البغاة وقطاع الطريق وإقامة المعروف لاشتراك الجميع في كونهم شهداء. وقال ابن عبد البر أصل الحديث في الكفار ويلتحق هؤلاء بهم بالمعنى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد" وتوقف بعض المتأخرين في دخول من قاتل دون ماله لأنه يقصد صون ماله بداعية الطبع، وقد أشار في الحديث إلى اختصاص ذلك بالمخلص حيث قال: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" والجواب أنه يمكن فيه الإخلاص مع إرادة صون المال، كأن يقصد بقتال من أراد أخذه منه صون الذي يقاتله عن ارتكاب المعصية وامتثال أمر الشارع بالدفع، ولا يمحض القصد لصون المال، فهو كمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا مع تشوفه إلى الغنيمة. قال ابن المنير: وجه استدلال البخاري بهذا الحديث على طهارة المسك وكذا بالذي بعده وقوع تشبيه دم الشهيد به، لأنه في سياق التكريم والتعظيم، فلو كان نجسا لكان من الخبائث ولم يحسن التمثيل به في هذا المقام. تقدم شرح حديث أبي موسى في الجليس الصالح في أوائل البيوع، وقوله فيه: "يحذيك" بضم أوله ومهملة ساكنة وذال معجمة مكسورة أي يعطيك وزنا ومعنى.

(9/661)


32- باب الأَرْنَبِ
5535- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا فَأَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهَا"
قوله: "باب الأرنب" هو دويبة معروفة تشبه العناق لكن في رجليها طول بخلاف يديها، والأرنب اسم جنس للذكر والأنثى، ويقال للذكر أيضا الخزز وزن عمر بمعجمات، وللأنثى عكرشة، وللصغير خرنق بكسر المعجمة وسكون الراء وفتح النون بعدها قاف، هذا هو المشهور. وقال الجاحظ: لا يقال أرنب إلا للأنثى، ويقال إن الأرنب شديدة الجبن كثيرة الشبق وأنها تكون سنة ذكرا وسنة أنثى وأنها تحيض، وسأذكر من خرجه، ويقال إنها تنام مفتوحة العين. قوله: "أنفجنا" بفاء مفتوحة وجيم ساكنة أي أثرنا. وفي رواية مسلم: "استنفجنا" وهو استفعال منه، يقال نفج الأرانب إذا ثار وعدا، وانتفج كذلك، وأنفجته إذا أثرته من موضعه، ويقال إن الانتفاج الاقشعرار فكأن المعنى جعلناها بطلبنا لها تنتفج، والانتفاج أيضا ارتفاع الشعر وانتفاشه. ووقع في "شرح مسلم: "للمازري" بعجنا "بموحدة وعين مفتوحة، وفسره بالشق من بعج بطنه إذا شقه، وتعقبه عياض بأنه تصحيف، وبأنه لا يصح معناه من سياق الخبر لأن فيه أنهم سعوا في طلبها بعد ذلك، فلو كان شقوا بطنها كيف كانوا يحتاجون إلى السعي خلفها. قوله: "بمر الظهران" مر بفتح الميم وتشديد الراء، والظهران بفتح المعجمة بلفظ تثنية الظهر، اسم موضع على مرحلة من مكة. وقد يسمى بإحدى الكلمتين تخفيفا، وهو المكان الذي

(9/661)


تسميه عوام المصريين بطن مرو والصواب مر بتشديد الراء. قوله: "فسعى القوم فلغبوا" بمعجمة وموحدة أي تعبوا وزنه ومعناه، ووقع بلفظ: "تعبوا" في رواية الكشميهني، وتقدم في الهبة بيان ما وقع للداودي فيه من غلط. قوله: "فأخذتها" زاد في الهبة "فأدركتها فأخذتها" ولمسلم: "فسعيت حتى أدركتها" ولأبي داود من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن زيد "وكنت غلاما حزورا" وهو بفتح المهملة والزاي والواو المشددة بعدها راء ويجوز سكون الزاي وتخفيف الواو وهو المراهق. قوله: "إلى أبي طلحة" وهو زوج أمه. قوله: "فذبحها" زاد في رواية الطيالسي "بمروة" وزاد في رواية حماد المذكورة "فشويتها". قوله: "فبعث بوركيها أو قال بفخذيها" هو شك من الراوي، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الهبة، ووقع في رواية حماد "بعجزها". قوله: "فقبلها" أي الهدية، وتقدم في الهبة من هذا الوجه "قلت وأكل منه؟ قال: وأكل منه" ثم قال: فقبله، وللترمذي من طريق أبي داود الطيالسي فيه: "فأكله، قلت: أكله؟ قال قبله" وهذا الترديد لهشام بن زيد وقف جده أنسا على قوله: "أكله" فكأنه توقف في الجزم به وجزم بالقبول، وقد أخرج الدار قطني من حديث عائشة "أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنب وأنا نائمة فخبأ لي منها العجز، فلما قمت أطعمني" وهذا لو صح لأشعر بأنه أكل منها، لكن سنده ضعيف. ووقع في "الهداية" للحنفية أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الأرنب حين أهدى إليه مشويا وأمر أصحابه بالأكل منه، وكأنه تلقاه من حديثين: فأوله من حديث الباب وقد ظهر ما فيه، والآخر من حديث أخرجه النسائي من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها فوضعها بين يديه، فأمسك وأمر أصحابه أن يأكلوا" ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافا كثيرا. وفي الحديث جواز أكل الأرنب وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمر من الصحابة وعن عكرمة من التابعين وعن محمد ابن أبي ليلى من الفقهاء، واحتج بحديث خزيمة بن جزء "قلت يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال لا آكله ولا أحرمه، قالت فإني آكل ما لا تحرمه. ولم يا رسول الله؟ قال نبئت أنها تدمي" وسنده ضعيف، ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة كما سيأتي تقريره في الباب الذي بعد، وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكلها ولم ينه عنها" زعم أنها تحيض "أخرجه أبو داود، وله شاهد عن عمر عند إسحاق بن راهويه في مسنده، وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها، وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة. وفي الحديث أيضا جواز استثارة الصيد والغدو في طلبه، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رفعه: "من اتبع الصيد غفل" فهو محمول على من واظب على ذلك حتى يشغله عن غيره من المصالح الدينية وغيرها. وفيه أن أخذ الصيد يملكه بأخذه ولا يشاركه من أثاره معه. وفيه هدية الصيد وقبولها من الصائد وإهداء الشيء اليسير الكبير القدر إذا علم من حاله الرضا بذلك، وفيه أن ولي الصبي يتصرف فيما يملكه الصبي بالمصلحة. وفيه استثبات الطالب شيخه عما يقع في حديثه مما يحتمل أنه يضبطه كما وقع لهشام بن زيد مع أنس رضي الله عنه.

(9/662)


33- باب الضَّبِّ
5536- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ"

(9/662)


5537- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَقَالُوا هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لاَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ"
قوله: "باب الضب" هو دويبة تشبه الجرذون، لكنه أكبر من الجرذون، ويكنى أباحل بمهملتين مكسورة ثم ساكنة، ويقال للأنثى ضبة، وبه سميت القبيلة، وبالخيف من منى جبل يقال له ضب، والضب داء في خف البعير، ويقال إن لأصل ذكر الضب فرعين، ولهذا يقال له ذكران. وذكر ابن خالويه أن الضب يعيش سبعمائة سنة، وأنه لا يشرب الماء، ويبول في كل أربعين يوما قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال بل أسنانه قطعة واحدة، وحكى غيره أن أكل لحمه يذهب العطش، ومن الأمثال "لا أفعل كذا حتى يرد الضب" يقوله من أراد أن لا يفعل الشيء لأن الضب لا يرد بل يكتفي بالنسيم وبرد الهواء، ولا يخرج من جحره في الشتاء. وذكر المصنف في الباب حديثين. قوله: "الضب لست آكله ولا أحرمه" كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار بلفظ: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب، فقال: لا آكله ولا أحرمه" ومن طريق نافع عن ابن عمر "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم:" زاد في رواية عن نافع أيضا: "وهو على المنبر" وهذا السائل يحتمل أن يكون خزيمة بن جزء، فقد أخرج ابن ماجه من حديثه "قلت يا رسول الله ما تقول؟ فقال: لا آكله ولا أحرمه، قال: قلت فإني آكل ما لم تحرم" وسنده ضعيف. وعند مسلم والنسائي من حديث أبي سعيد "قال رجل: يا رسول الله أنا بأرض مضبة، فما تأمرنا؟ قال: ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت، فلم يأمر ولم ينه" وقوله: "مضبة" بضم أوله وكسر المعجمة أي كثيرة الضباب، وهذا يمكن أن يفسر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود والنسائي من حديثه قال: "أصبت ضبابا فشويت منها ضبا، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عودا فعد به أصابعه ثم قال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض، وإني لا أدري أي الدواب هي، فلم يأكل ولم ينه" وسنده صحيح. قوله: "عن أبي أمامة بن سهل" أي ابن حنيف الأنصاري، له رؤية ولأبيه صحبة، وتقدم الحديث في أوائل الأطعمة من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: "أخبرني أبو أمامة". قوله: "عن عبد الله بن عباس عن خالد بن الوليد" في رواية يونس المذكورة "أن ابن عباس أخبره أن خالد ابن الوليد الذي يقال له سيف الله أخبره" وهذا الحديث مما اختلف فيه على الزهري هل هو من مسند ابن عباس أو من مسند خالد، وكذا اختلف فيه على مالك فقال الأكثر عن ابن عباس عن خالد. وقال يحيى بن بكير في "الموطأ" وطائفة عن مالك بسنده عن ابن عباس وخالد أنهما دخلا. وقال يحيى بن يحيى التميمي عن مالك بلفظ: "عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد على النبي صلى الله عليه وسلم:" أخرجه مسلم عنه وكذا أخرجه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بلفظ: "عن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في بيت ميمونة بضبين مشويين

(9/663)


وقال هشام بن يوسف عن معمر كالجمهور كما تقدم في أوائل الأطعمة، والجمع بين هذه الروايات أن ابن عباس كان حاضرا للقصة في بيت خالته ميمونة كما صرح به في إحدى الروايات، وكأنه استثبت خالد بن الوليد في شيء منه لكونه الذي كان باشر السؤال عن حكم الضب وباشر أكله أيضا، فكان ابن عباس ربما رواه عنه، ويؤيد ذلك أن محمد بن المنكدر حدث به عن أبي أمامة بن سهل عن ابن عباس قال:" أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت ميمونة وعنده خالد بن الوليد بلحم ضب" الحديث أخرجه مسلم، وكذا رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس فلم يذكر فيه خالدا، وقد تقدم في الأطعمة. قوله: "إنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة" زاد يونس في روايته وهي خالته وخالة ابن عباس. قلت: واسم أم خالد لبابة الصغرى، واسم أم ابن عباس لبابة الكبرى وكانت تكنى أم الفضل بابنها الفضل ابن عباس، وهما أختا ميمونة والثلاث بنات الحارث بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي الهلالي. قوله: "فأتى بضب محنوذ" بمهملة ساكنة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة أي مشوي بالحجارة المحماة ووقع في رواية معمر بضب مشوي، والمحنوذ أخص والحنيذ بمعناه، زاد يونس في روايته: "قدمت به أختها حفيدة" وهي بمهملة وفاء مصغر ومضى في رواية سعيد بن جبر "أن أم حفيدة بنت الحارث بن حزن خالة ابن عباس أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم سمنا وأقطا وأضبا" وفي رواية عوف عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن الطحاوي "جاءت أم حفيدة بضب وقنفذ" وذكر القنفذ فيه غريب، وقد قيل في اسمها هزيلة بالتصغير وهي رواية الموطأ من مرسل عطاء بن يسار، فإن كان محفوظا فلعل لها اسمين أو اسم ولقب، وحكى بعض شراح العمدة في اسمها حميدة بميم وفي كنيتها أم حميد بميم بغير هاء. وفي رواية بهاء وبفاء ولكن براء بدل الدال وبعين مهملة بدل الحاء بغير هاء، وكلها تصحيفات. قوله: "فأهوى" زاد يونس "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يقدم يده لطعام حتى يسمى له" وأخرج إسحاق بن راهويه والبيهقي في "الشعب" من طريق يزيد بن الحوتكية عن عمر رضي الله عنه "أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب يهديها إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل من الهدية حتى يأمر صاحبها فيأكل منها من أجل الشاة التي أهديت إليه بخيبر" الحديث وسنده حسن. قوله: "فقال بعض النسوة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب" في رواية يونس "فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له، هو الضب يا رسول الله" وكأن المرأة أرادت أن غيرها يخبره، فلما لم يخبروا بادرت هي فأخبرت، وسيأتي في "باب إجازة خبر الواحد" من طريق الشعبي عن ابن عمر قال: "كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بعني ابن أبي وقاص فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:" ولمسلم من طريق يزيد بن الأصم "عن ابن عباس أنه بينما هو عند ميمونة وعندها الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى إذ قرب إليهم خوان عليه لحم، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قالت له ميمونة إنه لحم ضب، فكف يده"، وعرف بهذه الرواية اسم التي أبهمت في الرواية الأخرى، وعند الطبراني في "الأوسط" من وجه آخر صحيح "فقالت ميمونة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو". قوله: "فرفع يده" زاد يونس "عن الضب" ويؤخذ منه أنه أكل من غير الضب مما كان قدم له من غير الضب، كما تقدم أنه كان فيه غير الضب، وقد جاء صريحا في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس كما تقدم في الأطعمة، قال فأكل الأقط وشرب اللبن. قوله : "لم يكن بأرض قومي" في رواية يزيد بن الأصم "هذا لحم لم آكله قط" قال ابن العربي: اعترض بعض الناس على هذه اللفظة "لم يكن بأرض قومي" بأن الضباب كثيرة بأرض الحجاز،

(9/664)


قال ابن العربي: فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو، فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو ذكرت له بغير اسمها أو حدثت بعد ذلك، وكذا أنكر ابن عبد البر ومن تبعه أن يكون ببلاد الحجاز شيء من الضباب. قلت: ولا يحتاج إلى شيء من هذا بل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "بأرض قومي" قريشا فقط فيختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، وقد وقع في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم: "دعانا عروس بالمدينة فقرب إلينا ثلاثة عشر ضبا، فآكل وتارك" الحديث، فبهذا يدل على كثرة وجدانها بتلك الديار. قوله: "فأجدني أعافه" بعين مهملة وفاء خفيفة أي أتكره أكله، يقال عفت الشيء أعافه، ووقع في رواية سعيد بن جبير "فتركهن النبي صلى الله عليه وسلم كالمتقذر لهن، ولو كن حراما لما أكلن على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولما أمر بأكلهن" كذا أطلق الأمر وكأنه تلقاه من الإذن المستفاد من التقرير، فإنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن عباس بصيغة الأمر إلا في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم فإن فيها "فقال لهم كلوا، فأكل الفضل وخالد والمرأة" وكذا في رواية الشعبي عن ابن عمر "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا وأطعموا فإنه حلال - أو قال لا بأس به - ولكنه ليس طعامي"، وفي هذا كله بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بسبب أنه ما اعتاده، وقد ورد لذلك سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار فذكر معنى حديث ابن عباس وفي آخره: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا - يعني لخالد وابن عباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة" قال المازري يعني الملائكة، وكأن للحم الضب ريحا فترك أكله لأجل ريحه، كما ترك أكل الثوم مع كونه حلالا. قلت: وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان. قوله: "قال خالد فاجتررته" بجيم ورائين، هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح "المهذب" بزاي قبل الراء وقد غلطه النووي. قوله: "ينظر" زاد يونس في روايته: "إلى". وفي هذا الحديث من الفوائد جواز أكل الضب، وحكى عياض عن قوم تحريمه وعن الحنفية كراهته وأنكر ذلك النووي وقال: لا أظنه يصح عن أحد، فإن صح فهو محجوج بالنصوص وبإجماع من قبله. قلت: قد نقله ابن المنذر عن علي، فأي إجماع يكون مع مخالفته؟ ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم؛ وقال الطحاوي في "معاني الآثار" : كره قوم أكل الضب، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، قال: واحتج محمد بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى له ضب فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعطينه مالا تأكلين" ؟ قال الطحاوي: ما في هذا دليل على الكراهة لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالتمر الرديء ا هـ. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الضب أخرجه أبو داود بسند حسن، فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عتبة عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل، وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي، وهؤلاء شاميون ثقات، ولا يغتر بقول الخطابي: ليس إسناده بذاك، وقول ابن حزم: فيه ضعفاء ومجهولون، وقول البيهقي: تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة، وقول ابن الجوزي: لا يصح، ففي كل ذلك تساهل لا يخفى، فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري وقد صحح الترمذي بعضها، وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن حسنة "نزلنا أرضا كثيرة الضباب" الحديث، وفيه أنهم "طبخوا منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض فأخشى أن تكون هذه فاكفئوها" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط

(9/665)


الشيخين إلا الضحاك فلم يخرجا له. وللطحاوي من وجه آخر عن زيد بن وهب ووافقه الحارث بن مالك ويزيد بن أبي زياد ووكيع في آخره: "فقيل له إن الناس قد اشتووها أكلوها، فلم يأكل ولم ينه عنه" والأحاديث الماضية وإن دلت على الحل تصريحا وتلويحا نصا وتقريرا، فالجمع بينها وبين هذا حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ وحينئذ أمر بإكفاء القدور، ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه، وحمل الأذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له، ثم بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه، وأكل على مائدته فدل على الإباحة، وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره، وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذره، ولا يلزم من ذلك أنه يكره مطلقا. وقد أفهم كلام ابن العربي أنه لا يحل في حق من يتقذره لما يتوقع في أكله من الضرر وهذا لا يختص بهذا، ووقع في حديث يزيد بن الأصم "أخبرت ابن عباس بقصة الضب، فأكثر القوم حوله حتى قال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه، فقال ابن عباس: بئس ما قلتم، ما بعث نبي الله إلا محرما أو محللا" أخرجه مسلم. قال ابن العربي: ظن ابن عباس أن الذي أخبر بقوله صلى الله عليه وسلم لا آكله أراد لا أحله فأنكر عليه لأن خروجه من قسم الحلال والحرام محال. وتعقبه شيخنا في "شرح الترمذي" بأن الشيء إذا لم يتضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشبهات فيكون من حكم الشيء قبل ورود الشرع، والأصح كما قال النووي أنه لا يحكم عليها بحل ولا حرمة. قلت: وفي كون مسألة الكتاب من هذا النوع نظر، لأن هذا إنما هو إذا تعارض الحكم على المجتهد، أما الشارع إذ سئل عن واقعة فلا بد أن يذكر فيها الحكم الشرعي "وهذا هو الذي أراده ابن العربي وجعل محط كلام ابن عباس عليه. ثم وجدت في الحديث زيادة لفظة سقطت من رواية مسلم وبها يتجه إنكار ابن عباس ويستغنى عن تأويل ابن العربي لا آكله بلا أحله وذلك أن أبا بكر بن أبي شيبة وهو شيخ مسلم فيه أخرجه في مسنده بالسند الذي ساقه به عند مسلم فقال في روايته: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحله ولا أحرمه" ولعل مسلما حذفها عمدا لشذوذها، لأن ذلك لم يقع في شيء من الطرق لا في حديث ابن عباس ولا غيره، وأشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا آكله ولا أحرمه" ابن عمر كما تقدم، وليس في حديثه "لا أحله" بل جاء التصريح عنه بأنه حلال فلم تثبت هذه اللفظة وهي قوله: "لا أحله" لأنها وإن كانت من رواية يزيد بن الأصم وهو ثقة لكنه أخبر بها عن قوم كانوا عند ابن عباس فكانت رواية عن مجهول، ولم يقل يزيد بن الأصم إنهم صحابة حتى يغتفر عدم تسميتهم. واستدل بعض من منع أكله بحديث أبي سعيد عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت" وقد ذكرته وشواهده قبل. وقال الطبري: ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ، وإنما خشي أن يكون منهم فتوقف عنه، وإنما قال ذلك قبل أن يعلم الله تعالى نبيه أن الممسوخ لا ينسل، وبهذا أجاب الطحاوي ثم أخرج من طريق المعرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ قال: إن الله لم يهلك قوما - أو يمسخ قوما - فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة، وأصل هذا الحديث في مسلم، وكأن لم يستحضره من صحيح مسلم، ويتعجب من ابن العربي حيث قال: قوله إن الممسوخ لا ينسل دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالعقل وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه. كذا قال ثم قال الطحاوي بعد أن أخرجه من طرق ثم أخرج حديث ابن عمر: فثبت بهذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب، وبه أقول. قال: وقد احتج محمد ابن الحسن لأصحابه بحديث عائشة، فساقه الطحاوي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة

(9/666)


"أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه فقال لها: أتعطيه ما لا تأكلين" ؟ قال محمد: دل ذلك على كراهته لنفسه ولغيره وتعقبه الطحاوي باحتمال أن يكون دلك من جنس ما قال الله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ثم ساق الأحاديث الدالة على كراهة التصدق بحشف التمر، وقد مر ذكرها في كتاب الصلاة في "باب تعليق القنو في المسجد" وبحديث البراء "كانوا يحبون الصدقة بأرداء تمرهم، فنزلت: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية. قال: فلهذا المعنى كره لعائشة الصدقة بالضب لا لكونه حراما ا هـ. وهذا يدل على أنه فهم عن محمد أن الكراهة فيه للتحريم، والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه. وجنح بعضهم إلى التحريم وقال: اختلفت الأحاديث وتعذرت معرفة المتقدم فرجحنا جانب التحريم تقليلا للنسخ ا هـ. ودعواه التعذر ممنوعة لما تقدم والله أعلم. ويتعجب من ابن العربي حيث قال: قولهم إن الممسوخ لا ينسل دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالعقل وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه، كذا قال وكأنه لم يستحضره من صحيح مسلم، ثم قال: وعلى تقدير ثبوت كون الضب ممسوخا فذلك لا يقتضي تحريم أكله لأن كونه آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا، وإنما كره صلى الله عليه وسلم الأكل منه لما وقع عليه من سخط الله كما كره الشرب من مياه ثمود ا هـ. ومسألة جواز أكل الآدمي إذا مسخ حيوانا مأكولا لم أرها في كتب فقهائنا. وفي الحديث أيضا الإعلام بما شك فيه لإيضاح حكمه، وأن مطلق النفرة وعدم الاستطابة لا يستلزم التحريم، وأن المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يعيب الطعام إنما هو فيما صنعه الآدمي لئلا ينكسر خاطره وينسب إلى التقصير فيه؛ وأما الذي خلق كذلك فليس نفور الطبع منه ممتنعا. وفيه أن وقوع مثل ذلك ليس بمعيب ممن يقع منه خلافا لبعض المتنطعة. وفيه أن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات، وقد يستنبط منه أن اللحم إذا أنتن لم يحرم لأن بعض الطباع لا تعافه. وفيه دخول أقارب الزوجة بيتها إذا كان بإذن الزوج أو رضاه، وذهل ابن عبد البر هنا ذهولا فاحشا فقال: كان دخول خالد بن الوليد بيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قبل نزول الحجاب، وغفل عما ذكره هو أن إسلام خالد كان بين عمرة القضية والفتح، وكان الحجاب قبل ذلك اتفاقا، وقد وقع في حديث الباب: "قال خالد: أحرام هو يا رسول الله" ؟ فلو كانت القصة قبل الحجاب لكانت قبل إسلام خالد، ولو كانت قبل إسلامه لم يسأل عن حلال ولا حرام، ولا خاطب بقوله يا رسول الله. وفيه جواز الأكل من بيت القريب والصهر والصديق، وكأن خالدا ومن وافقه في الأكل أرادوا جبر قلب الذي أهدته، أو لتحقق حكم الحل، أو لامتثال قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا" وفهم من لم يأكل أن الأمر فيه للإباحة. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤاكل أصحابه ويأكل اللحم حيث تيسر؛ وأنه كان لا يعلم من المغيبات إلا ما علمه الله تعالى. وفيه وفور عقل ميمونة أم المؤمنين وعظيم نصحتها للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنها فهمت مظنة نفوره عن أكله بما استقرت منه، فخشيت أن يكون ذلك كذلك فيتأذى بأكله لاستقذاره له فصدقت فراستها. ويؤخذ منه أن من خشي أن يتقذر شيئا لا ينبغي أن يدلس له لئلا يتضرر به، وقد شوهد ذلك من بعض الناس.

(9/667)


34- باب إِذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ
5538- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

(9/667)


عُتْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ إِلاَّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا"
5539- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أُكِلَ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ"
5540- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ"
قوله: "باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب" أي هل يفترق الحكم أو لا؟ وكأنه ترك الجزم بذلك لقوة الاختلاف، وقد تقدم في الطهارة ما يدل على أنه يختار أنه لا ينجس إلا بالتغير، ولعل هذا هو السر في إيراده طريق يونس المشعرة بالتفصيل. قوله: "عن ميمونة" تقدم في أواخر كتاب الوضوء بيان الاختلاف فيه على الزهري في إثبات ميمونة في الإسناد وعدمه، وأن الراجح إثباتها فيه، وتقدم هناك الاختلاف على مالك في وصله وانقطاعه. قوله: "فقال ألقوها وما حولها" هكذا أورده أكثر أصحاب ابن عيينة عنه ووقع في مسند إسحاق بن راهويه ومن طريقه أخرجه ابن حبان بلفظ: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبا فلا تقربوه" وهذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة وسيأتي القول فيها. قوله: "قيل لسفيان" القائل لسفيان ذلك هو علي بن المديني شيخ البخاري، كذلك ذكره في علله. قوله: "فإن معمرا يحدث به إلخ" طريق معمر هذه وصلها أبو داود عن الحسن بن علي الحلواني وأحمد بن صالح كلاهما عن عبد الرزاق عن معمر بإسناده المذكور إلى أبي هريرة، ونقل الترمذي عن البخاري أن هذه الطريق خطأ والمحفوظ رواية الزهري من طريق ميمونة، وجزم الذهلي بأن الطريقين صحيحان، وقد قال أبو داود في روايته عن الحسن بن علي "قال الحسن: وربما حدث به معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة" وأخرجه أبو داود أيضا عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن بوذويه عن معمر كذلك من طريق ميمونة، وكذا أخرجه النسائي عن خشيش بن أصرم عن عبد الرزاق، وذكر الإسماعيلي أن الليث رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن جامد" الحديث، وهذا يدل على أن لرواية الزهري عن سعيد أصلا، وكون سفيان بن عيينة لم يحفظه عن الزهري إلا من طريق ميمونة لا يقتضي أن لا يكون له عنده إسناد آخر، وقد جاء عن الزهري فيه إسناد ثالث أخرجه الدار قطني من طريق عبد الجبار بن عمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به، وعبد

(9/668)


الجبار مختلف فيه. قال البيهقي: وجاء من رواية ابن جريج عن الزهري كذلك، لكن السند إلى ابن جريج ضعيف والمحفوظ أنه من قول ابن عمر. قوله: "قال ما سمعت الزهري" القائل هو سفيان "وقوله ولقد سمعته منه مرارا" أي من طريق ميمونة فقط، ووقع في رواية الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن علي بن المديني شيخ البخاري فيه قال سفيان: كم سمعناه من الزهري يعيده ويبدئه. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن زيد. قوله: "عن الزهري عن الدابة" أي في حكم الدابة "تموت في الزيت والسمن إلخ" ظاهر في أن الزهري كان في هذا الحكم لا يفرق بين السمن وغيره ولا بين الجامد منه والذائب، لأنه ذكر ذلك في السؤال ثم استدل بالحديث في السمن، فأما غير السمن فإلحاقه به في القياس عليه واضح، وأما عدم الفرق بين الذائب والجامد فلأنه لم يذكر في اللفظ الذي استدل به، وهذا يقدح في صحة من زاد في هذا الحديث عن الزهري التفرقة بين الجامد والذائب كما ذكر قبل عن إسحاق، وهو مشهور من رواية معمر عن الزهري أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن حبان وغيره على أنه اختلف عن معمر فيه، فأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر بغير تفصيل، نعم وقع عند النسائي من رواية ابن القاسم عن مالك وصف السمن في الحديث بأنه جامد، وتقدم التنبيه عليه في الطهارة وكذا وقع عند أحمد من رواية الأوزاعي عن الزهري، وكذا عند البيهقي من رواية حجاج بن منهال عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن سفيان وتقدم التنبيه على الزيادة التي وقعت في رواية إسحاق ابن راهويه عن سفيان وأنه تفرد بالتفصيل عن سفيان دون حفاظ أصحابه مثل أحمد والحميدي ومسدد وغيرهم، ووقع التفصيل فيه أيضا في رواية عبد الجبار بن عمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وقد تقدم أن الصواب في هذا الإسناد أنه موقوف، وهذا الذي ينفصل به الحكم فيما يظهر لي بأن التقييد عن الزهري عن سالم عن أبيه من قوله، والإطلاق من روايته مرفوعا، لأنه لو كان عنده مرفوعا ما سوى في فتواه بين الجامد وغير الجامد، وليس الزهري ممن يقال في حقه لعله نسي الطريق المفصلة المرفوعة لأنه كان أحفظ الناس في عصره فخفاء ذلك عنه في غاية البعد. قوله: "عن حديث عبيد الله بن عبد الله" يعني بسنده لكن يظهر لنا هل فيه ميمونة أو لا؟ وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك فقال فيه: "عن عبيد الله بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم:" فذكره مرسلا وأغرب أبو نعيم في "المستخرج" فساقه من طريق الفربري عن البخاري عن عبدان موصولا بذكر ابن عباس وميمونة بالمرفوع دون الموقوف وقال: "أخرجه البخاري عن عبدان، وذكر فيه كلاما، واستدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد أن المائع إذا حلت فيه النجاسة لا ينجس إلا بالتغير، وهو اختيار البخاري وقول ابن نافع من المالكية وحكى عن مالك، وقد أخرج أحمد عن إسماعيل بن علية عن عمارة ابن أبي حفصة عن عكرمة "أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال: تؤخذ الفارة وما حولها، فقلت إن أثرها كان في السمن كله، قال إنما كان وهي حية وإنما ماتت حيث وجدت" ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه أحمد من وجه آخر وقال فيه عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ وفيه: "أليس جال في الجر كله؟ قال: إنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات" وفرق الجمهور بين المائع والجامد عملا بالتفصيل المقدم ذكره، وقد تمسك ابن العربي بقوله: "وما حولها" على أنه كان جامدا، قال: لأنه لو كان مائعا لم يكن له حول، لأنه لو نقل من أي جانب مهما نقل لخلفه غيره في الحال فيصير مما حولها فيحتاج إلى إلقائه كله، كذا قال، وأما ذكر السمن والفأرة فلا عمل بمفهومهما، وجمد ابن حزم

(9/669)


على عادته فخص التفرقة بالفأرة، فلو وقع غير جنس الفأر من الدواب في مائع لم ينجس إلا بالتغير، وضابط المائع عند الجمهور أن يتراد بسرعة إذا أخذ منه شيء. واستدل بقوله: "فماتت" على أن تأثيرها في المائع إنما يكون بموتها فيه فلو وقعت فيه وخرجت بلا موت لم يضره، ولم يقع في رواية مالك التقييد بالموت، فيلزم من لا يقول بحمل المطلق على المقيد أن يقول بالتأثير ولو خرجت وهي في الحياة، وقد التزمه ابن حزم فخالف الجمهور أيضا. قوله: "ألقوها وما حولها" لم يرد في طريق صحيحة تحديد ما يلقي، لكن أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء بن يسار أنه يكون قدر الكف وسنده جيد لولا إرساله، وقد وقع عند الدار قطني من رواية يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث: "فأمر أن يقور ما حولها فيرمي به" وهذا أظهر في كونه جامدا من قوله: "وما حولها" فيقوى ما تمسك به ابن العربي، وأما ما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا من التقييد في المأخوذ منه ثلاث غرفات بالكفين فسنده ضعيف، ولو ثبت لكان ظاهرا في المائع. واستدل بقوله في الرواية المفصلة "وإن كان مائعا فلا تقربوه" على أنه لا يجوز الانتفاع به في شيء، فيحتاج من أجاز الانتفاع به في غير الأكل كالشافعية وأجاز بيعه كالحنفية إلى الجواب - أعني الحديث - فإنهم احتجوا به في التفرقة بني الجامد والمائع، وقد احتج بعضهم بما وقع في رواية عبد الجبار بن عمر عند البيهقي في حديث ابن عمر "إن كان السمن مائعا انتفعوا به ولا تأكلوه" وعنده في رواية ابن جريج مثله، وقد تقدم أن الصحيح وقفه. وعنده من طريق الثوري عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في فأرة وقعت في زيت قال: "استصبحوا به وادهنوا به أدمكم" وهذا السند على شرط الشيخين إلا أنه موقوف، واستدل به على أن الفأرة طاهرة العين، وأغرب ابن العربي فحكى عن الشافعي وأبي حنيفة أنها نجسة. قوله في رواية مالك "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو كذلك في أكثر الروايات بإبهام السائل، ووقع في رواية الأوزاعي عن أحمد تعيين من سأل، ولفظه عن ميمونة "إنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرة" الحديث، ومثله في رواية يحيى القطان عن مالك عند الدار قطني بلفظ: "عن ابن عباس أن ميمونة استفتت" والله أعلم.=

 32.

مجلد 32.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
--------

باب الوهم والعلم في الصورة
...
35- باب الْوَسْمِ وَالْعَلَمِ فِي الصُّورَةِ
5541- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ" تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْعَنْقَزِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ وَقَالَ تُضْرَبُ الصُّورَةُ"
5542- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ وَهُوَ فِي مِرْبَدٍ لَهُ فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً حَسِبْتُهُ قَالَ فِي آذَانِهَا"
قوله: "باب العلم" بفتحتين "والوسم" بفتح أوله وسكون المهملة، وفي بعض النسخ بالمعجمة فقيل هو بمعنى الذي بالمهملة وقيل بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر الجسد، فعلى هذا فالصواب هنا بالمهملة لقوله في الصورة، والمراد بالوسم أن يعلم الشيء بشيء يؤثر فيه تأثيرا بالغا، وأصله أن يجعل في البهيمة علامة ليميزها عن غيرها. قوله: "عن حنظلة" هو ابن أبي سفيان الجمحي، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر. قوله: "أن تعلم" بضم أوله أي تجعل فيها  علامة. قوله: "الصورة" في رواية الكشميهني في الموضعين "الصور" بفتح الواو بلا هاء جمع صورة والمراد بالصورة الوجه. قوله: "وقال ابن عمر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تضرب" هو موصول بالسند المذكور، بدأ بالموقوف وثنى بالمرفوع مستدلا به على ما ذكر من الكراهة، لأنه إذا ثبت النهي عن الضرب كان منع الوسم أولى، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما أخرجه مسلم من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه" وفي لفظ له "مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجه فقال: لعن الله من وسمه". قوله: "تابعه قتيبة قال حدثنا العنقزي" بفتح المهملة والقاف بينهما نون ساكنة وبعد القاف زاي، منسوب إلى العنقز وهو نبت طيب الريح، ويقال هو المرزنجوش بفتح الميم وسكون الراء ثم فتح الزاي وسكون النون بعدها جيم مضمومة وآخره معجمة، وهذا تفسير للشيء بمثله في الخفاء، والمرزنجوش هو الشمار أو الشذاب، وقيل العنقز الريحان، وقيل القصب الغض، واسم العنقزي عمرو بن محمد الكوفي وثقه أحمد والنسائي وغيرهما. وقال ابن حبان في الثقات كان يبيع العنقز. وهذه المتابعة لها حكم الوصل عند ابن الصلاح لأن قتيبة من شيوخ البخاري، وإنما ذكرها لزيادة المحذوف في رواية عبيد الله بن موسى حيث قال: "أن تضرب" فإن الضمير في روايته للصورة لكونها ذكرت أولا وأفصح العنقزي في روايته بذلك، وقوله عن حنظلة يريد بالسند المذكور وهو عن سالم عن أبيه، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث من طريق بشر بن السري ومحمد بن عدي فرقهما كلاهما عن حنظلة بالسند المذكور واللفظ المذكور، لكن لفظ رواية بشر بن السري "عن الصورة تضرب" وأخرجه من طريق وكيع عن حنظلة بلفظ: "أن تضرب وجوه البهائم" ومن وجه آخر عنه "أن تضرب الصورة" يعني الوجه، وأخرجه أيضا من طريق محمد بن بكر يعني البرساني وإسحاق بن سليمان الرازي كلاهما عن حنظلة قال: "سمعت" سالما يسأل عن العلم في الصورة فقال: كان ابن عمر يكره أن تعلم الصورة "وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تضرب الصورة" يعني بالصورة الوجه. قال الإسماعيلي المسند منه على اضطراب فيه ضرب الصورة، وأما العلم فإنه من قول ابن عمر وكان المعنى فيه الكي، قلت وهذه الرواية الأخيرة هي المطابقة للفظ الترجمة، وعطفه الوسم عليها إما عطف تفسيري وإما من عطف الأعم على الأخص. وأشار الإسماعيلي بالاضطراب إلى الرواية الأخيرة حيث قال فيها "وبلغنا" فإن الظاهر أنه من قول سالم فيكون مرسلا بخلاف الروايات الأخرى أنها ظاهرة الاتصال لكن اجتماع العدد الكثير أولى من تقصير من قصر به والحكم لهم. ومثل هذا لا يسمى اضطرابا في الاصطلاح لأن شرط الاضطراب أن يتعذر الترجيح بعد تعذر الجمع وليس الأمر هنا كذلك. وجاء في ذكر الوسم في الوجه صريحا حديث جابر قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله من فعل هذا. لا يسم أحد الوجه ولا يضرب أحد الوجه" أخرجه عبد الرزاق ومسلم والترمذي. وهو شاهد جيد لحديث ابن عمر. وتقدم البحث في ضرب وجه الآدمي في كتاب الجهاد في الكلام على حديث أبي هريرة، وتقدم قبل أبواب النهي عن صبر البهيمة وعن المثلة. قوله: "عن هشام بن زيد" أي ابن أنس ابن مالك. قوله: "عن أنس" هو جده. قوله: "بأخ لي يحنكه" هو أخوه من أمه وهو عبد الله بن أبي طلحة، وسيأتي مطولا في اللباس من وجه آخر. قوله: "في مربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة بعدها مهملة مكان الإبل وكأن الغنم أدخلت فيه مع الإبل. قوله: "وهو يسم شاة" في رواية الكشميهني: "شاء" بالهمز وهو جمع شاة مثل شياه، وسيأتي في الرواية التي في اللباس بلفظ: "وهو يسم الظهر الذي قدم عليه" وفيه ما يدل على أن  ذلك بعد رجوعهم من غزوة الفتح وحنين، والمراد بالظهر الإبل، وكأنه كان يسم الإبل والغنم فصادف أول دخول أنس وهو يسم شاة، ورآه يسم غير ذلك، وقد تقدم في العقيقة بيان شيء من هذا. قوله: "حسبته" القائل شعبة، والضمير لهشام بن زيد وقع مبينا في رواية مسلم. قوله: "في آذانها" هذا محل الترجمة وهو العدول عن الوسم في الوجه إلى الوسم في الأذن، فيستفاد منه أن الأذن ليست من الوجه، وفيه حجة للجمهور في جواز وسم البهائم بالكي، وخالف فيه الحنفية تمسكا بعموم النهي عن التعذيب بالنار، ومنهم من ادعى بنسخ وسم البهائم وجعله الجمهور مخصوصا من عموم النهي. والله أعلم.

(9/672)


36- باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً فَذَبَحَ بَعْضُهُمْ غَنَمًا أَوْ إِبِلًا بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِمْ لَمْ تُؤْكَلْ
لحَدِيثِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ فِي ذَبِيحَةِ السَّارِقِ اطْرَحُوهُ"
5543- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّنَا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ مَا لَمْ يَكُنْ سِنٌّ وَلاَ ظُفُرٌ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ النَّاسِ فَنَصَبُوا قُدُورًا فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ ثُمَّ نَدَّ بَعِيرٌ مِنْ أَوَائِلِ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقَالَ إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا مِثْلَ هَذَا"
قوله: "باب إذا أصاب قوم غنيمة" يفتح أوله وزن عظيمة. قوله: "فذبح بعضهم غنما أو إبلا بغير أمر أصحابه لم تؤكل لحديث رافع" هذا مصير من البخاري إلى أن سبب منع الأكل من الغنم التي طبخت في القصة التي ذكرها رافع بن خديج كونها لم تقسم، وقد تقدم البحث في ذلك في "باب التسمية على الذبيحة" وقوله فيه: "وسأحدثكم عن ذلك" جزم النووي بأنه من جملة المرفوع وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من السياق، وجزم أبو الحسن بن القطان في "كتاب بيان الوهم والإيهام" بأنه مدرج من قول رافع بن خديج راوي الخبر، وذكر ما حاصله أن أكثر الرواة عن سعيد ومسروق أوردوه على ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله: "أو ظفر" : "قال رافع وسأحدثكم عن ذلك" ونسبت ذلك لرواية أبي داود وهو عجيب فإن أبا داود أخرجه عن مسدد وليس في شيء من نسخ السنن قوله: "قال رافع" وإنما فيه كما عند المصنف هنا بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدد هو شيخ البخاري فيه هنا، وقد أورده البخاري في الباب الذي بعد هذا بلفظ: "غير السن والظفر فإن السن عظم إلخ" وهو ظاهر جدا في أن الجميع مرفوع. قوله: "وقال طاوس وعكرمة في ذبيحة السارق: اطرحوه" وصله عبد الرزاق من حديثهما بلفظ: "إنهما سئلا عن ذلك فكرهاها ونهيا عنها" وتقدم بيان الحكم في ذلك في ذبيحة المرأة. ذكر المصنف حديث رافع بن خديج وقد تقدم شرحه مستوفي قبل.

(9/672)


37- باب إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ لِقَوْمٍ فَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَأَرَادَ إِصْلاَحَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ
لِخَبَرِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5544- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ الإِبِلِ قَالَ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ قَالَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ فِي الْمَغَازِي وَالأَسْفَارِ فَنُرِيدُ أَنْ نَذْبَحَ فَلاَ تَكُونُ مُدًى قَالَ أَرِنْ مَا نَهَرَ أَوْ أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ وَالظُّفُرَ مُدَى الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب إذا ند بعير لقوم فرماه بعضهم بسهم فقتله فأراد إصلاحهم فهو جائز" في رواية الكشميهني: "إصلاحه" ولكريمة: "صلاحه" بغير ألف بالإفراد أي البعير وضمير الجمع القوم. ذكر المصنف حديث رافع ابن خديج، وقد تقدم التنبيه عليه في الذي قبله، ومضى في "باب ذبيحة المرأة" بحث في خصوص هذه الترجمة، وقوله في هذه الرواية ما أنهر الدم أو نهر شك من الراوي والصواب "أنهر" بالهمز، وقد ألزمه الإسماعيلي التناقض في هذه الترجمة والتي قبلها. وأشار إلى عدم الفرق بين الصورتين، والجامع أن كلا منهما متعد بالتذكية، وأجيب بأن الذين ذبحوا في القصة الأولى ذبحوا ما لم يقسم ليختصوا به فعوقبوا بحرمانه إذ ذاك حتى يقسم، والذي رمى البعير أراد إبقاء منفعته لمالكه فافترقا. وقال ابن المنير: نبه بهذه الترجمة على أن ذبح غير المالك إذا كان بطريق التعدي كما في القصة الأولى فاسد، وأن ذبح غير المالك إذا كان بطريق الإصلاح للمالك خشية أن تفوت عليه المنفعة ليس بفاسد.

(9/673)


باب أكل المضطر
...
38- باب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَالَ {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} وَقَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَنْ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فُصِّلَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلاَ {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}"
قوله: "باب إذا أكل المضطر" أي من الميتة، وكأنه أشار إلى الخلاف في ذلك وهو في موضعين: أحدهما

(9/673)


في الحالة التي يصح الوصف بالاضطرار فيها ليباح الأكل، والثاني في مقدار ما يؤكل، فأما الأول فهو أن يصل به الجوع إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه، هذا قول الجمهور، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام، قال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية أشد من سمية الميتة فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر ا هـ، وهذا إن ثبت حسن بالغ في غاية الحسن، وأما الثاني فذكره في تفسير قوله تعالى :{ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} وقد فسره قتادة بالمتعدي وهو تفسير معنى. وقال غيره الإثم أن يأكل فوق سد الرمق، وقيل فوق العادة وهو الراجح لإطلاق الآية. ثم محل جواز الشبع أن لا يتوقع غير الميتة عن قرب، فإن توقع امتنع إن قوى على الجوع إلا أن يجده، وذكر إمام الحرمين أن المراد بالشبع ما ينتفي الجوع لا الامتلاء حتى لا يبقى لطعام آخر مساغ فإن ذلك حرام. واستشكل بما في حديث جابر في قصة العنبر حيث قال أبو عبيدة "وقد اضطررتم فكلوا، قال فأكلنا حتى سمنا" وقد تقدم البحث فيه مبسوطا. قوله: "لقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ - إلى قوله- فَلا إِثْمَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة ما حذف، وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} أي في أكل الميتة، وجعل الجمهور من البغي العصيان فمنعوا العاصي بسفره أن يأكل الميتة وقالوا: طريقه أن يتوب ثم يأكل، وجوزه بعضهم مطلقا. قوله: "وقال {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة {غير مُتَجَانِفٍ} أي مائل. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} زاد في رواية كريمة الآية التي بعدها إلى قوله: {مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وفيه نسخة "إلي بالمعتدين" وبه تظهر مناسبة ذكر ذلك هنا، وإطلاق الاضطرار هنا تمسك به من أجاز أكل الميتة للعاصي وحمل الجمهور المطلق على المقيد في الآيتين الأخيرتين. قوله: "وقوله جل وعلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} ساق في رواية كريمة إلى آخر الآية وهي قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وبذلك يظهر أيضا وجه المناسبة وهو قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}. قوله: "وقال ابن عباس: مهراقا" أي فسر ابن عباس المسفوح بالمهراق، وهو موصول عند الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة عنه. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} كذا ثبت هنا لكريمة والأصيلي وسقط للباقين، وساق في نسخة الصغاني إلى قوله: "خنزير" ثم قال إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال الكرماني وغيره: عقد البخاري هذه للترجمة ولم يذكر فيها حديثا إشارة إلى أن الذي ورد فيها ليس فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما ساق فيها من الآيات، ويحتمل أن يكون بيض فانضم بعض ذلك إلى بعض عند تبيض الكتاب. قلت: والثاني أوجه، واللائق بهذا الباب على شرطه حديث جابر في قصة العنبر، فلعله قصد أن يذكر له طريقا أخرى.

(9/674)


الخاتمة
...
"خاتمة": اشتمل كتاب الذبائح والصيد من الأحاديث المرفوعة على ثلاثة وتسعين حديثا، المعلق منها أحد وعشرون حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة وسبعون حديثا، والخالص أربعة عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في النهي عن أن تصبر البهيمة، وحديث ابن عباس فيه، وحديث عبد الله بن زيد في النهي عن المثلة، وحديث ابن عباس والحكم بن عمرو في الحمر الأهلية، وحديث ابن عمر في النهي عن ضرب الصورة. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة وأربعون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(9/674)


المجلد العاشر
كتاب الأضاحي
باب سنة الأضحية
...
المجلد العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
73 - كتاب الأضاحي
1 - باب سُنَّةِ الأُضْحِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ
5545- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ الإِيَامِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً فَقَالَ اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
قَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ" .
5546- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ" .
قوله: "كتاب الأضاحي باب سنة الأضحية" كذا لأبي ذر والنسفي، ولغيرهما سنة الأضاحي، وهو جمع أضحية بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة فتفتح الضاد والجمع ضحايا، وهي أضحاة، والجمع أضحى وبه سمي يوم الأضحى، وهو يذكر ويؤنث، وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه، وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها، قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين، وهي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة تجب على المقيم الموسر، وعن مالك مثله في رواية لكن لم يقيد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعي والليث مثله، وخالف أبو يوسف من الحنفية وأشهب من المالكية فوافقا الجمهور. وقال أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة، وعن محمد بن الحسن هي سنة غير مرخص في تركها، قال الطحاوي وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها اهـ. وأقرب ما يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه: " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" أخرجه ابن ماجه وأحمد ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب. قوله: "قال ابن عمر: هي سنة ومعروف" وصله حماد بن سلمة في مصنفه بسند جيد إلى ابن عمر، وللترمذي محسنا من طريق جبلة بن سحيم أن رجلا سأل ابن عمر عن الأضحية: أهي واجبة؟ فقال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، وكأنه فهم

(10/3)


من كون ابن عمر لم يقل في الجواب نعم أنه لا يقول بالوجوب، فإن الفعل المجرد لا يدل على ذلك، وكأنه أشار بقوله: "والمسلمون" إلى أنها ليست من الخصائص، وكان ابن عمر حريصا على اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك لم يصرح بعدم الوجوب، وقد احتج من قال بالوجوب بما ورد في حديث مخنف بن سليم رفعه: "على أهل كل بيت أضحية " أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، ولا حجة فيه لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، ولبست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. واستدل من قال بعدم الوجوب بحديث ابن عباس "كتب علي النحر ولم يكتب عليكم" وهو حديث ضعيف أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والدار قطني وصححه الحاكم فذهل، وقد استوعبت طرقه ورجاله في "الخصائص" من تخريج أحاديث الرافعي، وسيأتي شيء من المباحث في وجوب الأضحية في الكلام على حديث البراء في حديث أبي بردة بن نيار بعد أبواب. ثم ذكر المصنف حديث البراء وأنس في أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة، وسيأتي شرحهما مستوفى بعد أبواب. وقوله في حديث البراء "إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر " وقع في بعض الروايات "في يومنا هذا نصلي" بحذف "أن" وعليها شرح الكرماني فقال: هو مثل "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، والمراد بالسنة هنا في الحديثين معا الطريقة لا السنة بالاصطلاح التي تقابل الوجوب، والطريقة أعم من أن تكون للوجوب أو للندب، فإذا لم يقم دليل على الوجوب بقي الندب وهو وجه إيرادها في هذه الترجمة. وقد استدل من قال بالوجوب بوقوع الأمر فيهما بالإعادة، وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما لو قال لمن صلى راتبة الضحى مثلا قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، وقوله في حديث البراء "وليس من النسك في شيء" النسك يطلق ويراد به الذبيحة ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة وهو أعم يقال فلان ناسك أي عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثالث وبالمعنى الأول أيضا في قوله في الطريق الأخرى "من نسك قبل الصلاة فلا نسك له" أي من ذبح قبل الصلاة فلا ذبح له أي لا يقع عن الأضحية، وقوله فيه: "وقال مطرف" يعني ابن طريف بالطاء المهملة وزن عظيم، وعامر هو الشعبي، وقد تقدمت رواية مطرف موصولة في العيدين وتأتي أيضا بعد ثمانية أبواب. قوله: "إسماعيل" هو ابن علية، وأيوب هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين، والإسناد كله بصريون.

(10/4)


2 - باب قِسْمَةِ الإِمَامِ الأَضَاحِيَّ بَيْنَ النَّاسِ
5547- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ بَعْجَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: "قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ قَالَ ضَحِّ بِهَا" .
قوله: "باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس" أي بنفسه أو بأمره. قوله: "هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن بعجة" في رواية مسلم من طريق معاوية بن سلام عن يحيى أخبرني بعجة بن عبد الله، وهو بفتح الموحدة وسكون المهملة بعدها جيم، واسم جده بدر، وهو تابعي معروف ما له في البخاري إلا هذا الحديث، وقد أزالت رواية مسلم ما يخشى من تدليس يحيى بن أبي كثير. قوله: "عن عقبة" في رواية مسلم المذكورة

(10/4)


أن عقبة بن عامر أخبره. قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا" سيأتي بعد أربعة أبواب أن عقبة هو الذي باشر القسمة، وتقدم في الشركة "باب وكالة الشريك للشريك في القسمة" وأورده فيه أيضا، وأشار إلى أن عقبة كان له في تلك الغنم نصيب باعتبار أنها كانت من الغنائم، وكذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم فيها نصيب، ومع هذا فوكله في قسمتها وقدمت له هناك توجيها آخر، وهذا التوجيه أقوى منه. قال ابن المنير يحتمل أن يكون المراد أنه أطلق عليها ضحايا باعتبار ما يئول إليه الأمر، ويحتمل أن يكون عينها للأضحية ثم قسمها بينهم ليحوز كل واحد نصيبه، فيؤخذ منه جواز قسمة لحم الأضحية بين الورثة ولا يكون ذلك بيعا، وهي مسألة خلاف للمالكية، قال: وما أرى البخاري مع دقة نظره قصد بالترجمة إلا هذا، كذا قال. قوله: "فصارت لعقبة" أي ابن عامر "جذعة" بفتح الجيم والذال المعجمة هو وصف لسن معين من بهيمة الأنعام، فمن الضأن ما أكمل السنة وهو قول الجمهور، وقيل دونها. ثم اختلف في تقديره فقيل ابن ستة أشهر وقيل ثمانية وقيل عشرة، وحكى الترمذي عن وكيع أنه ابن ستة أشهر أو سبعة أشهر. وعن ابن الأعرابي أن ابن الشابين يجذع لستة أشهر إلى سبعة وابن الهرمين يجذع لثمانية إلى عشرة، قال والضأن أسرع إجذاعا من المعز، وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية ومن البقر ما أكمل الثالثة ومن الإبل ما دخل في الخامسة، وسيأتي بيان المراد بها هنا قريبا، وأنها كانت من المعز بعد أربعة أبواب.

(10/5)


3 - باب الأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ
5548- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: مَا لَكِ أَنَفِسْتِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالُوا ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ".
قوله: "باب الأضحية للمسافر والنساء" فيه إشارة إلى خلاف من قال إن المسافر لا أضحية عليه، وقد تقدم نقله في أول الباب، وإشارة إلى خلاف من قال إن النساء لا أضحية عليهن، ويحتمل أن يشير إلى خلاف من منع من مباشرتهن التضحية، فقد جاء عن مالك كراهة مباشرة المرأة الحائض للتضحية. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة، ولم يسمع مسدد من سفيان الثوري. قوله: "عن عبد الرحمن بن القاسم" في رواية علي بن عبد الله عن سفيان "سمعت عبد الرحمن بن القاسم" وتقدمت في كتاب الحيض. قوله: "بسرف" بفتح المهملة وكسر الراء مكان معروف خارج مكة. قوله: "أنفست؟" قيده الأصيلي وغيره بضم النون أي حضت، ويجوز الفتح. وقيل هو في الحيض بالفتح فقط وفي النفاس بالفتح والضم. قوله: "قالت فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر" تقدم في الحج من وجه آخر عن عائشة أخصر من هذا، وتقدم شرحه مبينا هناك. وقوله: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر" ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الأضحية، وحاول ابن التين تأويله ليوافق مذهبه فقال: المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية وهو ضحى يوم النحر، قال: وإن حمل على ظاهره فيكون تطوعا لا على أنها سنة الأضحية، كذا

(10/5)


قال ولا يخفى بعده، واستدل به الجمهور على أن ضحية الرجل تجزي عنه وعن أهل بيته، وخالف في ذلك الحنفية، وادعى الطحاوي أنه مخصوص أو منسوخ ولم يأت لذلك بدليل، قال القرطبي: لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل واحدة من نسائه بأضحية مع تكرار سني الضحايا ومع تعددهن، والعادة تقضي بنقل ذلك لو وقع كما نقل غير ذلك من الجزئيات، ويؤيده ما أخرجه مالك وابن ماجه والترمذي وصححه من طريق عطاء بن يسار "سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛ كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تناهى الناس كما ترى".

(10/6)


4 - باب مَا يُشْتَهَى مِنْ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ
5549- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ" فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَذَكَرَ جِيرَانَهُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلاَ أَدْرِي بَلَغَتْ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لاَ ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا أَوْ قَالَ فَتَجَزَّعُوهَا".
قوله: "باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر" أي اتباعا للعادة بالالتذاذ بأكل اللحم يوم العيد. وقال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} . قوله: "حدثنا صدقة" هو ابن الفضل، وابن علية هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم. قوله: "فقام رجل" هو أبو بردة بن نيار كما في حديث البراء. قوله: "إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم" في رواية داود بن أبي هند الشعبي عند مسلم: "فقال يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه" وفي لفظ له "مقروم" وهو بسكون القاف، قال عياض رويناه في مسلم من طريق الفارسي والسجزي "مكروه" ومن طريق العذري "مقروم" وقد صوب بعضهم هذه الرواية الثانية وقال معناه يشتهى فيه اللحم يقال قرمت إلى اللحم وقرمته إذا اشتهيته فهو موافق للرواية الأخرى "إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم" قال عياض: وقال بعض شيوخنا صواب الرواية: "اللحم فيه مكروه" بفتح الحاء وهو اشتهاء اللحم والمعنى ترك الذبح والتضحية وإبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه، قال وقال لي الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان معناه ذبح ما لا يجزي في الأضحية مما هو لحم اهـ، وبالغ ابن العربي فقال: الرواية بسكون الحاء هنا غلط وإنما هو اللحم بالتحريك، يقال لحم الرجل بكسر الحاء يلحم بفتحها إذا كان يشتهي اللحم، وأما القرطبي في "المفهم" فقال تكلف بعضهم ما لا يصح رواية أي اللحم بالتحريك ولا معنى وهو قول الآخر معنى المكروه أنه مخالف للسنة قال وهو كلام من لم يتأمل سياق الحديث فإن هذا التأويل لا يلائمه، إذ لا يستقيم أن يقول إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة وإني عجلت لأطعم أهلي، قال: وأقرب ما يتكلف لهذه الرواية أن معناه اللحم فيه مكروه التأخير فحذف لفظ التأخير لدلالة قوله عجلت. وقال النووي: ذكر الحافظ أبو موسى أن معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق قال: وهو معنى حسن قلت: يعني طلبه من الناس كالصديق والجار، فاختار هو أن لا يحتاج أهله إلى ذلك فأغناهم بما ذبحه عن الطلب. ووقع

(10/6)


في رواية منصور عن الشعبي كما مضى في العيدين "وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي" ويظهر لي أن بهذه الرواية يحصل الجمع بين الروايتين المتقدمتين، وأن وصفه اللحم بكونه مشتهى وبكونه مكروها لا تناقض فيه وإنما هو باعتبارين: فمن حيث أن العادة جرت فيه بالذبائح فالنفس تتشوق له يكون مشتهى، ومن حيث توارد الجميع عليه حتى يكثر يصير ممولا فأطلقت عليه الكراهة لذلك، فحيث وصفه بكونه مشتهى أراد ابتداء حاله، وحيث وصفه بكونه مكروها أراد انتهاءه، ومن ثم استعجل بالذبح ليفوز بتحصيل الصفة الأولى عند أهله وجيرانه. ووقع في رواية فراس عن الشعبي عند مسلم: "فقال خالي: يا رسول الله قد نكست عن ابن لي" وقد استشكل هذا، وظهر لي أن مراده أنه ضحى لأجله للمعنى الذي ذكره في أهله وجيرانه، فخص ولده بالذكر أنه أخص بذلك عنده حتى يستغني ولده بما عنده عن التشوف إلى ما عند غيره. قوله: "وذكر جيرانه" في رواية عاصم عند مسلم وإني عجلت فيه نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري. قوله: "فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" قد وقع في حديث البراء اختصاصه بذلك كما سيأتي بعد أبواب، ويأتي البحث فيه، كأن أنسا لم يسمع ذلك، وقد روى ابن عون عن الشعبي حديث البراء وعن ابن سيرين حديث أنس فكان إذا حدث حديث البراء يقف عند قوله: "ولن تجزي عن أحد بعدك" ويحدث بقول أنس "لا أدري أبلغت الرخصة غيره أم لا" ولعله استشكل الخصوصية بذلك لما جاء من ثبوت ذلك لغير أبي بردة كما سيأتي بيانه قريبا. قوله: "ثم انكفأ" مهموز أي مال يقال كفأت الإناء إذا أملته، والمراد أنه رجع عن مكان الخطبة إلى مكان الذبح. قوله: "وقام الناس" كذا هنا، وفي الرواية الآتية في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" فتمسك به ابن التين في أن من ذبح قبل الإمام لا يجزئه، وسيأتي البحث فيه. قوله: "إلى غنيمة" بغين معجمة ونون مصغر "فتوزعوها أو قال فتجزعوها" شك من الراوي، والأول بالزاي من التوزيع وهو التفرقة أي تفرقوها، والثاني بالجيم والزاي أيضا من الجزع وهو القطع أي اقتسموها حصصا، وليس المراد أنهم اقتسموها بعد الذبح فأخذ كل واحد قطعة من اللحم وإنما المراد أخذ حصة من الغنم، والقطعة تطلق على الحصة من كل شيء، فبهذا التقرير يكون المعنى واحدا وإن كان ظاهره في الأصل الاختلاف.

(10/7)


5 - باب مَنْ قَالَ الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ
5550- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ

(10/7)


قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلاَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ صَدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ" .
قوله: "باب من قال الأضحى يوم النحر" قال ابن المنير أخذه من إضافة اليوم إلى النحر حيث قال: "أليس يوم النحر" واللام للجنس فلا يبقى نحر إلا في ذلك اليوم، قال والجواب على مذهب الجماعة أن المراد النحر الكامل واللام تستعمل كثيرا للكمال كقوله: "الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". قلت: واختصاص النحر باليوم العاشر قول حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وداود الظاهري، وعن سعيد بن جبير وأبي الشعثاء مثله إلا في منى فيجوز ثلاثة أيام، ويمكن أن يتمسك لذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: "أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة" الحديث صححه ابن حبان. وقال القرطبي: التمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ويحتمل أن يكون أراد أن أيام النحر الأربعة أو الثلاثة لكل واحد منها اسم يخصه، فالأضحى هو اليوم العاشر والذي يليه يوم القر والذي يليه يوم النفر الأول والرابع يوم النفر الثاني. وقال ابن التين: مراده أنه يوم تنحر فيه الأضاحي في جميع الأقطار، وقيل مراده لا ذبح إلا فيه خاصة، يعني كما تقدم نقله عمن قال به. وزاد مالك: ويذبح أيضا في يومين بعده. وزاد الشافعي اليوم الرابع، قال وقيل يذبح عشرة أيام ولم يعزه لقائل، وقيل إلى آخر الشهر وهو عن عمر بن عبد العزيز وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وغيرهم. وقال به ابن حزم متمسكا بعدم ورود نص بالتقييد. وأخرج ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار قالا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، قال: وهذا سند صحيح إليهما، لكنه مرسل فيلزم من يحتج بالمرسل أن يقول به. قلت: وسيأتي عن أبي أمامة ابن سهل في الباب الذي يليه شيء من ذلك، وبمثل قول مالك قال الثوري وأبو حنيفة وأحمد، وبمثل قول الشافعي قال الأوزاعي. قال ابن بطال تبعا للطحاوي: ولم ينقل عن الصحابة غير هذين القولين، وعن قتادة ستة أيام بعد العاشر. وحجة الجمهور حيث جبير بن مطعم رفعه: "فجاج منى منحر، وفي كل أيام التشريق ذبح " أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع، ووصله الدار قطني ورجاله ثقات، واتفقوا على أنها تشرع ليلا كما تشرع نهارا إلا رواية عن مالك وعن أحمد أيضا. حديث محمد - وهو ابن سيرين - عن ابن أبي بكرة وهو عبد الرحمن وقد تقدم شرحه في العلم، وفي "باب الخطبة أيام منى" من كتاب الحج شيء منه، وكذا في تفسير براءة. قوله: "ثلاث متواليات إلى قوله ورجب مضر" هذا هو الصواب وهو عدها من سنتين، ومنهم من عدها سنة واحدة فبدأ بالمحرم لكن الأول أليق ببيان المتوالية. وشذ من أسقط رجبا وأبدله بشوال زاعما أنه بذلك تتوالى الأشهر الحرم وأن ذلك المراد بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} حكاه ابن التين. قوله: "قال وأحسبه" هو ابن سيرين كأنه كان يشك في هذه اللفظة وقد ثبتت في رواية غيره. وكذا قوله: "فكان محمد إذا ذكره" في رواية الكشميهني: "ذكر". قوله: "أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" كذا للأكثر بالواو أي أكثر وعيا له وتفهما فيه، ووقع في رواية الأصيلي

(10/8)


والمستملي: "أرعى" بالراء من الرعاية ورجحها بعض الشراح. وقال صاحب "المطالع": هي وهم، وقوله: "قال ألا هل بلغت" القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو بقية الحديث، ولكن الراوي فصل بين قوله: "بعض من سمعه" وبين قوله: "ألا هل بلغت" بكلام ابن سيرين المذكور.

(10/9)


6 - باب الأَضْحَى وَالْمَنْحَرِ بِالْمُصَلَّى
5551- حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبيد الله عن نافع قال: "كان عبد الله ينحر في المنحر". قال عبيد الله: يعني منحر النبي صلى الله عليه وسلم.
5552- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن كثير بن فرقد عن نافع أن بن عمر رضي الله عنهما أخبره قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى".
قوله: "باب الأضحى والنحر بالمصلى" قال ابن بطال: هو سنة للإمام خاصة عند مالك، قال مالك فيما رواه ابن وهب: إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله، زاد المهلب: وليذبحوا بعده على يقين، وليتعلموا منه صفة الذبح. وذكر فيه المؤلف حديث ابن عمر من وجهين: أحدهما موقوف، والثاني مرفوع "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى" وهو اختلاف على نافع، وقيل بل المرفوع يدل على الموقوف لأن قوله في الموقوف كان في منحر النبي صلى الله عليه وسلم يريد به المصلى بدلالة الحديث المرفوع المصرح بذلك. وقال ابن التين: هو مذهب مالك أن الإمام يبرز أضحيته للمصلى فيذبح هناك، وبالغ بعض أصحابه وهو أبو مصعب فقال: من لم يفعل ذلك لم يؤتم به. وقال ابن العربي: قال أبو حنيفة ومالك لا يذبح حتى يذبح الإمام إن كان ممن يذبح، قال ولم أر له دليلا.

(10/9)


7 - باب أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ. وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ: "كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ".
5553- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ".
[الحديث 5553 – أطرافه في: 5554، 5558، 5564، 5565، 7399]
5554- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".
تَابَعَهُ وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ.
5555- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَماً يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ضَحِّ به أَنْتَ" .

(10/9)


8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بُرْدَةَ: " ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَعَزِ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ"
5556- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِي دَاجِناً جَذَعَةً مِنْ الْمَعَزِ قَالَ اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ ثُمَّ قَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ".
تَابَعَهُ عُبَيْدَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَتَابَعَهُ وَكِيعٌ عَنْ حُرَيْثٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَقَالَ عَاصِمٌ وَدَاوُدُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ وَقَالَ زُبَيْدٌ وَفِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ "عِنْدِي جَذَعَةٌ" وَقَالَ أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنَاقٌ جَذَعَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: "عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ".
5557- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَبْدِلْهَا قَالَ لَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ جَذَعَةٌ قَالَ شُعْبَةُ وَأَحْسِبُهُ

(10/12)


قَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ "عَنَاقٌ جَذَعَةٌ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ضح بالجذع من المعز، ولن تجزي عن أحد بعدك" أشار بذلك إلى أن الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية التي ساقها "اذبحها" للجذعة التي تقدمت في قول الصحابي "إن عندي داجنا جذعة من المعز". قوله: "حدثنا مطرف" هو ابن طريف بمهملة وزن عقيل، وعامر هو الشعبي. قوله: "ضحى خال لي يقال له أبو بردة" في رواية زبيد عن الشعبي في أول الأضاحي "أبو بردة بن نيار" وهو بكسر النون وتخفيف الياء المثناة من تحت وآخره راء واسمه هانئ واسم جده عمرو بن عبيد وهو بلوي من حلفاء الأنصار، وقد قيل: إن اسمه الحارث بن عمرو وقيل مالك بن هبيرة والأول هو الأصح. وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن البراء قال: "كان اسم خالي قليلا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا. وقال: يا كثير إنما نسكنا بعد صلاتنا" ثم ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف وأبو بردة ممن شهد العقبة وبدرا والمشاهد وعاش إلى سنة اثنتين وقيل خمس وأربعين، وله في البخاري حديث سيأتي في الحدود. قوله: "شاتك شاة لحم" أي ليست أضحية بل هو لحم ينتفع به كما وقع في رواة زبيد "فإنما هو لحم يقدمه لأهله" وسيأتي في "باب الذبح بعد الصلاة" وفي رواية فراس عند مسلم قال: "ذاك شيء عجلته لأهلك" وقد استشكلت الإضافة في قوله شاة لحم، وذلك أن الإضافة قسمان: معنوية ولفظية، فالمعنوية إما مقدرة بمن كخاتم حديد أو باللام كغلام زيد أو بفي كضرب اليوم معناه ضرب في اليوم. وأما اللفظية فهي صفة مضافة إلى معمولها كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء من الأقسام الخمسة في شاة لحم، قال الفاكهي: والذي يظهر لي أن أبا بردة لما اعتقد أن شاته شاة أضحية أوقع صلى الله عليه وسلم في الجواب قوله شاة لحم موقع قوله شاة غير أضحية. قوله: "إن عندي داجنا" الداجن التي تألف البيوت وتستأنس وليس لها سن معين، ولما صار هذا الاسم علما على ما يألف البيوت اضمحل الوصف عنه فاستوى فيه المذكر والمؤنث. والجذعة تقدم بيانها، وقد بين في هذه الرواية أنها من المعز، ووقع في الرواية الأخرى كما سيأتي بيانه "فإن عندنا عناقا" وفي رواية أخرى "عناق لبن" والعناق بفتح العين وتخفيف النون الأنثى من ولد المعز عند أهل اللغة، ولم يصب الداودي في زعمه أن العناق هي التي استحقت أن تحمل وأنها تطلق على الذكر والأنثى وأنه بين بقوله: "لبن" أنها أنثى، قال ابن التين: غلط في نقل اللغة وفي تأويل الحديث، فإن معنى "عناق لبن" أنها صغيرة سن ترضع أمها. ووقع عند الطبراني من طريق سهل بن أبي حثمة "أن أبا بردة ذبح ذبيحته بسحر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما الأضحية ما ذبح بعد الصلاة، اذهب فضح، فقال: ما عندي إلا جذعة من المعز" الحديث. قلت: وسيأتي بيان ذلك عند ذكر التعاليق التي ذكرها المصنف عقب هذه الرواية، وزاد في رواية أخرى "هي أحب إلي من شاتين" وفي رواية لمسلم: "من شاتي لحم" والمعنى أنها أطيب لحما وأنفع للآكلين لسمنها ونفاستها. وقد استشكل هذا بما ذكر أن عتق نفسين أفضل من عتق نفس واحدة ولو كانت أنفس منهما، وأجيب بالفرق بين الأضحية والعتق أن الأضحية يطلب فيها كثرة اللحم فتكون الواحدة السمينة أولى من الهزيلتين. والعتق يطلب فيه التقرب إلى الله بفك الرقبة فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة، نعم إن عرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره

(10/13)


- كالعلم وأنواع الفضل المتعدي - فقد جزم بعض المحققين بأنه أولى لعموم نفعه للمسلمين. ووقع في الرواية الأخرى التي في أواخر الباب وهي "خير من مسنة" وحكى ابن التين عن الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل. وقال أهل اللغة المسن الثني الذي يلقي سنه، ويكون في ذات الخف في السنة السادسة وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة في الثالثة فهو ثني ومسن. قوله: "قال اذبحها ولا تصلح لغيرك" في رواية فراس الآتية في "باب من ذبح قبل الإمام". "أأذبحها؟ قال: نعم، ثم لا تجزي عن أحد بعدك" ولمسلم من هذا الوجه "ولن تجزي الخ" وكذا في رواية أبي جحيفة عن البراء كما في أواخر هذا الباب: "ولن تجزي عن أحد بعدك" وفي حديث سهل بن أبي حثمة "وليست فيها رخصة لأحد بعدك" وقوله: "تجزي" بفتح أوله غير مهموز أي تقضي، يقال جزا عني فلان كذا أي قضى، ومنه {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تقضي عنها، قال ابن بري: الفقهاء يقولون لا تجزئ بالضم والهمز في موضع لا تقضي والصواب بالفتح وترك الهمز، قال: لكن يجوز الضم والهمز بمعنى الكفاية، يقال أجزأ عنك. وقال صاحب "الأساس": بنو تميم يقولون البدنة تجزي عن سبعة بضم أوله، وأهل الحجاز تجزي بفتح أوله، وبهما قرئ {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} وفي هذا تعقب على من نقل الاتفاق على منع ضم أوله. وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية، لكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر كما تقدم قريبا "ولا رخصة فيها لأحد بعدك" قال البيهقي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة. قلت: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحا، وقد انفصل ابن التين - وتبعه القرطبي - عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون العتود كان كبير السن بحيث يجزي، لكنه قال ذلك بناء على أن الزيادة التي في آخره لم تقع له، ولا يتم مراده مع وجودها مع مصادمته لقول أهل اللغة في العتود، وتمسك بعض المتأخرين بكلام ابن التين فضعف الزيادة، وليس بجيد، فإنها خارجة من مخرج الصحيح، فإنها عند البيهقي من طريق عبد الله البوشنجي أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم، رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسند الذي ساقه البخاري، ولكني رأيت الحديث في "المتفق للجوزقي" من طريق عبيد بن عبد الواحد ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان كلاهما عن يحيى بن بكير وليست الزيادة فيه، فهذا هو السر في قول البيهقي إن كانت محفوظة، فكأنه لما رأى التفرد خشي أن يكون دخل على راويها حديث في حديث، وقد وقع في كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قصة أبي بردة في الصحيحين وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقي، وأما عدا ذلك فقد أخرج أبو داود وأحمد وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودا جذعا فقال ضح به، فقلت إنه جذع أفأضحي به؟ قال نعم ضح به، فضحيت به" لفظ أحمد، وفي صحيح ابن حبان وابن ماجه من طريق عباد بن تميم "عن عويمر بن أشقر أنه ذبح أضحيته قبل أن يغدو يوم الأضحى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد أضحية أخرى" وفي الطبراني الأوسط من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به" وأخرجه الحاكم

(10/14)


من حديث عائشة وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة "أن رجلا قال: يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزول وهذا جذع من المعز سمين وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال: ضح به فإن الله الخير " وفي سنده ضعف. والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ثم قرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك، وإنما قلت ذلك لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا عقبة وأبا بردة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير، ومنهم من زاد فيهم عويمر بن أشقر وليس في حديثه إلا مطلق الإعادة لكونه ذبح قبل الصلاة، وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: اذبحها ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك" فهذا يحمل على أنه أبو بردة بن نيار فإنه من الأنصار، وكذا ما أخرجه أبو يعلى والطبراني من حديث أبي جحيفة "أن رجلا ذبح قبل الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجزي عنك، قال إن عندي جذعة، فقال: تجزي عنك ولا تجزي بعد" فلم يثبت الإجزاء لأحد ونفيه عن الغير إلا لأبي بردة وعقبة، وإن تعذر الجمع الذي قدمته فحديث أبي بردة أصح مخرجا والله أعلم. قال الفاكهي: ينبغي النظر في اختصاص أبي بردة بهذا الحكم وكشف السر فيه، وأجيب بأن الماوردي قال: إن فيه وجهين أحدهما أن ذلك كان قبل استقرار الشرع فاستثني، والثاني أنه علم من طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه. قلت: وفي الأول نظر، لأنه لو كان سابقا لامتنع وقوع ذلك لغيره بعد التصريح بعدم الإجزاء لغيره، والفرض ثبوت الإجزاء لعدد غيره كما تقدم. وفي الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي وهو قول الجمهور، وعن عطاء وصاحبه الأوزاعي يجوز مطلقا، وهو وجه لبعض الشافعية حكاه الرافعي. وقال النووي: وهو شاذ أو غلط، وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل والإجزاء مصادر للنص ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولا على من وجد، وأما الجذع من الضأن فقال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزي مطلقا سواء كان من الضأن أم من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر في "الأشراف" وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف وأطنب في الرد على من أجازه، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا مقيدا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر رفعه: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم لكن نقل النووي عن الجمهور أنهم حملوه على الأفضل، والتقدير يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن. قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضأن وأنها لا تجزي، قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويله. قلت: ويدل للجمهور الأحاديث الماضية قريبا، وكذا حديث أم هلال بنت هلال عن أبيها رفعه: "يجوز الجذع من الضأن أضحية" أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل من بني سليم يقال له مجاشع "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجذع يوفي ما يوفي منه الثني" أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه النسائي من وجه آخر، لكن لم يسم الصحابي، بل وقع عنده أنه رجل من مزينة، وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن عقبة بن عامر "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذع من الضأن" أخرجه النسائي بسند قوي، وحديث

(10/15)


أبي هريرة رفعه: "نعمت الأضحية الجذعة من الضأن" أخرجه الترمذي وفي سنده ضعف. واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضأن - وهم الجمهور - في سنه على آراء: أحدها أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية وهو الأصح عند الشافعية وهو الأشهر عند أهل اللغة، ثانيها نصف قول الحنفية والحنابلة، ثالثها سبعة أشهر وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفية عن الزعفراني، رابعها ستة أو سبعة حكاه الترمذي عن وكيع، خامسها التفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية، سادسها ابن عشر، سابعها لا يجزي حتى يكون عظيما حكاه ابن العربي وقال: إنه مذهب باطل، كذا قال، وقد قال صاحب "الهداية" إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت. وقال العبادي من الشافعية: لو أجذع قبل السنة أي سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ إما بالسن وإما بالاحتلام، وهكذا قال البغوي: الجذع ما استكمل السنة أو جذع قبلها، والله أعلم. قوله: "ثم قال من ذبح قبل الصلاة" أي صلاة العيد "فإنما يذبح لنفسه" أي وليس أضحية "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه" أي عبادته "وأصاب سنة المسلمين" أي طريقتهم. هكذا وقع في هذه الرواية أن هذا الكلام وقع بعد قصة أبي بردة بن نيار، والذي في معظم الروايات كما سيأتي قريبا من رواية زبيد عن الشعبي أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الخطبة بعد الصلاة وأن خطاب أبي بردة بما وقع له كان قبل ذلك وهو المعتمد ولفظه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا، فقال أبو بردة: يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي" وتقدم في العيدين من طريق منصور عن الشعبي عن البراء قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فإنه لا نسك له؟ فقال أبو بردة" فذكر الحديث، وسيأتي بيان الحكم في هذا قريبا في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" إن شاء الله تعالى. واستدل به على وجوب الأضحية على من التزم الأضحية فأفسد ما يضحي به، ورده الطحاوي بأنه لو كان كذلك لتعرض إلى قيمة الأولى ليلزم بمثلها، فلما لم يعتبر ذلك دل على أن الأمر بالإعادة كان على جهة الندب، وفيه بيان ما يجري في الأضحية لا على وجوب الإعادة. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد يخص بعض أمته بحكم ويمنع غيره منه ولو كان بغير عذر، وأن خطابه للواحد يعم جميع المكلفين حتى يظهر دليل الخصوصية، لأن السياق يشعر بأن قوله لأبي بردة ضح به أي بالجذع، ولو كان يفهم منه تخصيصه بذلك لما احتاج إلى أن يقول له "ولن تجزي عن أحد بعدك". ويحتمل أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور لا أن ذلك مأخوذ من مجرد اللفظ وهو قوي. واستدل بقوله: "اذبح مكانها أخرى" وفي لفظ: "أعد نسكا" وفي لفظ: "ضح بها" وغبر ذلك من الألفاظ المصرحة بالأمر بالأضحية على وجوب الأضحية، قال القرطبي في "المفهم": ولا حجة في شيء من ذلك، وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلا، فبين له وجه تدارك ما فرط منه، وهذا معنى قوله: "لا تجزي عن أحد بعدك" أي لا يحصل له مقصود القربة ولا الثواب، كما يقال في صلاة النفل: لا تجزي إلا بطهارة وستر عورة، قال: وقد استدل بعضهم للوجوب بأن الأضحية من شريعة إبراهيم الخليل وقد أمرنا باتباعه، ولا حجة فيه لأنا نقول بموجبه، ويلزمهم الدليل على أنها كانت في شريعة إبراهيم واجبة ولا سبيل إلى

(10/16)


علم ذلك، ولا دلالة في قصة الذبيح للخصوصية التي فيها، والله أعلم. وفيه أن الإمام يعلم الناس في خطبة العيد أحكام النحر. وفيه جواز الاكتفاء في الأضحية بالشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور، وقد تقدمت الإشارة إليه قبل، وعن أبي حنيفة والثوري: يكره. وقال الخطابي: لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وادعى نسخ ما دل عليه حديث عائشة الآتي في "باب من ذبح ضحية غيره"، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع. وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد من غير لحم الأضحية لقوله: "إنما هو لحم قدمه لأهله" . وفيه كرم الرب سبحانه وتعالى لكونه شرع لعبيده الأضحية مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادخار ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذبح، ثم من تصدق أثيب وإلا لم يأثم. قوله: "تابعه عبيدة عن الشعبي وإبراهيم، وتابعه وكيع عن حريث عن الشعبي" قلت: أما عبيدة فهو بصيغة التصغير وهو ابن معتب بضم أوله وفتح المهملة وتشديد المثناة وكسرها بعدها موحدة الضبي، وروايته عن الشعبي يعني عن البراء بهذه القصة، وأما قوله: "وإبراهيم" فيعني النخعي، وهو من طريق إبراهيم منقطع، وليس لعبيدة في البخاري سوى هذا الموضع الواحد، وأما متابعة حريث وهو بصيغة التصغير وهو ابن أبي مطر واسمه عمرو الأسدي الكوفي وما له أيضا في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وصله أبو الشيخ في كتاب الأضاحي من طريق سهل بن عثمان العسكري عن وكيع عن حريث عن الشعبي عن البراء " أن خاله سأل " فذكر الحديث وفيه: "عندي جذعة من المعز أوفى منها" وفي هذا تعقب على الدار قطني في "الأفراد" حيث زعم أن عبيد الله بن موسى تفرد بهذا عن حريث وساقه من طريقه بلفظ: "قال: فعندي جذعة معز سمينة". قوله: "وقال عاصم وداود عن الشعبي عندي عناق لبن" أما عاصم فهو ابن سليمان الأحول، وقد وصله مسلم من طريق عبد الواحد بن زياد عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم نحر فقال: لا يضحين أحد حتى يصلي. فقال رجل: عندي عناق لبن - وقال في آخره - ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك". وأما داود فهو ابن أبي هند فوصله مسلم أيضا من طريق هشيم عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ: "إن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث وفيه - لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري، فقال: أعد نسكا. فقال: إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، قال: هي خير نسيكتيك، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" . قوله: "وقال زبيد وفراس عن الشعبي: عندي جذعة" أما رواية زبيد وهو بالزاي ثم الموحدة مصغر فوصلها المؤلف في أول الأضاحي كذلك، وأما رواية فراس وهو بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره مهملة ابن يحيى فوصلها أيضا المؤلف في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد". قوله: "وقال أبو الأحوص حدثنا منصور عناق جذعة" هو بالتنوين فيهما، ورواية منصور هذه وهو ابن المعتمر وصلها المؤلف من الوجه المذكور عنه عن الشعبي عن البراء في العيدين. قوله: "وقال ابن عون" هو عبد الله "عناق جذع، عناق لبن" يعني أن في روايته عن الشعبي عن البراء باللفظين جميعا لفظ عاصم ومن تابعه ولفظ منصور ومن تابعه، وقد وصل المؤلف رواية ابن عون في كتاب الأيمان والنذور من طريق معاذ عن ابن عون باللفظ المذكور. قوله: "عن سلمة" هو ابن كهيل وصرح أحمد به في روايته عن محمد بن جعفر بهذا الإسناد، وأبو جحيفة هو الصحابي المشهور. قوله: "ذبح أبو بردة" هو ابن نيار الماضي ذكره. قوله: "أبدلها" بموحدة وفتح أوله، وقد تقدم بيانه في قوله: " اذبح مكانها أخرى" . قوله: "قال شعبة وأحسبه قال هي

(10/17)


خير من مسنة" في رواية أبي عامر العقدي عن شعبة عند مسلم: "هي خير من مسنة" ولم يشك. قوله: "اجعلها مكانها" أي اذبحها. وقد تمسك بهذا الأمر من ادعى وجوب الأضحية، ولا دلالة فيه، لأنه ولو كان ظاهر الأمر الوجوب إلا أن قرينة إفساد الأولى تقتضي أن يكون الأمر بالإعادة لتحصيل المقصود، وهو أعم من أن يكون في الأصل واجبا أو مندوبا. وقال الشافعي: يحتمل أن يكون الأمر بالإعادة للوجوب، ويحتمل أن يكون الأمر بالإعادة للإشارة إلى أن التضحية قبل الصلاة لا تقع أضحية، فأمره بالإعادة ليكون في عداد من ضحى، فلما احتمل ذلك وجدنا الدلالة على عدم الوجوب في حديث أم سلمة المرفوع "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي" قال: فلو كانت الأضحية واجبة لم يكل ذلك إلى الإرادة، وأجاب من قال بالوجوب بأن التعليق على الإرادة لا يمنع القول بالوجوب، فهو كما قيل: من أراد الحج فليكثر من الزاد، فإن ذلك لا يدل على أن الحج لا يجب، وتعقب بأنه لا يلزم من كون ذلك لا يدل على عدم الوجوب ثبوت الوجوب بمجرد الأمر بالإعادة لما تقدم من احتمال إرادة الكمال وهو الظاهر والله أعلم. قوله: "وقال حاتم بن وردان الخ" تقدم ذكر من وصله في الباب الذي قبله، ولم يسق مسلم لفظه، لكنه قال: "بمثل حديثهما " يعني رواية إسماعيل بن علية عن أيوب ورواية هشام عن محمد بن سيرين.

(10/18)


9 - باب مَنْ ذَبَحَ الأَضَاحِيَّ بِيَدِهِ
5558- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعاً قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".
قوله: "باب من ذبح الأضاحي بيده" أي وهل يشترط ذلك أو هو الأولى، وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم يكره لكن يستحب أن يشهدها، ويكره أن يستنيب حائضا أو صبيا أو كتابيا، وأولهم أولى ثم ما يليه. قوله: "ضحى" كذا في رواية شعبة بصيغة الفعل الماضي وكذا في رواية أبي عوانة الآتية قريبا عن قتادة. وفي رواية همام الآتية قريبا أيضا عن قتادة "كان يضحي" وهو أظهر في المداومة على ذلك. قوله: "بكبشين أملحين" زاد في رواية أبي عوانة وفي رواية همام كلاهما عن قتادة " أقرنين " وسيأتيان قريبا، وتقدم مثله في رواية أبي قلابة قبل باب. قوله: "فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما" أي على صفاح كل منهما عند ذبحه، والصفاح بكسر الصاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة الجوانب، والمراد الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثنى إشارة إلى أنه فعل في كل منهما، فهو من إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع. قوله: "يسمي ويكبر" في رواية أبي عوانة "وسمى وكبر" والأول أظهر في وقوع ذلك عند الذبح. وفي الحديث غير ما تقدم مشروعية التسمية عند الذبح، وقد تقدم في الذبائح بيان من اشترطها في صفة الذبح، وفيه استحباب التكبير مع التسمية واستحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها بيده اليسار.

(10/18)


10 - باب مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ.
وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِي بَدَنَتِهِ وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ
5559- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِفَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ مَا لَكِ أَنَفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ" .
قوله: "باب من ذبح ضحية غيره" أراد بهذه الترجمة بيان أن التي قبلها ليست للاشتراط. قوله: "وأعان رجل ابن عمر في بدنته" أي عند ذبحها، وهذا وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: "رأيت ابن عمر ينحر بدنة بمنى وهي باركة معقولة، ورجل يمسك بحبل في رأسها وابن عمر يطعن". قال ابن المنير: هذا الأثر لا يطابق الترجمة إلا من جهة أن الاستعانة إذا كانت مشروعة التحقت بها الاستنابة، وجاء في نحو قصة ابن عمر حديث مرفوع أخرجه أحمد من حديث رجل من الأنصار "أن النبي صلى الله عليه وسلم أضجع أضحيته فقال: أعني على أضحيتي. فأعانه" ورجاله ثقات. قوله: "وأمر أبو موسى بناته أن يضحين بأيديهن" وصله الحاكم في "المستدرك" ووقع لنا بعلو في خبرين كلاهما من طريق المسيب بن رافع "أن أبا موسى كان يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن" وسنده صحيح، قال ابن التين: فيه جواز ذبيحة المرأة، ونقل محمد عن مالك كراهته. قلت: وقد سبق في الذبائح مبينا. وهذا الأثر مباين للترجمة، فيحتمل أن يكون محله في الترجمة التي قبلها أو أراد أن الأمر في ذلك على اختيار المضحي، وعن الشافعية الأولى للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها ولا تباشر الذبح بنفسها. حديث عائشة لما حاضت بسرف وفيه: " هذا أمر كتبه الله على بنات آدم - وفي آخره - وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر" ولمسلم من حديث جابر "نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة في حجة الوداع".

(10/19)


11 - باب الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلاَةِ
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ نَحَرَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ فَقَالَ اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِيَ أَوْ تُوفِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
قوله: "باب الذبح بعد الصلاة" ذكر فيه حديث البراء في قصة أبي بردة، وقد تقدم شرحه قريبا، وسأذكر ما يتعلق بهذه الترجمة في التي بعدها. "ولن تجزي أو توفي" شك من الراوي، ومعنى توفي أي تكمل الثواب

(10/19)


وعند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه "ولن تفي" بغير واو ولا شك، يقال وفى إذا أنجز فهو بمعنى تجزي بفتح أوله.

(10/20)


12 - باب مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ أَعَادَ
5561- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ" فَقَالَ رَجُلٌ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَذَكَرَ هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَرَهُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَدْرِي بَلَغَتْ الرُّخْصَةُ أَمْ لاَ ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ يَعْنِي فَذَبَحَهُمَا ثُمَّ انْكَفَأَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَذَبَحُوهَا".
5562- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِيَّ قَالَ: "شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ" .
5563- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَلاَ يَذْبَحْ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلْتُ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ عَجَّلْتَهُ قَالَ فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ آذْبَحُهَا قَالَ نَعَمْ ثُمَّ لاَ تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ قَالَ عَامِرٌ هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْهِ".
قوله: "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" أي أعاد الذبح. قوله فيه: "وذكر هنة" بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث أي حاجة من جيرانه إلى اللحم. قوله: "فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره" بتخفيف الذال المعجمة من العذر أي قبل عذره، ولكن لم يجعل ما فعله كافيا ولذلك أمره بالإعادة. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيات أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بالفعل. والمقصود من المنهيات الكف عنها بسبب مفاسدها، ومع الجهل والنسيان لم يقصد المكلف فعلها فيعذر. قوله: "وعندي جذعة" هو معطوف على كلام الرجل الذي عنى عنه الراوي بقوله: "وذكر هنة من جيرانه" تقديره هذا يوم يشتهى فيه اللحم ولجيراني حاجة فذبحت قبل الصلاة، وعندي جذعة. وقد تقدمت مباحثه قبل ثلاثة أبواب. حديث جندب بن سفيان أورده مختصرا، وتقدم في الذبائح من طريق أبي عوانة عن الأسود بن قيس أتم منه وأوله "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاة، فإذا ناس ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة" الحديث. قوله: "ومن لم يذبح فليذبح" في رواية أبي عوانة " ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله" وفي رواية لمسلم: "فليذبح بسم الله" أي فليذبح قائلا بسم الله أو مسميا، والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال من الضمير في قوله: "فليذبح" وهذا أولى ما حمل عليه الحديث وصححه النووي، ويؤيده ما تقدم في حديث أنس "وسمى وكبر" وقال عياض: يحتمل أن يكون معناه

(10/20)


فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، ويحتمل أن يكون معناه بتسمية الله، ويحتمل أن يكون معناه متبركا باسمه كما يقال سر على بركة الله، ويحتمل أن يكون معناه فليذبح بسنة الله. قال: وأما كراهة بعضهم افعل كذا على اسم الله لأنه اسمه على كل شيء فضعيف. قلت: ويحتمل وجها خامسا أن يكون معنى قوله: "بسم الله" مطلق الإذن في الذبيحة حينئذ، لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن بسم الله أي ادخل، وقد استدل بهذا الأمر في قوله: "فليذبح مكانها أخرى" من قال بوجوب الأضحية، قال ابن دقيق العيد: صيغة "من" في قوله: "من ذبح" صيغة عموم في حق كل من ذبح قبل أن يصلي، وقد جاءت لتأسيس قاعدة، وتنزيل صيغة العموم إذا وردت لذلك على الصورة النادرة يستنكر، فإذا بعد تخصيصه بمن نذر أضحية معينة بقي التردد هل الأولى حمله على من سبقت له أضحية معينة أو حمله على ابتداء أضحية من غير سبق تعيين؟ فعلى الأولى يكون حجة لمن قال بالوجوب على من اشترى الأضحية كالمالكية، فإن الأضحية عندهم تجب بالتزام اللسان وبنية الشراء وبنية الذبح، وعلى الثاني يكون لا حجة لمن أوجب الضحية مطلقا، لكن حصل الانفصال ممن لم يقل بالوجوب بالأدلة الدالة على عدم الوجوب فيكون الأمر للندب. واستدل به من اشترط تقدم الذبح من الإمام بعد صلاته وخطبته، لأن قوله: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" إنما صدر منه بعد صلاته وخطبته وذبحه فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذه الأمور فليعد، أي فلا يعتد بما ذبحه. قال ابن دقيق العيد: وهذا استدلال غير مستقيم، لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة والتعقيب بالفاء. حديث البراء، أورده من طريق فراس بن يحيى عن الشعبي، وقد تقدمت مباحثه قريبا. قوله: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا" المراد من كان على دين الإسلام. قوله: "فلا يذبح" أي الأضحية " حتى ينصرف" تمسك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة، وإنما شرطوا فراغ الخطيب لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية، سواء صلى العيد أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا، ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي ونقل الطحاوي عن مالك والأوزاعي والشافعي: لا تجوز أضحية قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك والأوزاعي لا الشافعي، قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. وقال أبو حنيفة والليث: لا ذبح قبل الصلاة، ويجوز بعدها ولو لم يذبح الإمام، وهو خاص بأهل المصر، فأما أهل القرى والبوادي فيدخل وقت الأضحية في حقهم إذا طلع الفجر الثاني. وقال مالك: يذبحون إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم، فإن نحروا قبل أجزأهم. وقال عطاء وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال أحمد وإسحاق: إذا فرغ الإمام من الصلاة جازت الأضحية، وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها، ويحتمل أن يكون قوله: "حتى ينصرف" أي من الصلاة، كما في الروايات الأخر. وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه رفعه: "إنما الذبح بعد الصلاة" ووقع في حديث جندب عند مسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة من حديث البراء، أي حيث جاء فيه: "من ذبح قبل الصلاة" قال: لكن إن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزئ الأضحية في حق من لم يصل العيد، فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد

(10/21)


الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها في محل البحث. وتعقب بأنه قد وقع في صحيح مسلم في رواية أخرى "قبل أن يصلي أو نصلي" بالشك قال النووي: الأولى بالياء والثانية بالنون، وهو شك من الراوي، فعلى هذا إذا كان بلفظ: "يصلي" ساوى لفظ حديث البراء في تعليق الحكم بفعل الصلاة. قلت: وقد وقع عند البخاري في حديث جندب في الذبائح بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب العمدة، فإنه ساقه على لفظ مسلم، وهو ظاهر في اعتبار فعل الصلاة، فإن إطلاق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر، وأظهر من ذلك قوله: "قبل أن نصلي" بالنون، وكذا قوله: "قبل أن ننصرف" سواء قلنا من الصلاة أم من الخطبة. وادعى بعض الشافعية أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" أي بعد أن يتوجه من مكان هذا القول، لأنه خاطب بذلك من حضره فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذا من الصلاة والخطبة فليذبح أخرى، أي لا يعتد بما ذبحه ولا يخفى ما فيه. وأورد الطحاوي ما أخرجه مسلم من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمرهم أن يعيدوا" قال ورواه حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "أن رجلا ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة" وصححه ابن حبان. ويشهد لذلك قوله في حديث البراء "أن أول ما نصنع أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر" فإنه دال على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام. ويؤيده - من طريق النظر - أن الإمام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطا عن الناس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحر قبل أن يصلي لم يجزئه نحره، فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء. وقال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام لئلا يشتغل الناس بالذبح عن الصلاة. قوله: "فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله فعلت" أي ذبحت قبل الصلاة. ووقع عند مسلم من هذا الوجه "نسكت عن ابن لي" وقد تقدم توجيهه. قوله: "هي خير من مسنتين" كذا وقع هنا بالتثنية، وهي مبالغة. ووقع في رواية غيره: "من مسنة" بالإفراد وتقدم توجيهه أيضا. قوله: "قال عامر هي خير نسيكتيه" كذا فيه بالتثنية، وفيه ضم الحقيقة إلى المجاز بلفظ واحد، فإن النسيكة، هي التي أجزأت عنه وهي الثانية، والأولى لم تجز عنه، لكن أطلق عليها نسيكة لأنه نحرها على أنها نسيكة أو نحرها في وقت النسيكة، وإنما كانت خيرهما لأنها أجزأت عن الأضحية بخلاف الأولى، وفي الأولى خير في الجملة باعتبار القصد الجميل، ووقع عند مسلم من هذا الوجه "قال ضح بها فإنها خير نسيكة" ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار أنه استدل بتسميتها نسيكة على أنه لا يجوز بيعها ولو ذبحت قبل الصلاة، ولا يخفى وجه الضعف عليه.

(10/22)


13 - باب وَضْعِ الْقَدَمِ عَلَى صَفْحِ الذَّبِيحَةِ
5564- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة حدثنا أنس رضي الله عنه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ووضع رجله على صفحتهما ويذبحهما بيده".
قوله: "باب وضع القدم على صفح الذبيحة" ذكر فيه حديث أنس "ويضع رجله على صفحتهما" وقد تقدمت مباحثه قريبا.

(10/22)


14 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ
5565- حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع على رجله صفاحهما".
قوله: "باب التكبير عند الذبح" ذكر فيه حديث أنس أيضا، وقد تقدم أيضا.

(10/23)


15 - باب إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ
5566- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ "أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَجُلاً يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ فَلاَ يَزَالُ مِنْ ذَلِكِ الْيَوْمِ مُحْرِماً حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ قَالَ فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَقَالَتْ لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا حَلَّ لِلرِّجَالِ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ".
قوله: "باب إذا بعث بهديه ليذبح لم يحرم عليه شيء" ذكر فيه حديث عائشة، وقد تقدمت مباحثه في كتاب الحج. أحمد بن محمد شيخه هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك، وإسماعيل هو ابن أبي خالد. وقوله فيه: "إن رجلا يبعث بالهدي" هو زياد بن أبي سفيان، وقد تقدم نقله عن ابن عباس وغيره. وقوله: "فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب" أي ضربت إحدى يديها على الأخرى تعجبا أو تأسفا على وقوع ذلك. واستدل الداودي بقولها "هديه" على أن الحديث الذي روته ميمونة مرفوعا: " إذا دخل عشر ذي الحجة فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره" يكون منسوخا بحديث عائشة أو ناسخا. وقال ابن التين: ولا يحتاج إلى ذلك، لأن عائشة إنما أنكرت أن يصير من يبعث هديه محرما بمجرد بعثه، ولم تتعرض على ما يستحب في العشر خاصة من اجتناب إزالة الشعر والظفر. ثم قال: لكن عموم الحديث يدل على ما قال الداودي، وقد استدل به الشافعي على إباحة ذلك في عشر ذي الحجة.
قال: والحديث المذكور أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قلت: هو من حديث أم سلمة لا من حديث ميمونة، فوهم الداودي في النقل وفي الاحتجاج أيضا، فإنه لا يلزم من دلالته على عدم اشتراط ما يجتنبه المحرم على المضحي أنه لا يستحب فعل ما ورد به الخبر المذكور لغير المحرم، والله أعلم.

(10/23)


16 - باب مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا
5567- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ". وَقَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ: "لُحُومَ الْهَدْيِ".
5568- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ ابْنَ خَبَّابٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ

(10/23)


كتاب الأشربة
باب قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}
...
بسم الله الرحمن الرحيم
74 - كتاب الأشربة
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
5575- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ" .
5576- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ" .
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الْهَادِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ
5577- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثاً لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ" .
5578- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولاَنِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ" . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: "وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ" .
قوله: "كتاب الأشربة" وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ} " الآية، كذا لأبي ذر، وساق الباقون إلى {الْمُفْلِحُونَ} كذا ذكر الآية وأربعة أحاديث تتعلق بتحريم الخمر، وذلك أن الأشربة منها

(10/30)


ما يحل وما يحرم فينظر في حكم كل منهما ثم في الآداب المتعلقة بالشرب، فبدأ بتبيين المحرم منها لقلته بالنسبة إلى الحلال، فإذا عرف ما يحرم كان ما عداه حلالا، وقد بينت في تفسير المائدة الوقت الذي نزلت فيه الآية المذكورة وأنه كان في عام الفتح قبل الفتح، ثم رأيت الدمياطي في سيرته جزم بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست. وذكر ابن إسحاق أنه كان في واقعة بني النضير، وهي بعد وقعة أحد وذلك سنة أربع على الراجح، وفيه نظر لأن أنسا كما سيأتي في الباب الذي بعده كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك، وكأن المصنف لمح بذكر الآية إلى بيان السبب في نزولها، وقد مضى بيانه في تفسير المائدة أيضا من حديث عمر وأبي هريرة وغيرهما. وأخرج النسائي والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس أنه لما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان بي رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى {مُنْتَهُونَ} قال فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى {الْمُحْسِنِينَ} ووقعت هذه الزيادة في حديث أنس في البخاري كما مضى في المائدة، ووقعت أيضا في حديث البراء عند الترمذي وصححه، ومن حديث ابن عباس عند أحمد "لما حرمت الخمر قال ناس: يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها" وسنده صحيح. وعند البزار من حديث جابر أن الذي سأل عن ذلك اليهود، وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرته في تفسير المائدة نحو الأول، وزاد في آخره: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم" قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: يستفاد تحريم الخمر من هذه الآية من تسميتها رجسا. وقد سمي به ما أجمع على تحريمه وهو لحم الخنزير ومن قوله: "من عمل الشيطان" لأن مهما كان من عمل الشيطان حرم تناوله، ومن الأمر بالاجتناب وهو للوجوب وما وجب اجتنابه حرم تناوله، ومن الفلاح المرتب على الاجتناب، ومن كون الشرب سببا للعداوة والبغضاء بين المؤمنين وتعاطي ما يوقع ذلك حرام، ومن كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن ختام الآية بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ فإنه استفهام معناه الردع والزجر، ولهذا قال عمر لما سمعها: انتهينا انتهينا. وسبقه إلى نحو ذلك الطبري. وأخرجه الطبراني وابن مردويه وصححه الحاكم من طريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزل تحريم الخمر مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض فقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك" قيل: يشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية، فإن الأنصاب والأزلام من عمل المشركين بتزيين الشيطان، فنسب العمل إليه. قال أبو الليث السمرقندي: المعنى أنه لما نزل فيها أنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها عادلت قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . وذكر أبو جعفر النحاس أن بعضهم استدل لتحريم الخمر بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقد قال تعالى في الخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فلما أخبر أن في الخمر إثما كبيرا ثم صرح بتحريم الإثم ثبت تحريم الخمر بذلك، قال: وقول من قال إن الخمر تسمى الإثم لم نجد له أصلا في الحديث ولا في اللغة، ولا دلالة أيضا في قول الشاعر:

(10/31)


شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
فإنه أطلق الإثم على الخمر مجازا بمعنى أنه ينشأ عنها الإثم. واللغة الفصحى تأنيث الخمر، وأثبت أبو حاتم السجستاني وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير، ويقال لها الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري. وقال ابن مالك في المثلث: الخمرة هي الخمر في اللغة، وقيل: سميت الخمر لأنها تغطي العقل وتخامره أي تخالطه، أو لأنها هي تخمر أي تغطى حتى تغلي، أو لأنها تختمر أي تدرك كما يقال للعجين اختمر، أقوال سيأتي بسطها عند شرح قول عمر رضي الله عنه: "والخمر ما خامر العقل" إن شاء الله تعالى. الحديث الأول: حديث ابن عمر من طريق مالك عن نافع عنه وهو من أصح الأسانيد. قوله: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة" حرمها بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان، زاد مسلم عن القعنبي عن مالك في آخره: "لم يسقها"، وله من طريق أيوب عن نافع بلفظ: " فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة" وزاد مسلم في أول الحديث مرفوعا: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" وأورد هذه الزيادة مستقلة أيضا من رواية موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع، وسيأتي الكلام عليها في "باب الخمر من العسل" ويأتي كلام ابن بطال فيها في آخر هذا الباب. وقوله: "ثم لم يتب منها " أي من شربها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قال الخطابي والبغوي في "شرح السنة": معنى الحديث لا يدخل الجنة، لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة. وقال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون. فلو دخلها - وقد علم أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له - لزم وقوع الهم والحزن في الجنة، ولا هم فيها ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم: إنه لا يدخل الجنة أصلا، قال: وهو مذهب غير مرضي، قال: ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة، فعلى هذا فمعنى الحديث: جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه. قال: وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها، ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" قلت: أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان. وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة" أخرجه أحمد بسند حسن، وقد لخص عياض كلام ابن عبد البر وزاد احتمالا آخر وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر "لم يرح رائحة الجنة" قال: ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه، بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من هو أتم نعيما منه كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذ بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطا له. وقال ابن العربي: ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته، كالوارث فإنه إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه لاستعجاله. وبهذا قال نفر من الصحابة ومن العلماء، وهو موضع احتمال وموقف إشكال، والله أعلم كيف يكون الحال. وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلا

(10/32)


فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها، وبين من يشربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف، وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب، أو المعنى أن ذلك جزاؤه إن جوزي والله أعلم. وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني. قال النووي: الأقوى أنه ظني. وقال القرطبي: من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا. وللتوبة الصادقة شروط سيأتي البحث فيها في كتاب الرقاق، ويمكن أن يستدل بحديث الباب على صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعض، وسيأتي تحقيق ذلك. وفيه أن الوعيد يتناول من شرب الخمر وإن لم يحصل له السكر، لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير قيد، وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب وكذا فيما يسكر من غيرها، وأما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور كما سيأتي بيانه، ويؤخذ من قوله: "ثم لم يتب منها" أن التوبة مشروعة في جميع العمر ما لم يصل إلى الغرغرة، لما دل عليه "ثم" من التراخي، وليس المبادرة إلى التوبة شرطا في قبولها، والله أعلم. الحديث الثاني: حديث أبي هريرة. قوله: "بإيلياء" بكسر الهمز وسكون التحتانية وكسر اللام وفتح التحتانية الخفيفة مع المد: هي مدينة بيت المقدس، وهو ظاهر في أن عرض ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وقع وهو في بيت المقدس، لكن وقع في رواية الليث التي تأتي الإشارة إليها "إلى إيلياء" وليست صريحة في ذلك، لجواز أن يريد تعيين ليلة الإيتاء لا محله، وقد تقدم بيان ذلك مع بقية شرحه في أواخر الكلام على حديث الإسراء قبل الهجرة إلى المدينة. وقوله فيه: "ولو أخذت الخمر غوت أمتك" هو محل الترجمة قال ابن عبد البر(1): يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم نفر من الخمر لأنه تفرس أنها ستحرم لأنها كانت حينئذ مباحة، ولا مانع من افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرم والآخر تستمر إباحته. قلت: ويحتمل أن يكون نفر منها لكونه لم يعتد شربها فوافق بطبعه ما سيقع من تحريمها بعد، حفظا من الله تعالى له ورعاية، واختار اللبن لكونه مألوفا له، سهلا طيبا طاهرا، سائغا للشاربين، سليم العاقبة، بخلاف الخمر في جميع ذلك. والمراد بالفطرة هنا الاستقامة على الدين الحق. وفي الحديث مشروعية الحمد عند حصول ما يحمد ودفع ما يحذر. وقوله: "غوت أمتك" يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفأل، أو تقدم عنده علم بترتب كل من الأمرين وهو أظهر. قوله: "تابعه معمر وابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري" يعني بسنده. ووقع في غير رواية أبي ذر زيادة الزبيدي مع المذكورين بعد عثمان بن عمر، فأما متابعة معمر فوصلها المؤلف في قصة موسى من أحاديث الأنبياء، وأول الحديث ذكر موسى وعيسى وصفتهما، وليس فيه ذكر إيلياء، وفيه: "اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته" . وأما رواية ابن الهاد - وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي ينسب لجد أبيه - فوصلها النسائي وأبو عوانة والطبراني في "الأوسط" من طريق الليث عنه عن عبد الوهاب بن بخت عن ابن شهاب وهو الزهري، قال الطبراني: تفرد به يزيد بن الهاد عن عبد الوهاب، فعلى هذا فقد سقط ذكر عبد الوهاب من الأصل بين ابن الهاد وابن شهاب، على أن ابن الهاد قد روى عن الزهري أحاديث غير هذا بغير واسطة، منها ما تقدم في تفسير المائدة قال البخاري فيه: "وقال يزيد بن الهاد عن الزهري" فذكره، ووصله أحمد وغيره من طريق ابن الهاد عن
ـــــــ
(1) في نسخة أخرى "قال ابن المنير".

(10/33)


الزهري بغير واسطة. وأما رواية الزبيدي فوصلها النسائي وابن حبان والطبراني في "مسند الشاميين" من طريق محمد بن حرب عنه لكن ليس فيه ذكر إيلياء أيضا. وأما رواية عثمان بن عمر فوصلها "تمام الرازي في فوائده" من طريق إبراهيم بن المنذر عن عمر بن عثمان عن أبيه عن الزهري به. وأما ما ذكره المزي في "الأطراف" عن الحاكم أنه قال: أراد البخاري بقوله: "تابعه ابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري" حديث ابن الهاد عن عبد الوهاب وحديث عثمان بن عمر بن فارس عن يونس كلاهما عن الزهري. قلت: وليس كما زعم الحاكم وأقره المزي في عثمان بن عمر، فإنه ظن أنه عثمان بن عمر بن فارس الراوي عن يونس بن يزيد، وليس به، وإنما هو عثمان بن عمر بن موسى بن عبد الله بن عمر التيمي، وليس لعثمان بن عمر بن فارس ولد اسمه عمر يروي عنه، وإنما هو ولد التيمي كما ذكرته من "فوائد تمام" وهو مدني، وقد ذكر عثمان الدارمي أنه سأل يحيى بن معين عن عمر بن عثمان بن عمر المدني عن أبيه عن الزهري فقال: لا أعرفه ولا أعرف أباه. قلت: وقد عرفهما غيره، وذكر الزبير بن بكار في النسب عن عثمان المذكور فقال: إنه ولي قضاء المدينة في زمن مروان بن محمد، ثم ولي القضاء للمنصور ومات معه بالعراق وذكره ابن حبان في الثقات، وأكثر الدار قطني من ذكره في "العلل" عند ذكره للأحاديث التي تختلف رواتها عن الزهري، وكثيرا ما ترجح روايته عن الزهري، والله أعلم. الحديث الثالث: حديث أنس. قوله: "هشام" هو الدستوائي. قوله: "لا يحدثكم به غيري" كأن أنسا حدث به في أواخر عمره فأطلق ذلك، أو كان يعلم أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان قد مات. قوله: "وتشرب الخمر" في رواية الكشميهني: "وشرب الخمر" بالإضافة، ورواية الجماعة أولى للمشاكلة. قوله: "حتى يكون لخمسين" في رواية الكشميهني: "حتى يكون خمسون امرأة قيمهن رجل واحد" وسبق شرح الحديث مستوفى في كتاب العلم، والمراد أن من أشراط الساعة كثرة شرب الخمر كسائر ما ذكر في الحديث. الحديث الرابع: حديث أبي هريرة "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وقع في أكثر الروايات هنا "لا يزني حين يزني " بحذف الفاعل، فقدر بعض الشراح الرجل أو المؤمن أو الزاني، وقد بينت هذه الرواية تعيين الاحتمال الثالث. قوله: "ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" قال ابن بطال: هذا أشد ما ورد في شرب الخمر، وبه تعلق الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة عامدا عالما بالتحريم، وحمل أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي، ويحتمل أن يكون المراد أن فاعل ذلك يئول أمره إلى ذهاب الإيمان، كما وقع في حديث عثمان الذي أوله " اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث - وفيه - وإنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه " أخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا، وصححه ابن حبان مرفوعا. قال ابن بطال: وإنما أدخل البخاري هذه الأحاديث المشتملة على الوعيد الشديد في هذا الباب ليكون عوضا عن حديث ابن عمر "كل مسكر حرام" وإنما لم يذكره في هذا الباب لكونه روي موقوفا، كذا قال، وفيه نظر، لأن في الوعيد قدرا زائدا على مطلق التحريم، وقد ذكر البخاري ما يؤدي معنى حديث ابن عمر كما سيأتي قريبا. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "إن أبا بكر أخبره" هو والد عبد الملك شيخ ابن شهاب فيه. قوله: "ثم يقول كان أبو بكر" هو ابن عبد الرحمن المذكور، والمعنى أنه كان يزيد ذلك في حديث أبي هريرة، وقد مضى بيان ذلك عند ذكر شرح الحديث في كتاب المظالم، ويأتي مزيد لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.

(10/34)


2 - باب الْخَمْرُ مِنْ الْعِنَبِ وغيرِه
5579- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ".
5580- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ".
5581- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ".
قوله: "باب الخمر من العنب وغيره" كذا في شرح ابن بطال، ولم أر لفظ: "وغيره" في شيء من نسخ الصحيح ولا المستخرجات ولا الشروح سواه. قال ابن المنير: غرض البخاري الرد على الكوفيين إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره فلم يحرموا من غيره إلا القدر المسكر خاصة، وزعموا أن الخمر ماء العنب خاصة، قال: لكن في استدلاله بقول ابن عمر - يعني الذي أورده في الباب: "حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" - على أن الأنبذة التي كانت يومئذ تسمى خمرا نظر، بل هو بأن يدل على أن الخمر من العنب خاصة أجدر، لأنه قال: وما منها بالمدينة شيء - يعني الخمر - وقد كانت الأنبذة من غير العنب موجودة حينئذ بالمدينة، فدل على أن الأنبذة ليست خمرا، إلا أن يقال إن كلام ابن عمر يتنزل على جواب قول من قال لا خمر إلا من العنب، فيقال: قد حرمت الخمر وما بالمدينة من خمر العنب شيء، بل كان الموجود بها من الأشربة ما يصنع من البسر والتمر ونحو ذلك، وفهم الصحابة من تحريم الخمر تحريم ذلك كله، ولولا ذلك ما بادروا إلى إراقتها. قلت: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بهذه الترجمة وما بعدها أن الخمر يطلق على ما يتخذ من عصير العنب، ويطلق على نبيذ البسر والتمر، ويطلق على ما يتخذ من العسل، فعقد لكل واحد منها بابا، ولم يرد حصر التسمية في العنب، بدليل ما أورده بعده. ويحتمل أن يريد بالترجمة الأولى الحقيقة وبما عداها المجاز، والأول أظهر من تصرفه. وحاصله أنه أراد بيان الأشياء التي وردت فيها الأخبار على شرطه لما يتخذ منه الخمر، فبدأ بالعنب لكونه المتفق عليه، ثم أردفه بالبسر والتمر، والحديث الذي أورده فيه عن أنس ظاهر في المراد جدا، ثم ثلث بالعسل إشارة إلى أن ذلك لا يختص بالتمر والبسر، ثم أتى بترجمة عامة لذلك وغيره وهي "الخمر ما خامر العقل" والله أعلم. وفيه إشارة إلى ضعف الحديث الذي جاء عن أبي هريرة مرفوعا: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" أو أنه ليس المراد به الحصر فيهما، والمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد فإنه يحرم تناول قليله وكثيره بالاتفاق. وحكى ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عنها للكراهة، وهو قول مهجور لا يلتفت إلى قائله. وحكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ليس بحرام، قال: وهذا عظيم من القول يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه، ولو كان

(10/35)


مستند الخلاف واهيا. ونقل الطحاوي في "اختلاف العلماء" عن أبي حنيفة: الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام وليس كتحريم الخمر، والنبيذ المطبوخ لا بأس به من أي شيء كان، وإنما يحرم منه القدر الذي يسكر. وعن أبي يوسف: لا بأس بالنقيع من كل شيء وإن غلا إلا الزبيب والتمر، قال: وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة. وعن محمد: ما أسكر كثيره فأحب إلي أن لا أشربه ولا أحرمه. وقال الثوري: أكره نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا غلى، ونقيع العسل لا بأس به. قوله: "حدثني الحسن بن صباح" هو البزار آخره راء، ومحمد بن سابق من شيوخ البخاري، وقد يحدث عنه بواسطة كهذا. قوله: "حدثنا مالك هو ابن مغول" كان شيخ البخاري حدث به فقال: "حدثنا مالك" ولم ينسبه فنسبه هو لئلا يلتبس بمالك بن أنس، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث المذكور من طريق محمد بن إسحاق الصغاني عن محمد بن سابق فقال: "عن مالك بن مغول". قوله: "وما بالمدينة منها شيء" يحتمل أن يكون ابن عمر نفى ذلك بمقتضى ما علم، أو أراد المبالغة من أجل قلتها حينئذ بالمدينة فأطلق النفي، كما يقال فلان ليس بشيء مبالغة، ويؤيده قول أنس المذكور في الباب: "وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا" ويحتمل أن يكون مراد ابن عمر وما بالمدينة منها شيء أي يعصر، وقد تقدم في تفسير المائدة من وجه آخر عن ابن عمر قال: "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب" وحمل على ما كان يصنع بها لا على ما يجلب إليها. وأما قول عمر في ثالث أحاديث الباب: "نزل تحريم الخمر وهي من خمسة" فمعناه أنها كانت حينئذ تصنع من الخمسة المذكورة في البلاد، لا في خصوص المدينة كما سيأتي تقريره بعد بابين مع شرحه. قوله: "عن يونس" هو ابن عبيد البصري. قوله: "وعامة خمرنا البسر والتمر" أي النبيذ الذي يصير خمرا كان أكثر ما يتخذ من البسر والتمر. قال الكرماني: قوله: "البسر والتمر" مجاز عن الشراب الذي يصنع منهما، وهو عكس "إني أراني أعصر خمرا" أو فيه حذف تقديره عامة أصل خمرنا أو مادته، وسيأتي في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أنس قال: "إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر" وتقرير الحذف فيه ظاهر. وأخرج النسائي وصححه الحاكم من رواية محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزبيب والتمر هو الخمر" وسنده صحيح، وظاهره الحصر لكن المراد المبالغة، وهو بالنسبة إلى ما كان حينئذ بالمدينة موجودا كما تقرر في حديث أنس، وقيل: مراد أنس الرد على من خص اسم الخمر بما يتخذ من العنب، وقيل: مراده أن التحريم لا يختص بالخمر المتخذة من العنب بل يشركها في التحريم كل شراب مسكر، وهذا أظهر والله أعلم. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي، وعامر هو الشعبي. قوله: "قام عمر على المنبر فقال: أما بعد نزل تحريم الخمر" ساقه من هذا الوجه مختصرا، وسيأتي بعد قليل مطولا. قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاء في جواب "أما بعد". قلت: لا حجة فيه، لأن هذه رواية مسدد هنا، وسيأتي قريبا عن أحمد بن أبي رجاء عن يحيى القطان بلفظ: "خطب عمر على المنبر فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر" ليس فيه: "أما بعد" وأخرجه الإسماعيلي هنا من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن يحيى بن سعيد القطان شيخ مسدد وفيه بلفظ: "أما بعد فإن الخمر" فظهر أن حذف الفاء وإثباتها من تصرف الرواة.

(10/36)


3 - باب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ
5582- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ

(10/36)


عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا".
5583- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً قَالَ كُنْتُ قَائِماً عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ الْفَضِيخَ فَقِيلَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فَقَالُوا أَكْفِئْهَا فَكَفَأْتُهَا قُلْتُ لِأَنَسٍ مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ".
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ".
5584- حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ
قوله: "باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر" أي تصنع أو تتخذ، وذكر فيه حديث أنس من رواية إسحاق بن أبي طلحة عنه أتم سياقا من رواية ثابت عنه المتقدمة في الباب قبله. قوله: "كنت أسقي أبا عبيدة" هو ابن الجراح، "وأبا طلحة" هو زيد بن سهل زوج أم سليم أم أنس، "وأبي بن كعب"، كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة، فأما أبو طلحة فلكون القصة كانت في منزله كما مضى في التفسير من طريق ثابت عن أنس "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة" وأما أبو عبيدة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين أبي طلحة كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأما أبي بن كعب فكان كبير الأنصار وعالمهم. ووقع في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة "إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا" كذا وقع بالإبهام، وسمى في رواية مسلم منهم أبا أيوب، وسيأتي بعد أبواب من رواية هشام عن قتادة عن أنس "إني كنت لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل ابن بيضاء" وأبو دجانة بضم الدال المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات، ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه وسمى فيهم معاذ بن جبل، ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس "كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء ونفرا من الصحابة عند أبي طلحة" ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه: "كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي" وقوله عمومتي في موضع خفض على البدل من قوله: "الحي" وأطلق عليهم عمومته لأنهم كانوا أسن منه ولأن أكثرهم من الأنصار. ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم، وهو منكر مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطا. وقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت: "حرم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام" ويحتمل إن كان محفوظا أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم. ثم وجدت عند البزار من وجه آخر عن أنس قال: "كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال له

(10/37)


أبو بكر، فلما شرب قال: "تحيى بالسلامة أم بكر" الأبيات، فدخل علينا رجل من المسلمين فقال: قد نزل تحريم الخمر" الحديث. وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب، فظن بعضهم أنه أبو بكر الصديق، وليس كذلك، لكن قرينة ذكر عمر تدل على عدم الغلط في وصف الصديق، فحصلنا تسمية عشرة، وقد قدمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شغوب المذكور. وفي "كتاب مكة، للفاكهي" من طريق مرسل ما يشيد ذلك. قوله: "من فضيخ زهو وتمر" أما الفضيخ فهو بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم: اسم للبسر إذا شدخ ونبذ، وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو: وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب. وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده وعلى التمر وحده كما في الرواية التي آخر الباب. وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس "وما خمرهم يومئذ إلا البسر والتمر مخلوطين" ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس "أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر". قوله: "فجاءهم آت" لم أقف على اسمه، ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد بعد قوله: "أسقيهم": "حتى كاد الشراب يأخذ فيهم" ولابن مردويه "حتى أسرعت فيهم" ولابن أبي عاصم "حتى مالت رءوسهم، فدخل داخل" ومضى في المظالم من طريق ثابت عن أنس "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى" ولمسلم من هذا الوجه "فإذا مناد ينادي أن الخمر قد حرمت" وله من رواية سعيد عن قتادة عن أنس نحوه وزاد: "فقال أبو طلحة: أخرج فانظر ما هذا الصوت" ومضى في التفسير من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ: "إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: قد حرمت الخمر" وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو المنادي، ويحتمل أن يكون غيره سمع المنادي فدخل إليهم فأخبرهم. وقد أخرج ابن مردويه من طريق بكر بن عبد الله عن أنس قال: "لما حرمت الخمر وحلف على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم، فضربتها برجلي وقلت: نزل تحريم الخمر" فيحتمل أن يكون أنس خرج فاستخبر الرجل، لكن أخرجه من وجه آخر أن الرجل قام على الباب فذكر لهم تحريمها، ومن وجه آخر "أتانا فلان من عند نبينا فقال: قد حرمت الخمر، قلنا: ما تقول؟ فقال: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، ومن عنده أتيتكم". قوله: "فقال أبو طلحة: قم يا أنس، فهرقها" بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف، والأصل أرقها، فأبدلت الهمزة هاء، وكذا قوله: "فهرقتها" وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معا وهو نادر، وقد تقدم بسطه في الطهارة. ووقع في رواية ثابت عن أنس في التفسير بلفظ: "فأرقها"، ومن رواية عبد العزيز بن صهيب "فقالوا أرق هذه القلال يا أنس" وهو محمول على أن المخاطب له بذلك أبو طلحة، ورضي الباقون بذلك فنسب الأمر بالإراقة إليهم جميعا. ووقع في الرواية الثانية في الباب: "أكفئها" بكسر الفاء مهموز بمعنى أرقها، وأصل الإكفاء الإمالة. ووقع في "باب إجازة خبر الواحد" من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث: "قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت" وهذا لا ينافي الروايات الأخرى بل يجمع بأنه أراقها وكسر أوانيها، أو أراق بعضا وكسر بعضا. وقد ذكر ابن عبد البر أن إسحاق بن أبي طلحة تفرد عن أنس بذكر الكسر، وأن ثابتا وعبد العزيز بن صهيب وحميدا وعد جماعة من الثقات رووا الحديث بتمامه عن أنس منهم من طوله ومنهم من اختصره، فلم يذكروا إلا إراقتها. والمهراس بكسر الميم وسكون الهاء وآخره مهملة إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيرا كالحوض وقد يكون صغيرا بحيث يتأتى الكسر به، وكأنه لم يحضره ما

(10/38)


يكسر به غيره، أو كسر بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون فأطلق اسمه عليها مجازا. ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد " فوالله ما قالوا حتى ننظر ونسأل " وفي رواية عبد العزيز بن صهيب في التفسير "فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل" ووقع في المظالم "فجرت في سكك المدينة" أي طرقها، وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها. قال القرطبي تمسك بهذه الزيادة بعض من قال إن الخمر المتخذة من غير العنب ليست نجسة لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التخلي في الطرق، فلو كانت نجسة ما أقرهم على إراقتها في الطرقات حتى تجري. والجواب أن القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار، ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال: "فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي". والتمسك بعموم الأمر باجتنابها كاف في القول بنجاستها. قوله: "قلت لأنس" القائل هو سليمان التيمي والد معتمر، وقوله: "فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرهم" زاد مسلم من هذا الوجه "يومئذ" وقوله: "فلم ينكر أنس" زاد مسلم: "ذلك" والمعنى أن أبا بكر بن أنس كان حاضرا عند أنس لما حدثهم فكأن أنسا حينئذ لم يحدثهم بهذه الزيادة إما نسيانا وإما اختصارا، فذكره بها ابنه أبو بكر فأقره عليها، وقد ثبت تحديث أنس بها كما سأذكره. قوله: "وحدثني بعض أصحابي" القائل هو سليمان التيمي أيضا، وهو موصول بالسند المذكور، وقد أفرد مسلم هذه الطريق عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنسا يقول: "كان خمرهم يومئذ" فيحتمل أن يكون أنس حدث بها حينئذ فلم يسمعه سليمان، أو حدث بها في مجلس آخر فحفظها عنه الرجل الذي حدث بها سليمان، وهذا المبهم يحتمل أن يكون هو بكر بن عبد الله المزني، فإن روايته في آخر الباب تومئ إلى ذلك. ويحتمل أن يكون قتادة، فسيأتي بعد أبواب من طريقه عن أنس بلفظ: "وإنا نعدها يومئذ الخمر" وهو من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر، سواء كان من العنب أو من نقيع الزبيب أو التمر أو العسل أو غيرها. وأما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والكوفيون لا يقولون بذلك انتهى. وأما من حيث الشرع فالخمر حقيقة في الجميع، لثبوت حديث: "كل مسكر خمر" فمن زعم أنه جمع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ لزمه أن يجيزه، وهذا ما لا انفكاك لهم عنه. قوله: "حدثني يوسف" هو ابن يزيد، وهو أبو معشر البراء بالتشديد، وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، ويقال له أيضا القطان وشهرته بالبراء أكثر، وكان يبري السهام؛ وهو بصرى، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر سيأتي في الطب وكلاهما في المتابعات، وقد لينه ابن معين وأبو داود، ووثقه المقدمي، وسعيد بن عبيد الله بالتصغير اسم جده جبير بالجيم والموحدة مصغرا ابن حية بالمهملة وتشديد التحتانية وثقه أحمد وابن معين. وقال الحاكم عن الدار قطني: ليس بالقوي، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في الجزية. قوله: "أن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر" هكذا رواه أبو معشر مختصرا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن عبيد الله بهذا السند مطولا ولفظه عن أنس "نزل تحريم الخمر، فدخلت على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم فضربتها برجلي فقلت: انطلقوا فقد نزل تحريم الخمر، وشرابهم

(10/39)


يومئذ البسر والتمر" وهذا الفعل من أنس كأنه بعد أن خرج فسمع النداء بتحريم الخمر، فرجع فأخبرهم. ووقع عند ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أنس "فأراقوا الشراب وتوضأ بعض واغتسل بعض، وأصابوا من طيب أم سليم وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. واستدل بهذا الحديث على أن شرب الخمر كان مباحا لا إلى نهاية، ثم حرمت. وقيل: كان المباح الشرب لا السكر المزيل للعقل، وحكاه أبو نصر بن القشيري في تفسيره عن القفال، ونازعه فيه. وبالغ النووي في "شرح مسلم" فقال: ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن السكر لم يزل محرما باطل لا أصل له، وقد قال الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فإن مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور، ونهوا عن الصلاة في تلك الحالة لا في غيرها، فدل على أن ذلك كان واقعا. ويؤيده قصة حمزة والشارفين كما تقدم تقريره في مكانه. وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع ثم نسخت؟ فيه قولان للعلماء، والراجح الأول، واستدل به على أن المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، وسيأتي البحث في ذلك قريبا في "باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل" وعلى أن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره، لأن الصحابة فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع، ولم يستفصلوا. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. وخالف في ذلك الحنفية ومن قال بقولهم من الكوفيين فقالوا: يحرم المتخذ من العنب قليلا كان أو كثيرا إلا إذا طبخ على تفصيل سيأتي بيانه في باب مفرد، فإنه يحل. وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، فيلزم ذلك من فرق في الحكم بين المتخذ من العنب وبين المتخذ من غيرها فقال في المتخذ من العنب: يحرم القليل منه والكثير إلا إذا طبخ كما سيأتي بيانه، وفي المتخذ من غيرها لا يحرم منه إلا القدر الذي يسكر وما دونه لا يحرم، ففرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم مع اتحاد العلة فيهما، فإن كل قدر في المتخذ من العنب يقدر في المتخذ من غيرها، قال القرطبي: وهذا من أرفع أنواع القياس لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه، مع موافقته فيه لظواهر النصوص الصحيحة، والله أعلم. قال الشافعي: قال لي بعض الناس الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر، ولا يحد شاربها. فقلت: كيف خالفت ما جاء به عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن عمر ثم عن علي ولم يقل أحد من الصحابة خلافه؟ قال: وروينا عن عمر، قلت: في سنده مجهول عنده فلا حجة فيه. قال البيهقي: أشار إلى رواية سعيد بن ذي لعوة أنه شرب من سطيحة لعمر فكسر فجلده عمر، قال: إنما شربت من سطيحتك. قال: أضربك على السكر. وسعيد قال البخاري وغيره: لا يعرف. قال: وقال بعضهم سعيد بن ذي حدان، وهو غلط. ثم ذكر البيهقي الأحاديث التي جاءت في كسر النبيذ بالماء، منها حديث همام بن الحارث عن عمر "أنه كان في سفر، فأتي بنبيذ فشرب منه فقطب، ثم قال: إن نبيذ الطائفة له عرام - بضم المهملة وتخفيف الراء - ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب" وسنده قوي، وهو أصح شيء ورد في ذلك، وليس نصا في أنه بلغ حد الإسكار، فلو كان بلغ حد الإسكار لم يكن صب الماء عليه مزيلا لتحريمه، وقد اعترف الطحاوي بذلك فقال: لو كان بلغ التحريم لكان لا يخل، ولو ذهبت شدته بصب الماء، فثبت أنه قبل أن يصب عليه الماء كان غير حرام. قلت: وإذا لم يبلغ حد الإسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله وكثيره،

(10/40)


فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار. قال البيهقي: حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد، فجوزوا صب الماء فيها ليمتنع الاشتداد، أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك. لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار. ويحتمل أن يكون سبب صب الماء كون ذلك الشراب كان حمض، ولهذا قطب عمر لما شربه، فقد قال نافع: والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه، ولكنه كان تخلل. وعن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل، قلت: وهذا الثاني أخرجه النسائي بسند صحيح، وروى الأثرم عن الأوزاعي وعن العمري أن عمر إنما كسره بالماء لشدة حلاوته. قلت: ويمكن الحمل على حالتين: هذه لما لم يقطب حين ذاقه وأما عندما قطب فكان لحموضته. واحتج الطحاوي لمذهبهم أيضا بما أخرجه من طريق النخعي عن علقمة عن ابن مسعود في قوله: "كل مسكر حرام" قال: هي الشربة التي تسكر. وتعقب بأنه ضعيف لأنه تفرد به حجاج بن أرطاة عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي وحجاج هو ضعيف ومدلس أيضا. قال البيهقي: ذكر هذا لعبد الله بن المبارك فقال: هذا باطل. وروى بسند له صحيح عن النخعي قال: إذا سكر من شراب لم يحل له أن يعود فيه أبدا. قلت: وهذا أيضا عند النسائي بسند صحيح ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله. وأخرج النسائي والأثرم من طريق خالد بن سعد عن أبي مسعود قال: عطش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فأتي بنبيذ من السقاية فقطب، فقيل: أحرام هو؟ قال لا: علي بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه وشرب" قال الأثرم: احتج به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجة فيه، لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد بغير طبخ لا يحل شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر، ومعاذ الله من ذلك. وإن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة، لأن النقيع ما لم يشتد فكثيره وقليله حلال بالاتفاق. قلت: وقد ضعف حديث أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، لتفرد يحيى بن يمان برفعه وهو ضعيف. ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله.

(10/41)


4 - باب الْخَمْرُ مِنْ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ
وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْفُقَّاعِ. فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلاَ بَأْسَ. وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ: سَأَلْنَا عَنْهُ، فَقَالُوا: لاَ يُسْكِرُ، لاَ بَأْسَ بِهِ.
5585- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" .
5586- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ وهو نبيذ العسل. وكان أهل اليمن يشربونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شراب أسكر فهو حرام" .
5587- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لاَ تَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلاَ فِي الْمُزَفَّتِ" . وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ".

(10/41)


قوله: "باب الخمر من العسل" وهو البتع بكسر الموحدة وسكون الشاة وقد تفتح وهي لغة يمانية. قوله: "وقال معن" ابن عيسى "سألت مالك بن أنس عن الفقاع" بضم الفاء وتشديد القاف معروف قد يصنع من العسل وأكثر ما يصنع من الزبيب وحكمه حكم سائر الأنبذة ما دام طريا يجوز شربه ما لم يشتد. قوله: "فقال: إذا لم يسكر فلا بأس به" أي وإذا أسكر حرم كثيره وقليله. قوله: "وقال ابن الدراوردي" هو عبد العزيز بن محمد، وهذا من رواية معن بن عيسى عنه أيضا. قوله: "فقالوا: لا يسكر لا بأس به" لم أعرف الذين سألهم الدراوردي عن ذلك لكن الظاهر أنهم فقهاء أهل المدينة في زمانه وهو قد شارك مالكا في لقاء أكثر مشايخه المدنيين. والحكم في الفقاع ما أجابوه به لأنه لا يسمى فقاعا إلا إذا لم يشتد. وهذا الأثر ذكره معن بن عيسى القزاز في الموطأ رواية عن مالك وقد وقع لنا بالإجازة وغفل بعض الشراح فقال أن معن بن عيسى من شيوخ البخاري فيكون له حكم الاتصال كذا قال والبخاري لم يلق معن بن عيسى لأنه مات بالمدينة والبخاري حينئذ ببخارى وعمره حينئذ أربع سنين وكأن البخاري أراد بذكر هذا الأثر في الترجمة أن المراد بتحريم قليل ما أسكر كثيره أن يكون الكثير في تلك الحالة مسكرا فلو كان الكثير في تلك الحالة لا يسكر لم يحرم قليله ولا كثيرة كما لو عصر العنب وشربه في الحال وسيأتي مزيد في بيان ذلك في "باب البازق" إن شاء الله تعالى. قوله: "سئل عن البتع" زاد شعيب عن الزهري وهو ثاني أحاديث الباب: "وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه" ومثله لأبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري، وظاهره أن التفسير من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون من كلام من دونها، ووقع في رواية معمر عن الزهري عند أحمد مثل رواية مالك، لكن قال في آخره: "والبتع نبيذ العسل" وهو أظهر في احتمال الإدراج. لأنه أكثر ما يقع في آخر الحديث. وقد أخرجه مسلم من طريق معمر لكن لم يسق لفظه، ولم أقف على اسم السائل في حديث عائشة صريحا، لكنني أظنه أبا موسى الأشعري، فقد تقدم في المغازي من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه "عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها فقال: ما هي؟ قال: البتع والمزر، فقال: كل مسكر حرام. قلت لأبي بردة: ما البتع؟ قال: نبيذ العسل" وهو عند مسلم من وجه آخر عن سعيد بن أبي بردة بلفظ: "فقلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر من الشعير والذرة ينبذ حتى يشتد، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم وخواتمه، فقال: أنهى عن كل مسكر" وفي رواية أبي داود التصريح بأن تفسير البتع مرفوع ولفظه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل، فقال: ذاك البتع، قلت: ومن الشعير والذرة، قال: ذاك المزر. ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام" وقد سأل أبو وهب الجيشاني عن شيء ما سأله أبو موسى، فعند الشافعي وأبي داود من حديثه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المزر فأجاب بقوله: "كل مسكر حرام" وهذه الرواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب: "كل شراب أسكر" وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار، بل المراد أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه. ويؤخذ من لفظ السؤال أنه وقع عن حكم جنس البتع لا عن القدر المسكر منه، لأنه لو أراد السائل ذلك لقال: أخبرني عما يحل منه وما يحرم، وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا: هل هذا نافع أو ضار؟ مثلا. وإذا سألوا عن القدر قالوا: كم يؤخذ منه؟ وفي الحديث أن المفتي يجيب السائل بزيادة عما سأل عنه إذا كان ذلك مما

(10/42)


يحتاج إليه السائل. وفيه تحريم كل مسكر سواء كان متخذا من عصير العنب أو من غيره، قال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره انتهى. وما ذكره استنباطا ثبت التصريح به في بعض طرق الخبر، فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسكر كثيره فقليله حرام" وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا "كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال: اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم أراد به ما يقع السكر عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلا حتى يقتل، قال: ويدل له حديث ابن عباس رفعه: "حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" . قلت: وهو حديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ: "والمسكر" بضم الميم وسكون السين لا "السكر" بضم ثم سكون أو بفتحتين، وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها؟ وجاء أيضا عن علي عند الدار قطني وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني وعن خوات بن جبير عند الدار قطني والحاكم والطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني وفي أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة. قال أبو المظفر بن السمعاني - وكان حنفيا فتحول شافعيا -: ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرا منها ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع. قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب ورووا أخبارا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا. وقد روى ثمامة بن حزن القشيري أنه "سأل عائشة عن النبيذ فدعت جارية حبشية فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكؤه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه" أخرجه مسلم. وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه ثم قال: فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة وفي الخمر رقة وصفاء لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ لحصول السكر كما تحتمل المرارة في الخمر لطلب السكر، قال: وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن القياس والله أعلم. وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة شيء ولا عن التابعين، إلا عن إبراهيم النخعي، قال: وقد ثبت حديث عائشة "كل شراب أسكر فهو حرام" وأما ما أخرج

(10/43)


ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل: كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا، ومن طريق علقمة: أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين فشربوا منه، فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لو حمل على ظاهره لم يكن معارضا للأحاديث الثابتة في تحريم كل مسكر. ثانيها: أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر قليله وكثيره، فإذا اختلف القليل عنه كان الموافق لقول إخوانه من الصحابة مع موافقة الحديث المرفوع أولى. ثالثها: يحتمل أن يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة أو شدة الحموضة فلا يكون فيه حجة أصلا. وأسند أبو جعفر النحاس عن يحيى بن معين أن حديث عائشة "كل شراب أسكر فهو حرام" أصح شيء في الباب، وفي هذا تعقب على من نقل عن ابن معين أنه قال: لا أصل له. وقد ذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وهو من أكثرهم إطلاعا أنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث نفل هذا عن ابن معين اهـ. وكيف يتأتى القول بتضعيفه مع وجود مخارجه الصحيحة ثم مع كثرة طرقه، حتى قال الإمام أحمد: إنها جاءت عن عشرين صحابيا، فأورد كثيرا منها في "كتاب الأشربة" المفرد، فمنها ما تقدم ومنها حديث ابن عمر المتقدم ذكره أول الباب، وحديث عمر بلفظ: "كل مسكر حرام" عند أبي يعلى وفيه الإفريقي، وحديث علي بلفظ: "اجتنبوا ما أسكر" عند أحمد وهو حسن، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه من طريق لين بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر لين أيضا بلفظ علي، وحديث أنس أخرجه أحمد بسند صحيح بلفظ: "ما أسكر فهو حرام " وحديث أبي سعيد أخرجه البزار بسند صحيح بلفظ عمر، وحديث الأشج العصري أخرجه أبو يعلى كذلك بسند جيد وصححه ابن حبان، وحديث ديلم الحميري أخرجه أبو داود بسند حسن في حديث فيه: "قال هل يسكر؟ قال: نعم، قال: فاجتنبوه" وحديث ميمونة أخرجه أحمد بسند حسن بلفظ: "وكل شراب أسكر فهو حرام" وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود من طريق جيد بلفظ عمر، والبزار من طريق لين بلفظ: " واجتنبوا كل مسكر " وحديث قيس بن سعد أخرجه الطبراني بلفظ حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: "وإني أنهاكم عن كل مسكر" وحديث معاوية أخرجه ابن ماجه بسند حسن بلفظ عمر، وحديث وائل بن حجر أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرة بن إياس المزني أخرجه البزار بلفظ عمر بسند لين، وحديث عبد الله بن مغفل أخرجه أحمد بلفظ: "اجتنبوا المسكر " وحديث أم سلمة أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: "نهي عن كل مسكر ومفتر " وحديث بريدة أخرجه مسلم في أثناء حديث ولفظه مثل لفظ عمر، وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند حسن كذلك، ذكر أحاديث هؤلاء الترمذي في الباب، وفيه أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ عمر، وعن زيد بن الخطاب أخرجه الطبراني بلفظ علي "اجتنبوا كل مسكر" وعن الرسيم أخرجه أحمد بلفظ: "اشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرا" وعن أبي بردة بن نيار أخرجه ابن أبي شيبة بنحو هذا اللفظ، وعن طلق بن علي رواه ابن أبي شيبة بلفظ: "يا أيها السائل عن المسكر لا تشربه ولا تسقه أحدا من المسلمين" وعن صحار العبدي أخرجه الطبراني بنحو هذا، وعن أم حبيبة عند أحمد في "كتاب الأشربة" وعن الضحاك بن النعمان عند ابن أبي عاصم في الأشربة وكذا عنده عن خوات بن جبير، فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث ابن عمر وأبي موسى وعائشة زادت عن ثلاثين صحابيا، وأكثر الأحاديث عنهم جياد ومضمونها أن المسكر لا يحل تناوله بل يجب اجتنابه والله أعلم. وقد رد أنس الاحتمال الذي جنح إليه الطحاوي فقال أحمد: "حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت

(10/44)


المختار بن فلفل يقول: سألت أنسا فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت وقال: كل مسكر حرام. قال فقلت له: صدقت المسكر حرام، فالشربة والشربتان على الطعام؟ فقال: ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهذا سند صحيح على شرط مسلم والصحابي أعرف بالمراد ممن تأخر بعده، ولهذا قال عبد الله بن المبارك ما قال، واستدل بمطلق قوله: "كل مسكر حرام " على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشأة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر وهو بالفاء، والله أعلم. قوله: "وعن الزهري" هو من رواية شعيب أيضا عن الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور. وقد أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" وأفرده عن أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري به، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني. قوله: "وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير" القائل هذا هو الزهري، وقع ذلك عند شعيب عنه مرسلا، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت" ثم يقول أبو هريرة "واجتنبوا الحناتم" ورفعه كله من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "نهي عن المزفت والحنتم والنقير" ومثله لابن سعد من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وزاد فيه: "والدباء" وقد تقدم ضبط هذه الأشياء في شرح حديث وفد عبد القيس في أوائل الصحيح من كتاب الإيمان. وأخرج مسلم من طريق زاذان قال: "سألت ابن عمر عن الأوعية فقلت: أخبرناه بلغتكم وفسره لنا بلغتنا، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر نقرا، وعن المزفت وهو المقير". وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي عاصم والطبراني من حديث أبي بكر قال: "نهينا عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت، فأما الدباء فإنا معشر ثقيف بالطائف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها ثم نتركها حتى تهدر ثم تموت، وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة فيشدخون فيه الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار جاءت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت فهي هذه الأوعية التي فيها هذا الزفت". وسيأتي بيان نسخ النهي عن الأوعية بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى. "تنبيه": قال المهلب: وجه إدخال حديث أنس في النهي في الانتباذ في الأوعية المذكورة في ترجمة الخمر من العسل أن العسل لا يكون مسكرا إلا بعد الانتباذ، والعسل قبل الانتباذ مباح، فأشار إلى اجتناب بعض ما ينتبذ فيه لكونه يسرع إليه الإسكار.

(10/45)


5 - باب مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ الشَّرَابِ
5588- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْداً الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا عَمْرٍو فَشَيْءٌ يُصْنَعُ

(10/45)


بِالسِّنْدِ مِنْ الأُرْزِ قَالَ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ".
وَقَالَ حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ: مَكَانَ "الْعِنَبِ": "الزَّبِيبَ".
5589- حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن بن عمر عن عمر قال: "الخمر يصنع من خمسة: من الزبيب والتمر والحنطة والشعير والعسل".
قوله: "باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب" كذا قيده بالشراب، وهو متفق عليه، ولا يرد عليه أن غير الشراب ما يسكر لأن الكلام إنما هو في أنه هل يسمى خمرا أم لا. قوله: "حدثني أحمد بن أبي رجاء" هو أبو الوليد الهروي واسم أبيه عبد الله بن أيوب، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي. قوله: "عن الشعبي" في رواية ابن علية عن أبي حيان "حدثنا الشعبي" أخرجه النسائي. قوله: "خطب عمر" في رواية ابن إدريس عن أبي حيان بسنده "سمعت عمر يخطب" وقد تقدمت في التفسير وزاد فيه: "أيها الناس". قوله: "فقال إنه قد نزل" زاد مسدد فيه عن القطان فيه: "أما بعد" وقد تقدمت في أول الأشربة، وعند البيهقي من وجه آخر عن مسدد "فحمد الله وأثنى عليه". قوله: "نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة" الجملة حالية أي نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة، ويجوز أن تكون استئنافية أو معطوفة على ما قبلها، والمراد أن الخمر تصنع من هذه الأشياء لا أن ذلك يختص بوقت نزولها، والأول أظهر لأنه وقع في رواية مسلم بلفظ: "ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء" نعم وقع في آخر الباب من وجه آخر "وإن الخمر تصنع من خمسة". قوله: "من العنب الخ" هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لأن له عندهم حكم الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر الآية المذكورة في أول كتاب الأشربة وهي آية المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى آخرها. فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيرها، ويوافقه حديث أنس الماضي فإنه يدل على أن الصحابة فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر سواء كان من العنب أم من غيرها، وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا: فأخرج أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان من وجهين عن الشعبي "إن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر" لفظ أبي داود، وكذا ابن حبان، وزاد فيه أن النعمان خطب الناس بالكوفة.
ولأبي داود من وجه آخر عن الشعبي عن النعمان بلفظ: " إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا" ، ومن هذا الوجه أخرجها أصحاب السنن، والتي قبلها فيها الزبيب دون العسل، ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: " الخمر من العنب والتمر والعسل " ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: " الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة " ، أخرجه أبو يعلى من هذا الوجه بلفظ: "حرمت الخمر يوم حرمت وهي" فذكرها وزاد الذرة. وأخرج الخلعي في فوائده من طريق خلاد بن

(10/46)


السائب عن أبيه رفعه مثل الرواية الثانية، ولكن ذكر الزبيب بدل الشعير، وسنده لا بأس به، ويوافق ذلك ما تقدم في التفسير من حديث ابن عمر: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب. قوله: "الذرة" بضم المعجمة وتخفيف الراء من الحبوب معروفة، وقد تقدم ذكرها في حديث أبي موسى في الباب قبله. قوله: "والخمر ما خامر العقل" أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وهو من مجاز التشبيه، والعقل هو آلة التمييز فلذلك حرم ما غطاه أو غيره، لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه. قال الكرماني: هذا تعريف بحسب اللغة، وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة، كذا قال، وفيه نظر لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعي، فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل. على أن عند أهل اللغة اختلافا في ذلك كما قدمته، ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" قال البيهقي. ليس المراد الحصر فيهما لأنه ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعا لا تختص بالمتخذ من العنب، قلت: وجعل الطحاوي هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أن الخمر من شيئين مع حديث عمر ومن وافقه أن الخمر تتخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر "لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" وحديث أنس يعني المتقدم ذكره وبيان اختلاف ألفاظه منها: "إن الخمر حرمت وشرابهم الفضيخ" وفي لفظ له "إنا نعدها يومئذ خمرا" وفي لفظ له "إن الخمر يوم حرمت البسر والتمر" قال فلما اختلف الصحابة في ذلك ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر وأن مستحله كافر دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب اهـ. ولا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرا فقد يشترك الشيئان في التسمية ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنه هو يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ التمر حكم قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاححة إلا في التسمية. والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره بحمل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر، ويحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ منه الخمر، وأما قول ابن عمر فعلى إرادة تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من العنب، لأن نزول تحريم الخمر لم يصادف عند من خوطب بالتحريم حينئذ إلا ما يتخذ من غير العنب أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة وإن كانت موجودة فيها بقلة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم. وقد قال الراغب في "مفردات القرآن" سمي الخمر لكونه خامرا للعقل أي ساترا له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرا حقيقة، وكذا قال أبو نصر بن القشيري في تفسيره: سميت الخمر خمرا لسترها العقل أو لاختمارها. وكذا قال غير واحد من أهل اللغة منهم أبو حنيفة الدينوري وأبو نصر الجوهري، ونقل عن ابن الأعرابي قال: سميت الخمر لأنها تركت حتى اختمرت، واختمارها تغير رائحتها. وقيل: سميت بذلك لمخامرتها العقل. نعم جزم ابن سيده في

(10/47)


"المحكم" بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمى خمرا مجازا. وقال صاحب "الفائق" في حديث: "إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم" هي نبيذ الحبشة متخذة من الذرة سميت الغبيراء لما فيها من الغبرة. وقوله: "خمر العالم" أي هي مثل خمر العالم لا فرق بينها وبينها. قلت: وليس تأويله هذا بأولى من تأويل من قال: أراد أنها معظم خمر العالم. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم، قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" وقوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" ولأنه من مخامرة العقل وذلك موجود في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني، قال: وإنما سمي الخمر خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصا فيه، كما في النجم فإنه مشتق من الظهور ثم هو خاص بالثريا اهـ. والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرا. وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا، عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه. وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون إن الخمر من العنب لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} قال: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ما ينتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر وحكمه حكم ما اتخذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرا يدخل في النهي فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرا من الشرع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية. وعن الثانية ما تقدم من أن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلظ لا يلزم منه افتراقهما في التسمية، كالزنا مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضا فالأحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره، أن لا يكون حراما بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني تحريمه، وكذا تسميته خمرا والله أعلم. وعن الثالثة ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو، وكيف يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر بمحضر الصحابة "الخمر ما خامر العقل" كأن مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة فيحمل قول عمر على المجاز، لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرا. فقال أبو بكر بن الأنباري: سميت الخمر خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه، قال: ومنه قولهم خامره الداء أي خالطه، وقيل: لأنها تخمر العقل أي تستره، ومنه الحديث الآتي قريبا "خمروا آنيتكم" ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها، وهذا أخص من التفسير الأول لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية. وقيل: سميت خمرا لأنها تخمر حتى تدرك كما يقال خمرت العجين فتخمر أي تركته حتى أدرك، ومنه خمرت الرأي أي تركته حتى ظهر وتحرر، وقيل: سميت خمرا لأنها تغطى حتى تغلي، ومنه حديث المختار بن فلفل "قلت لأنس: الخمر من العنب أو من غيرها؟ قال: ما خمرت من ذلك فهو الخمر" أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان. قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة لأنها تركت

(10/48)


حتى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه. وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره - على صحتها وكثرتها - تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولا استفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريم لما كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصا، فصار القائل بالتفريق سالكا غير سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسمعه الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك. وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرا لزم تحريم قليله وكثيره. وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في ذلك. ثم ذكرها قال: وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسك بها المخالف فلا يصح منها شيء على ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها فهو محمول على نقيع الزبيب أو التمر من قبل أن يدخل حد الإسكار جمعا بين الأحاديث. قلت: ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في باب نقيع التمر، ولا فرق في الحل بينه وبين عصير العنب أول ما يعصر، وإنما الخلاف فيما اشتد منهما هل يفترق الحكم فيه أو لا؟ وقد ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعي: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يتخذ من العنب مجاز في غيره، وخالفه ابن الرفعة فنقل عن المزني وابن أبي هريرة وأكثر الأصحاب أن الجميع يسمى خمرا حقيقة. قال: وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان أبو الطيب والروياني، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعي للأكثر لم يجد نقله عن الأكثر إلا في كلام الرافعي، ولم يتعقبه النووي في "الروضة"، لكن كلامه في "شرح مسلم" يوافقه وفي "تهذيب الأسماء" يخالفه، وقد نقل ابن المنذر عن الشافعي ما يوافق ما نقلوا عن المزني فقال: قال إن الخمر من العنب ومن غير العنب عمر وعلي وسعيد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث، ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية. وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي والله أعلم. وقد قدمت في "باب نزول تحريم الخمر، وهو من البسر" إلزام من قال بقول أهل الكوفة إن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره أنه يلزمهم أن يجوزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازا، وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك، وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم أن الخمر حقيقة في ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث: "كل مسكر خمر" فكل ما اشتد

(10/49)


كان خمرا، وكل خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم وبالله التوفيق. قوله: "وثلاث" هي صفة موصوف أي أمور أو أحكام. قوله: "وددت" أي تمنيت، وإنما تمنى ذلك لأنه أبعد من محذور الاجتهاد وهو الخطأ فيه، فثبت على تقدير وقوعه، ولو كان مأجورا عليه فإنه يفوته بذلك الأجر الثاني، والعمل بالنص إصابة محضة. قوله: "لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا" في رواية مسلم: "عهدا ينتهي إليه"، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيها، ويشعر بأنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الخمر ما لم يحتج معه إلى شيء غيره حتى خطب بذلك جازما به. قوله: "الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا" أما الجد فالمراد قدر ما يرث لأن الصحابة اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا، فسيأتي في كتاب الفرائض عن عمر أنه قضى فيه بقضايا مختلفة. وأما الكلالة بفتح الكاف وتخفيف اللام فسيأتي بيانها أيضا في كتاب الفرائض. وأما أبواب الربا فلعله يشير إلى ربا الفضل لأن ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة، وسياق عمر يدل على أنه كان عنده نص في بعض من أبواب الربا دون بعض، فلهذا تمنى معرفة البقية. قوله: "قلت يا أبا عمرو" القائل هو أبو حيان التيمي، وأبو عمرو هي كنية الشعبي. قوله: "فشيء يصنع بالسند من الأرز" زاد الإسماعيلي في روايته: "يقال له السادية، يدعى الجاهل فيشرب منها شربة فتصرعه". قلت: وهذا الاسم لم يذكره صاحب "النهاية" لا في السين المهملة ولا في الشين المعجمة، ولا رأيته في "صحاح الجوهري" وما عرفت ضبطه إلى الآن، ولعله فارسي، فإن كان عربيا فلعله الشاذبة بشين وذال معجمتين ثم موحدة، قال في "الصحاح": الشاذب المتنحي عن وطنه، فلعل الشاذبة تأنيثه، وسميت الخمر بذلك لكونها إذا خالطت العقل تنحت به عن وطنه. قوله: "ذاك لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم" أي اتخاذ الخمر من الأرز لم يكن على العهد النبوي. وفي رواية الإسماعيلي: "لم يكن هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان لنهى عنه، ألا ترى أنه قد عم الأشربة كلها فقال: الخمر ما خامر العقل" قال الإسماعيلي: هذا الكلام الأخير فيه دلالة على أن قوله: "الخمر ما خامر العقل" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال الخطابي: إنما عد عمر الخمسة المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه، ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام، فإن الحنطة كانت بها عزيزة، وكذا العسل بل كان أعز، فعد عمر ما عرف فيها، وجعل ما في معناها مما يتخذ من الأرز وغيره خمرا إن كان مما يخامر العقل، وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق الاشتقاق، كذا قال، ورد بذلك ابن العربي في جواب من زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" معناه مثل الخمر، لأن حذف مثل ذلك مسموع شائع، قال: بل الأصل عدم التقدير، ولا يصار إلى التقدير إلا إلى الحاجة، فإن قيل احتجنا إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث لبيان الأسماء قلنا: بل بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لا يعلمها. ولا سيما ليقطع تعلق القصد بها. قال: وأيضا لو لم يكن الفضيخ خمرا ونادى المنادي حرمت الخمر لم يبادروا إلى إراقتها ولم يفهموا أنها داخلة في مسمى الخمر، وهم الفصح اللسن. فإن قيل: هذا إثبات اسم بقياس، قلنا: إنما هو إثبات اللغة عن أهلها، فإن الصحابة عرب فصحاء فهموا من الشرع ما فهموه من اللغة ومن اللغة ما فهموه من الشرع.
وذكر ابن حزم أن بعض الكوفيين احتج بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر بسند جيد قال: "أما الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام" قال وجوابه أنه ثبت عن ابن عمر أنه قال: "كل مسكر خمر" فلا يلزم من تسمية المتخذ من العنب خمرا انحصار اسم الخمر فيه، وكذا احتجوا بحديث ابن عمر أيضا: "حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" مراده المتخذ من العنب، ولم يرد أن غيرها لا يسمى خمرا، بدليل حديثه

(10/50)


الآخر "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة خمسة أشربة كلها تدعى الخمر ما فيها خمر العنب". وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم ذكر الأحكام على المنبر لتشتهر بين السامعين، وذكر أما بعد فيها، والتنبيه بالنداء، والتنبيه على شرف العقل وفضله، وتمني الخير، وتمني البيان للأحكام، وعدم الاستثناء. قوله: "وقال حجاج" هو ابن منهال، وحماد هو ابن سلمة. قوله: "عن أبي حيان مكان العنب الزبيب" يعني أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن أبي حيان بهذا السند والمتن فذكر الزبيب بدل العنب، وهذا التعليق وصله علي بن عبد العزيز البغوي في مسنده عن حجاج بن منهال كذلك وليس فيه سؤال أبي حيان الأخير وجواب الشعبي، وكذلك أخرجه ابن أبي خيثمة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة، ووقع عند مسلم أيضا من رواية علي بن مسهر ومن رواية عيسى بن يونس كلاهما عن أبي حيان الزبيب بدل العنب كما قال حماد بن سلمة، قال البيهقي: وكذلك قال الثوري عن أبي حيان. قلت: وكذلك أخرجه النسائي من طريق محمد بن قيس عن الشعبي، والله أعلم.

(10/51)


6 - باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ
5590- وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
قوله: "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه" قال الكرماني: ذكره باعتبار الشراب، وإلا فالخمر مؤنث سماعي. قلت: بل فيه لغة بالتذكير. قال الكرماني: وفي بعض الروايات تسميتها بغير اسمها. وذكر ابن التين عن الداودي قال: كأنه يريد بالأمة من يتسمى بهم ويستحل ما لا يحل لهم، فهو كافر إن أظهر ذلك، ومنافق إن أسره، أو من يرتكب المحارم مجاهرة واستخفافا فهو يقارب الكفر وإن تسمى بالإسلام، لأن الله لا يخسف بمن تعود عليه رحمته في المعاد. كذا قال؛ وفيه نظر يأتي توجيهه. وقال ابن المنير: الترجمة مطابقة للحديث إلا في قوله: "ويسميه بغير اسمه" فكأنه قنع بالاستدلال له بقوله في الحديث: "من أمتي" لأن من كان من الأمة المحمدية يبعد أن يستحل الخمر بغير تأويل، إذ لو كان عنادا ومكابرة لكان خارجا عن الأمة، لأن تحريم الخمر قد علم بالضرورة قال: وقد ورد في غير هذا الحديث التصريح بمقتضى الترجمة، لكن لم يوافق شرطه فاقتنع بما في الرواية التي ساقها من الإشارة. قلت: الرواية التي أشار إليها أخرجها أبو داود من طريق مالك بن أبي مريم عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ليشربن ناس الخمر يسمونها بغير اسمها" وصححه ابن حبان، وله شواهد كثيرة: منها لابن ماجه من حديث ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة بن الصامت رفعه: "يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" ورواه أحمد بلفظ: "ليستحلن طائفة من أمتي الخمر" وسنده جيد، ولكن أخرجه النسائي من وجه آخر عن ابن محيريز فقال: "عن رجل من الصحابة" ولابن ماجه أيضا من حديث خالد بن معدان عن أبي أمامة رفعه: "لا تذهب الأيام والليالي

(10/51)


حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" وللدارمي بسند لين من طريق القاسم عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما يكفأ الإسلام كما يكفأ الإناء كفء الخمر، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: يسمونها بغير اسمها فيستحلونها" وأخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن عائشة، ولابن وهب من طريق سعيد بن أبي هلال عن محمد بن عبد الله "أن أبا مسلم الخولاني حج فدخل على عائشة فجعلت تسأله عن الشام وعن بردها فقال: يا أم المؤمنين إنهم يشربون شرابا لهم يقال له الطلاء، فقالت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ حتى سمعته يقول: إن ناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" وأخرجه البيهقي. قال أبو عبيد: جاءت في الخمر آثار كثيرة بأسماء مختلفة فذكر منها السكر بفتحتين قال: وهو نقيع التمر إذا غلى بغير طبخ، والجعة بكسر الجيم وتخفيف العين نبيذ الشعير، والسكركة خمر الحبشة من الذرة - إلى أن قال - وهذه الأشربة المسماة كلها عندي كناية عن الخمر، وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" ، ويؤيد ذلك قول عمر: "الخمر ما خامر العقل". قوله: "وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد" هكذا في جميع النسخ من الصحيح من جميع الروايات مع تنوعها عن الفربري، وكذا من رواية النسفي وحماد بن شاكر، وذهل الزركشي في توضيحه فقال: معظم الرواة يذكرون هذا الحديث في البخاري معلقا، وقد أسنده أبو ذر عن شيوخه فقال: "قال البخاري: حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار" قال: فعلى هذا يكون الحديث صحيحا على شرط البخاري. وبذلك يرد على ابن حزم دعواه الانقطاع اهـ. وهذا الذي قاله خطأ نشأ عن عدم تأمل، وذلك أن القائل "حدثنا الحسين بن إدريس" هو العباس بن الفضل شيخ أبي ذر لا البخاري، ثم هو الحسين بضم أوله وزيادة التحتانية الساكنة وهو الهروي لقبه خرم بضم المعجمة وتشديد الراء، وهو من المكثرين، وإنما الذي وقع في رواية أبي ذر من الفائدة أنه استخرج هذا الحديث من رواية نفسه من غير طريق البخاري إلى هشام، على عادة الحفاظ إذا وقع لهم الحديث عاليا عن الطريق التي في الكتاب المروي لهم يوردونها عالية عقب الرواية النازلة، وكذلك إذا وقع في بعض أسانيد الكتاب المروي خلل ما من انقطاع أو غيره وكان عندهم من وجه آخر سالما أوردوه، فجرى أبو ذر على هذه الطريقة، فروى الحديث عن شيوخه الثلاثة عن الفربري عن البخاري قال: "وقال هشام بن عمار" ولما فرغ من سياقه قال أبو ذر: "حدثنا أبو منصور الفضل بن العباس النضروي حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار به" وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها فقد سبقه إليها ابن الصلاح في "علوم الحديث" فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع وليس حكمه ولا خارجا - ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح - إلى قبيل الضعيف، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف" الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا "قال هشام بن عمار" وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع اهـ. ولفظ ابن حزم في "المحلى": ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد. وحكى ابن الصلاح في موضع آخر أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان ويسمى

(10/52)


شيخا من شيوخه يكون من قبيل الإسناد المعنعن، وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما يتحمله عن شيخه مذاكرة، وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة. وقد تعقب شيخنا الحافظ أبو الفضل كلام ابن الصلاح بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائلا قال فلان ويوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ. قلت: الذي يورده البخاري من ذلك على أنحاء: منها ما يصرح فيه بالسماع عن ذلك الشيخ بعينه إما في نفس الصحيح وإما خارجه، والسبب في الأول إما أن يكون أعاده في عدة أبواب وضاق عليه مخرجه فتصرف فيه حتى لا يعيده على صورة واحدة في مكانين، وفي الثاني أن لا يكون على شرطه إما لقصور في بعض رواته وإما لكونه موقوفا، ومنها ما يورده بواسطة عن ذلك الشيخ والسبب فيه كالأول، لكنه في غالب هذا لا يكون مكثرا عن ذلك الشيخ، ومنها ما لا يورده في مكان آخر من الصحيح مثل حديث الباب، فهذا مما كان أشكل أمره علي، والذي يظهر لي الآن أنه لقصور في سياقه، وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي، وسيأتي من كلامه ما يشير إلى ذلك حيث يقول: إن المحفوظ أنه عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك، وساقه في "التاريخ" من رواية مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم كذلك، وقد أشار المهلب إلى شيء من ذلك. وأما كونه سمعه من هشام بلا واسطة وبواسطة فلا أثر له، لأنه لا يجزم إلا بما يصلح للقبول، ولا سيما حيث يسوقه مساق الاحتجاج. وأما قول ابن الصلاح أن الذي يورده بصيغة " قال: "حكمه حكم الإسناد المعنعن، والعنعنة من غير المدلس محمولة على الاتصال، وليس البخاري مدلسا، فيكون متصلا، فهو بحث وافقه عليه ابن منده والتزمه فقال: "أخرج البخاري" قال: "وهو تدليس"، وتعقبه شيخنا بأن أحدا لم يصف البخاري بالتدليس، والذي يظهر لي أن مراد ابن منده أن صورته صورة التدليس لأنه يورده بالصيغة المحتملة ويوجد بينه وبينه واسطة وهذا هو التدليس بعينه، لكن الشأن في تسليم أن هذه الصيغة من غير المدلس لها حكم العنعنة فقد قال الخطيب: وهو المرجوع إليه في الفن أن "قال" لا تحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه يأتي بها في موضع السماع، مثل حجاج بن محمد الأعور، فعلى هذا ففارقت العنعنة فلا تعطى حكمها ولا يترتب عليه أثرها من التدليس ولا سيما ممن عرف من عادته أن يوردها لغرض غير التدليس، وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع وصنفت كتاب "تعليق التعليق". وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولا في "مستخرج الإسماعيلي" قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار، وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" فقال حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار، قال وأخرجه أبو داود في سننه فقال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده انتهى. وننبه فيه على موضعين: أحدهما: أن الطبراني أخرج الحديث في معجمه الكبير عن موسى بن سهل الجويني وعن جعفر بن محمد الفريابي كلاهما عن هشام، والمعجم الكبير أشهر من مسند الشاميين فعزوه إليه أولى، وأيضا فقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه على البخاري من رواية عبدان بن محمد المروزي ومن رواية أبي بكر الباغندي كلاهما عن هشام، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسين بن عبد الله القطان عن هشام. ثانيهما: قوله: إن أبا داود أخرجه يوهم أنه عند أبي داود

(10/53)


باللفظ الذي وقع فيه النزاع وهو المعازف، وليس كذلك بل لم يذكر فيه الخمر الذي وقعت ترجمة البخاري لأجله فإن لفظه عند أبي داود بالسند المذكور إلى عبد الرحمن بن يزيد "حدثنا عطية بن قيس سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري يقول حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني أنه سمع رسول الله يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر - وذكر كلاما قال - يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة" نعم ساق الإسماعيلي الحديث من هذا الوجه من رواية دحيم عن بشر بن بكر بهذا الإسناد فقال: "يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" الحديث. قوله: "حدثنا صدقة بن خالد" هو الدمشقي من موالي آل أبي سفيان، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في مناقب أبي بكر، وهو من رواية هشام بن عمار عنه أيضا عن زيد بن واقد وصدقة هذا ثقة عند الجميع، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه، ثقة ابن ثقة ليس به بأس، أثبت من الوليد بن مسلم. وذهل شيخنا ابن الملقن تبعا لغيره فقال: ليته - يعني ابن حزم - أعل الحديث بصدقة فإن ابن الجنيد روى عن يحيى بن معين: ليس بشيء، وروى المروزي عن أحمد: ذلك ليس بمستقيم ولم يرضه. وهذا الذي قاله الشيخ خطأ، وإنما قال يحيى وأحمد ذلك في صدقة بن عبد الله السمين وهو أقدم من صدقة بن خالد، وقد شاركه في كونه دمشقيا، وفي الرواية عن بعض شيوخه كزيد بن واقد، وأما صدقة بن خالد فقد قدمت قول أحمد فيه، وأما ابن معين فالمنقول عنه أنه قال: كان صدقة بن خالد أحب إلى أبي مسهر من الوليد بن مسلم، قال وهو أحب إلي من يحيى بن حمزة. ونقل معاوية بن صالح عن ابن معين أن صدقة بن خالد ثقة، ثم إن صدقة لم ينفرد به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بل تابعه على أصله بشر بن بكر كما تقدم. قوله: "حدثنا عطية بن قيس" هو شامي تابعي قواه أبو حاتم وغيره ومات سنة عشر ومائة وقيل: بعد ذلك، ليس له في البخاري ولا لشيخه إلا هذا الحديث، والإسناد كله شاميون. قوله: "عبد الرحمن بن غنم" بفتح المعجمة وسكون النون ابن كريب بن هانئ مختلف في صحبته، قال ابن سعد: كان أبوه ممن قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة أبي موسى، وذكر ابن يونس أن عبد الرحمن كان مع أبيه حين وفد، وأما أبو زرعة الدمشقي وغيره من حفاظ الشام فقالوا: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، وقدمه دحيم على الصنابحي. وقال ابن سعد أيضا: بعثه عمر يفقه أهل الشام، ووثقه العجلي وآخرون. ومات سنة ثمان وسبعين. ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة عن عطية بن قيس قال: "قام ربيعة الجرشي في الناس - فذكر حديثا فيه طول - فإذا عبد الرحمن بن غنم فقال: يمينا حلفت عليها حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله يمينا أخرى حدثني أنه سمع" وفي رواية مالك بن أبي مريم "كنا عند عبد الرحمن بن غنم معنا ربيعة الجرشي فذكروا الشراب" فذكر الحديث. قوله: "حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري" هكذا رواه أكثر الحفاظ عن هشام بن عمار بالشك، وكذا وقع عند الإسماعيلي من رواية بشر بن بكر، لكن وقع عند أبي داود من رواية بشر بن بكر "حدثني أبو مالك" بغير شك، ووقع عند ابن حبان عن الحسين بن عبد الله عن هشام بهذا السند إلى عبد الرحمن بن غنم، "أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين يقولان" فذكر الحديث، كذا قال، وعلى تقدير أن يكون المحفوظ هو الشك فالشك في اسم الصحابي لا يضر، وقد أعله ابن حزم وهو مردود، وأعجب منه أن ابن بطال حكى عن المهلب أن سبب كون البخاري لم يقل فيه: "حدثنا هشام بن عمار" وجود الشك في اسم الصحابي، وهو شيء لم يوافق عليه، والمحفوظ رواية الجماعة. وقد أخرجه البخاري في "التاريخ" من طريق إبراهيم بن عبد الحميد عمن

(10/54)


أخبره "عن أبي مالك أو أبي عامر" على الشك أيضا وقال: إنما يعرف هذا عن أبي مالك الأشعري انتهى. وقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في "التاريخ" من طريق مالك بن أبي مريم "عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف" الحديث. فظهر بهذا أن الشك فيه من عطية بن قيس لأن مالك بن أبي مريم - وهو رفيقه فيه عن شيخهما - لم يشك في أبي مالك، على أن التردد في اسم الصحابي لا يضر كما تقرر في علوم الحديث فلا التفات إلى من أعل الحديث بسبب التردد، وقد ترجح أنه عن أبي مالك الأشعري وهو صحابي مشهور. قوله: "والله ما كذبني" هذا يؤيد رواية الجماعة أنه عن غير واحد لا عن اثنين. قوله: "يستحلون الحر" ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة المكسورة والراء الخفيفة وهو الفرج، وكذا هو في معظم الروايات من صحيح البخاري، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. وأغرب ابن التين فقال: إنه عند البخاري بالمعجمتين. وقال ابن العربي: هو بالمعجمتين تصحيف، وإنما رويناه بالمهملتين وهو الفرج والمعنى يستحلون الزنا. قال ابن التين: يريد ارتكاب الفرج بغير حله، وإن كان أهل اللغة لم يذكروا هذه اللفظة بهذا المعنى ولكن العامة تستعمله بكسر المهملة كما في هذه الرواية. وحكى عياض فيه تشديد الراء، والتخفيف هو الصواب. وقيل: أصله بالياء بعد الراء فحذفت. وذكره أبو موسى في "ذيل الغريب" في "ح ر" وقال هو بتخفيف الراء وأصله حرح بكسر أوله وتخفيف الراء بعدها مهملة أيضا وجمعه أحراح قال: ومنهم من يشدد الراء وليس بجيد. وترجم أبو داود للحديث في كتاب اللباس "باب ما جاء في الحر" ووقع في روايته بمعجمتين والتشديد والراجح بالمهملتين، ويؤيده ما وقع في "الزهد لابن المبارك" من حديث علي بلفظ: " يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير" ووقع عند الداودي بالمعجمتين ثم تعقبه بأنه ليس بمحفوظ، لأن كثيرا من الصحابة لبسوه. وقال ابن الأثير: المشهور في رواية هذا الحديث بالإعجام وهو ضرب من الإبريسم، كذا قال، وقد عرف أن المشهور في رواية البخاري بالمهملتين. وقال ابن العربي: الخز بالمعجمتين والتشديد مختلف فيه، والأقوى حله، وليس فيه وعيد ولا عقوبة بإجماع. "تنبيه": لم تقع هذه اللفظة عند الإسماعيلي ولا أبي نعيم من طريق هشام، بل في روايتهما: "يستحلون الحرير والخمر والمعازف " وقوله: "يستحلون" قال ابن العربي: يحتمل أن يكون المعنى يعتقدون ذلك حلالا، ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على الاسترسال أي يسترسلون في شربها كالاسترسال في الحلال، وقد سمعنا ورأينا من يفعل ذلك. قوله: "والمعازف" بالعين المهملة والزاي بعدها فاء جمع معزفة بفتح الزاي وهي آلات الملاهي. ونقل القرطبي عن الجوهري أن المعازف الغناء، والذي في صحاحه أنها آلات اللهو، وقيل: أصوات الملاهي. وفي حواشي الدمياطي: المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به، ويطلق على الغناء عزف، وعلى كل لعب عزف، ووقع في رواية مالك بن أبي مريم " تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف" . قوله: "ولينزلن أقوام إلى جنب علم" بفتحتين والجمع أعلام وهو الجبل العالي وقيل: رأس الجبل. قوله: "يروح عليهم" كذا فيه بحذف الفاعل، وهو الراعي بقرينة المقام، إذ السارحة لا بد لها من حافظ. قوله: "بسارحة " بمهملتين الماشية التي تسرح بالغداة إلى رعيها وتروح أي ترجع بالعشي إلى مألفها. ووقع في رواية الإسماعيلي: "سارحة" بغير موحدة في أوله ولا حذف فيها. قوله: "يأتيهم لحاجة" كذا فيه بحذف الفاعل أيضا. قال الكرماني: التقدير الآتي أو الراعي أو المحتاج أو الرجل. قلت: وقع عند الإسماعيلي: "يأتيهم طالب حاجة "

(10/55)


فتعين بعض المقدرات. قوله: "فيبيتهم الله" أي يهلكهم ليلا، والبيات هجوم العدو ليلا. قوله: "ويضع العلم" أي يوقعه عليهم. وقال ابن بطال: إن كان العلم جبلا فيدكدكه وإن كان بناء فيهدمه ونحو ذلك. وأغرب ابن العربي فشرحه على أنه بكسر العين وسكون اللام فقال: وضع العلم إما بذهاب أهله كما سيأتي في حديث عبد الله بن عمرو، وإما بإهانة أهله بتسليط الفجرة عليهم. قوله: "ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " يريد ممن لم يهلك في البيات المذكور، أو من قوم آخرين غير هؤلاء الذين "بيتوا"، ويؤيد الأول أن في رواية الإسماعيلي: "ويمسخ منهم آخرين" قال ابن العربي: يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السالفة، ويحتمل أن يكون كناية عن تبدل أخلاقهم. قلت: والأول أليق بالسياق. وفي هذا الحديث وعيد شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه، وأن الحكم يدور مع العلة. والعلة في تحريم الخمر الإسكار، فمهما وجد الإسكار وجد التحريم ولو لم يستمر الاسم. قال ابن العربي: هو أصل في أن الأحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها، ردا على من حمله على اللفظ.

(10/56)


7 - باب الِانْتِبَاذِ فِي الأَوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ
5591- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ: "أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُرْسِهِ فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ وَهِيَ الْعَرُوسُ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ".
قوله: "باب الانتباذ في الأوعية والتور" هو من عطف الخاص على العام، لأن التور من جملة الأوعية، وهو بفتح المثناة إناء من حجارة أو من نحاس أو من خشب، ويقال: لا يقال له تور إلا إذا كان صغيرا، وقيل هو قدح كبير كالقدر، وقيل مثل الطست، وقيل كالإجانة، وهي بكسر الهمزة وتشديد الجيم وبعد الألف نون: وعاء. قوله: "أتى أبو أسيد الساعدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه" تقدم في الوليمة من هذا الوجه بلفظ: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه" ومن وجه آخر عن أبي حازم "دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه". قوله: "قال أتدرون" القائل هو سهل و"ما سقت" بفتح القاف وسكون المثناة. وفي رواية الكشميهني: "قالت وسقيت" بسكون التحتانية بعد القاف وفي آخره مثناة، وكذا الخلاف في أنقعت ونقعت وأنقع بالهمزة لغة، وفيه لغة أخرى نقعت بغير ألف، وتقدم في الوليمة بلفظ: "بلت تمرات". قوله: "في تور" زاد في الوليمة "من حجارة" وإنما قيده لأنه قد يكون من غيرها كما تقدم. وفي رواية أشعث عن أبي الزبير عن جابر "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينبذ له في سقاء، فإذا لم يكن سقاء ينبذ له في تور" قال أشعث: والتور من لحاء الشجر، أخرجه ابن أبي شيبة. وعبر المصنف في الترجمة بالانتباذ إشارة إلى أن النقيع يسمى نبيذا، فيحمل ما ورد في الأخبار بلفظ النبيذ على النقيع، وقد ترجم له بعد قليل "باب نقيع التمر ما لم يسكر" قال المهلب: النقيع حلال ما لم يشتد فإذا اشتد وغلى حرم. وشرط الحنفية أن يقذف بالزبد، قال: وإذا نقع من الليل وشرب النهار أو بالعكس لم يشتد، وفيه حديث عائشة، يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة "كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء توكي أعلاه فيشربه عشاء، وتنبذه عشاء فيشربه غدوة" وعند أبي داود من وجه آخر عن عائشة أنها "كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي تعشى فشرب على عشائه، فإن فضل شيء صبته ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدى شرب على غدائه، قالت نغسل السقاء غدوة وعشية" وفي حديث عبد الله

(10/56)


ابن الديلمي عن أبيه "قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نصنع بالزبيب؟ قال: انبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم" أخرجه أبو داود والنسائي. فهذه الأحاديث فيها التقييد باليوم والليلة. وأما ما أخرج مسلم من حديث ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب من الليل في السقاء، فإذا أصبح شربه يومه وليلته ومن الغد، فإذا كان مساء شربه أو سقاه الخدم، فإن فضل شيء أراقه" وقال ابن المنذر: الشراب في المدة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا، وأما الصفة التي ذكرها ابن عباس فقد ينتهي إلى الشدة والغليان، لكن يحمل ما ورد من أمر الخدم بشربه على أنه لم يبلغ ذلك ولكن قرب منه، لأنه لو بلغ ذلك لأسكر ولو أسكر لحرم تناوله مطلقا انتهى. وقد تمسك بهذا الحديث من قال بجواز شرب قليل ما أسكر كثيره، ولا حجة فيه لأنه ثبت أنه بدا فيه بعض تغير في طعمه من حمض أو نحوه فسقاه الخدم، وإلى هذا أشار أبو داود فقال بعد أن أخرجه: قوله: "سقاه الخدم" يريد أنه تبادر به الفساد. انتهى، ويحتمل أن يكون "أو" في الخبر للتنويع لأنه قال: "سقاه الخدم أو أمر به فأهرق" أي إن كان بدا في طعمه بعض التغير ولم يشتد سقاه الخدم، وإن كان اشتد أمر بإهراقه، وبهذا جزم النووي فقال: هو اختلاف على حالين إن ظهر فيه شدة صبه وإن لم تظهر شدة سقاه الخدم لئلا تكون فيه إضاعة مال، وإنما يتركه هو تنزها. وجمع بين حديث ابن عباس وعائشة بأن شرب النقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم، ويحتمل أن يكون باختلاف حال أو زمان يحمل الذي يشرب في يومه على ما إذا كان قليلا وذاك على ما إذا كان كثيرا فيفضل منه ما يشربه فيما بعد، وإما بأن يكون في شدة الحر مثلا فيسارع إليه الفساد، وذاك في شدة برد فلا يتسارع إليه.

(10/57)


8 - باب تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ
5592- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الظُّرُوفِ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ إِنَّهُ لاَ بُدَّ لَنَا مِنْهَا قَالَ فَلاَ إِذاً" . وَقَالَ خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ بِهَذَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا وَقَالَ فِيهِ: "لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الأَوْعِيَةِ".
5593- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الأَسْقِيَةِ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ" .
5594- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ" .
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ بِهَذَا.

(10/57)


5595- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "قُلْتُ لِلأَسْوَدِ هَلْ سَأَلْتَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ فَقَالَ نَعَمْ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ قَالَتْ نَهَانَا فِي ذَلِكَ أَهْلَ الْبَيْتِ أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ قُلْتُ أَمَا ذَكَرَتْ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ قَالَ إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ أَفَأُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ؟".
5596- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَرِّ الأَخْضَرِ قُلْتُ أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ قَالَ: لاَ".
قوله: "باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي" ذكر فيه خمسة أحاديث. أولها: حديث جابر وهو عام في الرخصة، ثانيها: حديث عبد الله بن عمرو وفيه استثناء المزفت، ثالثها: حديث علي في النهي عن الدباء والمزفت، رابعها: حديث عائشة مثله، خامسها: حديث عبد الله بن أبي أوفى في النهي عن الجر الأخضر. وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص بما ذكر في الأحاديث الأخرى، وهي مسألة خلاف: فذهب مالك إلى ما دل عليه صنيع البخاري. وقال الشافعي والثوري وابن حبيب من المالكية: يكره ذلك ولا يحرم وقال سائر الكوفيين: يباح، وعن أحمد روايتان. وقد أسند الطبري عن عمر ما يؤيد قول مالك وهو قوله: "لأن أشرب من قمقم محمي فيحرق ما أحرق ويبقي ما أبقى أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر" وعن ابن عباس "لا يشرب نبيذ الجر ولو كان أحلى من العسل" وأسند النهي عن جماعة من الصحابة. وقال ابن بطال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعا للذريعة. فلما قالوا لا نجد بدا من الانتباذ في الأوعية قال: " انتبذوا. وكل مسكر حرام" وهكذا الحكم في كل شيء نهي عنه بمعنى النظر إلى غيره فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا لا بد لنا منها قال: "فأعطوا الطريق حقها" . وقال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولا ثم نسخ، وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باق، منهم ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق كذا أطلق، قال: والأول أصح، والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبا، فلما اشتهر التحريم أبيح الانتباذ في كل وعاء بشرط ترك شرب المسكر، وكان من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ. وقال الحازمي: لمن نصر قول مالك أن يقول ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ منها ظروف الأدم والجرار غير المزفتة، واستمر ما عداها على المنع، ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم ولفظه: "نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا" قال وطريق الجمع أن يقال: لما وقع النهي عاما شكوا إليه الحاجة فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك فرخص لهم الظروف كلها. قوله: "سفيان" هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "عن سالم" وقع مفسرا في الطريق التي بعدها أنه ابن أبي الجعد. والظروف بظاء مشالة معجمة جمع ظرف بفتح أوله وهو الوعاء. قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظروف" في رواية مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر "نهى عن الدباء والمزفت" وكأن هذه الطريق لما لم تكن على شرط البخاري أورد عقب حديث جابر أحاديث

(10/58)


عبد الله بن عمرو وعلي وعائشة الدالة على ذلك. قوله: "لا بد لنا منها" في رواية الحفري عن الثوري عند الإسماعيلي: "ليس لنا وعاء" وفي رواية لأحمد في قصة وفد عبد القيس "فقال رجل من القوم: يا رسول الله إن الناس لا ظروف لهم، فقال: اشربوه إذا طاب، فإذا خبث فذروه" وأخرج أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث الأشج العصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: " ما لي أرى وجوهكم قد تغيرت؟ قالوا: نحن بأرض وخمة، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهيتنا عن الظروف فذلك الذي ترى في وجوهنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الظروف لا تحل ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام" . قوله: " فلا إذا " جواب وجزاء، أي إذا كان كذلك لا بد لكم منها فلا تدعوها. وحاصله أن النهي كان ورد على تقدير عدم الاحتياج، أو وقع وحي في الحال بسرعة أو كان الحكم في تلك المسألة مفوضا لرأيه صلى الله عليه وسلم، وهذه احتمالات يرد على من جزم بأن الحديث حجة في أنه كان يحكم بالاجتهاد. قوله: "وقال لي خليفة" هو ابن خياط بمعجمة ثم تحتانية ثقيلة وهو من شيوخ البخاري، ويحيى بن سعيد هو القطان. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وليس هو أبا بكر بن أبي شيبة وإن كان هو أيضا عبد الله بن محمد. لأن قول البخاري بهذا يشعر بأن سياقه مثل سياق علي بن المديني إلا في اللفظة التي اختلفا فيها، وسياق ابن أبي شيبة لا يشبه سياق علي. قوله: "بهذا" أي بهذا الإسناد إلى علي والمتن، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش فقال: بإسناده مثله، قوله: "عن الأوعية" فيه حذف تقديره: نهى عن الانتباذ في الأوعية، وقد بين ذلك في رواية زياد بن فياض عن أبي عياض أخرجه أبو داود بلفظ: "لا تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير" والفرق بين الأسقية من الأدم وبين غيرها أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامها فلا يسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ فيه. وأيضا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت مفسدة الإسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار مسكرا شق الجلد، فلما لم يشقه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية لأنها قد تصير النبيذ فيها مسكرا ولا يعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض فمن جهة المحافظة على صيانة المال لثبوت النهي عن إضاعته، لأن التي نهي عنها يسرع التغير إلى ما ينبذ فيها، بخلاف ما أذن فيه فإنه لا يسرع إليه التغير، ولكن حديث بريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع، يفيد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداء حتى يختبر حاله هل تغير أو لا، فإنه لا يتعين الاختبار بالشرب بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان أو يقذف بالزبد ونحو ذلك. قوله: "فقالوا لا بد لنا" في رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي. قوله: "علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "عن سليمان" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا سليمان الأحول" وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية الحميدي كذلك. قوله: "عن أبي عياض العنسي" بالنون، وعياض بكسر المهملة وتخفيف التحتانية وبعد الألف ضاد معجمة واسمه عمرو بن الأسود، وقيل قيس بن ثعلبة وبذلك جزم أبو نصر الكلاباذي في رجال البخاري، وكأنه تبع ما نقله البخاري عن علي بن المديني. وقال النسائي في "الكنى" أبو عياض عمرو بن الأسود العنسي، ثم ساق من طريق شرحبيل بن عمرو بن مسلم عن عمرو بن الأسود الحمصي أبي عياض. ثم روى عن معاوية بن صالح عن يحيى بن معين قال عمرو بن الأسود العنسي يكنى أبا عياض. ومن طريق البخاري قال لي علي - يعني ابن المديني - إن لم يكن اسم أبي عياض قيس بن ثعلبة فلا أدري قال البخاري وقال غيره عمرو بن الأسود. قال النسائي: ويقال كنية عمرو بن الأسود أبو عبد الرحمن. قال: أورد الحاكم أبو أحمد في "الكنى" محصل ما أورده النسائي إلا قول يحيى بن معين، وذكر أنه سمع عمر ومعاوية، وأنه روى عنه مجاهد وخالد بن معدان وأرطاة بن المنذر وغيرهم، وذكر في رواية شرحبيل بن مسلم عن عمرو بن الأسود أنه مر على مجلس فسلم فقالوا: لو جلست إلينا أبا عياض. ومن طريق موسى بن كثير عن مجاهد حدثنا أبو عياض في خلافة معاوية. وروى أحمد في الزهد أن عمر أثنى على أبي عياض. وذكره أبو موسى في "ذيل الصحابة" وعزاه لابن أبي عاصم، وأظنه ذكره لإدراكه ولكن لا تثبت له صحبة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات. وإذا تقرر ذلك فالراجع في أبي عياض الذي يروي عنه مجاهد أنه عمرو بن الأسود وأنه شامي، وأما قيس بن ثعلبة فهو أبو عياض آخر وهو كوفي، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: إنه يروي عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم، روى عنه أهل الكوفة. وإنما بسطت ترجمته لأن المزي لم يستوعبها، وخلط ترجمة بترجمة، وأنه صغر اسمه فقال: عمير بن الأسود الشامي العنسي صاحب عبادة بن الصامت، والذي يظهر لي أنه غيره؛ فإن كان كذلك فما له في البخاري سوى هذا الحديث، وإن كان كما قال المزي فإن له عند البخاري حديثا تقدم ذكره في الجهاد من رواية خالد بن معدان عن عمير بن الأسود عن أم حرام بنت ملحان، وكأن عمدته في ذلك أن خالد بن معدان روى عن عمرو بن الأسود أيضا، وقد فرق ابن حبان في الثقات بين عمير بن الأسود الذي يكنى أبا عياض وبين عمير بن الأسود الذي يروي

(10/59)


عن عبادة بن الصامت وقال كل منهما عمير بالتصغير، فإن كان ضبطه فلعل أبا عياض كان يقال له عمرو وعمير، ولكنه آخر غير صاحب عبادة. والله أعلم. قوله: "عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص، كذا في جميع نسخ البخاري، ووقع في بعض نسخ مسلم عبد الله بن عمر بضم العين، وهو تصحيف نبه عليه أبو علي الجياني. قوله: "لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأسقية" كذا وقع في هذه الرواية. وقد تفطن البخاري لما فيها فقال بعد سياق الحديث: "حدثني عبد الله بن محمد حدثنا سفيان بهذا وقال عن الأوعية" وهذا هو الراجح، وهو الذي رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه كأحمد والحميدي في مسنديهما وأبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر عند مسلم وأحمد بن عبدة عند الإسماعيلي وغيرهم. وقال عياض: ذكر "الأسقية" وهم من الراوي، وإنما هو عن "الأوعية" لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه قط عن الأسقية وإنما نهى عن الظروف وأباح الانتباذ في الأسقية، فقيل له ليس كل الناس يجد سقاء فاستثنى ما يسكر؛ وكذا قال لوفد عبد القيس لما نهاهم عن الانتباذ في الدباء وغيرها، قالوا: ففيم نشرب؟ قال: في أسقية الأدم. قال ويحتمل أن تكون الرواية في الأصل كانت لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية، فسقط من الرواية شيء انتهى. وسبقه إلى هذا الحميدي فقال في "الجمع": لعله نقص من لفظ المتن، وكان في الأصل لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية. وقال ابن التين: معناه لما نهى عن الظروف إلا الأسقية وهو عجيب، والذي قاله الحميدي أقرب، وإلا فحذف أداة الاستثناء مع المستثنى منه وإثبات المستثنى غير جائز إلا إن ادعى ما قال الحميدي أنه سقط على الراوي. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون لما نهى في مسألة الأنبذة عن الجرار بسبب الأسقية قال: ومجيء "عن" سببية شائع، مثل يسمنون عن الأكل أي بسبب الأكل، ومنه "فأزلهما الشيطان عنها" أي بسببها. قلت: ولا يخفى ما فيه. ويظهر لي أن لا غلط ولا سقط، وإطلاق السقاء على كل ما يسقى منه جائز، فقوله: "نهى عن الأسقية" بمعنى الأوعية، لأن المراد بالأوعية، الأوعية التي يستقى منها، واختصاص اسم الأسقية بما يتخذ من الأدم إنما هو بالعرف. وقال ابن السكيت: السقاء يكون للبن والماء والوطب بالواو للبن خاصة، والنحي بكسر النون وسكون المهملة للسمن والقربة للماء، وإلا فمن يجيز القياس في اللغة لا يمنع ما صنع سفيان، فكأنه كان يرى استواء اللفظين، فحدث به مرة هكذا ومرارا هكذا، ومن ثم لم يعدها البخاري وهما. قوله: "فرخص لهم في الجر غير المزفت" في رواية ابن أبي عمر "فأرخص" وهي لغة، يقال أرخص ورخص. وفي رواية ابن أبي شيبة: "فأذن لهم في شيء منه" وفي هذا دلالة على أن الرخصة لم تقع دفعة واحدة، بل وقع النهي عن الانتباذ إلا في سقاء فلما شكوا رخص لهم في بعض الأوعية دون بعض؛ ثم وقعت الرخصة بعد ذلك عامة، لكن يفتقر من قال إن الرخصة وقعت بعد ذلك إلى أن يثبت أن حديث بريدة الدال على ذلك كان متأخرا عن حديث عبد الله بن عمرو هذا. قاله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وليس هو أبا بكر بن أبي شيبة وإن كان هو أيضا عبد الله بن محمد. لأن قول البخاري بهذا يشعر بأن سياقه مثل سياق علي بن المديني إلا في اللفظة التي اختلفا فيها، وسياق ابن أبي شيبة لا يشبه سياق علي. قوله: "بهذا" أي بهذا الإسناد إلى علي والمتن، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش فقال: بإسناده مثله، قوله: "عن الأوعية" فيه حذف تقديره: نهى عن الانتباذ في الأوعية، وقد بين ذلك في رواية زياد بن فياض عن أبي عياض أخرجه أبو داود بلفظ: " لا تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير " والفرق بين الأسقية من الأدم

(10/60)


وبين غيرها أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامها فلا يسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ فيه. وأيضا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت مفسدة الإسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار مسكرا شق الجلد، فلما لم يشقه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية لأنها قد تصير النبيذ فيها مسكرا ولا يعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض فمن جهة المحافظة على صيانة المال لثبوت النهي عن إضاعته، لأن التي نهي عنها يسرع التغير إلى ما ينبذ فيها، بخلاف ما أذن فيه فإنه لا يسرع إليه التغير، ولكن حديث بريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع، يفيد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداء حتى يختبر حاله هل تغير أو لا، فإنه لا يتعين الاختبار بالشرب بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان أو يقذف بالزبد ونحو ذلك. قوله: "فقالوا لا بد لنا" في رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي. قوله: "حدثني سليمان" هو الأعمش، وإبراهيم التيمي هو ابن يزيد بن شريك. قوله: "عن الدباء والمزفت" زاد في رواية مالك بن عمير عن علي عند أبي داود "والحنتم والنقير". قوله: "حدثني عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن إبراهيم" هو النخعي "قلت للأسود" هو ابن يزيد النخعي وهو خال إبراهيم الراوي عنه. قوله: "عم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ فيه" أي أخبرني عما نهى، و"عما" أصلها "عن ما" فأدغمت ولا تشبع الميم غالبا، ووقع في رواية الإسماعيلي: "ما نهى" بحذف "عن". قوله: "أهل البيت" بالفتح على الاختصاص، أو على البدل من الضمير. قوله: "أما ذكرت" القائل هو إبراهيم، وقوله: "قال" أي الأسود، وقوله: "أفنحدث" كذا للأكثر بالنون، وللكشميهني: "أفأحدث" بالإفراد وهو استفهام إنكار. وفي رواية الإسماعيلي: "أفأحدثك ما لم أسمع" وإنما استفهم إبراهيم عن الجر والحنتم لاشتهار الحديث بالنهي عن الانتباذ في الأربعة، ولعل هذا هو السر في التقييد بأهل البيت، فإن الدباء والمزفت كان عندهم متيسرا، فلذلك خص نهيهم عنهما. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان بن فيروز، ووقع في رواية الإسماعيلي: "حدثني سليمان الشيباني". قوله: "عن الجر الأخضر" في رواية الإسماعيلي: "عن نبيذ الجر الأخضر". قوله: "قلت" القائل هو الشيباني. قوله: "قال لا" يعني أن حكمه حكم الأخضر، فدل على أن الوصف بالخضرة لا مفهوم له، وكأن الجرار الخضر حينئذ كانت شائعة بينهم فكان ذكر الأخضر لبيان الواقع لا للاحتراز. وقال ابن عبد البر: هذا عندي كلام خرج على جواب سؤال، كأنه قيل الجر الأخضر، فقال: لا تنبذوا فيه، فسمعه الراوي فقال: نهى عن الجر الأخضر. وقد روى ابن عباس "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نبيذ الجر" قال: والجر كل ما يصنع من مدر قلت: وقد أخرج الشافعي عن سفيان عن أبي إسحاق عن ابن أبي أوفى "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر" فإن كان محفوظا ففي الأول اختصار، والحديث الذي ذكره ابن عبد البر أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، قال الخطابي: لم يعلق الحكم في ذلك بالخضرة والبياض، وإنما علق بالإسكار، وذلك أن الجرار تسرع التغير لما ينبذ فيها، فقد يتغير من قبل أن يشعر به، فنهوا عنها. ثم لما وقعت الرخصة أذن لهم في الانتباذ في الأوعية بشرط أن لا يشربوا مسكرا. وقد أخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن أبي أوفى أنه كان يشرب نبيذ الجر الأخضر وأخرج أيضا بسند صحيح عن ابن مسعود "أنه كان ينبذ له في الجر الأخضر" ومن طريق معقل بن يسار وجماعة من الصحابة نحوه، وقد خص جماعة النهي عن الجر بالجرار الخضر كما رواه مسلم عن أبي

(10/61)


هريرة، قال النووي: وبه قال الأكثر - أو الكثير - من أهل اللغة والغريب والمحدثين والفقهاء، وهو أصح الأقوال وأقواها، وقيل إنها جرار مقيرة الأجواف يؤتى بها من مصر أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس، وقيل مثله عن عائشة بزيادة: أعناقها في جنوبها، وعن ابن أبي ليلى: جرار أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف وكانوا ينبذون فيها يضاهون بها الخمر. وعن عطاء: جرار تعمل من طين ودم وشعر. ووقع عند مسلم عن ابن عباس أنه فسر الجر بكل شيء من مدر، وكذا فسر ابن عمر الجر بالحرة وأطلق، ومثله عن سعيد بن جبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن.

(10/62)


باب نقيع التمر مالم يسكر
...
9 - باب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ
5597- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي "أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس. فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور".
قوله: "باب نقيع التمر ما لم يسكر" أورد فيه حديث سهل بن سعد في قصة امرأة أبي أسيد وفيه: "أنقعت له تمرات" وقد تقدم التنبيه عليه قريبا، وتقدم بسنده ومتنه في أبواب الوليمة، وأشار بالترجمة إلى أن الذي أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن معقل وغيره من كراهة نقيع الزبيب محمول على ما تغير وكاد يبلغ حد الإسكار، أو أراد قائله حسم المادة كما سيأتي عن عبيدة السلماني أنه قال: "أحدث الناس أشربة لا أدري ما فيها، فما لي شراب إلا الماء واللبن" الحديث، وتقييده في الترجمة بما لم يسكر مع أن الحديث لا تعرض فيه للسكر لا إثباتا ولا نفيا، إما من جهة أن المدة التي ذكرها سهل وهو من أول الليل إلى أثناء نهاره لا يحصل فيها التغير جملة، وإما خصه بما لا يسكر من جهة المقام، والله أعلم.

(10/62)


باب لباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة
...
10 - باب الْبَاذَقِ وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنْ الأَشْرِبَةِ
وَرَأَى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلاَءِ عَلَى الثُّلُثِ. وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اشْرَبْ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيّاً.
وَقَالَ عُمَرُ: "وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ".
5598- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْبَاذَقِ فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاذَقَ فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ قَالَ الشَّرَابُ الْحَلاَلُ الطَّيِّبُ قَالَ لَيْسَ بَعْدَ الْحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلاَّ الْحَرَامُ الْخَبِيثُ".
5599- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ".

(10/62)


11 - باب مَنْ رَأَى أَنْ لاَ يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِراً وَأَنْ لاَ يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ
5600- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنِّي لاَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ

(10/66)


وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فَقَذَفْتُهَا وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ". وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعَ أَنَساً.
5601- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ" .
5602- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ" .
قوله: "باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا" قال ابن بطال: قوله: "إذا كان مسكرا" خطأ، لأن النهي عن الخليطين عام وإن لم يسكر كثيرهما، لسرعة سريان الإسكار إليهما من حيث لا يشعر صاحبه به، فليس النهي عن الخليطين لأنهما يسكران حالا، بل لأنهما يسكران مآلا فإنهما إذا كانا مسكرين في الحال لا خلاف في النهي عنهما. قال الكرماني: فعلى هذا فليس هو خطأ بل يكون على سبيل المجاز، وهو استعمال مشهور. وأجاب ابن المنير بأن ذلك لا يرد على البخاري، إما لأنه يرى جواز الخليطين قبل الإسكار، وإما لأنه ترجم على ما يطابق الحديث الأول وهو حديث أنس، فإنه لا شك أن الذي كان يسقيه القوم حينئذ كان مسكرا، ولهذا دخل عندهم في عموم النهي عن الخمر، حتى قال أنس "وإنا لنعدها يومئذ الخمر" فدل على أنه كان مسكرا. قال: وأما قوله: "وأن لا يجعل إدامين في إدام" فيطابق حديث جابر وأبي قتادة، ويكون النهي معللا بعلل مستقلة، إما تحقيق إسكار الكثير وإما توقع الإسكار بالخلط سريعا وإما الإسراف والشره، والتعليل بالإسراف مبين في حديث النهي عن قران التمر. قلت: والذي يظهر لي أن مراد البخاري بهذه الترجمة الرد على من أول النهي عن الخليطين بأحد تأويلين: أحدهما حمل الخليط على المخلوط، وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلا قد اشتد، ونبيذ زبيب وحده مثلا قد اشتد، فيخلطان ليصيرا خلا، فيكون النهي من أجل تعمد التخليل، وهذا مطابق للترجمة من غير تكلف. ثانيهما أن يكون علة النهي عن الخلط الإسراف، فيكون كالنهي عن الجمع بين إدامين. ويؤيد الثاني قوله في الترجمة "وأن لا يجعل إدامين في إدام" وقد حكى أبو بكر الأثرم عن قوم أنهم حملوا النهي عن الخليطين على الثاني، وجعلوه نظير النهي عن القران بن التمر كما تقدم في الأطعمة، قالوا: فإذا ورد النهي عن القران بين التمرين وهما من نوع واحد فكيف إذا وقع القران بين نوعين؟ ولهذا عبر المصنف بقوله: "من رأى" ولم يجزم بالحكم. وقد نصر الطحاوي من حمل النهي عن الخليطين على منع السرف فقال: كان ذلك لما كانوا فيه من ضيق العيش. وساق حديث ابن عمر في النهي عن القران بين التمرتين، وتعقب بأن ابن عمر أحد من روى النهي عن الخليطين وكان ينبذ البسر، فإذا نظر إلى بسرة في بعضها ترطيب قطعه كراهة أن يقع في النهي، وهذا على قاعدتهم يعتمد عليه، لأنه لو فهم أن النهي عن الخليطين كالنهي عن القران لما خالفه فدل على أنه عنده على غيره. أورد المصنف حديث أنس الذي تقدم شرحه في أول الباب، وفيه أنه سقاه خليط بسر وتمر، فدل على: أن المراد بالنهي عن الخليطين ما كانوا يصنعونه قبل ذلك من خلط البسر بالتمر ونحو ذلك، لأن ذلك عادة يقتضي إسراع الإسكار

(10/67)


بخلاف المنفردين، ولا يمكن حمل حديث أنس هذا في الخليطين على ما ادعاه صاحب التأويل الأول، وحمل علة النهي لخوف الإسراع أظهر من حملها على الإسراف، لأنه لا فرق بين نصف رطل من تمر ونصف رطل من بسر إذا خلطا مثلا، وبين رطل من زبيب صرف، بل هو أولى لقلة الزبيب عندهم إذ ذاك بالنسبة إلى التمر والرطب، وقد وقع الإذن بأن ينبذ كل واحد على حدة، ولم يفرق بين قليل وكثير، فلو كانت العلة الإسراف لما أطلق ذلك. وحكى الطحاوي في "اختلاف العلماء" عن الليث قال: لا أرى بأسا أن يخلط نبيذ التمر ونبيذ الزبيب ثم يشربان جميعا، وإنما جاء النهي أن ينبذا جميعا ثم يشربان لأن أحدهما يشتد به صاحبه. قوله: "وقال عمرو بن الحارث حدثنا قتادة سمع أنسا" أراد بهذا التعليق بيان سماع قتادة، لأنه وقع في الرواية التي ساقها قبل معنعنا، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث ولفظه: "نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وأن ذلك كان عامة خمرهم يومئذ"، وهذا السياق أظهر في المراد الذي حملت عليه لفظ الترجمة والله أعلم. وقوله في الإسناد الأول "حدثنا مسلم" وقع في رواية النسفي "حدثنا مسلم بن إبراهيم" وهشام هو الدستوائي. حديث جابر أورده بلفظ: "نهى عن الزبيب والتمر والبسر والرطب" وليس صريحا في النهي عن الخليط، وقد بينه مسلم في روايته من طريق عبد الرزاق ويحيى القطان جميعا عن ابن جريج بلفظ: "لا تجمعوا بين الرطب وبين البسر وبين الزبيب والتمر نبيذا" وأخرج أيضا من طريق الليث عن عطاء "نهي أن ينبذ التمر جميعا والرطب والبسر جميعا". قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم أيضا، وهشام هو الدستوائي أيضا. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه" هو الأنصاري المشهور. قوله: "نهى" في رواية مسلم من طريق إسماعيل ابن علية عن هشام بهذا الإسناد "لا تنبذوا الزهو والرطب جميعا" الحديث. قوله: "ولينبذ كل واحد منهما" أي من كل اثنين منهما، فيكون الجمع بين أكثر بطريق الأولى. قوله: "على حدة" بكسر المهملة وفتح الدال بعدها هاء تأنيث أي وحده، ووقع في رواية الكشميهني: "على حدته" وهذا مما يؤيد رد التأويل المذكور أولا كما بينته، ولمسلم من حديث أبي سعيد "ومن شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبا فردا أو تمرا فردا أو بسرا فردا" وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي سبب النهي من طريق الحراني عن ابن عمر قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فضربه ثم سأله عن شرابه فقال شربت نبيذ تمر وزبيب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخلطوهما، فإن كل واحد منهما يكفي وحده". قال النووي: وذهب أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار، ويكون قد بلغه. قال: ومذهب الجمهور أن النهي، في ذلك للتنزيه. وإنما يمتنع إذا صار مسكرا، ولا تخفى علامته. وقال بعض المالكية: هو للتحريم. واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب هل يمتنع أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق. وقال الليث: لا بأس بذلك عند الشرب. ونقل ابن التين عن الداودي أن سبب النهي أن النبيذ يكون حلوا، فإذا أضيف إليه الآخر أسرعت إليه الشدة. وهذه صورة أخرى، كأنه يخص النهي بما إذا نبذ أحدهما ثم أضيف إليه الآخر، لا ما إذا نبذا معا. واختلف في الخليطين من الأشربة غير النبيذ، فحكى ابن التين عن بعض الفقهاء أنه كره أن يخلط للمريض شرابين، ورده بأنهما لا يسرع إليهما الإسكار اجتماعا وانفرادا، وتعقب باحتمال أن يكون قائل ذلك يرى أن العلة الإسراف كما تقدم، لكن لا يقيد هذا في مسألة المريض بما إذا كان المفرد كافيا في دواء ذلك

(10/68)


المرض، وإلا فلا مانع حينئذ من التركيب. وقال ابن العربي: ثبت تحريم الخمر لما يحدث عنها من السكر، وجواز النبيذ الحلو الذي لا يحدث عنه سكر، وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية ثم نسخ، وعن الخليطين فاختلف العلماء: فقال أحمد وإسحاق وأكثر الشافعية بالتحريم ولو لم يسكر. وقال الكوفيون بالحل. قال: واتفق علماؤنا على الكراهة، لكن اختلقوا هل هو للتحريم أو للتنزيه؟ واختلف في علة المنع: فقيل لأن أحدهما يشد الآخر، وقيل لأن الإسكار يسرع إليهما. قال ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين، لأن اللبن لا ينبذ، لكن قال ابن عبد الحكم: لا يجوز خلط شرابي سكر كالورد والجلاب وهو ضعيف. قال: واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل، ثم قال: ويتحصل لنا أربع صور: أن يكون الخليطان منصوصين فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياسا على المنصوص، أو مسكوت عنهما وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز. قال: وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار فيجوز في المسكوت عنه ويكره في المنصوص. وما نقله عن أكثر الشافعية وجد نص الشافعي بما يوافقه فقال: ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخليطين، فلا يجوز بحال. وعن مالك قال: أدركت على ذلك أهل العلم ببلدنا. وقال الخطابي: ذهب إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب منهما مسكرا جماعة عملا بظاهر الحديث، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وظاهر مذهب الشافعي. وقالوا: من شرب الخليطين أثم من جهة واحدة، فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين، وخص الليث النهي بما إذا نبذ معا اهـ. وجرى ابن حزم على عادته في الجمود فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء وهي: التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب في أحدها أو في غيرها، فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها لم يمتنع كاللبن والعسل مثلا، ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة من طريق المختار بن فلفل عن أنس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين نبيذا مما يبغي أحدهما على صاحبه" وقال القرطبي: النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم، وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، وعن مالك يكره فقط، وشذ من قال لا بأس به لأن كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا، قال: وهذه مخالفة للنص، وقياس مع وجود الفارق، فهو فاسد من وجهين. ثم هو منتقض بجواز كل واحدة من الأختين منفردة وتحريمهما مجتمعتين، قال: وأعجب من ذلك تأويل من قال منهم إن النهي إنما هو من باب السرف، قال: وهدا تبديل لا تأويل، ويشهد ببطلانه الأحاديث الصحيحة. وقال: وتسمية الشراب إداما قول من ذهل عن الشرع واللغة والعرف، قال: والذي يفهم من الأحاديث التعليل بخوف إسراع الشدة بالخلط، وعلى هذا يقتصر في النهي عن الخلط على ما يؤثر فيه الإسراع، قال: وأفرط بعض أصحابنا فمنع الخلط وإن لم توجد العلة المذكورة، ويلزمه أن يمنع من خلط العسل واللبن والخل والعسل، قلت: حكاه ابن العربي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وقال: إنه حمل النهي عن الخليطين من الأشربة على عمومه، واستغربه.

(10/69)


باب شرب اللبن، وقول الله عز وجل: {يخرج من بين فرث ودم لبنا حالصا سائغا للشاربين}
...
12 - باب شُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}
5603- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ".
5604- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَيْراً مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ يُحَدِّثُ

(10/69)


عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبَ فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ" فَإِذَا وُقِّفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ.
5605- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُوداً" .
[الحديث 5605 – طرفه في: 5606]
5606- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ أُرَاهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ النَّقِيعِ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُوداً" . وَحَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
5607- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ وَأَتَانَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ فَدَعَا عَلَيْهِ فَطَلَبَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ أَنْ لاَ يَدْعُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَرْجِعَ فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5608- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ" .
5609- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَناً فَمَضْمَضَ وَقَالَ إِنَّ لَهُ دَسَماً" .
5610- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ فَأُتِيتُ بِثَلاَثَةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ فَقِيلَ لِي أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ" . قَالَ هِشَامٌ وَسَعِيدٌ وَهَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَنْهَارِ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلاَثَةَ أَقْدَاحٍ.

(10/70)


قوله: "باب شرب اللبن" قال ابن المنير: أطال التفنن في هذه الترجمة ليرد قول من زعم أن اللبن يسكر كثيره فرد ذلك بالنصوص، وهو قول غير مستقيم لأن اللبن لا يسكر بمجرده وإنما يتفق فيه ذلك نادرا بصفة تحدث. وقال غيره: قد زعم بعضهم أن اللبن إذا طال العهد به وتغير صار يسكر، وهذا ربما يقع نادرا إن ثبت وقوعه، ولا يلزم منه تأثيم شاربه إلا إن علم أن عقله يذهب به فشربه لذلك. نعم قد يقع السكر باللبن إذا جعل فيه ما يصير باختلاطه معه مسكرا فيحرم. قلت: أخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن سيرين أنه سمع أن عمر يسأل عن الأشربة فقال: إن أهل كذا يتخذون من كذا وكذا خمرا حتى عد خمسة أشربة لم أحفظ منها إلا العسل والشعير واللبن، قال فكنت أهاب أن أحدث باللبن حتى أنبئت أنه بأرمينية يصنع شراب من اللبن لا يلبث صاحبه أن يصرع واستدل بالآية المذكورة أول الباب على أن الماء إذا تغير ثم طال مكثه حتى زال التغير بنفسه ورجع إلى ما كان عليه أنه يطهر بذلك، وهذا في الكثير، وبغير النجاسة من القليل متفق عليه، وأما القليل المتغير بالنجاسة ففيما إذا زال تغيره بنفسه خلاف: هل يطهر؟ والمشهور عند المالكية يطهر، وظاهر الاستدلال يقوي القول بالتطهير، لكن في الاستدلال به لذلك نظر، وقريب منه في البعد استدلال من استدل به على طهارة المني، وتقريره أن اللبن خالط الفرث والدم ثم استحال فخرج خالصا طاهرا، وكذلك المني ينقصر من الدم فيكون على غير صفة الدم فلا يكون نجسا. قوله: "وقول الله عز وجل: يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} ، زاد غير أبي ذر "لبنا خالصا" وزاد غيره وغير النسفي بقية الآية، ووقع بلفظ: "يخرج" في أوله في معظم النسخ، والذي في القرآن {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} وأما لفظ: "يخرج" فهو في الآية الأخرى من السورة {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ووقع في بعض النسخ وعليه جرى الإسماعيلي وابن بطال وغيرهما بحذف "يخرج" من أوله وأول الباب عندهم: وقول الله {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} فكأن زيادة لفظ: "يخرج" ممن دون البخاري وهذه الآية صريحة في إحلال شرب لبن الأنعام بجميع أنواعه، لوقوع الامتنان به، فيعم جميع ألبان الأنعام في حال حياتها. والفرث بفتح الفاء وسكون الراء بعدها مثلثة هو ما يجتمع في الكرش. وقال القزاز: هو ما ألقي من الكرش، تقول فرثت الشيء إذا أخرجته من وعائه فشربته، فأما بعد خروجه فإنما يقال له سرجين وزبل. وأخرج القزاز عن ابن عباس أن الدابة إذا أكلت العلف واستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلطة عليه فتقسم الدم وتجريه في العروق وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش وحده، وقوله تعالى: {لَبَناً خَالِصاً} أي من حمرة الدم وقذارة الفرث، وقوله: {سَائِغاً} أي لذيذا هنيئا لا يغص به شاربه. قوله: "بقدح لبن وقدح خمر" تقدم البحث فيه قريبا، والحكمة في التخيير بين الخمر مع كونه حراما واللبن مع كونه حلالا إما لأن الخمر حينئذ لم تكن حرمت. أو لأنها من الجنة وخمر الجنة ليست حراما. وقوله في الحديث: "ليلة أسري به" حكي فيه تنوين ليلة. والذي أعرفه في الرواية الإضافة. حديث أم الفضل في شرب اللبن بعرفة. وقد تقدم شرحه في الصيام. وقوله في آخره: "وكان سفيان ربما قال: شك الناس في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه أم الفضل، فإذا وقف عليه قال: هو عن أم الفضل" يعني أن سفيان كان ربما أرسل الحديث فلم يقل في الإسناد عن أم الفضل. فإذا سئل عنه هل هو موصول أو مرسل قال: هو عن أم الفضل. وهو في قوة قوله هو موصول. وهذا معنى قوله وقف عليه. وهو

(10/71)


بضم أوله وكسر القاف. ووقع في رواية أبي ذر "ووقف" بزيادة واو ساكنة بعد الواو المضمومة، والقائل "وكان سفيان" هو الراوي عنه وهو الحميدي، وقد تقدم في الحج عن علي بن عبد الله عن سفيان بدون هذه الزيادة. وأغرب الداودي فقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن تقول أم الفضل عن نفسها "فأرسلت أم الفضل" أي على سبيل التجريد، كذا قال. قوله: "عن أبي صالح وأبي سفيان" كذا رواه أكثر أصحاب الأعمش عنه عن جابر، ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح وحده أخرجه مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وعن أبي صالح عن أبي هريرة، وهو شاذ والمحفوظ عن جابر. قوله: "من النقيع" بالنون، قيل هو الموضع الذي حمي لرعي النعم وقيل: غيره، وقد تقدم في كتاب الجمعة ذكر نقيع الخضمات فدل على التعدد؛ وكان واديا يجتمع فيه الماء، والماء الناقع هو المجتمع، وقيل: كانت تعمل فيه الآنية، وقيل: هو الباع حكاه الخطابي، وعن الخليل: الوادي يكون فيه الشجر. وقال ابن التين: رواه أبو الحسن يعني القابسي بالموحدة، وكذا نقله عياض عن أبي بحر بن العاص، وهو تصحيف، فإن البقيع مقبرة بالمدينة. وقال القرطبي: الأكثر على النون وهو من ناحية العقيق على عشرين فرسخا من المدينة. قوله: "ألا" بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا. وقوله: "خمرته" بخاء معجمة وتشديد الميم أي غطيته، ومنه خمار المرأة لأنه يسترها. قوله: "تعرض" بفتح أوله وضم الراء قاله الأصمعي، وهو رواية الجمهور، وأجاز أبو عبيد كسر الراء وهو مأخوذ من العرض أي تجعل العود عليه بالعرض، والمعنى أنه إن لم يغطه فلا أقل من أن يعرض عليه شيئا. وأظن السر في الاكتفاء بعرض العود أن تعاطي التغطية أو العرض يقترن بالتسمية فيكون العرض علامة على التسمية فتمتنع الشياطين من الدنو منه، وسيأتي شيء من الكلام على هذا الحكم في "باب في تغطية الإناء" بعد أبواب. "تنبيه": وقع لمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح وحده عن جابر "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى، فقال رجل: يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا؟ قال: بلى، فخرج الرجل يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا خمرته" الحديث. ولمسلم أيضا من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: "أخبرني أبو حميد الساعدي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن من النقيع ليس مخمرا" الحديث. والذي يظهر أن قصة اللبن كانت لأبي حميد وأن جابرا أحضرها، وأن قصة النبيذ حملها جابر عن أبي حميد وأبهم أبو حميد صاحبها، ويحتمل أن يكون هو أبا حميد راويها أبهم نفسه، ويحتمل أن يكون غيره، وهو الذي يظهر لي والله أعلم. حديث البراء "قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وأبو بكر معه" كذا أورده مختصرا فقال البراء(1) أن هذا القدر هو الذي رواه شعبة عن أبي إسحاق قال: ورواه إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق مطولا. قلت: وقد تقدم في الهجرة وأوله "أن عازبا باع رحلا لأبي بكر وسأله عن قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة" وقوله: "فحلبت" وتقدم هناك "فأمرت الراعي فحلب" فتكون نسبة الحلب لنفسه هنا مجازية. وقوله: "كثبة" بضم أوله وسكون المثلثة بعدها موحدة قال الخليل: كل قليل جمعته هو كثبة. وقال ابن فارس: هي القطعة من اللبن أو التمر. وقال أبو زيد: هي من اللبن ملء القدح، وقيل: قدر حلبة ناقة. ومحمود شيخ البخاري فيه هو ابن غيلان والنضر هو ابن شميل. وأحسن الأجوبة في شرب النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن مع كون الراعي أخبرهم أن الغنم لغيره أنه كان في عرفهم التسامح بذلك، أو كان صاحبها أذن للراعي أن يسقي من يمر به إذا التمس ذلك منه. وقيل فيه احتمالات
ـــــــ
(1) كذا في الأصل

(10/72)


أخرى تقدمت. الحديث الخامس: حديث أبي هريرة "نعم الصدقة اللقحة" بكسر اللام ويجوز فتحها وسكون القاف بعدها مهملة. وهي التي قرب عهدها بالولادة - والصفي - بمهملة وفاء وزن فعيل - هي الكثيرة اللبن وهي بمعنى مفعول أي مصطفاة مختارة. وفي قوله: "تغدو وتروح" إشارة إلى أن المستعير لا يستأصل لبنها. وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في كتاب العارية. الحديث السادس: حديث ابن عباس في المضمضة من اللبن أي بسبب شرب اللبن، تقدم شرحه في الطهارة. وقد أخرجه أبو جعفر الطبري من طريق عقيل عن ابن شهاب بصيغة الأمر "تمضمضوا من اللبن" . حديث أنس في الأقداح. قوله: "وقال إبراهيم بن طهمان الخ" وصله أبو عوانة والإسماعيلي والطبراني في الصغير من طريقه، ووقع لنا بعلو في "غرائب شعبة لابن منده" قال الطبراني: لم يروه عن شعبة إلا إبراهيم بن طهمان، تفرد به حفص بن عبد الله النيسابوري عنه. قوله: "رفعت إلى سدرة المنتهى" كذا للأكثر بضم الراء وكسر الفاء وفتح المهملة وسكون المثناة على البناء للمجهول، والسدرة مرفوعة. وللمستملي: "دفعت" بدال بدل الراء وسكون العين وضم المثناة بنسبة الفعل إلى المتكلم، وإلى بالسكون حرف جر. قوله: "وقال هشام" يعني الدستوائي، وهمام يعني ابن يحيى، وسعيد يعني ابن أبي عروبة، يعني أنهم اجتمعوا على رواية الحديث عن قتادة فزادوا هم في الإسناد بعد أنس بن مالك "مالك بن صعصعة" ولم يذكره شعبة. وقوله: "في الأنهار نحوه" يريد أنهم توافقوا من المتن على ذكر الأنهار وزادوا هم قصة الإسراء بطولها وليست في رواية شعبة هذه، ووقع في روايتهم هنا بعد قوله سدرة المنتهى " فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنها آذان الفيلة، في أصلها أربعة أنهار" واقتصر شعبة على "فإذا أربعة أنهار" . قوله: "ولم يذكروا ثلاثة أقداح" في رواية الكشميهني: "ولم يذكر" بالإفراد، وظاهر هذا النفي أنه لم يقع ذكر الأقداح في رواية الثلاثة، وهو معترض بما تقدم في بدء الخلق عن هدبة عن همام بلفظ: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل" فيحتمل أن يكون المراد بالنفي نفي ذكر الأقداح بخصوصها، ويحتمل أن تكون رواية الكشميهني التي بالإفراد هي المحفوظة، والفاعل هشام الدستوائي فإنه تقدم في بدء الخلق من طريق يزيد بن زريع عن سعيد وهشام جميعا عن قتادة بطوله وليس فيه ذكر الآنية أصلا، لكن أخرجه مسلم من رواية عبد الأعلى عن هشام وفيه: " ثم أتيت بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن، فعرضا علي" ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه نحوه ولم يسق لفظه، وقد ساقه النسائي من رواية يحيى القطان عن هشام وليس فيه ذكر الآنية أصلا، فوضح من هذا أن رواية همام فيها ذكر ثلاثة، وإن كان لم يصرح بذكر العدد ولا وصف الظرف، ورواية سعيد فيها ذكر إناءين فقط، ورواية هشام ليس فيها ذكر شيء من ذلك أصلا، وقد رجح الإسماعيلي رواية إناءين فقال عقب حديث شعبة هنا: هذا حديث شعبة، وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة المذكور أول الباب أصح إسنادا من هذا، وأولى من هذا. كذا قال، مع أنه أخرج حديث همام عن جماعة عن هدبة عنه كما أخرجه البخاري سواء، والزيادة من الحافظ مقبولة، وقد توبع، وذكر إناءين لا ينفي الثالث، مع أنني قدمت في الكلام على حديث الإسراء أن عرض الآنية على النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين: قبل المعراج وهو في بيت المقدس، وبعده وهو عند سدرة المنتهى، وبهذا يرتفع الإشكال جملة. قال ابن المنير: لم يذكر السر في عدوله عن العسل إلى اللبن كما ذكر السر في عدوله عن الخمر، ولعل السر في ذلك كون اللبن أنفع، وبه يشتد العظم وينبت اللحم، وهو بمجرده قوت، ولا يدخل في السرف بوجه، وهو أقرب إلى الزهد، ولا

(10/73)


منافاة بينه وبين الورع بوجه. والعسل وإن كان حلالا لكنه من المستلذات التي قد يخشى على صاحبها أن يندرج في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} . قلت: ويحتمل أن يكون السر فيه ما وقع في بعض طرق الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم عطش - كما تقدم في بعض طرقه مبينا هناك - فأتي بالأقداح، فآثر اللبن دون غيره لما فيه من حصول حاجته دون الخمر والعسل، فهذا هو السبب الأصلي في إيثار اللبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات. وقد تقدم شيء من هذا في شرح حديث الإسراء. قال ابن المنير: ولا يعكر على ما ذكرته ما سيأتي قريبا أنه كان يحب الحلوى والعسل، لأنه إنما كان يحبه مقتصدا في تناوله لا في جعله ديدنا ولا تنطعا. ويؤخذ من قول جبريل في الخمر "غوت أمتك" أن الخمر ينشأ عنها الغي، ولا يختص ذلك بقدر معين. ويؤخذ من عرض الآنية عليه صلى الله عليه وسلم إرادة إظهار التيسير عليه، وإشارة إلى تفويض الأمور إليه.

(10/74)


13 - باب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ".
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى "رَايِحٌ".
قوله: "باب استعذاب الماء" بالذال المعجمة أي طلب الماء العذب، والمراد به الحلو. حديث أنس في صدقة أبي طلحة لقوله فيه: "ويشرب من ماء فيها طيب" وقد ورد في خصوص هذا اللفظ - وهو استعذاب الماء - حديث عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله يستعذب له الماء من بيوت السقيا" والسقيا بضم المهملة وبالقاف بعدها تحتانية قال قتيبة: هي عين بينها وبين المدينة يومان، هكذا أخرجه أبو داود عنه بعد سياق الحديث بسند جيد وصححه الحاكم، وفي قصة أبي الهيثم بن التيهان أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءهم يسأل عن أبي الهيثم "ذهب يستعذب لنا من الماء" وهو عند مسلم كما سأبينه بعد، وذكر الواقدي من حديث سلمى امرأة أبي رافع "كان أبو أيوب حين نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس" ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. قال ابن بطال: استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه فقد كرهه مالك لما فيه من السرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله

(10/74)


الصالحون. وليس في شرب الماء الملح فضيلة، قال: وفيه دلالة على أن استطابة الأطعمة جائزة وأن ذلك من فعل أهل الخير، وقد ثبت أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} نزل في الذين أرادوا الامتناع من لذائذ المطاعم، قال: ولو كانت مما لا يريد الله تناوله ما امتن بها على عباده، بل نهيه عن تحريمها يدل على أنه أراد منهم تناولها ليقابلوا نعمته بها عليهم بالشكر لها، وإن كانت نعمه لا يكافئها شكرهم. وقال ابن المنير: أما أن استعذاب الماء لا ينافي الزهد والورع فواضح، وأما الاستدلال بذلك على لذيذ الأطعمة فبعيد. وقال ابن التين: هذا الحديث أصل في جواز شرب الماء من البستان بغير ثمن. قلت: المأذون له في الدخول فيه لا شك فيه، وأما غيره فلما اقتضاه العرف من المسامحة بذلك، وثبوت ذلك بالفعل المذكور فيه نظر. قوله: "ذلك مال رايح أو رابح" الأول بتحتانية والثاني بموحدة والحاء مهملة فيهما، فالأول معناه أن أجره يروح إلى صاحبه أي يصل إليه ولا ينقطع عنه، والثاني: معناه كثير الربح، وأطلق عليه صفة صاحبه المتصدق به. وقوله: "شك عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وقوله: "قال إسماعيل" هو ابن أبي أويس ويحيى هو ابن يحيى، ورايح في روايتهما بالتحتانية وقد تقدمت رواية إسماعيل مصرحا فيها بالتحديث في تفسير آل عمران، ورواية يحيى بن يحيى كذلك في الوكالة، وتقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الوكالة.

(10/75)


14 - باب شُربِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ
5612- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ "رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَناً وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِئْرِ فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ثُمَّ قَالَ: الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ".
5613- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ وَإِلاَ كَرَعْنَا" قَالَ وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ قَالَ فَانْطَلَقَ بِهِمَا فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ قَالَ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ".
[الحديث 5613 – طرفه في: 5621]
قوله: "باب شرب اللبن بالماء" أي ممزوجا، وإنما قيده بالشرب للاحتراز عن الخلط عند البيع فإنه غش. ووقع في رواية الكشميهني بالواو بدل الراء، والشوب الخلط، قال ابن المنير: مقصوده أن ذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين، وهو يؤيد ما تقدم من فائدة تقييده الخليطين بالمسكر، أي إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد

(10/75)


منهما من جنس ما يسكر، وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء لأن اللبن عند الحليب يكون حارا وتلك البلاد في الغالب حارة، فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان، وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا وأتى داره" أي دار أنس، وهي جملة حالية أي رآه حين أتى داره، وقد تقدم في الهبة من طريق أبي طوالة عن أنس بلفظ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فاستسقى، فحلبنا شاة لنا. قوله: "فحلبت" عين في هذه الرواية أنه هو الذي باشر الحلب، وقوله: "فشبت" كذا للأكثر من الشوب بلفظ المتكلم، ووقع في رواية الأصيلي بكسر المعجمة بعدها تحتانية على البناء للمجهول. قوله: "وأبو بكر عن يساره" زاد في رواية أبي طوالة وعمر تجاهه، وقد تقدم ضبطها في الهبة، وتقدم في الشرب من طريق شعيب عن الزهري في هذا الحديث: "فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي: أعط أبا بكر" وفي رواية أبي طوالة "فقال عمر هذا أبو بكر" قال الخطابي وغيره: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم في قصيدة له: "وكان الكأس مجراها اليمينا" فخشي عمر لذلك أن يقدم الأعرابي على أبي بكر في الشرب فنبه عليه لأنه احتمل عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر تقديم أبي بكر على تلك العادة فتصير السنة تقديم الأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله أن تلك العادة لم تغيرها السنة، وأنها مستمرة، وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك. ولا يلزم من ذلك حط رتبة الأفضل، وكان ذلك لفضل اليمين على اليسار. قوله: "فأعطى الأعرابي فضله" أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه، وقد تقدم في الهبة ذكر من زعم أن اسم هذا الأعرابي خالد بن الوليد وأنه وهم، ووقع عند الطبراني من حديث عبد الله بن أبي حبيبة قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فجئت فجلست عن يمينه وجلس أبو بكر عن يساره، ثم دعا بشراب فشرب وناولني عن يمينه" وأخرجه أحمد لكن لم يسم الصحابي، ولا يمكن تفسير المبهم في حديث أنس به أيضا لأن هذه القصة كانت بقباء وتلك في دار أنس أيضا فهو أنصاري ولا يقال له أعرابي كما استبعد ذلك في حق خالد بن الوليد. قوله: "ثم قال: الأيمن فالأيمن" في رواية الكشميهني: "وقال" بالواو بدل "ثم" وفي رواية أبي طوالة "الأيمنون فالأيمنون" وفيه حذف تقديره الأيمنون مقدمون أو أحق أو يقدم الأيمنون. وأما رواية الباب فيجوز الرفع على ما سبق، والنصب على تقدير قدموا أو أعطوا. ووقع في الهبة بلفظ: "ألا فيمنوا" والكلام عليها. واستنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهلم جرا، ويلزم منه أن يكون عمر في الصورة التي وردت في هذا الحديث شرب بعد الأعرابي ثم شرب أبو بكر بعده. لكن الظاهر عن عمر إيثاره أبا بكر بتقديمه عليه. والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من سبق إلى مجلس علم أو مجلس رئيس لا ينحى منه لمجيء من هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز، وأن من استحق شيئا لما يدفع عنه إلا بإذنه كبيرا كان أو صغيرا إذا كان ممن يجوز إذنه. وفيه أن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم على سبيل الفضل لا اللزوم، للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب قاله ابن عبد البر، ومحله ما إذا لم يكن فيهم الإمام أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له. وفيه دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه ولو كان صغير السن وتناوله مما عندهم من طعام وشراب من غير بحث. وسيأتي بقية فوائده بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو

(10/76)


عامر هو العقدي، وسعيد بن الحارث هو الأنصاري. قوله: "دخل على رجل من الأنصار" كنت ذكرت في المقدمة أنه أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، ثم وقفت عن ذلك لما أخرجه أحمد عن إسحاق بن عيسى عن فليح في أول حديثي الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قوما من الأنصار يعود مريضا لهم، وقصة أبي الهيثم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، واستوعب ابن مردويه في تفسير التكاثر طرقه فزاد عن ابن عباس وأبي عسيب وأبي سعيد ولم يذكر في شيء من طرقه عبادة، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، ثم وقفت على المستند في ذلك وهو ما ذكره الواقدي من حديث الهيثم بن نصر الأسلمي قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه، فكنت آتيه بالماء من بئر جاشم - وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان وكان ماؤها طيبا - ولقد دخل يوما صائفا ومعه أبو بكر على أبي الهيثم فقال: هل من ماء بارد؟ فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج فصبه على لبن عنز له وسقاه، ثم قال له: إن لنا عريشا باردا فقل فيه يا رسول الله عندنا، فدخله وأبو بكر، وأتى أبو الهيثم بألوان من الرطب" الحديث. والشجب بفتح المعجمة وسكون الجيم ثم موحدة يتخذ من شنة تقطع ويخرز رأسها. قوله: "ومعه صاحبه" هو أبو بكر الصديق كما ترى. قوله: "فقال له" زاد في رواية الإسماعيلي من قبل هذا "وإلى جانبه ماء في ركي" وهو بفتح الراء وكسر الكاف وبعدها شدة البئر المطوية، وزاد في رواية ستأتي بعد خمسة أبواب "فسلم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل - أي عليهما - السلام". قوله: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة" بفتح المعجمة وتشديد النون وهي القربة الخلقة. وقال الداودي: هي التي زال شعرها من البلى. قال المهلب: الحكمة في طلب الماء البائت أنه يكون أبرد وأصفى، وأما مزج اللبن بالماء فلعل ذلك كان في يوم حار كما وقع في قصة أبي بكر مع الراعي. قلت: لكن القصتان مختلفتان، فصنيع أبي بكر ذلك باللبن لشدة الحر، وصنيع الأنصاري لأنه أراد أن لا يسقي النبي صلى الله عليه وسلم ماء صرفا فأراد أن يضيف إليه اللبن فأحضر له ما طلب منه وزاد عليه من جنس جرت عادته بالرغبة فيه. ويؤيد هذا ما في رواية الهيثم بن نصر قبل أن الماء كان مثل الثلج. قوله: "وإلا كرعنا" فيه حذف تقديره: فاسقنا، وإن لم يكن عندك كرعنا. ووقع في رواية ابن ماجه التصريح بطلب السقي. والكرع بالراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف. وقال ابن التين حكى أبو عبد الملك أنه الشرب باليدين معا، قال: وأهل اللغة على خلافه. قلت: ويرده ما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر قال: "مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها" الحديث ولكن في سنده ضعف، فإن كان محفوظا فالنهي فيه للتنزيه، والفعل لبيان الجواز، أو قصة جابر قبل النهي، أو النهي في غير حال الضرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الري، أشار إلى هذا الأخير ابن بطال، وإنما قيل للشرب بالفم كرع لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها والغالب أنها تدخل أكارعها حينئذ في الماء، ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن ابن عمر فقال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا" وهو الكرع، وسنده أيضا ضعيف، فهذا إن ثبت احتمل أن يكون النهي خاصا بهذه الصورة، وهي أن يكون الشارب منبطحا على بطنه، ويحمل حديث جابر على الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح. ووقع في رواية أحمد "وإلا تجرعنا" بمثناة وجيم وتشديد الراء أي شربنا جرعة جرعة، وهذا قد يعكر على الاحتمال المذكور. والله أعلم. قوله: "والرجل يحول الماء في حائطه" أي ينقل الماء من مكان إلى مكان آخر من البستان ليعم

(10/77)


أشجاره بالسقي، وسيأتي بعد خمسة أبواب من وجه آخر بلفظ: "وهو يحول في حائط له" يعني الماء، وفي لفظ له "يحول الماء في الحائط" فيحتمل أن يكون وقع منه تحويل الماء من البئر مثلا إلى أعلاها ثم حوله من مكان إلى مكان. قوله: "إلى العريش" هو خيمة من خشب وثمام بضم المثلثة مخففا، وهو نبات ضعيف له خواص، وقد يجعل من الجريد كالقبة أو من العيدان ويظلل عليها. قوله: "فسكب في قدح" في رواية أحمد: فسكب ماء في قدح. قوله: "ثم حلب عليه من داجن له" في رواية أحمد وابن ماجه فحلب له شاة ثم صب عليه ماء بات في شن، والداجن بجيم ونون: الشاة التي تألف البيوت. قوله: "ثم شرب الرجل" في رواية أحمد "وشرب النبي صلى الله عليه وسلم وسقى صاحبه" وظاهره أن الرجل شرب فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في رواية لأحمد أيضا وابن ماجه: "ثم سقاه ثم صنع لصاحبه مثل ذلك" أي حلب له أيضا وسكب عليه الماء البائت، هذا هو الظاهر، ويحتمل أن تكون المثلية في مطلق الشرب. قال المهلب: في الحديث أنه لا بأس بشرب الماء البارد في اليوم الحار، وهو من جملة النعم التي امتن الله بها على عباده، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رفعه: " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: ألم أصح جسمك، وأرويك من الماء البارد؟"

(10/78)


15 - باب شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لِأَنَّهُ رِجْسٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
5614- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ".
قوله: "باب شراب الحلواء والعسل" في رواية المستملي: "الحلواء" بالمد ولغيره بالقصر، وهما لغتان، قال الخطابي: هي ما يعقد من العسل ونحوه. وقال ابن التين عن الداودي: هي النقيع الحلو، وعليه يدل تبويب البخاري "شراب الحلواء" كذا قال، وإنما هو نوع منها، والذي قاله الخطابي هو مقتضى العرف. وقال ابن بطال: الحلوى كل شيء حلو، وهو كما قال، لكن استقر العرف على تسمية ما لا يشرب من أنواع الحلو حلوى ولأنواع ما يشرب مشروب ونقيع أو نحو ذلك، ولا يلزم مما قال اختصاص الحلوى بالمشروب. قوله: "وقال الزهري: لا يحل شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس، قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ووجهه ابن التين أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى البول رجسا. وقال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} والرجس من جملة الخبائث، ويرد على استدلال الزهري جواز أكل الميتة عند الشدة وهي رجس أيضا، ولهذا قال ابن بطال: الفقهاء على خلاف قول الزهري، وأشد حال البول أن يكون في النجاسة والتحريم مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، ولم يختلفوا في جواز تناولها عند الضرورة. وأجاب بعض العلماء عن الزهري باحتمال أنه كان يرى أن القياس لا يدخل الرخص، والرخصة في الميتة لا في البول. قلت: وليس هذا بعيدا من مذهب الزهري، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" من رواية ابن أخي الزهري قال: كان الزهري يصوم يوم عاشوراء في السفر، فقيل له أنت تفطر في

(10/78)


رمضان إذا كنت مسافرا، فقال: إن الله تعالى قال في رمضان {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وليس ذلك لعاشوراء. قال ابن التين: وقد يقال إن الميتة لسد الرمق، والبول لا يدفع العطش، فإن صح هذا صح ما قال الزهري إذ لا فائدة فيه. قلت: وسيأتي نظيره في الأثر الذي بعده. قوله: "وقال ابن مسعود في السكر: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". قال ابن التين: اختلف في السكر بفتحتين: فقيل هو الخمر، وقيل: ما يجوز شربه كنقيع التمر قبل أن يشتد وكالخل، وقيل: هو نبيذ التمر إذا اشتد. قلت: وتقدم في تفسير النحل عن أكثر أهل العلم أن السكر في قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} وهو ما حرم منها، والرزق الحسن ما أحل. وأخرج الطبري من طريق أبي رزين أحد كبار التابعين قال: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. ومن طريق النخعي نحوه. ومن طريق الحسن البصري بمعناه. ثم أخرج من طريق الشعبي قال: السكر نقيع الزبيب يعني قبل أن يشتد والخل، واختار الطبري هذا القول وانتصر له لأنه لا يستلزم منه دعوى نسخ، ويستمر الامتنان بما تضمنته الآية على ظاهره، بخلاف القول الأول فإنه يستلزم النسخ والأصل عدمه. قلت: وهذا في الآية محتمل، لكنه في هذا الأثر محمول على المسكر، وقد أخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن النخعي والشعبي وسعيد بن جبير أنهم قالوا: السكر خمر، ويمكن الجمع بأن السكر بلغة العجم الخمر وبلغة العرب النقيع قبل أن يشتد، ويؤيده ما أخرجه الطبراني من طريق قتادة قال: السكر خمور الأعاجم، وعلى هذا ينطبق قول ابن مسعود "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار: إن كان أراد مسكر الأشربة فلعله سقط من الكلام ذكر السؤال، وإن كان أراد السكر بالضم وسكون الكاف قال: فأحسبه هذا أراد، لأنني أظن أن عند بعض المفسرين سئل ابن مسعود عن التداوي بشيء من المحرمات فأجاب بذلك.
والله أعلم بمراد البخاري. قلت: قد رويت الأثر المذكور في "فوائد علي بن حرب الطائي" عن سفيان بن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال: اشتكى رجل منا يقال له خثيم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله، فذكره. وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه، وروينا في "نسخة داود بن نصير الطائي" بسند صحيح عن مسروق قال: "قال عبد الله هو ابن مسعود: لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة، وإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن مسعود كذلك، وهذا يؤيد ما قلناه أولا في تفسير السكر. وأخرج إبراهيم الحربي في غريب الحديث، من هذا الوجه قال: أتينا عبد الله في مجدرين أو محصبين نعت لهم السكر فذكر مثله. ولجواب ابن مسعود شاهد آخر أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة قالت: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي فقال: ما هذا؟ فأخبرته، فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" . ثم حكى ابن التين عن الداودي قال: قول ابن مسعود حق لأن الله حرم الخمر لم يذكر فيها ضرورة وأباح الميتة وأخواتها في الضرورة. قال: ففهم الداودي أن ابن مسعود تكلم على استعمال الخمر عند الضرورة وليس كذلك، وإنما تكلم على التداوي بها فمنعه، لأن الإنسان يجد مندوحة عن التداوي بها ولا يقطع بنفعه، بخلاف الميتة في سد الرمق. وكذا قال النووي في الفرق بين جواز إساغة اللقمة لمن شرق بها بالجرعة من الخمر فيجوز وبين التداوي بها فلا يجوز لأن الإساغة تتحقق بها بخلاف الشفاء فإنه لا يتحقق. ونقل الطحاوي عن الشافعي أنه

(10/79)


قال: لا يجوز سد الرمق من الجوع ولا من العطش بالخمر لأنها لا تزيده إلا جوعا وعطشا، ولأنها تذهب بالعقل. وتعقبه بأنه إن كانت لا تسد من الجوع ولا تروي من العطش لم يرد السؤال أصلا، وأما إذهابها العقل فليس البحث فيه بل هو فيما يسد به الرمق وقد لا يبلغ إلى حد إذهاب العقل. قلت: والذي يظهر أن الشافعي أراد أن يردد الأمر بأن التناول منها إن كان يسيرا فهو لا يغني من الجوع ولا يروي من العطش، وإن كانت كثيرا فهو يذهب العقل، ولا يمكن القول بجواز التداوي بما يذهب العقل لأنه يستلزم أن يتداوى من شيء فيقع في أشد منه. وقد اختلف في جواز شرب الخمر للتداوي وللعطش، قال مالك لا يشربها لأنها لا تزيده إلا عطشا، وهذا هو الأصح عند الشافعية، لكن التعليل يقتضي قصر المنع على المتخذ من شيء يكون بطبعه حارا كالعنب والزبيب، أما المتخذ من شيء بارد كالشعير فلا. وأما التداوي فإن بعضهم قال إن المنافع التي كانت فيها قبل التحريم سلبت بعد التحريم بدليل الحديث المتقدم ذكره، وأيضا فتحريمها مجزوم به، وكونها دواء مشكوك بل يترجح أنها ليست بدواء بإطلاق الحديث. ثم الخلاف إنما هو فيما لا يسكر منها. أما ما يسكر منها فإنه لا يجوز تعاطيه في التداوي إلا في صورة واحدة وهو من اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله، فقد أطلق الرافعي تخريجه على الخلاف في التداوي، وصحح النووي هنا الجواز، وينبغي أن يكون محله فيما إذا تعين ذاك طريقا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدا غيرها، وقد صرح من أجاز التداوي بالثاني، وأجازه الحنفية مطلقا لأن الضرورة تبيح الميتة وهي لا يمكن أن تنقلب إلى حالة تحل فيها، فالخمر التي من شأنها أن تنقلب خلا فتصير حلالا أولى، وعن بعض المالكية إن دعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز كما لو غص بلقمة، والأصح عند الشافعية في الغص الجواز. وهذا ليس من التداوي المحض، وسيأتي في أواخر الطب ما يدل على النهي عن التداوي بالخمر وهو يؤيد المذهب الصحيح. حديث عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل" قال ابن المنير: ترجم على شيء وأعقبه بضده وبضدها تتبين الأشياء، ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصا، ويحتمل أن يكون مراده بقول الزهري الإشارة لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى أن الحلواء والعسل من الطيبات فهو حلال، وبقول ابن مسعود الإشارة إلى قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فدل الامتنان، به على حله، فلم يجعل الله الشفاء فيما حرم، قال ابن المنير: ونبه بقوله شراب الحلواء على أنها ليست الحلوى المعهودة التي يتعاطاها المترفون اليوم، وإنما هي حلو يشرب إما عسل بماء أو غير ذلك مما يشاكله انتهى. ومحتمل أن تكون الحلوى كانت تطلق لما هو أعم مما يعقد أو يؤكل أو يشرب، كما أن العسل قد يؤكل إذا كان جامدا وقد يشرب إذا كان مائعا وقد يخلط فيه الماء ويذاب ثم يشرب، وقد تقدم في كتاب الطلاق من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة في حديث الباب زيادة "وإن امرأة من قوم حفصة أهدت لها عكة عسل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة" الحديث في ذكر المغافير. فقوله: "سقته شربة من عسل" محتمل لأن يكون صرفا حيث يكون مائعا، ويحتمل أن يكون ممزوجا. وقال النووي: المراد بالحلوى في هذا الحديث كل شيء حلو، وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته، وهو من الخاص بعد العام، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة، لا سيما إن حصل اتفاقا. وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي سليمان الداراني قال: قول عائشة "كان يعجبه الحلوى" ليس على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها وتأنق الصنعة في اتخاذها كفعل أهل الترفه والشره. وإنما كان إذا قدمت إليه ينال منها نيلا جيدا فيعلم بذلك أنه

(10/80)


يعجبه طعمها، وفيه دليل على اتخاذ الحلاوات والأطعمة من أخلاط شتى.

(10/81)


16 - باب الشُّرْبِ قَائِماً
5615- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ قَالَ: "أَتَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قَائِماً فَقَالَ إِنَّ نَاساً يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ".
[الحديث 5615 – طرفه في: 5616]
5616- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ قَالَ إِنَّ نَاساً يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قِيَاماً وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ".
5617- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِماً مِنْ زَمْزَمَ".
قوله: "باب الشرب قائما" قال ابن بطال: أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائما. كذا قال، وليس بجيد، بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم. قوله: "عن النزال" بفتح النون وتشديد الزاي وآخره لام، في الرواية الثانية "سمعت النزال بن سبرة" وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة، تقدمت له رواية عن ابن مسعود في فضائل القرآن وغيره، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين. وقد روى مسعر هذا الحديث عن عبد الملك بن ميسرة مختصرا، ورواه عنه شعبة مطولا، وساقه المصنف في هذا الباب، ووافق الأعمش شعبة على سياقه مطولا. ومسعر وشيخه وشيخ شيخه هلاليون كوفيون، وأبو نعيم أيضا كوفي، وعلي نزل الكوفة ومات بها، فالإسناد الأول كله كوفيون. قوله: "أتى علي" وقوله في الرواية التي تليها "عن علي" وقع عند النسائي: "رأيت عليا" أخرجه من طريق بهز بن أسد عن شعبة. قوله: "على باب الرحبة" زاد في رواية شعبة أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، والرحبة بفتح الراء والمهملة والموحدة المكان المتسع، والرحب بسكون المهملة المتسع أيضا، قال الجوهري: ومنه أرض رحبة بالسكون أي متسعة، ورحبة المسجد بالتحريك وهي ساحته، قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ الحديث بالسكون، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك، وهذا هو الصحيح. قوله: "حوائج" هو جمع حاجة على غير القياس، وذكر الأصمعي أنه مولد، والجمع حاجات وحاج وقال ابن ولاد: الحوجاء الحاجة وجمعها حواجي بالتشديد، ويجوز التخفيف، قال: فلعل حوائج مقلوبة من حواجي مثل سوائع من سواعي. وقال أبو عبيد الهروي: قيل: الأصل حائجة فيصح الجمع على حوائج. قوله: "ثم أتي بماء" في

(10/81)


رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند الإسماعيلي: "فدعا بوضوء" وللترمذي من طريق الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة "ثم أتي علي بكوز من ماء" ومثله من رواية بهز بن أسد عن شعبة عند النسائي، وكذا لأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة. قوله: "فشرب وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه" كذا هنا. وفي رواية بهز "فأخذ منه كفا فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه". وكذلك عند الطيالسي "فغسل وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه" ومثله في رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي، ويؤخذ منه أنه في الأصل "ومسح على رأسه ورجليه" وأن آدم توقف في سياقه فعبر بقوله: "وذكر رأسه ورجليه" ووقع في رواية الأعمش "فغسل يديه ومضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ورأسه" وفي رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: "فمسح بوجهه ورأسه ورجليه" ومن رواية أبي الوليد عن شعبة ذكر الغسل والتثليث في الجميع، وهي شاذة مخالفة لرواية أكثر أصحاب شعبة، والظاهر أن الوهم فيها من الراوي عند أحمد بن إبراهيم الواسطي شيخ الإسماعيلي فيها فقد ضعفه الدار قطني، والصفة التي ذكرها هي صفة إسباغ الوضوء الكامل، وقد ثبت في آخر الحديث قول علي: هذا وضوء من لم يحدث كما سيأتي بيانه. قوله: "ثم قام فشرب فضله" هذا هو المحفوظ في الروايات كلها، والذي وقع هنا من ذكر الشرب مرة قبل الوضوء ومرة بعد الفراغ منه لم أره في غير رواية آدم، والمراد بقوله: "فضله" بقية الماء الذي توضأ منه. قوله: "ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما" كذا للأكثر، وكأن المعنى إن ناسا يكرهون أن يشرب كل منهم قائما، ووقع في رواية الكشميهني: "قياما" وهي واضحة، وللطيالسي "أن يشربوا قياما". قوله: "صنع كما صنعت" أي من الشرب قائما، وصرح به الإسماعيلي في روايته فقال: "شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت" ولأحمد ورأيته من طريقين آخرين "عن علي أنه شرب قائما، فرأى الناس كأنهم أنكروه فقال: ما تنظرون أن أشرب قائما؟ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا" ووقع في رواية النسائي والإسماعيلي زيادة في آخر الحديث من طرق عن شعبة "وهذا وضوء من لم يحدث" وهي على شرط الصحيح، وكذا ثبت في رواية الأعمش عند الترمذي. واستدل بهذا الحديث على جواز الشرب للقائم، وقد عارض ذلك أحاديث صريحة في النهي عنه. ومنها عند مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما" ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ: "نهى" ومثله للترمذي وحسنه من حديث الجارود، ولمسلم من طريق أبي غطفان عن أبي هريرة بلفظ: "لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقيء" ، وأخرجه أحمد من وجه آخر وصححه ابن حبان من طريق أبي صالح عنه بلفظ: " لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء" ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال: قه، قال: لمه؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا. قال قد شرب معك من هو شر منه، الشيطان " وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه، وأبو زياد لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين. وأخرج مسلم من طريق قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما، قال قتادة فقلنا لأنس: فالأكل؟ قال ذاك أشر وأخبث" قيل: وإنما جعل الأكل أشر لطول زمنه بالنسبة لزمن الشرب. فهذا ما ورد في المنع من ذلك. قال المازري: اختلف الناس في هذا، فذهب الجمهور إلى الجواز، وكرهه قوم، فقال بعض شيوخنا: لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا. قال: وأيضا فإن الأمر في حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم

(10/82)


في أنه ليس على أحد أن يستقيء. قال: وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة. قال: وتضمن حديث أنس الأكل أيضا، ولا خلاف في جواز الأكل قائما. قال: والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل. أو لأن في الشرب قائما ضررا فأنكره من أجله وفعله هو لأمنه، قال: وعلى هذا الثاني يحمل قوله: "فمن نسي فليستقيء" على أن ذلك يحرك خلطا يكون القيء دواءه. ويؤيده قول النخعي: إنما نهى عن ذلك لداء البطن. انتهى ملخصا. وقال عياض: لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له. وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف. انتهى ملخصا. ووقع للنووي ما ملخصه: هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا، فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات، ويواظب على الأفضل، والأمر بالاستقاءة محمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائما أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب. وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات، والدعاوى والترهات؟ اهـ وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه. وطريق الإنصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر، فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا وقد عنعنه فيجاب عنه بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس، فإن فيه: "قلنا لأنس: فالأكل" وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبري وابن حبان، ومثل هذا يخرج في الشواهد، ودعواه اضطرابه مردودة لأن لقتادة فيه إسنادين وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم. قال النووي وتبعه شيخنا في "شرح الترمذي" إن قوله: "فمن نسي" لا مفهوم له، بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى، وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا. قلت: وقد يطلق النسيان ويراد به الترك فيشمل السهو والعمد، فكأنه قيل من ترك امتثال الأمر وشرب قائما فليستقيء. وقال القرطبي في "المفهم": لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم وإن كان جاريا على أصول الظاهرية والقول به، وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم، وتمسك من

(10/83)


لم يقل بالتحريم بحديث علي المذكور في الباب، وصحح الترمذي من حديث ابن عمر "كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام" وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي أيضا وعن عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني وعن أنس أخرجه البزار والأثرم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في "الأحكام" وعن أم سليم نحوه أخرجه ابن شاهين وعن عبد الله بن السائب عن خباب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي حاتم، وعن كبشة قالت: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فشرب من قربة معلقة" أخرجه الترمذي وصححه، وعن كلثم نحوه أخرجه أبو موسى بسند حسن. وثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري، وفي "الموطأ" أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين. وسلك العلماء في ذلك مسالك: أحدها: الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال: حديث أنس - يعني في النهي - جيد الإسناد ولكن قد جاء عنه خلافه، يعني في الجواز، قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لأن الثبت قد يروي من هو دونه الشيء فيرجح عليه، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على نافع في الثبت، وقدم شريك على الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث. ثم أسند عن أبي هريرة قال: "لا بأس بالشرب قائما" قال الأثرم: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة، وإلا لما قال لا بأس به، قال: ويدل على وهاء أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائما أن يستقيء. المسلك الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي - على تقدير ثبوتها - منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومنظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع. فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما سيأتي ذكره في هذا الباب من حديث ابن عباس، وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده. المسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي في نصره الصحاح: والمراد بالقيام هنا المشي، يقال قام في الأمر إذا مشى فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أي مواظبا بالمشي عليه. وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها. وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرا فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا. وقيل: إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما. وفي حديث علي من الفوائد أن على العالم إذا رأى الناس اجتنبوا شيئا وهو

(10/84)


يعلم جوازه أن يوضح لهم وجه الصواب فيه خشية أن يطول الأمر فيظن تحريمه، وأنه متى خشي ذلك فعليه أن يبادر للإعلام بالحكم ولو لم يسأل، فإن سئل تأكد الأمر به، وأنه إذا كره من أحد شيئا لا يشهر باسمه لغير غرض بل يكنى عنه كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل في مثل ذلك. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عاصم الأحول" قال الكرماني ذكر الكلاباذي أن أبا نعيم سمع من سفيان الثوري ومن سفيان بن عيينة وأن كلا منهما روى عن عاصم الأحول فيحتمل أن يكون أحدهما. قلت: ليس الاحتمالان فيهما هنا على السواء، فإن أبا نعيم مشهور بالرواية عن الثوري معروف بملازمته، وروايته عن ابن عيينة قليلة، وإذا أطلق اسم شيخه حمل على من هو أشهر بصحبته وروايته عنه أكثر، ولهذا جزم المزي في "الأطراف" أن سفيان هذا هو الثوري، وهذه قاعدة مطردة عند المحدثين في مثل هذا، وللخطيب فيه تصنيف سماه "المكمل لبيان المهمل"، وقد روى هذا الحديث بعينه سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول أخرجه أحمد عنه، وكذا هو عند مسلم رواية ابن عيينة، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن سفيان الثوري عن عاصم الأحول، لكن خصوص رواية أبي نعيم فيه إنما هي عن الثوري كما تقدم. قوله: "شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم" في رواية ابن ماجه من وجه آخر عن عاصم في هذا الحديث: "قال - أي عاصم - فذكرت ذلك لعكرمة فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبا" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج، وعند أبي داود من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلى ركعتين" فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا، بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه، لأن عمدة عكرمة في إنكار كونه شرب قائما إنما هو ما ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى كذلك، لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائما كما حفظه الشعبي عن ابن عباس؟

(10/85)


باب من شرب واقف وهو على بعيره
...
17 - باب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ
5618- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ "أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ" زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ "عَلَى بَعِيرِهِ".
قوله: "باب من شرب وهو واقف على بعيره" قال ابن العربي: لا حجة في هذا على الشرب قائما، لأن الراكب على البعير قاعد غير قائم، كذا قال، والذي يظهر لي أن البخاري أراد حكم هذه الحالة وهل تدخل تحت النهي أو لا وإيراده الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز فلا يدخل في الصورة المنهي عنها، وكأنه لمح بما قال عكرمة أن مراد ابن عباس بقوله في الرواية التي جاءت عن الشعبي في الذي قبله أنه شرب قائما إنما أراد وهو راكب والراكب يشبه القائم من حيث كونه سائرا؛ ويشبه القاعد من حيث كونه مستقرا على الدابة. قوله: "حدثنا مالك بن إسماعيل" هو أبو غسان النهدي الكوفي من كبار شيوخ البخاري، وقوله: بعد ذلك "زاد مالك الخ" هو ابن أنس والمراد أن مالكا تابع عبد العزيز بن أبي سلمة على روايته هذا الحديث عن أبي النضر وقال في روايته: "شرب وهو واقف على

(10/85)


بعيره" وقد تقدمت هذه الرواية تامة في كتاب الصيام مع بقية شرح الحديث.

(10/86)


باب الأيمن في الأيمن في الشرب
...
18 - باب الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ فِي الشُّرْبِ
5619- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن شماله أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن" .
قوله: "باب الأيمن فالأيمن في الشرب" ذكر فيه حديث أنس الماضي قريبا في "باب شرب اللبن" وتقدمت مباحثه هناك. وإسماعيل هو ابن أبي أويس. وكذا في حديث الباب الذي بعده. وقوله: "الأيمن فالأيمن" أي يقدم من على يمين الشارب في الشرب ثم الذي عن يمين الثاني وهلم جرا، وهذا مستحب عند الجمهور. وقال ابن حزم: يجب. وقوله في الترجمة: "في الشرب" يعم الماء وغيره من المشروبات، ونقل عن مالك وحده أنه خصه بالماء. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مالك. وقال عياض: يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصا في الماء خاصة، وتقديم الأيمن في غير شرب الماء يكون بالقياس. وقال ابن العربي: كأن اختصاص الماء بذلك لكونه قد قيل إنه لا يملك، بخلاف سائر المشروبات. ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه، وهل يقطع في سرقته؟ وظاهر قوله: "في الشرب" أن ذلك لا يجري في الأكل، لكن وقع في حديث أنس خلافه كما سيأتي.

(10/86)


باب هل يستأذن الرجل من على يمينه في الشرب ليعطي الأكبر
...
19 - باب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ الأَكْبَرَ
5620- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلاَمِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ فَقَالَ الْغُلاَمُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ" .
قوله: "باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر؟" كأنه لم يجزم بالحكم لكونها واقعة عين فيتطرق إليها احتمال الاختصاص، فلا يطرد الحكم فيها لكل جليسين. حديث سهل بن سعد في ذلك وقد تقدم في أوائل الشرب، وفيه تسمية الغلام وبعض الأشياخ. وقوله: "أتأذن لي" لم يقع في حديث أنس أنه استأذن الأعرابي الذي عن يمينه، فأجاب النووي وغيره بأن السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه فكان له عليه إدلال وكان من على اليسار أقارب الغلام أيضا، وطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة تقديم الأيمن ولو كان مفضولا بالنسبة إلى من على اليسار، وقد وقع في حديث ابن عباس في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف به حيث قال له "الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالدا" كذا في السنن، وفي لفظ لأحمد "وإن شئت آثرت به عمك" وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن منه، ولعل سنه كان قريبا من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذلك استأذن له، بخلاف

(10/86)


20 - باب الْكَرْعِ فِي الْحَوْضِ
5621- حدثنا يحيى بن صالح حدثنا فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي وهي ساعة حارة وهو يحول له يعني الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا والرجل يحول الماء فقال الرجل: يا رسول الله عندي ماء بات في شنة فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء ثم حلب عليه من داجن له فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه".
قوله: "باب الكرع في الحوض" ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم شرحه قبل خمسة أبواب مستوفى، وإنما قيد في الترجمة بالحوض لما بينته هناك أن جابرا أعاد قوله: "وهو يحول الماء" في أثناء مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم الرجل مرتين، وأن الظاهر أنه كان ينقله من أسفل البئر إلى أعلاه، فكأنه كان هناك حوض يجمعه فيه ثم يحوله من جانب إلى جانب.

(10/88)


21 - باب خِدْمَةِ الصِّغَارِ الْكِبَارَ
5622- حدثنا مسدد حدثنا الفاء عن أبيه قال سمعت أنسا رضي الله عنه قال: "كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي - وأنا أصغرهم - الفضيخ فقيل: حرمت الخمر فقال: أكفئها فكفأنا. قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رطب وبسر. فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرهم فلم ينكر أنس".
وحدثني بعض أصحابي أنه سمع أنسا يقول: "كانت خمرهم يومئذ".
قوله: "باب خدمة الصغار الكبار" ذكر فيه حديث أنس "كنت قائما على الحي أسقيهم وأنا أصغرهم" وهو ظاهر فيما ترجم به، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الأشربة.

(10/88)


22 - باب تَغْطِيَةِ الإِنَاءِ
5623- حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا بن جريج قال أخبرني عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا وأطفئوا مصابيحكم" .

(10/88)


23 - باب اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ
5625- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا" .
[الحديث 5625 – طرفه في: 5626]
5626- حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال حدثني عبيد الله بن عبد الله أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن اختناث الأسقية". قال عبد الله: قال معمر أو غيره: "هو الشرب من أفواهها".
قوله: "باب اختناث الأسقية" افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة، وهو الانطواء والتكسر والانثناء. والأسقية جمع السقاء والمراد به المتخذ من الأدم صغيرا كان أو كبيرا. وقيل: القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، والسقاء لا يكون إلا صغيرا. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير "ابن عبد الله" بالتكبير "ابن عتبة" بضم المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة أي ابن مسعود، وصرح في الرواية التي تليها بتحديث عبيد الله للزهري. قوله: "عن أبي سعيد" صرح بالسماع في التي تليها أيضا. قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في التي بعدها "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى". قوله: "يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها" المراد بكسرها ثنيها لا كسرها حقيقة ولا إبانتها، والقائل "يعني" لم يصرح به في هذه الطريق، ووقع عند أحمد عن أبي النضر عن ابن أبي ذئب بحذف لفظ: "يعني" فسار التفسير مدرجا في الخبر، ووقع في الرواية الثانية "قال عبد الله" هو ابن المبارك "قالا معمر" هو ابن راشد "أو غيره هو الشرب من أفواهها" وعبد الله بن المبارك روى المرفوع عن يونس عن الزهري، وروى التفسير عن معمر مع التردد، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن وهب يونس وابن أبي ذئب معا مدرجا ولفظه: "ينهى عن اختناث الأسقية أو الشرب أن يشرب من أفواهها" كذا فيه بحرف التردد، وهو عند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس وحده بلفظ: "عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها" وهذا

(10/89)


أشبه، وهو أنه تفسير الاختناث لا أنه شك من الراوي في أي اللفظين وقع في الحديث، لكن ظاهره أن التفسير في نفس الخبر، وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ولم يسق لفظه لكن قال: "مثله" قال: "غير أنه قال: واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب" وهو مدرج أيضا، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري، ويحمل التفسير المطلق وهو الشرب من أفواهها على المقيد بكسر فمها أو قلب رأسها، ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث: "شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه جنان، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة فرقهما عن يزيد به. قوله: "أفواهها" جمع فم، وهو على سبيل الرد إلى الأصل في الفم أنه فوه نقصت منه الهاء لاستثقال هاءين عند الضمير لو قال فوهه، فلما لم يحتمل حذف الواو بعد حذف الهاء الإعراب لسكونها عوضت ميما فقيل فم، وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الفاء إذا أضيفت لكن تزاد حركة مشبعة يختلف إعرابها بالحروف، فإن أضيف إلى مضمر كفت الحركات ولا يضاف مع الميم إلا في ضرورة شعر كقول الشاعر "يصبح عطشان وفي البحر فمه" فإذا أرادوا الجمع أو التصغير ردوه إلى الأصل فقالوا فويه وأفواه، ولم يقولوا فميم ولا أفمام.

(10/90)


24 - باب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ
5627- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ" .
5628- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ" .
5629- حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء" .
قوله: "باب الشرب من فم السقاء" الفم بتخفيف الميم ويجوز تشديدها، ووقع في رواية: "من في السقاء" وقد تقدم توجيهها. قال ابن المنير: لم يقنع بالترجمة التي قبلها لئلا يظن أن النهي خاص بصورة الاختناث، فبين أن النهي يعم ما يمكن اختناثه وما لا يمكن كالفخار مثلا. قوله: "حدثنا أيوب قال: قال لنا عكرمة" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا أيوب السختياني أخبرنا عكرمة" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "ألا أخبركم بأشياء قصار حدثنا بها أبو هريرة" في الكلام حذف تقديره مثلا: فقلنا نعم، أو فقلنا حدثنا أو نحو ذلك فقال: حدثنا أبو هريرة. ووقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان بهذا الإسناد "سمعت أبا هريرة" أخرجه الإسماعيلي من طريقه. قوله: "من فم القربة أو السقاء" هو شك من الراوي، وكأنه من سفيان، قد وقع في رواية عبد الجبار بن العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي: "من في السقاء" وفي رواية ابن أبي عمر عنده من فم القربة. قوله: "وأن

(10/90)


يمنع جاره الخ" تقدم شرحه في أوائل كتاب المظالم. قال الكرماني، "قال ألا أخبركم بأشياء" ولم يذكر إلا شيئين فلعله أخبر بأكثر فاختصره بعض الرواة أو أقل الجمع عنده اثنان. قلت: واختصاره يجوز أن يكون عمدا ويجوز أن يكون نسيانا، وقد أخرج أحمد الحديث المذكور من رواية حماد بن زيد عن أيوب فذكر بهذا الإسناد الشيئين المذكورين وزاد النهي عن الشرب قائما، وفي مسند الحميدي أيضا ما يدل على أنه ذكر ثلاثة أشياء، فإنه ذكر النهي عن الشرب من في السقاء أو القربة وقال هذا آخرها، والله أعلم. "حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية. قوله: "أن يشرب من في السقاء" زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن "قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية" وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عباد بن موسى عن إسماعيل ووهم الحاكم فأخرج الحديث في "المستدرك" بزيادته والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح لأن راويها لم يسم وليست موصولة، ولكن أخرجها ابن ماجه من رواية سلمة بن وهرام عن عكرمة بنحو المرفوع، وفي آخره: "وإن رجلا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية" وهذا صريح في أن ذلك وقع بعد النهي، بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب النهي، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي فكان من أسباب النهي، ثم وقع بعد النهي تأكيدا. وقال النووي: اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم، كذا قال، وفي نقل الاتفاق نظر لما سأذكره، فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال: لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول، واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل النهي فيه على التحريم، كذا قال مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي، فالاعتذار عنه بهذا القول أولى، والحجة قائمة على من بلغه النهي، قال النووي: ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك. قلت: لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله. فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم، أما أولا فلعصمته ولطيب نكهته، وأما ثانيا فلرفقه في صب الماء وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي، فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم لما أراد أن يشرب حله فشربه منه لا يتناوله النهي، ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ: "نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه" وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الإناء أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا، ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتل ثيابه، قال ابن العربي: وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدا. وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخصه: اختلف في علة النهي فقيل: يخشى أن يكون في الوعاء حيوان أو ينصب بقوة فيشرق به أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب فربما كان سبب الهلاك أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفس أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة فيكون من إضاعة المال، قال: والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي

(10/91)


وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز. قلت: ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة" وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في "الشمائل" وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي، قال شيخنا في شرح الترمذي: لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي. قلت: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حال الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم. وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال: يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء، ثم قال: ويحتمل أن يكون شرب من إداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام، كذا قال، والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها، والضرر يحصل به ولو كان حقيرا، والله أعلم.

(10/92)


25 - باب النَّهْيِ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الإِنَاءِ
5630- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ" .
قوله: "باب النهي عن التنفس في الإناء" ذكر فيه حديث أبي قتادة. وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة. قوله: "فلا يتنفس في الإناء" زاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه النهي عن النفخ في الإناء، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء، وأن ينفخ فيه" وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدة أحاديث، وكذا النهي عن التنفس في الإناء لأنه ربما حصل له تغير من النفس إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة، والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس.

(10/92)


باب الشرب بنفس أو نفسين
...
26 - باب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ
5631- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالاَ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثاً".

(10/92)


27 - باب الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ
5632- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ".
قوله: "باب الشرب في آنية الذهب" كذا أطلق الترجمة، وكأنه استغنى عن ذكر الحكم بما صرح به بعد في كتاب الأحكام أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم حتى يقوم دليل الإباحة. وقد وقع التصريح في حديث الباب بالنهي والإشارة إلى الوعيد على ذلك، ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشافعي في القديم ونقل عن نصه في حرملة أن النهي فيه للتنزيه لأن علته ما فيه من التشبه بالأعاجم، ونص في الجديد على التحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه، وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنار كما سيأتي في الذي يليه. وإذا ثبت ما نقل عنه فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور،

(10/94)


ويؤيد وهم النقل أيضا عن نصه في حرملة أن صاحب "التقريب" نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة تحريم اتخاذ الإناء من الذهب أو الفضة، وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى، والعلة المشار إليها ليست متفقا عليها، بل ذكروا للنهي عدة علل: منها ما فيه من كسر قلوب الفقراء، أو من الخيلاء والسرف، ومن تضييق النقدين. قوله: "عن ابن أبي ليلى" هو عبد الرحمن. وفي رواية غندر عن شعبة عن الحكم "سمعت ابن أبي ليلى" أخرجه مسلم والترمذي. قوله: "كان حذيفة بالمدائن"، عند أحمد من طريق يزيد عن ابن أبي ليلى "كنت مع حذيفة بالمدائن" والمدائن اسم بلفظ جمع مدينة، وهو بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فتحها على يد سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر سنة ست عشرة وقيل: قبل ذلك، وكان حذيفة عاملا عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان. قوله: "فاستسقى فأتاه دهقان" بكسر الدال المهملة ويجوز ضمها بعدها هاء ساكنة ثم قاف، هو كبير القرية بالفارسية، ووقع في رواية أحمد عن وكيع عن شعبة "استسقى حذيفة من دهقان أو علج" وتقدم في الأطعمة من طريق سيف عن مجاهد عن ابن أبي ليلى "أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسي" ولم أقف على اسمه بعد البحث. قوله: "بقدح فضة" في رواية أبي داود عن حفص شيخ البخاري فيه: "بإناء من فضة" ولمسلم من طريق عبد الله بن عكيم "كنا عند حذيفة فجاءه دهقان بشراب في إناء من فضة" ويأتي في اللباس عن سليمان بن حرب عن شعبة بلفظ: "بماء في إناء". قوله: "فرماه به" في رواية وكيع "فحذفه به" ويأتي في الذي يليه بلفظ: "فرمى به في وجهه" ولأحمد من رواية يزيد عن ابن أبي ليلى "ما يألو أن يصيب به وجهه" زاد في رواية الإسماعيلي وأصله عند مسلم: فرماه به فكسره. قوله: "فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته" في رواية الإسماعيلي المذكورة "لم أكسره إلا أني نهيته فلم يقبل" وفي رواية وكيع "ثم أقبل على القوم فاعتذر" وفي رواية يزيد "لولا أني تقدمت إليه مرة أو مرتين لم أفعل به هذا" وفي رواية عبد الله بن عكيم "إني أمرته أن لا يسقيني فيه" ويأتي في الذي بعده مزيد فيه. قوله: "وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج" سيأتي في اللباس التصريح ببيان النهي عن لبسهما، وفيه بيان الديباج ما هو. قوله: "والشرب في آنية الذهب والفضة" وقع في الذي يليه بلفظ: "لا تشربوا ولا تلبسوا" وكذا عند أحمد من وجه آخر عن الحكم، كذا وقع في معظم الروايات عن حذيفة الاقتصار على الشرب ووقع عند أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ: "نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة، وأن يؤكل فيها" ويأتي نحوه في حديث أم سلمة في الباب الذي يليه. قوله: "وقال: هن لهم في الدنيا، وهن لكم في الآخرة" كذا فيه بلفظ: "هن" بضم الهاء وتشديد النون في الموضعين. وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ: "هي" بكسر الهاء ثم التحتانية، وكذا في رواية غندر عن شعبة، ووقع عند الإسماعيلي وأصله في مسلم: "هو" أي جميع ما ذكر. قال الإسماعيلي: ليس المراد بقوله: "في الدنيا" إباحة استعمالهم إياه وإنما المعنى بقوله: "لهم" أي هم الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين. وكذا قوله "ولكم في الآخرة" أي تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويمنعه أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعماله. قلت: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر، ويأتي مثله في لباس الحرير، بل وقع في هذا بخصوصه ما سأبينه في الذي قبله.

(10/95)


28 - باب آنِيَةِ الْفِضَّةِ
5633- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ" .
5634- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ" .
5635- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ أَوْ قَالَ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ" .
قوله: "باب آنية الفضة" ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: حديث حذيفة. قوله: "خرجنا مع حذيفة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ذكره مختصرا، وقد أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي الذي أخرجه البخاري من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي وأصله في مسلم من طريق معاذ بن معاذ وكلاهما عن عبد الله بن عون بلفظ: "خرجت مع حذيفة إلى بعض هذا السواد، فاستسقى، فأتاه الدهقان بإناء من فضة، فرمى به في وجهه، قال فقلنا: اسكتوا، فإنا إن سألناه لم يحدثنا، قال فسكتنا. فلما كان بعد ذلك قال: أتدرون لم رميت بهذا في وجهه؟ قلنا: لا. قال: ذلك أني كنت نهيته. قال فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة" قال أحمد: وفي رواية معاذ "ولا في الفضة". قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن زيد بن عبد الله بن عمر" هو تابعي ثقة، تقدمت روايته عن أبيه في إسلام عمر، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين. وهذا الإسناد كله مدنيون، وقد تابع مالكا عن نافع عليه موسى بن عقبة وأيوب وغيرهما وذلك عند مسلم، وخالفهم إسماعيل بن أمية عن نافع فلم يذكر زيدا في إسناده، جعله عن نافع عن عبد الله بن عبد الرحمن، أخرجه النسائي، والحكم لمن زاد من الثقات، ولا سيما وهم حفاظ وقد اجتمعوا وانفرد إسماعيل. وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، ووافقه سعد بن إبراهيم عن نافع في صفية لكن خالفه فقال عن عائشة بدل أم سلمة، وقول محمد بن إسحاق أقرب، فإن كان محفوظا فلعل لنافع فيه إسنادين، وشذ عبد العزيز بن أبي رواد فقال: "عن نافع عن أبي هريرة" وسلك برد بن سنان وهشام بن الغاز الجادة فقالا عن نافع عن ابن عمر أخرج الجميع النسائي وقال:

(10/96)


الصواب من ذلك كله رواية أيوب ومن تابعه. قوله: "عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" هو ابن أخت أم سلمة التي روى عنها هذا الحديث، أمه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وهو ثقة ما له في البخاري غير هذا الحديث. قوله: "الذي يشرب في آنية الفضة" في رواية مسلم من طريق عثمان بن مرة عن عبد الله بن عبد الرحمن "من شرب من إناء ذهب أو فضة" وله من رواية علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع "إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة" وأشار مسلم إلى تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة، أعني الأكل. قوله: "إنما يجرجر" بضم التحتانية وفتح الجيم وسكون الراء ثم جيم مكسورة ثم راء من الجرجرة وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج نحو صوت اللجام في فك الفرس، قال النووي: اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر، وتعقب بأن الموفق بن حمزة في كلامه على المذهب حكى فتحها، وحكى ابن الفركاح عن والده أنه قال: روي يجرجر على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوزه ابن مالك في "شواهد التوضيح" نعم رد ذلك ابن أبي الفتح تلميذه فقال في جزء جمعه في الكلام على هذا المتن: لقد كثر بحثي على أن أرى أحدا رواه مبنيا للمفعول فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية، وسألت أبا الحسين اليونيني فقال: ما قرأته على والدي ولا على شيخنا المنذر إلا مبنيا للفاعل. قال: ويبعد اتفاق الحفاظ قديما وحديثا على ترك رواية ثابتة. قال: وأيضا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل وإسناده إلى المفعول فرع فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضا فإن علماء العربية قالوا: يحذف الفاعل إما للعلم به أو للجهل به، أو إذا تخوف منه أو عليه، أو لشرفه أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك. قوله: "في بطنه نار جهنم" وقع للأكثر بنصب نار على أن الجرجرة بمعنى الصب أو التجرع فيكون "نار" نصب على المفعولية والفاعل الشارب أي يصب أو يتجرع، وجاء الرفع على أن الجرجرة هي التي تصوت في البطن، قال النووي: النصب أشهر، ويؤيده رواية عثمان بن مرة عند مسلم بلفظ: "فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم" وأجاز الأزهري النصب على أن الفعل عدي إليه، وابن السيد الرفع على أنه خبر إن وما موصولة، قال: ومن نصب جعل "ما" زائدة كافة لأن عن العمل، وهو نحو {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} فقرئ بنصب كيد ورفعه، ويدفعه أنه لم يقع في شيء من النسخ بفصل ما من إن. وقوله: إن النار تصوت في بطنه كما يصوت البعير بالجرجرة مجاز تشبيه، لأن النار لا صوت لها، كذا قيل. وفي النفي نظر لا يخفى. حديث البراء "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع". قوله: "وعن الشرب في الفضة أو قال في آنية الفضة" شك من الراوي. زاد مسلم من طريق أخرى عن البراء "فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" ومثله في حديث أبي هريرة رفعه: "من شرب في آنية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة، وآنية أهل الجنة الذهب والفضة" أخرجه النسائي بسند قوي، وسيأتي شرح حديث البراء مستوفى في كتاب الأدب، ويأتي ما يتعلق باللباس منه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب لأنه لم يقف على الزيادة في

(10/97)


الأكل، قال: واختلف في علة المنع فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله هي لهم وإنها لهم، وقيل: لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالها لجاز اتخاذ الآلات منهما فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم، ومثله الغزالي بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس. ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه. وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرح أبو علي السنجي وأبو محمد الجويني. وقيل: علة التحريم السرف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء. ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وعاليها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ. وقد نقل ابن الصباغ في "الشامل" الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده. لكن في "زوائد العمراني" عن صاحب "الفروع" نقل وجهين. وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها كما تقدم، والأشهر المنع وهو قول الجمهور، ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها وجواز الاستئجار عليها.

(10/98)


29 - باب الشُّرْبِ فِي الأَقْدَاحِ
5636- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ "أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ".
قوله: "باب الشرب في الأقداح" أي هل يباح أو يمنع لكونه من شعار الفسقة؟ ولعله أشار إلى أن الشرب فيها وإن كان من شعار الفسقة لكن ذلك بالنظر إلى المشروب وإلى الهيئة الخاصة بهم فيكره التشبه بهم، ولا يلزم من ذلك كراهة الشرب في القدح إذا سلم من ذلك. قوله: "حدثنا عمرو بن عباس" بمهملتين وموحدة، وشيخه عبد الرحمن هو ابن مهدي، وقد تقدم التنبيه على حديث أم الفضل المذكور قريبا، وتقدم أنه مر مشروحا في كتاب الصيام.

(10/98)


30 - باب الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآنِيَتِهِ
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: أَلاَ أَسْقِيكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
5637- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي فَقَالُوا لَهَا أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا قَالَتْ لاَ قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِيَخْطُبَكِ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى

(10/98)


31 - باب شُرْبِ الْبَرَكَةِ وَالْمَاءِ الْمُبَارَكِ
5639- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ الْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا فَجَعَلْتُ لاَ آلُوا مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ قُلْتُ لِجَابِرٍ كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ قَالَ أَلْفاً وَأَرْبَعَ مِائَةٍ" . تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ حُصَيْنٌ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ "خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً" وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ

(10/101)


قوله: "باب شرب البركة، والماء المبارك" قال المهلب: سمي الماء بركة لأن الشيء إذا كان مباركا فيه يسمى بركة. قوله: "عن جابر بن عبد الله" في رواية حصين "عن سالم بن أبي الجعد سمعت جابرا" وقد تقدمت في المغازي. قوله: "قد رأيتني" بضم التاء، وفيه نوع تجريد. قوله: "وحضرت العصر" أي وقت صلاتها، والجملة حالية. قوله: "ثم قال: حي على أهل الوضوء" كذا وقع للأكثر. وفي رواية النسفي "حي على الوضوء" بإسقاط لفظ: "أهل" وهي أصوب، وقد وجهت على تقدير ثبوتها بأن يكون أهل بالنصب على النداء بحذف حرف النداء كأنه قال: حي على الوضوء المبارك يا أهل الوضوء، كذا قال عياض، وتعقب بأن المجرور بعلى غير مذكور. وقال غيره: الصواب حي هلا على الوضوء المبارك، فتحرف لفظ: "هلا" فصارت "أهل" وحولت عن مكانها، و"حي" اسم فعل للأمر بالإسراع، وتفتح لسكون ما قبلها مثل ليت وهلا بتخفيف اللام والتنوين كلمة استعجال. قوله: "فجعلت لا آلو" بالمد وتخفيف اللام المضمومة أي لا أقصر، والمراد أنه جعل يستكثر من شربه من ذلك الماء لأجل البركة. قال ابن بطال: يؤخذ منه أنه لا سرف ولا شره في الطعام أو الشراب الذي تظهر فيه البركة بالمعجزة، بل يستحب الاستكثار منه. وقال ابن المنير: في ترجمة البخاري إشارة إلى أنه يغتفر في الشرب منه الإكثار دون المعتاد الذي ورد باستحباب جعل الثلث له، ولئلا يظن أن الشرب من غير عطش ممنوع، فإن فعل جابر ما ذكر دال على أن الحاجة إلى البركة أكثر من الحاجة إلى الري، والظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو كان ممنوعا لنهاه. قوله: "فقلت لجابر" القائل هو سالم بن أبي الجعد راويه عنه. قوله: "كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وأربعمائة" كذا لهم بالرفع، والتقدير نحن يومئذ ألف وأربعمائة، ويجوز النصب على خبر كان، وقد تقدم بيان الاختلاف على جابر في عددهم يوم الحديبية في "باب غزوة الحديبية" من المغازي، وبينت هناك أن هذه القصة كانت هناك، وتقدم شيء من شرح المتن في علامات النبوة. قوله: "تابعه عمرو بن دينار عن جابر" وصله المؤلف في تفسير سورة الفتح مختصرا "كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة" وهذا القدر هو مقصوده بالمتابعة المذكورة لا جميع سياق الحديث. قوله: "وقال حصين وعمرو بن مرة عن سالم" هو ابن أبي الجعد "خمس عشرة مائة" أما رواية حصين فوصلها المؤلف في المغازي، وأما رواية عمرو بن مرة فوصلها مسلم وأحمد بلفظ ألف وخمسمائة، والجمع بين هذا الاختلاف عن جابر أنهم كانوا زيادة على ألف وأربعمائة، فمن اقتصر عليها ألغى الكسر، ومن قال ألف وخمسمائة جبره. وقد تقدم بسط ذلك في كتاب المغازي، وبيان توجيه من قال ألف وثلاثمائة، ولله الحمد.
" خاتمة " اشتمل كتاب الأشربة من الأحاديث المرفوعة على أحد وتسعين حديثا، المعلق منها تسعة عشر طريقا والباقي موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى سبعون طريقا والباقي خالص، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي مالك وأبي عامر في المعازف، وحديث ابن أبي أوفى في الجر الأخضر، وحديث أنس في الأقداح ليلة الإسراء وهو معلق، وحديث جابر في الكرع، وحديث علي في الشرب قائما، وحديث أبي هريرة في النهي عن الشرب من فم السقاء، وحديث أبي طلحة في قدح النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة عشر أثرا، والله أعلم.

(10/102)


كتاب المرضى
باب ما جاء في كفارة المرض، وقول الله تعالى: {من يعمل سوءا يجز به}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
75 - كِتَاب الْمَرْضَى
1 - باب مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}
5640- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا" .
5641، 5642- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" .
5643- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ لاَ تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً" .
وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ حَدَّثَنِي سَعْدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5644- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ وَالْفَاجِرُ كَالأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ" .
[الحديث 5644 – طرفه في: 7466]
5645- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ أَبَا الْحُبَابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ" .

(10/103)


2 - باب شِدَّةِ الْمَرَضِ
5646- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ ح
وحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5647- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً وَقُلْتُ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قُلْتُ إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلاَّ حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ" .
[الحديث 5647 – أطرافه في: 5648، 5660، 5661، 5667]
قوله: "باب شدة المرض" أي وبيان ما فيها من الفضل. قوله: "وحدثني بشر بن محمد أخبرنا عبد الله" هو ابن

(10/110)


المبارك. قوله: "عن الأعمش" كذا أعاد الأعمش بعد التحويل، ولو وقف في السند الأول عند سفيان وحول ثم قال كلاهما عن الأعمش لكان سائغا، لكن أظنه فعل ذلك لكونه ساقه على لفظ الرواية الثانية وهي رواية شعبة، وقد أخرجها الإسماعيلي من طريق حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ: "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وساقه من رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن قبيصة شيخ البخاري فيه بلفظ: "ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع" والباقي سواء، والمراد بالوجع المرض، والعرب تسمي كل وجع مرضا. ثم ذكر المصنف حديث ابن مسعود الآتي في الباب الذي يليه، وقوله في آخره: "إلا حات الله" بحاء مهملة ومد وتشديد المثناة أصله حاتت بمثناتين فأدغمت إحداهما في الأخرى، والمعنى فتت وهي كناية عن إذهاب الخطايا. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري.

(10/111)


3 - باب أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ
5648- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قَالَ أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى -شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا- إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
قوله: "باب أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" كذا للأكثر، وللنسفي "الأول فالأول" وجمعهما المستملي، والمراد بالأول الأولية في الفضل، والأمثل أفعل من المثالة والجمع أماثل وهم الفضلاء. وصدر هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الدارمي والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلهم من طريق عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: " قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه" الحديث وفيه: "حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ، أخرجه الحاكم من رواية العلاء بين المسيب عن مصعب أيضا. وأخرج له شاهدا من حديث أبي سعيد ولفظه: "قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال العلماء قال: ثم من؟ قال: الصالحون " الحديث، وليس فيه ما في آخر حديث سعد. ولعل الإشارة بلفظ: "الأول فالأول" إلى ما أخرجه النسائي وصححه الحاكم من حديث فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده، فإذا بسقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قوله: "عن أبي حمزة" هو السكري بضم المهملة وتشديد الكاف. قوله: "عن إبراهيم التيمي" هو ابن يزيد بن شريك، والحارث بن سويد هو تيمي أيضا، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق كوفيون، وليس للحارث بن سويد في البخاري سوى هذا الحديث وآخر يأتي في الدعوات، لكنهما عنده من طرق عديدة، وله عنده ثالث مضى في الأشربة من روايته عن علي بن أبي طالب. قوله: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك" في رواية سفيان التي قبلها "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه" والوعك بفتح الواو وسكون العين المهملة الحمى وقد تفتح وقيل ألم الحمى، وقيل تعبها، وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه، وعن الأصمعي الوعك

(10/111)


الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قوله: "ذلك" إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى، وعرف بهذا أن في الرواية السابقة في الباب قبله حذفا يعرف من هذه الرواية وهو قوله: "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" . قوله: "أجل" أي نعم وزنا ومعنى. قوله: "أذى شوكة" التنوين فيه للتقليل لا للجنس ليصح ترتب فوقها ودونها في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكسه، والله أعلم. قوله: "كما تحط" بفتح أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه منتثرا. والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر، ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها، أو المعنى: قال نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضا حتى لا يبقى منها شيء، ويشير إلى ذلك حديث سعد الذي ذكرته قبل "حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ومثله حديث أبي هريرة عند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ: "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة". قال أبو هريرة: "ما من وجع يصيبني أحب إلي من الحمى، إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، والله يعطي كل مفصل قسطه من الأجر" ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلحاق الأولياء بهم لقربهم منهم وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسر فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضوعف حد الحر على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال ابن الجوزي: في الحديث دلالة على أن القوي يحمل ما حمل، والضعيف يرفق به إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلى هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم.

(10/112)


4 - باب وُجُوبِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ
5649- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ" .
5650- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَالْمِيثَرَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ الْجَنَائِزَ وَنَعُودَ الْمَرِيضَ وَنُفْشِيَ السَّلاَمَ" .
قوله: "باب وجوب عيادة المريض" كذا جزم بالوجوب عل ظاهر الأمر بالعيادة، وتقدم حديث أبي هريرة في الجنائز "حق المسلم على المسلم خمس" فذكر منها عيادة المريض، ووقع في رواية مسلم: " خمس تجب للمسلم على المسلم" فذكرها منها. قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة، وجزم الداودي بالأول فقال: هي فرض يحمله

(10/112)


بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري: تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، وفي الكافر خلاف كما سيأتي ذكره في باب مفرد. ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب، يعني على الأعيان. وقد تقدم حديث أبي موسى المذكور هنا في الجهاد وفي الوليمة. واستدل بعموم قوله: "عودوا المريض" على مشروعية العيادة في كل مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجي قد يأتي مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد عقبه المصنف به. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني"، أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسياقه أتم. وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعا: "ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدمل والضرس" فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، ويؤخذ من إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في "الإحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث" وهذا حديث ضعيف جدا تفرد به مسلمة بن علي وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: هو حديث باطل، ووجدت له شاهدا من حديث أبي هريرة عند الطبراني في "الأوسط" وفيه راو متروك أيضا. ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته. وفي إطلاق الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، وترجمة البخاري في الأدب المفرد "العيادة في الليل"، وساق عن خالد بن الربيع قال: "لما ثقل حذيفة أتوه في جوف الليل أو عند الصبح فقال: أي ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار" الحديث، ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانا؟ قال: ليس هذا وقت عيادة. ونقل ابن الصلاح عن الفراوي أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا، وهو غريب. ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله. فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس كما في حديث جابر الذي بعده. وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد، منها عند مسلم والترمذي من حديث ثوبان "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة" وخرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء ثم هاء هي الثمرة إذا نضجت، شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر. وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة، والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من هذا الوجه وفيه: "قلت لأبي قلابة: ما خرفة الجنة؟ قال: جناها" وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاري أيضا من طريق عمر بن الحكم عن جابر رفعه: "من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها" وأخرجه أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم من هذا الوجه وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن. حديث البراء أورده مختصرا مقتصرا على بعض الخصال السبع، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.

(10/113)


5 - باب عِيَادَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ
5651- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "مَرِضْتُ مَرَضاً فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ" .
قوله: "باب عيادة المغمى عليه" أي الذي يصيبه غشى تتعطل معه قوته الحساسة. قال ابن المنير: فائدة الترجمة أن لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة الفائدة لكونه لا يعلم بعائده، ولكن ليس في حديث جابر التصريح بأنهما علما أنه مغمى عليه قبل عيادته، فلعله وافق حضورهما. قلت: بل الظاهر من السياق وقوع ذلك حال مجيئهما وقبل دخولهما عليه، ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه، لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد ووضع يده على المريض والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ إلى غير ذلك. تقدم شرح حديث جابر المذكور في كتاب الطهارة وفي تفسير سورة النساء.

(10/114)


6 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنْ الرِّيحِ
5652- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: "قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا" . حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ
قوله: "باب فضل من يصرع من الريح" انحباس الريح قد يكون سببا للصرع، وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها. وممن نص على ذلك أبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن عمران أبي بكر" هو المعروف بالقصير، واسم أبيه مسلم، وهو بصري تابعي صغير. قوله: "ألا أريك" ألا بتخفيف اللام قبلها همزة مفتوحة. قوله: "هذه المرأة السوداء" في رواية جعفر المستغفري في "كتاب الصحابة" وأخرجه أبو موسى في "الذيل" من

(10/114)


طريقه ثم من رواية عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح في هذا الحديث: "فأراني حبشية صفراء عظيمة فقال: هذه سعيرة الأسدية". قوله: "فقالت إن بي هذه المؤتة(1)" وهو بضم الميم بعدها همزة ساكنة: الجنون، وأخرجه ابن مردويه في التفسير من هذا الوجه فقال في روايته: "إن بي هذه المؤتة يعني الجنون" وزاد في روايته وكذا ابن منده أنها كانت تجمع الصوف والشعر والليف، فإذا اجتمعت لها كبة عظيمة نقضتها فنزل فيها {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} الآية وقد تقدم في تفسير النحل أنها امرأة أخرى. قوله: "وإني أتكشف" بمثناة وتشديد المعجمة من التكشف، وبالنون الساكنة مخففا من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر. قوله في الطريق الأخرى "حدثنا محمد" هو ابن سلام وصرح به في "الأدب المفرد"، ومخلد هو ابن يزيد. قوله: "أنه رأى أم زفر" بضم الزاي وفتح الفاء. قوله: "تلك المرأة" في رواية الكشميهني: "تلك امرأة". قوله: "على ستر الكعبة" بكسر المهملة أي جالسة عليها معتمدة، ويجوز أن يتعلق بقوله: "رأى". ثم وجدت الحديث في "الأدب المفرد" للبخاري وقد أخرجه بهذا السند المذكور هنا بعينه وقال: "على سلم الكعبة" فالله أعلم. وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: "إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها" وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج هذا الحديث مطولا، وأخرجه ابن عبد البر في "الاستيعاب" من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم فيبرأ، فأتي بمجنونة يقال لها أم زفر، فضرب صدرها فلم تبرأ، قال ابن جريج وأخبرني عطاء" فذكر كالذي هنا، وأخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس فزاد: "وكان يثني عليها خيرا" وزاد في آخر "فقال: إن يتبعها في الدنيا فلها في الآخرة خير" وعرف مما أوردته أن اسمها سعيرة وهي بمهملتين مصغر، ووقع في رواية ابن منده بقاف بدل العين، وفي أخرى للمستغفري بالكاف، وذكر ابن سعد وعبد الغني في "المبهمات" من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بالزيارة كما سيأتي ذكرها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط. وقد أخرج البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيها بقصتها ولفظه: "جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله. فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت صبرت ولا حساب عليك. قالت: بل أصبر ولا حساب علي" وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل، والله أعلم.
ـــــــ
(1) لعل هذه رواية الشارح، وهي غير رواية الجامع الصحيح الذي في الأيدي.

(10/115)


7 - باب فَضْلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ
5653- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ" . يُرِيدُ عَيْنَيْه. تَابَعَهُ أَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو ظِلاَلِ بْنُ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب فضل من ذهب بصره" سقطت هذه الترجمة وحديثها من رواية النسفي، وقد جاء بلفظ الترجمة حديث أخرجه البزار عن زيد بن أرقم بلفظ: "ما ابتلي عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره، ومن ابتلي ببصره فصبر حتى يلقى الله لقي الله تعالى ولا حساب عليه" وأصله عند أحمد بغير لفظه بسند جيد، وللطبراني من حديث ابن عمر بلفظ: "من أذهب الله بصره" فذكر نحوه. قوله: "حدثني ابن الهاد" في رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح عن الليث "حدثني يزيد بن الهاد" وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة. قوله: "عن عمرو" أي ابن أبي عمرو ميسرة "مولى المطلب" أي ابن عبد الله بن حنطب. قوله: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه" بالتثنية، وقد فسرهما آخر الحديث بقوله: "يريد عينيه" ولم يصرح بالذي فسرهما، والمراد بالحبيبتين المحبوبتان لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه، لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خير فيسر به، أو شر فيجتنبه. قوله: "فصبر" زاد الترمذي في روايته عن أنس "واحتسب" وكذا لابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة، ولابن حبان من حديث ابن عباس أيضا، والمراد أنه يصبر مستحضرا ما وعد الله به الصابر من الثواب، لا أن يصبر مجردا عن ذلك، لأن الأعمال بالنيات، وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة، فإذا تلقى ذلك بالرضا تم له المراد وإلا يصير كما جاء في حديث سلمان "أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" موقوفا. قوله: "عوضته منهما الجنة" وهذا أعظم العوض، لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقائها، وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور. ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بلفظ: "إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت" فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود، وقد مضى حديث أنس في الجنائز " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" وقد وقع في حديث العرباض فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه: "إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة إذا هو حمدني عليهما" ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي له أعمال صالحة أخرى يزاد في رفع الدرجات. قوله: "تابعه أشعث بن جابر وأبو ظلال بن هلال عن أنس" أما متابعة أشعث بن جابر وهو ابن عبد الله بن جابر نسب إلى جده وهو أبو عبد الله الأعمى البصري الحداني بضم الحاء وتشديد الدال المهملتين، وحدان بطن من الأزد، ولهذا يقال له الأزدي، وهو الحملي بضم المهملة وسكون الميم وهو مختلف فيه. وقال الدار قطني: يعتد به وليس له في البخاري إلا هذا الموضع فأخرجها أحمد بلفظ: "قال ربكم من أذهبت كريمتيه ثم صبر واحتسب كان ثوابه الجنة" . وأما متابعة أبي ظلال فأخرجها عبد بن حميد عن يزيد بن هارون عنه قال: "دخلت على أنس فقال

(10/116)


لي: أدنه، متى ذهب بصرك؟ قلت: وأنا صغير. قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى" فذكر الحديث بلفظ: "ما لمن أخذت كريمتيه عندي جزاء إلا الجنة" وأخرج الترمذي من وجه آخر عن أبي ظلال بلفظ: "إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة". "تنبيه": أبو ظلال بكسر الظاء المشالة المعجمة والتخفيف اسمه هلال، والذي وقع في الأصل أبو ظلال بن هلال صوابه إما أبو ظلال هلال بحذف "ابن" وإما أبو ظلال بن أبي هلال بزيادة "أبي" واختلف في اسم أبيه فقيل ميمون وقيل سويد وقيل يزيد وقيل زيد، وهو ضعيف عند الجميع، إلا أن البخاري قال إنه مقارب الحديث، وليس له في صحيحه غير هذه المتابعة. وذكر المزي في ترجمته أن ابن حبان ذكره في الثقات، وليس بجيد، لأن ابن حبان ذكره في الضعفاء فقال: لا يجوز الاحتجاج به، وإنما ذكر في الثقات هلال بن أبي هلال آخر روى عنه يحيى بن المتوكل، وقد فرق البخاري بينهما، ولهم شيخ ثالث يقال له هلال بن أبي هلال تابعي أيضا روى عنه ابنه محمد، وهو أصلح حالا في الحديث منهما، والله أعلم.

(10/117)


8 - باب عِيَادَةِ النِّسَاءِ الرِّجَالَ وَعَادَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْ الأَنْصَارِ
5654- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... ِبوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ" .
قوله: "باب عيادة النساء الرجال" أي ولو كانوا أجانب بالشرط المعتبر. قوله: "وعادت أم الدرداء رجلا من أهل المسجد من الأنصار" قال الكرماني: لأبي الدرداء زوجتان كل منهما أم الدرداء، فالكبرى اسمها خيرة بالخاء المعجمة المفتوحة بعدها تحتانية ساكنة صحابية، والصغرى اسمها هجيمة بالجيم والتصغير وهي تابعية، والظاهر أن المراد هنا الكبرى، والمسجد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قلت: وما ادعى أنه الظاهر ليس كذلك، بل هي الصغرى، لأن الأثر المذكور أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق الحارث بن عبيد، وهو شامي تابعي صغير لم يلحق أم الدرداء الكبرى، فإنها ماتت في خلافة عثمان قبل موت أبي الدرداء، قال: رأيت أم الدرداء على رحالة أعواد ليس لها غشاء تعود رجلا من الأنصار في المسجد، وقد تقدم في الصلاة أن أم الدرداء كانت تجلس في

(10/117)


الصلاة جلسة الرجل، وكانت فقيهة، وبينت هناك أنها الصغرى والصغرى عاشت إلى أواخر خلافة عبد الملك بن مروان وماتت في سنة إحدى وثمانين بعد الكبرى بنحو خمسين سنة. حديث عائشة قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما" الحديث، وقد اعترض عليه بأن ذلك قبل الحجاب قطعا. وقد تقدم أن في بعض طرقه: "وذلك قبل الحجاب"، وأجيب بأن ذلك لا يضره فيما ترجم له من عيادة المرأة الرجل فإنه يجوز بشرط التستر، والذي يجمع بين الأمرين ما قبل الحجاب وما بعده الأمن من الفتنة وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أبواب الهجرة من أوائل المغازي، وقوله في البيت الذي أوله "ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد" كذا هو بالتنكير والإبهام، والمراد به وادي مكة. وذكر الجوهري في الصحاح ما يقتضي أن الشعر المذكور ليس لبلال، فإنه قال: كان بلال يتمثل به، وأورده بلفظ: "هل أبيتن ليلة بمكة حولي" وقوله: "شامة وطفيل" هما جبلان عند الجمهور، وصوب الخطابي أنهما عينان، وقوله: "كيف تجدك؟" أي تجد نفسك، والمراد به الإحساس، أي كيف تعلم حال نفسك.

(10/118)


9 - باب عِيَادَةِ الصِّبْيَانِ
5655- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَاصِمٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلاَمَ وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَحْتَسِبْ وَلْتَصْبِرْ فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا فَرُفِعَ الصَّبِيُّ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْسُهُ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَلاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلاَّ الرُّحَمَاءَ" .
قوله: "باب عيادة الصبيان" ذكر فيه حديث أسامة بن زيد في قصة ولد بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الجنائز. قوله في هذه الطريق "أن ابنة" في رواية الكشميهني: "أن بنتا" وقوله: "فأشهدنا" كذا للأكثر وعند الكشميهني: "فأشهدها" والمراد به الحضور، وقوله: "هذه الرحمة" في رواية الكشميهني أيضا: "هذه رحمة" بالتنكير.

(10/118)


10 - باب عِيَادَةِ الأَعْرَابِ
5656- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ: لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: قُلْتَ طَهُورٌ، كَلاَ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَعَمْ إِذاً" .

(10/118)


11 - باب عِيَادَةِ الْمُشْرِكِ
5657- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ غُلاَماً لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَالَ أَسْلِمْ فَأَسْلَمَ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ "لَمَّا حُضِرَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب عيادة المشرك" قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا. انتهى. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة الغلام اليهودي، وتقدم شرحها مستوفى في كتاب الجنائز، وذكر قول من زعم أن اسمه عبد القدوس. قوله: "وقال سعيد بن المسيب عن أبيه" تقدم موصولا في تفسير سورة القصص وفي الجنائز أيضا، وتقدم شرحه مستوفى في الجنائز.

(10/119)


12 - باب إِذَا عَادَ مَرِيضاً فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً
5658- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِساً فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ قِيَاماً فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ اجْلِسُوا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ الإِمَامَ لَيُؤْتَمُّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِنْ صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً" .
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: "هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ مَا صَلَّى صَلَّى قَاعِداً وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ".
قوله: "باب إذا عاد مريضا فحضرت الصلاة فصلى" أي المريض "بهم" أي بمن عاده. قوله: "يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة. قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه ناس يعودونه" تقدم شرحه في أبواب الإمامة من كتاب الصلاة، وكذا قول الحميدي المذكور في آخره.

(10/120)


13 - باب وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ
5659- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْجُعَيْدُ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: "تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْواً شَدِيداً فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَتْرُكُ مَالاً وَإِنِّي لَمْ أَتْرُكْ إِلاَّ ابْنَةً وَاحِدَةً فَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي وَأَتْرُكُ الثُّلُثَ؟ فَقَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالنِّصْفِ وَأَتْرُكُ النِّصْفَ؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالثُّلُثِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ" .
5660- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ فَقُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
قوله: "باب وضع اليد على المريض" قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحا. قلت: وقد يكون العائد عارفا بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما يناسبه. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين

(10/120)


تقدما: أحدهما: حديث سعيد بن أبي وقاص، وقد تقدم شرحه في الوصايا، وأورده هنا عاليا من طريق الجعيد وهو ابن عبد الرحمن، وقوله فيه: "تشكيت بمكة شكوى شديدة" في رواية المستملي: "شديدا" بالتذكير على إرادة المرض والشكوى بالقصر المرض وقوله: "وأترك لها الثلثين" قال الداودي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة فلعل ذلك كان قبل نزول الفرائض. وقال غيره: قد يكون من جهة الرد، وفيه نظر لأن سعدا كان له حينئذ عصبات وزوجات فيتعين تأويله، ويكون فيه حذف تقديره: وأترك لها الثلثين، أي ولغيرها من الورثة. وخصها بالذكر لتقدمها عنده. وأما قوله: "ولا يرثني إلا ابنة لي" فتقدم أن معناه من الأولاد، ولم يرد ظاهر الحصر. وقوله: "ثم وضع يده على جبهته" في رواية الكشميهني: "على جبهتي" وبها يتبين أن في الأول تجريدا، وقوله: "فما زلت أجد برده" أي برد يده، وذكر باعتبار العضو أو الكف أو المسح. وقوله: "فيما يخال إلي" قال ابن التين: صوابه فيما يخيل إلي بالتشديد لأنه من التخيل، قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . قلت: وأقره الزركشي، وهو عجيب. فإن الكلمة صواب، وهو بمعنى يخيل قال في "المحكم": خال الشيء يخاله يظنه وتخيله ظنه، وساق الكلام على المادة. الحديث الثاني: حديث ابن مسعود، وقد تقدم شرحه في أوائل كفارة المرضى. وقوله: "فمسسته بيدي" بكسر السين الأولى وهي موضع الترجمة، وجاء عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: "بسم الله" أخرجه أبو يعلى بسند حسن. وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة بسند لين رفعه: "تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو" وأخرجه ابن السني ولفظه: "فيقول: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟".

(10/121)


14 - باب مَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ وَمَا يُجِيبُ
5661- حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فمسسته وهو يوعك وعكا شديدا فقلت إنك لتوعك وعكا شديدا وذلك أن لك أجرين قال: أجل وما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتت عنه خطاياه كما تحات ينوي الشجر" .
5662- حدثنا إسحاق حدثنا خالد بن عبد الله عن خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده فقال: لا بأس طهور إن شاء الله . فقال: كلا بل حمى تفور على شيخ كبير كيما تزيره القبور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذا ".
قوله: "باب ما يقال للمريض وما يجيب" ذكر فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله وحديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي قال حمى تفور وقد تقدم أيضا قريبا، وفيه بيان ما ينبغي أن يقال عند المريض وفائدة ذلك. وأخرج ابن ماجة والترمذي من حديث أبي سعيد رفعه: "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض" وفي سنده لين. وقوله: "نفسوا" أي أطمعوه في الحياة ففي ذلك تنفيس لما هو فيه من

(10/121)


الكرب وطمأنينة لقلبه، قال النووي: هو معنى قوله في حديث ابن عباس للأعرابي لا بأس. وأخرج ابن ماجه أيضا بسند حسن لكن فيه انقطاع عن عمر رفعه "إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة". وقد ترجم المصنف في "الأدب المفرد" ما يجيب به المريض وأورد قول ابن عمر للحجاج لما قال له من أصابك قال: "أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله" وقد تقدم هذا في العيدين.

(10/122)


15 - باب عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رَاكِباً وَمَاشِياً وَرِدْفاً عَلَى الْحِمَارِ
5663- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ وَفِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقّاً فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَكَتُوا فَرَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ: "أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ" يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ فَلَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ مَا أَعْطَاكَ وَلَقَدْ اجْتَمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ فَلَمَّا رَدَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ" .
5664- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ المُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلاَ بِرْذَوْنٍ".
قوله: "باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار" ذكر فيه حديث أسامة بن زيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على الحمار" وفيه أنه أردفه يعود سعد بن عبادة، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أواخر تفسير آل عمران. قوله: "على حمار على إكاف على قطيفة"، "على" الثالثة بدل من الثانية وهي بدل من الأولى. والحاصل أن الإكاف يلي الحمار والقطيفة فوق الإكاف والراكب فوق القطيفة، والإكاف بكسر الهمزة وتخفيف الكاف ما يوضع على الدابة كالبرذعة، والقطيفة كساء. وقوله: "فدكية" بفتح الفاء والدال وكسر الكاف نسبة إلى فدك القرية المشهورة، كأنها صنعت فيها، وحكى بعضهم أن في رواية: "فركبه" بفتح الراء والموحدة الخفيفة من

(10/122)


الركوب والضمير للحمار وهو تصحيف بين. قوله في حديث جابر "جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا برذون" هذا القدر أفرده المزي في "الأطراف" وجعله الحميدي من جملة الحديث الذي أوله "مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان" وأظن الذي صنعه هو الصواب.

(10/123)


باب ما رخص للمرض أن يقول: إني وجع أو وارأساه أو ما أشد ما أجد
...
16 – باب ما رخص للمريض أن يقول: إِنِّي وَجِعٌ أَوْ وَا رَأْسَاهْ أَوْ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ
وَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَم {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
5665- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَأَيُّوبَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قُلْتُ نَعَمْ فَدَعَا الْحَلاَقَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ أَمَرَنِي بِالْفِدَاءِ" .
5666- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَبُو زَكَرِيَّاءَ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَارَأْسَاهْ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ وَأَدْعُوَ لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَا ثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لاَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّساً بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ" .
[الحديث 5666 – طرفه في: 7217]
5667- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قَالَ أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ قَالَ لَكَ أَجْرَانِ قَالَ نَعَمْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
5668- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ بَلَغَ بِي مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قُلْتُ بِالشَّطْرِ قَالَ لاَ قُلْتُ الثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ" .
قوله: "باب ما رخص للمريض أن يقول إني وجع أو وارأساه أو اشتد بي الوجع، وقول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} " أما قوله: "إني وجع" فترجم به في كتاب "الأدب المفرد" وأورده فيه من طريق

(10/123)


هشام بن عروة عن أبيه قال: "دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء - يعني بنت أبي بكر وهي أمهما - وأسماء وجعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعت" الحديث. وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: "دخلت على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فاستوى جالسا، فقلت: أصبحت بحمد الله بارئا؟ قال: أما إني على ما ترى وجع" فذكر القصة، أخرجه الطبراني. وأما قوله: "وارأساه" فصريح في حديث عائشة المذكور في الباب، وأما قوله: "اشتد بي الوجع" فهو في حديث سعد الذي في آخر الباب، وأما قول أيوب عليه السلام فاعترض ابن التين ذكره في الترجمة فقال: هذا لا يناسب التبويب، لأن أيوب إنما قاله داعيا ولم يذكره للمخلوقين. قلت: لعل البخاري أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يمنع ردا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فنبه على أن الطلب من الله ليس ممنوعا، بل فيه زيادة عبادة، لما ثبت مثل ذلك عن المعصوم وأثنى الله عليه بذلك وأثبت له اسم الصبر مع ذلك، وقد روينا في قصة أيوب في فوائد ميمونة وصححه ابن حبان والحاكم من طريق الزهري عن أنس رفعه: "أن أيوب لما طال بلاؤه رفضه القريب والبعيد، غير رجلين من إخوانه، فقال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فبلغ ذلك أيوب - يعني فجزع من قوله - ودعا ربه فكشف ما به". وعند ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عبيد بن نمير موقوفا عليه نحوه وقال فيه: "فجزع من قولهما جزعا شديدا ثم قال: بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني، وسجد، فما رفع رأسه حتى كشف عنه". فكأن مراد البخاري أن الذي يجوز من شكوى المريض ما كان على طريق الطلب من الله، أو على غير طريق التسخط للقدر والتضجر، والله أعلم. قال القرطبي: اختلف الناس في هذا الباب، والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا يستطاع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التأوه والجزع الزائد كأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذموما حتى يحصل التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه، وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر، والله أعلم. وروى أحمد في "الزهد" عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه مكروه، وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك. ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى اهـ. ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء. وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا. حديث كعب بن عجرة في حلق المحرم رأسه إذا آذاه القمل، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج، وقوله: "أيؤذيك هوام رأسك" هو موضع الترجمة لنسبة الأذى للهوام، وهي بتشديد الميم اسم للحشرات لأنها تهم أن تدب، وإذا أضيفت إلى الرأس اختصت بالقمل. قوله: "حدثنا يحيى بن يحيى أبو زكريا" هو النيسابوري الإمام المشهور وليس له في البخاري سوى مواضع يسيرة في الزكاة والوكالة والتفسير والأحلام، وأكثر عنه مسلم، ويقال إنه تفرد بهذا الإسناد وإن أحمد كان يتمنى لو أمكنه الخروج إلى نيسابور ليسمع منه هذا الحديث، ولكن

(10/124)


أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من وجهين آخرين عن سليمان بن بلال. قوله: "وارأساه" هو تفجع على الرأس لشدة ما وقع به من ألم الصداع، وعند أحمد والنسائي وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة "رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه". قوله: "ذاك لو كان وأنا حي" ذاك بكسر الكاف إشارة إلى ما يستلزم المرض من الموت، أي لو مت وأنا حي، ويرشد إليه جواب عائشة، وقد وقع مصرحا به في رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ولفظه: "ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" وقولها "واثكلياه" بضم المثلثة وسكون الكاف وفتح اللام وبكسرها مع التحتانية الخفيفة وبعد الألف هاء للندبة، وأصل الثكل فقد الولد أو من يعز على الفاقد، وليست حقيقته هنا مرادة، بل هو كلام كان يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها. وقولها "والله إني لأظنك تحب موتي" كأنها أخذت ذلك من قوله لها "لو مت قبلي" وقولها "ولو كان ذلك" في رواية الكشميهني: "ذاك" بغير لام أي موتها "لظللت آخر يومك معرسا" بفتح العين والمهملة وتشديد الراء المكسورة وسكون العين والتخفيف، يقال أعرس وعرس إذا بنى على زوجته، ثم استعمل في كل جماع، والأول أشهر، فإن التعريس النزول بليل. ووقع في رواية عبيد الله "لكأني بك والله لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقوله "بل أنا وارأساه" هي كلمة إضراب، والمعنى: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي، وزاد في رواية عبيد الله "ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم". قوله: "لقد هممت أو أردت" شك من الراوي، ووقع في رواية أبي نعيم "أو وددت" بدل "أردت". قوله: "أن أرسل إلى أبي بكر وابنه" كذا للأكثر بالواو وألف الوصل والموحدة والنون، ووقع في رواية مسلم: "أو ابنه" بلفظ أو التي للشك أو للتخيير، وفي أخرى "أو آتيه" بهمزة ممدودة بعدها مثناة مكسورة ثم تحتانية ساكنة من الإتيان بمعنى المجيء، والصواب الأول، ونقل عياض عن بعض المحدثين تصويبها وخطأه. وقال: ويوضح الصواب قولها في الحديث الآخر عند مسلم: " ادعي لي أباك وأخاك" وأيضا فإن مجيئه إلى أبي بكر كان متعسرا لأنه عجز عن حضور الصلاة مع قرب مكانها من بيته. قلت: في هذا التعليل نظر، لأن سياق الحديث يشعر بأن ذلك كان في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم، وقد استمر يصلي بهم وهو مريض ويدور على نسائه حتى عجز عن ذلك وانقطع في بيت عائشة. ويحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت الخ" وقع بعد المفاوضة التي وقعت بينه وبين عائشة بمدة، وإن كان ظاهر الحديث بخلافه. ويؤيد أيضا ما في الأصل أن المقام كان مقام استمالة قلب عائشة، فكأنه يقول: كما أن الأمر يفوض لأبيك فإن ذلك يقع بحضور أخيك، هذا إن كان المراد بالعهد العهد بالخلافة، وهو ظاهر السياق كما سيأتي تقريره في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وإن كان لغير ذلك فلعله أراد إحضار بعض محارمها حتى لو احتاج إلى قضاء حاجة أو الإرسال إلى أحد لوجد من يبادر لذلك. قوله: "فأعهد" أي أوصي. قوله: "أن يقول القائلون" أي لئلا يقول، أو كراهة أن يقول. قوله: "أو يتمنى المتمنون" بضم النون جمع متمني بكسرها، واصل الجمع المتمنيون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمعت كسرة النون بعدها الواو فضمت النون. وفي الحديث ما طبعت عليه المرأة من الغيرة، وفيه مداعبة الرجل أهله والإفضاء إليهم بما يستره عن غيرهم، وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من

(10/125)


ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعول في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان، والله أعلم. حديث ابن مسعود، وقد تقدم شرحه قريبا. وقوله في هذه الرواية: "فمسسته" وقع في رواية المستملي: "فسمعته" وهو تحريف، ووجهت بأن هناك حذفا والتقدير فسمعت أنينه. حديث عامر بن سعد عن أبيه وهو سعد بن أبي وقاص. قوله: "من وجع اشتد بي" تقدم شرحه مستوفى في كتاب الوصايا، وقوله: "زمن حجة الوداع" موافق لرواية مالك عن الزهري، وتقدم أن ابن عيينة قال في روايته: "أن ذلك في زمن الفتح" والأول أرجح والله أعلم.

(10/126)


17 - باب قَوْلِ الْمَرِيضِ: قُومُوا عَنِّي
5669- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ. ح حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلاَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا" قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ".
قوله: "باب قول المريض قوموا عني" أي إذا وقع من الحاضرين عنده ما يقتضي ذلك. قوله: "هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، وقوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو المسندي، وساقه المصنف هنا على لفظ هشام، وسبق لفظ عبد الرزاق في أواخر المغازي، وتقدم شرحه هناك، ووقع هنا "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا" وقد تقدم الحديث في كتاب العلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري بلفظ: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني" وهو المطابق للترجمة، ولم أستحضره عند الكلام عليه في المغازي فنسبت هذه الزيادة لابن سعد، وعزوها للبخاري أولى. ويؤخذ من هذا الحديث أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد عند المريض حتى يضجره، وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه. وجملة آداب العيادة عشرة أشياء، ومنها ما لا يختص بالعيادة: أن لا يقابل الباب عند الاستئذان، وأن يدق الباب برفق، وأن لا يبهم نفسه كأن يقول أنا، وأن لا يحضر في وقت يكون غير لائق بالعيادة كوقت شرب المريض الدواء، وأن يخفف الجلوس، وأن يغض البصر، ويقلل السؤال، وأن يظهر الرقة، وأن يخلص الدعاء، وأن يوسع للمريض في الأمل، ويشير عليه بالصبر لما فيه من جزيل الأجر، ويحذره من الجزع لما فيه من الوزر. قوله: "وكان ابن عباس يقول إن الرزية" سبق الكلام علبه في الوفاة النبوية.

(10/126)


18 - باب مَنْ ذَهَبَ بِالصَّبِيِّ الْمَرِيضِ لِيُدْعَى لَهُ
5670- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الْجُعَيْدِ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ يَقُولُ: " ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ" .
قوله: "باب من ذهب بالصبي المريض ليدعى له" في رواية الكشميهني: "ليدعو له". ذكر فيه حديث الجعيد وهو ابن عبد الرحمن، والسائب هو ابن يزيد، وقد تقدم الحديث مشروحا في الترجمة النبوية عند ذكر خاتم النبوة وأن خالة السائب لا يعرف اسمها، وستأتي الإشارة إلى خصوص المسح على رأس المريض والدعاء بالبركة في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى.

(10/127)


باب تمني الموت
...
19 - باب تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ
5671- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي" .
[الحديث 5671 – طرفاه في: 6351، 7233]
5672- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: "دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعاً إِلاَّ التُّرَابَ وَلَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَبْنِي حَائِطاً لَهُ فَقَالَ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلاَّ فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هَذَا التُّرَابِ".
[الحديث 5672 – أطرافه في: 6349، 6350، 6430، 6431، 7234]
5673- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْراً وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ" .
5674- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى" .

(10/127)


قوله: "باب تمني المريض الموت" أي هل يمنع مطلقا أو يجوز في حالة؟ ووقع في رواية الكشميهني نهي تمني المريض الموت، وكأن المراد منع تمني المريض. وذكر في الباب خمسة أحاديث: الحديث الأول: عن أنس. قوله: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه" الخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموما، وقوله: "من ضر أصابه" حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا" على أن "في" في هذا الحديث سببية، أي بسبب أمر من الدنيا، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة: ففي "الموطأ" عن عمر أنه قال: "اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط"، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن عمر. وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس ويقال عابس الغفاري أنه قال: "يا طاعون خذني. فقال له عليم الكندي: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت؟" فقال: إني سمعته يقول: " بادروا بالموت ستا، إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم" الحديث. وأخرج أحمد أيضا من حديث عوف بن مالك نحو وأنه "قيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمر المسلم كان خيرا له" الحديث، وفيه الجواب نحوه، وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم في القول في دبر كل صلاة وفيه: "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون" . قوله: " فإن كان لا بد فاعلا " في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي في الدعوات "فإن كان ولا بد متمنيا للموت". قوله: "فليقل الخ" وهذا يدل على أن النهي عن تمني الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة، لأن في التمني المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء، وقوله: "فإن كان الخ" فيه ما يصرف الأمر عن حقيقته من الوجوب أو الاستحباب، ويدل على أنه لمطلق الإذن لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته. وقريب من هذا السياق ما أخرجه أصحاب السنن من حديث المقدام بن معد يكرب " حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فثلث للطعام" الحديث، أي إذا كان لا بد من الزيادة على اللقيمات فليقتصر على الثلث، فهو إذن بالاقتصار على الثلث، لا أمر يقتضي الوجوب ولا الاستحباب. قوله: " ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت" عبر في الحياة بقوله: "ما كانت" لأنها حاصلة، فحسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة، ولما كانت الوفاة لم تقع بعد حسن أن يأتي بصيغة الشرط. والظاهر أن هذا التفصيل ما إذا كان الضر دينيا أو دنيويا، وسيأتي في التمني من رواية النضر بن أنس عن أبيه "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تمنوا الموت لتمنيته" فلعله رأى أن التفصيل المذكور ليس من التمني المنهي عنه. الحديث الثاني: حديث خباب. قوله: "عن إسماعيل بن أبي خالد" لشعبة فيه إسناد آخر أخرجه الترمذي من رواية غندر عنه عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: "دخلت على خباب" فذكر الحديث نحوه. قوله: "وقد اكتوى سبع كيات" في رواية حارثة "وقد اكتوى في بطنه فقال: ما أعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقي من البلاء ما لقيت" أي من الوجع الذي أصابه، وحكى شيخنا في "شرح الترمذي" احتمال أن يكون أراد بالبلاء ما فتح عليه من المال بعد أن كان لا يجد درهما، كما وقع صريحا في رواية حارثة المذكورة عنه قال: "لقد كنت وما أجد درهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ناحية بيتي أربعون ألفا" يعني الآن، وتعقبه بأن غيره من الصحابة كان أكثر مالا منه كعبد الرحمن بن عوف، واحتمال أن يكون أراد ما لقي من التعذيب في أول الإسلام من

(10/128)


المشركين، وكأنه رأى أن اتساع الدنيا عليه يكون ثواب ذلك التعذيب، وكان يحب أن لو بقي له أجره موفرا في الآخرة، قال: ويحتمل أن يكون أراد ما فعل من الكي مع ورود النهي عنه، كما قال عمران بن حصين "نهينا عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا" أخرجه(1) قال: وهذا بعيد. قلت: وكذلك الذي قبله، وسيأتي الكلام على حكم الكي قريبا في كتاب الطب إن شاء الله تعالى. قوله: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا" زاد في الرقاق من طريق يحيي القطان عن إسماعيل بن أبي خالد "شيئا" أي لم تنقص أجورهم، بمعنى أنهم لم يتعجلوها في الدنيا بل بقيت موفرة لهم في الآخرة، وكأنه عنى بأصحابه بعض الصحابة ممن مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأما من عاش بعده فإنهم اتسعت لهم الفتوح. ويؤيده حديثه الآخر "هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير" وقد مضى في الجنائز وفي المغازي أيضا، ويحتمل أن يكون عني جميع من مات قبله، وأن من اتسعت له الدنيا لم تؤثر فيه إما لكثرة إخراجهم المال في وجوه البر، وكان من يحتاج إليه إذ ذاك كثيرا فكانت تقع لهم الموقع، ثم لما اتسع الحال جدا وشمل العدل في زمن الخلفاء الراشدين استغني الناس بحيث صار الغني لا يجد محتاجا يضع بره فيه، ولهذا قال خباب: "وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب" أي الإنفاق في البنيان. وأغرب الداودي فقال: أراد خباب بهذا القول الموت أي لا يجد للمال الذي أصابه إلا وضعه في القبر، حكاه ابن التين ورده فأصاب. وقال: بل هو عبارة عما أصابوا من المال قلت: وقد وقع لأحمد عن يزيد بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالد في هذا الحديث بعد قوله إلا التراب "وكان يبني حائطا له" ويأتي في الرقاق نحوه باختصار، وأخرجه أحمد أيضا عن وكيع عن إسماعيل وأوله "دخلنا على خباب نعوده وهو يبني حائطا له وقد اكتوى سبعا" الحديث. قوله: "ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به" الدعاء بالموت أخص من تمني الموت، وكل دعاء تمني من غير عكس، فلذلك أدخله في هذه الترجمة. قوله: "ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له" هكذا وقع في رواية شعبة تكرار المجيء، وهو أحفظ الجميع فزيادته مقبولة، والذي يظهر أن قصة بناء الحائط كانت سبب قوله أيضا: "وإنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعا إلا التراب". قوله: "إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب" أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة، وسيأتي تقرير ذلك في آخر كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. "تنبيه" هكذا وقع من هذا الوجه موقوفا، وقد أخرجه الطبراني من طريق عمر بن إسماعيل بن مجالد "حدثنا أبي عن بيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد جميعا عن قيس عن أبي حازم قال: دخلنا على خباب نعوده" فذكر الحديث، وفيه: "وهو يعالج حائطا له فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المسلم يؤجر في نفقته كلها إلا ما يجعله في التراب" وعمر كذبه يحيى بن معين. قوله: "أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف" هو أبو عبيد مولى ابن أزهر واسمه سعيد بن عبيد، وابن أزهر الذي نسب إليه هو عبد الرحمن بن أزهر بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري؛ هكذا اتفق هؤلاء عن الزهري في روايته عن أبي عبيد، وخالفهم إبراهيم بن سعد عن الزهري فقال: "عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة" أخرجه النسائي وقال: رواية الزبيدي أولى
ـــــــ
(1) بياض بالأصل

(10/129)


بالصواب، وإبراهيم بن سعد ثقة، يعني ولكنه أخطأ في هذا. قوله: "لن يدخل أحدا عمله الجنة" الحديث يأتي الكلام عليه في كتاب الرقاق، فإنه أورده مفردا من وجه آخر عن أبي هريرة وغيره، وإنما أخرجه هنا استطرادا لا قصدا، والمقصود منه الحديث الذي بعده وهو قوله: "ولا يتمنى الخ" وقد أفرده في كتاب التمني من طريق معمر عن الزهري، وكذا أخرجه النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري. قوله: "ولا يتمني" كذا للأكثر بإثبات التحتانية، وهو لفظ نفي بمعني النهي. ووقع في رواية الكشميهني: "لا يتمن" على لفظ النهي، ووقع في رواية معمر الآتية في التمني بلفظ: "لا يتمنى" للأكثر وبلفظ: "لا يتمنين" للكشميهني، وكذا هو في رواية همام عن أبي هريرة بزيادة نون التأكيد، وزاد بعد قوله أحدكم الموت "ولا يدع به من قبل أن يأتيه" وهو قيد في الصورتين، ومفهومه أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله ولا من طلبه من الله لذلك وهو كذلك، ولهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" إشارة إلى أن النهي مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فلله دره ما كان أكثر استحضاره وإيثاره للأخفى على الأجلى شحذا للأذهان. وقد خفي صنيعه هذا على من جعل حديث عائشة في الباب معارضا لأحاديث الباب أو ناسخا لها، وقوي ذلك بقول يوسف عليه السلام {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال ابن التين: قيل إن النهى منسوخ بقول يوسف فذكره، وبقول سليمان "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" وبحديث عائشة في الباب، وبدعاء عمر بالموت وغيره. قال وليس الأمر كذلك لأن هؤلاء إنما سألوا ما قارب الموت. قلت: وقد اختلف في مراد يوسف عليه السلام، فقال قتادة: لم يتمني الموت أحد إلا يوسف حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء الله، أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه. وقال غيره: بل مراده توفني مسلما عند حضور أجلي، كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك بن مزاحم، وكذلك مراد سليمان عليه السلام. وعلى تقدير الحمل على ما قال قتادة فهو ليس من شرعنا، وإنما يؤخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا النهي عنه بالاتفاق، وقد استشكل الإذن في ذلك عند نزول الموت لأن نزول الموت لا يتحقق، فكم من انتهى إلى غاية جرت العادة بموت من يصل إليها ثم عاش. والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد أن العبد يكون حاله في ذلك الوقت حال من يتمني نزوله به ويرضاه أن لو وقع به، والمعني أن يطمئن قلبه إلى ما يرد عليه من ربه ويرضى به ولا يقلق، ولو لم يتفق أنه يموت في ذلك المرض. قول "إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب" أي يرجع عن موجب العتب عليه. ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا" وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يحصل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال. ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد والعياذ بالله تعالى عن الإيمان لأن ذلك نادر، والإيمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك - وقد وقع لكن نادرا - فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوعها طال عمره أو قصر، فتعجيله بطلب الموت لا خير له فيه. ويؤيده حديث أبي أمامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك" أخرجه بسند لين، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم: "وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا " واستشكل بأنه قد يعمل السيئات فيزيده عمره شرا، وأجيب بأجوبة: أحدها حمل المؤمن

(10/130)


على الكامل وفيه بعد، والثاني أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من اجتناب الكبائر وإما من فعل حسنات أخر تقاوم سيئاته، وما دام الإيمان باق فالحسنات بصدد التضعيف، والسيئات بصدد التكفير. والثالث يقيد ما أطلق في هذه الرواية بما وقع في رواية الباب من الترجي حيث جاء بقوله: "لعله" والترجي مشعر بالوقوع غالبا لا جزما، فخرج الخبر مخرج تحسين الظن بالله، وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه للزيادة من عمله الصالح، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجائه، أشار إلى ذلك شيخنا في "شرح الترمذي". ويدل على أن قصر العمر قد يكون خيرا للمؤمن حديث أنس الذي في أول الباب: "وتوفني إذا كان الوفاة خيرا لي" وهو لا ينافي حديث أبي هريرة "أن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا" إذا حمل حديث أبي هريرة على الأغلب ومقابله على النادر، وسيأتي الإلمام بشيء من هذا في كتاب التمني إن شاء الله تعالى. حديث عائشة "وألحقني بالرفيق الأعلى " تقدم شرحه في أواخر المغازي في الوفاة النبوية، وتقدم في الذي قبله أن ذلك لا يعارض النهي عن تمني الموت والدعاء به، وأن هذه الحالة من خصائص الأنبياء أنه لا يقبض نبي حتى يخير بين البقاء في الدنيا وبين الموت. وقد تقدم بسطه واضحا هناك ولله الحمد.

(10/131)


20 - باب دُعَاءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً" قاله النبي صلى الله عليه وسلم
5675- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضاً أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً" .
وقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الضُّحَى "إِذَا أُتِيَ بِالْمَرِيضِ" وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى وَحْدَهُ وَقَالَ: "إِذَا أَتَى مَرِيضاً".
[الحديث 5675 – أطرافه في: 5743، 5744، 5750]
قوله: "باب دعاء العائد للمريض" أي بالشفاء ونحوه. قوله: "وقالت عائشة بنت سعد" أي ابن أبي وقاص، وهذا طرف من حديثه الطويل في الوصية بالثلث، وقد تقدم موصولا في "باب وضع اليد على المريض" قريبا. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي. قوله: "إذا أتى مريضا أو أتي به" شك من الراوي، وقد حكى المصنف الاختلاف فيه في الروايات المعلقة بعد. قوله: "لا يغادر" بالغين المعجمة أي لا يترك، وفائدة التقييد بذلك أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر يتولد منه، فكان يدعو له بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء. قوله: "وقال عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان عن منصور عن إبراهيم وأبي الضحى "إذا أتى المريض" وقع في رواية الكشميهني: "إذا أتي بالمريض" وهو أصوب، فأما عمرو بن أبي قيس فهو الرازي وأصله من الكوفة ولا يعرف اسم أبيه وهو صدوق، ولم يخرج له البخاري إلا تعليقا، وقد وقع لنا حديثه هذا موصولا في "فوائد أبي العباس محمد بن نجيح" من رواية محمد بن سعيد بن سابق القزويني عنه بلفظ: "إذا أتي

(10/131)


بالمريض" وأما إبراهيم بن طهمان فوصل طريقه الإسماعيلي من رواية محمد بن سابق التميمي الكوفي نزيل بغداد عنه بلفظ: "إذا أتى بمريض". قوله: "وقال جرير عن منصور عن أبي الضحى وحده وقال: إذا أتى مريضا" وهذا وصله ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جرير بلفظ: "إذا أتى إلى المريض فدعا له" وهي عند مسلم أيضا، وقد دلت رواية كل من جرير وأبي عوانة على أن عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان حفظا عن منصور أن الحديث عنده عن شيخين، وأنه تارة يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وقد أخرجه مسلم من طريق إسرائيل عن منصور عنهما كذلك، ورجح عند البخاري رواية منصور عن إبراهيم وحده لأن الثوري رواها عن منصور كذلك كما سيأتي في أثناء كتاب الطب، ووافقه ورقاء عن منصور عند النسائي، وسفيان أحفظ الجميع، لكن رواية جرير غير مرفوعة والله أعلم. وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تضافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة، ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه، والداعي بين حسنتين: إما أن يحصل له مقصوده، أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضر، وكل من فضل الله تعالى.

(10/132)


21 - باب وُضُوءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ
5676- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فتوضأ فصب علي أو قال صبوا عليه فعقلت فقلت لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث فنزلت آية الفرائض".
قوله: "باب وضوء العائد للمريض" ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم التنبيه عليه قريبا في باب المغمى عليه، ولا يخفى أن محله إذا كان العائد بحيث يتبرك المريض به.

(10/132)


22 - باب مَنْ دَعَا بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْحُمَّى
5677- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

(10/132)


كتاب الطب
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
76 - كِتَاب الطِّبِّ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الطب" كذا لهم، إلا النسفي فترجم "كتاب الطب" أول كفارة المرض ولم يفرد كتاب الطب، وزاد في نسخة الصغاني "والأدوية". والطب بكسر المهملة وحكى ابن السيد تثليثها. والطبيب هو الحاذق بالطب، ويقال له أيضا طب بالفتح والكسر ومستطب وامرأة طب بالفتح، يقال استطب تعانى الطب واستطب استوصفه، ونقل أهل اللغة أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك للمداوى وللتداوي وللداء أيضا فهو من الأضداد، ويقال أيضا للرفق والسحر، ويقال للشهوة ولطرائق ترى في شعاع الشمس وللحذق بالشيء، والطبيب الحاذق في كل شيء، وخص به المعالج عرفا، والجمع في القلة أطبة وفي الكثرة أطباء. والطب نوعان: طب جسد وهو المراد هنا، وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه وتعالى. وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره، وغالبه راجع إلى التجربة. ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش. ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما إلى حرارة أو برودة، وكل منهما إما إلى رطوبة، أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما. وغالب ما يقاوم الواحد منهما بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما. والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه أو عكسه، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة. وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن: فالأول من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلك أن السفر مظنة النصب وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على الجسد. وكذا القول في المرض الثاني وهو الحمية من قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد. والثالث من قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس. وأخرج مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم مرسلا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلين: أيكما أطب؟ قالا: يا رسول الله وفي الطب خير؟ قال: أنزل الداء الذي أنزل الدواء" .

(10/134)


باب ما أنزا الله داء إلا أنزل له شفاء
...
1 - باب مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً
5678- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً" .
قوله: "باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" كذا للإسماعيلي وابن بطال ومن تبعه، ولم أر لفظ: "باب" من نسخ الصحيح إلا للنسفي. قوله: "أبو أحمد الزبيري" هو محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي، نسب لجده وهو

(10/134)


أسد من بني أسد بن خزيمة، فقد يلتبس بمن ينسب إلى الزبير بن العوام لكونهم من بني أسد بن عبد العزى، وهذا من فنون علم الحديث وصنفوا فيه الأنساب المتفقة في اللفظ المفترقة في الشخص. وقد وقع عند أبي نعيم في الطب من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة: "قالا حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي أبو أحمد الزبيري" وعند الإسماعيلي من طريق هارون بن عبد الله الحمال "حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري". قوله: "عن أبي هريرة" كذا قال عمر بن سعيد عن عطاء، وخالفه شبيب بن بشر فقال: "عن عطاء عن أبي سعيد الخدري" أخرجه الحاكم وأبو نعيم في الطب ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس، هذه رواية عبد بن حميد عن محمد بن عبيد عنه. وقال معتمر بن سليمان "عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة" أخرجه ابن عاصم في الطب وأبو نعيم، وهذا مما يترجح به رواية عمر بن سعيد. قوله: "ما أنزل الله داء" وقع في رواية الإسماعيلي: "من داء" و"من" زائدة، ويحتمل أن يكون مفعول "أنزل" محذوفا فلا تكون من زائدة بل لبيان المحذوف، ولا يخفى تكلفه. قوله: "إلا أنزل له شفاء" في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث: "يا أيها الناس تداووا" ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا" وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم، ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس، ولأحمد عن أنس "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداووا" وفي حديث أسامة بن شريك "تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا الهرم" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وفي لفظ: "إلا السام" بمهملة مخففة يعني الموت. ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره: "علمه من علمه وجهله من جهله" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. ولمسلم عن جابر رفعه: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى" ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه: "إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا، ولا تداووا بحرام" وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا، أو عبر بالإنزال عن التقدير. وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام. وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع، بل ربما أحدث داء آخر. وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، وفيها كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره، وأنها لا تنجح بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر "بإذن الله" فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته. والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك، وسيأتي مزيد لهذا البحث في "باب الرقية" إن شاء الله تعالى. ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له، وأقروا بالعجز عن مداواته، ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله: "وجهله من جهله" إلى ذلك فتكون باقية على عمومها، ويحتمل أن يكون في الخبر حذف تقديره: لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء، والأول أولى. ومما يدخل في قوله: "جهله من جهله" ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع،

(10/135)


والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع ومن هنا تخضع رقاب الأطباء، وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة وهو بمعجمة وزاي خفيفة عن أبيه قال: " قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله تعالى" والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب، وهو ينجع في ذلك في الغالب، وقد يتخلف لمانع والله أعلم. ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد، وحكي كسر دال الدواء. واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح، ولعل التقدير إلا داء الموت، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت. واستثناء الهرم في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير: لكن الهرم لا دواء له، والله أعلم.

(10/136)


2 - باب هَلْ يُدَاوِي الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ
5679- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بشر بن المفضل عن خالد بن ذكوان عن ربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة".
قوله: "باب هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل؟" ذكر فيه حديث الربيع بالتشديد "كنا نغزو ونسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة" وليس في هذا السياق تعرض للمداواة، إلا إن كان يدخل في عموم قولها "نخدمهم" نعم ورد الحديث المذكور بلفظ: "ونداوي الجرحى ونرد القتلى" وقد تقدم كذلك في "باب مداواة النساء الجرحى في الغزو" من كتاب الجهاد، فجرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض ألفاظ الحديث، ويؤخذ حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس. وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب، أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجا لها أو محرما. وأما حكم المسألة فتجور مداواة الأجانب عند الضرورة وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك، وقد تقدم البحث في شيء من ذلك في كتاب الجهاد.

(10/136)


3 - باب الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثٍ
5680- حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ حَدَّثَنَا سَالِمٌ الأَفْطَسُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيَّةِ نَارٍ وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ" . رَفَعَ الْحَدِيثَ.
وَرَوَاهُ الْقُمِّيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ.
[الحديث 5680 – طرفه في: 5681]
5681- حدثني محمد بن عبد الرحيم أخبرنا سريج بن يونس أبو الحارث حدثنا مروان بن شجاع عن

(10/136)


4 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
5682- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ".
5683- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ أَوْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ" .
[الحديث 5683 – أطرافه في: 5697، 5702، 5704]
5684- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ قَدْ فَعَلْتُ فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلاً فَسَقَاهُ فَبَرَأَ" .
[الحديث 5684 – طرفه في: 5716]

(10/139)


قوله: "باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} " كأنه أشار بذكر الآية إلى أن الضمير فيها للعسل وهو قول الجمهور، وزعم بعض أهل التفسير أنه للقرآن. وذكر ابن بطال أن بعضهم قال: إن قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي لبعضهم، وحمله على ذلك أن تناول العسل قد يضر ببعض الناس كمن يكون حار المزاج، لكن لا يحتاج إلى ذلك لأنه ليس في حمله على العموم ما يمنع أنه قد يضر الأبدان بطريق العرض. والعسل يذكر ويؤنث، وأسماؤه تزيد على المائة، وفيه من المنافع ما لخصه الموفق البغدادي وغيره فقالوا: يجلو الأوساخ التي في العروق والأمعاء، ويدفع الفضلات، ويغسل خمل المعدة، ويسخنها تسخينا معتدلا، ويفتح أفواه العروق ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة والمنافذ، وفيه تحليل للرطوبات أكلا وطلاء وتغذية، وفيه حفظ المعجونات وإذهاب لكيفية الأدوية المستكرهة، وتنقية الكبد والصدر، وإدرار البول والطمث، ونفع للسعال الكائن من البلغم، ونفع لأصحاب البلغم والأمزجة الباردة. وإذا أضيف إليه الخل نفع أصحاب الصفراء. ثم هو غذاء من الأغذية، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة، وحلوى من الحلاوات، وطلاء من الأطلية، ومفرح من المفرحات. ومن منافعه أنه إذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان، وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة الكلب، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك الخيار والقرع والباذنجان والليمون ونحو ذلك من الفواكه، وإذا لطخ به البدن للقمل قتل القمل والصئبان، وطول الشعر وحسنه ونعمه، وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر، وإن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها. وهو عجيب في حفظ جثث الموتى فلا يسرع إليها البلى، وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرة، ولم يكن يعول قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه، ولا ذكر للسكر في أكثر كتبهم أصلا. وقد أخرج أبو نعيم في "الطب النبوي" بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه وابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر رفعه: "من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم بلاء" والله أعلم. حديث عائشة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل" قال الكرماني: الإعجاب أعم من أن يكون على سبيل الدواء أو الغذاء. فتؤخذ المناسبة بهذه الطريق، وقد تقدم باقي الكلام عليه في كتاب الأطعمة. قوله: "عبد الرحمن ابن الغسيل" اسم الغسيل حنظلة بن أبي عامر الأوسي الأنصاري، استشهد بأحد وهو جنب فغسلته الملائكة فقيل له الغسيل، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو جد جد عبد الرحمن، فهو ابن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة، وعبد الرحمن معدود في صغار التابعين لأنه رأى أنسا وسهل بن سعد، وجل روايته عن التابعين، وهو ثقة عند الأكثر واختلف فيه قول النسائي. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا. اهـ. وكان قد عمر فجاز المائة فلعله تغير حفظه في الآخر وقد احتج به الشيخان، وشيخه عاصم بن عمر بن قتادة أي ابن النعمان الأنصاري الأوسي يكنى أبا عمر ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في "باب من بنى مسجدا" في أوائل الصلاة، وهو تابعي ثقة عندهم، وأغرب عبد الحق فقال في "الأحكام": وثقة ابن معين وأبو زرعة وضعفه غيرهما. ورد ذلك أبو الحسن بن القطان على عبد الحق فقال: لا أعرف أحدا ضعفه ولا ذكره في الضعفاء اهـ. وهو كما قال. قوله: "إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم" كذا وقع بالشك، وكذا لأحمد عن أبي أحمد الزبيري عن ابن الغسيل، وسيأتي بعد أبواب باللفظ الأول بغير شك، وكذا لمسلم، وذكرت فيه في "باب الحجامة من الداء" قصة. وقوله:

(10/140)


"أو يكون" قال ابن التين صوابه "أو يكن" لأنه معطوف على مجزوم فيكون مجزوما. قلت: وقد وقع في رواية أحمد "إن كان أو إن يكن" فلعل الراوي أشبع الضمة فظن السامع أن فيها واوا فأثبتها، ويحتمل أن يكون التقدير: إن كان في شيء أو إن كان يكون في شيء، فيكون التردد لإثبات لفظ يكون وعدمها، وقرأها بعضهم بتشديد الواو وسكون النون، وليس ذلك بمحفوظ. قوله: "ففي شرطة محجم" بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم. قوله: "أو لذعة بنار" بذال معجمة ساكنة وعين مهملة، اللذع هو الخفيف من حرق النار. وأما اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة فهو ضرب أو عض ذات السم. قوله: "توافق الداء" فيه إشارة إلى أن الكي إنما يشرع منه ما يتعين طريقا إلى إزالة ذلك الداء، وأنه لا ينبغي التجربة لذلك ولا استعماله إلا بعد التحقق، ويحتمل أن يكون المراد بالموافقة موافقة القدر. قوله: "وما أحب أن أكتوي" سيأتي بيانه بعد أبواب. حديث أبي سعيد في الذي اشتكى بطنه فأمر بشرب العسل، وسيأتي شرحه في "باب دواء المبطون". وشيخه عباس فيه هو بالموحدة ثم مهملة النرسي بنون ومهملة، وعبد الأعلى شيخه هو ابن عبد الأعلى، وسعيد هو ابن أبي عروبة، والإسناد كله بصريون.

(10/141)


5 - باب الدَّوَاءِ بِأَلْبَانِ الإِبِلِ
5685- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا سَلاَمُ بْنُ مِسْكِينٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ نَاساً كَانَ بِهِمْ سَقَمٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آوِنَا وَأَطْعِمْنَا فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا إِنَّ الْمَدِينَةَ وَخِمَةٌ فَأَنْزَلَهُمْ الْحَرَّةَ فِي ذَوْدٍ لَهُ فَقَالَ اشْرَبُوا أَلْبَانَهَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا ذَوْدَهُ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَكْدِمُ الأَرْضَ بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوتَ" .
قَالَ سَلاَمٌ: "فَبَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَنَسٍ حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِهَذَا فَبَلَغَ الْحَسَنَ فَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ بِهَذَا".
قوله: "باب الدواء بألبان الإبل" أي في المرض الملائم له. قوله: "سلام بن مسكين" هو الأزدي، وهو بالتشديد، وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سيأتي في كتاب الأدب. ووقع في اللباس عن موسى بن إسماعيل "حدثنا سلام عن عثمان بن عبد الله" فزعم الكلاباذي أنه سلام بن مسكين، وليس كذلك بل هو سلام بن أبي مطيع، وسأذكر الحجة لذلك هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا ثابت" هو البناني، ووقع للإسماعيلي من رواية بهز بن أسد "عن سلام بن مسكين قال حدث ثابت الحسن وأصحابه وأنا شاهد منهم" فيؤخذ من ذلك أنه لا يشترط في قول الراوي حدثنا فلان أن يكون فلان قد قصد إليه بالتحديث، بل إن سمع منه اتفاقا جاز أن يقول حدثنا فلان، ورجال هذا الإسناد أيضا كلهم بصريون. قوله: "أن ناسا" زاد بهز في روايته: "من أهل الحجاز" وقد تقدم في الطهارة أنهم من عكل أو عرينة بالشك، وثبت أنهم كانوا ثمانية وأن أربعة منهم كانوا من عكل وثلاثة من عرينة والرابع كان تبعا لهم. قوله: "كان بهم سقم فقالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا" في

(10/141)


السياق حذف تقديره فآواهم وأطعمهم، فلما صحوا قالوا إن المدينة وخمة، وكان السقم الذي بهم أولا من الجوع أو من التعب فلما زال ذلك عنهم خشوا من وخم المدينة إما لكونهم أهل ريف فلم يعتادوا بالحضر، وإما بسبب ما كان بالمدينة من الحمى، وهذا هو المراد بقوله في الرواية التي بعدها "اجتووا المدينة" وتقدم تفسير الجوى في كتاب الطهارة. ووقع في رواية بهز بن أسد "بهم ضر وجهد" وهو يشير إلى ما قلناه. قوله: "في ذود له" ذكر ابن سعد أن عدد الذود كان خمس عشرة. وفي رواية بهز بن أسد: أن الذود كان مع الراعي بجانب الحرة. قوله: "فقال اشربوا ألبانها" كذا هنا، وتقدم من رواية أبي قلابة وغيره عن أنس "من ألبانها وأبوالها". قوله: "فلما صحوا" في السياق حذف تقديره: فخرجوا فشربوا فلما صحوا. قوله: "وسمر أعينهم" كذا للأكثر، وللكشميهني باللام بدل الراء، وقد تقدم شرحها. قوله: "فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت" زاد بهز في روايته: "مما يجد من الغم والوجع" وفي صحيح أبي عوانة هنا "يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة". قوله: "قال سلام" هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "فبلغني أن الحجاج" هو ابن يوسف الأمير المشهور. وفي رواية أنس "فذكر ذلك قوم للحجاج فبعث إلى أنس فقال: هذا خاتمي فليكن بيدك - أي يصير خازنا له - فقال أنس: إني أعجز عن ذلك. قال فحدثني بأشد عقوبة" الحديث. قوله: "بأشد عقوبة عاقبه النبي صلى الله عليه وسلم" كذا بالتذكير على إرادة العقاب. وفي رواية بهز "عاقبها" على ظاهر اللفظ. قوله: "فبلغ الحسن" هو ابن أبي الحسن البصري "فقال: وددت أنه لم يحدثه" زاد الكشميهني: "بهذا" وفي رواية بهز "فوالله ما انتهى الحجاج حتى قام بها على المنبر فقال: حدثنا أنس" فذكره وقال: "قطع النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي والأرجل وسمل الأعين في معصية الله، أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله؟" وساق الإسماعيلي من وجه آخر عن ثابت "حدثني أنس قال: ما ندمت على شيء ما ندمت على حديث حدثت به الحجاج" فذكره، وإنما ندم أنس على ذلك لأن الحجاج كان مسرفا في العقوبة، وكان يتعلق بأدنى شبهة. ولا حجة له في قصة العرنيين لأنه وقع التصريح في بعض طرقه أنهم ارتدوا، وكان ذلك أيضا قبل أن تنزل الحدود كما في الذي بعده، وقبل النهي عن المثلة كما تقدم في المغازي، وقد حضر أبو هريرة الأمر بالتعذيب بالنار ثم حضر نسخه والنهي عن التعذيب بالنار كما مر في كتاب الجهاد، وكان إسلام أبي هريرة متأخرا عن قصة العرنيين، وقد تقدم بسط القول في ذلك في "باب الإبل والدواب" في كتاب الطهارة، وإنما أشرت إلى اليسير منه لبعد العهد به.

(10/142)


6 - باب الدَّوَاءِ بِأَبْوَالِ الإِبِلِ
5686- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَاساً اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ يَعْنِي الإِبِلَ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الإِبِلَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ" .
قَالَ قَتَادَةُ: "فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ".

(10/142)


قوله: "باب الدواء بأبوال الإبل" ذكر فيه حديث العرنيين، ووقع في خصوص التداوي بأبوال الإبل حديث أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس رفعه: "عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة للذربة بطونهم" والذربة بفتح المعجمة وكسر الراء جمع ذرب، والذرب بفتحتين فساد المعدة. قوله: "أن ناسا اجتووا في المدينة" كذا هنا بإثبات "في" وهي ظرفية أي حصل لهم الجوى وهم في المدينة، ووقع في رواية أبي قلابة عن أنس "اجتووا المدينة". قوله: "أن يلحقوا براعيه يعني الإبل" كذا في الأصل. وفي رواية مسلم من هذا الوجه "أن يلحقوا براعي الإبل". قوله: "حتى صلحت" في رواية الكشميهني: "صحت". قوله: "قال قتادة" هو موصول بالإسناد المذكور، وقوله: "فحدثني محمد بن سيرين الخ" يعكر عليه ما أخرجه مسلم من طريق سليمان التيمي عن أنس قال: "إنما سملهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم سملوا أعين الرعاة" وسيأتي بيان ذلك واضحا في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.

(10/143)


7 - باب الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ
5687- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَادَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ فَقَالَ لَنَا عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ فَخُذُوا مِنْهَا خَمْساً أَوْ سَبْعاً فَاسْحَقُوهَا ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي هَذَا الْجَانِبِ وَفِي هَذَا الْجَانِبِ فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ مِنْ السَّامِ قُلْتُ وَمَا السَّامُ قَالَ الْمَوْتُ" .
5688- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ" . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: "وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ".
قوله: "باب الحبة السوداء" سيأتي بيان المراد بها في آخر الباب. قوله: "حدثني عبد الله بن أبي شيبة" كذا سماه ونسبه لجده وهو أبو بكر، مشهور بكنيته أكثر من اسمه وأبو شيبة جده، وهو ابن محمد بن إبراهيم، وكان إبراهيم أبو شيبة قاضي واسط. قوله: "حدثنا عبيد الله" بالتصغير كذا للجميع غير منسوب، وكذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد الله غير منسوب، وجزم أبو نعيم في "المستخرج" بأنه عبيد الله بن موسى، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر الأعين والخطيب في كتاب "رواية الآباء عن الأبناء" من طريق أبي مسعود الرازي، وهو عندنا بعلو من طريقه، وأخرجه أيضا أحمد بن حازم عن أبي غرزة - بفتح المعجمة والراء والزاي - في مسنده، ومن طريقه الخطيب أيضا كلهم عن عبيد الله بن موسى، وهو الكوفي المشهور، ورجال الإسناد كلهم كوفيون، وعبيد الله بن موسى من كبار شيوخ البخاري، وربما حدث عنه بواسطة كالذي هنا. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر. قوله: "عن خالد بن سعد" هو مولى أبي مسعود البدري الأنصاري، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أخرجه المنجنيقي في كتاب رواية الأكابر عن الأصاغر

(10/143)


عن عبيد الله بن موسى بهذا الإسناد فأدخل بين منصور وخالد بن سعد مجاهدا، وتعقبه الخطيب بعد أن أخرجه من طريق المنجنيقي بأن ذكر مجاهد فيه وهم. ووقع في رواية المنجنيقي أيضا: "خالد بن سعيد" بزيادة ياء في اسم أبيه، وهو وهم نبه عليه الخطيب أيضا. قوله: "ومعنا غالب بن أبجر" بموحدة وجيم وزن أحمد، يقال إنه الصحابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية. وحديثه عند أبي داود. قوله: "فعاده ابن أبي عتيق" في رواية أبي بكر الأعين "فعاده أبو بكر بن أبي عتيق" وكذا قال سائر أصحاب عبد الله بن موسى إلا المنجنيقي فقال في روايته: "عن خالد بن سعد عن غالب بن أبجر عن أبي بكر الصديق عن عائشة" واختصر القصة، وبسياقها يتبين الصواب، قال الخطيب: وقوله في السند "عن غالب بن أبحر" وهم فليس لغالب فيه رواية، وإنما سمعه خالد مع غالب من أبي بكر بن أبي عتيق، قال وأبو بكر بن أبي عتيق هذا هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأبو عتيق كنية أبيه محمد بن عبد الرحمن، وهو معدود في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه وجده وجد أبيه صحابة مشهورون. قوله: "عليكم بهذه الحبيبة السويداء" كذا هنا بالتصغير فيهما إلا الكشميهني فقال: "السوداء" وهي رواية الأكثر ممن قدمت ذكره أنه أخرج الحديث. قوله: "فإن عائشة حدثتني أن هذه الحبة السوداء شفاء" وللكشميهني: "أن في هذه الحبة شفاء" كذا للأكثر. وفي رواية الأعين "هذه الحبة السوداء التي تكون في الملح" وكان هذا قد أشكل علي، ثم ظهر لي أنه يريد الكمون وكانت عادتهم جرت أن يخلط بالملح. قوله: "إلا من السام" بالمهملة بغير همز، ولابن ماجه: "إلا أن يكون الموت"، وفي هذا أن الموت داء من جملة الأدواء، قال الشاعر: "وداء الموت ليس له دواء" وقد تقدم توجيه إطلاق الداء على الموت في الباب الأول. قوله: "قلت وما السام؟ قال: الموت" لم أعرف اسم السائل ولا القائل، وأظن السائل خالد بن سعد والمجيب ابن أبي عتيق. وهذا الذي أشار إليه ابن أبي عتيق ذكره الأطباء في علاج الزكام العارض منه عطاس كثير وقالوا: تقلى الحبة السوداء ثم تدق ناعما ثم تنقع في زيت ثم يقطر منه في الأنف ثلاث قطرات، فلعل غالب بن أبجر كان مزكوما فلذلك وصف له ابن أبي عتيق الصفة المذكورة، وظاهر سياقه أنها موقوفة عليه، ويحتمل أن تكون عنده مرفوعة أيضا، فقد وقع في رواية الأعين عند الإسماعيلي بعد قوله من كل داء "وأقطروا عليها شيئا من الزيت" وفي رواية له أخرى "وربما قال وأقطروا الخ" وادعى الإسماعيلي أن هذه الزيادة مدرجة في الخبر، وقد أوضحت ذلك رواية ابن أبي شيبة؛ ثم وجدتها مرفوعة من حديث بريدة فأخرج المستغفري في "كتاب الطب" من طريق حسام بن مصك عن عبيد الله بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الحبة السوداء فيها شفاء" الحديث، قال وفي لفظ: "قيل: وما الحبة السوداء؟ قال: الشونيز قال: وكيف أصنع بها؟ قال: تأخذ إحدى وعشرين حبة فتصرها في خرقة ثم تضعها في ماء ليلة، فإذا أصبحت قطرت في المنخر الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين، فإذا كان من الغد قطرت في المنخر الأيمن اثنتين وفي الأيسر واحدة، فإذا كان اليوم الثالث قطرت في الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين" ويؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفا بل ربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلا وشربا وسعوطا وضمادا وغير ذلك. وقيل أن قوله: "كل داء" تقديره يقبل العلاج بها، فإنها تنفع من الأمراض الباردة، وأما الحارة فلا. نعم قد تدخل في بعض الأمراض الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوى الأدوية الرطبة الباردة إليها بسرعة تنفيذها، ويستعمل

(10/144)


الحار في بعض الأمراض الحارة لخاصية فيه لا يستنكر كالعنزروت فإنه حار ويستعمل في أدوية الرمد المركبة، مع أن الرمد ورم حار باتفاق الأطباء، وقد قال أهل العلم بالطب: إن طبع الحبة السوداء حار يابس، وهي مذهبة للنفخ، نافعة من حمى الربع والبلغم، مفتحة للسدد والريح، مجففة لبلة المعدة، وإذا دقت وعجنت بالعسل وشربت بالماء الحار أذابت الحصاة وأدرت البول والطمث، وفيها جلاء وتقطيع، وإذا دقت وربطت بخرقة من كتان وأديم شمها نفع من الزكام البارد، وإذا نقع منها سبع حبات في لبن امرأة وسعط به صاحب اليرقان أفاده، وإذا شرب منها وزن مثقال بماء أفاد من ضيق النفس، والضماد بها ينفع من الصداع البارد، وإذا طبخت بخل وتمضمض بها نفعت من وجع الأسنان الكائن عن برد، وقد ذكر ابن البيطار وغيره ممن صنف في المفردات في منافعها هذا الذي ذكرته وأكثر منه. وقال الخطابي: قوله: "من كل داء" هو من العام الذي يراد به الخاص، لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة. وقال أبو بكر بن العربي: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل "فيه شفاء للناس" الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى. وقال غيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بارد، فيكون معني قوله: "شفاء من كل داء" أي من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع والله أعلم. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه وردوه إلى قول أهل الطب والتجربة، ولا خفاء بغلط قائل ذلك، لأنا إذا صدقنا أهل الطب - ومدار علمهم غالبا إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالب - فتصديق من لا ينطق عن الهوى أولى بالقبول من كلامهم. انتهى. وقد تقدم توجيه حمله على عمومه بأن يكون المراد بذلك ما هو أعم من الإفراد والتركيب، ولا محذور في ذلك ولا خروج عن ظاهر الحديث، والله أعلم. قوله: "أخبرني أبو سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "وسعيد هو ابن المسيب" كذا في رواية عقيل، وأخرجه مسلم من وجهين اقتصر في كل منهما على واحد منهما، وأخرجه مسلم أيضا من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "ما من داء إلا وفي الحبة السوداء منه شفاء إلا السام". قوله: "والحبة السوداء الشونيز" كذا عطفه على تفسير ابن شهاب للسام، فاقتضى ذلك أن تفسير الحبة السوداء أيضا له. والشونيز بضم المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون التحتانية بعدها زاي. وقال القرطبي: قيد بعض مشايخنا الشين بالفتح وحكى عياض عن ابن الأعرابي أنه كسرها فأبدل الواو ياء فقال الشينيز، وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهوة الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر بالعكس، والحبة السوداء أشهر عند أهل هذا العصر من الشونيز بكثير، وتفسيرها بالشونيز هو الأكثر الأشهر وهي الكمون الأسود ويقال له أيضا الكمون الهندي. ونقل إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" عن الحسن البصري أنها الخردل، وحكى أبو عبيد الهروي في "الغريبين" أنها ثمرة البطم بضم الموحدة وسكون المهملة، واسم شجرتها الضرو بكسر المعجمة وسكون الراء. وقال الجوهري: هو صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن، ورائحتها طيبة، وتستعمل في البخور. قلت: وليست المراد هنا جزما. وقال القرطبي: تفسيرها بالشونيز أولى من وجهين: أحدهما أنه قول الأكثر، والثاني كثرة منافعها بخلاف الخردل والبطم.

(10/145)


8 - باب التَّلْبِينَةِ لِلْمَرِيضِ
5689- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ" .
5690- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ هُوَ الْبَغِيضُ النَّافِعُ".
قوله: "باب التلبينة للمريض" هي بفتح المثناة وسكون اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ثم نون ثم هاء، وقد يقال بلا هاء، قال الأصمعي: هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل قال غيره: أو لبن. سميت تلبينة تشبيها لها باللبن في بياضها ورقتها. وقال ابن قتيبة: وعلى قول من قال يخلط فيها لبن سميت بذلك لمخالطة اللبن لها. وقال أبو نعيم في الطب: هي دقيق بحت. وقال قوم: فيه شحم. وقال الداودي: يؤخذ العجين غير خمير فيخرج ماؤه فيجعل حسوا فيكون لا يخالطه شيء، فلذلك كثر نفعه. وقال الموفق البغدادي: التلبينة الحساء ويكون في قوام اللبن، وهو الدقيق النضيج لا الغليظ النيئ. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "حدثنا يونس بن يزيد عن عقيل" هو من رواية الأقران. وذكر النسائي فيما رواه أبو على الأسيوطي عنه أن عقيلا تفرد به عن الزهري. ووقع في الترمذي عقب حديث محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة في التلبينة، وقد رواه الزهري عن عروة عن عائشة "حدثنا بذلك الحسين بن محمد حدثنا أبو إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري" قال المزي: كذا في النسخ ليس فيه عقيل. قلت: وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية نعيم بن حماد ومن رواية عبد الله بن سنان كلاهما عن ابن المبارك ليس فيه عقيل، وأخرجه أيضا من رواية علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك بإثباته، وهذا هو المحفوظ، وكأن من لم يذكر فيه عقيلا جرى على الجادة لأن يونس مكثر عن الزهري، وقد رواه عن عقيل أيضا الليث بن سعد وتقدم حديثه في كتاب الأطعمة. قوله: "أنها كانت تأمر بالتلبين" في رواية الإسماعيلي: "بالتلبينة" بزيادة الهاء. قوله: "للمريض وللمحزون" أي بصنعه لكل منهما، وتقدم في رواية الليث عن عقيل "إن عائشة كانت إذا مات الميت من أهلها ثم اجتمع لذلك النساء ثم تفرقن أمرت ببرمة تلبينة فطبخت ثم قالت: كلوا منها". قوله: "عليكم بالتلبينة" أي كلوها. قوله: "فإنها تجم" بفتح المثناة وضم الجيم وبضم أوله وكسر ثانيه وهما بمعنى، ووقع في رواية الليث "فإنها مجمة" بفتح الميم والجيم وتشديد الميم الثانية هذا هو المشهور، وروي بضم أوله وكسر ثانيه وهما بمعنى، يقال جم وأجم، والمعني أنها تريح فؤاده وتزيل عنه الهم وتنشطه، والجام بالتشديد المستريح، والمصدر الجمام والإجمام، ويقال جم الفرس وأجم إذا أريح فلم يركب فيكون أدعى لنشاطه. وحكى ابن بطال أنه روي تخم بخاء معجمة قال: والمخمة المكنسة. "حدثنا فروة" بفتح الفاء "ابن أبي المغراء" بفتح الميم وسكون المعجمة وبالمد هو الكندي الكوفي، واسم أبي المغراء معد يكرب وكنية فروة أبو القاسم، من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري ولم يكثر عنه. قوله: "أنها

(10/146)


كانت تأمرنا بالتلبينة وتقول: هو البغيض النافع" كذا فيه موقوفا، وقد حذف الإسماعيلي هذه الطريق وضاقت على أبي نعيم فأخرجها من طريق البخاري هذه عن فروة، ووقع عند أحمد وابن ماجه من طريق كلثم عن عائشة مرفوعا: "عليكم بالبغيض النافع التلبينة يعني الحساء " وأخرجه النسائي من وجه آخر عن عائشة وزاد: " والذي نفس محمد بيده إنها لتغسل بطن أحدكم كما يغسل أحدكم الوسخ عن وجهه بالماء" وله وهو عند أحمد والترمذي من طريق محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع، ثم أمرهم فحسوا منه ثم قال: إنه يرتو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم، كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها بالماء" . ويرتو بفتح أوله وسكون الراء وضم المثناة ويسرو وزنه بسين مهملة ثم راء، ومعني يرتو يقوي ومعنى يسرو يكشف، والبغيض بوزن عظيم من البغض أي يبغضه المريض مع كونه ينفعه كسائر الأدوية. وحكى عياض أنه وقع في رواية أبي زيد المروزي بالنون بدل الموحدة، قال: ولا معني له هنا. قال الموفق البغدادي: إذا شئت معرفة منافع التلبينة فاعرف منافع ماء الشعير ولا سيما إذا كان نخالة، فإنه يجلو وينفذ بسرعة ويغذي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا وأنمى للحرارة الغريزية. قال: والمراد بالفؤاد في الحديث رأس المعدة فإن فؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء، والحساء يرطبها ويغذيها ويقويها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة. قال: وسماه البغيض النافع لأن المريض يعافه وهو نافع له، قال: ولا شيء أنفع من الحساء لمن يغلب عليه في غذائه الشعير، وأما من يغلب على غذائه الحنطة فالأولى به في مرضه حساء الشعير. وقال صاحب "الهدى": التلبينة أنفع من الحساء لأنها تطبخ مطحونة فتخرج خاصة الشعير بالطحن، وهي أكثر تغذية وأقوى فعلا وأكثر جلاء، وإنما اختار الأطباء النضيج لأنه أرق وألطف فلا يثقل على طبيعة المريض. وينبغي أن يختلف الانتفاع بذلك بحسب اختلاف العادة في البلاد، ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحا، وبالحزين إذا طبخ مطحونا، لما تقدمت الإشارة من الفرق بينهما في الخاصية والله أعلم.

(10/147)


9 - باب السَّعُوطِ
5691- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَاسْتَعَطَ".
قوله: "باب السعوط" بمهملتين: ما يجعل في الأنف مما يتداوى به. قوله: "واستعط" أي استعمل السعوط وهو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب، ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس، وسيأتي ذكر ما يستعط به في الباب الذي يليه. وأخرج الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس رفعه: "أن خير ما تداويتم به السعوط".

(10/147)


10 - باب السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيِّ وَالْبَحْرِيِّ
وَهُوَ الْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ مِثْلُ كُشِطَتْ وَقُشِطَتْ نُزِعَتْ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ قُشِطَتْ
5692- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ يُسْتَعَطُ بِهِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ".
[الحديث 5692 – أطرافه في: 5713، 5715، 5718]
5693- "وَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّ عَلَيْهِ".
قوله: "باب السعوط بالقسط الهندي والبحري" قال أبو بكر بن العربي القسط نوعان: هندي وهو أسود، وبحري وهو أبيض، والهندي أشدهما حرارة. قوله: "وهو الكست" يعني أنه يقال بالقاف وبالكاف، ويقال بالطاء وبالمثناة، وذلك لقرب كل من المخرجين بالآخر، وعلى هذا أيضا مع القاف بالمثناة ومع الكاف بالطاء، وقد تقدم في حديث أم عطية عند الطهر من الحيض "نبذة من الكست" وفي رواية عنها "من قسط" ومضى للمصنف في ذلك كلام في "باب القسط للحادة". قوله: "مثل الكافور والقافور" تقدم هذا في "باب القسط للحادة". قوله: "ومثل كشطت وقشطت، وقرأ عبد الله قشطت" زاد النسفي "أي نزعت" يريد أن عبد الله بن مسعود قرأ: {وَإِذَا السَّمَاءُ قُشِطَتْ} بالقاف ولم تشتهر هذه القراءة، وقد وجدت سلف البخاري في هذا: فقرأت في كتاب "معاني القرآن، للفراء" في قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} قال يعني نزعت، وفي قراءة عبد الله قشطت بالقاف والمعنى واحد، والعرب تقول: الكافور والقافور والقشط والكشط وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في المخرج هكذا رأيته في نسخة جيدة منه "الكشط" بالكاف والطاء والله أعلم. قوله: "عن عبيد الله" سيأتي بلفظ: "أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة". قوله: "عن أم قيس بنت محصن" وقع عند مسلم التصريح بسماعه له منها، وسيأتي أيضا قريبا. قوله: "عليكم بهذا العود الهندي " كذا وقع هنا مختصرا، ويأتي بعد أبواب في أوله قصة "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي وقد أعلقت عليه من العذرة فقال: عليكن بهذا العود الهندي". وأخرج أحمد وأصحاب السنن من حديث جابر مرفوعا: "أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فتحكه بماء ثم تسعطه إياه" وفي حديث أنس الآتي بعد بابين "إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري" وهو محمول على أنه وصف لكل ما يلائمه، فحيث وصف الهندي كان لاحتياج في المعالجة إلى دواء شديد الحرارة، وحيث وصف البحري كان دون ذلك في الحرارة، لأن الهندي كما تقدم أشد حرارة من البحري. وقال ابن سينا: القسط حار في الثالثة يابس في الثانية. قوله: "فإن فيه سبعة أشفية" جمع شفاء كدواء وأدوية. قوله: "يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب" كذا وقع الاقتصار في الحديث من السبعة على اثنين، فأما أن يكون ذكر السبعة فاختصره الراوي أو اقتصر على الاثنين لوجودهما حينئذ دون غيرهما، وسيأتي ما يقوي الاحتمال الثاني. وقد ذكر الأطباء من منافع القسط أنه يدر الطمث والبول ويقتل ديدان الأمعاء ويدفع السم وحمى الربع والورد ويسخن المعدة ويحرك شهوة الجماع ويذهب الكلف طلاء، فذكروا أكثر من سبعة، وأجاب بعض الشراح بأن السبعة علمت بالوحي وما زاد عليها

(10/148)


بالتجربة، فاقتصر على ما هو بالوحي لتحققه وقيل ذكر ما يحتاج إليه دون غيره لأنه لم يبعث بتفاصيل ذلك قلت: ويحتمل أن تكون السبعة أصول صفة التداوي بها؛ لأنها إما طلاء أو شرب أو تكميد أو تنطيل أو تبخير أو سعوط أو لدود؛ فالطلاء يدخل في المراهم ويحلى بالزيت ويلطخ، وكذا التكميد، والشرب يسحق ويجعل في عسل أو ماء أو غيرهما، وكذا التنطيل، والسعوط يسحق في زيت ويقطر في الأنف، وكذا الدهن، والتبخير واضح، وتحت كل واحدة من السبعة منافع لأدواء مختلفة ولا يستغرب ذلك ممن أوتي جوامع الكلم. وأما العذرة فهي بضم المهملة وسكون المعجمة وجع في الحلق يعتري الصبيان غالبا، وقيل هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق أو في الخرم الذي بين الأنف والحلق، قيل سميت بذلك لأنها تخرج غالبا عند طلوع العذرة؛ وهي خمسة كواكب تحت الشعري العبور، ويقال لها أيضا العذاري، وطلوعها يقع وسط الحر. وقد استشكل معالجتها بالقسط مع كونه حارا والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان وأمزجتهم حارة ولا سيما وقطر الحجاز حار، وأجيب بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تخفيف للرطوبة. وقد يكون نفعه في هذا الدواء بالخاصية، وأيضا فالأدوية الحارة قد تنفع في الأمراض الحارة بالعرض كثيرا، بل وبالذات أيضا. وقد ذكر ابن سينا في معالجة سعوط اللهاة القسط مع الشب اليماني وغيره. على أننا لو لم نجد شيئا من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجا عن القواعد الطبية. وسيأتي بيان ذات الجنب في "باب اللدود" وفيه شرح بقية حديث أم قيس هذا. وقولها "ودخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي" تقدم مطولا في الطهارة، وهو حديث آخر لأم قيس وقع ذكره هنا استطرادا، والله أعلم.

(10/149)


11 - باب أَيَّ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ؟ وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلاً
5694- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ".
قوله: "باب أية ساعة يحتجم" في رواية الكشميهني: "أي ساعة" بلا هاء، والمراد بالساعة في الترجمة مطلق الزمان لا خصوص الساعة المتعارفة. قوله: "واحتجم أبو موسى ليلا" تقدم موصولا في كتاب الصيام، وفيه أن امتناعه من الحجامة نهارا كان بسبب الصيام لئلا يدخله خلل، وإلى ذلك ذهب مالك فكره الحجامة للصائم لئلا يغرر بصومه، لا لكون الحجامة تفطر الصائم. وقد تقدم البحث في حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" هناك وورد في الأوقات اللائقة بالحجامة أحاديث ليس فيها شيء على شرطه، فكأنه أشار إلى أنها تصنع عند الاحتياج ولا تتقيد بوقت دون وقت، لأنه ذكر الاحتجام ليلا. ذكر حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" وهو يقتضي كون ذلك وقع منه نهارا، وعند الأطباء أن أنفع الحجامة ما يقع في الساعة الثانية أو الثالثة، وأن لا يقع عقب استفراغ عن جماع أو حمام أو غيرهما ولا عقب شبع ولا جوع. وقد ورد في تعيين الأيام للحجامة حديث لابن عمر عند ابن ماجه رفعه في أثناء حديث وفيه: "فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء؛ واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد" أخرجه من طريقين ضعيفين، وله طريق ثالثة ضعيفة أيضا عند الدار قطني في "الأفراد" وأخرجه بسند جيد عن ابن عمر موقوفا، ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الأيام المذكورة وأن الحديث لم يثبت، وحكى أن رجلا احتجم يوم الأربعاء فأصابه برص

(10/149)


لكونه تهاون بالحديث. وأخرج أبو داود من حديث أبي بكرة أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ فيها" . وورد في عدد من الشهر أحاديث: منها ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رفعه: "من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء" وهو من رواية سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن سهيل بن أبي صالح، وسعيد وثقه الأكثر ولينه بعضهم من قبل حفظه. وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي ورجاله ثقات، لكنه معلول. وشاهد آخر من حديث أنس عند ابن ماجه، وسنده ضعيف. وهو عند الترمذي من وجه آخر عن أنس لكن من فعله صلى الله عليه وسلم، ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء قال حنبل بن إسحاق: كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت. وقد اتفق الأطباء على أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر ثم في الربع الثالث من أرباعه أنفع من الحجامة في أوله وآخره، قال الموفق البغدادي: وذلك أن الأخلاط في أول الشهر تهيج وفي آخره تسكن، فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه. والله أعلم.

(10/150)


12 - باب الْحَجْمِ فِي السَّفَرِ وَالإِحْرَامِ، قَالَهُ ابْنُ بُحَيْنَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5695- حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس وعطاء عن بن عباس قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم".
قوله: "باب الحجم في السفر والإحرام، قاله ابن بحينة عن النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى ما أورده في الباب الذي يليه موصولا عن عبيد الله بن بحينة "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في طريق مكة" وقد تبين في حديث ابن عباس أنه كان حينئذ محرما، فانتزعت الترجمة من الحديثين معا، على أن حديث ابن عباس وحده كاف في ذلك، لأن من لازم كونه صلى الله عليه وسلم كان محرما أن يكون مسافرا، لأنه لم يحرم قط وهو مقيم. وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بحجامة المحرم في كتاب الحج، وأما الحجامة للمسافر فعلى ما تقدم أنها تفعل عند الاحتياج إليها من هيجان الدم ونحو ذلك فلا يختص ذلك بحالة دون حالة، والله أعلم.

(10/150)


13 - باب الْحِجَامَةِ مِنْ الدَّاءِ
5696- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ وَقَالَ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ وَقَالَ لاَ تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ" .
5697- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَغَيْرُهُ أَنَّ بُكَيْراً حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَادَ الْمُقَنَّعَ ثُمَّ قَالَ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ فِيهِ شِفَاءً" .

(10/150)


14 - باب الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ
5698- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ يُحَدِّثُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ".
5699- وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ".
قوله: "باب الحجامة على الرأس" ورد في فضل الحجامة في الرأس حديث ضعيف أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رفعه: "الحجامة في الرأس تنفع من سبع: من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين". وعمر متروك رماه الفلاس وغيره بالكذب، ولكن قال الأطباء: إن الحجامة في وسط الرأس نافعة جدا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها كما في أول حديثي الباب وآخرهما وإن كان مطلقا فهو مقيد بأولهما، وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضا في الأخدعين والكاهل أخرجه الترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم. قال أهل العلم بالطب: فصد الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك، وفصد الأكحل ينفع الامتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويا ولا سيما إن كان فسد، وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا كثر الدم أو فسد، وفصد الودجين لوجع الطحال والربو ووجه الجنبين، والحجامة على الكاهل تنفع من وجه المنكب والحلق وتنوب عن فصد الباسليق، والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف والحلق وتنوب عن فصد القيفال، والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم وتنقي الرأس، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق عند الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين، والحجامة على أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الطهر، ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج وصادفه وقت الاحتياج إليه، والحجامة على المقعدة تنقع الأمعاء وفساد الحيض. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وسليمان هو ابن بلال، وعلقمة هو ابن أبي علقمة، والسند كله مدنيون، وقد تقدم بيان حاله في أبواب المحصر في الحج. قوله: "احتجم بلحمه جمل" كذا وقع بالتثنية وتقدم بلفظ الإفراد واللام مفتوحة ويجوز كسرها، وجمل بفتح الجيم والميم، قال ابن وضاح: هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا، وزعم بعضهم أنه الآلة التي احتجم بها أي احتجم بعظم جمل، والأول المعتمد، وسأذكر في حديث ابن عباس التصريح بقصة ذلك. قوله: "في وسط رأسه" بفتح السين المهملة ويجوز تسكينها، وتقدم بيانه

(10/152)


في كتاب الحج وقول من فرق بينهما. قوله: "وقال الأنصاري" وصله الإسماعيلي قال: "حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا عبيد الله بن فضالة حدثنا محمد بن عبد الأنصاري" فذكره بلفظ: "احتجم احتجامة في رأسه" ووصله البيهقي من طريق أبي حاتم الرازي حدثنا الأنصاري بلفظ: "احتجم وهو محرم من صداع كان به أو داء، واحتجم فيما يقال له لحي جمل" وهكذا أخرجه أحمد عن الأنصاري، وسيأتي في الباب الذي بعده في حديث ابن عباس بلفظ: "بما يقال له لحي جمل".

(10/153)


15 - باب الْحِجَامَةِ مِنْ الشَّقِيقَةِ وَالصُّدَاعِ
5700- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لُحْيُ جَمَلٍ".
5701- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ".
5702- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ" .
قوله: "باب الحجامة من الشقيقة والصداع" أي بسببهما، وقد سقطت هذه الترجمة من رواية النسفي، وأورد ما فيها في الذي قبله، وهو متجه. والشقيقة بشين معجمة وقافين وزن عظيمة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وذكر أهل الطب أنه من الأمراض المزمنة، وسببه أبخرة مرتفعة أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا أحدث الصداع، فإن مال إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك قمة الرأس أحدث داء البيضة. وذكر الصداع بعده من العام بعد الخاص. وأسباب الصداع كثيرة جدا: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقيء والاستفراغ أو السهر أو كثرة الكلام، ومنها ما يحدث عن الأغراض النفسانية كالهم والغم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه، أو ورم في صفاق الدماغ، أو حمل شيء ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بلبس شيء خارج عن الاعتدال، أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد. وأما الشقيقة بخصوصها فهي في شرايين الرأس وحدها، وتختص بالموضع الأضعف من الرأس؛ وعلاجها بشد العصابة وقد أخرج أحمد من حديث بريدة "أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة؛ فيمكث اليوم واليومين لا يخرج" الحديث. وتقدم في الوفاة النبوية حديث ابن عباس "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه". "عن هشام" هو ابن حسان، وقوله: "من وجع" كان قد بينه في الرواية التي بعد. قوله: "وقال محمد بن سواء" بمهملة ومد هو السدوسي، واسم جده عنبر بمهملة ونون وموحدة؛ بصري يكني أبا الخطاب، ما له في البخاري

(10/153)


سوى حديث موصول مضى في المناقب؛ وآخر يأتي في الأدب وهذا المعلق، وقد وصله الإسماعيلي قال: "حدثنا أبو يعلي حدثنا محمد بن عبد الله الأزدي حدثنا محمد بن سواء" فذكره سواء. وقد اتفقت هذه الطرق عن ابن عباس أنه احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه، ووافقها حديث ابن بحينة، وخالف ذلك حديث أنس: فأخرج أبو داود والترمذي في "الشمائل" والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق معمر عن قتادة عنه قال، احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا أن أبا داود حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة فأرسله، وسعيد أحفظ من معمر، وليست هذه بعلة قادحة، والجمع بين حديثي ابن عباس وأنس واضح بالحمل على التعدد؛ أشار إلى ذلك الطبري. وفي الحديث أيضا جواز الحجامة للمحرم وأن إخراجه الدم لا يقدح في إحرامه، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج، وحاصله أن المحرم إن احتجم وسط رأسه لعذر جاز مطلقا، فإن قطع الشعر وجبت عليه الفدية، فإن احتجم لغير عذر وقطع حرم؛ والله أعلم. قوله: "حدثنا إسماعيل بن أبان" هو الوراق الأزدي الكوفي أبو إسحاق - أو أبو إبراهيم - من كبار شيوخ البخاري. وهو صدوق، تكلم فيه الجوزجاني لأجل التشيع، قال ابن عدي: وهو مع ذلك صدوق. وفي عصره إسماعيل بن أبان آخر يقال له الغنوي، قال ابن معين: الغنوي كذاب والوراق ثقة. وقال ابن المديني: الوراق لا بأس به والغنوي كتبت عنه وتركته، وضعفه جدا. وكذا فرق بينهما أحمد وعثمان بن أبي شيبة وجماعة، وغفل من خلطهما. وكانت وفاة الغنوي قبل الوراق بست سنين، والله أعلم. قوله: "حدثنا ابن الغسيل" هو عبد الرحمن بن سليمان، تقدم شرح حاله قريبا.

(10/154)


16 - باب الْحَلْقِ مِنْ الأَذَى
5703- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِداً عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبٍ هُوَ ابْنُ عُجْرَةَ قَالَ: "أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَنْ رَأْسِي فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةً أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً" قَالَ أَيُّوبُ: لاَ أَدْرِي بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأَ.
قوله: "باب الحلق من الأذى" أي حلق شعر الرأس وغيره. ذكر فيه حديث كعب بن عجرة في حلق رأسه وهو محرم بسبب كثرة القمل، مضى شرحه مستوفى في كتاب الحج، وكأنه أورده عقب حديث الحجامة وسط الرأس للإشارة إلى أن جواز حلق الشعر للمحرم لأجل الحجامة عند الحاجة إليها يستنبط من جواز حلق جميع الرأس للمحرم عند الحاجة.

(10/154)


17 - باب مَنْ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ
5704- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ

(10/154)


18 - باب الإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنْ الرَّمَدِ. فِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ
5706- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا فَقَالَ لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا فِي شَرِّ أَحْلاَسِهَا أَوْ فِي أَحْلاَسِهَا فِي شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً فَهَلاَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ".
قوله: "باب الإثمد والكحل من الرمد" أي بسب الرمد، والرمد بفتح الراء والميم: ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر، وسببه انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون، أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة، وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم يجد أحدث الصداع كما تقدم. قوله: "فيه عن أم عطية" يشير إلى حديث أم عطية مرفوعا: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد فوق ثلاث إلا على زوج" فإنها لا تكتحل، وقد تقدم في أبواب العدة، لكن لم أر في شيء من طرقه ذكر الإثمد، فكأنه ذكره لكون العرب غالبا إنما تكتحل به، وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس رفعه: "اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" أخرجه الترمذي وحسنه واللفظ له، وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس في "الشمائل" وفي الباب عن جابر عند الترمذي في "الشمائل" وابن ماجه وابن عدي من ثلاث طرق عن ابن المنكدر عنه بلفظ: "عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني ولفظه: "عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر" وسنده حسن، وعن ابن عمر بنحوه عند الترمذي في "الشمائل" وعن أنس في "غريب مالك" للدار قطني بلفظ: "كان يأمرنا بالإثمد" وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ: "اكتحلوا بالإثمد فإنه" الحديث، وهو عند أبي داود من حديثه بلفظ: "إنه أمر بالإثمد المروح عند النوم" وعن أبي هريرة بلفظ: "خير أكحالكم الإثمد فإنه" الحديث أخرجه البزار وفي سنده مقال، وعن أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد" أخرجه البيهقي وفي سنده مقال، وعن عائشة "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثمد يكحل به عند منامه في كل عين ثلاثا" أخرجه أبو الشيخ في كتاب "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" بسند ضعيف، والإثمد بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة وحكي فيه

(10/157)


ضم الهمزة: حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى به من أصبهان، واختلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل؟ ذكره ابن سيده وأشار إليه الجوهري. وفي هذه الأحاديث استحباب الاكتحال بالإثمد ووقع الأمر بالاكتحال وترا من حديث أبي هريرة في "سنن أبي داود" ووقع في بعض الأحاديث التي أشرت إليها كبقية الاكتحال، وحاصله ثلاثا في كل عين، فيكون الوتر في كل واحدة على حدة، أو اثنتين في كل عين وواحدة بينهما، أو في اليمين ثلاثا وفي اليسرى ثنتين فيكون الوتر بالنسبة لهما جميعا وأرجحها الأول والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث أم سلمة من رواية زينب وهي بنتها عنها "أن امرأة توفي زوجها فاشتكت عينها، فذكروها للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له الكحل وأنه يخاف على عينها" الحديث، وقد مرت مباحثه في أبواب الإحداد. وأما قوله في آخره: "فلا، أربعة أشهر وعشرا" كذا للأكثر وعند الكشميهني: "فهلا أربعة أشهر وعشرا" وهي واضحة، وأما الاقتصار على حرف النهي فالمنفي مقدر كأنه قال: فلا تكتحل، ثم قال: تمكث أربعة أشهر وعشرا.

(10/158)


19 - باب الْجُذَامِ
5707- وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الأَسَدِ"
[الحديث 5707 – أطرافه في: 5717، 5757، 5770، 5773، 5775]
قوله: "باب الجذام" بضم الجيم وتخفيف المعجمة، هو علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتأكل. قال ابن سيده: سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها. قوله: "وقال عفان" هو ابن مسلم الصفار. وهو من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر، وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية، وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولا. وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيان شيخ عفان فيه، وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن مرزوق عن سليم لكن موقوفا ولم يستخرجه الإسماعيلي. وقد وصله ابن خزيمة أيضا. وسليم بفتح أوله وكسر ثانيه، وحيان بمهملة ثم تحتانية ثقيلة. قوله: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" كذا جمع الأربعة في هذه الرواية، ويأتي مثله سواء بعد عدة أبواب في "باب لا هامة" من طريق أبي صالح عن أبي هريرة، ويأتي بعد خمسة أبواب من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن بدون قوله: "ولا طيرة" وأعاده بعد أبواب كثيرة بزيادة قصة، وبعد عدة أبواب في "باب لا طيرة" من طريق عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة "لا طيرة" حسب، وفي "باب لا عدوى" من طريق سنان بن أبي سنان عن أبي هريرة بلفظ: "لا عدوى" حسب، ولمسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "لا عدوى ولا هامة ولا طيرة". وأخرج مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي سلمة وزاد: "ولا نوء" ويأتي في "باب لا عدوى" من حديث ابن عمر، ومن حديث أنس "لا عدوى ولا طيرة"، ولمسلم وابن حيان من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا بلفظ: "لا عدوى ولا صفر ولا غول" وأخرج

(10/158)


ابن حبان من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثل رواية سعيد بن ميناء وأبي صالح عن أبي هريرة وزاد فيه القصة التي في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو في ابن ماجه باختصار. فالحاصل من ذلك ستة أشياء: العدوى والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء، والأربعة الأول قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة فنذكر شرحها فيه وأما الغول فقال الجمهور: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين تتراءى للناس وتتغول لهم تغولا أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، وقد كثر في كلامهم "غالته الغول" أي أهلكته أو أضلته، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك. وقيل: ليس المراد إبطال وجود الغيلان، وإنما معناه إبطال ما كانت العرب تزعمه من تلون الغول بالصور المختلفة، قالوا: والمعنى لا يستطيع الغول أن يضل أحدا. ويؤيده حديث: "إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان" أي ادفعوا شرها بذكر الله. وفي حديث أبي أيوب عند قوله: "كانت لي سهوة فيها تمر، فكانت الغول تجيء فتأكل منه" الحديث. وأما النوء فقد تقدم القول فيه في كتاب الاستسقاء، وكانوا يقولون "مطرنا بنوء كذا" فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك بأن المطر إنما يقع بإذن الله لا بفعل الكواكب، وإن كانت العادة جرت بوقوع المطر في ذلك الوقت، لكن بإرادة الله تعالى وتقديره، لا صنع للكواكب في ذلك، والله أعلم. قوله: " وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" لم أقف عليه من حديث أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ومن وجه آخر عند أبي نعيم في الطب، لكنه معلول. وأخرج ابن خزيمة في "كتاب التوكل" له شاهدا من حديث عائشة ولفظه: " لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد" وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه قال: "كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك، فارجع" قال عياض: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم وقال: ثقة بالله وتوكلا عليه" قال فذهب عمر وجماعة من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ. وممن قال بذلك عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الذي عليه الأكثر ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز. اهـ. هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان: أحدهما سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك مثل حديث الباب فأعلوه بالشذوذ، وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها "أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى. وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي" وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث: "لا تديموا النظر إلى المجذومين" وقد أخرجه ابن ماجه وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد الله بن أبي أوفى رفعه: "كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين" أخرجه أبو نعيم في الطب بسند واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري "أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح" ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى. الفريق الثاني سلكوا في الترجيح عكس

(10/159)


هذا المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه إما لشكه فيه وإما لثبوت عكسه عنده كما سيأتي إيضاحه في "باب لا عدوى" قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طوقا فالمصير إليها أولى، قالوا: وأما حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه" ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبين الاختلاف فيه على راويه ورجح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قاله الكلاباذي في "معاني الأخبار". والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبي هريرة فصح عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر وغيرهم، فلا معنى لدعوى كونه معلولا، والله أعلم. وفي طريق الجمع مسالك أخرى: أحدها: نفي العدوى جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث: "لا تديموا النظر إلى المجذومين" فإنه محمول على هذا المعنى. ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء "لا عدوى" كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء "فر من المجذوم" كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببا لإثباتها. وقريب من هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكي مع إذنه فيه كما تقدم تقريره، وقد فعل هو صلى الله عليه وسلم كلا من الأمرين ليتأسى به كل من الطائفتين. ثالث المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، قال: فيكون معني قوله: "لا عدوى" أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلا، قال: فكأنه قال لا يعدي شيء شيئا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه العدوى. وقد حكى ذلك ابن بطال. رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة فقال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا على طريق العدوى بل على طريق التأثر بالرائحة لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يورد ممرض على مصح" لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به. قال: وأما قوله: "لا عدوى" فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله. المسلك الخامس: أن المراد ينفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا، وإن

(10/160)


شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة، إذا ليس الجذمي كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم بل(1) لا يحصل منه في العادة عدوى أصلا كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي. وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية، قال البيهقي بعد أن أورد قول الشافعي ما نصه: الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدي الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله. قال البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى" فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى. وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وقال: "لا يورد ممرض على مصح" وقال في الطاعون "من سمع به بأرض فلا يقدم عليه" وكل ذلك بتقدير الله تعالى. وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين ومن بعده وطائفة ممن قبله. المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة فقال أبو عبيد: ليس في قوله: "لا يورد ممرض على مصح" إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه. قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته. وأطنب ابن خزيمة في هذا في "كتاب التوكل" فإنه أورد حديث: "لا عدوى" عن عدة من الصحابة وحديث: "لا يورد ممرض على مصح" من حديث أبي هريرة وترجم للأول "التوكل على الله في نفي العدوى" وللثاني "ذكر خبر غلط في معناه بعض العلماء، وأثبت العدوى التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم" ثم ترجم "الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إثبات العدوى بهذا القول" فساق حديث أبي هريرة "لا عدوى، فقال أعرابي: فما بال الإبل يخالطها الأجرب فتجرب؟ قال: فمن أعدى الأول؟" ثم ذكر طرقه عن أبي هريرة، ثم أخرجه من حديث ابن مسعود، ثم ترجم "ذكر خبر روي في الأمر بالفرار من المجذوم قد يخطر لبعض الناس أن فيه إثبات العدوى وليس كذلك" وساق حديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة، وحديث عمرو بن الشريد عن أبيه في أمر المجذوم بالرجوع، وحديث ابن عباس "لا تديموا النظر إلى المجذومين" ثم قال: إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم كما نهاهم أن يورد الممرض على المصح شفقة عليهم، وخشية أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوى فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم فأمرهم بتجنب ذلك شفقة منه ورحمة ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبين لهم أنه لا يعدي شيء شيئا. قال: ويؤيد هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم ثقة بالله وتوكلا عليه، وساق حديث جابر في ذلك ثم قال: وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم فيحتمل أن يكون
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: لعله سقط من الناسخ بعد بل لفظ "البعض".

(10/161)


لأن المجذوم يغتم ويكره إدمان الصحيح نظره إليه، لأنه قل من يكون به داء إلا وهو يكره أن يطلع عليه. اهـ. وهذا الذي ذكره احتمالا سبقه إليه مالك، فإنه سئل عن هذا الحديث فقال: ما سمعت فيه بكراهية، وما أدري ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء. وقال الطبري: الصواب عندنا القول بما صح به الخبر، وأن لا عدوى، وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها. وأما دنو عليل من صحيح فغير موجب انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة دنوه من العليل فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم من العدوى. قال: وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضة لأكله معه، لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانا وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، إنما كان يفعل ما نهى عنه أحيانا لبيان أن ذلك ليس حراما. وقد سلك الطحاوي في "معاني الآثار" مسلك ابن خزيمة فيما ذكره فأورد حديث: "لا يورد ممرض على مصح" ثم قال: معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض فيقول الذي أورده لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يورده لأصابه لكون الله تعالى قدره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبا من وقوعها في قلب المرء ثم ساق الأحاديث في ذلك فأطنب، وجمع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة. ولذلك قال القرطبي في "المفهم": إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدوى، أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته لتأذت نفسه بذلك، فحينئذ فالأولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرق الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أنه لا ينحي حذر من قدر، والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير. وقد ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللا فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة، وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لما فعله. قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه صلى الله عليه وسلم في فعله ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة. فالحاصل أن الأمور التي يتوقع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها فلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار. قال: وفي الحديث أن الحكم للأكثر لأن الغالب من الناس هو الضعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك. واستدل بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء. وأجاب فيه من لم يقل بالفسخ بأنه لو أخذ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام ولا قائل به، ورد بأن الخلاف ثابت، بل هو الراجح عند الشافعية، وقد تقدم في النكاح الإلمام بشيء من هذا. واختلف في أمة الأجذم: هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟

(10/162)


واختلف العلماء في المجذومين إذا كثروا هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع ولا في شهود الجمعة.

(10/163)


20 - باب الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
5708- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ عَمْرُو بْنَ حُرَيْثٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ" .
قَالَ شُعْبَةُ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شُعْبَةُ: لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ
قوله: "باب المن شفاء للعين" كذا للأكثر. وفي رواية الأصيلي: "شفاء من العين" وعليها شرح ابن بطال، ويأتي توجيهها. وفي هذه الترجمة إشارة إلى ترجيح القول الصائر إلى أن المراد بالمن في حديث الباب الصنف المخصوص من المأكول، لا المصدر الذي بمعني الامتنان، وإنما أطلق على المن شفاء لأن الخبر ورد أن الكمأة منه وفيها شفاء فإذا ثبت الوصف للفرع كان ثبوته للأصل أولى. قوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير، وصرح به أحمد في روايته عن محمد بن جعفر غندر، وعمرو بن حريث هو المخزومي له صحبة. قوله: "سمعت سعيد بن زيد" أي ابن عمرو بن نفيل العدوي أحد العشرة، وعمر بن الخطاب بن نفيل ابن عم أبيه. كذا قال عبد الملك بن عمير ومن تابعه، وخالفهم عطاء بن السائب من رواية عبد الوارث عنه فقال: "عن عمرو بن حريث عن أبيه" أخرجه مسدد في مسنده وابن السكن في الصحابة والدار قطني في "الأفراد" وقال في "العلل"، الصواب رواية عبد الملك. وقال ابن السكن: أظن عبد الوارث أخطأ فيه. وقيل: كان سعيد بن زيد تزوج أم عمرو بن حريث فكأنه قال: "حدثني أبي" وأراد زوج أمه مجازا فظنه الراوي أباه حقيقة. قوله: "الكمأة" بفتح الكاف وسكون الميم بعدها همزة مفتوحة، قال الخطابي: وفي العامة من لا يهمزه، واحدة الكمء بفتح ثم سكون ثم همزة مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الأعرابي فقال: الكمأة الجمع والكمء على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى خبأة وخبء. وقيل: الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، قال الشاعر: "ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا" والعساقل بمهملتين وقاف ولام الشراب، وكأنه أشار إلى أن الأكمؤ محل وجدانها الفلوات. والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق، توجد في الأرض من غير أن تزرع. قيل: سميت بذلك لاستتارها، يقال كمأ الشهادة إذا كتمها. ومادة الكمأة من جوهر أرضي بخاري يحتقن نحو سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسدا، ولذلك كان بعض العرب يسميها جدري الأرض تشبيها لها بالجدري مادة وصورة، لأن مادته رطوبة دموية تندفع غاليا عند الترعرع وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة ظاهر. وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة "أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن" الحديث. وللطبري من طريق ابن المنكدر عن جابر قال: "كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هي جدري الأرض، فبلغه ذلك

(10/163)


فقال: إن الكمأة ليست من جدري الأرض، ألا إن الكمأة من المن" والعرب تسمي الكمأة أيضا بنات الرعد لأنها تكثر بكثرته ثم تنفطر عنها الأرض. وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة. وهي باردة رطبة في الثانية رديئة للمعدة بطيئة الهضم، وإدمان أكلها يورث القولنج والسكتة والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضررا من اليابس، وإذا دفنت في الطين الرطب ثم سلقت بالماء والملح والسعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة قل ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذلك كان ماؤها شفاء للعين. قوله: "من المن" قيل في المراد بالمن ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد أنها من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه الترنجبين فكأنه شبه به الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج. قلت: وقد تقدم بيان ذلك واضحا في تفسير سورة البقرة، وذكرت من زاد في متن هذا الحديث: "الكمأة من المن الذي أنزل على بني إسرائيل" . والثاني: أن المعنى أنها من المن الذي امتن الله به على عباده عفوا بغير علاج، قاله أبو عبيد وجماعة. وقال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقي، فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل فيقع على الشجر فيتناولونه. ثم أشار إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل كان أنواعا، منها ما يسقط على الشجر، ومنها ما يخرج من الأرض فتكون الكمأة منه، وهذا هو القول الثالث وبه جزم الموفق عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه فقالوا: إن المن الذي أنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط بل كان أنواعا من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا، ومن الطير التي تسقط عليهم بغير اصطياد، ومن الطل الذي يسقط على الشجر. والمن مصدر بمعني المفعول أي ممنون به، فلما لم يكن للعبد فيه شائبة كسب كان منا محضا، وإن كانت جميع نعم الله تعالى على عبيده منا منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن لكونه لا صنع فيه لأحد، فجعل سبحانه وتعالى قوتهم في التيه الكمأة وهي تقوم مقام الخبز، وأدمهم السلوى وهي تقوم مقام اللحم، وحلواهم الطل الذي ينزل على الشجر، فكمل بذلك عيشهم. ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من المن" فأشار إلى أنها فرد من أفراده، فالترنجبين كذلك فرد من أفراد المن، وإن غلب استعمال المن عليه عرفا. اهـ. ولا يعكر على هذا قولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} لأن المراد بالوحدة دوام الأشياء المذكورة من غير تبدل وذلك يصدق على ما إذا كان المطعوم أصنافا لكنها لا تتبدل أعيانها. قوله: "وماؤها شفاء للعين" كذا للأكثر وكذا عند مسلم. وفي رواية المستملي: "من العين" أي شفاء من داء العين، قال الخطابي: إنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر، والعكس بالعكس. قال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة، إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنه لا يستعمل صرفا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع به على رأيين: أحدهما: أنه يخلط في الأدوية التي يكتحل بها حكاه أبو عبيد، قال: ويصدق هذا الذي حكاه أبو عبيد أن بعض الأطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر، ثانيهما: أن تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر فيكتحل بمائها، لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها

(10/164)


وهي باردة يابسة فلا ينجع، وقد حكى إبراهيم الحربي عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكت أعينهما فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها فهاجت أعينهما ورمدا. قال ابن الجوزي: وحكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل به فذهبت عينه. والقول الثاني أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الأرض فتربى به الأكحال حكاه ابن الجوزي عن أبي بكر بن عبد الباقي أيضا، فتكون الإضافة إضافة الكل لا إضافة جزء. قال ابن القيم: وهذا أضعف الوجوه. قلت: وفيما ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفا نظر، فقد حكى عياض عن بعض أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلا، وهو إن كان لتبريد ما يكون بالعين من الحرارة فتستعمل مفردة، وإن كان لغير ذلك فتستعمل مركبة، وبهذا جزم ابن العربي فقال: الصحيح أنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جرب ذلك فوجد صحيحا. نعم جزم الخطابي بما قال ابن الجوزي فقال: تربى بها التوتياء وغيرها من الأكحال، قال: ولا تستعمل صرفا فإن ذلك يؤذي العين. وقال الغافقي في "المفردات": ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الإثمد واكتحل به، فإنه يقوي الجفن، ويزيد الروح الباصر حدة وقوة، ويدفع عنها النوازل. وقال النووي: الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين الكمال بن عبد الدمشقي صاحب صلاح ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به فنفعه الله به. قلت: الكمال المذكور هو كمال الدين بن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر يعرف بابن عبد بغير إضافة الحارثي الدمشقي من أصحاب أبي طاهر الخشوعي، سمع منه جماعة من شيوخ شيوخنا، عاش ثلاثا وثمانين سنة ومات سنة اثنتين وسبعين وستمائة قبل النووي بأربع سنين. وينبغي تقييد ذلك بمن عرف من نفسه قوة اعتقاد في صحة الحديث والعمل به كما يشير إليه آخر كلامه، وهو ينافي قوله أولا مطلقا، وقد أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح إلى قتادة قال: حدثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ أو خمسا أو سبعا فعصرتهن فجعلت ماءهن في قارورة فكحلت به جارية لي فبرئت. وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسبحي وابن سينا وغيرهما. والذي يزيل الإشكال عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها من المخلوقات خلقت في الأصل سليمة من المضار، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر بنبته، والعكس بالعكس، والله أعلم. قوله: "وقال شعبة" كذا لأبي ذر بواو في أوله وصورته صورة التعليق، وسقطت الواو لغيره، وهو أولى فإنه موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم عن محمد بن المثني شيخ البخاري فيه فأعاد الإسناد من أوله للطريق الثانية، وكذا أورده أحمد عن محمد بن جعفر بالإسنادين معا. قوله: "وأخبرني الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر والحسن العرني بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون هو ابن عبد الله البجلي، كوفي وثقه أبو زرعة والعجلي وابن سعد. وقال ابن معين صدوق. قلت: وما له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "قال شعبة لما حدثني به الحكم لم أنكره من حديث عبد الملك" كأنه أراد أن عبد الملك كبر وتغير حفظه، فلما حدث به شعبة توقف فيه،

(10/165)


فلما تابعه الحكم بروايته ثبت عند شعبة فلما ينكره، وانتفى عنه التوقف فيه. وقد تكلف الكرماني لتوجيه كلام شعبة أشياء فيها نظر. أحدها: أن الحكم مدلس وقد عنعن، وعبد الملك صرح بقوله: "سمعته" فلما تقوى برواية عبد الملك لم يبق به محل للإنكار. قلت: شعبة ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما يتحقق سماعهم فيه، وقد جزم بذلك الإسماعيلي وغيره ببعد هذا الاحتمال، وعلى تقدير تسليمه كان يلزم الأمر بالعكس بأن يقول لما حدثني عبد الملك لم أنكره من حديث الحكم.
ثانيها: لما يكن الحديث منكورا لي لأني كنت أحفظه. ثالثها: يحتمل العكس بأن يراد لم ينكر شيئا من حديث عبد الملك، وقد ساق مسلم هذه الطريق من أوجه أخرى عن الحكم. ووقع عنده في المتن "من المن الذي أنزل على بني إسرائيل" وفي لفظ: "على موسى" وقد أشرت إلى ما في هذه الزيادة من الفائدة في الكلام على هذا الحديث في تفسير سورة البقرة.

(10/166)


21 - باب اللَّدُودِ
5709، 5710، 5711- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَيِّتٌ".
5712- "قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لاَ تَلُدُّونِي فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قُلْنَا كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلاَّ لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ" .
5713- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ قَالَتْ: "دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ فَقَالَ: " عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ بِهَذَا الْعِلاَقِ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ" فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً قُلْتُ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ مَعْمَراً يَقُولُ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ قَالَ لَمْ يَحْفَظْ إِنَّمَا قَالَ أَعْلَقْتُ عَنْهُ حَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلاَمَ يُحَنَّكُ بِالإِصْبَعِ وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ إِنَّمَا يَعْنِي رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصْبَعِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَعْلِقُوا عَنْهُ شَيْئاً".
قوله: "باب اللدود" بفتح اللام وبمهملتين: هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض. واللدود بالضم الفعل. ولددت المريض فعلت ذلك به. وتقدم شرح الحديث مستوفى في "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" وبيان ما لدوه به، وبيان من عرف اسمه ممن كان في البيت ولد لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك فأغنى عن إعادته. وأما الحديث الثاني: فسيأتي شرحه في "باب العذرة" قريبا.

(10/166)


22 - باب
5714- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَآخَرَ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ قَالَ هُوَ عَلِيٌّ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقال النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهَا وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ: "هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ قَالَتْ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ وَخَطَبَهُمْ" .
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وذكر فيه حديث عائشة "لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي" الحديث، وقد تقدم شرحه في الوفاة النبوية، ومن قبل ذلك في كتاب الطهارة، والغرض منه هنا قوله: "هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" وقد تقدم بيان الحكمة فيه في الطهارة، وقد استشكل ابن بطال مناسبة حديث هذا الباب لترجمة الذي قبله بعد أن تقرر أن الباب إذا كان بلا ترجمة يكون كالفصل من الذي قبله، وأجاب باحتمال أن يكون أشار إلى أن الذي يفعل بالمريض بأمره لا يلزم فاعل ذلك لوم ولا قصاص، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بصب الماء على كل من حضره بخلاف ما نهى عنه أن لا يفعل به لأن فعله جناية عليه فيكون فيه القصاص. قلت: ولا يخفى بعده. ويمكن أن يقرب بأن يقال أولا إنه أشار إلى أن الحديث عن عائشة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وما اتفق له فيه واحد ذكره بعض الرواة تاما واقتصر بعضهم على بعضه، وقصة اللدود كانت عندما أغمي عليه، وكذلك قصة السبع قرب، لكن اللدود كان نهي عنه ولذلك عاتب عليه، بخلاف الصب فإنه كان أمر فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفا لا يكره على تناول شيء ينهى عنه ولا يمنع من شيء يأمر به.

(10/167)


23 - باب الْعُذْرَةِ
5715- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ "أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةَ أَسَدَ خُزَيْمَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أُخْتُ عُكَاشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لَهَا قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ بِهَذَا الْعِلاَقِ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُرِيدُ الْكُسْتَ وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ". وَقَالَ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ "عَلَّقَتْ عَلَيْهِ".
قوله: "باب العذرة" بضم المهملة وسكون الذال المعجمة: هو وجع الحلق، وهو الذي يسمى سقوط اللهاة،

(10/167)


وقيل: هو اسم اللهاة والمراد وجعها سمي باسمها، وقيل: هو موضع قريب من اللهاة. واللهاة بفتح اللام اللحمة التي في أقصى الحلق. قوله: "وكانت من المهاجرات الخ" يشبه أن يكون الوصف من كلام الزهري فيكون مدرجا، ويحتمل، أن يكون من كلام شيخه فيكون موصولا وهو الظاهر. قوله: "بابن لها" تقدم في "باب السعوط" أنه الابن الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "قد أعلقت عليه" تقدم قبل بباب من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري بلفظ: "أعلقت عنه" وفيه: "قلت لسفيان فإن معمرا يقول أعلقت عليه، قال: لم يحفظ، إنما قال: أعلقت عنه. حفظته من في الزهري" ووقع هنا معلقا من رواية يونس وهو ابن يزيد، وإسحاق بن راشد عن الزهري "علقت عليه" بتشديد اللام والصواب "أعلقت" والاسم العلاق بفتح المهملة. وكذا وقع في رواية سفيان الماضية "بهذا العلاق" كذا للكشميهني، ولغيره: "الأعلاق" ورواية يونس المعلقة هنا وصلها أحمد ومسلم، ورواية إسحاق بن راشد وصلها المؤلف في "باب ذات الجنب" وسيأتي قريبا. ورواية معمر التي سأل عنها علي بن عبد الله سفيان أخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه لكن بلفظ: "جئت بابن لي قد أعلقت عنه" قال عياض: وقع في البخاري أعلقت وعلقت والعلاق والأعلاق، ولم يقع في مسلم إلا "أعلقت" وذكر العلاق في رواية والأعلاق في رواية والكل بمعنى جاءت به الروايات، لكن أهل اللغة إنما يذكرون أعلقت؛ والأعلاق رباعي، وتفسيره غمز العذرة وهي اللهاة بالأصبع، ووقع في رواية يونس عند مسلم: "قال أعلقت غمزت" وقوله في الحديث: "علام" أي لأي شيء. قوله: "تدغرن" خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر غمز الحلق. قوله: "عليكم" في رواية الكشميهني: "عليكن". قوله: "بهذا العود الهندي، يريد الكست" في رواية إسحاق بن راشد "يعني القسط قال وهي لغة" قلت: وقد تقدم ما فيها في "باب السعوط بالقسط الهندي"، ووقع في رواية سفيان الماضية قريبا "قال فسمعت الزهري يقول: بين لنا اثنتين، ولم يبين لنا خمسة" يعني من السبعة في قوله: "فإن فيه سبعة أشفية" فذكر منها ذات الجنب ويسعط من العذرة. قلت: وقد قدمت في "باب السعوط" من كلام الأطباء ما لعله يؤخذ منه الخمسة المشار إليها.

(10/168)


24 - باب دَوَاءِ الْمَبْطُونِ
5716- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً فَسَقَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلاَّ اسْتِطْلاَقاً فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ" . تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ شُعْبَةَ.
قوله: "باب دواء المبطون" المراد بالمبطون من اشتكى بطنه لإفراط الإسهال، وأسباب ذلك متعددة. قوله: "قتادة عن أبي المتوكل" كذا لشعبة وسعيد بن أبي عروبة. وخالفهما شيبان فقال: "عن قتادة عن أبي بكر الصديق عن أبي سعيد" أخرجه النسائي ولم يرجح، والذي يظهر ترجيح طريق أبي المتوكل لاتفاق الشيخين عليها شعبة وسعيد أولا ثم البخاري ومسلم ثانيا، ووقع في رواية أحمد عن حجاج عن شعبة "عن قتادة سمعت أبا المتوكل". قوله: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي" لم أقف على اسم واحد منهما. قوله: "استطلق بطنه"

(10/168)


بضم المثناة وسكون الطاء المهملة وكسر اللام بعدها قاف، أي كثر خروج ما فيه، يريد الإسهال. ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة في رابع باب من كتاب الطب "هذا ابن أخي يشتكي بطنه" ولمسلم من طريقه "قد عرب بطنه" وهي بالعين المهملة والراء المكسورة ثم الموحدة أي فسد هضمه لاعتلال المعدة، ومثله ذرب بالذال المعجمة بدل العين وزنا ومعنى. قوله: "فقال اسقه عسلا" وعند الإسماعيلي من طريق خالد بن الحارث عن شعبة "اسقه العسل" واللام عهدية، والمراد عسل النحل، وهو مشهور عندهم، وظاهره الأمر بسقيه صرفا، ويحتمل أن يكون ممزوجا. قوله: "فسقاه فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا" كذا فيه، وفي السياق حذف تقديره. فسقاه فلم يبرأ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني سقيته، ووقع في رواية مسلم: "فسقاه ثم جاء فقال: إني سقيته فلم يزدد إلا استطلاقا" أخرجه عن محمد بن بشار الذي أخرجه البخاري عنه ولكن قرنه بمحمد بن المثنى وقال: إن اللفظ لمحمد بن المثنى. نعم أخرجه الترمذي عن محمد بن بشار وحده بلفظ: "ثم حاء فقال: يا رسول الله، إني قد سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا". قوله: "فقال صدق الله" كذا اختصره. وفي رواية الترمذي "فقال اسقه عسلا، فسقاه، ثم جاء" فذكر مثله فقال: "صدق الله" وفي رواية مسلم: "فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: اسقه عسلا فقال سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال صدق الله" وعند أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة "فذهب ثم جاء فقال: قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: اسقه عسلا فسقاه" كذلك ثلاثا وفيه: "فقال في الرابعة اسقه عسلا" وعند الإسماعيلي من رواية خالد بن الحارث ثلاث مرات يقول فيهن ما قال في الأولى. وتقدم في رواية سعيد بن أبي عروبة بلفظ: "ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا ثم أتاه الثالثة". قوله: "فقال صدق الله وكذب بطن أخيك" زاد مسلم في روايته: "فسقا فبرأ" وكذا للترمذي. وفي رواية أحمد عن يزيد بن هارون، فقال في الرابعة اسقه عسلا، قال: فأظنه قال فسقاه فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الرابعة: صدق الله وكذب بطن أخيك" كذا وقع ليزيد بالشك وفي رواية خالد بن الحارث "فقال في الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك" والذي اتفق عليه محمد بن جعفر ومن تابعه أرجح، وهو أن هذا القول وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة، وأمره أن يسقيه عسلا فسقاه في الرابعة فبرأ. وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة "ثم أتاه الثالثة فقال اسقه عسلا، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فسقاه فبرأ". قوله: "تابعه النضر" يعني ابن شميل بالمعجمة مصغر "عن شعبة" وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن النضر، قال الإسماعيلي: وتابعه أيضا يحيى بن سعيد وخالد بن الحارث ويزيد بن هارون. قلت: رواية يحيى عند النسائي في "الكبرى" ورواية خالد عند الإسماعيلي عن أبي يعلى، ورواية يزيد عند أحمد وتابعهم أيضا حجاج بن محمد وروح بن عبادة وروايتهما عند أحمد أيضا، قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال كذب سمعك أي زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه أي لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه، وقد اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مسهل فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟ والجواب أن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل معين أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته فوصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة

(10/169)


والأمعاء لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده في أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله تعالى. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "وكذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها، فكان كذلك، وبرأ بإذن الله. قال الخطابي: والطب نوعان، طب اليونان وهو قياسي، وطب العرب والهند وهو تجاربي، وكان أكثر ما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لمن يكون عليلا على طريقة طب العرب، ومنه ما يكون مما اطلع عليه بالوحي. وقد قال صاحب "كتاب المائة في الطب" إن العسل تارة يجري سريعا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعها حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهلا. فإنكار وصفه للمسهل مطلقا قصور من المنكر. وقال غيره: طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء لصدوره عن الوحي، وطب غيره أكثره حدس أو تجرية، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول، وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره لقصوره في الاعتقاد والتلقي بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسا إلى رجسه ومرضا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شقاء القرآن لا يناسب إلا القلوب الطيبة؛ والله أعلم. وقال ابن الجوزي: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المنسهل أربعة أقوال: أحدها أنه حمل الآية على عمومها في الشفاء، وإلى ذلك أشار بقوله: "صدق الله" أي في قوله: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فلما نبهه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول، فشفي بإذن الله. الثاني: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها. الثالث: أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة كما تقدم تقريره. الرابع: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ انتهى. والثاني والرابع ضعيفان وفي كلام الخطابي احتمال آخر، وهو أن يكون الشفاء يحصل للمذكور ببركة النبي صلى الله عليه وسلم وبركه وصفه ودعائه؛ فيكون خاصا بذلك الرجل دون غيره، وهو ضعيف أيضا. ويؤيد الأول حديث ابن مسعود "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعا، وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم موقوفا، ورجاله رجال الصحيح. وأثر علي "إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته من صداقها فليشتر به عسلا، ثم يأخذ ماء السماء فيجمع هنيئا مريئا شفاء مباركا" أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن، قال ابن بطال: يؤخذ من قوله: "صدق الله وكذب بطن أخيك " أن الألفاظ لا تحمل على ظاهرها، إذ لو كان كذلك لبريء العليل من أول شربة، فلما لم يبرأ إلا بعد التكرار دل على أن الألفاظ تقتصر على معانيها. قلت: ولا يخفى تكلف هذا الانتزاع. وقال أيضا: فيه أن الذي يجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتم المدة التي قدر الله تعالى فيها الداء. وقال غيره: في قوله في رواية سعيد بن أبي عروبة "فسقاه فبرأ" بفتح الراء والهمز بوزن قرأ وهي لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقولها بكسر الراء

(10/170)


بوزن علم، وقد وقع في رواية أبي الصديق الناجي في آخره: "فسقاه فعافاه الله" والله أعلم.

(10/171)


25 - باب لاَ صَفَرَ وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ
5717- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟" رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ.
قوله: "باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن" كذا جزم بتفسير الصفر، وهو بفتحتين. وقد نقل أبو عبيدة معمر بن المثنى في "غريب الحديث" له عن يونس بن عبيد الجرمي أنه سأل رؤبة بن العجاج فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. فعلى هذا فالمراد بنفي الصفر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى. ورجح عند البخاري هذا القول لكونه قرن في الحديث بالعدوى. وكذا رجح الطبري هذا القول واستشهد له بقول الأعشى "ولا يعض على شرسوفة الصفر" والشرسوف بضم المعجمة وسكون الراء ثم مهملة ثم فاء: الضلع، والصفر دود يكون في الجوف فربما عض الضلع أو الكبد فقتل صاحبه، وقيل: المراد بالصفر الحية لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدونه أن من أصابه قتله، فرد ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل. وقد جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث: "لا صفر" قاله الطبري. وقيل: في الصفر قول آخر، وهو أن المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر وتستحل الحرم كما تقدم في كتاب الحج، فجاء الإسلام برد ما كانوا يفعلونه من ذلك فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا صفر"، قال ابن بطال: وهذا القول مروي عن مالك، والصفر أيضا وجع في البطن يأخذ من الجوع ومن اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء، ومن الأول حديث: "صفرة في سبيل الله خير من حمر النعم" أي جوعة، ويقولون صفر الإناء إذا خلا عن الطعام، ومن الثاني ما سبق في الأشربة في حديث ابن مسعود "أن رجلا أصابه الصفر فنعت له السكر" أي حصل له الاستسقاء فوصف له النبيذ، وحمل الحديث على هذا لا يتجه، بخلاف ما سبق. وسيأتي شرح الهامة والعدوى كل منهما في باب مفرد. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان، وقوله: "أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره" وقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان عند مسلم في هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة، وقوله في آخر الباب: "رواه الزهري عن أبي سلمة وسنان بن أبي سنان" يعني كلاهما عن أبي هريرة، وسيأتي ذلك في "باب لا عدوى" من رواية شعيب عن الزهري عنهما، وفيه تفصيل لفظ أبي سلمة من لفظ سنان، ويأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى.

(10/171)


26 - باب ذَاتِ الْجَنْبِ
5718- حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ

(10/171)


27 - باب حَرْقِ الْحَصِيرِ لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ
5722- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: "لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَةُ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً

(10/173)


عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَأَ الدَّمُ".
قوله: "باب حرق الحصير" كذا لهم، وأنكره ابن التين فقال: والصواب إحراق الحصير لأنه من أحرق، أو تحريق من حرق، قال فأما الحرق فهو حرق الشيء يؤذيه. قلت: لكن له توجيه، وقوله: "ليسد به الدم" هو بالسين المهملة أي مجاري الدم، أو ضمن "سد" معنى قطع وهو الوجه، وكأنه أشار إلى أن هذا ليس من إضاعة المال لأنه إنما يفعل للضرورة المبيحة، وقد كان أبو الحسن القابسي يقول: وددنا لو علمنا ذلك الحصير مما كان لنتخذه دواء لقطع الدم، قال ابن بطال: قد زعم أهل الطب أن الحصير كلها إذا أحرقت تبطل زيادة الدم، بل الرماد كله كذلك، لأن الرماد من شأنه القبض، ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث: "التداوي بالرماد" وقال المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد كان معلوما عندهم، لا سيما إن كان الحصير من ديس السعد فهي معلومة بالقبض وطيب الرائحة، فالقبض يسد أفواه الجرح، وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم، وأما غسل الدم أولا فينبغي أن يكون إذا كان الجرح غير غائر، أما لو كان غائرا فلا يؤمن معه ضرر الماء إذا صب فيه. وقال الموفق عبد اللطيف: الرماد فيه تجفيف وقلة لذع، والمجفف إذا كان فيه قوة لذع ربما هيج الدم وجلب الورم. ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن سهل بن سعد "أحرقت له - حين لم يرقأ - قطعه حصير خلق فوضعت رماده عليه". تقدم شرح حديث الباب، وهو حديث سهل بن سعد في غسل فاطمة وجه النبي صلى الله عليه وسلم من الدم لما جرح يوم أحد، في كتاب الجهاد. وقوله في آخر الحديث: "فرقأ" بقاف وهمزة أي بطل خروجه. وفي رواية: "فاستمسك الدم".

(10/174)


28 - باب الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ
5723- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ" .
قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: "اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ".
5724- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ "أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا أَخَذَتْ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ".
5725- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ" .
5726- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحُمَّى مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".
قوله: "باب الحمى من فيح جهنم" بفتح الفاء وسكون التحتانية بعدها مهملة، وسيأتي في حديث رافع آخر

(10/174)


الباب: "من فوح" بالواو، وتقدم من حديثه في صفة النار بلفظ: "فور" بالراء بدل الحاء وكلها بمعنى، والمراد سطوع حرها ووهجه. والحمى أنواع كما سأذكره. واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة. وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة بسند حسن، وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد، وعن أبي ريحانة عند الطبراني، وعن ابن مسعود في مسند الشهاب "الحمى حظ المؤمن من النار" وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد أن شدة الحر من فيح جهنم وأن الله أذن لها بنفسين، وقيل: بل الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها كما قيل بذلك في حديث الإبراد، والأول أولى، والله أعلم. ويؤيده قول ابن عمر في آخر الباب. حديث ابن عمر أخرجه من طريق عبد الله بن وهب عن مالك، وكذا مسلم. وأخرجه النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، قال الدار قطني في "الموطئات": لم يروه من أصحاب مالك في "الموطأ" إلا ابن وهب وابن القاسم وتابعهما الشافعي وسعيد بن عفير وسعيد بن داود، قال: ولم يأت به معن ولا القعنبي ولا أبو مصعب ولا ابن بكير انتهى. وكذا قال ابن عبد البر في التقصي. وقد أخرجه شيخنا في تقريبه من رواية أبي مصعب عن مالك، وهو ذهول منه، لأنه اعتمد فيه على الملخص للقابسي، والقابسي إنما أخرج الملخص من طريق ابن القاسم عن مالك، وهذا ثاني حديث عثرت عليه في تقريب الأسانيد لشيخنا عفا الله تعالى عنه من هذا الجنس، وقد نبهت عليه نصيحة لله تعالى والله أعلم، وقد أخرجه الدار قطني والإسماعيلي من رواية حرملة عن الشافعي، وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن عفير، ومن طريق سعيد بن داود، ولم يخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " لأنه ليس في رواية يحيى بن يحيى الليثي، والله أعلم. قوله: "فأطفئوها" بهمزة قطع ثم طاء مهملة وفاء مكسورة ثم همزة أمر بالإطفاء، وتقدم في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في صفة النار من بدء الخلق بلفظ: "فأبردوها" والمشهور في ضبطها بهمزة وصل والراء مضمومة، وحكي كسرها، يقال بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها، قال شاعر الحماسة:
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء، من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره باردا، مثل أسحنه إذا صيره سخنا، وقد أشار إليها الخطابي. وقال الجوهري: إنها لغة رديئة. قوله: "بالماء" في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: "بالماء البارد" ومثله في حديث سمرة عند أحمد، ووقع في حديث ابن عباس "بماء زمزم" كما مضى في صفة النار من رواية أبي جمرة بالجيم قال: "كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى" وفي رواية أحمد "كنت أدفع للناس عن ابن عباس فاحتبست أياما فقال: ما حبسك؟ قلت الحمى، قال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو بماء زمزم" شك همام. كذا في راوية البخاري من طريق أبي

(10/175)


عامر العقدي عن همام. وقد تعلق به من قال بأن ذكر ماء زمزم ليس قيدا لشك راوية فيه. وممن ذهب إلى ذلك ابن القيم. وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام "فأبردوها بماء زمزم" ولم يشك، وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية عفان، وإن كان الحاكم وهم في استدراكه. وترجم له ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر فقال: ذكر الخبر المفسر للماء المجمل في الحديث الذي قبله، وهو أن شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه، وساق حديث ابن عباس، وقد تعقب - على تقدير أن لا شك في ذكر ماء زمزم فيه - بأن الخطاب لأهل مكة خاصة لتيسر ماء زمزم عندهم، كما خص الخطاب بأصل الأمر بأهل البلاد الحارة. وحفي ذلك على بعض الناس. قال الخطابي ومن تبعه: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سببا للتلف، قال الخطابي: غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق، فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث ابن عمر المذكور، وهذا من بديع ترتيبه. وقال المازري: ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل، حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو بغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع. ثم ذكر نحو ما تقدم. قالوا: وعلى تقدير أن يريد التصريح بالاغتسال في جميع الجسد، فيجاب بأنه يحتمل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى، وهو بعيد. ويحتمل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع صلى الله عليه وسلم عليها بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب. وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعا: "إذا أصاب أحدكم الحمى - وهي قطعة من النار - فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار ويستقبل جريته وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله" قال الترمذي غريب. قلت: وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه. قال: ويحتمل أن يكون لبعض

(10/176)


الحميات دون بعض، في بعض الأماكن دون بعض، لبعض الأشخاص دون بعض. وهذا أوجه. فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عاما وهو الأكثر، وقد يكون خاصا كما قال: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا" فقوله: "شرقوا أو غربوا" ليس عاما لجميع أهل الأرض بل هو خاص لمن كان بالمدينة النبوية وعلى سمتها كما تقدم تقريره في كتاب الطهارة، فكذلك هذا يحتمل أن يكون مخصوصا بأهل الحجاز وما والأهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا، لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن، وهي قسمان: عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاثة، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي بعدد الأخلاط الأربعة، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب. وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر، وقد قال جالينوس في كتاب حيلة البرء لو أن شابا حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لا ينتفع بذلك(1). وقال أبو بكر الرازي: إذا كانت القوى قوية والحمى حادة والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خصب البدن والزمان حارا وكان معتادا باستعمال الماء البارد اغتسالا فليؤدن له فيه. وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال: هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة، والمراد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القوي في ذلك الوقت لكونه عقب النور والسكون وبرد الهواء، قال: والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة الأمراض الحادة غالبا ولا سيما في البلاد الحارة. والله أعلم. قالوا: وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته كما قال: "صبوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" وقد تقدم شرحه. وقال سمرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل" أخرجه البزار وصححه الحاكم، ولكن في سنده راو ضعيف. وقال أنس: "إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال" أخرجه الطحاوي وأبو نعيم في الطب والطبراني في "الأوسط" وصححه الحاكم وسنده قوي، وله شاهد من حديث أم خالد بنت سعيد أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الطب من طريقه. وقال عبد الرحمن بن المرقع رفعه: "الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض فبردوا لها الماء في الشنان، وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء. قال ففعلوا فذهب عنهم" أخرجه الطبراني. وهذه الأحاديث كلها ترد التأويل الذي نقله الخطابي عن ابن الأنباري أنه قال: المراد بقوله فأبردوها الصدقة به، قال ابن القيم: أظن الذي حمل قائل هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى فعدل إلى هذا، وله وجه حسن لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه لما أخمد لهيب العطشان بالماء أخمد الله لهيب الحمى عنه، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقة كما تقدم، والله أعلم. قوله: "قال نافع وكان عبد الله" أي ابن عمر "يقول
ـــــــ
(1) لعله "لا نفع بذلك".

(10/177)


اكشف عنا الرجز" أي العذاب، وهذا موصول بالسند الذي قبله، وكأن ابن عمر فهم من كون أصل الحمى من جهنم أن من أصابته عذب بها، وهذا التعذيب يختلف باختلاف محله: فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه وزيادة في أجوره كما سبق، وللكافر عقوبة وانتقاما. وإنما طلب ابن عمر كشفه مع ما فيه من الثواب لمشروعية طلب العافية من الله سبحانه، إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشق عليه، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة بن الزبير، وفاطمة بنت المنذر أي ابن الزبير هي بنت عمه وزوجته، وأسماء بنت أبي بكر جدتهما لأبويهما معا. قوله: "بينها وبين جيبها" بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة: هو ما يكون مفرجا من الثوب كالكم والطوق. وفي رواية عبدة عن هشام عند مسلم: "فتصبه في جيبها". قوله: "أن نبردها" بفتح أوله وضم الراء الخفيفة. وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الراء من التبريد، وهو بمعنى رواية أبرد بهمزة مقطوعة، زاد عبدة في روايته: "وقال إنها من فيح جهنم". قوله: "يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة أيضا. وأشار بإيراد روايته هذه عقب الأولى إلى أنه ليس اختلافا على هشام، بل له في هذا المتن إسنادان، بقرينة مغايرة السياقين. قوله: "من فيح جهنم" في رواية السرخسي "من فوح" بالواو، وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من هذا الوجه بلفظ: "من فور" وكلها بمعنى، وتقدم هناك بلفظ: "فأبردوها عنكم" بزيادة "عنكم" وكذا زادها مسلم في روايته عن هناد بن السري عن أبي الأحوص بالسند المذكور هنا.

(10/178)


29 - باب مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لاَ تُلاَيِمُهُ
5727- حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد حدثنا قتادة أن أنس بن مالك حدثهم "أن ناسا أو رجالا من عكل وعرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام وقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وبراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم وأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم".
قوله: "باب من خرج من أرض لا تلايمه" بتحتانية مكسورة، وأصله بالهمز ثم كثر استعماله فسهل، وهو من الملاءمة بالمد أي الموافقة وزنا ومعنى. وذكر فيه قصة العرنيين، وقد تقدمت الإشارة إليها قريبا، وكأنه أشار إلى أن الحديث الذي أورده بعده في النهي عن الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون ليس على عمومه. وإنما هو مخصوص بمن خرج فرارا منه كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

(10/178)


30 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ
5728- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ

(10/178)


31 - باب أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ
5734- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا "أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ. فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ" .
تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ دَاوُدَ
قوله: "باب أجر الصابر على الطاعون" أي سواء وقع به أو وقع في بلد هو مقيم بها. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه، وحبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو ابن هلال ويحيى بن يعمر بفتح التحتانية والميم بينهما عين مهملة ساكتة وآخره راء. قوله: "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون" في رواية أحمد من هذا الوجه عن عائشة "قالت سألت". قوله: " أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء" في رواية الكشميهني: " على من شاء" أي من كافر أو عاص كما تقدم في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام. قوله: " فجعله الله رحمة للمؤمنين " أي من هذه الأمة، وفي حديث أبي عسيب عند أحمد "فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورجس على الكافر" وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة، وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل؟ فيه نظر. والمراد بالعاصي من يكون مرتكب الكبيرة ويهجم عليه ذلك وهو مصر، فإنه يحتمل أن يقال لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ؟ وأيضا فقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن

(10/192)


ماجه والبيهقي بلفظ: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" الحديث، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك وكان من فقهاء الشام، لكنه ضعيف عند أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبو زرعة الدمشقي وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا، وله شاهد عن ابن عباس في "الموطأ" بلفظ: "ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت" الحديث، وفيه انقطاع. وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولا بلفظ: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" وللطبراني موصولا من وجه آخر عن ابن عباس نحو سياق مالك وفي سنده مقال، وله من حديث عمرو بن العاص بلفظ: " ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء" الحديث وسنده ضعيف، وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيد بلفظ: "ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت" ولأحمد من حديث عائشة مرفوعا: "لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب" وسنده حسن. ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما في الحديث الذي قبله عن أنس "الطاعون شهادة لكل مسلم" ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترع السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلا غير مدبر. ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم - والله أعلم - لتقاعدهم عن إنكار المنكر. وقد أخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث عتبة بن عبيد رفعه: "القتل ثلاثة: رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فانمحت خطاياه، إن السيف محاء للخطايا. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى يقل فهو في النار، إن السيف لا يمحو النفاق" وأما الحديث الآخر الصحيح "إن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين" فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات، وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن الله يثيب من حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة، وقد بين الحديث أن الله يتجاوز عنه ما عدا التبعات، فلو فرض أن للشهيد أعمالا صالحة وقد كفرت الشهادة أعماله السيئة غير التبعات فإن أعماله الصالحة تنفعه في موازنة ما عليه من التبعات وتبقى له درجة الشهادة خالصة، فإن لم يكن له أعمال صالحة فهو في المشيئة، والله أعلم. قوله: "فليس من عبد" أي مسلم "يقع الطاعون" أي في مكان هو فيه "فيمكث في بلده" في رواية أحمد "في بيته"، ويأتي في القدر بلفظ: "يكون فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد" أي التي وقع فيها الطاعون. قوله: "صابرا" أي غير منزعج ولا قلق، بل مسلما لأمر الله راضيا بقضائه، وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فرارا منه كما تقدم النهي عنه في الباب قبله صريحا. وقوله: "يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له" قيد آخر، وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظانا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا وأنه بإقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون، هذا الذي يقتضيه

(10/193)


مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون. ويدخل تحته ثلاث صور: أن من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به، أو وقع به ولم يمت به، أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا. قوله: "مثل أجر الشهيد" لعل السر في التعبير بالمثلية مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدا أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم تحصل له درجة الشهادة بعينها وذلك أن من اتصف بكونه شهيدا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد، ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب غير القتل، وأما ما اقتضاه مفهوم حديث الباب أن من اتصف بالصفات المذكورة ووقع به الطاعون ثم لم يمت منه أنه يحصل له ثواب الشهيد فشهد له حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته" والضمير في قوله "أنه" لابن مسعود، فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ورجال سنده موثقون، واستنبط من الحديث أن من اتصف بالصفات المذكورة ثم وقع به الطاعون فمات به يكون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب كمن يموت غريبا بالطاعون، أو نفساء مع الصبر والاحتساب، والتحقيق فيما اقتضاه حديث الباب أنه يكون شهيدا بوقوع الطاعون به ويضاف له مثل أجر الشهيد لصبره وثباته، فإن درجة الشهادة شيء وأجر الشهادة شيء، وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وقال: هذا هو السر في قوله: "والمطعون شهيد" وفي قوله في هذا: "فله مثل أجر شهيد" ويمكن أن يقال: بل درجات الشهداء متفاوتة، فأرفعها من اتصف بالصفات المذكورة ومات بالطاعون، ودونه في المرتبة من اتصف بها وطعن ولم يمت به، ودونه من اتصف ولم يطعن ولم يمت به. ويستفاد من الحديث أيضا أن من لم يتصف بالصفات المذكورة لا يكون شهيدا ولو وقع الطاعون ومات به فضلا عن أن يموت بغيره، وذلك ينشأ عن شؤم الاعتراض الذي ينشأ عنه التضجر والتسخط لقدر الله وكراهة لقاء الله، وما أشبه ذلك من الأمور التي تفوت معها الخصال المشروطة، والله أعلم. وقد جاء في بعض الأحاديث استواء شهيد الطاعون وشهيد المعركة، فأخرج أحمد بسند حسن عن عتبة بن عبد السلمي رفعه: "يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا فإن كان جراحهم كجراح الشهداء تسيل دما وريحها كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك". وله شاهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أحمد أيضا والنسائي بسند حسن أيضا بلفظ: "يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذين ماتوا بالطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول الذين ماتوا على فرشهم إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم" زاد الكلاباذي في "معاني الأخبار" من هذا الوجه في آخره: "فيلحقون بهم". قوله: "تابعه النضر عن داود" النضر هو ابن شميل، وداود هو ابن أبي الفرات، وقد أخرج طريق النضر في "كتاب القدر" عن إسحاق بن إبراهيم عنه، وتقدم موصولا أيضا في ذكر بني إسرائيل عن موسى بن إسماعيل، وأخرجه أحمد عن عفان وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي عبد الرحمن المقري والنسائي من طريق يونس بن محمد المؤدب كلهم عن داود بن أبي الفرات، وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم أن البخاري أراد بقوله: "تابعه النضر" إزالة توهم

(10/194)


من يتوهم تفرد حبان بن هلال به فيظن أنه لم يروه غيرهما، ولم يرد البخاري ذلك وإنما أراد إزالة توهم التفرد به فقط، ولم يرد الحصر فيهما، والله أعلم.

(10/195)


32 - باب الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ
5735- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا".
فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ".
قوله: "باب الرقى" بضم الراء وبالقاف مقصور: جمع رقية بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل، ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه، واسترقى طلب الرقية، والجمع بغير همز، وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة. قوله: "بالقرآن والمعوذات" هو من عطف الخاص على العام، لأن المراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص كما تقدم في أواخر التفسير، فيكون من باب التغليب. أو المراد الفلق والناس وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وغير ذلك، والأول أولى، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من رواية عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال" فذكر فيها الرقى إلا بالمعوذات، وعبد الرحمن بن حرملة قال البخاري لا يصح حديثه. وقال الطبري لا يحتج بهذا الخبر لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن في الرقبة بفاتحة الكتاب، وأشار المهلب إلى الجواب عن ذلك بأن في الفاتحة معنى الاستعاذة وهو الاستعانة فعلى هذا يختص الجواز بما يشتمل على هذا المعنى، وقد أخرج الترمذي وحسنه والنسائي من حديث أبي سعيد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعودات فأحذ بها وترك ما سواها". وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا، وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: "كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" وله من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال: فعرضوا عليه فقال: ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه" وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا، والشرط الآخر

(10/195)


لابد منه. وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة كما تقدم في "باب من اكتوى" من حديث عمران بن حصين " لا رقية إلا من عين أو حمة" ، وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصلا كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس ونحو ذلك لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية. وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد: "أو دم" وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى من العين والحمة والنملة" وفي حديث آخر "والأذن" ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عيد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ألا تعلمين هذه - يعني حفصة - رقية النملة" والنملة قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد، وقيل المراد بالحصر معنى الأفضل، أي لا رقية أنفع كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار. وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما، وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى، فأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود رفعه: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" وفي الحديث قصة، والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن دلك يدفع الآفات، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه كما سيأتي قريبا في "باب المرأة ترقى الرجل" من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: "كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات ويمسح بهما وجهه" الحديث، ومضى في أحاديث الأنبياء حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة" الحديث، وصحح الترمذي من حديث خولة بنت حكيم مرفوعا: "من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يتحول" وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم "جاء رجل فقال: لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك" والأحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يحتمل أن يقال: إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلافه في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع. وقال ابن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم، ويقال: إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رقى بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام، أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه

(10/196)


لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك. الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب. الثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى. قلت: ويأتي بسط ذلك في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله، قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله اهـ. وفي "الموطأ " أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة: ارقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه. وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل حرصا على استمرار وصفه بالحذق لترويح صناعته. والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيها كفر. وسيأتي الكلام على من منع الرقى أصلا في "باب من لم يرق" بعد خمسة أبواب إن شاء الله تعالى. قوله: "هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات" دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة، وفي دلالته على المعطوف عليه نظر، لأنه لا يلزم من مشروعية الرقى بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها. وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم ترك ما عدا المعوذات، لكن ثبتت الرقية بفاتحة الكتاب فدل على أن لا اختصاص للمعوذات، ولعل هذا هو السر في تعقيب المصنف هذه الترجمة بباب الرقى بفاتحة الكتاب، وفي الفاتحة من معنى الاستعاذة بالله الاستعانة به، فمهما كان فيه استعاذة أو استعانة بالله وحده أو ما يعطي معنى ذلك فالاسترقاء به مشروع. ويجاب عن حديث أبي سعيد بأن المراد أنه ترك ما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن، ويحتمل أن يكون المراد بقوله في الترجمة "الرقى بالقرآن" بعضه فإنه اسم جنس يصدق على بعضه، والمراد ما كان فيه التجاء إلى الله سبحانه، ومن ذلك المعوذات، وقد ثبت الاستعاذة بكلمات الله في عدة أحاديث كما مضى. قال ابن بطال: في المعوذات جوامع من الدعاء. نعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بها. قلت: وسيأتي في "باب السحر" شيء من هذا، وقوله: "في المرض الذي مات فيه" ليس قيدا في ذلك وإنما أشارت عائشة إلى أن ذلك وقع في آخر حياته وأن ذلك لم ينسخ. قوله: "أنفث عنه" في رواية الكشميهني: "عليه" وسيأتي باب مفرد في النفث في الرقية. قوله: "وأمسح بيده نفسه" بالنصب على المفعولية أي أمسح جسده بيده، وبالكسر على البدل. وفي رواية الكشميهني: "بيد نفسه" وهو يؤيد الاحتمال الثاني. قال عياض: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي انتهى. وليس بين قوله في هذه الرواية: "كان ينفث على نفسه" وبين الرواية الأخرى "كان يأمرني أن أفعل ذلك" معارضة لأنه محمول على أنه في ابتداء المرض كان يفعله بنفسه وفي اشتداده كان يأمرها به وتفعله هي من قبل نفسها. قوله: "فسألت الزهري" القائل

(10/197)


معمر، وهو موصول بالإسناد المذكور، وفي الحديث التبرك بالرجل الصالح وسائر أعضائه وخصوصا اليد اليمنى.

(10/198)


33 - باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5736- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا وَلاَ نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنْ الشَّاءِ فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ فَقَالُوا لاَ نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ".
قوله: "باب الرقى بفاتحة الكتاب، ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا ذكره بصيغة التمريض، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه، مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب. وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقبة بفاتحة الكتاب وإنما فيه تقريره على ذلك فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية، وقد علق البخاري بعض هذا الحديث بلفظه فأتى به مجزوما كما تقدم في الإجارة في "باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب" وقال ابن عباس "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" ثم قال شيخنا: لعل لابن عباس حديثا آخر صريحا في الرقية بفاتحة الكتاب ليس على شرطه فلذلك أتى به بصيغة التمريض. قلت: ولم يقع لي ذلك بعد التتبع. حديث أبي سعيد في قصة الذين أتوا على الحي فلم يقروهم، فلدغ سيد الحي فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب، وقد تقدم شرحه في كتاب الإجارة مستوفى. وقال ابن القيم: إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها وإثبات المعاد وذكر التوحيد والافتقار إلى الرب في طلب الإعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى الصراط المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به، ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته، وضال لعدم معرفته له، مع ما تضمنته من إثبات القدر والشرع والأسماء والمعاد والتوبة وتزكية النفس وإصلاح القلب والرد على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، والله أعلم.

(10/198)


34 - باب الشُّروطِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتحَةِ الكتَابِ
5737- حَدَّثَنا سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْبَصْرِيُّ هُوَ صَدُوقٌ يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ الْبَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ

(10/198)


35 - باب رُقْيَةِ الْعَيْنِ
5738- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنْ الْعَيْنِ" .
5739- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ : اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ ".
وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ.

(10/199)


قوله: "باب رقية العين" أي رقية الذي يصاب بالعين، تقول عنت الرجل أصبته بعينك فهو معين ومعيون ورحل عائن ومعيان وعيون. والعين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر، وقد وقع عند أحمد - من وجه آخر - عن أبي هريرة رفعه: "العين حق، ويحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم". وقد أشكل ذلك على بعض الناس فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ والجواب أن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال: إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد، وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها، ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد، ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقال الخطابي: في الحديث أن للعين تأثيرا في النفوس، وإبطال قول الطبائعيين أنه لا شيء إلا ما تدرك الحواس الخمس وما عدا ذلك لا حقيقة له. وقال المازري: زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي. وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه. وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر، وهل ثم جواهر خفية أو لا؟ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه، ومن قال ممن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بأن جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل أخطأ بدعوى القطع، ولكن جائز أن يكون عادة ليست ضرورة ولا طبيعة. اهـ. وهو كلام سديد وقد بالغ ابن العربي في إنكاره قال: ذهبت الفلاسفة إلى أن الإصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها ثم تؤثر في غيرها. وقيل: إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به، ثم رد الأول بأنه لو كان كذلك لما تخلفت الإصابة في كل حال، والواقع خلافه. والثاني: بأن سم الأفعى جزء منها وكلها قاتل، والعائن ليس يقتل منه شيء في قولهم إلا نظره وهو معني خارج عن ذلك، قال: والحق أن الله يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة، وقد يصرف قبل وقوعه إما بالاستعاذة أو بغيرها، وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقبة أو بالاغتسال أو بغير ذلك. اهـ كلامه. وفيه بعض ما يتعقب، فإن الذي مثل بالأفعى لم يرد أنها تلامس المصاب حتى يتصل به من سمها، وإنما أراد أن جنسا من الأفاعي اشتهر أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك فكذلك العائن وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أبي لبابه الماضي في بدء الخلق عند ذكر الأبتر وذي الطفيتين قال: فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل، وليس مراد الخطابي بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون، وقد أخرج البزار بسند حسن عن جابر رفعه: "أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس" قال الراوي: يعني بالعين، وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوي والخواص في الأجسام والأرواح كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق

(10/200)


الله تعالى في الأرواح من التأثيرات ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها: فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة. والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح كالذي يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن لا وقاية له أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "حدثني معبد بن خالد" هو الجدلي الكوفي تابعي، وشيخه عبد الله بن شداد هو المعروف بابن الهاد له رؤية وأبوه صحابي. قوله: "عن عائشة" كذا للأكثر. وكذا لمسلم من طريق مسعر عن معبد بن خالد، ووقع عند الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي مثله، لكن شك فيه فقال: "أو قال عن عبد الله بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة". قوله: "قالت أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن يسترقى من العين" أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين، كذا وقع بالشك هل قالت: "أمر" بغير إضافة أو " أمرني" وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه عن الطبراني عن معاذ بن المثنى عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه فقال: "أمرني" جزما وكذا أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق أبي نعيم عن سفيان الثوري، ولمسلم من طريق عبد الله بن نمير عن سفيان "كان يأمرني أن أسترقي" وعنده من طريق مسعر عن معبد بن خالد "كان يأمرها" ولابن ماجه من طريق وكيع عن سفيان "أمرها أن تسترقي" وهو للإسماعيلي في رواية عبد الرحمن بن مهدي. وفي هذا الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين، وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي من طريق عبيد بن رفاعة "عن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم" الحديث، وله شاهد من حديث جابر أخرجه مسلم قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في الرقية. وقال لأسماء: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ أتصيبهم الحاجة؟ قال: لا، ولكن العين تسرع إليهم، قال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم" وقوله: "ضارعة" بمعجمة أوله أي نحيفة، وورد في مداواة المعيون أيضا ما أخرجه أبو داود من رواية الأسود عن عائشة أيضا قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين" وسأذكر كيفية اغتساله في شرح حديث الباب الذي بعد هذا. قوله: "حدثنا محمد بن خالد" قال الحاكم والجوزقي والكلاباذي وأبو مسعود ومن تبعهم، هو الذهلي نسب إلى جد أبيه فإنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وقد كان أبو داود يروي عن محمد بن يحيى فينسب أباه إلى جد أبيه أيضا فيقول: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قالوا وقد حدث أبو محمد بن الجارود بحديث الباب عن محمد بن يحيى الذهلي، وهي قرينة في أنه المراد، وقد وقع في رواية الأصيلي هنا "حدثنا محمد بن خالد الذهلي" فانتفى أن يظن أنه محمد بن خالد بن جبلة الرافعي الذي ذكره ابن عدي في شيوخ البخاري، وقد أخرج الإسماعيلي وأبو نعيم أيضا حديث الباب من طريق محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن وهب بن عطية المذكور، وكذا هو في "كتاب الزهريات" جمع الذهلي، وهذا الإسناد مما نزل فيه البخاري في حديث عروة بن الزبير ثلاث درجات، فإنه أخرج في صحيحه حديثا عن عبد الله بن موسى عن هشام بن عروة عن أبيه وهو في العتق فكان بينه وبين عروة رجلان، وهنا بينه وبينه فيه خمسة أنفس، ومحمد بن وهب بن عطية سلمي قد أدركه البخاري وما أدري لقيه أم لا، وهو من

(10/201)


أقران الطبقة الوسطى من شيوخه، وما له عنده إلا هذا الحديث، وقد أخرجه مسلم عاليا بالنسبة لرواية البخاري هذه قال: حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن حرب فذكره، ومحمد بن حرب شيخه خولاني حمصي كان كاتبا للزبيدي شيخه في هذا الحديث وهو ثقة عند الجميع. "تنبيه": اجتمع في هدا السند من البخاري إلى الزهري ستة أنفس في نسق كل منهم اسمه محمد، وإذا روينا الصحيح من طريق الفراوي عن الحفص عن الكشميهني عن الفربري كانوا عشرة. قوله: "رأى في بيتها جارية" لم أقف على اسمها، ووقع في مسلم قال لجارية في بيت أم سلمة. قوله: "في وجهها سفعة" بفتح المهملة ويجور ضمها وسكون الفاء بعدها عين مهملة وحكى عياض ضم أوله، قال إبراهيم الحربي: هو سواد في الوجه ومنه سفعة الفرس سواد ناصيته، وعن الأصمعي: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر. وقال ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة، وحاصلها أن بوجهها موضعا على غير لونه الأصلي، وكأن الاختلاف بحسب اللون الأصلي، فإن كان أحمر فالسفعة سواد صرف، وإن كان أبيض فالسفعة صفرة وإن كان أسمر فلسفعة حمرة يعلوها سواد. وذكر صاحب "البارع" في اللغة أن السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة، والشحوب بمعجمة ثم مهملة: تغير اللون بهزال أو غيره، ومنه سفعاء الخدين، وتطلق السفعة على العلامة، ومنه بوجهها سفعة غضب. وهو راجع إلى تغير اللون، وأصل السفع الأخذ بقهر، ومنه قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} ويقال أن أصل السفع الأخذ بالناصية ثم استعمل في غيرها، وقيل في تفسيرها: لنعلمنه بعلامة أهل النار من سواد الوجه ونحوه، وقيل: معناه لنذلنه، ممكن رد الجميع إلى معنى واحد فإنه إذا أخذ بناصيته بطريق القهر أذله وأحدث له تغير لونه فظهرت قيه تلك العلامة ومنه قوله في حديث الشفاعة "قوم أصابهم سفع من النار". قوله: "استرقوا لها" بسكون الراء. قوله: "فإن بها النظرة" بسكون الظاء المعجمة. وفي رواية مسلم: "فقال: إن بها نظرة فاسترقوا لها" يعني بوجهها صفرة، وهدا التفسير ما عرفت قائله إلا أنه يغلب على ظني أنه الزهري، وقد أنكره عياض من حيث اللغة، وتوجيهه ما قدمته واختلف في المراد بالنظرة فقيل: عين من نظر الجن، وقيل من الإنس وبه جزم أبو عبيد الهروي، والأولى أنه أعم من ذلك وأنها أصيبت بالعين فلذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الاسترقاء لها، وهو دال على مشروعية الرقية من العين على وفق الترجمة. قوله: "تابعه عبد الله بن سالم" يعني الحمصي، وكنيته أبو يوسف "عن الزبيدي" أي على وصل الحديث. "وقال عقيل عن الزهري أخبرني عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني لم يذكر في إسناده زينب ولا أم سلمه، فأما رواية عبد الله بن سالم فوصلها الذهلي في "الزهريات" والطبراني في "مسند الشاميين" من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن عمرو بن الحارث الحمصي عن عبد الله بن سالم به سندا ومتنا، وأما رواية عقيل فرواها ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل ولفظه: "أن جارية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة فقال: "كأن بها سفعة أو خطرت بنار" هكذا وقع لنا مسموعا في جزء من "فوائد أبي الفضل بن طاهر" بسنده إلى ابن وهب، ورواه الليث عن عقيل أيضا، ووجدته في "مستدرك الحاكم" من حديثه لكن زاد فيه عائشة بعد عروة، وهو وهم فيما أحسب، ووجدته في "جامع ابن وهب" عن يونس عن الزهري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لجارية" فذكر الحديث، واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه، وقد روى الترمذي من طريق الوليد بن مسلم أنه سمع الأوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري، يعني في الضبط، وذلك أنه كان يلازمه كثيرا حضرا وسفرا، وقد

(10/202)


تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا على المرسل، والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرينة، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله، وقد جاء حديث عروة هذا من غير رواية الزهري أخرجه البزار من رواية أبي معاوية عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة عن أم سلمة، فسقط من روايته ذكر زينب بنت أم سلمة. وقال الدار قطني: رواه مالك وابن عيينة وسمي جماعة كلهم عن يحيى بن سعيد فلم يجاوزا به عروة، وتفرد أبو معاوية بذكر أم سلمة فيه ولا يصح، وإنما قال ذلك بالنسبة لهذه الطريق لانفراد الواحد عن العدد الجم، وإذا انضمت هذه الطريق إلى رواية الزبيدي قويت جدا، والله أعلم.

(10/203)


36 - باب الْعَيْنُ حَقٌّ
5740- حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ" .
[الحديث 5740 – طرفه في: 5944]
قوله: "باب العين حق" أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى، لأن كل شيء ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل، فهو من متجاوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة؟ قوله: "العين حق، ونهى عن الوشم" لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين، فكأنهما حديثان مستقلان، ولهذا حذف مسلم وأبو داود الجملة الثانية من روايتهما مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق الذي أخرجه البخاري من جهته، ويحتمل أن يقال: المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه الأصلي. والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل الدم ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر، وسيأتي بيان حكمه في "باب المستوشمة" من أواخر كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها، وهي: أن من جملة الباعث على عمل الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين، فنهى عن الوشم مع إثبات العين، وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا، وأن الذي قدره الله سيقع. وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا" فأما الزيادة الأولى ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الذات، وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن قوله: "العين حق" يريد به القدر أي العين التي تجري منها الأحكام، فإن عين الشيء حقيقته، والمعني أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور. ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه فيها، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء

(10/203)


إذ القدر عبارة عن سابق علم الله، وهو لا راد لأمره، أشار إلى ذلك القرطبي. وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين. لكنها لا تسبق، فكيف غيرها؟ وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس" قال الراوي: يعني بالعين. وقال النووي: في الحديث إثبات القدر وصحة أمر العين وأنها قوية الضرر. وأما الزيادة الثانية: وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر الوجوب. وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال، وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف "أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف - وكان أبيض حسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط - أي صرع وزنا ومعنى - سهل. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تتهمون به من أحد؟ قالوا: عامر بن ربيعة. فدعا عامرا فتغيظ علمه فقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت. ثم قال: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلقه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح؛ ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس" لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح. وقال في آخره: "ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض" ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل، فذكر الحديث وفيه: "فليدع بالبركة. ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه" قال سفيان: قال معمر عن الزهري: "وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه" قال المازري: المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، قال فظن بعضهم أنه كناية عن الفرج انتهى. وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الإزار، وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل: أراد وركه لأنه معقد الإزار. والحديث في "الموطأ" وفيه عن مالك "حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أباه يقول، اغتسل سهل - فذكر نحوه وفيه - فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه - وفيه - إلا بركت؟ إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل ليس به بأس". "تنبيهات": الأول: اقتصر النووي في "الأذكار" على قوله: الاستغسال أن يقال للعائن: اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد، فإذا فعل صبه على المنظور إليه. وهذا يوهم الاقتصار على ذلك، وهو عجيب، ولا سيما وقد نقل في "شرح مسلم" كلام عياض بطوله. الثاني: قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه. وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة. أو متفلسف فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك،

(10/204)


ويسمون ما هذا سبيله الخواص. وقال ابن القيم: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية؟ هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن، فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة. ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرق من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا. وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء. الثالث: هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة مسهل بن حنيف المذكورة كما مضى "ألا بركت عليه" وفي رواية ابن ماجه: "فليدع بالبركة" ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة. وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه: "من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره" . وفي الحديث من الفوائد أيضا: أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء، وأن الإصابة بالعين قد تقتل. وقد اختلف في جريان القصاص بذلك فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا، انتهى. ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا. وقال النووي في "الروضة": ولا دية فيه ولا كفارة. لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة. وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين اهـ. ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه، والفرق بينهما فيه عسر. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم فإنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا في بابه، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة. قال النووي: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه.

(10/205)


37 - باب رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ
5741- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الرُّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ فَقَالَتْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ".

(10/205)


قوله: "باب رقية الحية والعقرب" أي مشروعية ذلك، وأشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب على ما سأذكره. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، وبذلك جزم أبو نعيم حيث أخرج الحديث من طريق محمد بن عبيد بن حسان عنه. قوله: "سليمان الشيباني" هو أبو إسحاق مشهور بكنيته أكثر من اسمه. قوله: "رخص" فيه إشارة إلى أن النهي عن الرقى كان متقدما، وقد بينت ذلك في الباب الأول. قوله: "من كل ذي حمة" بضم المهملة وتخفيف الميم، تقدم بيانها في "باب ذات الجنب" وأن المراد بها ذوات السموم، ووقع في رواية أبي الأحوص عن الشيباني بسنده "رخص في الرقية من الحية والعقرب.

(10/206)


38 - باب رُقْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5742- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ ثَابِتٌ يَا أَبَا حَمْزَةَ اشْتَكَيْتُ فَقَالَ أَنَسٌ أَلاَ أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلَى قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شَافِيَ إِلاَّ أَنْتَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً" .
5743- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً" .
قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُوراً فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ ... نَحْوَهُ.
5744- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْقِي يَقُولُ امْسَحْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ بِيَدِكَ الشِّفَاءُ لاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ أَنْتَ".
5745- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا".
[الحديث 5745 – طرفه في: 5746]
5746- حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا" .
قوله: "باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم" أي التي كان يرقي بها. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، وعبد العزيز هو ابن صهيب، والإسناد بصريون. قوله: "فقال ثابت" هو البناني "يا أبا حمزة" هي كنية أنس. قوله: "اشتكيت" بضم التاء أي مرضت، ووقع في رواية الإسماعيلي: "إني اشتكيت".

(10/206)


قوله: "ألا" بتخفيف اللام و"أرقيك" بفتح الهمزة. قوله: "مذهب الباس" بغير همز للمؤاخاة فإن أصله الهمزة. قوله: "أنت الشافي" يؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين: أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا، والثاني أن يكون له أصل في القرآن وهذا من ذاك، فإن في القرآن {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . قوله: "لا شافي إلا أنت" إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله تعالى وإلا فلا ينجع. قوله: "شفاء" مصدر منصوب بقوله: "اشف" ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ أي هو. قوله: "لا يغادر" بالغين المعجمة أي لا يترك، وقد تقدم بيانه والحكمة فيه في أواخر كتاب المرضى، وقوله: "سقما" بضم ثم سكون، وبفتحتين أيضاء. ويؤخذ من هذا الحديث أن الإضافة في الترجمة للفاعل، وقد ورد ما يدل على أنها للمفعول، وذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: نعم. قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك" وله شاهد عنده بمعناه من حديث عائشة. قوله: "يحيى" هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الأعمش ومسلم هو أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وجوز الكرماني أن يكون مسلم بن عمران لكونه يروي عن مسروق ويروي الأعمش عنه، وهو تجويز عقلي محض يمجه سمع المحدث، على أنني لم أر لمسلم بن عمران البطين رواية عن مسروق وإن كانت ممكنة، وهذا الحديث إنما هو من رواية الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، وقد أخرجه مسلم من رواية جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به، ثم أخرجه من رواية هشيم ومن رواية شعبة ومن رواية يحيى القطان عن الثوري كلهم عن الأعمش قال بإسناد جرير، فوضح أن مسلما المذكور في رواية البخاري هو أبو الضحى، فإنه أخرجه من رواية يحيى القطان، وغايته أن بعض الرواة عن يحيى سماه وبعضهم كناه والله أعلم. قوله: "كان يعوذ بعض أهله" لم أقف على تعيينه. قوله: "يمسح بيده اليمني" أي على الوجع قال الطبري: هو على طريق التفاؤل لزوال ذلك، الوجع. قوله: "واشفه وأنت الشافي" في رواية الكشميهني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل، أو هي هاء السكت. قوله: "لا شفاء" بالمد مبني على الفتح والخبر محذوف والتقدير لنا أو له. قوله: "إلا شفاؤك" بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء. قوله: "قال سفيان" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "حدثت به منصورا" هو ابن المعتمر، وصار بذلك في هذا الحديث إلى مسروق طريقان، وإذا ضم الطريق الذي بعده إليه صار إلى عائشة طريقان، وإذا ضم إلى حديث أنس صار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه طريقان. قوله: "نحوه" تقدم سياقه في أواخر كتاب المرضى مع بيان الاختلاف على الأعمش ومنصور في الواسطة بينهما وبين مسروق، ومن أفرد ومن جمع وتحرير ذلك واضحا. "النضر" هو ابن شميل. قوله: "كان يرقي" بكسر القاف، وهو بمعنى قوله في الرواية التي قبلها "كان يعوذ" ولعل هذا هو السر أيضا في إيراد طريق عروة وإن كان سياق مسروق أتم، لكن عروة صرح بكون ذلك رقية فيوافق حديث أنس في أنها رقية النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "امسح" هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى "أذهب" والمراد الإزالة. قوله: "بيدك الشفاء لا كاشف له" أي للمرض "إلا أنت" وهو بمعنى قوله: "اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت". قوله: "سفيان" هو ابن عيينة كما صرح به في الطريق الثانية، وقدم الأولى لتصريح سفيان بالتحديث، وصدقة شيخه في الثانية هو ابن الفضل المروزي. قوله: "عبد ربه بن سعيد" هو الأنصاري أخو يحيى بن سعيد، هو ثقة، ويحيى أشهر منه وأكثر

(10/207)


حديثا. قوله: "كان يقول للمريض بسم الله" في رواية صدقة "كان يقول في الرقية" وفي رواية مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان زيادة في أوله ولفظه: "كان إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بإصبعه هكذا - ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها - بسم الله". قوله: "تربة أرضنا" خبر مبتدأ محذوف أي هذه تربة، وقوله: "بريقة بعضنا" يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح، قال القرطبي: فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية. ثم قال: وزعم بعض علمائنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها. قال وقال في الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم لا سيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله، وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك. ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها. وقال التوربشتي: كأن المراد بالتربة الإشارة إلى قطرة آدم، والريقة الإشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان الحال أنك اخترعت الأصل من التراب ثم أبدعته منه من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته. وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا. وفيه نظر. قوله: "يشفى سقيمنا" ضبط بالوجهين بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية. "تنبيه": أخرج أبو داود والنسائي ما يفسر به الشخص المرقى، وذلك في حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض فقال: اكشف الباس، رب الناس. ثم أخذ من بطحان فجعله في قدح، ثم نفث عليه، ثم صبه عليه".

بااب النفث في الرقية
...
39 - باب النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ
5747- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ" .
وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لاَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا".

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...