Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 33. و34.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 33. و34.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

33.

مجلد 33.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
--------

5748- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعاً ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ" . قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ.
5749- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَرَاقٍ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" .
قوله: "باب النفث" بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة "في الرقية". في هذه الترجمة إشارة إلى الرد على من كره النفث مطلقا - كالأسود بن يزيد أحد التابعين - تمسكا بقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ، وعلى من كره النفث عند قراءة القرآن خاصة كإبراهيم النخعي، أخرج ذلك ابن أبي شيبة وغيره، فأما الأسود فلا حجة له في ذلك لأن المذموم ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل، ولا يلزم منه ذم النفث مطلقا، ولا سيما بعد ثبوته في الأحاديث الصحيحة، وأما النخعي فالحجة عليه ما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري ثالث أحاديث الباب، فقد قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة وفيها أنه قرأ بفاتحة الكتاب وتفل ولم ينكر ذلك صلى الله عليه وسلم فكان ذلك حجة، وكذا الحديث الثاني فهو واضح من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بيان النفث مرارا، أو من قال إنه لا ريق فيه وتصويب أن فيه ريقا خفيفا. وذكر فيه ثلاثة أحاديث. قوله: "سليمان" هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "الرؤيا من الله" يأتي شرحه مستوفى في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. وقوله: "فلينفث" هو المراد من الحديث المذكور في هذه الترجمة لأنه دل على جدواها. قوله: "وقال أبو سلمة" هو موصول بالإسناد المذكور وقوله: "فإن كنت" في رواية الكشميهني بدون الفاء، وقوله: "أثقل علي من الجبل" أي لما كان يتوقع من

(10/209)


شرها. الحديث الثاني: قوله: "سليمان" هو ابن بلال أيضا، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين" أي يقرؤها وينفث حالة القراءة، وقد تقدم بيان ذلك في الوفاة النبوية. قوله: "ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده" في رواية المفضل بن فضالة عن عقيل "ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات". قوله: "فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به" وهذا مما تفرد به سليمان بن بلال عن يونس، وقد تقدم في الوفاة النبوية من رواية عبد الله بن المبارك عن يونس بلفظ: "فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه" وأخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس فلم يذكرها. قوله: "قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أوى إلى فراشه" وقع نحو ذلك في رواية عقيل عن ابن شهاب عند عبد بن حميد، وفيه إشارة إلى الرد على من زعم أن هذه الرواية شاذة، وأن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا اشتكى كما في رواية مالك وغيره، فدلت هذه الزيادة على أنه كان يفعل ذلك إذا أوى إلى فراشه، وكان يفعله إذا اشتكى شيئا من جسده، فلا منافاة بين الروايتين. وقد تقدم في فضائل القرآن قول من قال إنهما حديثان عن الزهري بسند واحد. حديث أبي سعيد في قصة اللديغ الذي رقاه بفاتحة الكتاب، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة، وتقدمت الإشارة إليه قريبا. ووقع في هذه الرواية: "فجعل يتفل ويقرأ". وقد قدمت أن النفث دون التفل، وإذا جاز التفل جاز النفث بطريق الأولى. وفيها "ما به قلب" بفتح اللام بعدها موحدة. أي ما به ألم يقلب لأجله على الفراش، وقيل أصله من القلاب بضم القاف وهو داء يأخذ البعير فيمسك على قلبه فيموت من يومه.

(10/210)


40 - باب مَسْحِ الرَّاقِي الْوَجَعَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى
5750- حدثني عبد الله بن أبي شيبة حدثنا يحيى عن سفيان عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بعضهم يمسحه بيمينه أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" . فذكرته لمنصور فحدثني عن إبراهيم عن مسروق عن عائشة بنحوه.
قوله: "باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه قريبا، والقائل "فذكرته لمنصور" هو سفيان الثوري كما تقدم التصريح به في "باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم".

(10/210)


41 - باب الْمَرْأَة تَرْقِي الرَّجُلَ
5751- حدثني عبد الله بن محمد الجعفي حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن فأمسح بيد نفسه لبركتها فسألت بن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه".

(10/210)


42 - باب مَنْ لَمْ يَرْقِ
5752- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ تميز عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خبير عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ" .
قوله: "باب من لم يرق" هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيا للفاعل، وبضم أوله وفتح القاف مبنيا للمفعول. قوله: "حصين بن نمير" بنون مصغر هو الواسطي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد تقدم بهذا الإسناد في أحاديث الأنبياء لكن باختصار، وتقدم الحديث بعينه من وجه آخر عن حصين بن عبد الرحمن في "باب من اكتوى" وذكرت من زاد في أوله قصة وأن شرحه سيأتي في كتاب الرقاق، والغرض منه هنا قوله: "هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون" فأما الطيرة فسيأتي ذكرها بعد هذا، وأما الكي فتقدم ذكرها فيه هناك، وأما الرقية فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة: أحدها قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال غيره: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية وما الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه. وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب.
ثانيها قال الداودي وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في "باب من اكتوى"، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء. ثالثها قال الحليمي: يحتمل أن يكون

(10/211)


المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئا، والله أعلم. رابعها أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه. قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء. ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما. قال الطبري: قيل: لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي، ولا من لم يسع في طلب رزق ولا في مداواة ألم، والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: "اعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، والله أعلم.

(10/212)


43 - باب الطِّيَرَةِ
5753- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَالشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ" .
5754- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ" .
[الحديث 5754 – طرفه في: 5755]
قوله: "باب الطيرة" بكسر المهملة وفتح التحتانية وقد تسكن، هي التشاؤم بالشين، وهو مصدر تطير مثل تحير حيرة. قال بعض أهل اللغة لم يجيء من المصادر هكذا غير هاتين، وتعقب بأنه سمع طيبة، وأورد بعضهم التولة وفيه نظر، وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، والبارح بموحدة وآخره مهملة. فالسانح

(10/212)


ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس. وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له، إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر:
الزجر والطير والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال
وقال آخر:
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحا، ولا عن ريثهن قصور
وقال آخر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحص ... ولا زاجرت الطير ما الله صانع
وقال آخر:
تخير طيرة فيها زياد ... لتخبره، وما فيها خبير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير، وهو الثبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا، وباطله كثير
وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين. وقد أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أنس رفعه: "لا طيرة، والطيرة على من تطير " وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد. فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" وهذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في "الشعب" وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه: "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا" وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه: "لن ينال الدرجات العلا من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا" ورجاله ثقات، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا وله شاهد عن عمران بن حصين وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رفعه: "الطيرة شرك، وما منا إلا تطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل " وقوله: "وما منا إلا" من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه، وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، وقوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" إشارة إلى أن من وقع له فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك. وأخرج البيهقي في "الشعب" من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا "من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" . قوله: "لا عدوى، ولا طيرة، والشؤم في ثلاث" قد تقدم شرح هذا الحديث وبيان اختلاف الرواة في سياقه في كتاب الجهاد، والتطير والتشاؤم بمعني واحد، فنفى أولا بطريق العموم كما نفى العدوى، ثم اثبت الشؤم في الثلاثة المذكورة، وقد ذكرت ما قيل في ذلك هناك. وقد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود بلفظ: "وإن كانت الطيرة في شيء " الحديث. قوله: "لا طيرة،

(10/213)


وخيرها الفأل" يأتي شرحه في الباب الذي بعده، وكأنه أشار بذلك إلى أن النفي في الطيرة على ظاهره لكن في الشر، ويستثنى من ذلك ما يقع فيه من الخير كما سأذكره.

(10/214)


44 - باب الْفَأْلِ
5755- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالَ: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ" .
5756- حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة" .
[الحديث 5756 – طرفه في: 5776]
قوله: "باب الفأل" بفاء ثم همزة وقد تسهل، والجمع فئول بالهمزة جزما. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله" أي ابن عتبة بن مسعود، وقد صرح في رواية شعيب التي قبل هذه فيه بالإخبار. قوله: "قال وما الفأل؟" كذا للأكثر بالإفراد، وللكشميهني: "قالوا" كرواية شعيب. قوله: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" وقال في حديث أنس ثاني حديثي الباب: "ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة". وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال: "ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" وقوله: "وخيرها الفأل" قال الكرماني تبعا لغيره: هذه الإضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة، وليس كذلك بل هي إضافة توضيح، ثم قال: وأيضا فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره التيامن، فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤم، بل بعض التيامن مقبول. قلت: وفي جواب الأول دفع في صدر السؤال، وفي الثاني تسليم السؤال ودعوى التخصيص وهو أقرب وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رفعه: "كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة" وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "العين حق، وأصدق الطيرة الفأل" ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى. وقال الطيبي: الضمير المؤنث في قوله: "وخيرها" راجع إلى الطيرة، وقد علم أن الطيرة كلها لا خير فيها، فهو كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} وهو مبني على زعمهم، وهو من إرخاء العنان في المخادعة بأن يجري الكلام على زعم الخصم حتى لا يشمئز عن التفكر فيه، فإذا تفكر فأنصف من نفسه قبل الحق، فقوله: "خيرها الفأل" إطماع للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطيرة خيرا حقيقة، أو هو من نحو قولهم "الصيف أحر من الشتاء" أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها. والحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ. قال الخطابي: وإنما كان ذلك لأن مصدر الفأل عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب، بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلا، وإنما هو تكلف ممن

(10/214)


يتعاطاه. وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال: كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح، فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. وقال أيضا: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت. وقال النووي: الفأل يستعمل فيما يسوء وفيما يسر، وأكثره في السرور. والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تستعمل مجازا في السرور. اهـ. وكأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة. قال ابن بطال: جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه. وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح يا راشد" وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه" وذكر البيهقي في "الشعب" عن الحليمي ما ملخصه: كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، فذكر نحو ما تقدم ثم قال. وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا، لأن أصله الأول. وقال. وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا تيمن، وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاؤم فإن رآه واضعا حمله تيمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله. وقال: "من تكهن أورده عن سفر تطير فليس منا" ونحو ذلك من الأحاديث. وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه اشفق من الشر لأن التجارب قضت بأن صوتا من أصواتها معلوما أو حالا من أحوالها معلومة يردفها مكروه فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له كما كان يقع كثيرا لأهل الجاهلية. والله أعلم. قال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. وقال الطيبي: معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك. وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله. فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم. والله أعلم.

(10/215)


45 - باب لاَ هَامَةَ
5757- حدثنا محمد بن الحكم حدثنا النضر أخبرنا إسرائيل أخبرنا أبو حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" .
قوله: "باب لا هامة" كذا للجميع، وذكر فيه حديث أبي هريرة "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " ثم ترجم بعد سبعة أبواب "باب لا هامة" وذكر فيه الحديث المذكور مطولا وليس فيه: "ولا طيرة" وهذا من توارد ما اتفق له أن يترجم للحديث في موضعين بلفظ واحد، وسأذكر شرح الهامة في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى، ثم ظهر لي أنه أشار بتكرار هذه الترجمة إلى الخلاف في تفسير الهامة كما سيأتي بيانه.

(10/215)


46 - باب الْكِهَانَةِ
5758- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ" .
[الحديث 5758 – أطرافه في: 5759، 5760، 6740، 6904، 6909، 6910]
5759- حدثنا قتيبة عن مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بحجر فطرحت جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة".
5760- وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة. فقال: الذي قضى عليه كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان".
5761- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ" .
5762- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَاناً بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقّاً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ" .
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ "الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ" ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ".
قوله: "باب الكهانة" وقع في ابن بطال هنا "والسحر" وليس هو في نسخ الصحيح فيما وقفت عليه، بل ترجمة السحر في باب مفرد عقب هذه، والكهانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها - ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيها استراق السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن. والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه. وقال في "المحكم": الكاهن القاضي بالغيب. وقال في "الجامع": العرب تسمي كل من أذن بشيء

(10/216)


قبل وقوعه كاهنا. وقال الخطابي: الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم. وهي على أصناف: منها ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد. ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبا، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد. ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه. رابعها ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعا. وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين ولفظهما "من أتى كاهنا" وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - ومن الرواة من سماها حفصة - بلفظ: "من أتى عرافا" وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسند جيد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه: "من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا" واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم فقال فيه: "لم يقبل لهما صلاة أربعين يوما". ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعا بلفظ: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يوما" والأحاديث الأول مع صحتها وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الآتي أشار إلى ذلك القرطبي. والعراف بفتح المهملة وتشديد الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول. ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث: أحدها: حديث أبي هريرة. قوله: "عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وساقه بطوله، كذا قال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر من رواية الليث عنه عن ابن شهاب، وفصل مالك عن ابن شهاب قصة ولي المرأة فجعله من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا كما بينه المصنف في الطريق التي تلي طريق ابن مسافر هذه، وقد روى الليث عن ابن شهاب أصل الحديث بدون الزيادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موصولا كما سيأتي في الديات، وكذا أخرج هناك طريق يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد معا عن أبي هريرة بأصل الحديث دون الزيادة، ويأتي شرح ما يتعلق بالجنين والغرة هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "فقال ولي المرأة" هو حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك ابن النابغة الهذلي، بينه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة معا عن أبي هريرة، وكنية حمل المذكور أبو نضلة، وهو صحابي نزل البصرة. وفي رواية مالك "فقال الذي قضي عليه" أي قضي على من هي منه بسبيل. وفي رواية

(10/217)


الليث عن ابن شهاب المذكورة أن المرأة من بني لحيان، وبنو لحيان حي من هذيل، وجاء تسمية الضرتين فيما أخرج أحمد من طريق عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال: "كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن مالك ابن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة بمسطح" الحديث، لكن قال فيه: "فقال العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا شرب ولا أكل" الحديث، وفي آخره: "أسجع كسجع الجاهلية" ويجمع بينهما بأن كلا من زوج المرأة وهو حمل وأخيها وهو العلاء قال ذلك تواردا معا عليه، لما تقرر عندهما أن الذي يودي هو الذي يخرج حيا، وأما السقط فلا يودي، فأبطل الشرع ذلك وجعل فيه غرة، وسيأتي بيانه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. ووقع في رواية للطبراني أيضا أن الذي قال ذلك عمران بن عويم، فلعلها قصة أخرى. وأم عفيف بمهملة وفاءين وزن عظيم، ووقع في المبهمات للخطيب، وأصله عند أبي داود والنسائي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنها أم غطيف بغين ثم طاء مهملة مصغر، فالله أعلم. قوله: "كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل" في رواية مالك "من لا أكل ولا شرب" والأول أولى لمناسبة السجع. ووقع في رواية الكشميهني في رواية مالك "ما لا" بدل "من لا" وهذا هو الذي في "الموطأ". وقال أبو عثمان بن جني: معني قوله لا أكل أي لم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع. قوله: "فمثل ذلك يطل" للأكثر بضم المثناة التحتانية وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي يهدر، يقال دم فلان هدر إذا ترك الطلب بثأره، وطل الدم بضم الطاء وبفتحها أيضا، وحكي "أطل" ولم يعرفه الأصمعي: ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر "بطل" بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة، قال: وبالوجهين في الموطأ، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان، وأنكره ابن بطال فقال: كذا يقوله أهل الحديث، وإنما هو طل الدم إذا هدر. قلت: وليس لإنكاره معنى بعد ثبوت الرواية، وهو موجه، راجع إلى معنى الرواية الأخرى. قوله: " إنما هذا من إخوان الكهان" أي لمشابهة كلامه كلامهم، زاد مسلم والإسماعيلي من رواية يونس "من أجل سجعه الذي سجع" قال القرطبي: هو من تفسير الراوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة "فقال رجل من عصبة القاتلة يغرم" فذكر نحوه وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الأعراب". والسجع هو تناسب آخر الكلمات لفظا، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفى والجمع أسجاع وأساجيع، قال ابن بطال: فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم، وإنما لم يعاقبه لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين، وقد تمسك به من كره السجع في الكلام، وليس على إطلاقه، بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق، وأما ما يقع عفوا بلا تكلف في الأمور المباحة فجائز، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الدعوات. والحاصل أنه إن جمع الأمرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع: فالمحمود ما جاء عفوا في حق، ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا، والمذموم عكسهما. وفي الحديث من الفوائد أيضا رفع الجناية للحاكم، ووجوب الدية في الجنين ولو خرج ميتا كما سيأتي تقريره في كتاب الديات مع استيفاء فوائده. حديث أبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو، في النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيع. قوله: "عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة" كأن هذا

(10/218)


مما فات الزهري سماعه من عروة فحمله عن ولده عنه، مع كثرة ما عن الزهري عن عروة، وقد وصفه الزهري بسعة العلم، ووقع في رواية معقل بن عبيد الله عند مسلم عن الزهري "أخبرني يحيى بن عروة أنه سمع عروة" وكذا للمصنف في التوحيد من طريق يونس، وفي الأدب من طريق ابن جريج كلاهما عن ابن شهاب، ولم أقف ليحيى بن عروة في البخاري إلا على هذا الحديث، وقد روى بعض هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود عن عروة وتقدم موصولا في بدء الخلق، وكذا هشام بن عروة عن أبيه به. قوله: "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الكشميهني: "سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا هو في رواية يونس، وعند مسلم من رواية معقل مثله ومن رواية معقل مثل الذي قبله، وقد سمي ممن سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه "قال: قلت يا رسول الله، أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، فقال: لا تأتوا الكهان" الحديث. وقال الخطابي هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات، ثم تعرض إلى مناسبة ذكر الشعراء بعد ذكرهم في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}. قوله: "فقال ليس بشيء" في رواية مسلم: "ليسوا بشيء"، وكذا في رواية يونس في التوحيد، وفي نسخة "فقال لهم ليسوا بشيء" أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه، والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه: ما عمل شيئا، قال القرطبي: كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم. قوله: "إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا" في رواية يونس "فإنهم يتحدثون" هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله: "ليسوا بشيء" لأنه فهم أنهم لا يصدقون أصلا فأجابه صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق، وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب. قوله: "تلك الكلمة من الحق" كذا في البخاري بمهملة وقاف أي الكلمة المسموعة التي تقع حقا، ووقع في مسلم: "تلك الكلمة من الجن" قال النووي: كذا في نسخ بلادنا بالجيم والنون، أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن. قلت: التقدير الثاني يوافق رواية البخاري، قال النووي: وقد حكى عياض أنه وقع يعني في مسلم بالحاء والقاف. قوله: "يخطفها الجني" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "يخطفها من الجني" أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الأخذ بسرعة. وفي رواية الكشميهني: "يحفظها" بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والأول هو المعروف والله أعلم. قوله: "فيقرها" بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها، تقول قررت على رأسه دلوا إذا صببته، فكأنه صب في أذنه ذلك الكلام، قال القرطبي: ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه بصوت، يقال قر الطائر إذا صوت انتهى. ووقع في رواية يونس المذكورة "فيقرقرها" أي يرددها، يقال قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها، قال الخطابي: ويقال أيضا قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا، وإذا رجعت في صوتها قيل قرقرت قرقرة وقرقريرة، قال: والمعني أن الجني إذا ألقى الكلمة لوليه تسامع بها الشياطين فتناقلوها كما إذا صوتت الدجاجة فسمعها الدجاج فجاوبتها. وتعقبه القرطبي بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له زمزمة ويرجعه له، فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط، وقد تقدم شيء من ذلك في أواخر الجنائز

(10/219)


في قصة ابن صياد وبيان اختلاف الرواة في قوله: "في قطيفة له فيها زمزمة" وأطلق على الكاهن ولي الجني لكونه يواليه أو عدل عن قوله الكاهن إلى قوله وليه للتعميم في الكاهن وغيره ممن يوالي الجن. قال الخطابي بين صلى الله عليه وسلم أن إصابة الكاهن أحيانا إنما هي لأن الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادرا وخطؤه الغالب، وقوله في رواية يونس "كقرقرة الدجاجة" يعني الطائر المعروف، ودالها مثلثة والأشهر فيها الفتح، ووقع في رواية المستملي: "الزجاجة" بالزاي المضمومة وأنكرها الدار قطني وعدها في التصحيف، لكن وقع في حديث الباب من وجه آخر تقدم في "باب ذكر الملائكة" في كتاب بدء الخلق "فيقرها في أذنه كما تقر القارورة" وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة إذا حلت على شيء أو ألقي فيها شيء. وقال القابسي: المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني إلى الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا. وقال الخطابي: المعنى أنه يطبق به كما يطبق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ فيه منها ما فيها. وأغرب شارح "المصابيح" التوربشتي فقال: الرواية بالزاي أحوط لما ثبت في الرواية الأخرى "كما تقر القارورة" واستعمال قر في ذلك شائع بخلاف ما فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور ولم نجد له شاهدا في كلامهم، فدل على أن الرواية بالدال تصحيف أو غلط من السامع. وتعقبه الطيبي فقال: لا ريب أن قوله: "قر الدجاجة" مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها، وهذا مشاهد، ترى الديك إذا رأى شيئا ينكره يقرقر فتسمعه الدجاج فتجتمع وتقرقر معه، وباب التشبيه واسع لا يفتقر إلى العلاقة، غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل الطير كما قال الله تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فيكون ذكر الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول الترشيح في الاستعارة. قلت: ويؤيده دعوى الدار قطني وهو إمام الفن أن الذي بالزاي تصحيف، وإن كنا ما قبلنا ذلك فلا أقل أن يكون أرجح. قوله: "فيخلطون معها مائة كذبة" في رواية ابن جريج "أكثر من مائة كذبة" وهو دال على أن ذكر المائة للمبالغة لا لتعيين العدد، وقوله كذبة هنا بالفتح وحكي الكسر، وأنكره بعضهم لأنه بمعنى الهيئة والحالة وليس هذا موضعه، وقد أخرج مسلم في حديث آخر أصل توصل الجني إلى الاختطاف فأخرج من حديث ابن عباس "حدثني رجال من الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون إذا رمي مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم، فقال: إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته. ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء الدنيا فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم حتى يصل إلى السماء الدنيا، فيسترق منه الجني، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه وينقصون" وقد تقدم في تفسير سبأ وغيرها بيان كيفيتهم عند استراقهم، وأما ما تقدم في بدء الخلق من وجه آخر عن عروة عن عائشة "أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع" فيحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على السحاب، ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الأرض تسمع منهم الشياطين، أو المراد الملائكة الموكلة بإنزال المطر. قوله: "قال علي قال عبد الرزاق مرسل الكلمة من الحق، ثم بلغني أنه أسنده بعد" علي هذا هو ابن المديني شيخ البخاري فيه، ومراده أن عبد الرزاق كان يرسل هذا القدر من الحديث، ثم أنه بعد ذلك وصله

(10/220)


بذكر عائشة فيه، وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد والإسماعيلي من طريق فياض بن زهير، وأبو نعيم من طريق عباس العنبري ثلاثتهم عن عبد الرزاق موصولا كرواية هشام بن يوسف عن معمر، وفي الحديث بقاء استراق الشياطين السمع، لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية وفيه النهي عن إتيان الكهان قال القرطبي: يجب عل من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
" تنبيه ": إيراد باب الكهانة كتاب الطب لمناسبته لباب السحر لما يجمع بينهما من مرجع كل منهما للشياطين، وإيراد باب السحر في كتاب الطب لمناسبته ذكر الرقى وغيرها من الأدوية المعنوية، فناسب ذكر الأدواء التي تحتاج إلى ذلك، واشتمل كتاب الطب على الإشارة للأدوية الحسية كالحبة السوداء والعسل ثم على الأدوية المعنوية كالرقى بالدعاء والقرآن. ثم ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية المعنوية في دفعها كالسحر، كما ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية الحسية في دفعها كالجذام والله أعلم.

(10/221)


47 - باب السِّحْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وَقَوْلِهِ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} . وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ. تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ
5763- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ اسْتَخْرَجْتَهُ قَالَ قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ

(10/221)


عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرّاً فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ" . تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ "فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ" يُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ وَالْمُشَاطَةُ مِنْ مُشَاطَةِ الْكَتَّانِ.
قوله: "باب السحر" قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان: أحدها: ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئا فقد سحره ومنه إطلاق الشعراء سحر العيون لاستمالتها النفوس، ومنه قول الأطباء: الطبيعة ساحرة ومنه قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث: "إن من البيان لسحرا" وسيأتي قريبا في باب مفرد. الثاني: ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحوها ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وقوله تعالى: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} ومن هناك سموا موسى ساحرا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية كالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس. الثالث: ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . الرابع: ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها بزعمهم. قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب - وهي سرقسطة - فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بعضهم بين الأمرين الأخيرين كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم. قال أبو بكر الرازي في الأحكام له: كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى. ثم السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقى والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور. وتارة بجمع الأمرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ. واختلف في السحر فقيل هو تخييل ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة، قال النووي: والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى. لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال إن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني. فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة. وقال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام

(10/222)


ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده بالتركيب نافعا، وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره. قال المازري: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك. ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة: أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي. ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق. ونقل النووي في زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك. وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر، لأنه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين. وقال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا. ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك. قوله: "وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية" كذا للأكثر وساق في رواية كريمة إلى قوله: {مِنْ خَلاقٍ} وفي هذه الآية بيان أصل السحر الذي يعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الأول لأن قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودا في زمن نوح إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضا فاشيا في قوم فرعون وكل ذلك قبل سليمان. واختلف في المراد بالآية: فقيل: إن سليمان كان جمع كتب السحر والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الأمر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود: هل أدلكم على كنز لا نظير له؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا - وهو متنح عنهم - فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم: إن سليمان كان يضبط الأنس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا، فنزلت هذه الآية. أخرجه الطبري وغيره عن السدي، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولا بمعناه. وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه ولكن قال: إن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته وقالوا: هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس. وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق وزاد أنهم نقشوا خاتما على نقش خاتم سليمان وختموا به الكتاب وكتبوا به الكتاب وكتبوا عنوانه "هذا ما كتب آصف بن برخياء الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم" ثم دفنوه فذكر نحو ما تقدم. وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السدي

(10/223)


ولكن قال: أنهم لما وجدوا الكتب قالوا هذا مما أنزل الله على سليمان فأخفاه منا. وأخرج بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنتها تحت كرسيه ثم أخرجوها بعده فقرؤوها على الناس. وملخص ما ذكر في تفسير هذه الآية أن المحكي عنهم أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين هم أهل الكتاب، إذ تقدم قبل ذلك في الآيات إيضاح ذلك، والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة من قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إلى آخر الآية، و{مَا} في قوله: {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} موصولة على الصواب، وغلط من قال إنها نافية لأن نظم الكلام يأباه، و {تَتْلُوا} لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي وهو استعمال شائع، ومعنى تتلو تتقول، ولذلك عداه بعلي، وقيل معناه تتبع أو تقرأ، ويحتاج إلى تقدير قيل هو تقرأ على زمان ملك سليمان، وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ما نافية جزما وقوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} هذه الواو عاطفة لجملة الاستدراك على ما قبلها، وقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الناس مفعول أول والسحر مفعول ثان والجملة حال من فاعل كفروا، أي كفروا معلمين، وقيل هي بدل من كفروا، وقيل استئنافية، وهذا على إعادة ضمير يعلمون على الشياطين، ويحتمل عوده على الذين اتبعوا فيكون حالا من فاعل اتبعوا أو استئنافا، وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ} ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر، والتقدير يعلمون الناس السحر، والمنزل على الملكين، وقيل الجر عطفا على ملك سليمان أي تقولا على ملك سليمان وعلى ما أنزل، قيل بل هي نافية عطفا، على {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} والمعنى ولم ينزل على الملكين إباحة السحر. وهذان الإعرابان ينبنيا على ما جاء في تفسير الآية عن البعض، والجمهور على خلافه وأنها موصولة، ورد الزجاج على الأخفش دعواه أنها نافية وقال: الذي جاء في الحديث والتفسير أولى. وقوله: {بِبَابِلَ} متعلق بما أنزل أي في بابل، والجمهور على فتح لام الملكين، وقرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين وجرا بالفتحة، أو عطف بيان، وقيل بل هما بدل من الناس وهو بعيد، وقيل من الشياطين على أن هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن وهو ضعيف، وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذ بسكون العين من الإعلام بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يعلمانهم به وينهيانهم عنه، والأول أشهر، وقد قال علي الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم طلب، وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا، قال النووي: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر. وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق. قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين اهـ. وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها. وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره إما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي

(10/224)


حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به. وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور، وسيأتي مزيد لذلك في "باب هل يستخرج السحر" قريبا والله أعلم. وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة.وفي إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه. وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرا مجاز كإطلاق السحر على القول البليغ، وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الأرض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم. قوله: "وقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} في الآية نفي الفلاح عن الساحر، وليست فيه دلالة على كفر الساحر مطلقا، وإن كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن ونفيه عن الكافر، لكن ليس فيه ما ينفي نفي الفلاح عن الفاسق وكذا العاصي. قوله: "وقوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ هذا يخاطب به كفار قريش يستبعدون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله لكونه بشرا من البشر، فقال قائلهم منكرا على من اتبعه: أفتأتون السحر، أي أفتتبعونه حتى تصيروا كمن اتبع السحر وهو يعلم أنه سحر. قوله: "وقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} هذه الآية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل، ولا حجة له بها لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل، قال أبو بكر الرازي في "الأحكام": أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمي الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة. قوله: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} والنفاثات السواحر" هو تفسير الحسن البصري أخرجه الطبري بسند صحيح، وذكره أبو عبيدة أيضا في " المجاز" قال: النفاثات السواحر ينفثن. وأخرج الطبري أيضا عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنه النفث في الرقية، وقد تقدم البحث في ذلك في "باب الرقية". وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في "الدلائل" بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس "أن عليا وعمارا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة" فذكر نحوه. قوله: "تسحرون: تعمون" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وضبط أيضا بسكون العين

(10/225)


قال أبو عبيدة في كتاب "المجاز" في قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه؟ قال: ونراه من قوله سحرت أعيننا عنه فلم نبصره. وأخرج(1). في قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي تخدعون أو تصرفون عن التوحيد والطاعة. قلت: وفي هذه الآية إشارة إلى الصنف الأول من السحر الذي قدمته. وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه كما يقع من المسحور، والله أعلم. قوله: "حدثنا إبراهيم بن موسى" هو الرازي. وفي رواية أبي ذر "حدثني" بالإفراد، وهشام هو ابن عروة بن الزبير. قوله: "عن أبيه" وقع في رواية يحيى القطان عن هشام "حدثني أبي" وقد تقدمت في الجزية، وسيأتي في رواية ابن عيينة عن ابن جريج "حدثني آل عروة" ووقع في رواية الحميدي عن سفيان عن ابن جريج "حدثني بعض آل عروة عن عروة" وظاهره أن غير هشام أيضا حدث به عن عروة، وقد رواه غير عروة عن عائشة كما سأبينه. وجاء أيضا من حديث ابن عباس وزيد بن أرقم وغيرهما. قوله: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق" بزاي قبل الراء مصغر. قوله: "يقال له لبيد" بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة "ابن الأعصم" بوزن أحمر بمهملتين، ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق" ووقع في رواية ابن عيينة الآتية قريبا "رجل من بني زريق حليف اليهود وكان منافقا" ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره. وقال ابن الجوزي هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقا وهو واضح، وقد حكى عياض في "الشفاء" أنه كان أسلم، ويحتمل أن يكون قيل له يهودي لكونه كان من حلفائهم لا أنه كان على دينهم. وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وإخاء وود، فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرءوا منهم، وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر: أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال: "لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم - وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا - فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه. فجعلوا له ثلاثة دنانير" ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: "فأقام أربعين ليلة" وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد "ستة أشهر" ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يوما من استحكامه. وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به في "جامع معمر" عن الزهري أنه لبث ستة أشهر، كذا قال، وقد وجدناه موصولا بإسناد الصحيح فهو المعتمد. قوله: "حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله" قال المازري: أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه
ـــــــ
(1) بياض بالأصل.

(10/226)


عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض الأمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة. قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" وفي رواية الحميدي "أنه يأتي أهله ولا يأتيهم" قال الداودي "يرى" بضم أوله أي يظن. وقال ابن التين ضبطت "يرى" بفتح أوله. قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن. وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق "سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره" وعنده في مرسل سعيد بن المسيب "حتى كاد ينكر بصره" قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد "فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيا فسيخبر، إلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله" قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح. وقد قال بعض العلماء. لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك. وإنما يكون من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى "حتى كاد ينكر بصره" أي صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين. واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: "فأما أنا فقد شفاني الله" وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل "فكان يدور ولا يدري ما وجعه" وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد "مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان" الحديث. قوله: "حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة" شك من الراوي، وأظنه من البخاري لأنه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق فقال: "حتى كان ذات يوم" ولم يشك، ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في مسنده عنه على الشك، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم، فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارة بالجزم وتارة بالشك، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاما بإسناد واحد بلفظين. ووقع في رواية أبي أسامة الآتية قريبا "ذات يوم" بغير شك "وذات" بالنصب ويجوز الرفع، ثم قيل إنها مقحمة، وقيل بل هي من إضافة الشيء

(10/227)


لنفسه على رأي من يجيزه. قوله: "وهو عندي لكنه دعا ودعا" كذا وقع، وفي الرواية الماضية في بدء الخلق "حتى كان ذات يوم دعا ودعا" وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث. قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها "عندي" أي لم يكن مشتغلا بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل، أي كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث أنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم. ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: "فدعا، ثم دعا، ثم دعا" وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثا. وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد "فرأيته يدعو". قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره الالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك. قلت: سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال. قوله: "أشعرت" أي علمت؟ وهي رواية ابن عيينة كما في الباب الذي بعده. قوله: "أفتاني فيما استفتيته" في رواية الحميدي "أفتاني في أمر استفتيته فيه" أي أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب والمجيب مفت، أو المعنى أجابني بما سألته عنه، لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر. ووقع في رواية عمرة عن عائشة "إن الله أنبأني بمرضي" أي أخبرني. قوله: "أتاني رجلان" وقع في رواية أبي أسامة "قلت: وما ذاك؟ قال: أتاني رجلان" ووقع في رواية معمر عند أحمد ومرجأ بن رجاء عند الطبراني كلاهما عن هشام "أتاني ملكان" وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة جبريل وميكائيل، وكنت ذكرت في المقدمة ذلك احتمالا. قوله: "فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي" لم يقع لي أيهما قعد عند رأسه، لكنني أظنه جبريل لخصوصيته به عليهما السلام. ثم وجدت في "السيرة للدمياطي" الجزم بأنه جبريل قال: لأنه أفضل، ثم وجدت في حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم وعبد بن حميد "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا" فدل مجموع الطرق على أن المسئول هو جبريل والسائل ميكائيل. قوله: "فقال أحدهما لصاحبه" في رواية ابن عيينة الآتية بعد باب "فقال الذي عند رأسي للآخر" وفي رواية الحميدي "فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي" وكأنها أصوب، وكذا هو في حديث ابن عباس عند البيهقي. ووقع بالشك في رواية ابن نمير عند مسلم. قوله: "ما وجع الرجل؟" كذا للأكثر. وفي رواية ابن عيينة "ما بال الرجل؟" وفي حديث ابن عباس عند البيهقي "ما ترى" وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، إذ لو جاءا إليه في اليقظة لخاطباه وسألاه. ويحتمل أن يكون كان بصفة النائم وهو يقظان، فتخاطبا وهو يسمع. وأطلق في رواية عمرة عن عائشة أنه كان نائما، وكذا في رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي: "فانتبه من نومه ذات يوم" وهو محمول على ما ذكرت، وعلى تقدير حملها على الحقيقة فرؤيا الأنبياء وحي. ووقع في حديث ابن عباس عند سعد بسند ضعيف جدا "فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان". قوله: "فقال: مطبوب" أي مسحور، يقال طب الرجل بالضم إذا سحر، يقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم. وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء ويقال له طب. وأخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بقرن حين طب"

(10/228)


قال أبو عبيد يعني سحر. قال ابن القيم: بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أولا على أنه مرض، وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبا، فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه، قال: ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع لأنه إذا هيج الأخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعا في ذلك. وقال القرطبي: إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له، فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم. قوله: "في مشط ومشاطة" أما المشط فهو بضم الميم، ويجوز كسرها أثبته أبو عبيد وأنكره أبو زيد، وبالسكون فيهما، وقد يضم ثانيه مع ضم أوله فقط وهو الآلة المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية؛ وهذا هو المشهور. ويطلق المشط بالاشتراك على أشياء أخرى: منها العظم العريض في الكتف، وسلاميات ظهر القدم، ونبت صغير يقال له مشط الذنب. قال القرطبي: يحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أحد هذه الأربع. قلت: وفاته آلة لها أسنان وفيها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الإناة، قال ابن سيده في "المحكم": إنها تسمى المشط. والمشط أيضا سمة من سمات البعير تكون في العين الفخذ، ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول، فقد وقع في رواية عمرة عن عائشة "فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مراطة رأسه" وفي حديث ابن عباس "من شعر رأسه ومن أسنان مشطه" وفي مرسل عمر بن الحكم "فعمد إلى مشط وما مشط من الرأس من شعر فعقد بذلك عقدا". قوله: "ومشاطة" سيأتي بيان الاختلاف هل هي بالطاء أو القاف في آخر الكلام على هذا الحديث حيث بينه المصنف. قوله: "وجف طلع نخلة ذكر" قال عياض: وقع للجرجاني - يعني في البخاري - والعذري - يعني في مسلم - بالفاء. ولغيرهما بالموحدة. قلت: أما رواية عيسى بن يونس هنا فوقع للكشميهني بالفاء ولغيره بالموحدة، وأما روايته في بدء الخلق فالجميع بالفاء، وكذا في رواية ابن عيينة للجميع، وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحدة، وللكشميهني بالفاء، قال القرطبي: روايتنا - يعني في مسلم - بالفاء. وقال النووي: في أكثر نسخ بلادنا بالباء يعني في مسلم، وفي بعضها بالفاء، وهما بمعني واحد وهو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده بالذكر في قوله: "طلعة ذكر" وهو بالإضافة انتهى. ووقع في روايتنا هنا بالتنوين فيهما على أن لفظ: "ذكر" صفة لجف، وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع وهو للغشاء الذي يكون عليه، وبالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري قاله شمر، قال: ويقال أيضا للداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها جف، وقيل هو من القطع يعني ما قطع من قشورها. وقال أبو عمرو الشيباني: الجف بالفاء شيء ينقر من جذوع النخل. قوله: "قال وأين هو؟ قال: هو في بئر ذروان" زاد ابن عيينة وغيره: "تحت راعوفة" وسيأتي شرحها بعد باب، وذروان بفتح المعجمة وسكون الراء، وحكى ابن التين فتحها وأنه قرأه كذلك قال: ولكنه بالسكون أشبه. وفي رواية ابن نمير عند مسلم: "في بئر ذي أروان" ويأتي في رواية أبي ضمرة في الدعوات مثله، وفي نسخة الصغاني لكن بغير لفظ بئر، ولغيره: "في ذروان" وذروان بئر في بني زريق، فعلى هذا فقوله: "بئر ذروان" من إضافة الشيء لنفسه، ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل "بئر ذي أروان"

(10/229)


ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت "ذروان" ويؤيده أن عبيد البكري صوب أن اسم البئر "أروان" بالهمز وأن من قال: "ذروان" أخطأ. وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجهته. ووقع في رواية أحمد عن وهيب وكذا في روايته عن ابن نمير "بئر أروان" كما قال البكري، فكأن رواية الأصيلي كانت مثلها فسقطت منها الراء، ووقع عند الأصيلي فيما حكاه عياض "في بئر ذي أوان" بغير راء قال عياض: هو وهم، فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار. قوله: "فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه" وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد "فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر" وعنده في مرسل عمر بن الحكم "فدعا جبير بن أياس الزرقي وهو ممن شهد على موضعه في بئر ذروان فاستخرجه" قال: ويقال الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه، وعند ابن سعد أيضا" أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله ألا يهور البئر" فيمكن تفسير من أبهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولا ثم توجه فشاهدها بنفسه. قوله: "فجاء، فقال: يا عائشة" في رواية وهيب "فلما رجع، قال: يا عائشة" ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه: "فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال" وفي رواية عمرة عن عائشة "فنزل رجل فاستخرجه" وفيه من الزيادة أنه "وجد في الطلعة تمثالا من شمع، تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فيه أبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما ثم يجد بعدها راحة" وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه، وفي حديث زيد بن أرقم الذي أشرت إليه عند عبد بن حميد وغيره: "فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين" وفيه: "فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال" وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غفرة معضلا "فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "كأن ماءها" في رواية ابن نمير "والله لكأن ماءها" أي البئر "نقاعة الحناء" بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف وهو بالمد أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء. قال ابن التين: يعني أحمر. وقال الداودي: المراد الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء. قلت: ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد وصححه الحاكم "فوجد الماء وقد اخضر" وهذا يقوي قول الداودي. قال القرطبي: كأن ماء البئر قد تغير إما لرداءته بطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التي ألقيت في البئر. قلت: ويرد الأول أن عند ابن سعد في مرسل عبد الرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هور البئر المذكورة وكان يستعذب منها وحفر بئرا أخرى فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها. قوله: "وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين" كذا هنا، وفي الرواية التي في بدء الخلق "نخلها كأنه رءوس الشياطين" وفي رواية ابن عيينة وأكثر الرواة عن هشام "كأن نخلها" بغير ذكر "رءوس" أولا، والتشبيه إنما وقع على رءوس النخل فلذلك أفصح به في رواية الباب وهو مقدر في غيرها. ووقع في رواية عمرة عن عائشة "فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين" وقد وقع تشبيه طلع شجرة الزقوم في القرآن برءوس الشياطين، قال الفراء وغيره: يحتمل أن يكون شبه طلعها في قبحه برءوس الشياطين: لأنها موصوفة بالقبح، وقد تقرر في اللسان أن من قال: فلان شيطان أراد أنه خبيث أو قبيح، وإذا قبحوا مذكرا قالوا شيطان، أو مؤنثا قالوا غول، ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي بعض الحيات شيطانا وهو ثعبان قبيح الوجه،

(10/230)


ويحتمل أن يكون المراد نبات قبيح قيل إنه يوجد باليمن. قوله: "قلت يا رسول الله أفلا استخرجته" في رواية أبي أسامة "فقال: لا" ووقع في رواية ابن عيينة أنه استخرجه، وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب. قوله: " فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا" في رواية الكشميهني: "سوءا" ووقع في رواية أبي أسامة "أن أثور" بفتح المثلثة وتشديد الواو وهما بمعني. والمراد بالناس التعميم في الموجودين قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك؛ وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة. ووقع في رواية ابن نمير "على أمتي" وهو قابل أيضا للتعميم، لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة على ما هو أعم، وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد بن الأعصم لأنه كان منافقا فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يثير عليه شرا لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضا في رواية ابن عيينة "وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرا" نعم وقع في حديث عمرة عن عائشة "فقيل يا رسول الله لو قتلته، قال: ما وراءه من عذاب الله أشد" وفي رواية عمرة "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف فعفا عنه" وفي حديث زيد بن أرقم "فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئا مما صنع به ولا رآه في وجهه" وفي مرسل عمر بن الحكم "فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير" وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله. وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله، ومن ثم حكى عياض في "الشفاء" قولين: هل قتل، أم لم يقتل؟ وقال القرطبي لا حجة على مالك من هذه القصة، لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" . قوله: "فأمر بها" أي بالبئر "فدفنت" وهكذا وقع في رواية ابن نمير وغيره عن هشام، وأورده مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عقب رواية ابن نمير وقال: "لم يقل أبو أسامة في روايته فأمر بها فدفنت". قلت: وكأن شيخه لم يذكرها حين حدثه، وإلا فقد أوردها البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة، كما في الباب بعده. وقال في آخره: "فأمر بها فدفنت" وقد تقدم أن في مرسل عبد الرحمن بن كعب "أن الحارث بن قيس هورها". قوله: "تابعه أبو أسامة" هو حماد بن أسامة، وتأتي روايته موصولة بعد بابين. قوله: "وأبو ضمرة" هو أنس بن عياض، وستأتي روايته موصولة في كتاب الدعوات. قوله: "وابن أبي الزناد" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، ولم أعرف من وصلها بعد. قوله: "وقال الليث وابن عيينة عن هشام في مشط ومشاطة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ومشاقة" وهو الصواب وإلا لاتحدت الروايات، ورواية الليث تقدم ذكرها في بدء الخلق، ورواية ابن عيينة تأتي موصولة بعد باب. وذكر المزي في "الأطراف" تبعا لخلف أن البخاري أخرجه في الطب عن الحميدي وعن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة، وطريق الحميدي ما هي في الطب في شيء من النسخ التي وقفت عليها، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الحميدي وقال بعده "أخرجه البخاري عن عبيد الله بن محمد" لم يزد على ذلك، وكذا لم يذكر أبو مسعود في أطرافه الحميدي، والله أعلم. قوله: "ويقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط" هذا لا اختلاف فيه بين أهل اللغة، قال ابن قتيبة: المشاطة: ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط، وكذا من اللحية. قوله: "والمشاطة من مشاطة الكتان" كذا لأبي

(10/231)


ذر كأن المراد أن اللفظ مشترك بين الشعر إذا مشط وبين الكتان إذا سرح، ووقع في رواية غير أبي ذر "والمشاقة" وهو أشبه، وقيل: المشاقة هي المشاطة بعينها، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج، والله أعلم.

(10/232)


48 - باب الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ
5764- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ".
قوله: "باب الشرك والسحر من الموبقات" أي المهلكات. قوله: " اجتنبوا الموبقات: الشرك بالله والسحر" هكذا أورد الحديث مختصرا وحذف لفظ العدد، وقد تقدم في كتاب الوصايا بلفظ: "اجتنبوا السبع الموبقات" وساق الحديث بتمامه، ويجوز نصب الشرك بدلا من السبع، ويجوز الرفع على الاستئناف فيكون خبر مبتدأ محذوف، والنكتة في اقتصاره على اثنتين من السبع هنا الرمز إلى تأكيد أمر السحر، فظن بعض الناس أن هذا القدر هو جملة الحديث، فقال: ذكر الموبقات وهي صيغة جمع وفسرها باثنتين فقط، وهو من قبيل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فاقتصر على اثنتين فقط، وهذا على أحد الأقوال في الآية، ولكن ليس الحديث كذلك فإنه في الأصل سبعة حذف البخاري منها خمسة وليس شأن الآية كذلك. وقال ابن مالك: تضمن هذا الحديث حذف المعطوف للعلم به، فإن تقدير اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر وأخواتهما وجاز الحذف لأن الموبقات سبع، وقد ثبتت في حديث آخر، واقتصر في هذا الحديث على ثنتين منها تنبيها على أنهما أحق بالاجتناب، ويجوز رفع الشرك والسحر على تقدير "منهن". قلت: وظاهر كلامه يقتضي أن الحديث ورد هكذا تارة وتارة ورد بتمامه، وليس كذلك، وإنما الذي اختصره البخاري نفسه كعادته في جواز الاقتصار على بعض الحديث، وقد أخرجه المصنف في كتاب الوصايا في "باب قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عن عبد العزيز بن عبد الله شيخه في هذا الحديث بهذا الإسناد، وساقها سبعا فذكر بعد السحر وقتل النفس الخ، وأعاده في أواخر كتاب المحاربين بهذا الإسناد بعينه بتمامه، وأغفل المزي في "الأطراف" ذكر هذا الموضع في ترجمة سالم أبي الغيث عن أبي هريرة.

(10/232)


49 - باب هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ
وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أَوْ يُؤَخَّذُ عَنْ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلاَحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ.
5765- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ فَسَأَلْتُ هِشَاماً عَنْهُ فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ". قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ

(10/232)


50 - باب السِّحْرِ
5766- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُحِرَ النَّبِيُّ

(10/235)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ جَاءَنِي رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ لاَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرّاً وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ" .
قوله: "باب السحر" كذا وقع هنا للكثير، وسقط لبعضهم، وعليه جرى ابن بطال والإسماعيلي وغيرهما، وهو الصواب لأن الترجمة قد تقدمت بعينها قبل ببابين، ولا يعهد ذلك للبخاري إلا نادرا عند بعض دون بعض. حديث عائشة من رواية أبي أسامة فاقتصر الكثير منه على بعضه من أوله إلى قوله: "يفعل الشيء وما فعله" وفي رواية الكشميهني: "أنه فعل الشيء وما فعله" ووقع سياق الحديث بكماله في رواية الكشميهني والمستملي، وكذا صنع النسفي وزاد في آخره طريق يحيى القطان عن هشام إلى قوله: "صنع شيئا ولم يصنعه" وقد تقدم سندا ومتنا لغيره في كتاب الجزية. وأغفل المزي في "الأطراف" ذكرها هنا، وذكر هنا رواية الحميدي عن سفيان ولم أرها ولا ذكرها أبو مسعود في أطرافه، واستدل بهذا الحديث على أن الساحر لا يقتل حدا إذا كان له عهد، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث جندب رفعه قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" ففي سنده ضعف، فلو ثبت لخص منه من له عهد، وتقدم في الجزية من رواية بجالة "أن عمر كتب إليهم أن اقتلوا كل ساحر وساحرة" وزاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار في روايته عن بجالة "فقتلنا ثلاث سواحر" أخرج البخاري أصل الحديث دون قصة قتل السواحر، قال ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري إلا أن يقتل بسحره فيقتل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك إن أدخل بسحره ضررا على مسلم لم يعاهد عليه نقض العهد بذلك فيحل قتله، وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفائه من الأنصار، وهو من نمط ما راعاه من ترك قتل المنافقين، سواء كان لبيد يهوديا أو منافقا على ما مضى من الاختلاف فيه. قال: وعند مالك أن حكم الساحر حكم الزنديق فلا تقبل توبته، ويقتل حدا إذا ثبت عليه ذلك، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: لا يقتل إلا إن اعترف بسحره فيقتل به، فإن اعترف أن سحره قد يقتل وقد لا يقتل وأنه سحره وأنه مات لم يجب عليه القصاص ووجبت الدية في ماله لا على عاقلته، ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة، وادعى أبو بكر الرازي في "الأحكام" أن الشافعي تفرد بقوله إن الساحر يقتل قصاصا إذا اعترف أنه قتله بسحره، والله أعلم. قال النووي: إن كان السحر قول أو فعل يقتضي الكفر كفر الساحر وتقبل توبته إذا تاب عندنا، وإذا لم يكن في سحره ما يقتضي الكفر عزر واستتيب.

(10/236)


باب إن من البيان لسحرا
...
51 - باب إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْراً
5767- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلاَنِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْراً أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ" .
قوله: "باب إن من البيان سحرا" في رواية الكشميهني والأصيلي: "السحر". قوله: "قدم رجلان" لم أقف على تسميتهما صريحا، وقد زعم جماعة أنهما الزبرقان بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وبالقاف واسمه الحصين ولقب الزبرقان لحسنه، والزبرقان من أسماء القمر، وهو ابن بدر بن امرئ القيس بن خلف، وعمرو بن الأهتم واسم الأهتم سنان بن سمي يجتمع مع الزبرقان في كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهما تميميان، قدما في وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة، واستندوا قي تعيينهما إلى ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" وغيره من طريق مقسم عن ابن عباس قال: "جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم، ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وآخذ منهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أذنيه. فقال الزبرقان والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟ والله يا رسول الله إنه لئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة. والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحرا" . وأخرجه الطبراني من حديث أبي بكرة قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقدم عليه وفد بني تميم عليهم قيس بن عاصم والزبرقان وعمرو بن الأهتم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: "ما تقول في الزبرقان؟" فذكر نحوه وهذا لا يلزم منه أن يكون الزبرقان وعمرو هما المراد بحديث ابن عمر، فإن المتكلم إنما هو عمرو بن الأهتم وحده، وكان كلامه في مراجعته الزبرقان، فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلا على طريق التجوز. قوله: "من المشرق" أي من جهة المشرق، وكانت سكنى بني تميم من جهة العراق وهي في شرقي المدينة. قوله: "فخطبا، فعجب الناس لبيانهما" قال الخطابي: البيان اثنان: أحدهما: ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر: ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب وغلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره. وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم. قال: فعلى هذا فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم. وتعقب بأنه لا مانع من تسمية الآخر سحرا، لأن السحر يطلق على الاستمالة كما تقدم تقريره في أول باب السحر، وقد حمل بعضهم الحديث على المدح والحث على تحسين الكلام وتحبير الألفاظ، وهذا واضح إن صح أن الحديث ورد في قصة عمرو بن الأهتم، وحمله بعضهم على الذم لمن تصنع في الكلام وتكلف لتحسينه وصرف الشيء عن ظاهره، فشبه بالسحر الذي هو تخييل لغير حقيقة، وإلى هذا أشار مالك حيث أدخل الحديث في "الموطأ" في "باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله" وتقدم في "باب الخطبة" من كتاب النكاح في الكلام على حديث الباب من قول صعصعة بن صوحان في تفسير هذا

(10/237)


الحديث ما يؤيد ذلك، وهو أن المراد به الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق فيسحر الناس ببيانه فيذهب بالحق، وحمل الحديث على هذا صحيح، لكن لا يمنع حمله على المعني الآخر إذا كان في تزيين الحق، وبهذا جزم ابن العربي وغيره من فضلاء المالكية. وقال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا أن هذا الحديث ليس ذما للبيان كله ولا مدحا لقوله من البيان، فأتى بلفظة "من" التي للتبعيض قال: وكيف يذم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} انتهى. والذي يظهر أن المراد بالبيان في الآية المعنى الأول الذي نبه عليه الخطابي، لا خصوص ما نحن فيه. وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني. نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها. والله أعلم
قد أتى بها، وهو مثل تغدى وتعشى إذا وقع

(10/238)


باب الدواء بالعجوة من السحر
...
52 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ
5768- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ أَخْبَرَنَا هَاشِمٌ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ" . وَقَالَ غَيْرُهُ: "سَبْعَ تَمَرَاتٍ" .
5769- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ سَمِعْتُ سَعْداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ" .
قوله: "باب الدواء بالعجوة للسحر" العجوة ضرب من أجود تمر المدينة وألينه. وقال الداودي: هو من وسط التمر. وقال ابن الأثير: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالمدينة. وذكر هذا الأخير القزاز. قوله: "حدثنا علي" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، ولا ذكره أبو علي الغساني، لكن جزم أبو نعيم في المستخرج بأنه علي بن عبد الله ابن المديني، وبذلك جزم المزي في "الأطراف" وجزم الكرماني بأنه علي بن سلمة اللبقي وما عرفت سلفه فيه. قوله: "حدثنا مروان" هو ابن معاوية الفزاري، جزم به أبو نعيم، وأخرجه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن مروان الفزاري. قوله: "هاشم" هو ابن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعامر بن سعد هو ابن عم أبيه، ووقع في رواية أبي أسامة في الطريق الثانية في الباب: "سمعت عامرا سمعت سعدا" ويأتي بعد قليل من وجه آخر "سمعت عامر بن سعد سمعت أبي" وهو سعد بن أبي وقاص. قوله: "من اصطبح" في رواية أبي أسامة "من تصبح" وكذا في رواية جمعة عن مروان الماضية في الأطعمة، وكذا لمسلم عن ابن عمر وكلاهما بمعنى التناول صباحا، وأصل الصبوح والاصطباح تناول الشراب صبحا، ثم استعمل في الأكل، ومقابله الغبوق والاغتباق بالغين المعجمة؛ وقد يستعمل في مطلق الغذاء أعم من الشرب والأكل، وقد يستعمل في أعم من ذلك كما قال الشاعر: صبحنا الخزرجية مرهفات وتصبح مطاوع صبحته بكذا إذا أتيته به صباحا، فكأن الذي يتناول العجوة صباحا قد أتى بها، وهو مثل تغدى وتعشى إذا وقع

(10/238)


ذلك في وقت الغداء أو العشاء. قوله: "كل يوم تمرات عجوة" كذا أطلق في هذه الرواية، ووقع مقيدا في غيرها، ففي رواية جمعة وابن أبي عمر سبع تمرات، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية دحيم عن مروان، وكذا هو في رواية أبي أسامة في الباب، ووقع مقيدا بالعجوة في رواية أبي ضمرة أنس بن عياض عن هاشم بن هاشم عند الإسماعيلي، وكذا في رواية أبي أسامة، وزاد أبو ضمرة في روايته التقييد بالمكان أيضا ولفظه: "من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية" والعالية القرى التي في الجهة العالية من المدينة وهي جهة نجد، وقد تقدم لها ذكر في المواقيت من كتاب الصلاة، وفيه بيان مقدار ما بينها وبين المدينة. وللزيادة شاهد عند مسلم من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة بلفظ: "في عجوة العالية شفاء في أول البكرة" ووقع لمسلم أيضا من طريق أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن عامر بن سعد بلفظ: "من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح" وأراد لابتي المدينة وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها. قوله: "لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل" السم معروف وهو مثلث السين، والسحر تقدم تحرير القول فيه قريبا؛ وقوله: "ذلك اليوم" ظرف وهو معمول ليضره، أو صفة لسحر. وقوله: "إلى الليل" فيه تقييد الشفاء المطلق في رواية ابن أبي مليكة حيث قال: "شفاء أول البكرة في أو ترياق" وتردده في ترياق شك من الراوي، والبكرة بضم الموحدة وسكون الكاف يوافق ذكر الصباح في حديث سعد، والشفاء أشمل من الترياق يناسب ذكر السم، والذي وقع في حديث سعد شيئان السحر والسم، فمعه زيادة علم. وقد أخرج النسائي من حديث جابر رفعه: "العجوة من الجنة، وهي شفاء من السم" وهذا يوافق رواية ابن أبي مليكة. والترياق بكسر المثناة وقد تضم وقد تبدل المثناة دالا أو طاء بالإهمال فيهما، وهو دواء مركب معروف يعالج به المسموم، فأطلق على العجوة اسم الترياق تشبيها لها به، وأما الغاية في قوله: "إلى الليل" فمفهومه أن السر الذي في العجوة من دفع ضرر السحر والسم يرتفع إذا دخل الليل في حق من تناوله من أول النهار، ويستفاد منه إطلاق اليوم على ما بين طلوع الفجر أو الشمس إلى غروب الشمس، ولا يستلزم دخول الليل، ولم أقف في شيء من الطرق على حكم من تناول ذلك في أول الليل هل يكون كمن تناوله أول النهار حتى يندفع عنه ضرر السم والسحر إلى الصباح، والذي يظهر خصوصية ذلك بالتناول أول النهار لأنه حينئذ يكون الغالب أن تناوله يقع على الريق، فيحتمل أن يلحق به من تناول الليل على الريق كالصائم، وظاهر الإطلاق أيضا المواظبة على ذلك. وقد وقع مقيدا فيما أخرجه الطبري من رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها "كانت تأمر بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات" وأخرجه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام مرفوعا، وذكر ابن عدي أنه تفرد به، ولعله أراد تفرده برفعه، وهو من رجال البخاري لكن في المتابعات. قوله: "وقال غيره سبع تمرات" وقع في نسخة الصغاني "يعني غير حديث علي" انتهى، والغير كأنه أراد به جمعة، وقد تقدم في الأطعمة عنه أو غيره ممن نبهت عليه ممن رواه كذلك. قوله في رواية أبي أسامة "سبع تمرات عجوة" في رواية الكشميهني: "بسبع تمرات" بزيادة الموحدة في أوله، ويجوز في تمرات عجوة الإضافة فتخفض كما تقول ثياب خز، ويجوز التنوين على أنه عطف بيان أو صفة لسبع أو تمرات ويجوز النصب منونا على تقدير فعل أو على التمييز. قال الخطابي: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصا بالمدينة لا يعرف الآن. وقال بعض شراح "المصابيح" نحوه وإنه ذلك لخاصية فيه، قال: ويحتمل أن يكون ذلك خاصا بزمانه صلى الله عليه وسلم،

(10/239)


وهذا يبعده وصف عائشة لذلك بعده صلى الله عليه وسلم. وقال بعض شراح "المشارق" أما تخصيص تمر المدينة بذلك فواضح من ألفاظ المتن. وأما تخصيص زمانه بذلك فبعيد، وأما خصوصية السبع فالظاهر أنه لسر فيها، وإلا فيستحب أن يكون ذلك وترا. وقال المازري: هذا مما لا يعقل معناه في طريق علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة أو لأكثرهم، إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا غالبا، وإن وجد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال. وقال عياض: تخصيصه ذلك بعجوة العالية وبما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خصوصا لها، كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد دون ذلك الجنس في غيره، لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء. قال: وأما تخصيص هذا العدد فلجمعه بين الإفراد والإشفاع، لأنه زاد على نصف العشرة، وفيه أشفاع ثلاثة وأوتار أربعة، وهي من نمط غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا وقوله تعالى: {سَبْعَ سَنَابِلَ} وكما أن السبعين مبالغة في كثرة العشرات والسبعمائة مبالغة في كثرة المئين. وقال النووي: في الحديث تخصيص عجوة المدينة بما ذكر، وأما خصوص كون ذلك سبعا فلا يعقل معناه كما في أعداد الصلوات ونصب الزكوات. قال: وقد تكلم في ذلك المازري وعياض بكلام باطل فلا يغتر به. انتهى. ولم يظهر لي من كلامهما ما يقتضي الحكم عليه بالبطلان، بل كلام المازري يشير إلى محل ما اقتصر عليه النووي، وفي كلام عياض إشارة إلى المناسبة فقط، والمناسبات لا يقصد فيها التحقيق البالغ بل يكتفى منها بطرق الإشارة. وقال القرطبي: ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم وإبطال السحر، والمطلق منها محمول على المقيد، وهو من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني. ومن أئمتنا من تكلف لذلك فقال: إن السموم إنما تقتل لإفراط برودتها، فإذا داوم على التصبح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة وأعانتها الحرارة الغريزية فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم. قال: وهذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة بل خصوصية العجوة بل خصوصية التمر، فإن من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك من التمر، والأولى أن ذلك خاص بعجوة المدينة. ثم هل هو خاص بزمان نطقه أو في كل زمان؟ هذا محتمل، ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة. فمن جرب ذلك فصح معه عرف أنه مستمر، وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان. قال وأما خصوصية هذا العدد فقد جاء في مواطن كثيرة من الطب كحديث: "صبوا علي من سبع قرب" وقوله للمفؤود الذي وجهه للحارث بن كلدة أن يلده بسبع تمرات، وجاء تعويذه سبع مرات، إلى غير ذلك. وأما في غير الطب فكثير، فما جاء من هذا العدد في معرض التداوي فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله أو من أطلعه على ذلك، وما جاء منه في غير معرض التداوي فإن العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم ترد عددا بعينه. وقال ابن القيم: عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز، وهو صنف كريم ملزز متين الجسم والقوة، وهو من ألين التمر وألذه. قال: والتمر في الأصل من أكثر الثمار تغذية لما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتل الديدان لما فيه من القوة الترياقية، فإذا أديم أكله على الريق جفف مادة الدود وأضعفه أو قتله انتهى. وفي كلامه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من السم وهو ما ينشأ عن الديدان التي في البطن لا كل السموم، لكن سياق الخبر يقتضي التعميم لأنه نكرة في سياق النفي، وعلى تقدير التسليم في السم فماذا يصنع في السحر.

(10/240)


53 - باب لاَ هَامَةَ
5770- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟" .
5771- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ " وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الأَوَّلِ. قُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لاَ عَدْوَى؟ فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثاً غَيْرَهُ.
[الحديث 5771 – طرفه في: 5774]
قوله: "باب لا هامة" قال أبو زيد: هي بالتشديد، وخالفه الجميع فخففوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأن من شددها ذهب إلى واحدة الهوام وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الأرض التي تهم بأذى الناس، وهذا لا يصح فيه إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته. وقد ذكر الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة - وهي دودة - فتدور حول قبره فتقول: اسقوني اسقوني، فإن أدرك بثأره ذهبت وإلا بقيت، وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب. وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأول، إلا أنهم لم يعينوا كونها دودة، بل قال القزاز: الهامة طائر من طير الليل، كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها، إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى. فعلى هذا فالمعني في الحديث: لا حياة لهامة الميت، وعلى الأول: لا شؤم بالبومة ونحوها، ولعل المؤلف ترجم "لا هامة" مرتين بالنظر لهذين التفسيرين والله أعلم. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية شعيب عن الزهري "حدثني أبو سلمة" وهي في الباب الذي بعده. قوله: "لا عدوى" تقدم شرحه مستوفى في "باب الجذام" وكيفية الجمع بين قوله: "لا عدوى" وبين قوله: "لا يورد ممرض على مصح" وكذا تقدم شرح قوله: "ولا صفر ولا هامة". قوله: "فقال أعرابي" لم أقف على اسمه. قوله: "تكون في الرمل كأنها الظباء" في رواية شعيب عن الزهري في الباب الذي يليه "أمثال الظباء" بكسر المعجمة بعدها موحدة وبالمد جمع ظبي، شبهها بها في النشاط والقوة والسلامة من الداء. قوله: "فيجربها" في رواية مسلم: "فيدخل فيها ويجربها" بضم أوله، وهو بناء على ما كانوا يعتقدون من العدوى، أي يكون سببا لوقوع الجرب بها، وهذا من أوهام الجهال، كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم

(10/241)


فنفى الشارع ذلك وأبطله، فلما أورد الأعرابي الشبهة رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فمن أعدى الأول؟" وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة. وحاصله من أين الجرب للذي أعدى بزعمهم؟ فإن أجيب من بعير آخر لزم التسلسل أو سبب آخر فليفصح به، فإن أجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعي، وهو أن الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى. قوله: "وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يوردن ممرض على مصح" كذا فيه بتأكيد النهي عن الإيراد. ولمسلم من رواية يونس عن الزهري "لا يورد" بلفظ النفي، وكذا تقدم من رواية صالح وغيره، وهو خبر بمعنى النهي بدليل رواية الباب. والممرض بضم أوله وسكون ثانيه وكسر الراء بعدها ضاد معجمة هو الذي له إبل مرضى، والمصح بضم الميم وكسر الصاد المهملة بعدها مهملة من له إبل صحاح، نهى صاحب الإبل المريضة أن يوردها على الإبل الصحيحة. قال أهل اللغة: الممرض اسم فاعل من أمرض الرجل إذا أصاب ماشيته مرض، والمصح اسم فاعل من أصح إذا أصاب ماشيته عاهة ثم ذهب عنها وصحت. قوله: "وأنكر أبو هريرة الحديث الأول" وقع في رواية المستملي والسرخسي "حديث الأول" وهو كقولهم مسجد الجامع. وفي رواية يونس عن الزهري عن أبي سلمة "كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى". قوله: "وقلنا ألم تحدث أنه لا عدوى" في رواية يونس "فقال الحارث بن أبي ذئاب" بضم المعجمة وموحدتين وهو ابن عم أبي هريرة "قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديث لا عدوى، فأبى أن يعرف ذلك" ووقع عند الإسماعيلي من رواية شعيب "فقال الحارث: إنك حدثتنا" فذكره "قال: فأنكر أبو هريرة وغضب وقال: لم أحدثك ما تقول".
قوله: "فرطن بالحبشية" في رواية يونس "فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة حتى رطن بالحبشية فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا. قال: إني قلت أبيت". قوله: "فما رأيته" في رواية الكشميهني: "فما رأيناه نسي حديثا غيره" في رواية يونس "قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان يحدثنا به فما أدري أنسي أبو هريرة أم نسخ أحد القولين للآخر"، وهذا الذي قاله أبو سلمة ظاهر في أنه كان يعتقد أن بين الحديثين تمام التعارض، وقد تقدم وجه الجمع بينهما في "باب الجذام" وحاصله أن قوله: "لا عدوى" نهي عن اعتقادها وقوله: "لا يورد" سبب النهي عن الإيراد خشية الوقوع في اعتقاد العدوى، أو خشية تأثير الأوهام، كما تقدم نظيره في حديث: "فر من المجذوم" لأن الذي لا يعتقد أن الجذام يعدي يجد في نفسه نفرة، حتى لو أكرهها على القرب منه لتألمت بذلك، فالأولى بالعاقل أن لا يتعرض لمثل ذلك بل يباعد أسباب الآلام ويجانب طرق الأوهام والله أعلم. قال ابن التين: لعل أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث قبل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم حديث: "من بسط رداءه ثم ضمه إليه لم ينس شيئا سمعه من مقالتي" وقد قيل في الحديث المذكور إن المراد أنه لا ينسى تلك المقالة التي قالها ذلك اليوم لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلا. وقيل: كان الحديث الثاني ناسخا للأول فسكت عن المنسوخ، وقيل: معنى قوله: "لا عدوى" النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب عليه إبلا جرباء أراد تضمينه فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قدر عليها وما لم تكن تنجو منه، لأن العجماء جبار، ويحتمل أن يكون قال هذا على ظنه ثم تبين له خلاف ذلك انتهى. فأما دعوى نسيان أبي هريرة للحديث فهو بحسب ما ظن أبو سلمة، وقد بينت ذلك رواية يونس التي أشرت إليها، وأما دعوى النسخ فمردودة لأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع

(10/242)


إمكان الجمع. وأما الاحتمال الثالث فبعيد من مساق الحديث، والذي بعده أبعد منه، ويحتمل. أيضا أنهما لما كانا خبرين متغايرين عن حكمين مختلفين لا ملازمة بينهما جاز عنده أن يحدث بأحدهما ويسكت عن الآخر حسبما تدعو إليه الحاجة، قاله القرطبي في "المفهم". قال: ويحتمل أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين فسكت عن أحدهما، وكان إذا أمن ذلك حدث بهما جميعا. قال القرطبي: وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل أهلا لفهمه، وأما من كان قاصرا فيخاطب بما يحتمله عقله من الإقناعيات. قال: وهذه الشبهة التي وقعت للأعرابي هي التي وقعت للطبائعيين أولا وللمعتزلة ثانيا، فقال الطبائعيون بتأثير الأشياء بعضها في بعض وإيجادها إياها، وسموا المؤثر طبيعة. وقال المعتزلة بنحو ذلك في الحيوانات والمتولدات وأن قدرهم مؤثرة فيها بالإيجاد، وأنهم خالقون لأفعالهم مستقلون باختراعها، واستند الطائفتان إلى المشاهدة الحسية، ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة، وغلط من قال ذلك منهم غلطا فاحشا لالتباس إدراك الحس بإدراك العقل، فإن المشاهد إنما هو تأثير شيء عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، فأما تأثيره فهو فيه حظ العقل، فالحس أدرك وجود شيء عند وجود شيء وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، فالعقل هو الذي يفرق فيحكم بتلازمهما عقلا أو عادة مع جواز التبدل عقلا والله أعلم. وفيه وقوع تشبيه الشيء بالشيء إذا جمعهما وصف خاص ولو تباينا في الصورة. وفيه شدة ورع أبي هريرة لأنه مع كون الحارث أغضبه حتى تكلم بغير العربية خشي أن يظن الحارث أنه قال فيه شيئا يكرهه ففسر له في الحال ما قال، والله أعلم.

(10/243)


54 - باب لاَ عَدْوَى
5772- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمْزَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ" .
5773- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ عَدْوَى" .
5774- قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ" .
5775- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ عَدْوَى" فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ فَيَأْتِيهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَتَجْرَبُ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟ ".

(10/243)


5776- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ. قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ" .
قوله: "باب لا عدوى" تقدم تفسيرها. قوله: "أخبرني سالم بن عبد الله" أي ابن عمر. قوله: "وحمزة" هو أخو سالم. قوله: "أن عبد الله بن عمر" قال في رواية مسلم عن أبي الطاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب بهذا السند عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في أوائل النكاح من طريق مالك عن الزهري عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر، وفي تصريح الزهري بالإخبار فيه في هذه الرواية دفع لتوهم انقطاعه بسبب ما رواه ابن أبي ذئب عن الزهري فأدخل بين الزهري وسالم رجلا وهو محمد بن زيد بن قنفذ، ويحمل إن كان محفوظا على أن الزهري حمله عن محمد بن زيد عن سالم ثم سمعه من سالم. قوله: "لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث" الحديث. تقدم الكلام على حديث: "الشؤم في ثلاث" في النكاح، وجمع ابن عمر بين الحديثين يدل على أنه قوى عنده أحد الاحتمالات في المراد بالشؤم، وذكر مسلم أنه لم يقل أحد من أصحاب الزهري عنه في أول هذا الحديث: "لا عدوى ولا طيرة" إلا يونس بن يزيد. قلت: وقد أخرجه النسائي من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بدونها. فكان المنفرد بالزيادة عبد الله بن وهب. قوله: "أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا عدوى" قال أبو سلمة بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا توردوا الممرض على المصح" وعن الزهري قال أخبرني سنان بن أبي سنان أن أبا هريرة قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى، فقام أعرابي" فذكر القصة الماضية في الباب قبله، هكذا أورده من رواية شعيب عن الزهري، وقد أخرجه مسلم من روايته عن الزهري عن أبي سلمة بالحديثين، لكن لم يسق لفظه، أحال به على رواية صالح بن كيسان ولفظه: "لا عدوى" ويحدث مع ذلك "لا يورد الممرض على المصح" قاله بمثل حديث يونس، وقد بينت ما في رواية يونس من فائدة زائدة في الباب الذي قبله، وأورد أيضا رواية شعيب عن الزهري عن سنان بن أبي سنان بالقصة وأحال بسياقه على رواية يونس، فظهر بذلك أنها كلها موصولة. وسنان بن أبي سنان مدني ثقة واسم أبيه يزيد بن أمية وليس له في البخاري عن أبي هريرة سوى هذا الحديث الواحد، وله آخر عن جابر قرنه في كل منهما بأبي سلمة بن عبد الرحمن والله أعلم. حديث أنس بلفظ: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل " وفيه تفسيره، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب مفرد.

(10/244)


55 - باب مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5777- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ الْيَهُودِ، فَجُمِعُوا لَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا

(10/244)


الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلاَنٌ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ. فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سَمّاً؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّاباً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ وَإِنْ كُنْتَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّكَ" .
قوله: "باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم" الإضافة فيه إلى المفعول. قوله: "رواه عروة عن عائشة" كأنه يشير إلى ما علقه في الوفاة النبوية آخر المغازي فقال: "قال يونس عن ابن شهاب قال عروة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري ذلك السم" وقد ذكرت هناك من وصله وهو البزار وغيره، وتقدم شرحه مستوفى، وقوله: "أجد ألم الطعام" أي الألم الناشىء عن ذلك الأكل، لا أن الطعام نفسه بقي إلى تلك الغاية. وأخرج الحاكم من حديث أم مبشر نحو حديث عائشة ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة الشاة المسمومة التي أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد تقدم ذكره في غزوة خيبر وأنه أخرجه مختصرا وفي أواخر الجزية مطولا. قوله: "أهديت" بضم أوله على البناء للمجهول، تقدم في الهبة من رواية هشام بن زيد عن أنس "أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها" الحديث، فعرف أن التي أهدت الشاة المذكورة امرأة، وقدمت في المغازي أنها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم أخرجه ابن إسحاق بغير إسناد. وأورده ابن سعد من طرق عن ابن عباس بسند ضعيف، ووقع في مرسل الزهري أنها أكثرت السم في الكتف والذراع لأنه بلغها أن ذلك كان أحب أعضاء الشاة إليه، وفيه: "فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف فنهش منها" وفيه: "فلما ازدرد لقمته قال: إن الشاة تخبرني" يعني أنها مسمومة وبينت هناك الاختلاف هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أو تركها. ووقع في حديث أنس المشار إليه "فقيل: ألا تقتلها؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتقدم كيفية الجمع بين الاختلاف المذكور. ومن المستغرب قول محمد بن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها. قوله: " اجمعوا لي" لم أقف على تعيين المأمور بذلك. قوله: "إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه؟" كذا وقع في هذا الحديث في ثلاثة مواضع، قال ابن التين: ووقع في بعض النسخ "صادقي" بتشديد الياء بغير نون، وهو الصواب في العربية لأن أصله صادقوني فحذفت النون للإضافة فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، ومثله {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وفي حديث بدء الوحي "أو مخرجي هم" انتهى. وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد، فقد وجهها غيره، قال ابن مالك: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية اسم الفاعل وأفعل التفضيل والأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيها خفاء الإعراب، فلما منعت ذلك كانت كأصل متروك، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل كقول الشاعر:
وليس الموافيني ليرتد خائبا ... فإن له أضعاف ما كان أملا

(10/245)


ومنه في الحديث: "غير الدجال أخوفني عليك" والأصل فيه: أخوف مخوفاتي عليكم، فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه، فاتصل أخوف بها مقرونة بالنون، وذلك أن أفعل التفضيل شبيه بفعل التعجب. وحاصل كلامه أن النون الباقية هي نون الوقاية ونون الجمع حذفت كما تدل عليه الرواية الأخرى بلفظ: "صادقي" ويمكن تخريجه أيضا على أن النون الباقية هي نون الجمع فإن بعض النجاة أجاز في الجمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات على النون مع الواو، ويحتمل أن تكون الياء في محل نصب بناء على أن مفعول اسم الفاعل إذا كان ضميرا بارزا متصلا به كان في محصل نصب وتكون النون على هذا أيضا نون الجمع. قوله: "من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان. فقالوا صدقت وبررت" بكسر الراء الأولى وحكي فتحها وهو من البر. قوله: "نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها" بضم اللام مخففا أي تدخلون فتقيمون في المكان الذي كنا فيه. وضبطه الكرماني بتشديد اللام، وقد أخرج الطبري من طريق عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة؛ وسيخلفنا إليها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد ، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} الآية ومن طريق ابن إسحاق عن سيف بن سليم عن مجاهد عن ابن عباس "أن اليهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار، وإنما هي سبعة أيام فنزلت. وهذا سند حسن. وأخرج الطبري أيضا من وجه آخر عن عكرمة قال: "اجتمعت يهود تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن تصيبنا النار" فذكر نحوه وزاد: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أنتم خالدون مخلدون، لا نخلفكم فيها أبدا إن شاء الله تعالى. فنزل القرآن تصديقا للنبي صلى الله عليه وسلم" ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثني أبي زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود: "أنشدكم الله من أهل النار الذين ذكرهم الله في التوراة؟ قالوا: إن الله غضب علينا غضبة فنمكث في النار أربعين يوما ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال: كذبتم، والله لا نخلفكم فيها أبدا، فنزل القرآن تصديقا له" وهذان خبران مرسلان يقوي أحدهما الآخر، ويستفاد منهما تعيين مقدار الأيام المعدودة المذكورة في الآية، وكذا في حديث أبي هريرة حيث قال فيه: "أياما يسيرة" وأخرج الطبري أيضا من رواية قتادة وغيره أن حكمة العدد المذكور - وهو الأربعون - أنها المدة التي عبدوا فيها العجل. قوله: "اخسئوا فيها" هو زجر لهم بالطرد والإبعاد، أو دعاء عليهم بذلك. قوله: "والله لا نخلفكم فيها أبدا" أي لا تخرجون منها ولا تقيم بعدكم فيها، لأن من يدخل النار من عصاة المسلمين يخرج منها فلا يتصور أنه يخلف غيره أصلا. قوله: "أردنا إن كنت كاذبا" في رواية المستملي والسرخسي "إن كنت كذابا". قوله: "وإن كنت نبيا لم يضرك" يعني على الوجه المعهود من السم المذكور. وفي حديث أنس المشار إليه "فقالت: أردت لأقتلك. فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك" وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في نحو هذه القصة "فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك" أخرجه البيهقي وأخرج نحوه موصولا عن جابر، وأخرجه ابن سعد بسند صحيح عن ابن عباس، ووقع عند ابن سعد عن الواقدي بأسانيده المتعددة أنها قالت: "قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبيا فسيخبره الذراع، وإن كان ملكا استرحنا منه" وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيب، وتكليم الجماد له، ومعاندة اليهود لاعترافهم بصدقه فيما أخبر به عن اسم أبيهم وبما وقع منهم من دسيسة

(10/246)


السم، ومع ذلك فعاندوا واستمروا على تكذيبه. وفيه قتل من قتل بالسم قصاصا، وعن الحنفية إنما تجب فيه الدية، ومحل ذلك إذا استكرهه عليه اتفاقا، وأما إذا دسه عليه فأكله ففيه اختلاف للعلماء، فإن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قتل اليهودية ببشر بن البراء ففيه حجة لمن يقول بالقصاص في ذلك، والله أعلم. وفيه أن الأشياء - كالسموم وغيرها - لا تؤثر بذواتها بل بإذن الله، لأن السم أثر في بشر فقيل: إنه مات في الحال، وقيل: إنه مات بعد حول، ووقع فيه مرسل الزهري في مغازي موسى بن عقبة "أن لونه صار في الحال كالطيلسان" يعني أصفر شديد الصفرة، وأما قول أنس "فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم" فاللهوات جمع لهاة ويجمع أيضا على لهي بضم أوله والقصر منون، ولهيان وزن إنسان، وقد تقدم بيانها فيما مضى في الطب في الكلام على العذرة وهي اللحمة المعلقة في أصل الحنك، وقيل: هي ما بين منقطع اللسان إلى منقطع أصل الفم، وهذا هو الذي يوافق الجمع المذكور. ومراد أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتريه المرض من تلك الأكلة أحيانا، وهو موافق لقوله في حديث عائشة: "ما أزال أجد ألم الطعام" ووقع في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري مرسلا "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري " ومثله في الرواية المذكورة عند ابن سعد. والعداد بكسر المهملة والتخفيف ما يعتاد، والأبهر عرق في الظهر تقدم بيانه في الوفاة النبوية، ويحتمل أن يكون أنس أراد أنه يعرف ذلك في اللهوات بتغير لونها أو بنتوء فيها أو تحفير، قاله القرطبي.

(10/247)


باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه والخبيث
...
56 - باب شُرْبِ السُّمِّ وَالدَّوَاءِ بِهِ وَبِمَا يُخَافُ مِنْهُ وَالْخَبِيثِ
5778- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً وَمَنْ تَحَسَّى سُمّاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً" .
5779- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلاَ سِحْرٌ" .
قوله: "باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه" هو بضم أوله. وقال الكرماني يجوز فتحه، وهو عطف على السم. قوله: "والخبيث" أي الدواء الخبيث، وكأنه يشير بالدواء بالسم إلى ما ورد من النهي عن التداوي بالحرام، وقد تقدم بيانه في كتاب الأشربة في "باب الباذق" في شرح حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وزعم بعضهم أن المراد بقوله: "به" منه. والمراد ما يدفع ضرر السم، وأشار بذلك إلى ما تقدم قبل من حديث: "من تصبح بسبع تمرات" الحديث، وفيه: "لم يضره سم" فيستفاد منه استعمال ما يدفع ضرر السم قبل وصوله، ولا يخفى بعدما قال، لكن يستفاد منه مناسبة ذكر حديث العجوة في هذا الباب. وأما قوله: "وما يخاف

(10/247)


منه" فهو معطوف على الضمير المجرور العائد على السم، وقوله: "منه" أي من الموت به أو استمرار المرض، فيكون فاعل ذلك قد أعان على نفسه، وأما مجرد شرب السم فليس بحرام على الإطلاق لأنه يجوز استعمال اليسير منه إذا ركب معه ما يدفع ضرره إذا كان فيه نفع، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقد أخرج ابن أبي شيبة وغيره أن خالد بن الوليد لما نزل الحيرة قيل له احذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به فأتوه به، فأخذه بيده ثم قال. بسم الله، واقتحمه، فلم يضره. فكأن المصنف رمز إلى أن السلامة من ذلك وقعت كرامة لخالد بن الوليد، فلا يتأسى به في ذلك لئلا يفضي إلى قتل المرء نفسه. ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة في الباب، ولعله كان عند خالد في ذلك عهد عمل به. وأما قول: "والخبيث" فيجوز جره، والتقدير والتداوي بالخبيث، ويجوز الرفع على أن الخبر محذوف والتقدير ما حكمه؟ أو هل يجوز التداوي به؟ وقد ورد النهي عن تناوله صريحا، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما وصححه ابن حبان من طريق مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا، قال الخطابي: خبث الدواء يقع بوجهين: أحدهما: من جهة نجاسته كالخمر ولحم الحيوان الذي لا يؤكل، وقد يكون من جهة استقذاره فتكون كراهته لإدخال المشقة على النفس، وإن كان كثير من الأدوية تكره النفس تناوله، لكن بعضها في ذلك أيسر من بعض. قلت: وحمل الحديث على ما ورد في بعض طرقه أولى، وقد ورد في آخر الحديث متصلا به يعني السم، وأهل البخاري أشار في الترجمة إلى ذلك. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. قوله: "سمعت ذكوان" هو أبو صالح السمان وقد أخرجه مسلم من رواية وكيع عن الأعمش عن أبي صالح، ثم أردفه برواية شعبة عن سليمان قال: "سمعت ذكوان" مثله. وأخرجه الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة فقال عن الأعمش "سمعت أبا صالح" به، وقدم في رواية وكيع "من قتل نفسه بحديدة" وثلث بقصة "من تردى" عكس رواية شعبة هنا. ووقع في رواية أبي داود الطيالسي المذكورة كرواية وكيع، وكذا عند الترمذي من طريق عبيدة بن حميد عن الأعمش ولم يذكر قصة. قوله: "من تردى من جبل" أي أسقط نفسه منه، لما يدل عليه قوله: "فقتل نفسه" على أنه تعمد ذلك، وإلا فمجرد قوله تردى لا يدل على التعمد. قوله: "ومن تحسى" بمهملتين بوزن تندى أي تجرع. قوله: "يجأ" بفتح أوله وتخفيف الجيم وبالهمز، أي يطعن بها، وقد تسهل الهمزة، والأصل في يجأ يوجأ قال ابن التين: في رواية الشيخ أبي الحسن يجأ بضم أوله، ولا وجه له، وإنما يبني للمجهول بإثبات الواو ويوجأ بوزن يوجد انتهى. ووقع في رواية مسلم: "يتوجأ" بمثناة وواو مفتوحتين وتشديد الجيم بوزن يتكبر وهو بمعنى الطعن، ووقع في رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة في أواخر الجنائز بلفظ: "الذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وقد تقدم شرحه هناك وبيان تأويل الخلود والتأبيد المذكورين. وحكى ابن التين عن غيره أن هذا الحديث ورد في حق رجل بعينه، وأولى ما حمل عليه هذا الحديث ونحوه من أحاديث الوعيد أن المعنى المذكور جزاء فاعل ذلك إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه. قوله: "أحمد بن بشير أبو بكر" هو الكوفي المخزومي مولاهم، ليس له عند البخاري سوى هذا الموضع، قال ابن معين: لا بأس به، هكذا روى عباس الدوري عنه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: متروك، وتعقب ذلك الخطيب بأنه التبس على عثمان بآخر يقال له أحمد بن بشير لكن كنيته أبو جعفر، وهو بغدادي من طبقة صاحب الترجمة، وكأن هذا هو السر في تكنية المصنف له ليمتاز عن قرينه الضعيف، وقد تقدم شرح حديث سعد قريبا، وقوله في أول السند "حدثنا محمد" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر

(10/248)


عن المستملي: "محمد بن سلام".

(10/249)


57 - باب أَلْبَانِ الأُتُنِ
5780- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ".
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّأْمَ.
5781- وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ هَلْ نَتَوَضَّأُ أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الأُتُنِ؟ أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ؟ أَوْ أَبْوَالَ الإِبِلِ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا فَلاَ يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْساً. فَأَمَّا أَلْبَانُ الأُتُنِ: فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلاَ نَهْيٌ. وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ".
قوله: "باب ألبان الأتن" بضم الهمزة والمثناة الفوقانية بعدها نون جمع أتان. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "من السباع" كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي "من السبع" بلفظ الإفراد والمراد الجنس. قوله: "قال الزهري: ولم أسمعه حتى أتيت الشام" تقدم الكلام على ذلك في الطب. قوله: "وزاد الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب" هو الزهري، وهذه الزيادة وصلها الذهلي في "الزهريات" وأوردها أبو نعيم في "المستخرج" مطولة من طريق أبي ضمرة أنس بن عياض عن يونس بن يزيد. قوله: "عن ابن شهاب قال وسألته هل نتوضأ؟" هذه الجملة حالية، ووقع في رواية أبي ضمرة "سئل الزهري وأعرض الزهري في جوابه عن الوضوء فلم يجب عنه لشذوذ القول به" وقد تقدمت في الطهارة الإشارة إلى من أجاز الوضوء باللبن والخل. قوله: "قد كان المسلمون" في رواية أبي ضمرة "أما أبوال الإبل فقد كان المسلمون". قوله: "ولم يبلغنا عن ألبانها أمر ولا نهي" في رواية أبي ضمرة "ولا أرى ألبانها إلا تخرج من لحومها". قوله: "وأما مرارة السبع: قال ابن شهاب حدثني أبو إدريس" في رواية أبي ضمرة "وأما مرارة السبع فإنه أخبرني أبو إدريس" والباقي مثله، وزاد أبو ضمرة في آخره ولم أسمعه من علمائنا، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فلا خير في مرارتها. ويؤخذ من هذه الزيادة أن الزهري كان يتوقف في صحة هذا الحديث لكونه لم يعرف له أصلا بالحجاز كما هي طريقة كثير من علماء الحجاز. وقال ابن بطال: استدل الزهري على منع مرارة السبع بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ويلزمه مثل ذلك في ألبان الأتن، وغفل رحمه الله عن الزيادة التي أفادتها رواية أبي ضمرة. وقد اختلف في ألبان الأتن، فالجمهور على التحريم، وعند المالكية قول في حلها من القول بحل أكل لحمها، وقد تقدم بسطه في الأطعمة.

(10/249)


58 - باب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الإِنَاءِ
5782- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى بَنِي زُرَيْقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً" .
قوله: "باب إذا وقع الذباب في الإناء" الذباب بضم المعجمة وموحدتين وتخفيف، قال أبو هلال العسكري: الذباب واحد والجمع ذبان كغربان، والعامة تقول ذباب للجمع وللواحد ذبابة بوزن قرادة، وهو خطأ، وكذا قال أبو حاتم السجستاني إنه خطأ. وقال الجوهري: الذباب واحدة ذبابة ولا تقل ذبانة، ونقل في "المحكم" عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز ما زعم العسكري أنه خطأ، وحكى سيبويه في الجمع ذب. وقرأته بخط البحتري مضبوطا بضم أوله والتشديد. قوله: "عن عتبة بن مسلم مولى بني تميم" هو مدني، وأبوه يكنى أبا عتبة، وما لعتبة في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "عن عبيد بن حنين" مضى في بدء الخلق من طريق سليمان بن بلال عن عتبة بن مسلم: "أخبرني عبيد بن حنين" وهو بالمهملة والنونين مصغر وكنيته أبو عبد الله. قوله: "مولى بني زريق" بزاي ثم راء ثم قاف مصغر، وحكى الكلاباذي أنه مولى زيد بن الخطاب؛ وعن ابن عيينة أنه مولى العباس، وهو خطأ كأنه ظن أنه أخو عبد الله بن حنين وليس كذلك، وما لعبيد أيضا في البخاري سوى هذا الحديث أورده في موضعين.
قوله: "إذا وقع الذباب" قيل سمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه، وقد أخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: "عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار إلا النحل" وسنده لا بأس به، وأخرجه ابن عدي دون أوله من وجه آخر ضعيف، قال الجاحظ: كونه في النار ليس تعذيبا له، بل ليعذب أهل النار به. قال الجوهري: يقال إنه ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب. وقال أفلاطون: الذباب أحرص الأشياء، حتى إنه يلقي نفسه في كل شيء ولو كان فيه هلاكه. ويتولد من العفونة. ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها، والجفن يصقل الحدقة، فالذبابة تصقل بيديها فلا تزال تمسح عينيها. ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس. وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد. وهو من أكثر الطيور سفادا، ربما بقي عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك. وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة. وقال أبو محمد المالقي: ذباب الناس يتولد من الزبل. وإن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكا شديدا أبرأته وكذا داء الثعلب. وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع. قوله: "في إناء أحدكم" تقدم في بدء الخلق بلفظ: "شراب" ووقع في حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان "إذا وقع في الطعام" والتعبير بالإناء أشمل، وكذا وقع في حديث أنس عند البزار. قوله: "فليغمسه كله" أمر إرشاد لمقابلة الداء بالدواء. وفي قوله: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بغمس بعضه. قوله: "ثم ليطرحه" في رواية سليمان بن بلال "ثم لينزعه" وقد وقع في رواية عبد الله بن المثنى عن عمه ثمامة أنه حدثه قال: "كنا عند أنس، فوقع ذباب في إناء فقال أنس بإصبعه فغمسه في ذلك الإناء ثلاثا ثم قال: بسم الله. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا ذلك" أخرجه البزار ورجاله ثقات، ورواه حماد بن سلمة عن ثمامة فقال: "عن أبي هريرة" ورجحها أبو حاتم، وأما

(10/250)


الدار قطني فقال: الطريقان محتملان. قوله: "فإن في إحدى جناحيه" في رواية أبي داود "فإن في أحد" والجناح يذكر ويؤنث وقيل: أنث باعتبار اليد، وجزم الصغاني بأنه لا يؤنث وصوب رواية: "أحد" وحقيقته للطائر، ويقال لغيره على سبيل المجاز كما في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ووقع في رواية أبي داود وصححه ابن حبان من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة: "وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، ولم يقع لي في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء، والمناسبة في ذلك ظاهرة. وفي حديث أبي سعيد المذكور أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء. ويستفاد من هذه الرواية تفسير الداء الواقع في حديث الباب وأن المراد به السم فيستغنى عن التخريج الذي تكلفه بعض الشراح فقال: إن في اللفظ مجازا وهو كون الداء في أحد الجناحين، فهو إما من مجاز الحذف والتقدير فإن في جناحيه سبب داء، إما مبالغة بأن يجعل كل الداء في أحد جناحيه لما كان سببا له. وقال آخر يحتمل أن يكون الداء ما يعرض في نفس المرء من التكبر عن أكله حتى ربما كان سببا لترك ذلك الطعام وإتلافه، والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع. قوله: "وفي الآخر شفاء" في رواية أبي ذر "وفي الأخرى" وفي نسخة "والأخرى" بحذف حرف الجر، وكذا وقع في رواية سليمان بن بلال "في إحدى جناحيه داء والآخر شقاء" واستدل به لمن يجيز العطف على معمولي عاملين كالأخفش، وعلى هذا فيقرأ بخفض الآخر وبنصب شفاء فعطف الآخر على الأحد وعطف شفاء على داء، والعامل في إحدى حرف في، والعامل في داء إن، وهما عاملان في الآخر وشفاء، وسيبويه لا يجيز ذلك ويقول: إن حرف الجر حذف وبقي العمل وقد وقع صريحا في الرواية الأخرى "وفي الأخرى شفاء" ويحوز رفع شفاء على الاستئناف. واستدل بهذا الحديث على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه ووجه الاستدلال - كما رواه البيهقي عن الشافعي - أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه لأن ذلك إفساد. وقال بعض من خالف في ذلك: لا يلزم من غمس الذباب موته فقد يغمسه برفق فلا يموت، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث. وقال أبو الطيب الطبري: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة، وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والإذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم. قلت: وهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمنع أن يستنبط منه حكم آخر، فإن الأمر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمسه محترزا عن موته كما هو المدعى هنا، وأن لا يحترز بل يغمسه سواء مات أو لم يمت. ويتناول ما لو كان الطعام حارا فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد، فلما لم يقع التقييد حمل على العموم، لكن فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها. واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخر فقال: ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر، لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى، وهذه مستنبطة. أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وهذه منصوصة، وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل، بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة انتهى. وقد رجح جماعة من المتأخرين أن ما يعم وقوعه في الماء كالذباب والبعوض لا ينجس الماء، وما لا يعم كالعقارب ينجس، وهو قوي. وقال الخطابي: تكلم على هذا

(10/251)


الحديث من لا خلاق له فقال: كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب؟ وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الداء؟ وما ألجأه إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة. وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان، وإن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر. وقال ابن الجوزي: ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر. وذكر بعض حذاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح له، فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه، فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى. واستدل بقوله: "ثم لينزعه" على أنها تنجس بالموت كما هو أصح القولين للشافعي، والقول الأخر كقول أبي حنيفة، أنها لا تنجس، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الطب من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وثمانية عشر حديثا، المعلق منها ثمانية عشر طريقا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وثمانون طريقا، والخالص ثلاثة وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في نزول الداء والشفاء، وحديث ابن عباس "الشفاء في ثلاث"، وحديث عائشة في الحبة السوداء، وحديث أبي هريرة "فر من المجذوم"، وحديث أنس "رخصن لأهل بيت في الرقية"، وحديثه أن أبا طلحة كواه، وحديث عائشة في الصبر على الطاعون، وحديث أنس "اشف وأنت الشافي". وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(10/252)


كتاب اللباس
باب قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده}
...
بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
77 - كتاب اللباس
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ" .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.
5783- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يُخْبِرُونَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ" .
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب اللباس" وقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} كذا للأكثر، وزاد ابن نعيم "{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ". وللنسفي "قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية"

(10/252)


وكأنه أشار إلى سبب نزول الآية، وقد أخرجه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانت قريش تطوف بالبيت عراة يصفرون ويصفقون، فأنزل الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية" وسنده صحيح. وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد جياد عن أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء وغيرهما نحوه، وكذا عن إبراهيم النخعي والسدي والزهري وقتادة وغيرهم أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت وهم عراة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كثير عن طاوس في هذه الآية قال: "لم يأمرهم بالحرير والديباج ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه" يعني فنزلت. وأخرج مسلم وأبو داود من حديث المسور بن مخرمة "سقط عني ثوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ عليك ثوبك، ولا تمشوا عراة" . قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة" ثبت هذا التعليق للمستملي والسرخسي فقط وسقط للباقين. وهذا الحديث من الأحاديث التي لا توجد في البخاري إلا معلقة. ولم يصله في مكان آخر، وقد وصله أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق همام بن يحيى عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولم يقع الاستثناء في رواية الطيالسي، وذكره الحارث ولم يقع في روايته: "وتصدقوا" وزاد في آخره: "فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده" ، ووقع لنا موصولا أيضا في "كتاب الشكر" لأبن أبي الدنيا بتمامه. وأخرج الترمذي في الفصل الأخير منه - وهي الزيادة المشار إليها - من طريق قتادة بهذا الإسناد، وهذا مصير من البخاري إلى تقوية شيخه عمرو بن شعيب، ولم أر في الصحيح إشارة إليها إلا في هذا الموضع. وقد قلب هذا الإسناد بعض الرواة فصحف والد عمرو بن شعيب، وقوله: "عن أبيه" ذكر ابن أبي حاتم في "العلل" أنه سأل أباه عن حديث رواه أبو عبيدة الحداد عن همام عن قتادة عن عمرو بن سعيد عن أنس فذكر هذا الحديث فقال: هذا خطأ، والصواب عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ومناسبة ذكر هذا الحديث والأثر الذي بعده للآية ظاهرة، لأن في التي قبلها {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} والإسراف مجاوزة الحد في كل فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهر، وقد قال الله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وقال تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} والمخيلة بوزن عظيمة وهي بمعنى الخيلاء وهو التكبر. وقال ابن التين هي بوزن مفعلة من اختال إذا تكبر قال والخيلاء بضم أوله وقد يكسر ممدودا التكبر. وقال الراغب: الخيلاء التكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه، والتخيل تصوير خيال الشيء في النفس، ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلا ولبسا وغيرهما إما لمعنى فيه وهو مجاوزة الحد وهو الإسراف. وإما للتعبد كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه وهو الراجح، ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع فيدخل الحرام، وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالحسد ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس. قوله: "وقال ابن عباس: كل ما شئت واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة" وصله ابن أبي شيبة في مصنفه والدينوري في "المجالسة" من رواية ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس. أما ابن أبي شيبة فذكره بلفظه. وأما الدينوري فلم يذكر السرف. وأخرجه عبد الرزاق

(10/253)


عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه بلفظ: "أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرف أو مخيلة" وكذا أخرجه الطبري من رواية محمد بن ثور عن معمر به. وقوله: "ما أخطأتك" كذا للجميع بإثبات الهمزة بعد الطاء، وأورده ابن التين بحذفها قال: والصواب إثباتها. قال صاحب "الصحاح" أخطأت ولا تقل أخطيت. وبعضهم يقوله: ومعنى قوله ما أخطأتك أي تناول ما شئت من المباحات ما دامت كل خصلة من هاتين تجاوزك. قال الكرماني: ويحتمل أن تكون "ما" نافية أي لم يوقعك في الخطأ اثنتان. قلت: وفيه بعد، ورواية معمر ترده حيث قال: "ما لم تكن سرف أو مخيلة" وقوله: "أو" قال الكرماني أتى بأو موضع الواو كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} على تقدير النفي، أي أن انتفاء الأمرين لازم فيه. وحاصله أن اشتراط منع كل واحد منهما يستلزم اشتراط منعهما مجتمعين بطريق الأولى، قال ابن مالك: هو جائز عند أمن اللبس كما قال الشاعر:
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما ... صدور رماح أشرعت أو سلاسل
قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم" في "الموطأ" عن نافع وعن عبد الله بن دينار وعن زيد بن أسلم بتكرير "عن" وعند الترمذي من رواية معن عن مالك "سمع كلهم يحدث" هكذا جمع مالك رواية الثلاثة، وقد روى داود بن قيس رواية زيد بن أسلم عنه بزيادة قصة قال: "أرسلني أبي إلى ابن عمر قلت: أدخل؟ فعرف صوتي فقال: أي بني إذا جئت إلى قوم فقل: السلام عليكم، فإن ردوا عليك فقل أدخل؟" قال: "ثم رأى ابنه وقد انجر إزاره فقال: ارفع إزارك فقد سمعت" فذكر الحديث. وأخرجه أحمد والحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة عن زيد نحوه، ساقه الحميدي، واختصره أحمد، وسميا الابن عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد أيضا من طريق معمر عن زيد بن أسلم "سمعت ابن عمر" فذكره بدون هذه القصة، وزاد قصة أبي بكر المذكورة في الباب الذي بعده، وقصة أخرى لابن عمر تأتي الإشارة إليها بعد بابين، وحديث نافع أخرجه مسلم من رواية أيوب والليث وأسامة بن زيد كلهم عن نافع قال مثل حديث مالك وزادوا فيه: "يوم القيامة". وقلت: وهذه الزيادة ثابتة عند رواة "الموطأ" عن مالك أيضا، وأخرجها أبو نعيم في "المستخرج" من طريق القعنبي. وأخرج الترمذي والنسائي الحديث من طريق أيوب عن نافع وفيه زيادة تتعلق بذيول النساء، وحديث عبد الله بن دينار أخرجه أحمد من طريق عبد العزيز بن مسلم عنه وفيه: "يوم القيامة" وكذا في رواية سالم وغير واحد عن ابن عمر كما سيأتي في الباب الذي بعده.

(10/254)


2 - باب مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلاَءَ
5784- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ" .
5785- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(10/254)


"خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَثَابَ النَّاسُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَجُلِّيَ عَنْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا" .
قوله: "باب من جر إزاره من غير خيلاء" أي فهو مستثنى من الوعيد المذكور، لكن إن كان لعذر فلا حرج عليه، وإن كان لغير عذر فيأتي البحث فيه. وقد سقطت هذه الترجمة لابن بطال. قوله: "زهير بن معاوية" هو أبو خيثمة الجعفي. قوله: "من جر ثوبه" سيأتي شرحه بعد ثلاثة أبواب. قوله: "فقال أبو بكر" هو الصديق "إن أحد شقي إزاري" كذا بالتثنية للنسفي والكشميهني، ولغيرهما: "شق" بالإفراد، والشق بكسر المعجمة الجانب ويطلق أيضا على النصف. قوله: "يسترخي" بالخاء المعجمة، وكان سبب استرخائه نحافة جسم أبي بكر. قوله: "إلا أن أتعاهد ذلك منه" أي يسترخي إذا غفلت عنه، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم عند أحمد "إن إزاري يسترخي أحيانا" فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره، فإذا كان محافظا عليه لا يسترخي لأنه كلما كاد يسترخي شده. وأخرج ابن سعد من طريق طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة قالت: "كان أبو بكر أحنى لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه" ومن طريق قيس بن أبي حازم قال: "دخلت على أبي بكر وكان رجلا نحيفا". قوله: "لست ممن يصنعه خيلاء" في رواية زيد بن أسلم "لست منهم" وفيه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصده مطلقا، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يكره جر الإزار على كل حال فقال ابن بطال هو من تشديداته، وإلا فقد روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم. قلت: بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك سواء كان عن مخيلة أم لا، وهو المطابق لروايته المذكورة، ولا يظن بابن عمر أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئا وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه وهذا متفق عليه، وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه. وفي الحديث اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصل مطرد غالبا. قوله: "حدثني محمد" لم أره منسوبا لأحد من الرواة، وأغفلت التنبيه على هذا الموضع بخصوصه في المقدمة، وقد صرح ابن السكن في موضعين غير هذا بأن محمدا الراوي عن عبد الأعلى هو ابن سلام، فيحمل هذا أيضا على ذلك. وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن المثنى عن عبد الأعلى فيحتمل أن يكون هو المراد هنا والله أعلم. وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري بالموحدة، ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو البصري، وقد تقدم الحديث في صلاة الكسوف مع شرحه، والغرض منه هنا قوله: "فقام يجر ثوبه مستعجلا" فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي، فيشعر بأن النهي يختص بما كان للخيلاء، لكن لا حجة فيه لمن قصر النهي على ما كان للخيلاء حتى أجاز لبس القميص الذي ينجر على الأرض لطوله كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقوله: "وثاب الناس" بمثلثة ثم موحدة أي رجعوا إلى المسجد بعد أن كانوا خرجوا منه.

(10/255)


3 - باب التَّشمُّرِ فِي الثِّيَابِ
5786- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ أَخْبَرَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: "... فَرَأَيْتُ بِلاَلاً جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا ثُمَّ أَقَامَ الصَّلاَةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي حُلَّةٍ مُشَمِّراً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى الْعَنَزَةِ وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْعَنَزَةِ".
قوله: "باب التشمر في الثياب" هو بالشين المعجمة وتشديد الميم: رفع أسفل الثوب. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه جزم بذلك أبو نعيم في "المستخرج" وابن شميل هو النضر، وعمر بن أبي زائدة هو الهمداني بسكون الميم الكوفي أخو زكريا، واسم أبي زائدة خالد ويقال هبيرة، ولعمر في البخاري أحاديث يسيرة. قوله: "قال فرأيت" كذا للأكثر هو معطوف على جمل من الحديث، فإن أوله "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم" الحديث، وفيه: "ثم رأيت بلالا الخ " هكذا أخرجه المصنف في أوائل الصلاة عن محمد بن عرعرة عن عمر بن أبي زائدة، فلما اختصره أشار إلى أن المذكور ليس أول الحديث. ووقع للكشميهني في أوله "رأيت" وكذا في رواية النسفي، وكذا أخرجه أبو نعيم من مسند إسحاق بن راهويه عن النضر، وأخرجه من وجه آخر عن إسحاق قال: أخبرنا أبو عامر العقدي حدثنا عمر بن أبي زائدة. وذكر أن رواية إسحاق عن النضر لم يقع فيها قوله: "مشمرا" ووقع في روايته عن أبي عامر، وقد وقعت في الباب عن إسحاق عن النضر فيحتمل أن يكون إسحاق هو ابن منصور، ولم يقع لفظ: "مشمرا" للإسماعيلي فإنه أخرجه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عمه عمر بلفظ: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى وبيص ساقيه" ثم قال: ورواه الثوري عن عون بن أبي جحيفة فقال في حديثه "كأني أنظر إلى بريق ساقيه" قال الإسماعيلي: وهذا هو التشمير ويؤخذ منه أن النهي عن كف الثياب في الصلاة محله في غير ذيل الإزار، ويحتمل أن تكون هذه الصورة وقعت اتفاقا، فإنها كانت في حالة السفر وهو محل التشمير.

(10/256)


4 - باب مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ
5787- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ" .
قوله: "باب" بالتنوين "ما أسفل من الكعبين فهو في النار" كذا أطلق في الترجمة لم يقيده بالإزار كما في الخبر إشارة إلى التعميم في الإزار والقميص وغيرهما، وكأنه أشار إلى لفظ حديث أبي سعيد، وقد أخرجه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه أبو عوانة وابن حبان كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي سعيد ورجاله رجال مسلم، وكأنه أعرض عنه لاختلاف فيه وقع على العلاء وعلى أبيه فرواه أكثر أصحاب العلاء عنه هكذا، وخالفهم زيد بن أبي أنيسة فقال: "عن العلاء عن نعيم المجمر عن أبي عمر" أخرجه الطبراني، ورواه محمد بن عمرو ومحمد بن إبراهيم التيمي جميعا عن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة أخرجه النسائي، وصحح الطريقين النسائي ورجح الدار قطني الأول. وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث أبي جري بالجيم والراء مصغر واسمه جابر بن سليم رفعه قال في أثناء حديث مرفوع "وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، إياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة" وأخرج النسائي وصحح الحاكم

(10/256)


أيضا من حديث حذيفة بلفظ: "الإزار إلى أنصاف الساقين، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساقين، ولا حق للكعبين في الإزار". قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة "سمعت سعيدا المقبري سمعت أبا هريرة". قوله: "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" "ما" موصولة وبعض الصلة محذوف وهو كان، وأسفل خبره، وهو منصوب ويجوز الرفع، أي ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل، ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويجوز أن تكون "ما" نكرة موصوفة بأسفل، قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة، وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه، وتكون "من" بيانية، ويحتمل أن تكون سببية، ويكون المراد الشخص نفسه، أو المعنى ما أسفل من الكعبين من الذي يسامت الإزار في النار، أو التقدير لابس ما أسفل من الكعبين الخ، أو التقدير أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار. أو فيه فقديم وتأخير أي ما أسفل من الإزار من الكعبين في النار، وكل هذا استبعاد ممن قاله لوقوع الإزار حقيقة في النار، وأصله ما أخرج عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد "أن نافعا سئل عن ذلك فقال: وما ذنب الثياب؟ بل هو من القدمين" اهـ. لكن أخرج الطبراني من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري فقال: يا ابن عمر، كل شيء يمس الأرض من الثياب في النار" وأخرج الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود أنه "رأى أعرابيا يصلي قد أسبل فقال: المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام" ومثل هذا لا يقال بالرأي، فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، ويكون من وادي {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، أو يكون في الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن الذي يتعاطى المعصية أحق بذلك. قوله: "في النار" في رواية النسائي من طريق أبي يعقوب وهو عبد الرحمن بن يعقوب "سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار" بزيادة فاء، وكأنها دخلت لتضمين ما معنى الشرط أي ما دون الكعبين من قدم صاحب الإزار المسبل فهو في النار عقوبة له على فعله، وللطبراني من حديث ابن عباس رفعه: "كل شيء جاوز الكعبين من الإزار في النار" وله من حديث عبد الله بن مغفل رفعه: "أزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففي النار" وهذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الذي ورد فيه الوعيد بالاتفاق، وأما مجرد الإسبال فسيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه، ويستثنى من إسبال الإزار مطلقا ما أسبله لضرورة كمن يكون بكعبيه جرح مثلا يؤذيه الذباب مثلا إن لم يستره بإزاره حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في "شرح الترمذي" واستدل على ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة. والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي، ويستثنى أيضا من الوعيد في ذلك النساء كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.

(10/257)


5 - باب مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنْ الْخُيَلاَءِ
5788- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ

(10/257)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً" .
5789- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
5790- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلَّلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" تَابَعَهُ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَقَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... نَحْوَهُ".
5791- حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ لَقِيتُ مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَأْتِي مَكَانَهُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِي فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ أَذَكَرَ إِزَارَهُ قَالَ مَا خَصَّ إِزَاراً وَلاَ قَمِيصاً تَابَعَهُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَزَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خيلاء" .
قوله: "باب من جر ثوبه من الخيلاء" أي بسبب الخيلاء. حديث أبي هريرة بلفظ: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" ومثله لأبي داود والنسائي في حديث أبي سعيد المذكور قريبا. والبطر بموحدة ومهملة مفتوحتين قال عياض: جاء في الرواية: "بطرا" بفتح الطاء على المصدر وبكسرها على الحال من فاعل جر أي جره تكبرا وطغيانا، وأصل البطر الطغيان عند النعمة، واستعمل بمعنى التكبر. وقال الراغب: أصل البطر دهش يعتري المرء عند هجوم النعمة عن القيام بحقها. قوله: "لا ينظر الله" أي لا يرحمه، فالنظر إذا أضيف إلى الله كان مجازا، وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية، ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لأن من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. وقال الكرماني: نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية، لأن من اعتد بالشخص التفت إليه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة والله منزه عن ذلك، فهو بمنعى الإحسان مجاز عما وقع في حق غيره كناية، وقوله:

(10/258)


"يوم القيامة" إشارة إلى أنه محل الرحمة المستمرة، بخلاف رحمة الدنيا فإنها قد تنقطع بما يتجدد من الحوادث. ويؤيد ما ذكر من حمل النظر على الرحمة أو المقت ما أخرجه الطبراني وأصله في أبي داود من حديث أبي جري "إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها، فنظر الله إليه فمقته، فأمر الأرض فأخذته" الحديث. قوله: "من" يتناول الرجال والنساء في الوعيد المذكور على هذا الفعل المخصوص، وقد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنها فأخرج النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر متصلا بحديثه المذكور في الباب الأول "فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن؛ قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه" لفظ الترمذي. وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم فوهم، فإنها ليست عنده، وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر عن سليمان بن يسار عن أم سلمة، وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع والنسائي من طريق أيوب بن موسى ومحمد بن إسحاق ثلاثتهم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، وأخرجه النسائي من رواية يحيى بن أبي كثير عن نافع عن أم سلمة نفسها وفيه اختلافات أخرى، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود من رواية أبي الصديق عن ابن عمر قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه فزادهن شبرا، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا" وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة، ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها. إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال. والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق وحال جواز وهو إلى الكعبين. وكذلك للنساء حالان حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر وحال جواز بقدر ذراع. ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمر عن حميد عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة من عقبها شبرا وقال: هذا ذيل المرأة" وأخرجه أبو يعلى بلفظ: "شبر من ذيلها شبرا أو شبرين وقال لا تزدن على هذا" ولم يسم فاطمة. قال الطبراني: تفرد به معتمر عن حميد. قلت: و"أو" شك من الراوي، والذي جزم بالشبر هو المعتمد، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبرا" ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه، والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة. ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة

(10/259)


من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس" . وقوله: "وغمط" بفتح المعجمة وسكون الميم ثم مهملة: الاحتقار. وأما ما أخرجه الطبري من حديث علي "إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه" فيدخل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} الآية فقد جمع الطبري بينه وبين حديث ابن مسعود بأن حديث علي محمول على من أحب ذلك ليتعظم به على صاحبه، لا من أحب ذلك ابتهاجا بنعمة الله عليه، فقد أخرج الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" وله شاهد عند أبي يعلى من حديث أبي سعيد. وأخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي عن أبيه "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ورآه رث الثياب: إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك" أي بأن يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد وترك الإسراف جمعا بين الأدلة. "تكمله": الرجل الذي أبهم في حديث ابن مسعود هو سواد بن عمرو الأنصاري، وأخرجه الطبري من طريقه، ووقع ذلك لجماعة غيره. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم" شك من آدم شيخ البخاري، وقد أخرجه مسلم من رواية غندر وغيره عن شعبة "فقالوا: عن النبي صلى الله عليه وسلم". وكذا أخرجه من رواية الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد. قوله: "بينما رجل" زاد مسلم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة "ممن كان قبلكم" ومن ثم أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل كما مضى، وخفي هذا على بعض الشراح، وقد أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد وأبو يعلى من حديث أنس وفي روايتهما أيضا: "ممن كان قبلكم" وبذلك جزم النووي، وأما ما أخرجه أبو يعلى من طريق كريب قال: "كنت أقود ابن عباس فقال: حدثني العباس قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل يتبختر بين ثوبين" الحديث فهو ظاهر في أنه وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فسنده ضعيف، والأول صحيح، ويحتمل التعدد، أو الجمع بأن المراد من كان قبل المخاطبين بذلك كأبي هريرة، فقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى وأصله عند أحمد ومسلم: "أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا؟ فقال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء، سمعت" فذكر الحديث وقال في آخره: "فوالله ما أدري لعله كان من قومك" وذكر السهيلي في "مبهمات القرآن" في سورة والصافات عن الطبري أن اسم الرجل المذكور الهيزن وأنه من أعراب فارس. قلت: وهذا أخرجه الطبري في التاريخ من طريق ابن جريج عن شعيب الجياني وجزم الكلاباذي في "معاني الأخبار" بأنه قارون، وكذا ذكر الجوهري في "الصحاح" وكأن المستند في ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي هريرة وابن عباس بسند ضعيف جدا قالا "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث الطويل وفيه: "ومن لبس ثوبا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فيتجلجل فيها" لأن قارون لبس حلة فاختال فيها فخسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وروى الطبري في التاريخ من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: "ذكر لنا أنه يخسف بقارون كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة". قوله: "يمشي في حلة" الحلة ثوبان أحدهما فوق الآخر، وقيل: إزار ورداء وهو الأشهر، ووقع في رواية الأعرج وهمام جميعا عن أبي هريرة عند مسلم: "بينما رجل يتبختر في برديه". قوله:

(10/260)


"تعجبه نفسه" في رواية الربيع بن مسلم: "فأعجبته جمته وبرداه" ومثله لأحمد في رواية أبي رافع، وفي حديث ابن عمر "بينا رجل يجر إزاره" هكذا هنا، وتقدم في أواخر ذكر بني إسرائيل بزيادة "من الخيلاء" والاقتصار على الإزار لا يدفع وجود الرداء، وإنما خص الإزار بالذكر لأنه هو الذي يظهر به الخيلاء غالبا. ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد وأنس عند أبي يعلى "خرج في بردين يختال فيهما" قال القرطبي: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم. قوله: "مرجل" بتشديد الجيم "جمته" بضم الجيم وتشديد الميم هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين وإلى أكثر من ذلك، وأما الذي لا يتجاوز الأذنين فهو الوفرة، وترجيل الشعر تسريحه ودهنه. قوله: "إذ خسف الله به" في رواية الأعرج "فخسف الله به الأرض" والأول أظهر في سرعة وقوع ذلك به. قوله: "فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" في حديث ابن عمر "فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم: "فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة" ومثله في رواية أبي رافع، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "حتى يوم القيامة" والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت. وقال ابن دريد: كل شيء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته. وقال ابن فارس: التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا. وحكى عياض أنه روي "يتجلل" بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض. وحكى عن بعض الروايات أيضا: "يتخلخل" بخاءين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين "يتخلخل" بحاءين مهملتين. قلت: والكل تصحيف إلا الأول، ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. قوله: "فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" في حديث ابن عمر "فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم: "فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة" ومثله في رواية أبي رافع، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "حتى يوم القيامة" والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت. وقال ابن دريد: كل شيء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته. وقال ابن فارس: التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا. وحكى عياض أنه روي "يتجلل" بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض. وحكى عن بعض الروايات أيضا: "يتخلخل" بخاءين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين "يتخلخل" بحاءين مهملتين. قلت: والكل تصحيف إلا الأول، ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. قوله: "تابعه يونس" يعني ابن يزيد "عن الزهري" وروايته تقدمت موصولة في أواخر ذكر بني إسرائيل. قوله: "ولم يرفعه شعيب عن الزهري" وصله الإسماعيلي من طريق أبي اليمان عنه بتمامه ولفظه: "جر إزاره مسبلا من الخيلاء". قوله: "وهب بن جرير حدثنا أبي" هو جرير بن أبي حازم بن زيد الأزدي. قوله: "عن عمه جرير بن زيد" هو أبو سلمة البصري قاله أبو حاتم الرازي، وليس لجرير بن زيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد خالف فيه الزهري فقال عن سالم عن أبي هريرة والزهري يقول: "عن سالم عن أبيه" لكن قوى عند البخاري أنه عن سالم عن أبيه وعن أبي هريرة معا لشدة إتقان الزهري ومعرفته بحديث سالم ولقول جرير بن زيد في روايته: "كنت مع سالم على باب داره فقال: سمعت أبا هريرة" فإنها قرينة في أنه حفظ ذلك عنه. ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق علي بن سعيد عن وهب بن جرير "فمر به شاب من قريش يجر إزاره فقال: حدثنا أبو هريرة" وهذا أيضا مما يقوي أن جرير بن زيد ضبطه، لأن مثل هذه القصة لأبي هريرة قد رواها أبو رافع عنه كما قدمت أن مسلما أخرجها كذلك، وقد أخرجه النسائي في الزينة من "السنن" من رواية علي بن المديني عن وهب بن جرير بهذا السند فقال في روايته: "عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة" وأورده ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن عمر عن أبي هريرة، وهو وهم نبه عليه المزي، وكأنه وقع في نسخته تصحيف "ابن عبد الله" فصارت عن عبد الله بن عمر. قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" في رواية أبي نعيم المذكورة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما رجل يتبختر في حلة تعجبه نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم

(10/261)


القيامة". ذكر طرق أخرى للحديث الثاني. قوله: "محارب" بالمهملة والموحدة وزن مقاتل، ودثار بكسر المهملة وتخفيف المثلثة. قوله: "مكانه الذي يقضي فيه" كان محارب قد ولي قضاء الكوفة، قال عبد الله بن إدريس الأودي عن أبيه "رأيت الحكم وحمادا في مجلس قضائه" وقال سماك بن حرب "كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه: الحلم والعقل والسخاء والشجاعة والبيان والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف، وقد اجتمعن في هذا الرجل" يعني محارب بن دثار. وقال الداودي: لعل ركوبه الفرس كان ليغيظ به الكفار ويرهب به العدو. وتعقبه ابن التين بأن ركوب الخيل جائز فلا معنى للاعتذار عنه. قلت: لكن المشي أقرب إلى التواضع، ويحتمل أن منزله كان بعيدا عن منزل حكمه. قوله: "فقلت لمحارب: أذكر إزاره؟ قال: ما خص إزارا ولا قميصا" كان سبب سؤال شعبة عن الإزار أن أكثر الطرق جاءت بلفظ الإزار، وجواب محارب حاصله أن التعبير بالثوب يشمل الإزار وغيره، وقد جاء التصريح بما اقتضاه ذلك، فأخرج أصحاب السنن إلا الترمذي واستغربه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء" الحديث كحديث الباب. وعبد العزيز فيه مقال. وقد أخرج أبو داود من رواية يزيد بن أبي سمية عن ابن عمر قال: "ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الإزار فهو في القميص" وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي. قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال. وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفها بين كتفيه" وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك. قال شيخنا في "شرح الترمذي" ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه. قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيدا، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. قلت: وسأذكر البحث فيه قريبا. قوله: "تابعه جبلة" بفتح الجيم والموحدة "ابن سحيم" بمهملتين مصغر، وقد وصل روايته النسائي من طريق شعبة عنه عن ابن عمر بلفظ: "من جر ثوبا من ثيابه من مخيلة فإن الله لا ينظر إليه" وأخرجه مسلم من طريق شعبة عن محارب بن دثار وجبلة بن سحيم جميعا عن ابن عمر ولم يسق لفظه. قوله: "وزيد بن أسلم" تقدم الكلام عليه في أول اللباس. قوله: "وزيد بن عبد الله" أي ابن عمر يعني تابعوا محارب بن دثار في روايته عن ابن عمر بلفظ: "الثوب" لا بلفظ الإزار، جزم بذلك الإسماعيلي، ولم تقع لي رواية زيد موصولة بعد. وقد أخرج أبو عوانة هذا الحديث من رواية ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله عن أبيه بلفظ: "إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة" وسيأتي لمسلم مقرونا بسالم ونافع. وأخرج البخاري من رواية ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد عن جده حديثا آخر. فلعل مراده

(10/262)


بقوله هنا عن أبيه جده والله أعلم. قوله: "وقال الليث عن نافع يعني عن ابن عمر مثله" وصله مسلم عن قتيبة عنه، ولم يسق لفظه بل قال مثل حديث مالك، وأخرجه النسائي عن قتيبة فذكره بلفظ الثوب، وكذا أخرجه من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع. قوله: "وتابعه موسى بن عقبة وعمر بن محمد وقدامة بن موسى عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: من جر ثوبه خيلاء" أما رواية موسى بن عقبة فتقدمت في أول الباب الثاني من كتاب اللباس، وأما رواية عمر بن محمد وهو ابن زيد بن عبد الله بن عمر فوصلها مسلم من طريق ابن وهب "أخبرني عمر بن محمد عن أبيه وسالم ونافع عن ابن عمر" بلفظ: "الذي يجر ثيابه من المخيلة" الحديث. وأما رواية قدامة بن موسى وهو ابن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي وهو مدني تابعي صغير وكان إمام المسجد النبوي وليس له في البخاري سوى هذا الموضع فوصلها أبو عوانة في صحيحه، ووقعت لنا بعلو في "الثقفيات" بلفظ حديث مالك المذكور أول كتاب اللباس. قلت: وكذا أخرجه مسلم من رواية حنظلة بن أبي سفيان عن سالم، وقد رواه جماعة عن ابن عمر بلفظ: "من جر إزاره" منهم مسلم بن يناق بفتح التحتانية وتشديد النون وآخره قاف ومحمد بن عباد بن جعفر كلاهما عند مسلم وعطية العوفي عند ابن ماجه، ورواه آخرون بلفظ: "الإزار" والرواية بلفظ: "الثوب" أشمل والله أعلم. وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضا، لكن استدل بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء. قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال. وقال النووي: الإسبال تحت الكعبين للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وهكذا نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، قال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء انتهى. والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي في مختصره عن الشافعي قال: لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، اهـ، وقوله: "خفيف" ليس صريحا في نفي التحريم بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء، فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال، فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم، ولا سيما إن كان عن غير قصد كالذي وقع لأبي بكر، وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة" وقد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به، وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذي في "الشمائل" والنسائي من طريق أشعث بن أبي الشعثاء - واسم أبيه سليم - المحاربي عن عمته واسمها رهم بضم الراء وسكون الهاء وهي بنت الأسود بن حنظلة عن عمها واسمه عبيد بن خالد قال: "كنت أمشي وعلي برد أجره، فقال لي رجل: ارفع ثوبك فإنه أنقى وأبقى، فنظرت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هي بردة ملحاء، فقال: أما لك في أسوة؟ قال: فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه" وسنده قبلها جيد، وقوله: "ملحاء" بفتح الميم وبمهملة قبلها سكون ممدودة أي فيها خطوط سود وبيض، وفي قصة قتل عمر أنه قال للشاب الذي دخل عليه "ارفع ثوبك فإنه

(10/263)


أنقى لثوبك وأتقى لربك" وقد تقدم في المناقب، ويتجه المنع أيضا في الإسبال من جهة أخرى وهي كونه مظنة الخيلاء، قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول لا أجره خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكما أن يقول لا أمتثله لأن تلك العلة ليست في، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره. اهـ ملخصا. وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة" وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك، حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين، فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" الحديث. وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه لكن قال في روايته: "عن عمرو بن فلان" وأخرجه الطبراني أيضا فقال: "عن عمرو بن زرارة" وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار، ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار" الحديث ورجاله ثقات وظاهره أن عمرا المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة. وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك، فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي، قال: ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن" وأخرجه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك" وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد "أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك فقال: إني حمش الساقين" فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة والله أعلم. وأخرج النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهيل وهو يقول: يا سفيان لا تسبل، فإن الله لا يحب المسبلين".

(10/264)


6 - باب الإِزَارِ الْمُهَدَّبِ
وَيُذْكَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَاباً مُهَدَّبَةً
5792- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسَةٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاَقِي فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا فَسَمِعَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَوْلَهَا وَهُوَ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ قَالَتْ فَقَالَ خَالِدٌ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلاَ تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى

(10/264)


يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ فَصَارَ سُنَّةً بَعْده".
قوله: "باب الإزار المهدب" بدال مهملة ثقيلة مفتوحة، أي الذي له هدب؛ وهي أطراف من سدي بغير لحمة ربما قصد بها التجمل، وقد تفتل صيانة لها من الفساد. وقال الداودي: هي ما يبقى من الخيوط من أطراف الأردية. قوله: "ويذكر عن الزهري وأبي بكر بن محمد وحمزة بن أبي أسيد ومعاوية بن عبد الله بن جعفر أنهم لبسوا ثيابا مهدبة" قال ابن التين: قيل يريد أنها غير مكفوفة الأسفل، وهذه الآثار لم يقع لي أكثرها موصولا. أما الزهري فهو ابن شهاب الإمام المعروف، وأما أبو بكر بن محمد فهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة، وأما حمزة بن أبي أسيد وهو بالتصغير الأنصاري الساعدي فوصله ابن سعد قال: "أخبرنا معن بن عيسى حدثنا سلمة بن ميمون مولى أبي أسيد قال: رأيت حمزة بن أبي أسيد الساعدي عليه ثوب مفتول الهدب". وسلمة هذا لم يزد للبخاري في ترجمته على ما في هذا السند. وذكره ابن حبان في " الثقات". وأما معاوية بن عبد الله بن جعفر أي ابن أبي طالب فهو مدني تابعي ما له في البخاري سوى هذا الموضع. حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، والغرض منه قولها: "ما معه إلا مثل الهدبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، والمراد بالهدبة الخصلة من الهدب ووقع في هذا الباب حديث مرفوع أخرجه أبو داود من حديث أبي جري جابر بن سليم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة، وقد وقع هدبها على قدميه" وقوله في آخر هذه الطريق: "فصار سنة بعده" في رواية الكشميهني: "بعد" بغير ضمير، وهو من قول الزهري فيما أحسب.

(10/265)


7 - باب الأَرْدِيَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِيٌّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5793- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيّاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "... فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ ...".
قوله: "باب الأردية" جمع رداء بالمد وهو ما يوضع على العاتق أو بين الكتفين من الثياب على أي صفة كان. قوله: "وقال أنس جبذ أعرابي رداء النبي صلى الله عليه وسلم" بجيم وموحدة ومعجمة. وهذا طرف من حديث وصله المؤلف بعد أبواب في "باب البرود والحبرة" ذكر طرفا من حديث علي قال: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى" وهو طرف من حديثه في قصة حمزة والشارفين، وقد تقدم بتمامه في فرض الخمس، وقوله: "فدعا" عطف على ما ذكر في أول الحديث وهو قول علي "كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر" الحديث بطوله وقوله هنا: "فاستأذن فأذنوا لهم" كذا للأكثر بصيغة الجمع والمراد حمزة ومن معه. وفي رواية المستملي: "فأذن" بالإفراد والمراد حمزة لكونه كان كبير القوم.

(10/265)


8 - باب لُبْسِ الْقَمِيصِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}

(10/265)


9 - باب جَيْبِ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ
5797- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَوَسَّعُ". تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ فِي الْجُبَّتَيْنِ. وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُساً سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "جُبَّتَانِ". وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ الأَعْرَجِ: "جُبَّتَانِ".
قوله: "باب جيب القميص من عند الصدر وغيره" الجيب بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة هو ما يقطع من الثوب ليخرج منه الرأس أو اليد أو غير ذلك، واعترضه الإسماعيلي فقال: الجيب الذي يحيط بالعنق، جيب الثوب أي جعل فيه ثقب، وأورده البخاري على أنه ما يجعل في الصدر ليوضع فيه الشيء، وبذلك فسره أبو عبيد، لكن ليس هو المراد هنا، وإنما الجيب الذي أشار إليه في الحديث هو الأول، كذا قال، وكأنه يعني ما وقع في الحديث من قوله: "ويقول بإصبعه هكذا في جيبه" فإن الظاهر أنه كان لابس قميص، وكان في طوقه فتحة إلى صدره، ولا مانع من حمله على المعنى الآخر، بل استدل به ابن بطال على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر، قال: وهو الذي تصنعه النساء بالأندلس.
وموضع الدلالة منه أن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقي، وذلك في الصدر، قال: فبان أن جيبه كان في صدره، لأنه لو كان في يده لم تضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه. قلت: وفي حديث قرة بن إياس الذي أخرجه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم: "قال فأدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم" ما يقتضي أن جيب قميصه كان في صدره لأن في أول الحديث أنه رآه مطلق القميص أي غير مزرور. حديث أبي هريرة مثل البخيل والمتصدق، وقد مضى شرحه مستوفى في كتاب الزكاة، وقوله في هذه الرواية: "مادت" بتخفيف الدال أي مالت، ولبعض الرواة "مارت" بالراء بدل الدال أي سالت وقوله: "ثديهما" بضم المثلثة على الجمع وبفتحها على التثنية،

(10/267)


وقوله: "يغشى" بضم أوله والتشديد ويجوز فتح أول وسكون ثانيه بمعنى، وعبد الله بن محمد هو الجعفي وأبو عامر هو القعدي والحسن هو ابن مسلم بن يناق وقد تقدم ضبط اسم جده قريبا. قوله: "وتراقيهما" جمع ترقوة بفتح المثناة وضم القاف هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق. وقال ثابت بن قاسم في "الدلائل" الترقوتان العظمان المشرفان في أعلى الصدر إلى طرف ثغرة النحر. قوله: "فلو رأيته" جوابه محذوف وتقديره لتعجبت منه، أو هو للتمني. والأول أوضح. قوله: "يقول بإصبعه هكذا في جيبه" كذا للأكثر بفتح الجيم وهو الموافق للترجمة، وكذا في رواية مسلم وعليه اقتصر الحميدي، وللكشميهني وحده بضم الجيم وتشديد الموحدة بعدها مثناة ثم ضمير، والأول أولى لدلالته على الموضع بخصوصه بخلاف الثاني. والله أعلم. قوله: "تابعه ابن طاوس" يعني عبد الله "عن أبيه" يعني عن أبي هريرة، وقد تقدم موصولا في الزكاة، ولم يسقه بتمامه فيه بل ساقه في الجهاد. قوله: "وأبو الزناد عن الأعرج" يعني عن أبي هريرة. قوله: "في الجبتين" يعني بالموحدة وقد بينت اختلاف الرواة في ذلك هل هو بالموحدة أو النون في كتاب الزكاة، ورواية أبي الزناد وصلها المؤلف في الزكاة. قوله: "وقال حنظلة" هو ابن أبي سفيان، وقد سبق القول فيه أيضا في الزكاة. قوله: "وقال جعفر بن ربيعة" كذا للأكثر وهو الصواب، ووقع في رواية أبي ذر: وقال جعفر بن حبان وكذا وقع عند ابن بطال وهو خطأ، وقد ذكرها في الزكاة أيضا تعليقا بزيادة فقال: "وقال الليث حدثني جعفر" وبينت هناك أن لليث فيه إسنادا آخر من رواية عيسى بن حماد عنه عن محمد بن عجلان عن أبي الزناد.

(10/268)


10 - باب مَنْ لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ فِي السَّفَرِ
5798- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الضُّحَى قَالَ حَدَّثَنِي مَسْرُوقٌ قَالَ حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ: "انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ".
قوله: "باب من لبس جبة ضيقة الكمين في السفر" ترجم له في الصلاة "في الجبة الشامية" وفي الجهاد "الجبة في السفر والحرب" وكأنه يشير إلى أن لبس النبي صلى الله عليه وسلم الجبة الضيقة إنما كان لحال السفر لاحتياج المسافر إلى ذلك وأن السفر يغتفر فيه لبس غير المعتاد في الحضر، وقد تواردت الأحاديث عمن وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها أن كميه ضاقا عن إخراج يديه منهما، أشار إلى ذلك ابن بطال. حديث المغيرة في مسح الخفين، تقدم شرحه في الطهارة وفيه القصة المذكورة، وفيه: "وعليه جبة شامية" وهي بتشديد الياء ويجوز تخفيفها، وعبد الواحد المذكور في سنده هو ابن زياد، وقوله فيه: "فأخرج يديه من تحت بدنه" بفتح الموحدة والمهملة بعدها نون أي جبته، ووقع كذلك في رواية أبي علي بن السكن، والبدن درع ضيقة الكمين.

(10/268)


11 - باب لُبْسِ جُبَّةِ الصُّوفِ فِي الْغَزْوِ
5799- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(10/268)


باب القباء وفروج حرير وهو القباء ، ويقال الذي له شق من خلفه
...
12 - باب الْقَبَاءِ وَفَرُّوجِ حَرِيرٍ وَهُوَ الْقَبَاءُ وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ
5800- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئاً فَقَالَ مَخْرَمَةُ يَا بُنَيِّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَالَ ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي قَالَ فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ".
5801- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعاً شَدِيداً كَالْكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لاَ يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ" .
تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ اللَّيْثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: "فَرُّوجٌ حَرِيرٌ".
قوله: "باب القباء" بفتح القاف وبالموحدة ممدود فارسي معرب، وقيل: عربي واشتقاقه من القبو وهو الضم. قوله: "وفروج حرير" بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم. قوله: "وهو القباء" قلت ووقع كذلك مفسرا في بعض طرق الحديث كما سأبينه. قوله: "ويقال هو الذي له شق من خلفه" أي فهو قباء مخصوص، وبهذا جزم أبو عبيد ومن تبعه من أصحاب الغريب نظرا لاشتقاقه. وقال ابن فارس: هو قميص الصبي الصغير. وقال القرطبي: القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلف يلبس في السفر والحرب لأنه أعون على الحركة. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية أحمد عن أبي النضر هاشم عن الليث حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وسيأتي كذلك في "باب المزرور بالذهب" معلقا. قوله: "عن المسور بن مخرمة" هكذا أسنده الليث، وتابعه حاتم بن وردان عن أيوب عن ابن أبي مليكة على وصله كما تقدم في الشهادات، وأرسله حماد بن زيد كما تقدم في الخمس، وإسماعيل بن علية كما سيأتي في الأدب، كلاهما عن أيوب، وقد تقدم الكلام على ذلك في "باب قسمة الإمام ما يقدم عليه" من كتاب الخمس. قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم أقبية" في

(10/269)


رواية حاتم قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية وفي رواية حماد "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية من ديباج مزرورة بالذهب فقسمها في ناس من أصحابه". قوله: "ولم يعط مخرمة شيئا" أي في حال تلك القسمة. وإلا فقد وقع في رواية حماد بن زيد متصلا بقوله من أصحابه "وعزل منها واحدا لمخرمة" ومخرمة هو والد المسور، وهو ابن نوفل الزهري، كان من رؤساء قريش ومن العارفين بالنسب وأنصاب الحرم، وتأخر إسلامه إلى الفتح، وشهد حنينا وأعطي من تلك الغنيمة مع المؤلفة، ومات سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة ذكره ابن سعد. قوله: "انطلق بنا" في رواية حاتم "عسى أن يعطينا منها شيئا". قوله: "ادخل فادعه لي" في رواية حاتم "فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته" قال ابن التين: لعل خروج النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع صوت مخرمة صادف دخول المسور إليه. قوله: "فخرج إليه وعليه قباء منها" ظاهره استعمال الحرير، قيل: ويجوز أن يكون قبل النهي، ويحتمل أن يكون المراد أنه نشره على أكتافه ليراه مخرمة كله ولم يقصد لبسه. قلت: ولا يتعين كونه على أكتافه بل يكفي أن يكون منشورا على يديه فيكون قوله عليه من إطلاق الكل على البعض، وقد وقع في رواية حاتم "فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه" وفي رواية حماد "فتلقاه به واستقبله بأزراره". قوله: "خبأت هذا لك" في رواية حاتم تكرار ذلك، زاد في رواية حماد "يا أبا المسور" هكذا دعاه أبا المسور وكأنه على سبيل التأنيس له بذكر ولده الذي جاء صحبته، وإلا فكنيته في الأصل أبو صفوان وهو أكبر أولاده، ذكر ذلك ابن سعد. قوله: "فنظر إليه فقال رضي مخرمة" زاد في رواية هاشم "فأعطاه إياه"، وجزم الداودي أن قوله: "رضي مخرمة" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجحت في الهبة أنه من كلام مخرمة، زاد حماد في آخر الحديث: "وكان في خلقه شدة" قال ابن بطال: يستفاد منه استئلاف أهل اللسن ومن في معناهم بالعطية والكلام الطيب، وفيه الاكتفاء في الهبة بالقبض، وقد تقدم البحث فيه هناك، وتقدم في كتاب الشهادات الاستدلال به على جواز شهادة الأعمى لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة فاعتمد على معرفته به، وخرج إليه ومعه القباء الذي خبأه له، واستنبط بعض المالكية منه جواز الشهادة على الخط، وتعقب بأن الخطوط تشتبه أكثر مما تشتبه الأصوات، وقد تقدم بقية ما يتعلق بذلك في الشهادات، وفيه رد على من زعم أن المسور لا صحبة له. قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" في رواية أحمد عن حجاج هو ابن محمد، وهاشم هو ابن القاسم عن الليث "حدثني يزيد بن أبي حبيب". قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بن عبد الله اليزني وثبت كذلك في رواية أحمد المذكورة. قوله: "عن عقبة بن عامر" هو الجهني وصرح به في رواية عبد الحميد بن جعفر ومحمد بن إسحاق كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عند أحمد. قوله: "فروج حرير" في رواية ابن إسحاق عند أحمد فروج من حرير. قوله: "ثم صلى فيه" زاد في رواية ابن إسحاق وعبد الحميد عند أحمد "ثم صلى فيه المغرب". قوله: "ثم انصرف" في رواية ابن إسحاق "فلما قضى صلاته" وفي رواية عبد الحميد "فلما سلم من صلاته" وهو المراد بالانصراف في رواية الليث. قوله: "فنزعه نزعا شديدا" زاد أحمد في روايته عن حجاج وهاشم "عنيفا" أي بقوة ومبادرة لذلك على خلاف عادته في الرفق والتأني، وهو مما يؤكد أن التحريم وقع حينئذ. قوله: "كالكاره له" زاد أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر "ثم ألقاه، فقلنا يا رسول الله قد لبسته وصليت فيه". قوله: "ثم قال لا ينبغي هذا" يحتمل أن تكون الإشارة للبس، ويحتمل أن تكون للحرير فيتناول غير اللبس من الاستعمال كالافتراش. قوله: "للمتقين" قال ابن بطال: يمكن أن يكون نزعه لكونه كان حريرا صرفا، ويمكن أن يكون نزعه لأنه من جنس لباس الأعاجم، وقد ورد حديث ابن

(10/270)


عمر رفعه: "من تشبه بقوم فهو منهم" قلت: أخرجه أبو داود بسند حسن. وهذا التردد مبني على تفسير المراد بالمتقين، فإن كان المراد به مطلق المؤمن حمل على الأول وإن كان المراد به قدرا زائدا على ذلك حمل على الثاني والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: اسم التقوى يعم جميع المؤمنين، لكن الناس فيه على درجات، قال الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى، أي وقى نفسه من الخلود في النار، وهذا مقام العموم، وأما مقام الخصوص فهو مقام الإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه" انتهى. وقد رجح عياض أن المنع فيه لكونه حريرا، واستدل لذلك بحديث جابر الذي أخرجه مسلم في الباب من حديث عقبة، وقد قدمت ذكره في كتاب الصلاة، وبينت هناك أن هذه القصة كانت مبتدأ تحريم لبس الحرير. وقال القرطبي في "المفهم": المراد بالمتقين المؤمنون، لأنهم الذين خافوا الله تعالى واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له. وقال غيره: لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك، لأن من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق فهم منه أنه لا يفعله إلا المستخف فيأنف من فعل ذلك لئلا يوصف بأنه غير متق، واستدل به على تحريم الحرير على الرجال دون النساء لأن اللفظ لا يتناولهن على الراجح، ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورود الأدلة الصريحة على إباحته لهن، وسيأتي في باب مفرد بعد قريب من عشرين بابا، وعلى أن الصبيان لا يحرم عليهم لبسه لأنهم لا يوصفون بالتقوى. وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعكسه عند الحنابلة، وفي وجه ثالث يمنع بعد التمييز. وفي الحديث أن لا كراهة في لبس الثياب الضيقة والمفرجة لمن اعتادها أو احتاج إليها، وقد أشرت إلى ذلك قريبا في "باب لبس الجبة الضيقة". قوله: "تابعه عبد الله بن يوسف عن الليث. وقال غيره" يعني بسنده "فروج حرير". أما رواية عبد الله بن يوسف فوصلها المؤلف رحمه الله في أوائل الصلاة، وأما رواية غيره فوصلها أحمد عن حجاج بن محمد وهاشم وهو أبو النضر ومسلم والنسائي عن قتيبة والحارث عن يونس بن محمد المؤدب كلهم عن الليث. وقد اختلف في المغايرة بين الروايتين على خمسة أوجه: أحدها التنوين والإضافة كما يقال ثوب خز بالإضافة وثوب خز بتنوين ثوب قاله ابن التين احتمالا. ثانيها: ضم أوله وفتحه حكاه ابن التين رواية، قال: والفتح أوجه لأن فعولا لم يرد إلا في سبوح وقدوس وفروخ يعني الفرخ صن الدجاج انتهى، وقد قدمت في كتاب الصلاة حكاية جواز الضم عن أبي العلاء المعري. وقال القرطبي في "المفهم" حكي الضم والفتح والضم هو المعروف. ثالثها: تشديد الراء وتخفيفها حكاه عياض ومن تبعه. رابعها: هل هو بجيم آخره أو خاء معجمة حكاه عياض أيضا. خامسها: حكاه الكرماني قال: الأول فروج من حرير بزيادة من والثاني بحذفها. قلت: وزيادة "من" ليست في الصحيحين، وقد ذكرناها عن رواية لأحمد.

(10/271)


13 - باب الْبَرَانِسِ
5802- وَقَالَ لِي مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُساً أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ".
5803- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلا قال: " يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا

(10/271)


البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" .
قوله: "باب البرانس" جمع برنس بضم الموحدة والنون بينهما راء ساكنة وآخره مهملة، تقدم تفسيره في كتاب الحج وكذا شرح حديث ابن عمر المذكور فيه. قوله: "وقال لي مسدد حدثنا معتمر" يعني ابن التيمي وقوله: "من خز" بفتح المعجمة وتشديد الزاي هو ما غلظ من الديباج وأصله من وبر الأرنب، ويقال لذكر الأرنب خزز بوزن عمر، وسيأتي شرحه وحكمه في "باب ليس القسي" بعد أربعة عشر بابا. وهذا الأثر موصول لتصريح المصنف بقوله: "قال لي" لكن لم يقع في رواية النسفي لفظ لي فهو تعليق، وقد رويناه موصولا في مسند مسدد رواية معاذ بن المثنى عن مسدد، وكذا وصله ابن أبي شيبة عن ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق قال: "رأيت على أنس" فذكر مثله. وقد كره بعض السلف لبس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به. قيل: فإنه من لبوس النصارى. قال: كان يلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبي بكر: ما كان أحد من القراء إلا له برنس. وأخرج الطبراني من حديث أبي قرصافة قال: "كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم برنسا فقال: البسه" وفي سنده من لا يعرف. ولعل من كرهه أخذ بعموم حديث علي رفعه: "إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تزيا بهم أو تشبه فليس مني" أخرجه الطبراني في "الأوسط" بسند لا بأس به.

(10/272)


14 - باب السَّرَاوِيلِ
5804- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر بن زيد عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد إزارا فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" .
5805- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله قال قام رجل فقال: "يا رسول الله ما تأمرنا أن نلبس إذا أحرمنا؟ قال: لا تلبسوا القميص والسراويل والعمائم والبرانس والخفاف إلا أن يكون رجل ليس له نعلان فليلبس الخفين أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه زعفران ولا ورس" .
قوله: "باب السراويل" ذكر فيه حديث ابن عباس رفعه: "من لم يجد إزارا فليلبس سراويل" وحديث ابن عمر فيما لا يلبس المحرم من الثياب وقد تقدما وشرحهما في كتاب الحج، ولم يرد فيه حديث على شرطه. وقد أخرج حديث الدعاء للمتسرولات البزار من حديث علي بسند ضعيف، وصح أنه صلى الله عليه وسلم اشترى رجل سراويل من سويد بن قيس أخرجه الأربعة وأحمد وصححه ابن حبان من حديثه، وأخرجه أحمد أيضا من حديث مالك بن عميرة الأسدي قال: "قدمت قبل مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى مني سراويل فأرجح لي" وما كان ليشتريه عبثا وإن كان غالب لبسه الإزار. وأخرج أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة "دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزاز فاشترى سراويل بأربعة دراهم" الحديث وفيه: "قلت يا رسول الله

(10/272)


وإنك لتلبس السراويل؟ قال: أجل، في السفر والحضر والليل والنهار، فإني أمرت بالتستر" وفيه يونس بن زياد البصري وهو ضعيف. قال ابن القيم في "الهدى": اشترى صلى الله عليه وسلم السراويل، والظاهر أنه إنما اشتراه ليلبسه ثم قال: وروي في حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه وبإذنه. قلت: وتؤخذ أدلة ذلك كله مما ذكرته. ووقع في الإحياء للغزالي أن الثمن ثلاثة دراهم والذي تقدم أنه أربعة دراهم أولى.

(10/273)


3 - باب فِي الْعَمَائِمِ
5806- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري قال أخبرني سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه زعفران ولا ورس ولا الخفين إلا لمن لم يجد النعلين فإن لم يجدهما فليقطعهما أسفل من الكعبين" .
قوله: "باب العمائم" ذكر فيه حديث ابن عمر المذكور قبله من وجه آخر، وقد سبق في الحج، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه في العمامة شيء، وقد ورد فيها الحديث الماضي في آخر "باب من جر ثوبه من الخيلاء" من حديث عمرو بن حريث أنه قال: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه" أخرجه مسلم، وعن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه: "اعتموا تزدادوا حلما" أخرجه الطبراني والترمذي في "العلل المفرد" وضعفه البخاري؛ وقد صححه الحاكم فلم يصب، وله شاهد عند البزار عن ابن عباس ضعيف أيضا، وعن ركانة رفعه: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم" أخرجه أبو داود والترمذي، وعن ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه" أخرجه الترمذي، وفيه أن ابن عمر كان يفعله والقاسم وسالم، وأما مالك فقال: إنه لم ير أحدا يفعله إلا عامر بن عبد الله بن الزبير. والله أعلم.

(10/273)


16 - باب التَّقَنُّعِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ".
وَقَالَ أَنَسٌ: "عَصَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ".
5807- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هَاجَرَ نَاسٌ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِراً. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوَ تَرْجُوهُ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصُحْبَتِهِ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْماً جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلاً مُتَقَنِّعاً فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِداً لَكَ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ لِأَمْرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ قَالَ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَالَ فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَخُذْ بِأَبِي

(10/273)


17 - باب الْمِغْفَرِ
5808- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ".
قوله: "باب المغفر" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء بعدها راء. تقدم الكلام على حديث أنس الذي في الباب في كتاب المغازي مستوفى، وذكر ابن بطال هنا أن بعض المتعسفين أنكر على مالك قوله في هذا الحديث: "وعلى رأسه المغفر" وأنه تفرد به قال: والمحفوظ أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء، ثم أجاب عن دعوى التفرد أنه وجد في "كتاب حديث الزهري" تصنيف النسائي هذا الحديث من رواية الأوزاعي عن الزهري مثل ما رواه مالك، وعن الحديث الآخر بأنه "دخل وعلى رأسه المغفر وكانت العمامة السوداء فوق المغفر". قلت: وقد ذكرت في شرح الحديث أن بضعة عشر نفسا رووه عن الزهري غير مالك، وبينت مخارجها وعللها بما أغني عن إعادته والحمد لله.

(10/275)


باب البرود والحبر والشملة
...
18 - باب الْبُرُودِ وَالْحِبَرَةِ وَالشَّمْلَةِ
وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ
5809- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
5810- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ قَالَ سَهْلٌ هَلْ تَدْرِي مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا لاَزَارُهُ فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْسُنِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِي

(10/275)


19 - باب الأَكْسِيَةِ وَالْخَمَائِصِ
5815، 5816- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ: "لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا ".
5817- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلاَمٌ فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفاً عَنْ صَلاَتِي وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ".
5818- حَدَّثَني مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: "أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَاراً غَلِيظاً فَقَالَتْ قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ".
قوله: "باب الأكسية والخمائص" جمع خميصة بالخاء المعجمة والصاد المهملة، وهي كساء من صوف أسود أو خز مربعة لها أعلام، ولا يسمى الكساء خميصة إلا إن كان لها علم. عن عائشة وابن عباس قالا "لما نزل" بضم أوله على البناء للمجهول والمراد نزول الموت، وقوله: "طفق يطرح خميصة له على وجهه" أي يجعلها على وجهه من الحمى "فإذا اغتم كشفها" وذكر الحديث في التحذير من اتخاذ القبور مساجد، وقد تقدم شرحه في كتاب الجنائز.
" تنبيه ": ذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية أبي محمد الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني في هذا الإسناد عن الزهري "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عائشة وابن عباس قال" وقوله: "عن أبيه" وهم وهي زيادة لا حاجة إليها. حديث أبي بردة وهو ابن أبي موسى الأشعري قال: "أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين" تقدم هذا الحديث في أوائل الخمس،

(10/277)


وذكر له طريقا أخرى تعليقا زاد فيها وصف الإزار والكساء إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من هذه التي تدعونها الملبدة، والملبدة اسم مفعول من التلبيد. وقال ثعلب: يقال للرقعة التي يرقع بها القميص لبدة. وقال غيره هي التي ضرب بعضها في بعض حتى تتراكب وتجتمع. وقال الداودي: هو الثوب الضيق ولم يوافق. الرابع: حديث عائشة "في خميصة لها أعلام" وفي آخر "وائتوني بانبجانية أبي جهم بن حذيفة بن غانم من بني عدي بن كعب" انتهى آخر الحديث عند قوله: "بانبجانية أبي جهم" وبقية نسبه مدرج في الخبر من كلام ابن شهاب، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الصلاة.

(10/278)


20 - باب اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
5819- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَعَنْ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ وَأَنْ يَحْتَبِيَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ" .
5820- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ نَهَى عَنْ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُقَلِّبُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ ثَوْبَهُ وَيَكُونَ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلاَ تَرَاضٍ وَاللِّبْسَتَيْنِ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاللِّبْسَةُ الأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" .
قوله: "باب اشتمال الصماء" تقدم ضبطه وتفسيره وشرح حديث أبي سعيد في هذا الباب فيما يتعلق بالاشتمال والاحتباء في "باب ما يستر من العورة" من كتاب الصلاة، وقيل في اشتمال الصماء أن يرمي بطرفي الثوب على شقه الأيسر فيصير جانبه الأيسر مكشوفا ليس عليه من الغطاء شيء فتنكشف عورته إذا لم يكن عليه ثوب آخر، فإذا خالف بين طرفي الثوب الذي اشتمل به لم يكن صماء، وتقدم الكلام أيضا على اختلاف الرواة عن الزهري في شيخه فيه وعلى الليث أيضا، وأما شرح البيعتين فتقدم أيضا في البيوع، وأما النهي عن الصلاة بعد العصر والصبح فتقدم في أواخر أبواب المواقيت من كتاب الصلاة. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي جزم به المزي في "الأطراف" وقال في "التهذيب" وقع في بعض النسخ "عبد الوهاب بن عطاء" وفيه نظر لأن ابن عطاء لا تعرف له رواية عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري، ولم يذكر أحد في رجال البخاري عبد الوهاب بن عطاء، وقد أخرج أبو نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من رواية ابن خزيمة حدثنا بندار وهو محمد بن بشار شيخ البخاري فيه: "حدثنا عبد الوهاب به" ولم ينسبه أيضا. وأخرجه عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب به ولم ينسبه أيضا وهو الثقفي بلا ريب، وسيأتي بعد قليل نظير هذا، وجزم الإسماعيلي بأنه الثقفي. وقوله فيه: "أن يجعل ثوبه على أحد

(10/278)


عاتقيه فيبدو أحد شقيه" أي يظهر.

(10/279)


باب الإحتباء في الثوب الواحد
...
21 - باب الِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
5821- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء وأن يشتمل بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه وعن الملامسة والمنابذة".
5822- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَهَى عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" .
قوله: "باب الاحتباء في ثوب واحد" ذكر فيه حديثين تقدم شرحهما أيضا في الباب المشار إليه من كتاب الصلاة. قوله في أول الإسناد "حدثنا محمد" غير منسوب هو ابن سلام، وشيخه مخلد بسكون المعجمة هو ابن يزيد.

(10/279)


22 - باب الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ
5823- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ فُلاَنٍ هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ "أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ فَسَكَتَ الْقَوْمُ قَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ وَسَنَاهْ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ".
5824- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لِي يَا أَنَسُ انْظُرْ هَذَا الْغُلاَمَ فَلاَ يُصِيبَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَنِّكُهُ فَغَدَوْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ حُرَيْثِيَّةٌ وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ".
قوله: "باب الخميصة السوداء" تقدم تفسير الخميصة في أوائل كتاب الصلاة، قال الأصمعي: الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة وهي سود كانت من لباس الناس. وقال أبو عبيد هو كساء مربع له علمان، وقيل: هي كساء رقيق من أي لون كان، وقيل: لا تسمى خميصة حتى تكون سوداء معلمة. قوله: "عن أبيه سعيد ابن فلان ابن سعيد بن العاص" كذا قال البخاري عن أبي نعيم عن إسحاق بن سعيد عن أبيه فأبهم والد سعيد، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي خيثمة زهير بن حرب عن الفضل بن دكين وهو أبو نعيم "حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن العاص عن أبيه" وسيأتي بعد أبواب في "باب ما يدعى لمن لبس ثوبا

(10/279)


باب الثياب الخضر
...
23 - باب ثِيَابِ الْخُضْرِ
5825- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ "أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ الْقُرَظِيُّ قَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ فَشَكَتْ إِلَيْهَا وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضاً - قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا يَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا قَالَ وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إِلاَّ أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ - وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا – فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَنْفُضُهَا نَفْضَ الأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ

(10/281)


كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّي لَهُ أَوْ لَمْ تَصْلُحِي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ" قَالَ وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ فَقَالَ بَنُوكَ هَؤُلاَءِ قَالَ نَعَمْ قَالَ هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ" .
قوله: "باب الثياب الخضر" كذا للكشمهيني، وللمستملي والسرخسي "ثياب الخضر" كقولهم مسجد الجامع. قال ابن بطال: الثياب الخضر من لباس الجنة، وكفى بذلك شرفا لها. قلت وأخرج أبو داود من حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة أنه "رأى على النبي صلى الله عليه وسلم بردين أخضرين". قوله: "حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب" هو الثقفي وصرح به الإسماعيلي. قوله: "عن عكرمة" في رواية أبي يعلى "حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عبد الوهاب الثقفي" بسنده وزاد فيه: "عن ابن عباس". قوله: "أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر فشكت إليها" أي إلى عائشة وفيه التفات وتجريد. وفي قوله: "قالت عائشة" ما يبين وهم رواية سويد وأن الحديث من رواة عكرمة عن عائشة. قوله: "والنساء ينصر بعضهن بعضا" جملة معترضة، وهي من كلام عكرمة، وقد صرح وهيب بن خالد في روايته عن أيوب بذلك فقال بعد قوله: لجلدها أشد خضرة من خمارها "قال عكرمة: والنساء ينصر بعضهن بعضا" رويناه في "فوائد أبي عمرو بن السماك" من طريق عفان عن وهيب. قال الكرماني: خضرة جلدها يحتمل أن تكون لهزالها أو من ضرب زوجها لها. قلت: وسياق القصة رجح الثاني. قوله: "قال وسمع أنها قد أتت" في رواية وهيب "قال: فسمع بذلك زوجها". قوله: "ومعه ابنان" لم أقف على تسميتهما، ووقع في رواية وهيب بنون له.
قوله: "لم تحلي أو لم تصلحي له" كذا بالشك، وهو من الراوي. وفي رواية الكشميهني: "لا تحلين له ولا تصلحين له" وذكر الكرماني أنه وقع في بعض الروايات "لم تحلين" ثم أخذ في توجيهه، وعرف بهذا الجواب وجه الجمع بين قولها "ما معه إلا مثل الهدبة" وبين صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي عسيلته" وحاصله أنه رد عليها دعواها، أما أولا فعلى طريق صدق زوجها فيما زعم أنه ينفضها نفض الأديم، وأما ثانيا فللاستدلال على صدقه بولديه اللذين كانا معه. قوله: "وأبصر معه ابنين له فقال: بنوك هؤلاء" فيه جواز إطلاق اللفظ الدال على الجمع على الاثنين، لكن وقع في رواية وهيب بصيغة الجمع فقال: "بنون له". قوله: "تزعمين ما تزعمين" في رواية وهيب "هذا الذي تزعمين أنه كذا وكذا" وهو كناية عما ادعت عليه من العنة، وقد تقدمت مباحث قصة رفاعة وامرأته في كتاب الطلاق، وقوله لأنفضها نفض الأديم كناية بليغة في الغاية من ذلك لأنها أوقع في النفس من التصريح، لأن الذي ينفض الأديم يحتاج إلى قوة ساعد وملازمة طويلة، قال الداودي: يحتمل تشبيهها بالهدية انكساره وأنه لا يتحرك وأن شدته لا تشتد، ويحتمل أنها كنت بذلك عن نحافته، أو وصفته بذلك بالنسبة للأول، قال: ولهذا يستحب نكاح البكر لأنها تظن الرجال سواء، بخلاف الثيب.

(10/282)


24 - باب الثِّيَابِ الْبِيضِ
5826- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: "رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ مَا رَأَيْتُهُمَا

(10/282)


قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ".
5827- حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن الحسين عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر رضي الله عنه حدثه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر" وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وإن رغم أنف أبي ذر. قال أبو عبد الله هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال لا إله إلا الله غفر له".
قوله: "باب الثياب البيض" كأنه لم يثبت عنده على شرطه فيها شيء صريح، فاكتفى بما وقع في الحديثين اللذين ذكرهما، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث سمرة رفعه: "عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم" وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث ابن عباس بمعناه وفيه: "فإنها من خير ثيابكم". حديث سعد وهو ابن أبي وقاص، تقدم في غزوة أحد وفيه تسمية الرجلين وأنهما جبريل وميكائيل، ولم يصب من زعم أن أحدهما إسرافيل. والحديث الثاني عنه. قوله: "عن الحسين" هو بن ذكوان المعلم البصري. قوله: "عن عبد الله بن بريدة" أي بن الحصيب الأسلمي وهو تابعي وشيخه تابعي أيضا إلا أنه أكبر منه وأبو الأسود أيضا تابعي كبير كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا. قوله: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض" في هذا القدر الغرض المطلوب من هذا الحديث وبقيته تتعلق بكتاب الرقاق. وقد أورده فيه من وجه آخر مطولا ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، وفائدة وصفه الثوب. وقوله: "أتيته وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ" الإشارة إلى استحضاره القصة بما فيها ليدل ذلك على إتقانه لها. وقوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" يجوز في الغين المعجمة الفتح والكسر أي ذل كأنه لصق بالرغام وهو التراب. وقوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. وقوله: "هذا عند الموت أو قبله إذا تاب" أي من الكفر وندم يريد شرح قوله: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" وحاصل ما أشار إليه أن الحديث محمول على من وحد ربه ومات على ذلك تائبا من الذنوب التي أشير إليها في الحديث فإنه موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداء، وهذا في حقوق الله باتفاق أهل السنة. وأما حقوق العباد فيشترط ردها عند الأكثر، وقيل: بل هو كالأول ويثيب الله صاحب الحق بما شاء. وأما من تلبس بالذنوب المذكورة ومات توبة فظاهر الحديث أنه أيضا داخل في ذلك لكن مذهب أهل السنة أنه في مشيئة الله تعالى ويدل عليه حديث عبادة بن الصامت الماضي في كتاب الإيمان فإن فيه: "ومن أتى شيئا من ذلك فلم يعاقب به فأمره إلى الله تعالى أن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه" وهذا المفسر مقدم على المبهم وكل منهما يرد على المبتدعة من الخوارج ومن المعتزلة

(10/283)


الذين يدعون وجوب خلود من مات من مرتكبي الكبائر من غير توبة في النار أعاذنا الله من ذلك بمنه وكرمه. ونقل ابن التين عن الداودي أن كلام البخاري خلاف ظاهر الحديث فإنه لو كانت التوبة مشترطة لم يقل وإن زنى وإن سرق. قال: وإنما المراد أنه يدخل الجنة إما ابتداء وإما بعد ذلك. والله أعلم.

(10/284)


باب لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز
...
25 - باب لُبْسِ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ
5828- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ قَالَ فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الأَعْلاَمَ" .
[الحديث 5828 – أطرافه في: 5829، 5830، 5834، 5835]
5829- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا وَصَفَّ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِصْبَعَيْهِ وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ" .
5830- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ لَمْ يُلْبَسْ منه شيءٌ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ: الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى".
5831- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ" .
5832- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ شُعْبَةُ فَقُلْتُ أَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شَدِيداً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ" .
5833- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ يَقُولُ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" .
5834- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ يَزِيدَ قَالَتْ مُعَاذَةُ أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ عُمَرَ سَمِعَ

(10/284)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... نَحْوَهُ".
5835- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْحَرِيرِ فَقَالَتْ ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ سَلْ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ" فَقُلْتُ صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي عِمْرَانُ وَقَصَّ الْحَدِيثَ.
قوله: "باب لبس الحرير للرجال، وقدر ما يجوز منه" أي في بعض الثياب. ووقع في "شرح ابن بطال" و"مستخرج أبي نعيم" زيادة افتراشه في الترجمة، والأولى ما عند الجمهور، وقد ترجم للافتراش مستقلا كما سيأتي بعد أبواب. والحرير معروف، وهو عربي سمي بذلك لخلوصه يقال لكل خالص محرر، وحررت الشيء خلصته من الاختلاط بغيره. وقيل: هو فارسي معرب، والتقييد بالرجال يخرج النساء، وسيأتي في ترجمة مستقلة. قال ابن بطال: اختلف في الحرير فقال قوم: يحرم لبسه في كل الأحوال حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين. وقال قوم يجوز لبسه مطلقا وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء أو على التنزيه. قلت: وهذا الثاني ساقط لثبوت الوعيد على لبسه. وأما قول عياض: حمل بعضهم النهي العام في ذلك على الكراهة لا على التحريم، فقد تعقبه ابن دقيق العيد فقال: قد قال القاضي عياض "إن الإجماع انعقد بعد ابن الزبير ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء"، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزبير في الطريق التي أخرجها مسلم: "ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر" فذكر الحديث الآتي في الباب، قال: فإثبات قول بالكراهة دون التحريم إما أن ينقض ما نقله من الإجماع وإما أن يثبت أن الحكم العام قبل التحريم على الرجال كان هو الكراهة ثم انعقد الإجماع على التحريم على الرجال والإباحة للنساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة، وهو بعيد جدا. وأما ما أخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال: "لقي عمر عبد الرحمن بن عوف فنهاه عن لبس الحرير فقال: لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك" فهو محمول على أن عبد الرحمن فهم من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في لبس الحرير نسخ التحريم ولم ير تقييد الإباحة بالحاجة كما سيأتي، واختلف في علة تحريم الحرير عل رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني: لكونه ثوب رفاهية فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال. ويحتمل علة ثالثة وهي التشبه بالمشركين. قال ابن دقيق العيد: وهذا قد يرجع إلى الأول لأنه من سمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبرين إلا أن المعنى الثاني لا يقتضي التحريم لأن الشافعي قال في "الأم": ولا أكره لباس اللؤلؤ إلا للأدب فإنه زي النساء. واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء فإنه يقتضي منع ما كان مخصوصا بالنساء في جنسه وهيئته. وذكر بعضهم علة أخرى وهي السرف والله أعلم. قوله: "سمعت أبا عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر" كذا قال أكثر أصحاب قتادة وشذ عمر بن

(10/285)


عامر فقال عن قتادة عن أبي عثمان عن عثمان فذكر المرفوع، وأخرجه البزار وأشار إلى تفرده به، فلو كان ضابطا لقلنا سمعه أبو عثمان من كتاب عمر ثم سمعه من عثمان بن عفان، لكن طرق الحديث تدل على أنه عن عمر لا عن عثمان، وقد ذكره أصحاب الأطراف في ترجمة أبي عثمان عن عمر، وفيه نظر لأن المقصود بالكتابة إليه هو عتبة بن فرقد، وأبو عثمان سمع الكتاب يقرأ، فإما أن تكون روايته له عن عمر بطريق الوجادة وإما أن يكون بواسطة المكتوب إليه وهو عتبة بن فرقد، ولم يذكروه في رواية أبي عثمان عن عتبة، وقد نبه الدار قطني على أن هدا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قال ذلك بعد أن استدركه عليهما، وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليه، والله أعلم. قوله: "ونحن مع عتبة بن فرقد" صحابي مشهور سمي أبوه باسم النجم، واسم جده يربوع من بن حبيب بن مالك السلمي، ويقال إن يربوع هو فرقد وأنه لقب له، وكان عتبة أميرا لعمر في فتوح بلاد الجزيرة. قوله: "بأذربيجان" تقدم ضبطها في أوائل كتاب فضائل القرآن، وذكر المعافي في "تاريخ الموصل" أن عتبة هو الذي افتتحها سنة ثماني عشرة. وروى شعبة عن حصين بن عبد الرحمن السلمي عن أم عاصم امرأة عتبة "أن عتبة غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين" وأما قول المعافي إنه شهد خيبر وقسم له رسوله الله صلى الله عليه وسلم منها فلم يوافق على ذلك، وإنما أول مشاهده حنين روينا في "المعجم الصغير للطبراني" من طريق أم عاصم امرأة عتبة عن عتبة قال: "أخذني الشرى على عهد رسول الله، فأمرني فتجردت فوضع يده على بطني وظهري فعبق بي الطيب من يومئذ" قالت أم عاصم: كنا عنده أربع نسوة فكنا نجتهد في الطيب وما كان هو يمسه وإنه كان لأطيبنا ريحا. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد الإسماعيلي فيه من طريق علي بن الجعد عن شعبة بعد قوله مع عتبة بن فرقد "أما بعد فاتزروا وارتدوا وانتعلوا وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب وانزوا نزوا وارموا الأغراض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. قوله: "نهى عن الحرير" أي عن لبس الحرير كما في الرواية التي تلي هذه. قوله: "إلا هكذا" زاد الإسماعيلي في روايته من هذا الوجه: وهكذا. قوله: "وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام" المشير بذلك يأتي في رواية عاصم ما يقتضي أنه النبي صلى الله عليه وسلم كما سأبينه. قوله: "اللتين تليان الإبهام" يعني السبابة والوسطى، وصرح بذلك في رواية عاصم. قوله: "فيما علمنا أنه يعني الأعلام" بفتح الهمزة جمع علم بالتحريك أي الذي حصل في علمنا أن المراد بالمستثنى الأعلام وهو ما يكون في الثياب من تطريف وتطريز ونحوهما. ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي: "فما" بفتح الفاء بعدها حرف نفي "عتمنا" بمثناة بدل اللام أي ما أبطأنا "في معرفة ذلك لما سمعناه" قال أبو عبيد العاتم البطيء، يقال عتم الرجل القرى إذا أخره. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده وهو بذلك أشهر، وشيخه زهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وقد أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس هذا فبين جميع ذلك في سياقه. قوله: "كتب إلينا عمر" كذا للأكثر وكذا لمسلم، وللكشميهني: "كتب إليه" أي إلى عتبة بن فرقد، وكلتا الروايتين صواب فإنه كتب إلى الأمير لأنه هو الذي يخاطبه وكتب إليهم كلهم بالحكم. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم" زاد فيه مسلم قبل هذا "يا عتبة بن فرقد؛ إنه ليس من كدك ولا كد أبيك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى" فذكر

(10/286)


الحديث، وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك فعنده في أوله "أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود فلما رآه عمر قال: أيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال: لا. فقال عمر: لا أريده. وكتب إلى عتبة: إنه ليس من كدك" الحديث. قوله: "ورفع زهير الوسطى والسبابة" زاد مسلم في روايته: "وضمهما". قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن التيمي" هو سليمان بن طرخان. قوله: "عن أبي عثمان قال: كنا مع عتبة فكتب إليه عمر" في رواية مسلم من طريق جرير عن سليمان التيمي "فجاءنا كتاب عمر" وكذا عند الإسماعيلي من طريق معتمر بن سليمان. قوله: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شيء في الآخرة" كذا للمستملي والسرخسي "يلبس" بضم أوله في الموضعين، وكذا للنسفي وقال: "في الآخرة منه" وللكشميهني: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شيئا في الآخرة" بفتح أوله على البناء للفاعل، والمراد به الرجل المكلف، وأورده الكرماني بلفظ: "إلا من لم يلبسه" قال وفي أخرى "إلا من ليس يلبس منه" اهـ. وفي رواية مسلم المذكورة "لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة". قوله: "وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى" وقع هذا في رواية المستملي وحده، وهو لا يخالفه ما في رواية عاصم، فيجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار أولا ثم نقله عنه عمر فبين بعد ذلك بعض رواته صفة الإشارة. قوله: "حدثنا الحسن بن عمر" أي ابن شقيق الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء أبو علي البلخي، كذا جزم به الكلاباذي وآخرون، وشذ ابن عدي فقال: هو ابن عمر بن إبراهيم العبدي. قلت: ولم أقف لهذا العبدي على ترجمة، إلا أن ابن حبان قال في الطبقة الرابعة من الثقات الحسن بن عمر بن إبراهيم روى عن شعبة، فلعله هذا. وقد جزم صاحب "المزهر" أنه يكنى أبا بصير وأنه من شيوخ البخاري وأنه أخرج له حديثين وأنه أخرج للحسن بن عمر بن شبة وأكثر من ذلك. قلت ولم أر في جميع البخاري بهذه الصورة إلا أربعة أحاديث أحدها في "باب الطواف بعد العصر" من كتاب الحج قال فيه: "حدثنا الحسن بن عمر البصري حدثنا يزيد بن زريع" وهذا وآخر مثل هذا في الاستئذان، والرابع في كتاب الأحكام فساقه كما في سياق الحج سواء فتعين أنه هو. وأما هذا والذي في الاستئذان فعلى الاحتمال والأقرب أنه كما قال الأكثر. قوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي. قوله: "وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى" يريد أن معتمر بن سليمان رواه عن أبيه عن أبي عثمان عن كتاب عمر وزاد هذه الزيادة، وهذا مما يؤيد أن رواية الأكثر في الطريق التي قبلها التي خلت عن هذه الزيادة أولى من رواية المستملي التي أوردها فيه، فإن هذا القدر زاد معتمر بن سليمان في روايته عن أبيه، ثم ظهر لي أن الذي زاده معتمر تفسير الإصبعين، فإن الإسماعيلي أخرجه من روايته ومن رواية يحيى القطان جميعا عن سليمان التيمي وقال في سياقه "كنا مع عتبة بن فرقد فكتب إليه عمر يحدثه بأشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وفيما كتبه إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا لا يلبس الحرير في الدنيا من له في الآخرة منه شيء، إلا، وأشار بإصبعيه" فعرف أن زيادة معتمر تسمية الإصبعين. وقد أخرجه مسلم والإسماعيلي أيضا من طريق جرير عن سليمان وقال فيه: "بإصبعيه اللتين تليان الإبهام فرأيناها أزرار الطيالسة حين رأينا الطيالسة" قال القرطبي: الأزرار جمع زر بتقديم الزاي: ما يزرر به الثوب بعضه على بعض، والمراد به هنا أطراف الطيالسة، والطيالسة جمع طيلسان وهو الثوب الذي له علم وقد يكون كساء، وكان للطيالسة التي رآها أعلام حرير في أطرافها. قلت: وقد أغفل صاحب "المشارق" و"النهاية" في مادة ط ل س ذكر الطيالسة

(10/287)


وكأنهما تركا ذلك لشهرته، لكن المعهود الآن ليس على الصفة المذكورة هنا، وقد قال عياض في "شرح مسلم" المراد بأزرار الطيالسة أطرافها. ووقع في حديث أسماء بنت أبي بكر عند مسلم أنها "أخرجت جبة طيالسة كسروانية فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا يدل على أن المراد بالطيالسة في هذا الحديث ما يلبس فيشمل الجسد، لا المعهود الآن. ولم يقع في رواية أبي عثمان في الصحيحين في استثناء ما يجوز من لبس الحرير إلا ذكر الإصبعين، لكن وقع عند أبي داود من طريق حماد بن سلمة عن عاصم الأحول في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الحرير إلا ما كان هكذا وهكذا إصبعين وثلاثة وأربعة" ولمسلم من طريق سويد بن غفلة بفتح المعجمة والفاء واللام الخفيفتين "أن عمر خطب فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع" و"أو" هنا للتنويع والتخيير، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ: "إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا يعني أصبعين وثلاثا وأربعا" وجنح الحليمي إلى أن المراد بما وقع في رواية مسلم أن يكون في كل قدر إصبعين، وهو تأويل بعيد من سياق الحديث، وقد وقع عند النسائي في رواية سويد "لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع". قوله: "الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر؛ وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن، ووقع في رواية القابسي عن أبي ليلى وهو غلط لكن كتب في الهامش: الصواب ابن أبي ليلى. قوله: "كان حذيفة" هو ابن اليمان وقد مضى شرح حديثه هذا في كتاب الأشربة. قوله: "الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" تمسك به من منع استعمال النساء للحرير والديباج، لأن حذيفة استدل به على تحريم الشرب في إناء الفضة وهو حرام على النساء والرجال جميعا فيكون الحرير كذلك. والجواب أن الخطاب بلفظ لكم للمذكر، ودخول المؤنث فيه قد اختلف فيه؛ والراجح عند الأصوليين عدم دخولهن. وأيضا فقد ثبت إباحة الحرير والذهب للنساء كما سيأتي التنبيه عليه في "باب الحرير للنساء" قريبا، وأيضا فإن هذا اللفظ مختصر وقد تقدم بلفظ: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة" والخطاب في ذلك للذكور، وحكم النساء في الافتراش سيأتي في باب افتراش الحرير قريبا، وقوله: "هي لهم في الدنيا" تمسك به من قال إن الكافر ليس مخاطبا بالفروع. وأجيب بأن المزاد هي شعارهم وزيهم في الدنيا، ولا يدل ذلك على الإذن لهم في ذلك شرعا. قوله: "قال شعبة: فقلت أعن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شديدا عن النبي صلى الله عليه وسلم" وقع في رواية علي بن الجعد عن شعبة "سألت عبد العزيز بن صهيب عن الحرير فقال: سمعت أنسا. فقلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شديدا " وهذا الجواب يحتمل أن يكون تقريرا لكونه مرفوعا إنما حفظه حفظا شديدا، ويحتمل أن يكون إنكارا أي جزمي برفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقع شديدا علي، وأبعد من قال: المراد أنه رفع صوته رفعا شديدا. وقال الكرماني: لفظة "شديدا" صفة لفعل محذوف وهو الغضب أي غضب عبد العزيز من سؤال شعبة غضبا شديدا، كذا قال ووجهه غير وجيه، والاحتمال الأول عندي أوجه، ولكنه يؤيد الثاني أن أحمد أخرجه عن محمد بن جعفر عن شعبة فقال فيه: "سمعت أنسا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرجه أيضا عن إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأخرجه مسلم أيضا من طريق إسماعيل هذا. قوله: "عن ثابت" هو البناني. قوله: "سمعت ابن الزبير يخطب" زاد النسائي: "وهو على المنبر" أخرجه عن قتيبة عن حماد بن زيد به. وأخرجه أحمد عن عفان عن حماد بلفظ: "يخطبنا". قوله: "قال محمد صلى الله عليه وسلم"

(10/288)


هذا من مرسل ابن الزبير، ومراسيل الصحابة محتج بها عند جمهور من لا يحتج بالمراسيل، لأنهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي آخر، واحتمال كونها عن تابعي لوجود رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين نادر، لكن تبين من الروايتين اللتين بعد هذه أن ابن الزبير إنما حمله عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عمر، ومع ذلك فلم أقف في شيء من الطرق المتفقة عن عمر أنه رواه بلفظ: "لن" بل الحديث عنه في جميع الطرق بلفظ: "لم" والله أعلم. وابن الزبير قد حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، منها حديثه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة فرفع يديه" أخرجه أحمد. ومنها حديثه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا وعقد ابن الزبير" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. ومنها حديثه أنه "سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن نبيذ الجر" أخرجه أحمد أيضا. قوله: "لن يلبسه في الآخرة" كذا في جميع الطرق عن ثابت، وهو أوضح في النفي. قوله: "عن أبي ذبيان" - بكسر المعجمة ويجوز ضمها بعدها موحدة ساكنة ثم تحتانية - هو التميمي البصري، ما له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وثقه النسائي. ووقع في رواية أبي علي بن السكن عن الفربري "عن أبي ظبيان" بظاء مشالة بدل الذال وهو خطأ، وأشد خطأ منه ما وقع قي رواية أبي زيد المروزي عن الفربري "عن أبي دينار" بمهملة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ونون ثم راء، نبه على ذلك أبو محمد الأصيلي. قوله: "سمعت ابن الزبير يقول سمعت عمر يقول" وقع في رواية النضر بن شميل عن شعبة "حدثنا خليفة بن كعب سمعت عبد الله بن الزبير يقول: لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر" أخرجه النسائي. وقد أخرجه النسائي أيضا من طريق جعفر بن ميمون عن خليفة بن كعب فلم يذكر عمر في إسناده، وشعبة أحفظ من جعفر بن ميمون. قوله: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" في رواية الكشميهني: "لن يلبسه" والمحفوظ من هذا الوجه "لم" وكذا أخرجه مسلم والنسائي، وزاد النسائي في رواية جعفر بن ميمون في آخره: "ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وهذه الزيادة مدرجة في الخبر، وهي موقوفة على ابن الزبير، بين ذلك النسائي أيضا من طريق شعبة فذكر مثل سند حيث الباب وفي آخره: "قال ابن الزبير" فذكر الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن الجعد عن شعبة ولفظه: "فقال ابن الزبير من رأيه: ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، وذلك لقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر أيضا أخرجه النسائي من طريق حفصة بنت سيرين عن خليفة بن كعب قال: "خطبنا ابن الزبير" فذكر الحديث المرفوع وزاد: "فقال قال ابن عمر إذا والله لا يدخل الجنة، قال الله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من طريق داود السراج عن أبي سعيد فذكر الحديث المرفوع مثل حديث عمر هذا في الباب وزاد: "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وهذا يحتمل أن يكون أيضا مدرجا، وعلى تقدير أن يكون الرفع محفوظا فهو من العام المخصوص بالمكلفين من الرجال للأدلة الأخرى بجوازه للنساء، وستأتي الإشارة إلى معنى الوعيد فيه قريبا من طريق أخرى لرواية ابن الزبير عن عمر. قوله: "وقال أبو معمر" هو عبد الله بن معمر بن عمرو بن الحجاج، وقد أكثر عنه البخاري، ولم يصرح ف هذا الموضع عنه بالتحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق يعقوب بن سفيان، زاد الإسماعيلي ويحيى بن معلى الرازي "قالا حدثنا أبو معمر". قوله: "حدثنا عبد الوارث" هو ابن سعيد ويزيد هو الضبعي المعروف بالرشك بكسر الراء وسكون المعجمة، ومعاذة هي العدوية، والإسناد من مبتدئه إلى معاذة بصريون. قوله: "أخبرتني أم عمرو بنت

(10/289)


عبد الله" جزم أبو نصر الكلاباذي ومن تبعه بأنها بنت عبد الله بن الزبير، ولم أرها منسوبة فيما وقفت عليه من طرق هذا الحديث. قوله: "سمعت عبد الله بن الزبير سمع عمر" في رواية الإسماعيلي: "سمعت من عبد الله بن الزبير يقول في خطبته أنه سمع من عمر بن الخطاب". قوله: "نحوه" ساقه الإسماعيلي بلفظ: "فإنه لا يكساه في الآخرة" وله من طريق شيبان بن فروخ عن عبد الوارث "فلا كساه الله في الآخرة" طريق أخرى لحديث عمر. قوله: "حدثنا محمد بن بشار" هو بندار، وعثمان هو ابن عمر بن فارس، والسند كله إلى عمران بن حطان بصريون، وعمران هو السدوسي كان أحد الخوارج من العقدية بل هو رئيسهم وشاعرهم، وهو الذي مدح ابن ملجم قاتل علي بالأبيات المشهورة، وأبوه حطان بكسر المهملة بعدها طاء مهملة ثقيلة، وإنما أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صامد اللهجة متدينا؛ وقد قيل إن عمران تاب من بدعته وهو بعيد، وقيل: إن يحيى بن أبي كثير حمله عنه قبل أن يبتدع، فإنه كان تزوج امرأة من أقاربه تعتقد رأي الخوارج لينقلها عن معتقدها فنقلته هي إلى معتقدها، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وهو متابعة، وآخر في "باب نقض الصور". قوله: "سألت عائشة عن الحرير فقالت: ائت ابن عباس فسله، قال فسألته فقال: سل ابن عمر" كذا في هذه الطريق. وفي رواية حرب بن شداد التي تذكر عقب هذه بالعكس أنه سأل ابن عباس فقال: سل عائشة، فسألها فقالت: سل أبو عمر. قوله: "أخبرني أبو حفص يعني عمر بن الخطاب" كذا في الأصل. قوله: "فقلت صدق وما كذب أبو حفص" هو قول عمران بن حطان. قوله: "وقال عبد الله بن رجاء" هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف المهملة، وهو من شيوخ البخاري أيضا لكن لم يصرح في هذا بتحديثه. قوله: "حدثنا حرب" هو ابن شداد، وزعم الكرماني أنه ابن ميمون، ونسبه لصاحب الكاشف وهو عجيب فإن صاحب الكاشف لم يرقم لحرب بن ميمون علامة البخاري، وإنما قال في ترجمة عبد الله بن رجاء روى عن حرب بن ميمون، ولا يلزم من كون عبد الله بن رجاء روى عنه أن لا يروي عن حرب بن شداد، يل روايته عن حرب بن شداد موجودة في غير هذا ويحيى هو ابن أبي كثير، وأراد البخاري بهذه الرواية تصريح يحيى بتحديث عمران له بهذا الحديث. قوله: "وقص الحديث" ساقه النسائي موصولا عن عمرو بن منصور عن عبد الله بن رجاء عن حرب بن شداد بلفظ: "من لبس الحرير في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة" وقد ذكر الدار قطني أن هذا اللفظ في حديث عمر خطأ، ولعل البخاري لم يسق اللفظ لهذا المعنى. وفي هذه الأحاديث بيان واضح لمن قال يحرم على الرجال لبس الحرير للوعيد المذكور، وقد تقدم شرح معناه في كتاب الأشربة في شرح أول حديث منه، فإن الحكم فيها واحد وهو نفي اللبس ونفي الشرب في الآخرة وفي الجنة. وحاصل أعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع كالتوبة والحسنات التي توازن والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا شفاعة من يؤذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين. وفيه حجة لمن أجاز لبس العلم من الحرير إذا كان في الثوب، وخصه بالقدر المذكور وهو أربع أصابع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وفيه حجة على من أجاز العلم في الثوب مطلقا ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية، وفيه حجة على من منع العلم في الثوب مطلقا، وهو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعا وإلا فالحديث حجة عليهم فلعلهم لم يبلغهم، قال النووي وقد نقل مثل ذلك عن مالك وهو مذهب مردود، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير والله أعلم. واستدل به على جواز لبس الثوب المطرز بالحرير، وهو ما جعل عليه طراز حرير مركب،

(10/290)


وكذلك المطرف وهو ما سجفت أطرافه بسجف من حرير بالتقدير المذكور، وقد يكون التطريز في نفس الثوب بعد النسج، وفيه احتمال ستأتي الإشارة إليه. واستدل به أيضا على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم سواء كان ذلك القدر مجموعا أو مفرقا وهو قوي، وسيأتي البحث في ذلك في "باب القسي" بعد بابين.

(10/291)


26 - باب مَسِّ الْحَرِيرِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ
وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5836- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبُ حَرِيرٍ فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا قُلْنَا نَعَمْ قَالَ مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا" .
قوله: "باب من مس الحرير من غير لبس، ويروى فيه عن الزبيدي عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم" ذكر المزي في "الأطراف" أنه أراد بهذا التعليق ما أخرجه أبو داود والنسائي من رواية بقية عن الزبيدي بهذا الإسناد إلى أنس أنه "رأى على أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم بردا سيراء" كذا قال، وليس هذا مراد البخاري، والرؤية لا يقال لها مس، وأيضا فلو كان هذا الحديث مراده لجزم به لأنه صحيح عنده على شرطه، وقد أخرجه في "باب الحرير للنساء" من رواية شعيب عن الزهري كما سيأتي قريبا، وإنما أراد البخاري ما رويناه في "المعجم الكبير" للطبراني وفي "فوائد تمام" من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عن الزبيدي عن الزهري عن أنس قال: "أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حلة من استبرق، فجعل ناس يلمسونها بأيديهم ويتعجبون منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعجبكم هذه؟ فوالله لمناديل سعد في الجنة أحسن منها" قال الدار قطني في "الأفراد" لم يروه عن الزبيدي إلا عبد الله بن سالم. ومما يؤكد ما قلته أن البخاري لما أخرج في المناقب حديث البراء بن عازب في قصة سعد بن معاذ في هذا المعنى موصولا قال بعده: "رواه الزهري عن أنس" ولما صدر بحديث الزهري عن أنس - المعلق هنا - عقبه بحديث البراء الموصول بعينه والله أعلم. قوله في حديث البراء "فجعلنا نلمسه" جزم في "المحكم" بأنه بضم الميم في المضارع، وقوله: "مناديل سعد" قيل: خص المناديل بالذكر لكونها تمتهن فيكون ما فوقها أعلى منها بطريق الأولى، قال ابن بطال: النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه، وقد تقدم شيء مما يتعلق بالحديث المذكور في كتاب الهبة.

(10/291)


27 - باب افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ وَقَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ
5837- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب افتراش الحرير" أي حكمه في الحل والحرمة. قوله: "وقال عبيدة" هو ابن عمرو السلماني بسكون

(10/291)


28 - باب لُبْسِ الْقَسِّيِّ
وَقَالَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ مَا الْقَسِّيَّةُ قَالَ ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّأْمِ أَوْ مِنْ مِصْرَ مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ وَفِيهَا أَمْثَالُ الأُتْرُنْجِ وَالْمِيثَرَةُ كَانَتْ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ فِيهَا الْحَرِيرُ وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ عَاصِمٌ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمِيثَرَةِ
5838- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّيِّ" .
قوله: "باب لبس القسي" بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء نسبة، وذكر أبو عبيد في "غريب الحديث" أن أهل الحديث يقولونه بكسر القاف وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد يقال لها القس رأيتها ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قال الأكثر هي نسبة للقس بمصر منهم الطبري وابن سيده. وقال الحازمي: هي من بلاد الساحل وقال المهلب هي على ساحل مصر وهي حصن بالقرب من الفرما من جهة الشام، وكذا وقع في حديث ابن وهب أنها تلي الفرما والفرما بالفاء وراء مفتوحة. وقال النووي: هي بقرب تنيس وهو متقارب، وحكى أبو عبيد

(10/292)


29 - باب مَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ
5839- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا" .
قوله: "باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة" بكسر المهملة وتشديد الكاف: نوع من الجرب أعاذنا الله تعالى منه، وذكر الحكة مثالا لا قيدا، وقد ترحم له في الجهاد "الحرير للجرب" وتقدم أن الراجح أنه بالمهملة وسكون الراء. قوله: "حدثني محمد" كذا للأكثر غير منسوب ووقع في رواية أبي علي بن السكن "حدثنا محمد بن سلام" وبه جزم المزي في الأطراف. قوله: "عن أنس" وقع في رواية يحيى القطان عن شعبة عن قتادة "سمعت أنسا" وقد تقدمت في الجهاد. قوله: "للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما" أي لأجل الحكة. وفي رواية سعيد عن قتادة "من حكة كانت بهما" وفي رواية همام عن قتادة أنهما شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل، وقد تقدمنا في الجهاد، وكأن الحكة نشأت من أثر القمل، وتقدمت مباحثه في كتاب الجهاد، قال الطبري: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير انتهى. ويلتحق بذلك ما يقي من الحر أو البرد حيث لا يوجد غيره، وقد تقدم في الجهاد أن بعض الشافعية خص الجواز بالسفر دون الحضر، واختاره ابن

(10/295)


الصلاح، وخصه النووي في "الروضة" مع ذلك بالحكة ونقله الرافعي في القمل أيضا.
" تنبيه ": وقع في "الوسيط للغزالي" أن الذي رخص له في لبس الحرير حمزة بن عبد المطلب، وغلطوه. وفي وجه للشافعية أن الرخصة خاصة بالزبير وعبد الرحمن، وقد تقدم في الجهاد عن عمر ما يوافقه.

(10/296)


30 - باب الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ
5840- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَسَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَخَرَجْتُ فِيهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي".
5841- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ قَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ" وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ حَرِيرٍ كَسَاهَا إِيَّاهُ فَقَالَ عُمَرُ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِيهَا مَا قُلْتَ فَقَالَ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا" .
5842- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ "رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ".
قوله: "باب الحرير للنساء" كأنه لم يثبت عنده الحديثان المشهوران في تخصيص النهي بالرجال صريحا فاكتفى بما يدل على ذلك. وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا وذهبا فقال: هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم" وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الترمذي والحاكم من حديث موسى وأعله ابن حبان وغيره بالانقطاع وأن رواية سعيد بن أبي هند لم تسمع من أبي موسى. وأخرج أحمد والطحاوي وصححه من حديث مسلمة بن مخلد أنه قال لعقبة بن عامر: قم فحدث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "سمعته يقول: الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم" قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إن قلنا إن تخصيص النهي للرجال لحكمة فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين فلطف بهن في إباحته، ولأن تزيينهن غالبا إنما هو للأزواج، وقد ورد أن "حسن التبعل من الإيمان" قال، ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث. قوله: "عن عبد الملك بن ميسرة" بفتح الميم وتحتانية ساكنة ثم مهملة هو الهلالي أبو زيد الزراد بزاي ثم راء ثقيلة، وقد تقدم في النفقات من وجه آخر عن شعبة أخبرني عبد الملك، ولشعبة فيه إسناد آخر أخرجه مسلم من رواية معاذ عنه عن أبي عون الثقفي عن أبي صالح الحنفي عن علي. قوله: "عن زيد بن وهب" كذا للأكثر، وتقدم كذلك في الهبة والنفقات. وكذا عند مسلم، ووقع في رواية علي بن السكن هنا وحده عن النزال بن سبرة بدل زيد بن وهب وهو وهم، كأنه انتقل من حديث إلى حديث لأن رواية عبد الملك عن النزال عن علي

(10/296)


إنما هي في الشرب قائما كما تقدم في الأشربة، وقد وافق الجماعة في الموضعين الآخرين، وزيد بن وهب هو الجهني الثقة المشهور من كبار التابعين، وما له في البخاري عن علي سوى هذا الحديث، وتقدم في الهبة بلفظ: "سمعت زيد بن وهب". قوله: "أهدى" بفتح أوله. قوله: "إلي" بتشديد الياء(1) ووقع في رواية أبي صالح المذكورة "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة فبعث بها إلي" ولمسلم أيضا من وجه آخر عن أبي صالح عن علي "أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا" وفي رواية للطحاوي "أهدى أمير أذربيجان إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير" وسنده ضعيف. قوله: "حلة سيراء" قال أبو عبيد الحلل برود اليمن، والحلة إزار ورداء، ونقله ابن الأثير وزاد إذا كان من جنس واحد. وقال ابن سيده في المحكم الحلة برد أو غيره، وحكى عياض أن أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين كما حل طيهما، وقيل: لا يكون الثوبان حلة حتى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حل عليه والأول أشهر، والسيراء بكسر المهملة وفتح التحتانية والراء مع المد، قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء بكسر أوله مع المد سوى سيراء، وحولاء وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعنباء لغة في العنب، قال مالك: هو الوشي من الحرير، كذا قال، والوشي بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها تحتانية. وقال الأصمعي ثياب فيها خطوط من حرير أو قز، وإنما قيل لها سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مضلع بالحرير وقيل: مختلف الألوان فيه خطوط ممتدة كأنها السيور. ووقع عند أبي داود في حديث أنس "أنه رأى على أم كلثوم حلة سيراء" والسيراء المضلع بالقز، وقد جزم ابن بطال كما سيأتي في ثالث أحاديث الباب أنه من تفسير الزهري. وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود، وقيل ثوب مسير فيه خطوط يعمل من القز، وقيل: ثياب من اليمن. وقال الجوهري: برد فيه خطوط صفر، ونقل عياض عن سيبويه قال لم يأت فعلاء صفة لكن اسما، وهو الحرير الصافي واختلف في قوله: "حلة سيراء" هل هو بالإضافة أو لا، فوقع عند الأكثر بتنوين حلة على أن سيراء عطف بيان أو نعت، وجزم القرطبي بأنه الرواية. وقال الخطابي: قالوا حلة سيراء كما قالوا ناقة عشراء، ونقل عياض عن أبي مروان بن السراج أنه بالإضافة، قال عياض: وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا. وقال النووي إنه قول المحققين ومتقني العربية وإنه من إضافة الشيء لصفته كما قالوا ثوب خز. قوله: "فخرجت فيها" في رواية أبي صالح عن علي "فلبستها". قوله: "فرأيت الغضب في وجهه" زاد مسلم في رواية أبي صالح "فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء" وله في أخرى "شققها خمرا بين الفواطم". قوله: "فشققتها بين نسائي" أي قطعتها ففرقتها عليهن خمرا، والخمر بضم المعجمة والميم جمع خمار بكسر أوله والتخفيف: ما تغطي به المرأة رأسها، والمراد بقوله: "نسائي" ما فسره في رواية أي صالح حيث قال: "بين الفواطم" ووقع في رواية النسائي حيث قال: "فرجعت إلى فاطمة فشققتها، فقالت: ماذا جئت به؟ قلت نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبسها فالبسيها واكسي نساءك" وفي هذه الرواية أن عليا إنما شققها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد بن قتيبة: المراد بالفواطم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد بن هاشم والدة علي ولا أعرف الثالثة. وذكر أبو منصور الأزهري أنها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب. وقد أخرج الطحاوي وابن أبي الدنيا في "كتاب الهدايا" وعبد الغني بن سعيد في "المبهمات" وابن عبد البر كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن أبي فاختة عن هبيرة بن
ـــــــ
(1) عبارة المتن هنا "كساني النبي الخ".

(10/297)


يريم - بتحتانية أوله ثم راء وزن عظيم - عن علي في نحو هذه القصة قال: "فشققت منها أربعة أخمرة" فذكر الثلاث المذكورات، قال: ونسي يزيد الرابعة. وفي رواية الطحاوي "خمارا لفاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي، وخمارا لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخمارا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارا لفاطمة أخرى قد نسيتها" فقال عياض لعلها فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة، وقيل: بنت الوليد بن عتبة. وامرأة عقيل هذه هي التي لما تخاصمت مع عقيل بعث عثمان معاوية وابن عباس حكمين بينهما ذكره مالك في "المدونة" وغيره، واستدل بهذا الحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحلة إلى علي فبنى علي على ظاهر الإرسال فانتفع بها في أشهر ما صنعت له وهو اللبس، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبح له لبسها وإنما بعث بها إليه ليكسوها غيره ممن تباح له، وهذا كله إن كانت القصة وقعت بعد النهي عن لبس الرجال الحرير، وسيأتي مزيد لهذا في الحديث الذي بعده. قوله: "جويرية" بالجيم والراء مصغر وبعد الراء تحتانية مفتوحة. قوله: "عن عبد الله" هو ابن عمر. قوله: "أن عمر رأى حلة سيراء" هكذا رواه أكثر أصحاب نافع، وأخرجه النسائي من رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه "رأى حلة" فجعله في مسند عمر. قال الدار قطني: المحفوظ أنه من مسند ابن عمر. وسيراء تقدم ضبطها وتفسيرها في الحديث الذي قبله. ووقع في رواية مالك عن نافع كما تقدم في كتاب الجمعة أن ذلك كان على باب المسجد. وفي رواية ابن إسحاق عن نافع عند النسائي: "أن عمر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السوق فرأى الحلة" ولا تخالفه بين الروايتين، لأن طرف السوق كان يصل إلى قرب باب المسجد. قوله: "تباع" في رواية جرير بن حازم عن نافع عند مسلم: "رأى عمر عطاردا التميمي يقيم حلة بالسوق، وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم" وأخرج الطبراني من طريق أبي مجلز عن حفصة بنت عمر "أن عطارد بن حاجب جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى، فقال عمر: ألا أشتريه لك يا رسول الله؟" ومن طريق عبد الرحمن بن عمرو بن معاذ عن عطارد نفسه أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج كساه إياه كسرى، والجمع بينهما أن عطاردا لما أقامه في السوق ليباع لم يتفق له بيعه فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم. وعطارد هذا هو ابن حاجب بن زرارة بن عدس بمهملات الدارمي يكنى أبا عكرشة بشين معجمة، كان من جملة وفد بني تميم أصحاب الحجرات، وقد أسلم وحسن إسلامه واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وكان أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية، وقصته مع كسرى في رهنه قوسه عوضا عن جمع كثير من العرب عند كسرى مشهورة حتى ضرب المثل بقوس حاجب. قوله: "لو ابتعتها فلبستها" في رواية سالم عن ابن عمر كما تقدم في العيدين "ابتع هذه فتجمل بها" وكان عمر أشار بشرائها وتمناه. قوله: "للوفد إذا أتوك" في رواية جرير بن حازم "لوفود العرب" وكأنه خصه بالعرب لأنهم كانوا إذ ذاك الوقود في الغالب، لأن مكة لما فتحت بادر العرب بإسلامهم فكانت كل قبيلة ترسل كبراءها ليسلموا ويتعلموا ويرجعوا إلى قومهم فيدعوهم إلى الإسلام ويعلموهم. قوله: "والجمعة" في رواه سالم "العيد" بدل "الجمعة" وجمع ابن إسحاق عن نافع ما تضمنته الروايتان، أخرجه النسائي بلفظ: "فتجمل بها لوفود العرب إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره". قوله: "إنما يلبس هذه" في رواية جرير بن حازم "إنما يلبس الحرير". قوله: "من لا خلاق له" زاد مالك في روايته: "في الآخرة". والخلاق النصيب وقيل: الحظ وهو المراد هنا، ويطلق أيضا على الحرمة وعلى الدين، ويحتمل أن يراد من لا نصيب له في الآخرة أي من لبس الحرير قاله الطيبي، وقد تقدم في حديث أبي عثمان عن عمر في أول حديث من

(10/298)


"باب لبس الحرير" ما يؤيده ولفظه: "لا يلبس الحرير إلا من ليس له في الآخرة منه شيء". قوله: "وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء" زاد الإسماعيلي من هذا الوجه، "بحلة سيراء من حرير" ومن بيانية وهو يقتضي أن السيراء قد تكون من غير حرير. قوله: "كساها إياه" كذا أطلق، وهي باعتبار ما فهم عمر من ذلك، وإلا فقد ظهر من بقية الحديث أنه لم يبعث إليه بها ليلبسها، أو المراد بقوله كساه أعطاه ما يصلح أن يكون كسوة. وفي رواية مالك الماضية في الجمعة "ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر حلة" وفي رواية جرير بن حازم "فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة" وعرف بهذا جهة الحلة المذكورة في حديث علي المذكور أولا. قوله: "فقال عمر كسوتنيها وقد سمعتك تقول فيها ما قلت" في رواية جرير بن حازم "فجاء عمر بحلته يحملها فقال: بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت" والمراد بالأمس هنا يحتمل الليلة الماضية أو ما قبلها بحسب ما اتفق من وصول الحلل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد قصة حلة عطارد. وفي رواية محمد بن إسحاق "فخرجت فزعا فقلت: يا رسول الله ترسل بها إلي وقد قلت فيها ما قلت". قوله: "إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو تكسوها" في رواية جرير "لتصيب بها" وفي رواية الزهري عن سالم كما مضى في العيدين "تبيعها وتصيب بها حاجتك" وفي رواية يحيي بن إسحاق عن سالم كما سيأتي في الأدب "لتصيب بها مالا" وزاد مالك في آخر الحديث: "فكساها عمر أخا له بمكة مشركا" زاد في رواية عبيد الله بن عمر العمري عند النسائي: "أخا له من أمه" وتقدم في البيوع من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر "فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم" قال النووي هذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك. قلت: ولم أقف على تسمية هذا الأخ إلا فيما ذكره ابن بشكوال في "المبهمات" نقلا عن ابن الحذاء في رجال الموطأ فقال: اسمه عثمان بن حكيم، قال الدمياطي: هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه. فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يصب. قلت: بل له وجه بطريق المجاز. ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد فيكون عثمان أخا عمر لأمه من الرضاع وأخا زيد لأمه من النسب. وأفاد ابن سعد أن والدة سعيد بن المسيب هي أم سعيد بن عثمان بن الحكم، ولم أقف على ذكره في الصحابة، فإن كان أسلم فقد فاتهم، فليستدرك، وإن كان مات كافرا وكان قوله: "قبل أن يسلم" لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره مع قطع النظر عما وراء ذلك، فلتعد بنته في الصحابة. وفي حديث جابر الذي أوله "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في قباء حرير ثم نزعه فقال نهاني عنه جبريل" كما تقدم التنبيه عليه في أوائل كتاب الصلاة زيادة عند النسائي وهي "فأعطاه لعمر، فقال: لم أعطكه لتلبسه بل لتبيعه، فباعه عمر" وسنده قوي وأصله في مسلم، فإن كان محفوظا أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه بعد أن أهداه له، والله أعلم.
"تنبيه": وجه إدخال هذا الحديث في "باب الحرير للنساء" يؤخذ من قوله لعمر "لتبيعها أو تكسوها" لأن الحرير إذا كان لبسه محرما على الرجال فلا فرق بين عمر وغيره من الرجال في ذلك فينحصر الإذن في النساء، وأما كون عمر كساها أخاه فلا يشكل على ذلك عند من يرى أن الكافر مخاطب بالفروع ويكون أهدى عمر الحلة لأخيه ليبيعها أو يكسوها امرأة، ويمكن من يرى أن الكافر غير مخاطب أن ينفصل عن هذا الإشكال بالتمسك بدخول النساء في عموم قوله أو يكسوها أي إما للمرأة أو للكافر بقرينة قوله: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له" أي من الرجال. ثم ظهر لي وجه آخر وهو أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكورة

(10/299)


فقد أخرج الحديث المذكور الطحاوي من رواية أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر قال: "أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عطارد حلة فكرهها له ثم أنه كساها عمر مثله" الحديث، وفيه: "إني لم أكسكها لتلبسها إنما أعطيتكها لتلبسها النساء " واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير الصرف بناء على أن الحلة السيراء هي التي تكون من حرير صرف، قال ابن عبد البر: هذا قول أهل العلم، وأما أهل اللغة فيقولون: هي التي يخالطها الحرير، قال: والأول هو المعتمد. ثم ساق من طريق محمد بن سيرين عن ابن عمر نحو حديث الباب وفيه: "حلة من حرير" وقال ابن بطال: دلت طرق الحديث على أن الحلة المذكورة كانت من حرير محض، ثم ذكر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر "أن عمر قال: يا رسول الله، إني مررت بعطارد يعرض حلة حرير للبيع" الحديث أخرجه أبو عوانة والطبري بهذا اللفظ. قلت: وتقدم في البيوع من طريق أبي بكر بن حفص عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه "حلة حرير أو سيراء"، وفي العيدين من طريق الزهري عن سالم "حلة من استبرق" وقد فسر الإستبرق في طريق أخرى بأنه ما غلظ من الديباج، أخرجه المصنف في الأدب من طريق يحيى بن إسحاق قال: "سألني سالم عن الإستبرق فقلت: ما غلظ من الديباج، فقال: سمعت عبد الله بن عمر" فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أنس في نحو هذه القصة "حلة من سندس" قال النووي: هذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريرا محضا قلت: الذي يتبين أن السيراء قد تكون حريرا صرفا وقد تكون غير محض، فالتي في قصة عمر جاء التصريح بأنها كانت من حرير محض ولهذا وقع في حديثه " إنما يلبس هذه من لا خلاق له"، والتي في قصة على لم تكن حريرا صرفا لما روى ابن أبي شيبة من طريق أبي فاختة عن هبيرة بن يريم عن علي قال: "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير إما سداها أو لحمتها. فأرسل بها إلي فقلت: ما أصنع بها، ألبسها؟ قال: لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي، ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم" وقد أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق ابن إسحاق عن هبيرة فقال فيه: "حلة من حرير" وهو محمول على رواية أبي فاختة وهو بفاء ومعجمة ثم مثناة اسمه سعيد بن علاقة بكسر المهملة وتخفيف اللام ثم قاف، ثقة، ولم يقع في قصة علي وعيد على لبسها كما وقع في قصة عمر، بل فيه: "لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي" ولا ريب أن ترك لبس ما خالطه الحرير أولى من لبسه عند من يقول بجوازه والله أعلم. حديث أنس أنه "رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برد حرير سيراء" هكذا وقع في رواية شعيب عن الزهري ووافقه الزبيدي كما تقدمت الإشارة إليه في "باب مس الحرير من غير لبس" وأخرجه النسائي من رواية ابن جريج عن الزهري كالأول، ومن طريق معمر عن الزهري نحوه لكن قال زينب بدل أم كلثوم، والمحفوظ ما قال الأكثر، وقد غفل الطحاوي فقال: إن كان أنس رأى ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيعارض حديث عقبة، يعني الذي أخرجه النسائي وصححه ابن حبان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهله الحرير والحلة" وإن كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على نسخ حديث عقبة، كذا قال، وخفي عليه أن أم كلثوم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك زينب فبطل التردد، وأما دعوى المعارضة فمردودة، وكذا النسخ. والجمع بينهما واضح بحمل النهي في حديث عقبة على التنزيه وإقرار أم كلثوم على ذلك إما لبيان الجواز وإما لكونها كانت إذ ذاك صغيرة، وعلى هذا التقدير فلا إشكال في رواية أنس لها، وعلى تقدير أن تكون كانت كبيرة فيحمل على أن ذلك كان قبل الحجاب أو بعده، لكن لا يلزم من رؤية الثوب على اللابس رؤية اللابس فلعله رأى ذيل القميص مثلا، ويحتمل أيضا أن

(10/300)


السيراء التي كانت على أم كلثوم كانت من غير الحرير الصرف كما تقدم في حلة علي، والله أعلم. واستدل بأحاديث الباب على جواز لبس الحرير للنساء سواء كان الثوب حريرا كله أو بعضه، وفي الأول عرض المفضول على الفاضل والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه ممن يظن أنه لم يطلع عليه، وفيه إباحة الطعن لمن يستحقه، وفيه جواز البيع والشراء على باب المسجد، وفيه مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء. وقال ابن بطال فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لباس الحرير وهذا في الدنيا. وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة التي لا انقضاء لها، إذ تعجيل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم، فزهد في الدنيا للآخرة، وأمر بذلك، ونهى عن كل سرف وحرمه. وتعقبه ابن المنير بأن تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب المعصية، وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال وما لا عقوبة فيه، فالتقلل منه وتركه مع الإمكان هو الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد. قلت: ولعل مراد ابن بطال بيان سبب التحريم فيستقيم ما قاله. وفيه جواز بيع الرجال الثياب الحرير وتصرفهم فيها بالهبة والهدية لا اللبس. وفيه جواز صلة القريب الكافر والإحسان إليه بالهدية. وقال ابن عبد البر: فيه جواز الهدية للكافر ولو كان حربيا. وتعقب بأن عطاردا إنما وفد سنة تسع ولم يبق بمكة بعد الفتح مشرك. وأجيب بأنه لا يلزم من كون وفادة عطارد سنة تسع أن تكون قصة الحلة كانت حينئذ بل جاز أن تكون قبل ذلك. وما زال المشركون يقدمون المدينة ويعاملون المسلمين بالبيع وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك سنة الوفود فيحتمل أن يكون في المدة التي كانت بين الفتح وحج أبي بكر، فإن منع المشركين من مكة إنما كان من حجة أبي بكر سنة تسع ففيها وقع النهي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، واستدل به على أن الكافر ليس مخاطبا بالفروع لأن عمر لما منع من لبس الحلة أهداها لأخيه المشرك ولم ينكر عليه، وتعقب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها فيحتمل أن يكون وقع الحكم في حقه كما وقع في حق عمر فينتفع بها بالبيع أو كسوة النساء ولا يلبس هو. وأجيب بأن المسلم عنده من الوازع الشرعي ما يحمله بعد العلم بالنهي عن الكف، بخلاف الكافر فإن كفره يحمله على عدم الكف عن تعاطي المحرم، فلولا أنه مباح له لبسه لما أهدى له لما في تمكينه من الإعانة على المعصية، ومن ثم يحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمرا وأن احتمل أنه قد يشربه عصيرا، وكذا بيع الغلام الجميل ممن يشتهر بالمعصية لكن يحتمل أن يكون ذلك على أصل الإباحة، وتكون مشروعية خطاب الكافر بالفروع تراخت عن هذه الواقعة، والله أعلم.

(10/301)


31 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَوَّزُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالْبُسْطِ
5843- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَبِثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْتُ أَهَابُهُ فَنَزَلَ يَوْماً مَنْزِلاً فَدَخَلَ الأَرَاكَ فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُهُ فَقَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ قَالَ: "كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لاَ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئاً فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقّاً مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلاَمٌ فَأَغْلَظَتْ لِي فَقُلْتُ لَهَا وَإِنَّكِ لَهُنَاكِ قَالَتْ تَقُولُ هَذَا لِي وَابْنَتُكَ تُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُ حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي أُحَذِّرُكِ أَنْ تَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا فِي أَذَاهُ فَأَتَيْتُ

(10/301)


أُمَّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ لَهَا فَقَالَتْ أَعْجَبُ مِنْكَ يَا عُمَرُ قَدْ دَخَلْتَ فِي أُمُورِنَا فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَرَدَّدَتْ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُهُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَقَامَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَلِكُ غَسَّانَ بِالشَّأْمِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا فَمَا شَعَرْتُ إِلاَّ بِالأَنْصَارِيِّ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ قُلْتُ لَهُ وَمَا هُوَ أَجَاءَ الْغَسَّانِيُّ قَالَ أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَجِئْتُ فَإِذَا الْبُكَاءُ مِنْ حُجَرِهِنَّ كُلِّهَا وَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَعِدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ وَعَلَى بَابِ الْمَشْرُبَةِ وَصِيفٌ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِي فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ وَقَرَظٌ فَذَكَرْتُ الَّذِي قُلْتُ لِحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالَّذِي رَدَّتْ عَلَيَّ أُمُّ سَلَمَةَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِثَ تِسْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ".
5844- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا".
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط" معنى قوله: "يتجوز" يتوسع فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه، أو لا يضيق بطلب النفيس والغالي، بل يستعمل ما تيسر، ووقع في رواية الكشميهني: "يتجزى" بجيم وزاي أيضا لكنها ثقيلة مفتوحة بعدها ألف وهي أوضح، والبسط بفتح الموحدة ما يبسط ويجلس عليه. حديث ابن عباس في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا، وقد تقدم شرحه في الطلاق مستوفى والغرض منه نومه صلى الله عليه وسلم على حصير وتحت رأسه مرفقة حشوها ليف، وقوله في هذه الرواية: "مرفقة" بكسر أوله وسكون الراء وفتح الفاء بعدها قاف ما يرتفق به، وقد تقدم في الرواية الأخرى بلفظ: "وسادة" وقوله: "فما شعرت بالأنصاري وهو يقول قد حدث أمر" في رواية الكشميهني: "فما شعرت إلا بالأنصاري وهو يقول" وفي نسخة عنه "فما شعرت بالأنصاري إلا وهو يقول" قال الكرماني: سقط حرف الاستثناء من جل النسخ بل من كلها، وهو مقدر والقرينة تدل عليه، أو "ما" زائدة والتقدير شعرت بالأنصاري وهو يقول، أو ما مصدرية وتكون هي المبتدأ وبالأنصاري الخبر أي شعوري متلبس بالأنصاري قائلا. قلت: ويحتمل أن تكون ما نافية على حالها بغير احتياج لحرف الاستثناء، والمراد المبالغة في نفي شعوره بكلام الأنصاري من شدة ما دهمه من الخبر الذي أخبر به، ويكون قد استثبته فيه مرة أخرى، ولذلك نقله عنه، لكن رواية الكشميهني ترجح الاحتمال الأول وتوضح أن قول

(10/302)


الكرماني بل كلها ليس كذلك، وقوله: "وعلى باب المشربة وصيف" بمهملة وفاء وزن عظيم هو الغلام دون البلوغ وقد يطلق على من بلغ الخدمة، يقال وصف الغلام بالضم وصافة. وقول عمر: "فتقدمت إليها في أذاه" أي أنذرتها من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقع من العقوبة بسبب أذاه. قوله: " كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" قال ابن بطال قرن النبي صلى الله عليه وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنها تسبب عنها، وإلى أن القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم من الفتنة، ومطابقة حديث أم سلمة هذا للترجمة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم حذر من لباس الرقيق من الثياب الواصفة لأجسامهن لئلا يعرين في الآخرة، وفيما حكاه الزهري عن هند ما يؤيد ذلك قال: وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الثياب الشفافة لأنه إذا حذر من لبسها من ظهور العورة كان أولى بصفة الكمال من غيره. اهـ. وهو مبني على أحد الأقوال في تفسير المراد بقوله: "كاسية عارية" كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن، ويحتمل أن يكون الحديثان دالين على الترجمة بالتوزيع. فحديث عمر مطابق للبسط وحديث أم سلمة مطابق للباس، والمراد بقوله يتجزى أي فيما يتعلق بنفسه وبأهله. قوله: "قال الزهري: وكانت هند لها أزرار في كميها بين أصابعها" هو موصول بالإسناد المذكور إلى الزهري، وقوله: "أزرار" وقع للأكثر وفي رواية أبي أحمد الجرجاني "إزار" براء واحدة وهو غلط، والمعنى أنها كانت تخشى أن يبدو من جسدها شيء بسبب سعة كميها فكانت تزرر ذلك لئلا يبدو منه شيء فتدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "كاسية عارية".

(10/303)


32 - باب مَا يُدْعَى لِمَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً
5845- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ قَالَ: " مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ قَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا وَيَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا" وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ قَالَ إِسْحَاقُ حَدَّثَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِي أَنَّهَا رَأَتْهُ عَلَى أُمِّ خَالِدٍ".
قوله: "باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا" كأنه لم يثبت عنده حديث ابن عمر قال: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوبا فقال: البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأعله النسائي. وجاء أيضا فيما يدعو به من لبس الثوب الجديد أحاديث: منها ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له أعوذ بك من شره وشر ما صنع له" وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عمر رفعه: "من لبس جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي - ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به - كان في حفظ الله وفي كنف الله حيا وميتا" وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس رفعه: "من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه". وحديث أم خالد بنت سعيد المذكور في هذا

(10/303)


الباب تقدم شرحه في "باب الخميصة السوداء" قريبا، وتقدم بيان الاختلاف في قوله صلى الله عليه وسلم لها: "أبلي وأخلقي" هل بالقاف أو الفاء، وقوله فيه: "خميصة سوداء" لا ينافي ما وقع في كتاب الجهاد أنه كان عليها قميص أصفر، لأن القميص كان عليها لما جيء بها، والخميصة هي التي كسيتها. وقوله في آخره: "قال إسحاق" هو ابن سعيد راوي الحديث عن أبيه، وهو موصول بالسند المذكور، وقوله: "حدثتني امرأة من أهلي" لم أقف على اسمها، وقوله إنها رأته على أم خالد أي الثوب، ويستفاد من ذلك أنه بقي زمانا طويلا، وقد تقدم ما يدل على ذلك صريحا في "باب الخميصة".

(10/304)


33 - باب النَّهْيِ عَنْ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ
5846- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ" .
قوله: "باب النهي عن التزعفر للرجال" أي في الجسد، لأنه ترجم بعده "باب الثوب المزعفر" وقيده بالرجل ليخرج المرأة. قوله: "عن عبد العزيز" هو ابن صهيب. قوله: "أن يتزعفر الرجل" كذا رواه عبد الوارث وهو ابن سعيد مقيدا، ووافقه إسماعيل بن علية وحماد بن زيد عند مسلم وأصحاب السنن، ووقع في رواية حماد بن زيد "نهى عن التزعفر للرجال" ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائي مطلقا فقال: "نهى عن التزعفر" وكأنه اختصره وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ مقيدا بالرجل، ويحتمل أن يكون إسماعيل أختصره لما حدث به شعبة والمطلق محمول على المقيد، ورواية شعبة عن إسماعيل من رواية الأكابر عن الأصاغر. واختلف في النهي عن التزعفر هل هو لرائحته لكونه من طيب النساء ولهذا جاء الزجر عن الخلوق؟ أو للونه فيلتحق به كل صفرة؟ وقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله. قال: وأرخص في المعصفر لأنني لم أجد أحدا يحكي عنه إلا ما قال علي "نهاني ولا أقول أنهاكم" قال البيهقي: قد ورد ذلك عن غير علي، وساق حديث عبد الله بن عمرو قال: "رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما" أخرجه مسلما، وفي لفظ له "فقلت أغسلهما؟ قال لا بل أحرقهما" قال البيهقي فلو بلغ ذلك الشافعي لقال به اتباعا للسنة كعادته. وقد كره المعصفر جماعة من السلف ورخص فيه جماعة، وممن قال بكراهته من أصحابنا الحليمي، واتباع السنة هو الأولى. اهـ. وقال النووي في "شرح مسلم": أتقن البيهقي المسألة والله أعلم، ورخص مالك في المعصفر والمزعفر في البيوت وكرهه في المحافل، وسيأتي قريبا حديث ابن عمر في الصفرة، وتقدم في النكاح حديث أنس في قصة عبد الرحمن بن عوف حين تزوج وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وتقدم الجواب عن ذلك بأن الخلوق كان في ثوبه علق به من المرأة ولم يكن في جسده، والكراهة لمن تزعفر في بدنه أشد من الكراهة لمن تزعفر في ثوبه. وقد أخرج أبو داود والترمذي في "الشمائل" والنسائي في "الكبرى" من طريق سلم العلوي عن أنس "دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، فكره ذلك، وقلما كان يواجه أحدا بشيء يكرهه، فلما قام قال: لو أمرتم هذا أن يترك هذه الصفرة" وسلم بفتح المهملة وسكون اللام فيه لين، ولأبي داود من حديث عمار رفعه: "لا تحضر الملائكة جنازة كافر ولا مضمخ بالزعفران" وأخرج أيضا من حديث عمار قال: "قدمت على أهلي ليلا وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران، فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرحب بي وقال: اذهب

(10/304)


فاغسل عنك هذا".

(10/305)


34 - باب الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ
5847- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ" .
قوله: "باب الثوب المزعفر" ذكر فيه حديث ابن عمر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران". حديث ابن عمر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران" كذا أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا مشروحا في كتاب الحج، وقد أخذ من التقييد بالمحرم جواز لبس الثوب المزعفر للحلال، قال ابن بطال: أجاز مالك وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة، وحمله الشافعي والكوفيون على المحرم وغير المحرم، وحديث ابن عمر الآتي في "باب النعال السبتية" يدل على الجواز، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران" وفي سنده عبد الله بن مصعب الزبيري وفيه ضعف. وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداءه بزعفران، وفيه راو مجهول، ومن المستغرب قول ابن العربي. لم يرد في الثوب الأصفر حديث، وقد ورد فيه عدة أحاديث كما ترى، قال المهلب: الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .

(10/305)


35 - باب الثَّوْبِ الأَحْمَرِ
5848- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعاً وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْهُ".
قوله: "باب الثوب الأحمر" ذكر فيه حديث البراء "كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا، ورأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا أحسن منه" وقد تقدم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أتم سياقا من هذا. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "سمع البراء" هو ابن عازب، كذا قال أكثر أصحاب أبي إسحاق، وخالفهما أشعث فقال: "عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة" أخرجه النسائي وأعله الترمذي وحسنه، ونقل عن البخاري أنه قال: حديث أبي إسحاق عن البراء وعن جابر بن سمرة صحيحان وصححه الحاكم، وقد تقدم حديث أبي جحيفة قريبا، ويأتي وفيه: "حلة حمراء" أيضا. ولأبي داود من حديث هلال بن عامر عن أبيه "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بمنى على بعير وعليه برد أحمر" وإسناده حسن، وللطبراني بسند حسن عن طارق المحاربي نحوه لكن قال: "بسوق ذي المجاز" وتقدم في "باب التزعفر" ما يتعلق بالمعصفر، فإن غالب ما يصبغ بالعصفر يكون أحمر، وقد تلخص لنا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال: الأول: الجواز مطلقا جاء عن علي وطلحة وعبد الله ابن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التابعين. القول الثاني: المنع مطلقا لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو وما نقله البيهقي وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المفدم" وهو بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع بالعصفر فسره في الحديث، وعن عمر أنه كان إذا رأى على الرجل ثوبا معصفرا جذبه وقال: "دعوا هذا

(10/305)


36 - باب الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ
5849- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ
قوله: "باب الميثرة الحمراء" ذكر فيه حديث سفيان وهو الثوري عن أشعث وهو ابن أبي الشعثاء عن معاوية بن سويد عن البراء قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع" الحديث وفي آخره: "وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق والمياثر الحمر" فالحرير قد سبق القول فيه، والديباج والإستبرق صنفان نفيسان منه، وأما المياثر فهي جمع ميثرة تقدم ضبطها في "باب لبس القسي". وقد أخرج أحمد والنسائي وأصله عند أبي داود بسند صحيح عن علي قال: "نهي عن المياثر الأرجوان" هكذا عندهم بلفظ: "نهي" على البناء للمجهول، وهو محمول على الرفع، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من طريق هبيرة بن يريم بتحتانية أوله وزن عظيم عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن لبس القسي، والميثرة الحمراء" قال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. وقال الطبري هي وعاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير من الأرجوان وحكى في "المشارق" قولا أنها سروج من ديباج، وقولا أنها أغشية للسروج من حرير، وقولا أنها تشبه المخدة تحشى بقطن أو ريش يجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبري، والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون متخالفة بل الميثرة تطلق على كل منها، وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني والثالث، وعلى كل تقدير فالميثرة وإن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير، وقد تقدم القول فيه، ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريرا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت من غير حرير فالنهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم، قال ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه سواء كانت من حرير أم من غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن من حرير للتشبه أو للسرف أو التزين، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحمرة فمن يحمل المطلق على المقيد - وهم الأكثر - يخص المنع بما كان أحمر، والأرجوان المذكور في الرواية التي أشرت إليها بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو خفيفة، وحكى عياض ثم القرطبي فتح الهمزة وأنكره النووي وصوب أن الضم هو المعروف في كتب الحديث واللغة والغريب، واختلفوا في المراد به فقيل هو صبغ أحمر شديد الحمرة وهو نور شجر من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان. ويقال ثوب أرجوان وقطيفة أرجوان، وحكى السيرافي أحمر أرجوان فكأنه وصف للمبالغة في الحمرة كما يقال أبيض يقق وأصفر فاقع، واختلفوا هل الكلمة عربية أو معربة؟ فإن قلنا باختصاص النهي بالأحمر من المياثر فالمعني في النهي عنها ما في غيرها كما تقدم في الباب قبله، وإن قلنا لا يختص بالأحمر فالمعني بالنهي عنها ما فيه من الترفه، وقد يعتادها الشخص فتعوزه فيشق عليه تركها فيكون النهي نهي إرشاد لمصلحة دنيوية، وإن قلنا النهي عنها من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار ثم لما لم يصر الآن يختصر بشعارهم زال ذلك المعنى فتزول الكراهة، والله أعلم.

(10/307)


37 - باب النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ وَغَيْرِهَا
5850- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَساً أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ".
5851- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعاً لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ مَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنْ الأَرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا وَأَمَّا الإِهْلاَلُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ".
5852- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ" .
5853- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ" .
قوله: "باب النعال" جمع نعل وهي مؤنثة، قال ابن الأثير: هي التي تسمى الآن تاسومة. وقال ابن العربي: النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم. قال صاحب المحكم: النعل والنعلة ما وقيت به القدم. قوله: "السبتية" بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة منسوبة إلى السبت. قال أبو عبيد: هي المدبوغة، ونقل عن الأصمعي وعن أبي عمرو الشيباني، زاد الشيباني بالقرظ، قال: وزعم بعض الناس أنها التي حلق عنها الشعر. قلت: أشار بذلك إلى مالك نقله ابن وهب عنه ووافقه، وكأنه مأخوذ من لفظ السبت لأن معناه القطع فالحلق بمعناه، وأيد ذلك جواب ابن عمر المذكور في الباب، وقد وافق الأصمعي الخليل وقالوا: قيل لها سبتية لأنها تسبتت بالدباغ أي لانت، قال أبو عبيد. كانوا في الجاهلية لا يلبس النعال المدبوغة إلا أهل السعة، واستشهد لذلك بشعر. حديث أنس في الصلاة في النعلين وقد تقدم شرحه في الصلاة. حديث ابن عمر من رواية سعيد المقبري عن عبيد بن جريج وهما تابعيان مدنيان. قوله: "رأيتك تصنع أربعا" فذكرها، فأما الاقتصار على مس الركنين اليمانيين فتقدم

(10/308)


شرحه في كتاب الحج، وكذلك الإهلال يوم التروية، وأما الصبغ بالصفرة فتقدم في باب التزعفر، ووقع في رواية ابن إسحاق عن عبيد بن جريج "تصفر بالورس" وأما لبس النعال السبتية فهو المقصود بالذكر هنا، وقول ابن عمر "يلبس النعال التي ليس فيها شعر" يؤيد تفسير مالك المذكور. وقال الخطابي: السبتية التي دبغت بالقرظ وهي التي سبت ما عليها من شعر أي حلق، قال وقد يتمسك بهذا من يدعي أن الشعر ينجس بالموت، وأنه لا يؤثر فيه الدباغ، ولا دلالة فيه لذلك، واستدل بحديث ابن عمر في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السبتية ومحبته لذلك على جواز لبسها على كل حال. وقال أحمد: يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصاصية قال: "بينما أنا أمشي في المقابر علي نعلان إذا رجل ينادي من خلفي: يا صاحب السبتيتين إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم واحتج به على ما ذكر، وتعقبه الطحاوي بأنه يجوز أن يكون الأمر بخلعهما لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، وهو دال على جواز لبس النعال في المقابر، قال وثبت حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، قال: فإذا جاز دخول المسجد بالنعل فالمقبرة أولى. قلت: ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت كما ورد النهي عن الجلوس على القبر، وليس ذكر السبتيتين للتخصيص بل اتفق ذلك والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال. حديث ابن عمر وابن عباس فيما لا يلبس المحرم، وفيه ذكر النعلين، قد تقدم شرحه في كتاب الحج. وفي هذه الأحاديث استحباب لبس النعل، وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه: "استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل". أي أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى الطريق، قاله النووي وقال القرطبي: هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة، فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالراكب فلذلك شبه به.

(10/309)


38 - باب يَبْدَأُ بِالنَّعْلِ الْيُمْنَى
5854- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني أشعث بن سليم سمعت أبي يحدث عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره وترجله وتنعله".
قوله: "باب يبدأ بالنعل اليمنى" ذكر فيه حديث عائشة "كان يحب التيمن في طهوره وتنعله" وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وهو ظاهر فيما ترجم له. والله أعلم.

(10/309)


39 - باب لاَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ
5855- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً" .
قوله: "باب لا يمشي في نعل واحدة" ذكر فيه حديث أبي هريرة من رواية الأعرج عنه، قال الخطابي: الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين

(10/309)


40 - باب يَنْزِعُ نَعْلَهُ الْيُسْرَى
5856- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِيَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ" .
قوله: "باب ينزع نعله اليسرى" وقع ذكر هذه الترجمة قبل التي قبلها عند الجميع إلا أبا ذر، ولكل منهما وجه. قوله: "إذا انتعل" أي لبس النعل. قوله: "باليمين" في رواية الكشميهني باليمنى. قوله: "وإذا انتزع" في رواية مسلم: "وإذا خلع". قوله: "لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع" زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القدر مدرج وأن المرفوع انتهى عند قوله: "بالشمال" وضبط قوله أولهما وآخرهما بالنصب على أنه خبر كان أو على الحال والخبر تنعل وتنزع، وضبطا بمثناتين فوقانيتين وتحتانيتين مذكرين باعتبار النعل والخلع، قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها. وقال النووي:

(10/311)


يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات، وقد مر كثير من هذا في كتاب الطهارة في شرح حديث عائشة: كان يعجبه التيمن. وقال الحليمي وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر، قال ابن عبد البر: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله. وقال غيره: ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله. ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب، والله أعلم.

(10/312)


41 - باب قِبَالاَنِ فِي نَعْلٍ وَمَنْ رَأَى قِبَالاً وَاحِداً وَاسِعاً
5857- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهَا قِبَالاَنِ".
5858- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: "خَرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِنَعْلَيْنِ لَهُمَا قِبَالاَنِ فَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ هَذِهِ نَعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب قبالان في نعل" أي في كل فردة "ومن رأى قبالا واحدا واسعا" أي جائز. القبال بكسر القاف وتخفيف الموحدة وآخره لام هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين إصبعي الرجل. قوله: "همام" وقع في رواية ابن السكن على الفربري هشام بدل همام؛ والذي عند الجماعة أولى.
قوله: "أن نعلي النبي صلى الله عليه وسلم" وقع في رواية عند الكشميهني بالإفراد وكذا في قوله: "لهما". قوله: "قبالان" زاد ابن سعد عن عفان عن همام "من سبت ليس عليهما شعر" وقد أخرجه أحمد عن عفان بدون هذه الزيادة، وقوله: "سبت" بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة وقد فسره في الحديث. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان، فقال ثابت البناني: هذه نعل النبي صلى الله عليه وسلم" هذا مرسل قاله الإسماعيلي. قلت: صورته الإرسال لأن ثابتا لم يصرح بأن أنسا أخبره بذلك، فإن كان ثابت قاله بحضرة أنس وأقره أنس على ذلك فيكون أخذ عيسى بن طهمان له عن أنس عرضا، لكن قد تقدم هذا الحديث في الخمس من طريق ابن أحمد الزبيري عن عيسى بن طهمان بما ينفي هذا الاحتمال، ولفظه: "أخرج إلينا أنس نعلين جرداوتين لهما قبالان، فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم" فظهر بهذا أن رواية عيسى عن أنس إخراجه النعلين فقط وأن إضافتهما للنبي صلى الله عليه وسلم من رواية عيسى عن ثابت عن أنس، وقد أشار الإسماعيلي إلى أن إخراج طريق أبي أحمد أولى، وكأنه لم يستحضر أنها تقدمت هناك، والبخاري على عادته إذا صحت الطريق موصولة لا يمتنع من إيراد ما ظاهره الإرسال اعتمادا على الموصول، وقد أخرج الترمذي في "الشمائل" وابن ماجه بسند قوي من حديث ابن عباس "كانت لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان مثنى شراكهما" قال الكرماني: دلالة الحديث

(10/312)


على الترجمة من جهة أن النعل صادقة على مجموع ما يلبس في الرجلين، وأما الركن الثاني من الترجمة فمن جهة أن مقابلة الشيء بالشيء يفيد التوزيع، فلكل واحد من نعل كل رجل قبال واحد. قلت: بل أشار البخاري إلى ما ورد عن بعض السلف، فقد أخرج البزار والطبراني في "الصغير" من حديث أبي هريرة مثل حديث أنس هذا وزاد: "وكذا لأبي بكر ولعمر، وأول من عقد عقدة واحدة عثمان بن عفان" لفظ الطبراني وسياق البزار مختصر، ورجال سنده ثقات، وله شاهد أخرجه النسائي من رواية محمد بن سيرين عن عمرو بن أوس مثله دون ذكر عثمان.

(10/313)


باب القبة الحمرا من أدم
...
42 - باب الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ أَدَمٍ
5859- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ وَرَأَيْتُ بِلاَلاً أَخَذَ وَضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ الْوَضُوءَ فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئاً تَمَسَّحَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ".
5860- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الأَنْصَارِ وَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ".
قوله: "باب القبة الحمراء من أدم" بفتح الهمزة والمهملة هو الجلد المدبوغ، وكأنه صبغ بحمره قبل أن يجعل قبة. ذكر فيه طرفا من حديث أبي جحيفة، وقد تقدم في أوائل الصلاة بتمامه مشروحا، وساقه فيه بهذا الإسناد بعينه، والغرض منه هنا قوله: "وهو في قبة حمراء من أدم" فهو مطابق لما ترجم له، وتقدم شرح الحلة الحمراء قريبا في "باب الثوب الأحمر" ولعله أراد الإشارة إلى تضعيف حديث رافع المقدم ذكره هناك. ذكر حديث أنس قال: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" وهو أيضا طرف من حديث أورده بتمامه في كتاب الخمس عن أبي اليمان بهذا الإسناد بعينه. قال الكرماني: هذا لا يدل على أن القبة حمراء، لكن يكفي أنه يدل على بعض الترجمة، وكثيرا ما يفعل البخاري ذلك. قلت: ويمكن أن يقال: لعله حمل المطلق على المقيد وذلك لقرب العهد، فإن القصة التي ذكرها أنس كانت في غزوة حنين، والتي ذكرها أبو جحيفة كانت في حجة الوداع، وبينهما نحو سنتين، فالظاهر أنها هي تلك القبة لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتأنق في مثل ذلك حتى يستبدل، وإذا وصفها أبو جحيفة بأنها حمراء في الوقت الثاني فلأن تكون حمرتها موجودة في الوقت الأول أولى. قوله: "وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب" هو الزهري المذكور في السند الذي قبله، وقد اقتطع هذه الجملة من الحديث فساقها على لفظ الليث، وأول حديث شعيب عنده في فرض الخمس "إن ناسا من الأنصار قالوا: حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء - فذكر القصة قال - فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" الحديث بطوله، وقد تقدم شرحه في غزوة حنين. وقد وصل الإسماعيلي رواية الليث من طريق الرمادي: "حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني يونس" ومن طريق حرملة عن ابن وهب "أخبرني يونس" وساقه بلفظ: "فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" هكذا اقتطعه. وقد أخرجه مسلم عن حرملة، وأوله

(10/313)


عنده "إن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله" فذكر الحديث بطوله.

(10/314)


43 - باب الْجُلُوسِ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ
5861- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيراً بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ" .
قوله: "باب الجلوس على الحصير ونحوه" أما الحصير فمعروف يتخذ من السعف وما أشبهه، وأما قوله: "ونحوه" فيريد من الأشياء التي تبسط وليس لها قدر رفيع. حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل ويصلي عليه" ومعتمر في إسناده هو ابن سليمان التيمي، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وسعيد هو المقبري وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق أولهم أبو سلمة وهم مدنيون، وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شريح بن هانئ أنه: "سأل عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} ؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير" ويمكن الجمع بحمل النفي على المداومة، لكن يخدش فيه ما ذكره شريح من الآية، وقد تقدم شرح حديث عائشة في كتاب الصلاة، وترجم المصنف في أوائل الصلاة "باب الصلاة على الحصير" وأورد فيه حديث أنس "فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس" الحديث، وسبق ما يتعلق به، قوله في حديث عائشة يحتجر بحاء مهملة ثم جيم ثم راء مهملة للأكثر أي يتخذ حجرة لنفسه؛ يقال: حجرت الأرض واحتجرتها إذا جعلت عليها علامة تمنعها عن غيرك. ووقع في رواية الكشميهني بزاي في آخره. قوله: "يثوبون" بمثلثة ثم موحدة أي يرجعون، وقوله فيه: "فإن الله لا يمل حتى تملوا" تقدم شرحه أيضا في كتاب الإيمان، وأن الملال كناية عن القبول أو الترك، أو أطلق على سبيل المشاكلة. وقوله: "وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام" أي ما استمر في حياة العامل، وليس المراد حقيقة الدوام التي هي شمول جميع الأزمنة. ووقع في رواية الكشميهني: "ما داوم" أي ما داوم عليه العامل.

(10/314)


44 - باب الْمُزَرَّرِ بِالذَّهَبِ
5862- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ لَهُ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ فَهُوَ يَقْسِمُهَا فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ فَذَهَبْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِي يَا بُنَيِّ ادْعُ لِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ فَقَالَ: يَا مَخْرَمَةُ هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ" .

(10/314)


باب خواتم الذهب
...
45 - باب خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ
5863- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبْعٍ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ وَعَنْ الْحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ وَالْقَسِّيِّ وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ وَأَمَرَنَا بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلاَمِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ" .
5864- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ" وَقَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ النَّضْرَ سَمِعَ بَشِيراً ... مِثْلَهُ.
5865- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ فَرَمَى بِهِ وَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ أَوْ فِضَّةٍ".
[الحديث 5865 – أطرافه في: 5866، 5867، 5873، 5876، 6651، 7298]
قوله: "باب خواتيم الذهب" جمع خاتم، ويجمع أيضا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضا، وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التاء وكسرها وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء ختام، وبفتحها وسكون التحتانية وضم المثناة بعدها واو خيتوم، وبحذف الياء والواو مع سكون المثناة ختم، وبألف بعد الخاء وأخرى بعد التاء خاتام، وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة خاتيام، وبحذف الأولى وتقديم التحتانية خيتام، وقد جمعتها في بيت وهو:

(10/315)


خاتام خاتم ختم خاتم وختا ... م خاتيام وخيتوم وخيتام
وقبله:
خذ نظم عد لغات الخاتم انتظمت ... ثمانيا ما حواها قبل نظام
ثم زدت ثالثا:
وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتم العشر خاتام
أما الأول: فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذ في الكلام على من قرأ العالمين بالهمز قال: ومثله الخأتم بالهمز. وأما الثاني: فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النووي على أربعة، والحق أن الختم والختام مختص بما يختم به فتكمل الثمان فيه. وأما ما يتزين به فليس فيه إلا ستة، وأنشدوا في الخاتيام وهو أغربها:
أخذت من سعداك خاتياما ... لموعد تكتسب الآثاما
ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: حديث البراء قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهانا عن خاتم الذهب" أو قال: "حلقة الذهب" كذا في هذه الطريق من رواية آدم عن شعبة عن أشعث بن سليم وهو ابن الشعثاء "سمعت معاوية بن سويد بن مقرن قال سمعت البراء" فذكره بتقديم النواهي على الأوامر، وتقدم في أوائل الجنائز عن أبي الوليد عن شعبة بقديم الأوامر على النواهي، لكن سقط من النواهي ذكر المياثر وقال فيه: "خاتم الذهب" ولم يشك. وأورده في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة لكن لم يسق فيه المنهيات جملة، وأورده في الطب عن حفص بن عمر عن شعبة لكن سقط من النواهي آنية الفضة، وذكر من الأوامر ثلاثة فقط: اتباع الجنائز وعيادة المريض وإفشاء السلام، واختصر الباقي. وقال فيه أيضا: "خاتم الذهب" وأورده في أواخر الأدب عن سليمان بن حرب عن شعبة كذلك، لكن لم يذكر القسي ولا آنية الفضة. وقال بدل الإستبرق السندس. وأخرجه في الأيمان والنذور من طريق غندر عن شعبة مقتصرا على إبرار القسم حسب، فهذا ما عنده من تغاير السياق في رواية شعبة فقط، وأما من رواية غيره عن أشعث عنده أيضا فإنه أخرجه في الأشربة فقط من رواية أبي عوانة عن الأشعث فقدم الأوامر على النواهي وساقه تاما وقال فيه: "ونهانا عن خواتيم الذهب" وهكذا أخرجه من طريق أبي الأحوص عن أشعث مثله سواء وهو المطابق للترجمة هنا، وأخرجه في أوائل الاستئذان من طريق جرير عن أشعث كذلك لكن قال: "ونهى عن تختم الذهب" وقد تقدم قريبا في اللباس من رواية سفيان الثوري في آخر "باب القسي" مختصرا جدا "نهانا عن المياثر الحمر وعن القسي" وفي "باب الميثرة الحمراء" من روايته: "أمرنا بسبع" فذكر منها العيادة واتباع الجنائز وتشميت العاطس "ونهانا عن سبع" فلم يذكر منها خاتم الذهب ولا آنية الفضة، فهذه جميع طرق هذا الحديث عنده، فأما المنهيات فقد شرحت في أماكنها ومعظمها في هذا الكتاب كتاب اللباس، وتقدم الكلام على آنية الفضة في كتاب الأشربة، وأما الأوامر فنذكر كل واحدة منها في بابها، ويأتي بسطها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن بشير بن نهيك" بفتح الموحدة وكسر المعجمة، ونهيك بالنون وزنه سواء. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب" في الكلام حذف تقديره. نهى عن لبس خاتم الذهب. قوله: "وقال عمرو" هو ابن مرزوق "أنبأنا شعبة" ساق هذا الإسناد لما فيه من بيان سماع قتادة من النضر وهو ابن أنس بن مالك المذكور في السند الذي قبله، وسماع النضر من بشير بن نهيك وقد وصله أبو عوانة في صحيحه عن أبي قلابة الرقاشي وقاسم بن أصبغ في مصنفه عن محمد بن غالب

(10/316)


ابن حرب كلاهما عن عمرو بن مرزوق به، ووقع التصريح بسماع قتادة من النضر بهذا الحديث أيضا في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وأخرجه الإسماعيلي كذلك، قال ابن دقيق العيد: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب: الأولى أن يأتي بالصيغة كقوله: افعلوا أو لا تفعلوا، الثانية قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمرا ونهيا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. المرتبة الثالثة أمرنا ونهينا على البناء للمجهول وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء. قلت: وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة "أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذوه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته فقال: تحلي به" قال ابن دقيق العيد: وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، قال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خباب وقد قال له ابن مسعود "أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه علي بعد اليوم" فكأنه ما كان بلغه النهي فلما بلغه رجع. قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتما. قلت: التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبيد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد "نزعنا من يدي أسيد خاتما من ذهب" وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: "رأيت على البراء خاتما من ذهب" وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في "الجعديات" وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: "رأيت على البراء خاتما من ذهب فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فألبسنيه فقال: البس ما كساك الله ورسوله" قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. قلت: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون حمله على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله البس ما كساك الله ورسوله، وهذا أولى من قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي. ويؤيده الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد "كان الناس يقولون للبراء لم تتختم بالذهب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيذكر لهم الحديث ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البس ما كساك الله ورسوله" ومن أدلة النهي أيضا ما رواه يونس عن الزهري عن أبي إدريس عن رجل له صحبة قال: "جلس رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب فقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بقضيب فقال: ألق هذا" وعموم الأحاديث المقدم ذكرها في "باب لبس الحرير" حيث قال في الذهب والحرير " هذان حرامان على رجال أمتي حل لإناثها " وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: " من مات من أمتي وهو

(10/317)


يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة" الحديث أخرجه أحمد والطبراني، وفي حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب ما يستدل به على نسخ جواز لبس الخاتم إذا كان من ذهب، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال قليله وكثيره للنهي عن التختم وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدملج والمعضد وغيرهما، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النهي جميع الأحوال فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف ما تقدم في الحرير من الرخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة من حلية الذهب فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف فإذا انقضت الحرب فلينتقض لأنه كله من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم. حديث ابن عمر سيأتي شرحه في الباب الذي يليه، وقوله فيه: "فاتخذه الناس" أي اتخذوا مثله كما بينه بعد، وقوله: "من ورق أو فضة" شك من الراوي وجزم في الذي يليه بقوله: "من فضة" وفي الذي يليه بأنه "من ورق" والورق بفتح الواو وكسر الراء ويجوز إسكانها، وحكى الصغاني(1) وحكى كسر أوله مع السكون فتلك أربع لغات، وفيها لغة خامسة الرقة والراء بدل الواو كالوعد والعدة، وقيل الورق يختص بالمصكوك والرقة أعم.
ـــــــ
(1) بياض بأصله. قال مصحح طبعة بولاق: ولعل موضعه لفظ "فتحها" أي الراء، بدليل قوله بعده "فتلك أربع لغات".

(10/318)


46 - باب خَاتَمِ الْفِضَّةِ
5866- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَداً ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ".

(10/318)


47 - باب
5867- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ فَقَالَ: "لاَ أَلْبَسُهُ أَبَداً" فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".
5868- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ يَوْماً وَاحِداً ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".
تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَزِيَادٌ وَشُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ مُسَافِرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَرَى خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ.

(10/318)


48 - باب فَصِّ الْخَاتَمِ
5869- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: "سُئِلَ أَنَسٌ هَلْ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً قَالَ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا" .

(10/321)


5870- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْداً يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَساً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب فص الخاتم" قال الجوهري: الفص بفتح الفاء والعامة تكسرها وأثبتها غيره لغة وزاد بعضهم الضم وعليه جرى ابن مالك في المثلث. حديث حميد "سئل أنس: هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما؟ قال: أخر ليلة صلاة العشاء" الحديث. وقد تقدم شرحه في المواقيت من كتاب الصلاة. وقوله: "وبيص" بموحدة وآخره مهملة هو البريق وزنا ومعنى، وسيأتي من رواية عبد العزيز بن صهيب بلفظ: "بريقه" ومن رواية قتادة عن أنس بلفظ: "بياضه" ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس في آخره: "ورفع أنس يده اليسرى" أخرجه مسلم والنسائي، وله في أخرى "وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى". قوله في الطريق الثانية: "كان خاتمه من فضة" في رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميد "من فضة كله" فهذا نص في أنه كله من فضة، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويا عليه فضة، فربما كان في يدي، قال: وكان معيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم" يعني كان أمينا عليه فيحمل على التعدد، وقد أخرج له ابن سعد شاهدا مرسلا عن مكحول "أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حديد ملويا عليه فضة، غير أن فصه باد" وآخر مرسلا عن إبراهيم النخعي مثله دون ما في آخره. وثالثا من رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص "أن خالد بن سعيد - يعني ابن العاص - أتى وفي يده خاتم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ أطرحه، فطرحه فإذا خاتم من حديد ملوي عليه فضة. قال: فما نقشه؟ قال: محمد رسول الله، قال: فأخذه فلبسه" ومن وجه آخر عن سعيد بن عمرو المذكور أن ذلك جرى لعمرو بن سعيد أخي خالد بن سعيد، وسأذكر لفظه في "باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر؟". قوله: "وكان فصه منه" لا يعارضه ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أنس "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيا" لأنه إما أن يحمل على التعدد وحينئذ فمعنى قوله حبشي أي كان حجرا من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعا أو عقيقا لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه ونسب إلى الحبشة لصفة فيه إما الصياغة وإما النقش. قوله: "وقال يحيى بن أيوب الخ" أراد بهذا التعليق بيان سماع حميد له من أنس، وقد تقدم في المواقيت معلقا أيضا، وذكرت من وصله ولله الحمد. وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: ليس هذا الحديث من الباب الذي ترجمه في شيء، وأجيب بأنه أشار إلى أنه لا يسمى خاتما إلا إذا كان له فص، فإن كان بلا فص فهو حلقة. قلت: لكن في الطريق الثانية في الباب أن فص الخاتم كان منه، فلعله أراد الرد على من زعم أنه لا يقال له خاتم إلا إذا كان له فص من غيره، ويؤيده أن في رواية خالد بن قيس عن قتادة عن أنس عند مسلم: "فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقة من فضة" والذي يظهر لي أنه أشار إلى أن الإجمال في الرواية الأولى محمول على التبيين في الرواية الثانية.

(10/322)


49 - باب خَاتَمِ الْحَدِيدِ
5871- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلاً يَقُولُ:

(10/322)


جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي فَقَامَتْ طَوِيلاً فَنَظَرَ وَصَوَّبَ فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهَا فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ قَالَ: " عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا قَالَ لاَ قَالَ انْظُرْ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ شَيْئاً قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَالَ لاَ وَاللَّهِ وَلاَ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ فَقَالَ أُصْدِقُهَا إِزَارِي. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِزَارُكَ إِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّياً فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَقَالَ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ سُورَةُ كَذَا وَكَذَا لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا قَالَ قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" .
قوله: "باب خاتم الحديد" قد ذكرت ما ورد فيه في الباب الذي قبله، كأنه لم يثبت عنده شيء من ذلك على شرطه، وفيه دلالة على جواز لبس ما كان على صفته. وأما ما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟ فطرحه. ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه. فقال: يا رسول الله من أي شيء أتخذه؟ قال: اتخذه من ورق، ولا تتمه مثقالا" وفي سنده أبو طيبة بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة اسمه عبد الله بن مسلم المروزي، قال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ ويخالف، فإن كان محفوظا حمل المنع على ما كان حديدا صرفا. وقد قال التيفاشي في "كتاب الأحجار" خاتم الفولاذ مطردة للشيطان إذا لوي عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم. حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة وقوله فيه: "اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد" استدل به على جواز لبس خاتم الحديد، ولا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته. وقوله: "ولو خاتما" محذوف الجواب لدلالة السياق عليه، فإنه لما أمره بالتماس مهما وجد كأنه خشي أن يتوهم خروج خاتم الحديد لحقارته فأكد دخوله بالجملة المشعرة بدخول ما بعدها فيما قبلها، وقوله في الجواب "فقال لا والله، ولا خاتما من حديد" انتصب على تقدير لم أجد، وقد صرح به في الطريق الأخرى.

(10/323)


50 - باب نَقْشِ الْخَاتَمِ
5872- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ أَوْ أُنَاسٍ مِنْ الأَعَاجِمِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ كِتَاباً إِلاَّ عَلَيْهِ خَاتَمٌ فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَكَأَنِّي بِوَبِيصِ أَوْ بِبَصِيصِ الْخَاتَمِ فِي إِصْبَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي كَفِّهِ".
5873- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

(10/323)


عَنْهُمَا قَالَ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ وَكَانَ فِي يَدِهِ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُمَرَ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِي بِئْرِ أَرِيسَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
قوله: "باب نقش الخاتم" ذكر فيه حديثين: أحدهما عن أنس. قوله: "حدثنا عبد الأعلى" هو ابن حماد وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "أراد أن يكتب إلى رهط أو أناس" هو شك من الراوي. قوله: "من الأعاجم" في رواية شعبة عن قتادة كما يأتي بعد باب "إلى الروم". قوله: "فقيل له" في مرسل طاوس عند ابن سعد أن قريشا هم الذين قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: "نقشه محمد رسول الله" زاد ابن سعد من مرسل ابن سيرين "بسم الله محمد رسول الله" ولم يتابع على هذه الزيادة، وقد أورده من مرسل طاوس والحسن البصري وإبراهيم النخعي وسالم بن أبي الجعد وغيرهم ليس فيه الزيادة، وكذا وقع في الباب من حديث ابن عمر، وأما ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج لهما خاتما فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه فيه تمثال أسد قال معمر: فغسله بعض أصحابنا فشربه، ففيه مع إرساله ضعف، لأن ابن عقيل مختلف في الاحتجاج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، وعلى تقدير ثبوته فلعله لبسه مرة قبل النهي. قوله: "في إصبع النبي صلى الله عليه وسلم أو في كفه" شك من الراوي، ووقع في رواية شعبة "في يده" وسيأتي من وجه آخر عن أنس في الباب الذي بعده "في خنصره". حديث ابن عمر، وقد تقدم شرحه في "باب خاتم الفضة".

(10/324)


51 - باب الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ
5874- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً قَالَ: "إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَماً وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشاً فَلاَ يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ" قَالَ فَإِنِّي لاَرَى بَرِيقَهُ فِي خِنْصَرِهِ".
قوله: "باب الخاتم في الخنصر" أي دون غيرها من الأصابع، وكأنه أشار إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ألبس خاتمي في هذه وفي هذه" يعني السبابة والوسطى، وسيأتي بيان أي الخنصرين اليمنى أو اليسرى كان يلبس الخاتم فيه بعد باب. قوله: "فلا ينقش عليه أحد" في رواية الكشميهني وحده "ينقشن" بالنون المؤكدة، وإنما نهى أن ينقش أحد على نقشه لأن فيه اسمه وصفته، وإنما صنع فيه ذلك ليختم به فيكون علامة تختص به وتتميز عن غيره، فلو جاز أن ينقش أحد نظير نقشه لفات المقصود.

(10/324)


52 - باب اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ لِيُخْتَمَ بِهِ الشَّيْءُ أَوْ لِيُكْتَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ
5875- حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لن يقرأوا كتابك إذا لم يكن مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقشه محمد رسول الله فكأنما أنظر إلى بياضه في يده".

(10/324)


53 - باب مَنْ جَعَلَ فَصَّ الْخَاتَمِ فِي بَطْنِ كَفِّهِ
5876- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ فَاصْطَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ وَإِنِّي لاَ أَلْبَسُهُ فَنَبَذَهُ فَنَبَذَ النَّاسُ" .
قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلاَ أَحْسِبُهُ إِلاَّ قَالَ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى
قوله: "باب من جعل فص الخاتم في بطن كفه" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، قال ابن بطال. قيل لمالك يجعل الفص في باطن الكف؟ قال: لا. قال ابن بطال: ليس في كون فص الخاتم في بطن الكف ولا ظهرها

(10/325)


أمر ولا نهي. وقال غيره: السر في ذلك أن جعله في بطن الكف أبعد من أن يظن أنه فعله للتزين به، وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عباس جعله في ظاهر الكف كما سأذكره قريبا. قوله: "حدثنا جويرية" هو ابن أسماء، وعبد الله هو ابن عمر. قوله: "اصطنع خاتما من ذهب وجعل" كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي "ويجعل" وقد تقدم شرح الحديث في "باب خاتم الفضة". قوله: "قال جويرية ولا أحسبه إلا قال في يده اليمنى" هو موصول بالإسناد المذكور؛ قال أبو ذر في روايته: لم يقع في البخاري موضع الخاتم من أي اليدين إلا في هذا. وقال الداودي: لم يجزم به جويرية، وتواطؤ الروايات على خلافه يدل على أنه لم يحفظه، وعمل الناس على لبس الخاتم في اليسار يدل على أنه المحفوظ. قلت: وكلامه متعقب فإن الظن فيه من موسى شيخ البخاري، وقد أخرجه ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن محمد بن أسماء كلاهما عن جويرية وجزما بأنه لبسه في يده اليمنى، وهكذا أخرج مسلم من طريق عقبة بن خالد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في قصة اتخاذ الخاتم من ذهب وفيه: "وجعله في يده اليمنى" وأخرجه الترمذي وابن سعد من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: "صنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر فقال: إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني. ثم نبذه" الحديث. وهذا صريح من لفظه صلى الله عليه وسلم رافع للبس. وموسى بن عقبة أحد الثقات الأثبات، وأما ما أخرجه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي رواد كلاهما عن نافع عن ابن عمر "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يساره" فقد قال أبو داود بعده: ورواه ابن إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع "في يمينه" انتهى. ورواية ابن إسحاق قد أخرجها أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من طريقه، وكذا رواية أسامة. وأخرجها محمد بن سعد أيضا. فظهر أن رواية اليسار في حديث نافع شاذة، ومن رواها أيضا أقل عددا وألين ممن روى اليمين، وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وأخرج أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من رواية خالد بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر نحوه، فرجحت رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضا. وقد ورد التختم في اليمين أيضا في أحاديث أخرى: منها عند مسلم من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه فصه حبشي" وأخرج أبو داود أيضا من طريق ابن إسحاق قال: "رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمين، فسألته فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا وجعل فصه على ظهرها، ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم" وأورده الترمذي من هذا الوجه مختصرا "رأيت ابن عباس يتختم في يمينه ولا إخاله إلا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وللطبراني من وجه آخر عن ابن عباس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وفي سنده لين. وأخرج الترمذي أيضا من طريق حماد بن سلمة "رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" ثم نقل عن البخاري أنه أصح شيء روي في هذا الباب. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي في "الشمائل" وصححه ابن حبان من طريق إبراهيم بن عبد الله ابن حنين عن أبيه عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه" وفي الباب عن جابر في "الشمائل" بسند لين، وعائشة عند البزار بسند لين، وعند أبي الشيخ بسند حسن، وعن أبي أمامه عند الطبراني بسند ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدار قطني في "غرائب مالك" بسند ساقط. وورد التختم في اليسار من حديث ابن عمر كما تقدم، ومن حديث أنس أيضا أخرجه

(10/326)


مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر اليسرى". وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" من طريق قتادة عن أنس، ولأبي الشيخ من حديث أبي سعيد بلفظ: "كان يلبس خاتمه في يساره" وفي سنده لين، وأخرجه ابن سعد أيضا. وأخرج البيهقي في الأدب من طريق أبي جعفر الباقر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعلي والحسن والحسين يتختمون في اليسار" وأخرجه الترمذي موقوفا على الحسن والحسين فحسب، وأما دعوى الداودي أن العمل على التختم في اليسار فكأنه توهمه من استحباب مالك للتختم وهو يرجح عمل أهل المدينة فظن أنه عمل أهل المدينة، وفيه نظر، فإنه جاء عن أبي بكر وعمر وجمع جم من الصحابة والتابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التختم في اليمنى. وقال البيهقي في الأدب: يجمع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر. والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة، وأما رواية الزهري عن أنس التي فيها التصريح بأنه كان فضة ولبسه في يمينه فكأنها خطأ، فقد تقدم أن الزهري وقع له وهم في الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة، وأن الذي في رواية غيره أنه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذهب اهـ ملخصا. وجمع غيره بأنه لبس الخاتم أولا في يمينه ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ وابن عدي من رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه، ثم أنه حوله في يساره" فلو صح هذا لكان قاطعا للنزاع، ولكن سنده ضعيف. وأخرج ابن سعد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: "طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذهب ثم تختم خاتما من ورق فجعله في يساره" وهذا مرسل أو معضل، وقد جمع البغوي في "شرح السنة" بذلك وأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال: لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر، وقد تقدم قول البخاري أن حديث عبد الله بن جعفر أصح شيء ورد فيه وصرح فيه بالتختم في اليمين، وفي المسألة عند الشافعية اختلاف والأصح اليمين. قلت: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أولى لأنه كالمودع فيها، ويحصل يناوله منها باليمين وكذا وضعه فيها، ويترجح التختم قي اليمين مطلقا لأن اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار بما أشرت إليه من التناول. وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم "باب التختم في اليمين واليسار" ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح، ونقل النووي وغيره الإجماع على الجواز ثم قال: ولا كراهة فيه - يعني عند الشافعية - وإنما الاختلاف في الأفضل. وقال البغوي: كان آخر الأمرين التختم في اليسار. وتعقبه الطبري بأن ظاهره النسخ، وليس ذلك مراده بل الإخبار بالواقع اتفاقا، والذي يظهر أن الحكمة فيه ما تقدم، والله أعلم.

(10/327)


54 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْقُشُ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ
5877- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ

(10/327)


وَنَقَشْتُ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقش" بضم أوله "على نقش خاتمه" ذكر فيه حديث أنس من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه في اتخاذ الخاتم من فضة وفيه: "فلا ينقش أحد على نقشه". حديث أنس من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه في اتخاذ الخاتم من فضة وفيه: "فلا ينقش أحد على نقشه" وقوله فيه: "إنا اتخذنا" بصيغة الجمع وهي للتعظيم هنا، والمراد أني اتخذت. وأخرج الترمذي من طريق معمر عن ثابت عن أنس نحوه وقال فيه: "ثم قال لا تنقشوا عليه" وأخرج الدار قطني في "الأفراد" من طريق سلمة بن وهرام عن عكرمة عن يعلى بن أمية قال: "أنا صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد، نقش فيه محمد رسول الله" فيستفاد منه اسم الذي صاغ خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ونقشه. وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن ينقش أحد على نقشه أي مثل نقشه فقد تقدمت الإشارة إلى الحكمة فيه في "باب خاتم الفضة" وقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن عمر أنه نقش على خاتمه عبد الله بن عمر، وكذا أخرج عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه نقش اسمه على خاتمه، وكذا القاسم بن محمد، قال ابن بطال: وكان مالك يقول: من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم في خواتمهم. وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة وأبي عبيدة أنه كان نقش خاتم كل واحد منهما "الحمد لله" وعن علي "الله الملك" وعن إبراهيم النخعي "بالله" وعن مسروق "بسم الله" وعن أبي جعفر الباقر "العزة لله" وعن الحسن والحسين لا بأس بنقش ذكر الله على الخاتم، قال النووي: وهو قول الجمهور، ونقل عن ابن سيرين وبعض أهل العلم كراهته. انتهى. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأسا أن يكتب الرجل في خاتمه "حسبي الله" ونحوها، فهذا يدل على أن الكراهة عنه لم تثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجنب والحائض والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك بل من جهة ما يعرض لذلك، والله أعلم.

(10/328)


55 - باب هَلْ يُجْعَلُ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ
5878- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ كَتَبَ لَهُ وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاللَّهِ سَطْرٌ".
5879- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَزَادَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ وَفِي يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ قَالَ فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ قَالَ فَاخْتَلَفْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ فَنَزَحَ الْبِئْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ".
قوله: "باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر" قال ابن بطال: ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه سطرا واحدا، كذا قال. قلت: قد يظهر أثر الخلاف من أنه إذا كان سطرا واحدا يكون الفص مستطيلا لضرورة كثرة الأحرف، فإذا تعددت الأسطر أمكن كونه مربعا أو مستديرا، وكل منهما أولى من المستطيل. قوله: "حدثني أبي" هو عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس. قوله: "عن ثمامة" هو ابن عبد الله بن أنس عم عبد الله بن المثنى الراوي، والسند كله بصريون من آل أنس. قوله: "عن أنس" في رواية الإسماعيلي من

(10/328)


طريق علي بن المديني عن محمد بن عبد الله الأنصاري "حدثني أبي حدثنا ثمامة حدثني أنس". قوله: "أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف كتب له" لم يذكر المكتوب وقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب الزكاة وأنه كتب له مقادير الزكاة. قوله: "وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر" هذا ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، لكن أخرج أبو الشيخ قي "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من رواية عرعرة بن البرند بكسر الموحدة والراء بعدها نون ساكنة ثم دال عن عزرة بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء ابن ثابت عن ثمامة عن أنس قال: "كان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حبشيا مكتوبا عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله" وعرعرة ضعفه ابن المديني، وزيادته هذه شاذة، وظاهره أيضا أنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على السياق العادي فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا. وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت من أسفل إلى فوق يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة ومحمد في أسفلها فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال فيها "محمد سطر والسطر الثاني رسول والسطر الثالث الله" ولك أن تقرأ محمد بالتنوين وعدمه والله بالرفع وبالجر. قوله: "وزادني أحمد حدثنا الأنصاري إلى آخره" هذه الزيادة موصولة، وأحمد المذكور جزم المزي في "الأطراف" أنه أحمد بن حنبل، لكن لم أر هذا الحديث في "مسند أحمد" من هذا الوجه أصلا. قوله: "وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس" وقع في رواية ابن سعد عن الأنصاري "ثم كان في يد عثمان ست سنين، فلما كان في الست الباقية كنا معه على بئر أريس". قوله: "فجعل يعبث به" في رواية ابن سعد "فجعل يحوله في يده". قوله: "فسقط" في رواية ابن سعد "فوقع في البئر". قوله: "فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فنزح البئر فلم نجده" أي في الذهاب والرجوع والنزول إلى البئر والطلوع منها، ووقع في رواية ابن سعد "فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه" قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم من السر شيء مما كان في خاتم سليمان عليه السلام، لأن سليمان لما فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر وخرج عليه الخارجون وكان ذلك مبدأ الفتنة التي أفضت إلى قتله واتصلت إلى آخر الزمان. قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه والاجتهاد في تفتيشه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لما ضاع عقد عائشة وحبس الجيش على طلبه حتى وجد، كذا قال، وفيه نظر، فأما عقد عائشة فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة التي نشأت عنه وهي رخصة التيمم فكيف يقاس عليه غيره؟ وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلا لما ذكر، لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه لكونه أثر النبي صلى الله عليه وسلم قد لبسه واستعمله وختم به، ومثل ذلك يساوي في العادة قدرا عظيما من المال، وإلا لو كان غير خاتم النبي صلى الله عليه وسلم لاكتفي بطلبه بدون ذلك، وبالضرورة يعلم أن قدر المؤنة التي حصلت في الأيام الثلاثة تزيد على قيمة الخاتم لكن اقتضت صفته عظيم قدره فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال، قال: وفيه أن من فعل الصالحين العبث بخواتيمهم وما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم، قلت: وإنما كان كذلك لأن من مثلهم إنما ينشأ عن فكر، وفكرتهم إنما هي في الخير. قال الكرماني: معني قوله: "يعبث به" يحركه أو يخرجه من إصبعه ثم يدخله فيها وذلك صورة العبث، وإنما يفعل الشخص ذلك عند تفكره في الأمور. قال ابن بطال: وفيه أن من طلب شيئا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام أن له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيعا، وأن الثلاث حد يقع بها العذر في

(10/329)


تعذر المطلوبات. وفيه استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها.

(10/330)


باب الخاتم للنساء وكان على عائشة خواتيم الذهب
...
56 - باب الْخَاتَمِ لِلنِّسَاءِ. وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ ذَهَبٍ
5880- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ "فَأَتَى النِّسَاءَ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ".
قوله: "باب الخاتم للنساء" قال ابن بطال: الخاتم للنساء من جملة الحلي الذي أبيح لهن. قوله: "وكان على عائشة خواتيم الذهب" وصله ابن سعد من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال: "سألت القاسم بن محمد فقال: لقد رأيت والله عائشة تلبس المعصفر وتلبس خواتيم الذهب". قوله: "طاوس عن ابن عباس شهدت العيد من النبي صلى الله عليه وسلم فصلى قبل الخطبة" سقط لفظ: "فصلى" من رواية المستملي والسرخسي. وهي مرادة ثابتة في أصل الحديث؛ فإنه طرف من حديث تقدم في صلاة العيد من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج بسنده هنا. قوله: "وزاد ابن وهب عن ابن جريج" يعني بهذا السند إلى ابن عباس، وقد تقدم بالزيادة موصولا في تفسير سورة الممتحنة من رواية هارون بن معروف عن ابن وهب. قوله: "فأتى النساء فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم" الفتخ بفتح الفاء ومثناة فوق بعدها خاء معجمة جمع فتخة وهي الخواتيم التي تلبسها النساء في أصابع الرجلين قاله ابن السكيت وغيره، وقيل الخواتيم التي لا فصوص لها، وقيل الخواتم الكبار كما تقدم ذلك من تفسير عبد الرزاق في كتاب العيدين مع بسط ذلك.

(10/330)


57 - باب الْقَلاَئِدِ وَالسِّخَابِ لِلنِّسَاءِ يَعْنِي قِلاَدَةً مِنْ طِيبٍ وَسُكٍّ
5881- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا".
قوله: "باب القلائد والسخاب للنساء" السخاب بكسر المهملة وتخفيف الخاء المعجمة وبعد الألف موحدة. قوله: "يعني قلادة من طيب وسك" بضم المهملة وتشديد الكاف. وفي رواية الكشميهني: "ومسك" بكسر الميم وسكون المهملة وكاف خفيفة، والسخاب جمع سخب بضمتين، وقد تقدم بيان ما فسره به غيره في "باب ما ذكر في الأسواق" من كتاب البيوع. حديث ابن عباس من رواية سعيد بن جبير عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم - وفيه - فجعلت المرأة تلقي سخابها وخرصها" بضم الخاء المعجمة وسكون الراء ثم صاد مهملة، هي الحلقة الصغيرة من ذهب أو فضة، وقد تقدم تفسيره في "باب الخطبة بعد العيد" من كتاب العيدين.

(10/330)


58 - باب اسْتِعَارَةِ الْقَلاَئِدِ
5882- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(10/330)


59 - باب الْقُرْطِ لِلنِّسَاءِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ
5883- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيداً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي قُرْطَهَا".
قوله: "باب القرط للنساء" بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة: ما يحلى به الأذن ذهبا كان أو فضة صرفا أو مع لؤلؤ وغيره ويعلق غالبا على شحمتها. قوله: "وقال ابن عباس: أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن" هذا طرف من حديث وصله المؤلف رحمه الله في العيدين وفي الاعتصام وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن عابس عن ابن عباس، فأما في الاعتصام فقال في رواية: "فجعل النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن" وقال في العيدين "فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال" أخرجه قبيل كتاب الجمعة من هذا الوجه بلفظ: "فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال" ومعنى الإهواء الإيماء باليد إلى الشيء ليؤخذ، وقد ظهر أنه في الآذان إشارة إلى الحلق، وأما في الحلوق فالذي يظهر أن المراد القلائد فإنها توضع في العنق وإن كان محلها إذا تدلت الصدر، واستدل به على جواز ثقب أذن المرأة لتجعل فيها القرط وغيره مما يجوز لهن التزين به، وفيه نظر لأنه لم يتعين وضع القرط في ثقبة الأذن، بل يجوز أن يشبك في الرأس بسلسلة لطيفة حتى تحاذي الأذن وتنزل عنها، سلمنا لكن إنما يؤخذ من ترك إنكاره عليهن، ويجوز أن تكون آذانهن ثقبت قبل مجيء الشرع فيغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ونحوه قول أم زرع "أناس من حلي أذني" ولا حجة فيه لما ذكرنا. وقال ابن القيم: كره الجمهور ثقب أذن الصبي ورخص بعضهم في الأنثى. قلت: وجاء الجواز في الأنثى عن أحمد للزينة، والكراهة للصبي. قال الغزالي في "الإحياء" يحرم ثقب أذن المرأة ويحرم الاستئجار عليه إلا إن ثبت فيه شيء من جهة الشرع. قلت: جاء عن ابن عباس فيما أخرجه الطبراني في "الأوسط": سبعة في الصبي من السنة فذكر السابع منها وثقب أذنه، وهو يستدرك على قول بعض الشارحين: لا مستند لأصحابنا في قولهم إنه سنة. قوله: "أخبرني

(10/331)


عدي" هو ابن ثابت، وقد تقدم قبل بابين من طريق شعبة أيضا بهذا الإسناد بلفظ: "خرصها" بدل قرطها.

(10/332)


60 - باب السِّخَابِ لِلصِّبْيَانِ
5884- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ فَانْصَرَفْتُ فَقَالَ: أَيْنَ لُكَعُ ثَلاَثاً ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي وَفِي عُنُقِهِ السِّخَابُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بِيَدِهِ هَكَذَا فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ.
قوله: "باب السخاب للصبيان" تقدم بيان السخاب. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في "باب ما ذكر في الأسواق" من كتاب البيوع مستوفى، وقوله فيه: "أين لكع؟" في رواية المستملي والسرخسي "أي لكع" بصيغة النداء.

(10/332)


61 - باب الْمُتَشَبِّهُونَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ
5885- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" تَابَعَهُ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ.
[الحديث 5885 – طرفاه في: 5886، 6534]
قوله: "باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال" أي ذم الفريقين، ويدل على ذلك اللعن المذكور في الخبر. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" كذا لأبي ذر، ولغيره: "حدثنا غندر" وهو هو. قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين" قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس. قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء باحتجاب والاستتار، وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين. وأما إطلاق من أطلق كالنووي وأن المخنث الخلقي لا يتجه عليه اللوم فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التثني والتكسر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك، وإلا متى كان ترك ذلك ممكنا ولو بالتدريج فتركه بغير عذر لحقه اللوم، واستدل لذلك الطبري بكونه صلى الله عليه وسلم لم يمنع المخنث من الدخول على النساء حتى سمع منه التدقيق في وصف المرأة كما في

(10/332)


62 - باب إِخْرَاجِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْبُيُوتِ
5886- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلاَناً، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَناً".
5887- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَداً الطَّائِفَ فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلاَنَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُنَّ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ يَعْنِي أَرْبَعَ عُكَنِ بَطْنِهَا فَهِيَ تُقْبِلُ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ يَعْنِي أَطْرَافَ هَذِهِ الْعُكَنِ الأَرْبَعِ لِأَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِالْجَنْبَيْنِ حَتَّى لَحِقَتْ وَإِنَّمَا قَالَ بِثَمَانٍ وَلَمْ يَقُلْ بِثَمَانِيَةٍ وَوَاحِدُ الأَطْرَافِ وَهُوَ ذَكَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ثَمَانِيَةَ أَطْرَافٍ".
قوله: "باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت" كذا للأكثر، وللنسفي "باب إخراجهم" وكذا عند الإسماعيلي وأبي نعيم. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي "عن يحيى" هو ابن أبي كثير، وأخرجه أبو داود

(10/333)


الطيالسي في مسنده عن شعبة وهشام جميعا عن قتادة عن عكرمة، وكأن أبا داود حمل رواية هشام على رواية شعبة فإن رواية شعبة عن قتادة هي باللفظ المذكور في الباب الذي قبله، ورواية هشام عن يحيى هي بهذا اللفظ الذي في هذا الباب، وقد أخرجه المصنف وأبو داود في "السنن" كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه أحمد عن إسماعيل بن علية ويحيى القطان ويزيد بن هارون كلهم عن هشام عن يحيى بن أبي كثير. قوله: "المخنثين من الرجال" تأتي الإشارة إلى ضبطه عقب هذا. قوله: "والمترجلات من النساء" زاد أبو داود من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة "فقلت له ما المترجلات من النساء؟ قال: المتشبهات بالرجال". قوله: "فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانة" كذا في رواية أبي ذر "فلانة" بالتأنيث وكذا وقع في "شرح ابن بطال" وللباقين "فلانا" بالتذكير، وكذا عند أحمد. وقد أخرج الطبراني وتمام الرازي في فوائده من حديث واثلة مثل حديث ابن عباس هذا بتمامه وقال فيه: "وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم أنجشة. وأخرج عمر فلانا" وأنجشة هو العبد الأسود الذي كان يحدو بالنساء، وسيأتي خبره في ذلك في كتاب الأدب، وقد تقدم ذكر أسامي من كان في العهد النبوي من المخنثين، ولم أقف في شيء من الروايات على تسمية الذي أخرجه عمر، إلى أن ظفرت بكتاب لأبي الحسن المدايني سماه "كتاب المغربين" بمعجمة وراء مفتوحة ثقيلة، فوجدت فيه عدة قصص لمن غربهم عمر عن المدينة، وسأذكر ذلك في كتاب أواخر الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية: الجعفي. قوله: "وفي البيت مخنث" تقدم ضبطه وتسميته في أواخر كتاب النكاح، وشرح الحديث مستوفى، وبيان ما وقع هنا من كلام البخاري من شرح قوله: "تقبل بأربع وتدبر بثمان" وقوله في آخر الحديث: "لا يدخلن" بضم أوله وتشديد النون "هؤلاء عليكن" كذا للأكثر وهو الوجه. وفي رواية المستملي والسرخسي "عليكم" بصيغة جمع المذكر، ويوجه بأنه جمع مع النساء المخاطبات بذلك من يلوذ بهن من صبي ووصيف، فجاء التغليب. وقد تفتح التحتانية أوله مخففا ومثقلا. وفي هذه الأحاديث مشروعية إخراج كل من يحصل به التأذي للناس عن مكانه إلى أن يرجع عن ذلك أو يتوب.

(10/334)


63 - باب قَصِّ الشَّارِبِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ يَعْنِي بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ
5888- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ نَافِعٍ ح قَالَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ" .
[الحديث 5888 – طرفه في: 5890]
5889- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ" .
[الحديث 5889 – طرفاه في: 5891، 6297]
قوله: "باب قص الشارب" هذه الترجمة وما بعدها إلى آخر كتاب اللباس لها تعلق باللباس من جهة الاشتراك في الزينة، فذكر أولا التراجم المتعلقة بالشعور وما شاكلها، وثانيا المتعلقة بالتطيب، وثالثا المتعلقة بتحسين الصورة

(10/334)


ورابعا المتعلقة بالتصاوير لأنها قد تكون في الثياب، وختم بما يتعلق بالارتداف وتعلقه به خفي وتعلقه بكتاب الأدب الذي يليه ظاهر والله أعلم. وأصل القص تتبع الأثر، وقيده ابن سيده في "المحكم" بالليل، والقص أيضا إيراد الخبر تاما على من لم يحضره، ويطلق أيضا على قطع شيء من شيء بآلة مخصوصة، والمراد به هنا الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، وكذا قص الظفر أخذ أعلاه من غير استئصال. قوله: "وكان ابن عمر" كذا لأبي ذر والنسفي وهو المعتمد، ووقع للباقين "وكان عمر" - قلت: وهو خطأ فإن المعروف عن عمر أنه كان يوفر شاربه. قوله: "يحفي شاربه" بالحاء المهملة والفاء ثلاثيا ورباعيا من الإحفاء أو الحفو والمراد الإزالة. قوله: "حتى يرى بياض الجلد" وصله أبو بكر الأثرم من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: "رأيت ابن عمر يحفي شاربه حتى لا يترك منه شيئا". وأخرج الطبري من طريق عبد الله بن أبي عثمان "رأيت ابن عمر يأخذ من شاربه أعلاه وأسفله" وهذا يرد تأويل من تأول في أثر ابن عمر أن المراد به إزالة ما على طرف الشفة فقط. قوله: "ويأخذ هذين يعني بين الشارب واللحية" كذا وقع في التفسير في الأصل، وقد ذكره رزين في جامعه من طريق نافع عن ابن عمر جازما بالتفسير المذكور. وأخرج البيهقي نحوه، وقوله: "بين" كذا للجميع إلا أن عياضا ذكر أن محمد بن أبي صفرة رواه بلفظ: "من" التي للتبعيض، والأول هو المعتمد. قوله: "حدثنا المكي بن إبراهيم عن حنظلة عن نافع. قال أصحابنا عن المكي: عن ابن عمر" كذا للجميع، والمعنى أن شيخه مكي بن إبراهيم حدثه به عن حنظلة وهو ابن أبي سفيان الجمحي عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا لم يذكر ابن عمر في السند، وحدث به غير البخاري عن مكي موصولا بذكر ابن عمر فيه وهو المراد بقول البخاري "قال أصحابنا" هذا هو المعتمد وبهذا جزم شيخنا ابن الملقن رحمه الله لكن قال: ظهر لي أنه موقوف على نافع في هذه الطريق، وتلقى ذلك من الحميدي فإنه جزم بذلك في "الجمع" وهو محتمل وأما الكرماني فزعم أن الرواية الثانية منقطعة لم يذكر فيها بين مكي وابن عمر أحدا فقال: المعنى أن البخاري قال: روى أصحابنا الحديث منقطعا فقالوا حدثنا مكي عن ابن عمر فطرحوا ذكر الراوي الذي بينهما، كذا قال، وهو وإن كان ظاهر ما أورد البخاري لكن تبين من كلام الأئمة أنه موصول بين مكي وابن عمر. وقال الزركشي: هذا الموضع مما يجب أن يعتني به الناظر، وهو ماذا الذي أراد بقوله: "قال أصحابنا عن المكي عن ابن عمر" فيحتمل أنه رواه مرة عن شيخه مكي عن نافع مرسلا ومرة عن أصحابه مرفوعا عن ابن عمر، ويحتمل أن بعضهم نسب الراوي عن ابن عمر إلى أنه المكي اهـ. وهذا الثاني هو الذي جزم به الكرماني، وهو مردود، ثم قال الزركشي: ويشهد للأول أن البخاري ربما روى عن المكي بالواسطة كما تقدم في البيوع، ووقع له في كتابه نظائر لذلك، منها ما سيأتي قريبا في "باب الجعد" حيث قال: "حدثنا مالك بن إسماعيل" فذكر حديثا ثم قال في آخره: "قال بعض أصحابي عن مالك بن إسماعيل" فذكر زيادة في المتن، ونظيره في الاستئذان في "باب قوله قوموا إلى سيدكم". قلت: وهو قوله: "حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة" فذكر حديثا وقال في آخره: "أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد" فذكر كلمة في المتن. وقريب منه ما سبق في المناقب في ذكر أسامة بن زيد حيث قال: "حدثنا سليمان بن عبد الرحمن" فذكر حديثا وقال في آخره: "حدثني بعض أصحابنا عن سليمان" فذكر زيادة في المتن أيضا. قلت: والفرق بين هذه المواضع وبين حديث الباب أن الاختلاف في الباب وقع في الوصل والإرسال، والاختلاف في غيره وقع بالزيادة في المتن، لكن اشترك الجميع في مطلق الاختلاف، والله أعلم. وقد أورد البخاري الحديث

(10/335)


المذكور في الباب الذي يليه من طريق إسحاق بن سليمان عن حنظلة موصولا مرفوعا، لكنه نزل فيه درجة، وطريق مكي وقعت لنا في "مسند ابن عمر" لأبي أمية الطرسوسي قال: "حدثنا مكي بن إبراهيم" فذكره موصولا مرفوعا وزاد فيه بعد قوله قص الشارب والظفر "وحلق العانة"، وكذا أخرجه البيهقي في "الشعب" من وجه آخر عن مكي. قلت: وهذا الحديث أغفله المزي في "الأطراف" فلم يذكره في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر لا من طريق مكي ولا من طريق إسحاق بن سليمان، ثم بعد أن كتب هذا ذكر لي محدث حلب الشيخ برهان الدين الحلبي أن شيخنا البلقيني قال له: القائل "قال أصحابنا" هو البخاري، والمراد بالمكي حنظلة بن أبي سفيان الجمحي فإنه مكي، قال: والسندان متصلان، وموضع الاختلاف بيان أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري سمي حنظلة، وأما أصحاب البخاري فلما رووه له عن حنظلة لم يسموه بل قالوا: "عن المكي" قال فالسند الأول مكي عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر، والثاني أصحابنا عن المكي عن نافع عن ابن عمر، ثم قال: وفي فهم ذلك صعوبة، وكأنه كان يتبجح بذلك، ولقد صدق فيما ذكر من الصعوبة ومقتضاه أن يكون عند البخاري جماعة لقوا حنظلة وليس كذلك، فإن الذي سمع من حنظلة هذا الحديث لا يحدث البخاري عنه إلا بواسطة وهو إسحاق بن سليمان الرازي، وكانت وفاته قبل طلب البخاري الحديث، قال ابن سعد مات سنة تسع وتسعين ومائة. وقال ابن نافع وابن حبان مات سنة مائتين، وقد أفصح أبو مسعود في "الأطراف" بالمراد فقال في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر حديث: "من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب" خ في اللباس "عن أحمد بن أبي رجاء عن إسحاق بن سليمان عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر، وعن مكي بن إبراهيم عن حنظلة عن نافع" قال: "وقال أصحابنا عن مكي عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر " فصرح بأن مراد البخاري بقوله عن المكي المكي بن إبراهيم وأن مراده بقوله عن ابن عمر بالسند المذكور وهو عن حنظلة عن نافع عنه. والحاصل أنه كما قدمته أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري أرسله، ولما حدث به غير البخاري وصله، فحكى البخاري ذلك ثم ساقه موصولا من طريق إسحاق بن سليمان. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني وبذلك جزم المزي. قوله: "الزهري حدثنا" هو من تقديم الراوي على الصيغة وهو سائغ، وقد رواه الحميدي عن سفيان قال: سمعت الزهري أخرجه أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريقه، ورواه أحمد عن سفيان عن الزهري بالعنعنة، وكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغير واحد، وأبو داود عن مسدد كلهم عن سفيان. قوله: "عن أبي هريرة رواية" هي كناية عن قول الراوي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو نحوها"، وقد وقع في رواية مسدد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أحمد في روايته أن سفيان كان تارة يكني وتارة يصرح، وقد تقرر في علوم الحديث أن قول الراوي رواية أو يرويه أو يبلغ به ونحو ذلك محمول على الرفع، وسيأتي في الباب الذي يليه من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري زيادة أبي سلمة مع سعيد بن المسيب في السند أخرجه أبو الشيخ. قوله: "الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة" كذا وقع هنا، ولمسلم وأبي داود بالشك وهو من سفيان. ووقع في رواية أحمد "خمس من الفطرة" ولم يشك، وكذا وقع هنا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي والنسائي، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد بالعكس كما في الباب الذي يليه بلفظ: "الفطرة خمس" وكذا في رواية يونس بن يزيد عن الزهري عند مسلم والنسائي، وهي محمولة على الأولى، قال ابن دقيق العيد:

(10/336)


دلالة "من" على التبعيض فيه أظهر من دلالة هذه الرواية على الحصر، وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك فدل على أن الحصر فيها غير مراد. واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة، فقيل برفع الدلالة وأن مفهوم العدد ليس بحجة، وقيل بل كان أعلم أولا بالخمس ثم أعلم بالزيادة، وقيل بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين، وقيل أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة كما حمل عليه قوله: "الدين النصيحة" و"الحج عرفة" ونحو ذلك. ويدل على التأكيد ما أخرجه الترمذي والنسائي من حديث زيد بن أرقم مرفوعا: "من لم يؤخذ شاربه فليس منا" وسنده قوي. وأخرج أحمد من طريق يزيد ابن عمرو المعافري نحوه وزاد فيه: حلق العانة وتقليم الأظافر، وسيأتي في الكلام على الختان دليل من قال بوجوبه. وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة، فإذا أراد خصوص ما ورد لفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعم من ذلك فلا تنحصر في الثلاثين بل تزيد كثيرا، وأقل ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر المذكور قبل فإنه لم يذكر فيه إلا ثلاثا، وسيأتي في الباب الذي يليه أنه ورد بلفظ الفطرة وبلفظ: "من الفطرة" وأخرج الإسماعيلي في رواية له بلفظ: "ثلاث من الفطرة" وأخرجه في رواية أخرى بلفظ: "من الفطرة" فذكر الثلاث وزاد الختان؛ ولمسلم من حديث عائشة "عشر من الفطرة" فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة إلا الختان وزاد: إعفاء اللحية والسواك والمضمضة والاستنشاق وغسل البراجم والاستنجاء، أخرجه من رواية مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عنها، لكن قال في آخره إن الراوي نسي العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ: "عشرة من السنة" وذكر الاستنثار بدل الاستنشاق. وأخرج النسائي من طريق سليمان التيمي قال: "سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرة من الفطرة" فذكر مثله إلا أنه قال: "وشككت في المضمضة" وأخرجه أيضا من طريق أبي بشر عن طلق قال: "من السنة عشر" فذكر مثله إلا أنه ذكر الختان بدل غسل البراجم، ورجح النسائي الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة. والذي يظهر لي أنها ليست بعلة قادحة، فإن راويها مصعب بن شيبة وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ، وقول سليمان التيمي "سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرا من الفطرة" يحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائي، ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها وسندها فحذف سليمان السند. وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمار بن ياسر مرفوعا نحو حديث عائشة قال: "من الفطرة المضمضة والاستنشاق والسواك وغسل البراجم والانتضاح" وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة ساقه ابن ماجه. وأما أبو داود فأحال به على حديث عائشة ثم قال: "وروي نحوه عن ابن عباس" وقال: خمس في الرأس وذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية. قلت: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريقه بسند صحيح عن طاوس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد. قلت: فذكر مثل حديث عائشة كما في الرواية التي قدمتها عن أبي عوانة سواء ولم يشك في المضمضة، وذكر أيضا الفرق بدل إعفاء اللحية وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس فذكر غسل الجمعة بدل الاستنجاء؛ فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث خمس عشرة خصلة اقتصر أبو شامة في "كتاب السواك وما أشبه ذلك" منها على اثني عشر، وزاد النووي واحدة في "شرح مسلم" وقد رأيت قبل

(10/337)


الخوض في شرح الخمس الواردة في الحديث المتفق عليه أن أشير إلى شرح العشر الزائدة عليها: فأما الوضوء والاستنشاق والاستنثار والاستنجاء والسواك وغسل الجمعة فتقدم شرحها في كتاب الطهارة، وأما إعفاء اللحية فيأتي في الباب الذي يليه، وأما الفرق فيأتي بعد أبواب، وأما غسل البراجم فهو بالموحدة والجيم جمع برجمة بضمتين وهي عقد الأصابع التي في ظهر الكف، قال الخطابي: هي المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ولا سيما ممن لا يكون طري البدن. وقال الغزالي: كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام فيجتمع في تلك العضون وسخ، فأمر بغسلها. قال النووي: وهي سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء، يعني أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف، وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فإن في بقائه إضرارا بالسمع، وقد أخرجه ابن عدي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء لأن الوسخ إليها سريع" وللترمذي الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه: "قصوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم" وفي سنده راو مجهول. ولأحمد من حديث ابن عباس "أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ولم لا يبطئ عني وأنتم لا تستنون - أي لا تستاكون - ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم" والرواجب جمع راجبة بجيم وموحدة قال أبو عبيد: البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها. وقال ابن سيده: البرجمة المفصل الباطن عند بعضهم، والرواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل قصب الأصابع، وقيل هي ظهور السلاميات، وقيل ما بين البراجم من السلاميات. وقال ابن الأعرابي: الراجبة البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم المسبحات من مفاصل الأصابع، وفي كل إصبع ثلاث برجمات إلا الإبهام فلها برجمتان. وقال الجوهري: الرواجب مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع اللاتي على الكف. وقال أيضا: الرواجب رءوس السلاميات من ظهر الكف، إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت، والأشاجع أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، واحدها أشجع. وقيل هي عروق ظاهر الكف. وأما الانتضاح فقال أبو عبيد الهروي. هو أن يأخذ قليلا من الماء فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقال الخطابي: انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النضح وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدة، وعلى الأول فهو غيره، ويشهد له ما أخرجه أصحاب السنن من رواية الحكم بن سفيان الثقفي أو سفيان بن الحكم عن أبيه أنه "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضأ ثم أخذ حفنة من ماء فانتضح بها" وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير: أن رجلا أتى ابن عباس فقال إني أجد بللا إذا قمت أصلي، فقال له ابن عباس: انضح بماء، فإذا وجدت من ذلك شيئا فقل هو منه. وأما الخصال الواردة في المعنى لكن لما يرد التصريح فيها بلفظ الفطرة فكثيرة، منها ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب رفعه: "أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح" واختلف في ضبط الحياء فقيل بفتح المهملة والتحتانية الخفيفة، وقد ثبت في الصحيحين أن " الحياء من الإيمان" وقيل هي بكسر المهملة وتشديد النون، فعلى الأول هي خصلة معنوية تتعلق: بتحسين الخلق، وعلى الثاني هي خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن. وأخرج البزار والبغوي في "معجم الصحابة" والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" من طريق فليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده رفعه: "خمس من سنن المرسلين" فذكر الأربعة المذكورة إلا النكاح وزاد الحلم والحجامة والحلم بكسر المهملة وسكون اللام، وهو مما يقوي الضبط الأول في حديث أبي أيوب، وإذا تتبع ذلك من الأحاديث

(10/338)


كثر العدد كما أشرت إليه والله أعلم. ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه، فيقيل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس. وأما شرح الفطرة فقال الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا السنة، وكذا قاله غيره، قالوا والمعنى أنها من سنن الأنبياء. وقالت طائفة: المعنى بالفطرة الدين وبه جزم أبو نعيم في المستخرج. وقال النووي في "شرح المهذب" جزم الماوردي والشيخ أبو إسحاق بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث الدين، واستشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابي وقال: معنى الفطرة بعيد من معنى السنة، لكن لعل المراد أنه على حذف مضاف أي سنة الفطرة. وتعقبه النووي بأن الذي نقله الخطابي هو الصواب. فإن في صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار" قال: وأصح ما فسر الحديث بما جاء في رواية أخرى لا سيما في البخاري اهـ. وقد تبعه شيخنا ابن الملقن على هذا، ولم أر الذي قاله في شيء من نسخ البخاري، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ: "الفطرة" وكذا من حديث أبي هريرة. نعم وقع التعبير بالسنة موضع الفطرة في حديث عائشة عند أبي عوانة في رواية، وفي أخرى بلفظ الفطرة كما في رواية مسلم والنسائي وغيرهما. وقال الراغب أصل الفطر بفتح الفاء الشق طولا. ويطلق على الوهي وعلى الاختراع وعلى الإيجاد، والفطرة الإيجاد على غير مثال. وقال أبو شامة، أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه فاطر السماوات والأرض أي المبتدئ خلقهن، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد، ويؤيده قوله تعالى قبلها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقوله: "فأبواه يهودانه وينصرانه" والمراد بالفطرة في حديث الباب أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة اهـ. وقد رد القاضي البيضاوي الفطرة في حديث الباب إلى مجموع ما ورد في معناها وهو الاختراع والجبلة والدين والسنة فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع، وكأنها أمر جبلي فطروا عليها انتهى. وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله: "خمس من الفطرة" أن قوله: "خمس" صفة موصوف محذوف والتقدير خصال خمس ثم فسرها، أو على الإضافة أي خمس خصال. ويجوز أن تكون الجملة خبر مبتدأ محذوف والتقدير الذي شرع لكم خمس من الفطرة، والتعبير في بعض روايات الحديث بالسنة بدل الفطرة يراد بها الطريقة لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بذلك الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما وقالوا: هو كالحديث الآخر "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" وأغرب القاضي أبو بكر بن العربي فقال: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف

(10/339)


من جملة المسلمين، كذا قال في "شرح الموطأ" وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف. ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال: دل الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين، والأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه، وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وثبت أن هذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به. وتعقب بأن وجوب الاتباع لا يقتضى وجوب كل متبوع فيه بل يتم الاتباع بالامتثال، فإن كان واجبا على المتبوع كان واجبا على التابع أو ندبا فندب، فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام. قوله: "الختان" بكسر المعجمة وتخفيف المثناة مصدر ختن أي قطع، والختن بفتح ثم سكون قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص. ووقع في رواية يونس عند مسلم: "الاختتان" والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختان أيضا كما في حديث عائشة إذا التقى الختانان والأول المراد هنا قال الماوردي: ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشى به شيء من الحشفة. وقال إمام الحرمين: المستحق في الرجال قطع القلفة، وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شيء متدل. وقال ابن الصباغ: حتى تنكشف جميع الحشفة. وقال ابن كج فيما نقله الرافعي: يتأدى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. قال النووي: وهو شاذ، والأول هو المعتمد. قال الإمام: والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم. قال الماوردي: ختانها قطع جلدة تكون أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله. وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة" وقال: أنه ليس بالقوي. قلت: وله شاهدان من حديث أنس ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي، قال النووي: ويسمى ختان الرجل إعذارا بذال معجمة، وختان المرأة خفضا بخاء وضاد معجمتين. وقال أبو شامة: كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل إعذارا والخفض يختص بالأنثى. قال أبو عبيدة: عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وأختنتهما وزنا ومعنى قال الجوهري: والأكثر خفضت الجارية، قال: وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت قلفته أي اتسعت فصار كالمختون، وقد استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على موضع الختان من غير قطع قال أبو شامة: وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تاما بل يظهر طرف الحشفة فإن كان كذلك وجب تكميله. وأفاد الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في "المدخل" أنه اختلف في النساء هل يخفضن عموما أو يفرق بين نساء المشرق فيخفضن ونساء المغرب فلا يخفضن لعدم الفضلة المشروع قطعها منهن، بخلاف نساء المشرق، قال: فمن قال إن من ولد مختونا استحب إمرار الموسى عل الموضع امتثالا للأمر قال في حق المرأة كذلك ومن لا فلا. وقد ذهب إلى وجوب الختان دون باقي الخصال الخمس المذكورة في الباب الشافعي وجمهور أصحابه. وقال به من القدماء عطاء حتى قال: لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن. وعن أحمد وبعض المالكية: يجب. وعن أبي حنيفة واجب وليس بفرض. وعنه سنة يأثم بتركه. وفي وجه للشافعية لا يجب في حق النساء وهو الذي أورده صاحب "المغني"

(10/340)


عن أحمد. وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب، ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" وهذا لا حجة فيه لما تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك دل على أن المراد افتراق الحكم. وتعقب بأنه لم ينحصر في الوجوب فقد يكون في حق الذكور آكد منه في حق النساء أو يكون في حق الرجال للندب وفي حق النساء للإباحة، على أن الحديث لا يثبت لأنه من رواية حجاج بن أرطاة ولا يحتج به أخرجه أحمد والبيهقي. لكن له شاهد أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق سعيد بن بشر عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس، وسعيد مختلف فيه. وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي من وجه آخر عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضا من حديث أبي أيوب، واحتجوا أيضا بأن الخصال المنتظمة مع الختان ليست واجبة إلا عند بعض من شذ فلا يكون الختان واجبا، وأجيب بأنه لا مانع أن يراد بالفطرة وبالسنة في الحديث القدر المشترك الذي يجمع الوجوب والندب وهو الطلب المؤكد، فلا يدل ذلك على عدم الوجوب ولا ثبوته فيطلب الدليل من غيره. وأيضا فلا مانع من جمع المختلفي الحكم بلفظ أمر واحد كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فإيتاء الحق واجب، والأكل مباح. هكذا تمسك به جماعة، وتعقبه الفاكهاني في "شرح العمدة" فقال الفرق بين الآية والحديث أن الحديث تضمن لفظة واحدة استعملت في الجميع، فتعين أن يحمل على أحد الأمرين الوجوب أو الندب، بخلاف الآية فإن صيغة الأمر تكررت فيها، والظاهر الوجوب، فصرف في أحد الأمرين بدليل وبقي الآخر على الأصل. وهذا التعقب إنما يتم على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين، وأما من يجيزه كالشافعية فلا يرد عليهم. واستدل من أوجب الاختتان بأدلة: الأول أن القلفة تحبس النجاسة فتمنع صحة الصلاة كمن أمسك نجاسة بفمه، وتعقب بأن الفم في حكم الظاهر، بدليل أن وضع المأكول فيه لا يفطر به الصائم، بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن، وقد صرح أبو الطيب الطبري بأن هذا القدر عندنا مغتفر. الثاني ما أخرجه أبو داود من حديث كليب جد عثيم بن كثير "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألق عنك شعار الكفر واختتن" مع ما تقرر أن خطابه للواحد يشمل غيره حتى يقوم دليل الخصوصية. وتعقب بأن سند الحديث ضعيف وقد قال ابن المنذر: لا يثبت فيه شيء، 5 الثالث جوار كشف العور من المختون، وسيأتي أنه إنما يشرع لمن بلغ أو شارف البلوغ وجواز نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام، فلو لم يجب لما أبيح ذلك، وأقدم من نقل عنه الاحتجاج بهذا أبو العباس بن سريج نقله عنه الخطابي وغيره، وذكر النووي أنه رآه في "كتاب الودائع" المنسوب لابن سريج قال: ولا أظنه يثبت عنه، قاله أبو شامة: وقد عبر عنه جماعة من المصنفين بعده بعبارات مختلفة كالشيخ أبي حامد والقاضي الحسين وأبي الفرج السرخسي والشيخ في "المهذب". وتعقبه عياض بأن كشف النور مباح لمصلحة الجسم والنظر إليها يباح للمداواة، وليس ذلك واجبا إجماعا، وإذا جاز في المصلحة الدنيوية كان في المصلحة الدينية أولى. وقد استشعر القاضي حسين هذا فقال: فإن قيل قد يترك الواجب كثرك الإنصات للخطبة بالتشاغل بركعتي التحية، وكترك القيام في الصلاة لسجود التلاوة، وكشف العورة للمداواة مثلا. وأجاب عن الأولين ولم يجب عن الثالث. وأجاب النووي بأن كشف العورة لا يجوز لكل مداواة فلا يتم المراد. وقوى أبو شامة الإيراد بأنهم جوزوا الغاسل الميت أن يحلق عانة الميت، ولا يتأتى ذلك للغاسل إلا بالنظر واللمس وهما حرامان، وقد أجيزا لأمر

(10/341)


مستحب. الرابع: احتج أبو حامد وأتباعه كالماوردي بأنه قطع عضو لا يستخلف من الجسد تعبدا فيكون واجبا كقطع اليد في السرقة، وتعقب بأن قطع اليد إنما أبيح في مقابلة جرم عظيم. فلم يتم القياس. الخامس: قال الماوردي: في الختان إدخال ألم عظيم على النفس وهو لا يشرع إلا في إحدى ثلاث خصال: لمصلحة، أو عقوبة، أو وجوب. وقد انتفى الأولان فثبت الثالث. وتعقبه أبو شامة بأن في الختان عدة مصالح كمزيد الطهارة والنظافة فإن القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به، وأقر الإسلام ذلك. السادس: قال الخطابي محتجا بأن الختان واجب بأنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر، حتى لو وجد مختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين. وتعقبه أبو شامة بأن شعار الدين ليست كلها واجبة، وما ادعاء في المقتول مردود لأن اليهود وكثيرا من النصارى يختنون فليقيد ما ذكر بالقرينة. قلت: قد بطل دليله. السابع: قال البيهقي: أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين مرفوعا: "اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هي خصال الفطرة ومنهن الختان، والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا، وتعقب بأنه لا يلزم ما ذكر إلا إن كان إبراهيم عليه السلام فعله على سبيل الوجوب، فإنه من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال الله تعالى في حق نبيه محمد {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقد تقرر في الأصول أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب، وأيضا فباقي الكلمات العشر ليست واجبة. وقال الماوردي: إن إبراهيم عليه السلام لا يفعل ذلك في مثل سنة إلا عن أمر من الله اهـ، وما قاله بحثا قد جاء منقولا، فأخرج أبو الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه: أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختتن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة فعجل واختتن بالقدوم فاشتد عليه الوجع فدعا ربه فأوحى الله إليه إنك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك. قال الماوردي: القدوم جاء مخففا ومشددا وهو الفأس الذي اختتن به، وذهب غيره إلى أن المراد به مكان يسمى القدوم.
وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: يقال هو كان مقيله، وقيل اسم قرية بالشام. وقال أبو شامة: هو موضع بالقرب من القرية التي فيها قبره، وقيل بقرب حلب؛ وجزم غير واحد أن الآلة بالتخفيف، وصرح ابن السكيت بأنه لا يشدد وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما، وقد تقدم بعض هذا في شرح الحديث المذكور في ذكر إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، ووقع عند أبي الشيخ من طريق أخرى أن إبراهيم لما اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة وأنه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة، والأول أشهر، وهو أنه اختتن وهو ابن ثمانين وعاش بعدها أربعين، والغرض أن الاستدلال بذلك متوقف كما تقدم على أنه كان في حق إبراهيم عليه السلام واجبا، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به وإلا فالنظر باق. واختلف في الوقت الذي يشرع فيه الختان، قال الماوردي: له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب، فوقت الوجوب البلوغ ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة، وقيل من يوم الولادة، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر ففي السنة السابعة، فإن بلغ وكان نضوا نحيفا يعلم من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب. ويستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر، وذكر القاضي حسين أنه لا يجوز أن يختتن الصبي حتى يصير ابن عشر سنين لأنه حينئذ يوم ضربه على ترك الصلاة، وألم الختان فوق ألم

(10/342)


الضرب فيكون أولى بالتأخير، وزيفه النووي في "شرح المهذب" وقال إمام الحرمين: لا يجب قبل البلوغ لأن الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم، قال: ولا يرد وجوب العدة على الصبية لأنه لا يتعلق به تعب بل هو مضي زمان محض. وقال أبو الفرج السرخسي: في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك، ونقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود. وقال مالك: يحسن إذا أثغر أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه، وذلك يكون في السبع سنين وما حولها، وعن الليث يستحب ما بين سبع سنين إلى عشر سنين، وعن أحمد لم أسمع فيه شيئا. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: "سبع من السنة في الصبي يسمى في السابع ويختن" الحديث وقد قدمت ذكره في كتاب العقيقة وأنه ضعيف. وأخرج أبو الشيخ من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن ابن المنكدر أو غيره عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن حسنا وحسينا لسبعة أيام" قال الوليد فسألت مالكا عنه فقال: لا أدري، ولكن الختان طهرة فكلما قدمها كان أحب إلي. وأخرج البيهقي حديث جابر. وأخرج أيضا من طريق موسى بن علي عن أبيه: أن إبراهيم عليه السلام ختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام. وقد ذكرت في أبواب الوليمة من كتاب النكاح مشروعية الدعوة في الختان، وما أخرجه أحمد من طريق الحسن عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان فقال: "ما كنا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعى له" وأخرجه أبو الشيخ من رواية فبين أنه كان ختان جارية. وقد نقل الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في "المدخل" أن السنة إظهار ختان الذكر وإخفاء ختان الأنثى. والله أعلم. قوله: "والاستحداد" بالحاء المهملة استفعال من الحديد والمراد به استعمال الموسى في حلق الشعر من مكان مخصوص من الجسد، قيل وفي التعبير بهذه اللفظة مشروعية الكناية عما يستحي منه إذا حصل الإفهام بها وأغنى عن التصريح، والذي يظهر أن ذلك من تصرف الرواة. وقد وقع في رواية النسائي في حديث أبي هريرة هذا التعبير بحلق العانة، وكذا في حديث عائشة وأنس المشار إليهما من قبل عند مسلم، قال النووي: المراد بالعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه، وكذا الشعر الذي حوالي فرج المرأة. ونقل عن أبي العباس بن سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما؛ قال وذكر الحلق لكونه هو الأغلب وإلا فيجوز الإزالة بالنورة والنتف وغيرهما. وقال أبو شامة: العانة الشعر النابت على الركب بفتح الراء والكاف وهو ما انحدر من البطن فكان تحت الثنية وفوق الفرج، وقيل لكل فخذ ركب، وقيل ظاهر الفرج وقيل الفرج بنفسه سواء كان من رجل أو امرأة، قال: ويستحب إماطة الشعر عن القبل والدبر بل هو من الدبر أولى خوفا من أن يعلق شيء من الغائط فلا يزيله المستنجي إلا بالماء ولا يتمكن من إزالته بالاستجمار، قال ويقوم التنور مكان الحلق وكذلك النتف والقص، وقد سئل أحمد عن أخذ العانة بالمقراض فقال أرجو أن يجزئ، قيل فالنتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحد؟ وقال ابن دقيق العيد قال أهل اللغة: العانة الشعر النابت على الفرج، وقيل هو منبت الشعر، قال وهو المراد في الخبر. وقال أبو بكر بن العربي: شعر العانة أولى الشعور بالإزالة لأنه يكثف ويتلبد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإبط. قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهي في "شرح العمدة" أنه لا يجوز، كذا قال ولم يذكر للمنع مستندا، والذي استند إليه أبو شامة قوي، بل ربما تصور الوجوب في حق من تعين ذلك في حقه، كمن لم يجد من الماء إلا القليل وأمكنه أن لو حلق الشعر أن لا يعلق به شيء من الغائط

(10/343)


يحتاج معه إلى غسله وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء. وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس، قال: والأولى في إزالة الشعر هنا الحلق اتباعا، ويجوز النتف، بخلاف الإبط فإنه بالعكس لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة، والشعر من الإبط بالنتف يضعف وبالحلق يقوى فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب. وقال النووي وغيره: السنة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حق الرجل والمرأة معا، وقد ثبت الحديث الصحيح عن جابر في النهي عن طروق النساء ليلا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وقد تقدم شرحه في النكاح، لكن يتأدى أصل السنة بالإزالة بكل مزيل. وقال النووي أيضا: والأولى في حق الرجل الحلق وفي حق المرأة النتف. واستشكل بأن فيه ضررا على المرأة بالألم وعلى الزوج باسترخاء المحل فإن النتف يرخي المحل باتفاق الأطباء، ومن ثم قال ابن دقيق للعيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حق المرأة لأن النتف يرخي المحل، لكن قال ابن العربي: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلة فالأولى في حقها الحلق لأن النتف يرخى المحل، ولو قيل الأولى في حقها التنور مطلقا لما كان بعيدا. وحكى النووي في وجوب الإزالة عليها إذا طلب ذلك منها وجهين أصحهما الوجوب، ويفترق الحكم في نتف الإبط وحلق العانة أيضا بأن نتفت الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي، بخلاف حلق العانة فيحرم إلا في حق من يباح له المس والنظر كالزوج والزوجة. وأما التنور فسئل عنه أحمد فأجازه، وذكر أنه يفعله، وفيه حديث عن أم سلمة أخرجه ابن ماجه والبيهقي ورجاله ثقات، ولكنه أعله بالإرسال، وأنكر أحمد صحته ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلى ولي عانته بيده" ومقابله حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور، وكان إذا كثر شعره حلقه" ولكن سنده ضعيف جدا. قوله: "ونتف الإبط" في رواية الكشميهني: "الآباط" بصيغة الجمع، والإبط بكسر الهمزة والموحدة وسكونها وهو المشهور وصوبه الجواليقي، وهو يذكر ويؤنث، وتأبط الشيء وضعه تحت إبطه. والمستحب البداءة فيه باليمنى، ويتأدى أصل السنة بالحلق ولا سيما من يؤلمه النتف. وقد أخرج ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" عن يونس بن عبد الأعلى قال دخلت على الشافعي ورجل يحلق إبطه فقال: إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع. قال الغزالي: هو في الابتداء موجع ولكن يسهل على من اعتاده، قال: والحلق كاف لأن المقصود النظافة. وتعقب بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبد ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به، بخلاف الحلق فإنه يقوي الشعر ويهبجه فتكثر الرائحة لذلك. وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن بين أن النتف مقصود من جهة المعنى فذكر نحو ما تقدم، قال: وهو معنى ظاهر لا يهمل فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسبا يحتمل أن يكون مقصودا في الحكم لا يترك والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به ولا سيما إن كان جلده رقيقا وتستحب البداءة في إزالته باليد اليمنى، ويزيل ما في اليمنى بأصابع اليسرى وكذا اليسرى إن أمكن وإلا فباليمنى. قوله: "وتقليم الأظفار" وهو تفعيل من القلم وهو القطع. ووقع في حديث ابن عمر "قص الأظفار" كما في حديث الباب، ووقع في حديثه في الباب الذي يليه بلفظ: "تقليم" وفي حديث عائشة وأنس "قص الأظفار" والتقليم أعم، والأظفار جمع ظفر بضم الظاء والفاء وبسكونها، وحكى أبو زيد كسر أوله، وأنكره ابن سيده، وقد قيل إنها قراءة الحسن، وعن أبي السماك أنه

(10/344)


قرئ بكسر أوله وثانيه، والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر، لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، وقد حكى أصحاب الشافعي فيه وجهين: فقطع المتولي بأن الوضوء حينئذ لا يصح، وقطع الغزالي في "الإحياء" بأنه يعفى عن مثل ذلك، واحتج بأن غالب الأعراب لا يتعاهدون ذلك، ومع ذلك لم يرد في شيء من الآثار أمرهم بإعادة الصلاة وهو ظاهر، لكن قد يعلق بالظفر إذا طال النجو لمن استنجى بالماء ولم يمعن غسله فيكون إذا صلى حاملا للنجاسة، وقد أخرج البيهقي في "الشعب" من طريق قيس بن أبي حازم قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فأوهم فيها، فسئل فقال: ما لي لا أوهم ورفع أحدكم بين ظفره وأنملته" رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر. والرفغ بضم الراء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة يجمع على أرفاغ وهي مغابن الجسد كالإبط وما بين الأنثيين والفخذين وكل موضع يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير وسخ رفغ أحدكم، والمعنى أنكم لا تقلمون أظفاركم ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة، قال أبو عبيد: أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصها. قلت: وفيه إشارة إلى الندب إلى تنظيف المغابن كلها، ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الأصبع، واستحب أحمد للمسافر أن يبقي شيئا لحاجته إلى الاستعانة لذلك غالبا. ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، لكن جزم النووي في "شرح مسلم" بأنه يستحب البداءة بمسبحة اليمنى ثم بالوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإبهام، وفي اليسرى بالبداعة بخنصرها ثم بالبنصر إلى الإبهام ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولم يذكر للاستحباب مستندا. وقال في "شرح المهذب" بعد أن نقل عن الغزالي وأن المازري اشتد إنكاره عليه فيه: لا بأس بما قاله الغزالي إلا في تأخير إبهام اليد اليمنى فالأولى أن تقدم اليمنى بكمالها على اليسرى، قال: وأما الحديث الذي ذكره الغزالي فلا أصل له. اهـ. وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من ادعى استحباب تقديم اليد في القص على الرجل إلى دليل، فإن الإطلاق يأبى ذلك. قلت: يمكن أن يؤخذ بالقياس على الوضوء والجامع التنظيف، وتوجيه البداءة باليمنى لحديث عائشة الذي مر في الطهارة "كان يعجبه التيمن في طهوره وترجله وفي شأنه كله" والبداءة بالمسبحة منها لكونها أشرف الأصابع لأنها آلة التشهد، وأما اتباعها بالوسطى فلأن غالب من يقلم أظفاره يقلمها قبل ظهر الكف فتكون الوسطى جهة يمينه فيستمر إلى أن يختم بالخنصر ثم يكمل اليد بقص الإبهام، وأما اليسرى فإذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمر على جهة اليمين إلى الإبهام، قال شيخنا في "شرح الترمذي" وكان ينبغي أن لو أخر إبهام اليمنى ليختم بها ويكون قد استمر على الانتقال إلى جهة اليمنى، ولعل الأول لحظ فصل كل يد عن الأخرى، وهذا التوجيه في اليمين يعكر على ما نقله في الرجلين إلا أن يقال غالب من يقلم أظفار رجليه يقلمها من جهة باطن القدمين فيستمر التوجيه. وقد قال صاحب "الإقليد" قضية الأخذ في ذلك بالتيامن أن يبدأ بخنصر اليمنى إلى أن ينتهي إلى خنصر اليسرى في اليدين والرجلين معا، وكأنه لحظ أن القص يقع من باطن الكفين أيضا، وذكر الدمياطي أنه تلقى عن بعض المشايخ أن من قص أظفاره مخالفا لم يصبه رمد وأنه جرب ذلك مدة طويلة. وقد نص أحمد على استحباب قصها مخالفا، وبين ذلك أبو عبد الله بن بطة من أصحابهم فقال: يبدأ بخنصره اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة، ويبدأ بإبهام اليسرى على العكس من اليمنى، وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزالي ومن تبعه وقال: كل ذلك لا أصل له وإحداث استحباب

(10/345)


لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها فبقية الهيئة لا يتخيل فيه ذلك. نعم البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرجلين له أصل وهو كان يعجبه التيامن اهـ. ولم يثبت أيضا في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه جعفر المستغفري بسند مجهول، ورويناه في "مسلسلات التيمي" من طريقه، وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة" وله شاهد موصول عن أبي هريرة، لكن سنده ضعيف أخرجه البيهقي أيضا في "الشعب"، وسئل أحمد عنه فقال: يسن في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه يوم الخميس، وعنه يتخير، وهذا هو المعتمد أنه يستحب كيف ما احتاج إليه؛ وأما ما أخرج مسلم من حديث أنس "وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما" كذا وقت فيه على البناء للمجهول، وأخرجه أصحاب السنن بلفظ: "وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأشار العقيلي إلى أن جعفر بن سليمان الضبعي تفرد به، وفي حفظه شيء، وصرح ابن عبد البر بذلك فقال: لم يروه غيره، وليس بحجة وتعقب بأن أبا داود والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى عن ثابت، وصدقة بن موسى وإن كان فيه مقال لكن تبين أن جعفرا لم ينفرد به وقد أخرج ابن ماجه نحوه من طريق علي بن جدعان عن أنس، وفي علي أيضا ضعف. وأخرجه ابن عدي من وجه ثالث من جهة عبد الله بن عمران شيخ مصري عن ثابت عن أنس، لكن أتى فيه بألفاظ مستغربة قال: أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوما، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان: وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة. وعبد الله والراوي عنه مجهولان. قال القرطبي في "المفهم" ذكر الأربعين تحديد لأكثر المدة، ولا يمنع تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، والضابط في ذلك الاحتياج. وكذا قال النووي: المختار أن ذلك كله يضبط بالحاجة. وقال في "شرح المهذب" ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة. قلت: لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة، فإن المبالغة في التنظف فيه مشروع والله أعلم. وفي "سؤالات مهنا" عن أحمد قلت له: "يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: لا يتلعب به سحرة بني آدم. قلت: وهذا الحديث أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر نحوه. وقد استحب أصحابنا دفنها لكونها أجزاء من الآدمي والله أعلم. "فرع": لو استحق قص أظفاره فقص بعضا أبدى فيه ابن دقيق العيد احتمالا من منع لبس إحدى النعلين وترك الأخرى كما تقدم في بابه قريبا. قوله: "وقص الشارب" تقدم القول في القص أول الباب، وأما الشارب فهو الشعر النابت على الشفة العليا. واختلف في جانبيه وهما السبالان فقيل: هما من الشارب ويشرع قصهما معه، وقيل هما من جملة شعر اللحية وأما القص فهو الذي في أكثر الأحاديث كما هنا، وفي حديث عائشة وحديث أنس كذلك كلاهما عند مسلم، وكذا حديث حنظلة عن ابن عمر في أول الباب، وورد الخبر بلفظ: "الحلق" وهي رواية النسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان بن عيينة بسند هذا الباب، ورواه جمهور أصحاب ابن عيينة بلفظ: "القص" وكذا سائر الروايات عن شيخه الزهري. ووقع عند النسائي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "تقصير الشارب" نعم وقع الأمر بما يشعر بأن رواية الحلق محفوظ كحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "جزوا

(10/346)


الشوارب" وحديث ابن عمر المذكور في الباب الذي يليه بلفظ: "أحفوا الشوارب " وفي الباب الذي يليه بلفظ: "انهكوا الشوارب" فكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة، لأن الجز وهو بالجيم والزاي الثقيلة قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد، والإحفاء بالمهملة والفاء الاستقصاء ومنه "حتى أحفوه بالمسألة" قال أبو عبيد الهروي معناه ألزقوا الجز بالبشرة. وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء، والنهك بالنون والكاف المبالغة في الإزالة، ومنه ما تقدم في الكلام على الختان قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة "أشمي ولا تنهكي" أي لا تبالغي في ختان المرأة وجرى على ذلك أهل اللغة. وقال ابن بطال: النهك التأثير في الشيء وهو غير الاستئصال، قال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله، وأما رواية: "أحفوا" فمعناها أزيلوا ما طال على الشفتين، قال ابن دقيق العيد: ما أدري هل نقله عن المذهب أو قاله اختيارا منه لمذهب مالك. قلت: صرح "في شرح المهذب" بأن هذا مذهبنا. وقال الطحاوي لم أر عن الشافعي في ذلك شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير. وقال ابن القاسم عن مالك: إحفاء الشارب عندي مثلة، والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين وقال أشهب: سألت مالكا عمن يحفي شاربه فقال: أرى أن يوجع ضربا. وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس. اهـ. وأغرب ابن العربي فنقل عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب، وليس ذلك معروفا عند أصحابه، قال الطحاوي: الحلق هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد اهـ. وقال الأثرم: كان أحمد يحفي شاربه إحفاء شديدا، ونص على أنه أولى من القص. وقال القرطبي: وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الأكل ولا يجتمع فيه الوسخ. قال: والجز والإحفاء هو القص المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك. قال: وذهب الكوفيون إلى أنه الاستئصال، وبعض العلماء إلى التخيير في ذلك. قلت: هو الطبري، فإنه حكى قول مالك وقول الكوفيين ونقل عن أهل اللغة أن الإحفاء الاستئصال ثم قال: دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما شاء. وقال ابن عبد البر: الإحفاء محتمل لأخذ الكل، والقص مفسر للمراد، والمفسر مقدم على المجمل اهـ. ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث المرفوعة، فأما الاقتصار على القص ففي حديث المغيرة بن شعبة "ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي فقصه على سواك" أخرجه أبو داود. واختلف في المراد بقوله: "على سواك" فالراجح أنه وضع سواكا عند الشفة تحت الشعر وأخذ الشعر بالمقص، وقيل المعنى قصه على أثر سواك، أي بعدما تسوك. ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقي في هذا الحديث قال فيه: "فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه" وأخرج البزار من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه" وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه" وأخرج البيهقي والطبراني من طريق شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: "رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معدي كرب الكندي، وعتبة بن عوف السلمي والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر. وأما الإحفاء ففي رواية ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: إنهم يوفون سبالهم، ويحلقون لحالهم فخالفوهم" قال: فكان ابن عمر يستقرض سبلته فيجزها كما يجز

(10/347)


الشاة أو البعير" أخرجه الطبري والبيهقي، وأخرجا من طريق عبد الله بن رافع قال: "رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق" لفظ الطبري. وفي رواية البيهقي "يقصون شواربهم مع طرف الشفة" وأخرج الطبري من طرق عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم. وقد تقدم في أول الباب أثر ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، لكن كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها ولا يستوعب بقيتها، نظرا إلى المعنى في مشروعية ذلك وهو مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الأكل وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك، وبذلك جزم الداودي في شرح أثر ابن عمر المذكور، وهو مقتضى تصرف البخاري لأنه أورد أثر ابن عمر وأورد بعده حديثه وحديث أبي هريرة في قص الشارب، فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث. وعن الشعبي أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العلياء وما قاربه من أعلاه ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك، وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار. وقد أبدى ابن العربي لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفا فقال: إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله، وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم، فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به. قلت: وذلك يحصل بتخفيفه ولا يستلزم إحفافه وإن كان أبلغ، وقد رجح الطحاوي الحلق على القص بتفضيله صلى الله عليه وسلم الحلق على التقصير في النسك، ووهى ابن التين الحلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من حلق" وكلاهما احتجاج بالخبر في غير ما ورد فيه ولا سيما الثاني، ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي مشروعية تنظيف داخل الأنف وأخذ شعره إذا طال، والله أعلم. وقد روى مالك عن زيد بن أسلم "أن عمر كان إذا غضب فتل شاربه" فدل على أنه كان يوفره. وحكى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية أنه قال: لا بأس بإبقاء الشوارب في الحرب إرهابا للعدو، وزيفه. "فصل": في فوائد تتعلق بهذا الحديث: الأولى - قال النووي: يستحب أن يبدأ في قص الشارب باليمين. الثانية يتخير بين أن يقص ذلك بنفسه أو يولي ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمة بخلاف العانة. قلت: محل ذلك حيث لا ضرورة، وأما من لا يحسن الحلق فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به فإنه يغني عن الحلق ويحصل به المقصود وكذا من لا يقوى على النتف ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروءة من أجل الضرورة كما تقدم عن الشافعي، وهذا لمن لم يقو على التنور من أجل أن النورة تؤذي الجلد الرقيق كجلد الإبط، وقد يقال مثل ذلك في حلق العانة من جهة المغابن التي بين الفخذ والأنثيين، وأما الأخذ من الشارب فينبغي فيه التفصيل بين من يحسن أخذه بنفسه بحيث لا يتشوه وبين من لا يحسن فيستعين بغيره، ويلتحق به من لا يجد مرآة ينظر وجهه فيها عند أخذه. الثالثة: قال النووي: يتأدى أصل السنة بأخذ الشارب بالمقص وبغيره. وتوقف ابن دقيق العيد في قرضه بالسن ثم قال: من نظر إلى اللفظ منع ومن نظر إلى المعنى أجاز. الرابعة: قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا قال بوجوب قص الشارب من حيث هو هو، واحترز بذلك من وجوبه بعارض حيث يتعين

(10/348)


كما تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي، وكأنه لم يقف على كلام ابن حزم في ذلك فإنه قد صرح بالوجوب في ذلك وفي إعفاء اللحية.

(10/349)


باب تقيلم الأظافر
...
64 - باب تَقْلِيمِ الأَظْفَارِ
5890- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مِنْ الْفِطْرَةِ حَلْقُ الْعَانَةِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ" .
5891- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْآبَاطِ" .
5892- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ".
[الحديث 5892 – طرفه في: 5893]
قوله: "باب تقليم الأظفار" تقدم بيان ذلك في الذي قبله، وقد ذكر فيه ثلاثة أحاديث، الثالث منها لا تعلق له بالظفر وإنما هو مختص بالشارب واللحية فيمكن أن يكون مراده في هذه الترجمة والتي قبلها تقليم الأظفار وما ذكر معها وقص الشارب وما ذكر معه، ويحتمل أن يكون أشار إلى أن حديث ابن عمر في الأول وحديثه في الثالث واحد، منهم من طوله ومنهم من اختصره. قوله: "حدثنا أحمد بن أبي رجاء" هو أحمد بن عبد الله بن أيوب الهروي، وإسحاق بن سليمان هو الرازي، وحنظلة هو ابن سفيان الجمحي. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" كذا للجميع، وزعم أبو مسعود في "الأطراف" أن البخاري ذكره من هذا الوجه موقوفا ثم تعقبه بأن أبا سعيد الأشج رواه عن إسحاق بن سليمان مرفوعا، وتعقب الحميدي كلام أبي مسعود فأجاد. قوله: "من الفطرة" كذا للجميع، وقد تقدم نقل النووي أنه وقع فيه بلفظ: "من السنة". قوله: "وقص الشارب" في رواية الإسماعيلي: "وأخذ الشارب" وفي أخرى له "وقص الشوارب" قال: "وقال مرة الشارب" قال الجياني: وقع في كلامهم أنه لعظم الشوارب وهو من الواحد الذي فرق وسمى كل جزء منه باسمه فقالوا لكل جانب منه شاربا ثم جمع شوارب وحكى ابن سيده عن بعضهم: من قال الشاربان أخطأ؛ وإنما الشاربان ما طال من ناحية السبلة، قال: وبعضهم يسمي السبلة كلها شاربا، ويؤيده أثر عمر الذي أخرجه مالك أنه "كان إذا غضب فتل شاربه" والذي يمكن فتله من شعر الشارب السبال وقد سماه شاربا. حديث أبي هريرة قد تقدم شرحه مستوفى. قوله: "عمر بن محمد بن زيد" أي ابن عبد الله بن عمر. قوله: "خالفوا المشركين" في حديث أبي هريرة عند مسلم: "خالفوا المجوس" وهو المراد في حديث ابن عمر فإنهم كانوا يقصون لحاهم ومنهم من كان يحلقها. قوله: "أحفوا

(10/349)


الشوارب" بهمزة قطع من الإحفاء للأكثر، وحكى ابن دريد حفى شاربه حفوا إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هذا فهي همزة وصل. قوله: "ووفروا اللحى" أما قوله: "وفروا" فهو بتشديد الفاء من التوفير وهو الإبقاء أي اتركوها وافرة وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في الباب الذي يليه "أعفوا" وسيأتي تحريره، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم "أرجئوا" وضبطت بالجيم والهمزة أي أخروها، وبالخاء المعجمة بلا همز أي أطيلوها، وله في رواية أخرى "أوفوا" أي اتركوها وافية، قال النووي: وكل هذه الروايات بمعنى واحد، واللحى بكسر اللام وحكي ضمها وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط وهي اسم لما نبت على الخدين والذقن. قوله: "وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه" هو موصول بالسند المذكور إلى نافع، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" عن نافع بلفظ: "كان ابن عمر إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه" وفي حديث الباب مقدار المأخوذ، وقوله: "فضل" بفتح الفاء والضاد المعجمة ويجوز كسر الضاد كعلم والأشهر الفتح قاله ابن التين. وقال الكرماني: لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وخص ذلك من عموم قوله: "وفروا اللحى" فحمله على حالة غير حالة النسك. قلت: الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه، فقد قال الطبري: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها ومن عرضها. وقال قوم إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد، ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك، وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله. وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: "كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة" وقوله: "نعفي" بضم أوله وتشديد الفاء أي نتركه وافرا وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر، فإن السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سبلة بفتحتين وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك. ثم حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية هل له حد أم لا؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش، وعن عطاء نحوه قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها، قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة وأسنده عن جماعة، واختار قول عطاء. وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به، واستدل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون. لا أعلم له حديثا منكرا إلا هذا اهـ. وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة. وقال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها، كذا قال، وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها؛ قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره، وكأن مراده بذلك في غير النسك لأن الشافعي نص على استحبابه فيه، وذكر النووي عن الغزالي - وهو في ذلك تابع لأبي طالب المكي في "القوت" - قال: يكره في اللحية عشر خصال: خضبها بالسواد لغير الجهاد، وبغير السواد إيهاما للصلاح لا لقصد الاتباع، وتبييضها استعجالا للشيخوخة لقصد التعاظم على الأقران، ونتفها إبقاء للمرودة وكذا تحذيفها ونتف

(10/350)


الشيب. ورجح النووي تحريمه لثبوت الزجر عنه كما سيأتي قريبا، وتصفيفها طاقة طاقة تصنعا ومخيلة، وكذا ترجيلها والتعرض لها طولا وعرضا على ما فيه من اختلاف، وتركها شعثة إيهاما للزهد، والنظر إليها إعجابا، وزاد النووي: وعقدها، لحديث رويفع رفعه: "من عقد لحيته فإن محمدا منه بريء" الحديث أخرجه أبو داود، قال الخطابي: قيل المراد عقدها في الحرب وهو من زي الأعاجم، وقيل المراد معالجة الشعر لينعقد، وذلك من فعل أهل التأنيث.
" تنبيه ": أنكر ابن التين ظاهر ما نقل عن ابن عمر فقال: ليس المراد أنه كان يقتصر على قدر القبضة من لحيته، بل كان يمسك عليها فيزيل ما شذ منها، فيمسك من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة فيأخذ ما سفل عن ذلك ليتساوى طول لحيته. قال أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها. وقال النووي: يستثنى من الأمر بإعفاء اللحى ما لو نبتت للمرأة لحية فإنه يستحب لها حلقها، وكذا لو نبت لها شارب أو عنفقة، وسيأتي البحث فيه في "باب المتنمصات".

(10/351)


65 - باب إِعْفَاءِ اللِّحَى. وعَفَوْا: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ
5893- حدثني محمد أخبرنا عبدة أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى" .
قوله: "باب إعفاء اللحى" كذا استعمله من الرباعي، وهو بمعنى الترك. ثم قال: عفوا كثروا وكثرت أموالهم وأراد تفسير قوله في الأعراف {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} فقد تقدم هناك بيان من فسر قوله عفوا يكثروا، فإما أن يكون أشار بذلك إلى أصل المادة، أو إلى أن لفظ الحديث وهو "أعفوا اللحى" جاء بالمعنيين، فعلى الأول يكون بهمزة قطع وعلى الثاني بهمزة وصل، وقد حكى ذلك جماعة من الشراح منهم ابن التين قال: وبهمزة قطع أكثر. وقال ابن دقيق العيد: تفسير الإعفاء بالتكثير من إقامة السبب مقام المسبب، لأن حقيقة الإعفاء الترك، وترك التعرض للحية يستلزم تكثيرها. وأغرب ابن السيد فقال: حمل بعضهم قوله: "أعفوا اللحى" على الأخذ منها بإصلاح ما شذ منها طولا وعرضا، واستشهد بقول زهير "على آثار من ذهب العفاء". وذهب الأكثر إلى أنه بمعنى وفروا أو كثروا، وهو الصواب. قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا فهم من الأمر في قوله: "أعفوا اللحى" تجويز معالجتها بما يغزرها كما يفعله بعض الناس، قال: وكأن الصارف عن ذلك قرينة السياق في قوله في بقية الخبر "وأحفوا الشوارب" انتهى. ويمكن أن يؤخذ من بقية طرق ألفاظ الحديث الدالة على مجرد الترك، والله أعلم.
" تنبيه ": في قوله أعفوا وأحفوا ثلاثة أنواع من البديع: الجناس والمطابقة والموازنة.

(10/351)


3 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الشَّيْبِ
5894- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَساً أَخَضَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ الشَّيْبَ إِلاَّ قَلِيلاً".
5895- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: "سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ

(10/351)


3 - باب الْخِضَابِ
5899- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ" .
قوله: "باب الخضاب" أي تغيير لون شيب الرأس واللحية. قوله: "عن أبي سلمة وسليمان بن يسار" كذا جمع بينهما، وتابعه الأوزاعي عن الزهري أخرجه النسائي، ورواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري عن أبي سلمة وحده، وقد مضت رواية صالح في أحاديث الأنبياء، ورواية الآخرين عند النسائي عن أبي هريرة في رواية إسحاق بن راهويه عن سفيان بسنده أنهما سمعا أبا هريرة أخرجه النسائي. قوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم" هكذا أطلق، ولأحمد بسند حسن عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب" وأخرج الطبراني في "الأوسط" نحوه من حديث أنس، وفي "الكبير" من حديث عتبة بن عبد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم" وقد تمسك به من أجاز الخضاب بالسواد وقد تقدمت في باب ذكر بني إسرائيل من أحاديث الأنبياء مسألة استثناء الخضب بالسواد لحديثي جابر وابن عباس، وأن من العلماء من رخص فيه في الجهاد ومنهم من رخص فيه مطلقا وأن الأولى كراهته، وجنح النووي إلى أنه كراهة تحريم، وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد واختاره ابن أبي عاصم في "كتاب الخضاب" له وأجاب عن حديث ابن عباس رفعه: "يكون قوم يخضبون بالسواد لا يجدون ريح الجنة" بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الإخبار عن قوم هذه صفتهم، وعن حديث جابر "جنبوه السواد" بأنه

(10/354)


في حق من صار شيب رأسه مستشبعا ولا يطرد ذلك في حق كل أحد انتهى. وما قاله خلاف ما يتبادر من سياق الحديثين. نعم يشهد له ما أخرجه هو عن ابن شهاب قال: "كنا نخضب بالسواد إذ كان الوجه جديدا، فلا نغص الوجه والأسنان تركناه" وقد أخرج الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي الدرداء رفعه: "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة" وسنده لين، ومنهم من فرق في ذلك بين الرجل والمرأة فأجازه لها دون الرجل، واختاره الحليمي، وأما خضب اليدين والرجلين فلا يجوز للرجال إلا في التداوي. وقوله: "فخالفوهم" في رواية مسلم: "فخالفوا عليهم واصبغوا" وللنسائي من حديث ابن عمر رفعه: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" ورجاله ثقات، لكن اختلف على هشام بن عروة فيه كما بينه النسائي وقال إنه غير محفوظ، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث عائشة وزاد: "والنصارى" ولأصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث أبي ذر رفعه: "إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم" وهذا يحتمل أن يكون على التعاقب ويحتمل الجمع، وقد أخرج مسلم من حديث أنس قال: "اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا" وقوله بحتا بموحدة مفتوحة ومهملة ساكنة بعدها مثناة أي صرفا، وهذا يشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائما. والكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معا يخرج بين السواد والحمرة. واستنبط ابن أبي عاصم من قوله صلى الله عليه وسلم: "جنبوه السواد" أن الخضاب بالسواد كان من عادتهم، وذكر ابن الكلبي أن أول من اختضب بالسواد من العرب عبد المطلب، وأما مطلقا ففرعون، وقد اختلف في الخضب وتركه فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم، وترك الخضاب علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع وأنس وجماعة، وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائق به كمن يستشنع شيبه، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال صلى الله عليه وسلم لما رأى رأسه كأنها الثغامة بياضا " غيروا هذا وجنبوه السواد" ومثله حديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه أول "باب ما يذكر في الشيب" زاد الطبري وابن أبي عاصم من وجه آخر عن جابر "فذهبوا به فحمروه" والثغامة بضم المثلثة وتخفيف المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، قال: فمن كان في مثل حال أبي قحافة استحب له الخضاب لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومن كان بخلافه فلا يستحب في حقه، ولكن الخضاب مطلقا أولى لأنه فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة الشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى. ونقل الطبري بعد أن أورد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه بلفظ: "من شاب شيبة فهي له نور إلى أن ينتفها أو يخضبها" وحديث ابن مسعود "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره خصالا" فذكر منها تغيير الشيب، إذ بعضهم ذهب إلى أن هذه الكراهة تستحب بحديث الباب. ثم ذكر الجمع وقال: دعوى النسخ لا دليل عليها. قلت: وجنح إلى النسخ الطحاوي وتمسك بالحديث الآتي قريبا أنه "كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم صار يخالفهم ويحث على مخالفتهم" كما سيأتي تقريره في "باب الفرق" إن شاء الله تعالى. وحديث عمرو بن شعيب المشار إليه أخرجه الترمذي وحسنه ولم أر في شيء من طرقه الاستثناء المذكور فالله أعلم. قال ابن العربي: وإنما نهى عن النتف دون الخضب لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها، بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه والله أعلم. وقد نقل عن أحمد أنه يجب، وعنه يجب ولو مرة، وعنه لا أحب

(10/355)


لأحد ترك الخضب ويتشبه بأهل الكتاب، وفي السواد عنه كالشافعية روايتان المشهورة يكره وقيل محرم، ويتأكد المنع لمن دلس به.

(10/356)


68 - باب الْجَعْدِ
5900- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ وَلَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ وَلَيْسَ بِالْآدَمِ وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلاَ بِالسَّبْطِ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ".
5901- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ مَالِكٍ إِنَّ جُمَّتَهُ لَتَضْرِبُ قَرِيباً مِنْ مَنْكِبَيْهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مَا حَدَّثَ بِهِ قَطُّ إِلاَّ ضَحِكَ قَالَ شُعْبَةُ شَعَرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ".
5902- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئاً عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ" .
5903- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ".
[الحديث 5903 – طرفه في: 5904]
5904- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْكِبَيْهِ".
5905- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ شَعَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجِلاً لَيْسَ بِالسَّبِطِ وَلاَ الْجَعْدِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ".
[الحديث 5905 – طرفه في: 5906]

(10/356)


5906- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَكَانَ شَعَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجِلاً لاَ جَعْدَ وَلاَ سَبِطَ".
5907- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ حَسَنَ الْوَجْهِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلاَ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ".
[الحديث 5907 – أطرافه في: 5908، 5910، 5911]
5908، 5909- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَوْ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ".
5910- وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ".
5911، 5912- وَقَالَ أَبُو هِلاَلٍ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبَهاً لَهُ".
5913- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي" .
قوله: "باب الجعد" هو صفة الشعر، يقال شعر جعد بفتح الجيم وسكون المهملة وبكسرها. حديث أنس في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم شرحه في المناقب، والمقصود منه هنا قوله: "وليس بالجعد القطط ولا بالسبط" أي أن شعره كان بين الجعودة والسبوطة، وقد تقدم بيان ذلك في المناقب، وأن الشعر الجعد هو الذي يتجعد كشعور السودان، وأن البسط هو الذي يسترسل فلا يتكسر منه شيء كشعور الهنود، والقطط - بفتح الطاء - البالغ في الجعودة بحيث يتفلفل، وقوله: "وليس في لحيته عشرون شعرة بيضاء" تقدم في المناقب بيان الاختلاف في تعيين العدد المذكور ومما لم يتقدم هناك أن في حديث الهيثم بن دهر عند الطبراني ثلاثون شعرة عددا وسنده ضعيف، والمعتمد ما تقدم أنهن دون العشرين. قوله: "حدثنا مالك بن إسماعيل" هو أبو غسان النهدي. قوله: "قال بعض أصحابي عن مالك" هو ابن إسماعيل المذكور. قوله: "أن جمته" بضم الجيم وتشديد الميم أي شعر رأسه إذا نزل إلى قرب المنكبين قال الجوهري في حرف الواو: والوفرة العشر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة إذا ألمت بالمنكبين. وقد خالف هذا في حرف الجيم فقال: إذا بلغت المنكبين فهي جمة، واللمة إذا جاوزت شحم الأذن. وتقدم نظيره في ترجمة عيسى من أحاديث الأنبياء في شرح

(10/357)


حديث ابن عمر. قال شيخنا في "شرح الترمذي": كلام الجوهري الثاني هو الموافق لكلام أهل اللغة. وجمع ابن بطال بين اللفظين المختلفين في الحديث بأن ذلك إخبار عن وقتين، فكان إذا غفل عن تقصيره بلغ قريب المنكبين وإذا قصه لم يجاوز الأذنين وجمع غيره بأن الثاني كان إذا اعتمر يقصر والأول في غير تلك الحالة وفيه بعد. ثم هذا الجمع إنما يصلح لو اختلفت الأحاديث، وأما هنا فاللفظان وردا في حديث واحد متحدا المخرج، وهما من رواية أبي إسحاق عن البراء، فالأولى في الجمع بينهما الحمل على المقاربة؛ وقد وقع في حديث أنس الآتي قريبا كما وقع في حديث البراء. قوله: "لتضرب قريبا من منكبيه" في رواية شعبة المعلقة عقب هذا "شعره يبلغ شحمة أذنيه" وقد تقدم في المناقب أن في رواية يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق ما يجمع بين الروايتين ولفظه: "له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه" وحاصله أن الطويل منه يصل إلى المنكبين وغيره إلى شحمة الأذن، والمراد ببعض أصحابه الذي أبهمه يعقوب بن سفيان، فإنه كذلك أخرجه عن مالك بن إسماعيل بهذا السند وفيه الزيادة. قوله: "قال شعبة: شعره يبلغ شحمة أذنيه" كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما، تابعه شعبة "شعره الخ" وقد وصله المؤلف رحمه الله في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن البراء، وشرحه الكرماني على رواية الأكثر وأشار إلى أن البخاري لم يذكر شيخ شعبة قال: فيحتمل أنه أبو إسحاق لأنه شيخه. حديث ابن عمر في صفة عيسى ابن مريم وفيه: "له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم" وفي صفة الدجال "وأنه جعد قطط" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء، وغلط من استدل بهذا الحديث على أن الدجال يدخل المدينة أو مكة، إذ لا يلزم من كون النبي صلى الله عليه وسلم رآه في المنام بمكة أنه دخلها حقيقة، ولو سلم أنه رآه في زمانه صلى الله عليه وسلم بمكة فلا يلزم أن يدخلها بعد ذلك إذا خرج في آخر الزمان، وقد استدل على ابن صياد أنه ما هو الدجال بكونه سكن المدينة، ومع ذلك فكان عمر وجابر يحلفان على أنه هو الدجال كما سيأتي في آخر الفتن. حديث أنس أورده من عدة طرق عن قتادة عنه ووقع في الرواية الأولى "يضرب شعره منكبيه" وفي الثانية "كان شعره بين أذنيه وعاتقه" والجواب عنه كالجواب في حديث البراء سواء. وقد أخرج مسلم وأبو داود من رواية إسماعيل بن علية عن حميد عن أنس "كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه" ووقع عند داود وابن ماجه وصححه الترمذي من طريق أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة" لفظه أبي داود، ولفظ ابن ماجه بنحوه، ولفظ الترمذي عكسه "فوق الجمة ودون الوفرة" وجمع بينهما شيخنا في "شرح الترمذي" بأن المراد بقوله فوق ودون بالنسبة إلى المحل، وتارة بالنسبة إلى الكثرة والقلة، فقوله: "فوق الجمة" أي أرفع في المحل، وقوله: "دون الجمة" أي في القدر وكذا بالعكس، وهو جمع جيد لولا أن مخرج الحديث متحد، وإسحاق في السند الأول هو ابن راهويه وحبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو ابن هلال. قوله: "كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا" بفتح الراء وكسر الجيم، وقد تضم وتفتح، أي فيه تكسير يسير، يقال رجل شعره إذا مشطه فكان بين السبوطة والجعودة، وقد فسره الراوي كذلك في بقبة الحديث. ثم أورد من طريق أخرى عن جرير وهو ابن حازم أيضا زاد فيها "كان ضخم اليدين" وفي ثالثة "كان ضخم الرأس والقدمين" ولم يذكر ما في الروايتين الأوليين من صفة الشعر، وزاد: "لم أر قبله ولا بعده مثله" قال: "وكان سبط الكفين" ثم أورده من طريق معاذ بن هانئ عن همام بسند نحوه لكن قال: "عن قتادة عن أنس، أو عن رجل عن أبي هريرة" وهذه الزيادة لا

(10/358)


تأثير لها في صحة الحديث، لأن الذين جزموا بكون الحديث عن قتادة عن أنس أضبط وأتقن من معاذ بن هانئ، وهم حبان بن هلال وموسى بن إسماعيل كما هنا، وكذا جرير بن حازم كما مضى ومعمر كما سيأتي حيث جزما به عن قتادة عن أنس، ويحتمل أن يكون عند قتادة من الوجهين؛ والرجل المبهم يحتمل أن يكون هو سعيد بن المسيب فقد أخرج ابن سعد من روايته عن أبي هريرة نحوه، وقتادة معروف بالرواية عن سعيد بن المسيب، وجوز الكرماني أن يكون الحديث من مسند أبي هريرة، وإنما وقع التردد في الراوي هل هو أنس أو رجل مبهم ثم رجح كون التردد في كونه من مسند أنس أو من مسند أبي هريرة بأن أنسا خادم النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعرف بوصفه من غيره فبعد أن يروي عن رجل عن صحابي آخر هو أقل ملازمة له منه ا ه، وكلامه الأخير لا يحتمله السياق أصلا، وإنما الاحتمال البعيد ما ذكره أولا، والحق أن التردد فيه من معاذ بن هانئ هل حدثه به همام عن قتادة عن أنس أو عن قتادة عن رجل عن أبي هريرة، وبهذا جزم أبو مسعود والحميدي والمزي وغيرهم من الحفاظ. قوله: "وقال هشام" هو ابن يوسف "عن معمر عن قتادة عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم شثن الكفين والقدمين" هذا التعليق وصله الإسماعيلي من طريق علي بن بحر عن هشام بن يوسف به سواء، وكذا أخرجه يعقوب بن سفيان عن مهدي بن أبي مهدي عن هشام بن يوسف، وقوله: "شثن" بفتح المعجمة وسكون المثلثة وبكسرها بعدها نون أي غليظ الأصابع والراحة، قال ابن بطال: كانت كفه صلى الله عليه وسلم ممتلئة لحما، غير أنها مع ضخامتها كانت لينة كما تقدم في حديث أنس يعني الذي مضى في المناقب "ما مسست حريرا ألين من كفه صلى الله عليه وسلم" قال: وأما قول الأصمعي الشثن غلظ الكف مع خشونتها فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذي فسره به الخليل وأبو عبيدة أولى، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى "ضخم الكفين والقدمين" قال ابن بطال: وعلى تقدير تسليم ما فسر الأصمعي به الشثن يحتمل أن يكون أنس وصف حالتي كف النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا عمل بكفه في الجهاد أو في مهنة أهله صار كفه خشنا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع كفه إلى أصل جبلته من النعومة والله أعلم. وقال عياض: فسر أبو عبيد الشثن بالغلظ مع القصر، وتعقب بأنه ثبت في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه كان سابل الأطراف. قلت: ويؤيده قوله في رواية أبي النعمان في الباب: "كان بسط الكفين" ووقع هنا في رواية الكشميهني: "سبط الكفين" بتقديم المهملة على الموحدة، وهو موافق لوصفها باللين. قال العياض: وفي رواية المروزي "سبط أو بسط" بالشك والتحقيق في الشثن أنه الغلظ من غير قيد قصر ولا خشونة، وقد نقل ابن خالويه أن الأصمعي لما فسر الشثن بما مضى قيل له إنه ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فآلى على نفسه أنه لا يفسر شيئا في الحديث اهـ - ومجيء شثن الكفين بدل سبط الكفين أو بسط الكفين قال دال على أن المراد وصف الخلقة وأما من فسره ببسط العطاء فإنه وإن كان الواقع كذلك لكن ليس مرادا هنا. قوله: "وقال أبو هلال أنبأنا قتادة عن أنس أو جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم ضخم الكفين والقدمين لم أر بعده شبيها له" هذا التعليق وصله البيهقي في "الدلائل" ووقع لنا بعلو في "فوائد العيسوي" كلاهما من طريق أبي سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي حدثنا أبو هلال به، وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بكسر المهملة والموحدة بصري صدوق وقد ضعفه من قبل حفظه فلا تأثير لشكه أيضا، وقد بينت إحدى روايات جرير بن حازم صحة الحديث بتصريح قتادة بسماعه له من أنس، وكأن المصنف أراد بسياق هذه الطرق بيان الاختلاف فيه على قتادة وأنه لا تأثير له ولا يقدح في صحة الحديث، وخفي مراده على بعض الناس فقال: هذه الروايات الواردة في صفة الكفين والقدمين لا تعلق لها بالترجمة، وجوابه

(10/359)


أنها كلها حديث واحد اختلفت رواته بالزيادة فيه والنقص، والمراد منه بالأصالة صفة الشعر وما عدا ذلك فهو تبع والله أعلم. وما دل عليه الحديث من كون شعره صلى الله عليه وسلم كان إلى قرب منكبيه كان غالب أحواله، وكان ربما طال حتى يصير ذؤابة ويتخذ منه عقائص وضفائر كما أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن من حديث أم هانئ قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وله أربع غدائر" وفي لفظ: "أربع ضفائر" وفي رواية ابن ماجه: "أربع غدائر يعني ضفائر" والغدائر بالغين المعجمة جمع غديرة بوزن عظيمة، والضفائر بوزنه. فالغدائر هي الذوائب والضفائر هي العقائص، فحاصل الخبر أن شعره طال حتى صار ذوائب فضفره أربع عقائص، وهذا محمول على الحال التي يبعد عهده بتعهده شعره فيها وهي حالة الشغل بالسفر ونحوه والله أعلم. وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل فقال: "ذناب ذباب، فرجعت فجززته، ثم أتيت من الغد فقال: "إني لم أعنك " وهذا أحسن. حديث أبو هريرة وجابر ذكرا تبعا لحديث أنس كما تقدم. حديث ابن عباس في ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء. والغرض منه قوله: " وأما موسى فرجل آدم - بالمد - جعد" الحديث، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "صاحبكم" نفسه صلى الله عليه وسلم.

(10/360)


69 - باب التَّلْبِيدِ
5914- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: "سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَنْ ضَفَّرَ فَلْيَحْلِقْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلَبِّداً".
5915- حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ مُوسَى وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ مُلَبِّداً يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لاَ يَزِيدُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ".
5916- حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ" .
قوله: "باب التلبيد" هو جمع الشعر في الرأس بما يلزق بعضه ببعض كالخطمي والصمغ لئلا يتشعث ويقمل في الإحرام، وقد تقدم بسطه في الحج. قوله: "سمعت عمر يقول من ضفر" بفتح المعجمة والفاء مخففا ومثقلا. قوله: "فليحلق ولا تشبهوا بالتلبيد" يعني في الحج "وكان ابن عمر يقول: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ملبدا" كذا في هذه الرواية، وتقدم في أوائل الحج بلفظ: "سمعت رسول الله يهل ملبدا" كما في الرواية التي تلي هذه في الباب، وأما قول عمر فحمله ابن بطال على أن المراد إن أراد الإحرام فضفر شعره ليمنعه من الشعث لم يجز له أن يقصر،

(10/360)


لأنه فعل ما يشبه التلبيد الذي أوجب الشارع فيه الحلق، وكان عمر يرى أن من لبد رأسه في الإحرام تعين عليه الحلق والنسك ولا يجزئه التقصير، فشبه من ضفر رأسه بمن لبده. فلذلك أمر من ضفران يحلق. ويحتمل أن يكون عمر أراد الأمر بالحلق عند الإحرام حتى لا يحتاج إلى التلبيد ولا إلى الضفر، أي من أراد أن يضفر أو يلبد فليحلق فهو أولى من أن يضفر أو يلبد، ثم إذا أراد بعد ذلك التقصير لم يصل إلى الأخذ من سائر النواحي كما هي السنة، وأما قوله: "تشبهوا" فحكى ابن بطال أنه بفتح أوله والأصل لا تتشبهوا فحذفت إحدى التاءين، قال: ويجوز ضم أوله وكسر الموحدة، والأول أظهر. وأما قول ابن عمر فظاهره أنه فهم عن أبيه أنه كان يرى أن ترك التلبيد أولى، فأخبر هو أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وتقدم شرح التلبيد وحكمه في كتاب الحج. تقدم شرح التلبيد وحكمه في كتاب الحج. حديث حفصة "إني لبدت رأسي وقلدت هديي" الحديث تقدم شرحه في كتاب الحج.

(10/361)


70 - باب الْفَرْقِ
5917- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ فَسَدَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ".
5918- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالاَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".
قوله: "باب الفرق" بفتح الفاء وسكون الراء بعدها قاف، أي فرق شعر الرأس، وهو قسمته في المفرق وهو وسط الرأس، يقال فرق شعره فرقا بالسكون، وأصله من الفرق بين الشيئين، والمفرق مكان انقسام الشعر من الجبين إلى دارة وسط الرأس، وهو بفتح الميم وبكسرها، وكذلك الراء تكسر وتفتح. قوله: "عن ابن عباس" كذا وصله إبراهيم بن سعد ويونس، وقد تقدم في الهجرة وغيرها، واختلف على معمر في وصله وإرساله، قال عبد الرزاق في مصنفه "أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" فذكره مرسلا، وكذا أرسله مالك حيث أخرجه في "الموطأ" عن زياد بن سعد عن الزهري ولم يذكر من فوقه. قوله: "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه" في رواية معمر " وكان إذا شك في أمر لم يؤمر فيه بشيء صنع ما يصنع أهل الكتاب". قوله: "وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم" بسكون السين وكسر الدال المهملتين أي يرسلونها. قوله: "وكان المشركون يفرقون" هو بسكون الفاء وضم الراء وقد شددها بعضهم حكاه عياض قال: والتخفيف أشهر، وكذا في قوله: "ثم فرق" الأشهر فيه التخفيف، وكأن السر في ذلك أن أهل الأوثان أبعد عن الإيمان من أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة فكان يحب موافقتهم ليتألفهم ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله واستمر أهل الكتاب على

(10/361)


كفرهم تمحضت المخالفة لأهل الكتاب. قوله: "ثم فرق بعد" في رواية معمر "ثم أمر بالفرق ففرق" وكان الفرق آخر الأمرين، ومما يشبه الفرق والسدل صبغ الشعر وتركه كما تقدم، ومنها صوم عاشوراء، ثم أمر بنوع مخالفة لهم فيه بصوم يوم قبله أو بعده، ومنها استقبال القبلة، ومخالفتهم في مخالطة الحائض حتى قال: "اصنعوا كل شيء إلا الجماع" فقالوا: ما يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، وقد تقدم بيانه في كتاب الحيض، وهذا الذي استقر عليه الأمر. ومنها ما يظهر إلى النهي عن صوم يوم السبت، وقد جاء ذلك من طرق متعددة في النسائي وغيره، وصرح أبو داود بأنه منسوخ وناسخه حديث أم سلمة "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد يتحرى ذلك ويقول إنهما يوما عبد الكفار وأنا أحب أن أخالفهم" وفي لفظ: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد" أخرجه أحمد والنسائي، وأشار بقوله: "يوما عيد" إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود والأحد عيد عند النصارى وأيام العيد لا تصام فخالفهم بصيامها، ويستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيدا بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأول أن يصاما معا وفرادى امتثالا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب، قال عياض: سدل الشعر إرساله، يقال سدل شعره وأسدله إذا أرسله ولم يضم جوانبه، وكذا الثوب، والفرق تفريق الشعر بعضه من بعض وكشفه عن الجبين، قال والفرق سنة لأنه الذي استقر عليه الحال. والذي يظهر أن ذلك وقع بوحي، لقول الراوي في أول الحديث إنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فالظاهر أنه فرق بأمر من الله حتى ادعى بعضهم فيه النسخ ومنع السدل واتخاذ الناصية. وحكي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وتعقبه القرطبي بأن الظاهر أن الذي كان صلى الله عليه وسلم يفعله إنما هو لأجل استئلافهم، فلما لم ينجع فيهم أحب مخالفتهم فكانت مستحبة لا واجبة عليه. وقول الراوي "فيما لم يؤمر فيه بشيء" أي لم يطلب منه والطلب يشمل الوجوب والندب وأما توهم النسخ في هذا فليس بشيء لإمكان الجمع، بل يحتمل أن لا يكون الموافقة والمخالفة حكما شرعيا إلا من جهة المصلحة، قال: ولو كان السدل منسوخا لصار إليه الصحابة أو أكثرهم، والمنقول عنهم أن منهم من كان يفرق ومنهم من كان يسدل ولم يعب بعضهم على بعض، وقد صح أنه كانت له صلى الله عليه وسلم لمة، فإن انفرقت فرقها وإلا تركها، فالصحيح أن الفرق مستحب لا واجب، وهو قول مالك والجمهور. قلت: وقد جزم الحازمي بأن السدل نسخ بالفرق، واستدل برواية معمر التي أشرت إليها قبل وهو ظاهر. وقال النووي: الصحيح جواز السدل والفرق. قال: واختلفوا في معنى قوله: "يحب موافقة أهل الكتاب" فقيل للاستئناف كما تقدم، وقيل المراد أنه كان مأمورا باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه بشيء وما علم أنهم لم يبدلوه. واستدل به بعضهم على أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يرد في شرعنا ما يخالفه، وعكس بعضهم فاستدل به على أنه ليس بشرع لنا لأنه لو كان كذلك لم يقل "يحب" بل كان يتحتم الاتباع. والحق أن لا دليل في هذا على المسألة، لأن القائل به يقصره على ما ورد في شرعنا أنه شرع لهم لا ما يؤخذ عنهم هم إذ لا وثوق بنقلهم، والذي جزم به القرطبي أنه كان يوافقهم لمصلحة التأليف محتمل، ويحتمل أيضا - وهو أقرب - أن الحالة التي تدور بين الأمرين لا ثالث لهما إذا لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء كان يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب لأنهم أصحاب شرع بخلاف عبدة الأوثان فإنهم ليسرا على شريعة، فلما أسلم المشركون انحصرت المخالفة في أهل الكتاب فأمر بمخالفتهم، وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها بمخالفة

(10/362)


أهل الكتاب فزادت على الثلاثين حكما، وقد أودعتها كتابي الذي سميته "القول الثبت في الصوم يوم السبت" ويؤخذ من قول ابن عباس في الحديث: "كان يحب موافقة أهل الكتاب" وقوله: "ثم فرق" بعد نسخ حكم تلك الموافقة كما قررته ولله الحمد، ويؤخذ منه أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. حديث عائشة قالت: "كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" وقد تقدم شرحه في الحج، وقوله: "عبد الله" هو ابن رجاء الذي أخرج الحديث عنه مقرونا بأبي الوليد وهو الطيالسي، وأراد أن أبا الوليد رواه بلفظ الجمع فقال: "مفارق" وعبد الله بن رجاء رواه بلفظ الإفراد فقال: "مفرق" وقد وافق عبد الله بن رجاء آدم عند المصنف في الطهارة ومحمد بن كثير عند الإسماعيلي وكذا عند مسلم من رواية الحسن بن عبيد الله وعند أحمد من رواية منصور وحماد وعطاء بن السائب كلهم عن إبراهيم عنه، ووافق أبا الوليد محمد بن جعفر غندر عند مسلم والأعمش عند أحمد والنسائي وعبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عند مسلم، وكأن الجمع وقع باعتبار تعدد انقسام الشعر، والله أعلم.

(10/363)


71 - باب الذَّوَائِبِ
5919- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ عَنْبَسَةَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ ح وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ خَالَتِي وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ بِهَذَا وَقَالَ بِذُؤَابَتِي أَوْ بِرَأْسِي".
قوله: "باب الذوائب" جمع ذؤابة، والأصل ذآئب فأبدلت الهمزة واوا، والذؤابة ما يتدلى من شعر الرأس. ذكر فيه حديث ابن عباس في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وقد مضى شرحه في الصلاة، والغرض منه هنا قوله: "فأخذ بذؤابتي" فإن فيه تقريره صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الذؤابة، وفيه دفع لرواية من فسر القزع بالذؤابة كما سأذكره في الباب الذي يليه. أورد المصنف الحديث من رواية الفضل بن عنبسة عن هشيم، ثم أردفها بروايته عاليا عن قتيبة عن هشيم، وإنما أورده نازلا من أجل تصريح هشيم فيها بالإخبار، ثم أردفه بروايته عاليا أيضا عن عمرو بن محمد الناقد عن هشيم مصرحا أيضا، وكأنه استظهر بذلك لأن في الفضل بن عنبسة مقالا لكنه غير قادح، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع.

(10/363)


72 - باب الْقَزَعِ
5920- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ نَافِعٍ أَخْبَرَهُ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ الْقَزَعِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قُلْتُ: وَمَا الْقَزَعُ؟ فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِيَّ وَتَرَكَ هَا هُنَا شَعَرَةً

(10/363)


باب تطييب المرأة زوجها بيدها
...
3 - باب تَطْيِيبِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِيَدَيْهَا
5922- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "طَيَّبْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي لِحُرْمِهِ وَطَيَّبْتُهُ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ".
قوله: "باب تطيب المرأة زوجها بيديها" كأن فقه هذه الترجمة من جهة الإشارة إلى الحديث الوارد في الفرق بين طيب الرجل والمرأة، وأن طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه والمرأة بالعكس، فلو كان ذلك ثابتا لامتنعت المرأة من تطيب زوجها لما يعلق بيديها وبدنها منه حالة تطييبها له، وكان يكفيه أن يطيب نفسه، فاستدل المصنف بحديث عائشة المطابق للترجمة، وقد تقدم مشروحا في الحج، وهو ظاهر فيما ترجم له، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي وصححه الحاكم من حديث عمران بن حصين وله شاهد عن أبي موسى الأشعري عند الطبراني في "الأوسط" ووجه التفرقة أن المرأة مأمورة بالاستتار حالة بروزها من منزلها، والطيب الذي له رائحة لو شرع لها كانت فيه زيادة في الفتنة بها، وإذا كان الخبر ثابتا فالجمع بينه وبين حديث الباب أن لها مندوحة أن تغسل أثره إذا أرادت الخروج، لأن منعها خاص بحالة الخروج والله أعلم. وألحق بعض العلماء بذلك لبسها النعل الصرارة وغير ذلك مما يلفت النظر إليها. وأحمد بن محمد شيخ البخاري فيه هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك ويحيى هو ابن سعد الأنصاري. قوله: "طيبته بيدي لحرمه، وطيبته بيدي بمنى قبل أن يفيض" سيأتي بعد أبواب من وجه آخر عنها أنها طيبته بذريرة.

(10/366)


74 - باب الطِّيبِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ
5923- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ".
قوله: "باب الطيب في الرأس واللحية" إن كان باب بالتنوين فيكون ظاهر الترجمة الحصر في ذلك، وإن كان بالإضافة فالتقدير باب حكم الطيب أو مشروعية الطيب. قوله: "حدثني إسحاق بن نصر" هو ابن إبراهيم بن نصر نسبه إلى جده، وإسرائيل هو ابن يونس، وأبو إسحاق هو السبيعي. قوله: "بأطيب ما أجد" يؤيد ما ذكرته في الباب الذي قبله، ولعله أشار بالترجمة إلى الحديث المذكور في التفرقة بين طيب الرجال والنساء. وقال ابن بطال: يؤخذ منه أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف طيب النساء، لأنهن يطيبن وجوههن ويتزين بذلك بخلاف الرجال، فإن تطييب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء.

(10/366)


75 - باب الِامْتِشَاطِ
5924- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ "أَنَّ رَجُلاً

(10/366)


76 - باب تَرْجِيلِ الْحَائِضِ زَوْجَهَا
5920- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا حَائِضٌ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ ... مِثْلَهُ
قوله: "باب ترجيل الحائض زوجها" أي تسريحها شعره. حديث مالك عن ابن شهاب وهشام بن عروة فرقهما كلاهما عن عروة عن عائشة، وقد تقدم في الطهارة عن عبد الله بن يوسف الذي أخرجه عنه هنا عن مالك عن الزهري فقط، والحديث في الموطأ هكذا مفرقا عند أكثر الرواة، ورواه خالد بن مخلد وابن وهب ومعن بن عيسى وعبد الله بن نافع وأبو حذافة عن مالك عن ابن شهاب وهشام بن عروة جميعا عن عروة أخرجها الدار قطني في "الموطآت". قوله: "كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض" كذا عند جميع الرواة عن مالك، ورواه أبو حذافة عنه عن هشام بلفظ: "أنها كانت تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجاور في المسجد وهي حائض يخرجه إليها" أخرجه الدار قطني أيضا.

(10/368)


77 - باب التَّرْجِيلِ وَالتَّيَمُّنِ
5926- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ مَا اسْتَطَاعَ فِي تَرَجُّلِهِ وَوُضُوئِهِ".
قوله: "باب الترجيل والتيمن فيه" ذكر فيه حديث عائشة "كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله" وقد تقدم شرحه في الطهارة. والتيمن في الترجل أن يبدأ بالجانب الأيمن وأن يفعله باليمنى، قال ابن بطال: الترجيل تسريح شعر الرأس واللحية ودهنه، وهو من النظافة وقد ندب الشرع إليها. وقال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وأما حديث النهي عن الترجل إلا غبا يعني الحديث الذي أشرت إليه قريبا فالمراد به ترك المبالغة في الترفه وقد روى أبو أمامة بن ثعلبة رفعه: "البذاذة من الإيمان" اهـ. وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود، والبذاذة بموحدة ومعجمتين رثاثة الهيئة، والمراد بها هنا ترك الترفه والتنطع في اللباس والتواضع فيه مع القدرة لا بسبب جحد نعمة الله تعالى. وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن بريدة "أن رجلا من الصحابة يقال له عبيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن كثير من الإرفاه" قال ابن بريدة الإرفاه الترجل. قلت: الإرفاه بكسر الهمزة وبفاء وآخره هاء التنعم والراحة، ومنه الرفه بفتحتين وقيده في الحديث بالكثير إشارة إلى أن الوسط المعتدل منه لا يذم، وبذلك يجمع بين الأخبار. وقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رفعه: "من كان له شعر فليكرمه" وله شاهد من حديث عائشة في "الغيلانيات" وسنده حسن أيضا.

(10/368)


78 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الْمِسْكِ
5927- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"
قوله: "باب ما يذكر في المسك" قد تقدم التعريف به في كتاب الذبائح حيث ترجم له "باب المسك". حديث أبي هريرة رفعه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم" الحديث من أجل قوله: "أطيب عند الله من ريح المسك" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، وقوله هنا: "فإنه لي وأنا أجزي به" ظاهر سياقه أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك وإنما هو من كلام الله عز وجل. وهو من رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، كذلك أخرجه المصنف في التوحيد من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يرويه عن ربكم عز وجل، قال: لكل عمل كفارة فالصوم لي وأنا أجزي به" الحديث. وأخرجه الشيخان من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله غز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" ولمسلم من طريق ضرار بن مرة عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعد قالا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقول: "إن الصوم لي وأنا أجزي به" وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الصيام مع الإشارة إلى ما بينت هنا، وذكرت أقوال العلماء في معنى إضافته سبحانه وتعالى الصيام إليه بقوله: "فإنه في" ونقلت عن أبي الخير الطالقاني أنه أجاب عنه بأجوبة كثيرة نحو الخمسين، وأنني لم أقف عليه، وقد يسر الله تعالى الوقوف على كلامه، وتتبعت ما ذكره متأملا فلم أجد فيه زيادة على الأجوبة العشرة التي حررتها هناك إلا إشارات صوفية وأشياء تكررت معنى وإن تغايرت لفظا وغالبها يمكن ردها إلى ما ذكرته، فمن ذلك قوله لأنه عبادة خالية عن السعي، وإنما هي ترك محض. وقوله: يقول هو لي فلا يشغلك ما هو لك عما هو في. وقوله: من شغله ما لي عني أعرضت عنه وإلا كنت له عوضا عن الكل. وقوله لا يقطعك ما لي عني. وقوله: لا يشغلك الملك عن المالك. وقوله: فلا تطلب غيري. وقوله: فلا يفسد ما لي عليك بك. وقوله: فاشكرني على أن جعلتك محلا للقيام بما هو لي. وقوله: فلا تجعل لنفسك فيه حكما. وقوله فمن ضيع حرمة ما لي ضيعت حرمة ما له لأن فيه جبر الفرائض والحدود. وقوله فمن أداه بما لي وهو نفسه صح البيع. وقوله فكن حيث تصلح أن تؤدي ما لي. وقوله أضافه إلى نفسه لأن به يتذكر العبد نعمة الله عليه في الشبع. وقوله لأن فيه تقديم رضا الله على هوى النفس. وقوله لأن فيه التمييز بين الصائم المطيع وبين الآكل العاصي. وقوله: لأنه كان محل نزول القرآن. وقوله لأن ابتداءه على المشاهدة وانتهاءه على المشاهدة لحديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقوله: لأن فيه رياضة النفس بترك المألوفات. وقوله: لأن فيه حفظ الجوارح عن المخالفات. وقوله: لأن فيه قطع الشهوات. وقوله لأن فيه مخالفة النفس بترك محبوبها وفي مخالفة النفس موافقة الحق. وقوله: لأن فيه فرحة اللقاء. وقوله لأن فيه مشاهدة الآمر به. وقوله لأن فيه مجمع العبادات لأن مدارها على الصبر والشكر وهما حاصلان فيه. وقوله معناه الصائم لي لأن الصوم صفة الصائم وقوله معنى الإضافة الإشارة إلى الحماية لئلا يطمع الشيطان في إفساده. وقوله لأنه عبادة استوى فيها الحر والعبد والذكر والأنثى، وهذا عنوان ما ذكره مع إسهاب في العبارة، ولم أستوعب ذلك لأنه ليس على شرطي في هذا

(10/369)


الكتاب، وإنما كنت أجد النفس متشوقة إلى الوقوف على تلك الأجوبة، وغالب من نقل عنه من شيوخنا لا يسوقها وإنما يقتصر على أن الطالقاني أجاب عنه بنحو من خمسين أو ستين جوابا ولا يذكر منه شيئا، فلا أدري أتركوه إعراضا أو مللا، أو اكتفى الذي وقف عليه أولا بالإشارة ولم يقف عليه من جاء من بعده، والله أعلم.

(10/370)


3 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الطِّيبِ
5928- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ".
قوله: "باب ما يستحب من الطيب" كأنه يشير إلى أنه يندب استعمال أطيب ما يوجد من الطيب، ولا يعدل إلى الأدنى مع وجود الأعلى، ويحتمل أن يشير إلى التفرقة بين الرجال والنساء في التطيب كما تقدمت الإشارة إليه قريبا. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل ووهيب هو ابن خالد وهشام هو ابن عروة. قوله: "عن عثمان بن عروة" هكذا أدخل هشام بينه وبين أبيه عروة في هذا الحديث أخاه عثمان، وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة أن عثمان قال له: ما يروي هشام هذا الحديث إلا عني اهـ. وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه أن الليث وداود العطار وأبا أسامة وافقوا وهيب بن خالد عن هشام في ذكر عثمان، وأن أيوب وابن المبارك وابن نمير وغيرهم رووه عن هشام عن أبيه بدون ذكر عثمان. قلت: ورواية الليث عند النسائي والدارمي، ورواية داود العطار عند أبي عوانة. ورواية أبي أسامة وصلها مسلم. ورواية أيوب عند النسائي. وذكر الدار قطني أن إبراهيم بن طهمان وابن إسحاق وحماد بن سلمة في آخرين رووه أيضا عن هشام بدون ذكر عثمان، قال: ورواه ابن عيينة عن هشام عن عثمان قال: ثم لقيت عثمان فحدثني به وقال لي: لم يروه هشام إلا عني. قال الدار قطني: لم يسمعه هشام عن أبيه وإنما سمعه من أخيه عن أبيه. وأخرج الإسماعيلي عن سفيان قال: لا أعلم عند عثمان إلا هذا الحديث اهـ. وقد أورد له أحمد في مسنده حديثا آخر في فضل الصف الأول وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قوله: "عند إحرامه بأطيب ما أجد" في رواية أبي أسامة بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم. وفي رواية أحمد عن ابن عيينة "حدثنا عثمان أنه سمع أباه يقول: سألت عائشة بأي شيء طيبت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: بأطيب الطيب" وكذا أخرجه مسلم، وله من طريق عمرة عن عائشة "لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت" ومن طريق الأسود عن عائشة "كان إذا أراد أن يحرم بتطيب بأطيب ما يجد" وله من وجه آخر عن الأسود عنها "كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" ومن طريق القاسم عن عائشة "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بطيب فيه مسك" وقد تقدم بسط هذا الموضع والبحث في أحكامه في كتاب الحج، والغرض منه هنا أن المراد بأطيب الطيب المسك، وقد ورد ذلك صريحا أخرجه مالك من حديث أبي سعيد رفعه قال: "المسك أطيب الطيب" وهو عند مسلم أيضا.

(10/370)


80 - باب مَنْ لَمْ يَرُدَّ الطِّيبَ
5929- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ

(10/370)


81 - باب الذَّرِيرَةِ
5930- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالإِحْرَامِ".
قوله: "باب الذريرة" بمعجمة وراءين بوزن عظيمة، وهي نوع من الطيب مركب، قال الداودي تجمع مفرداته ثم تسحق وتنخل ثم تذر في الشعر والطوق فلذلك سميت ذريرة، كذا قال، وعلى هذا فكل طيب مركب ذريرة، لكن الذريرة نوع من الطيب مخصوص يعرفه أهل الحجاز وغيرهم، وجزم غير واحد منهم النووي بأنه فتاب قصب طيب يجاء به من الهند. قوله: "حدثنا عثمان بن الهيثم أو محمد عنه" أما محمد فهو ابن يحيى الذهلي، وأما عثمان فهو من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه عدة أحاديث بلا واسطة منها في أواخر الحج، وفي النكاح. وأخرج عنه في الأيمان والنذور كما سيأتي حديثا آخر بمثل هذا التردد. قوله: "أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة" أي ابن الزبير وهو مدني ثقة قليل الحديث ما له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وقد ذكر ابن حبان في أتباع التابعين من الثقات. قوله: "سمع عروة" هو جده والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر. قوله: "بذريرة" كأن الذريرة كان فيها مسك بدليل الرواية الماضية. قوله: "للحل والإحرام" كذا وقع مختصرا هنا وكذا لمسلم، وأخرجه

(10/371)


الإسماعيلي من رواية روح بن عبادة عن ابن جريج بلفظ: "حين أحرم وحين رمى الجمرة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت".

(10/372)


82 - باب الْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ
5931- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى مَالِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
قوله: "باب المتفلجات للحسن" أي لأجل الحسن، والمتفلجات جمع متفلجة وهي التي تطلب الفلج أو تصنعه، والفلج بالفاء واللام والجيم انفراج ما بين الثنيتين، والتفلج أن يفرج بين المتلاصقين بالمبرد ونحوه، وهو مختص عادة بالثنايا والرباعيات، ويستحسن من المرأة فربما صنعته المرأة التي تكون أسنانها متلاصقة لتصير متفلجة، وقد تفعله الكبيرة توهم أنها صغيرة، لأن الصغيرة غالبا تكون مفلجة جديدة السن، ويذهب ذلك في الكبر، وتحديد الأسنان يسمى الوشر بالراء، وقد ثبت النهي عنه أيضا في بعض طرق حديث ابن مسعود ومن حديث غيره في السنن وغيرها، وستأتي الإشارة إليه في آخر "باب الموصولة" فورد النهي عن ذلك لما فيه من تغيير الخلقة الأصلية. قوله: "حدثنا عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس، والإسناد كله كوفيون. وقال الدار قطني: تابع منصور الأعمش. ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند. وقال إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي عن أم يعقوب عن ابن مسعود، والمحفوظ قول منصور. قوله: "لعن الله الواشمات" جمع واشمة بالشين المعجمة وهي التي تشم "والمستوشمات" جمع مستوشمة وهي التي تطلب الوشم، ونقل ابن التيم عن الداودي أنه قال: الواشمة التي يفعل بها الوشم والمستوشمة التي تفعله، ورد عليه ذلك. وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عن منصور بلفظ: "المستوشمات" وهو بكسر الشين التي تفعل ذلك وبفتحها التي تطلب ذلك، ولمسلم من طريق مفضل بن مهلهل عن منصور "والموشومات" وهي من يفعل بها الوشم. قال أهل اللغة: الوشم بفتح ثم سكون أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يحشى بنورة أو غيرها فيخضر. وقال أبو داود في السنن. الواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد، والمستوشمة المعمول بها انتهى. وذكر الوجه للغالب وأكثر ما يكون في الشفة وسيأتي عن نافع في آخر الباب الذي يليه أنه يكون في اللثة، فذكر الوجه ليس قيدا، وقد يكون في اليد وغيرها من الجسد، وقد يفعل ذلك نقشا، وقد يجعل دوائر، وقد يكتب اسم المحبوب، وتعاطيه حرام بدلالة اللعن كما في حديث الباب، ويصير الموضع الموشوم نجسا لأن الدم انحبس فيه فتجب إزالته إن أمكنت ولو بالجرح إلا إن خاف منه تلفا أو شينا أو فوات منفعة عضو فيجوز إبقاؤه، وتكفي التوبة في سقوط الإثم، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة. قوله: "والمتنمصات" يأتي شرحه في باب مفرد يلي الباب الذي يليه، ووقع عند أبي داود عن محمد بن عيسى عن جرير "الواصلات" بدل المتنمصات هنا. قوله: "والمتفلجات للحسن" يفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك لأجل الحسن

(10/372)


فلو احتاجت إلى ذلك لمداواة مثلا جاز. قوله: "المغيرات خلق الله" هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج وكذا الوصل على إحدى الروايات. قوله: "ما لي لا ألعن" كذا هنا باختصار، ويأتي بعد باب عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير بزيادة ولفظه: "فقالت أم يعقوب ما هذا" وأخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم شيخي البخاري فيه أتم سياقا منه فقال: "بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات الخ؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن؟" وذكر مسلم أن السياق لإسحاق. وقد أخرجه أبو داود عن عثمان وسياقه موافق لسياق إسحاق إلا في أحرف يسيرة لا تغير المعنى وسبق في تفسير سورة الحشر للمصنف من طريق الثوري عن منصور بتمامه، لكن لم يقل فيه: "وكانت تقرأ القرآن" وما في قول ابن مسعود "ما لي لا ألعن" استفهامية، وجوز الكرماني أن تكون نافية وهو بعيد. قوله: "وهو في كتاب الله" { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} كذا أورده مختصرا، زاد في رواية إسحاق "فقالت والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته" وفي رواية مسلم عن عثمان "ما بين لوحي المصحف" والمراد به ما يجعل المصحف فيه، وكانوا يكتبون المصحف في الرق ويجعلون له دفتين من خشب، وقد يطلق على الكرسي الذي يوضع عليه المصحف اسم لوحين، قوله: "فقالت والله لقد قرأت" في رواية مسلم: "لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه" كذا فيه بإثبات الياء في الموضعين وهي لغة، والأفصح حذفها في خطاب المؤنث في الماضي. قوله: "وما آتاكم الرسول - إلى - فانتهوا" في رواية مسلم: "قال الله عز وجل وما آتاكم الخ" وزاد: "فقالت المرأة إني أرى شيئا من هذا على امرأتك" وقد تقدم ذلك في تفسير الحشر، وقد أخرجه الطبراني من طريق مسروق عن عبد الله وزاد في آخره: "فقال عبد الله ما حفظت وصية شعيب إذا" يعني قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وفي إطلاق ابن مسعود نسبة لعن من فعل ذلك إلى كتاب الله وفهم أم يعقوب منه أنه أراد بكتاب الله القرآن وتقريره لها على هذا الفهم ومعارضتها له بأنه ليس في القرآن وجوابه بما أجاب دلالة على جواز نسبة ما يدل عليه الاستنباط إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نسبة قولية، فكما جاز نسبة لعن الواشمة إلى كونه في القرآن لعموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} مع ثبوت لعنه صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك يجوز نسبة من فعل أمرا يندرج في عموم خبير نبوي ما يدل على منعه إلى القرآن، فيقول القائل مثلا: لعن الله من غير منار الأرض في القرآن، ويستند في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك. " تنبيه ": أم يعقوب المذكورة في هذا الحديث لا يعرف اسمها وهي من بني أسد بن خزيمة، ولم أقف لها على ترجمة، ومراجعتها ابن مسعود تدل على أن لها إدراكا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(10/373)


باب وصل الشعر
...
83 - باب الْوَصْلِ فِي الشَّعَرِ
5932- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ "أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِيٍّ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ".

(10/373)


5933- وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" .
5934- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقٍ يُحَدِّثُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ جَارِيَةً مِنْ الأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ وَأَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ" .
تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ.
5935- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أَنْكَحْتُ ابْنَتِي ثُمَّ أَصَابَهَا شَكْوَى فَتَمَرَّقَ رَأْسُهَا وَزَوْجُهَا يَسْتَحِثُّنِي بِهَا أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا فَسَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ".
[الحديث 5935 – طرفاه في: 5936، 5941]
5936- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ" .
5937- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" . وَقَالَ نَافِعٌ: الْوَشْمُ فِي اللِّثَةِ.
[الحديث 5937 – أطرافه في: 5940، 5942، 5947]
5938- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: "قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ قَالَ مَا كُنْتُ أَرَى أَحَداً يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الْوَاصِلَةَ فِي الشَّعَرِ".
قوله: "باب وصل الشعر" أي الزيادة فيه من غيره. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن" في رواية معمر عن الزهري "حدثني حميد بن عبد الرحمن" أخرجه أحمد. وفي رواية يونس عن الزهري أنبأنا حميد أخرجه الترمذي. وقد أخرج مسلم روايتي معمر ويونس، لكن أحال بهما على رواية مالك. وأخرجه الطبراني من طريق النعمان بن راشد عن الزهري فقال: "عن السائب بن يزيد" بدل حميد بن عبد الرحمن، وحميد هو المحفوظ. قوله: "عام حج" تقدم في ذكر بني إسرائيل من طريق سعيد بن المسيب عن معاوية تعيين العام المذكور. قوله: "وتناول قصة من شعر

(10/374)


كانت بيد حرسي" القصة بضم القاف وتشديد المهملة الخصلة من الشعر. وفي رواية سعيد بن المسيب "كبة" ولمسلم من وجه آخر عن سعيد بن المسيب "أن معاوية قال: إنكم أخذتم زي سوء؛ وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة" والحرسي بفتح الحاء والراء وبالسين المهملات نسبة إلى الحرس وهم خدم الأمير الذين يحرسونه، ويقال للواحد حرسي لأنه اسم جنس، وعند الطبراني من طريق عروة عن معاوية من الزيادة "قال: وجدت هذه عند أهلي وزعموا أن النساء يزدنه في شعورهن" وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف ذلك في النساء قبل ذلك. وفي رواية سعيد بن المسيب "ما كنت أرى يفعل ذلك إلا اليهود". قوله: "أين علماؤكم؟" تقدم في ذكر بني إسرائيل أن فيه إشارة إلى قلة العلماء يومئذ بالمدينة، ويحتمل أنه أراد بذلك إحضارهم ليستعين بهم على ما أراد من إنكار ذلك أو لينكر عليهم سكوتهم عن إنكارهم هذا الفعل قبل ذلك. قوله: "إنما هلكت بنو إسرائيل" في رواية معمر عند مسلم إنما عذب بنو إسرائيل، ووقع في رواية سعيد بن المسيب المذكورة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور" وفي رواية قتادة عن سعيد عند مسلم: "نهى عن الزور" وفي آخره: "ألا وهذا الزور" قال قتادة: يعني ما تكثر به النساء أشعارهن من الخرق. وهذا الحديث حجة للجمهور في منع وصل الشعر بشيء آخر سواء كان شعرا أم لا، ويؤيده حديث جابر "زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا" أخرجه مسلم. وذهب الليث ونقله أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء أن الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر، وأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر من خرقة وغيرها فلا يدخل في النهي. وأخرج أبو داود بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لا بأس بالقرامل؛ وبه قال أحمد والقرامل جمع قرمل بفتح القاف وسكون الراء نبات طويل الفروع لين، والمراد به هنا خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها، وفصل بعضهم بين ما إذا كان ما وصل به الشعر من غير الشعر مستورا بعد عقده مع الشعر بحيث يظن أنه من الشعر، وبين ما إذا كان ظاهرا، فمنع قوم الأول فقط لما فيه من التدليس وهو قوي، ومنهم من أجاز الوصل مطلقا سواء كان بشعر آخر أو بغير شعر إذا كان بعلم الزوج وبإذنه، وأحاديث الباب حجة عليه. ويستفاد من الزيادة في رواية قتادة منع تكثير شعر الرأس بالخرق كما لو كانت المرأة مثلا قد تمزق شعرها فتضع عوضه خرقا توهم أنها شعر. وقد أخرج مسلم عقب حديث معاوية هذا حديث أبي هريرة وفيه: "ونساء كاسيات عاريات رءوسهن كأسنمة البخت"، قال النووي: يعني يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها، قال: وفي الحديث ذم ذلك. وقال القرطبي: البخت بضم الموحدة وسكون المعجمة ثم مثناة جمع بختية وهي ضرب من الإبل عظام الأسنمة والأسنمة بالنون جمع سنام وهو أعلى ما في ظهر الجمل شبه رءوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رءوسهن تزيينا وتصنعا، وقد يفعلن ذلك بما يكثرن به شعورهن. "تنبيه": كما يحرم على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة، وقد أخرج الطبري من طريق أم عثمان بنت سفيان عن ابن عباس قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" وهو عند أبي داود من هذا الوجه بلفظ: "ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير" والله أعلم. حديث أبي هريرة. قوله: "وقال ابن أبي شيبة" هو أبو بكر كذا أخرجه في مسنده ومصنفه بهذا الإسناد، ووصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن يونس بن محمد كذلك، فيحتمل أن يكون هو المراد لأن أبا بكر وعثمان كلاهما من شيوخ البخاري، ويونس هو المؤدب، وفليح هو ابن سليمان. قوله: "لعن الله

(10/375)


الواصلة" أي التي تصل الشعر سواء كان لنفسها أم لغيرها "والمستوصلة" أي التي تطلب فعل ذلك ويفعل بها، وكذا القول في الواشمة والمستوشمة، وتقدم تفسيره. وهذا صريح في حكاية ذلك عن الله تعالى إن كان خبرا فيستغنى عن استنباط ابن مسعود، ويحتمل أن يكون دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من فعلت ذلك. قوله: "الحسن بن مسلم بن يناق" بفتح التحتانية وتشديد النون وآخره قاف كأنه اسم عجمي، ويحتمل أن يكون اسم فعال من الأنيق وهو الشيء الحسن المعجب فسهلت همزته ياء، والحسن المذكور تابعي صغير من أهل مكة ثقة عندهم وكان كثير الرواية عن طاوس ومات قبله. قوله: "أن جارية من الأنصار تزوجت" تقدم ما يتعلق بتسميتها وتسمية الزوج في كتاب النكاح. قوله: "فتمعط" بالعين والطاء المهملتين أي خرج من أصله، وأصل المعط المد كأنه مد إلى أن تقطع، ويطلق أيضا على من سقط شعره. قوله: "فأرادوا أن يصلوها" أي يصلوا شعرها، وقوله: "فسألوا" تقدم هناك أن السائل أمها، وهو في حديث أسماء بنت أبي بكر الذي يلي هذا. قوله: "تابعه ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن الحسن" هو ابن مسلم، وهذه المتابعة رويناها موصولة في "أمالي المحاملي" من رواية الأصبهانيين عنه، ثم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق "حدثني أبان بن صالح" فذكره وصرح بالتحديث في جميع السند وأول الحديث عنده "أن امرأة سألت عائشة - وهي عندها - عن وصل المرأة رأسها بالشعر" فذكر الحديث وقال فيه: "فتمرق" بالراء والقاف. وقال فيه: "أفأضع على رأسها شيئا" والباقي مثله. وفائدة هذه المتابعة أن يعلم أن الحديث عند صفية بنت شيبة عن عائشة وعن أسماء بنت أبي بكر جميعا، ولأبان بن صالح في هذا المعنى حديث آخر أخرجه أبو داود من رواية أسامة بن زيد عنه عن مجاهد عن ابن عباس فذكر الحديث المرفوع دون القصة وزاد فيه النامصة والمتنمصة وقال في آخره: "والمستوشمة من غير داء" وسنده حسن، ويستفاد منه أن من صنعت الوشم عن غير قصد له بل تداوت مثلا فنشأ عنه الوشم أن لا تدخل في الزجر. قوله: "منصور بن عبد الرحمن" هو الحجبي وأمه هي صفية بنت شيبة، وفضيل بن سليمان راويه عن منصور وإن كان في حفظه شيء، لكن قد تابعه وهيب بن خالد عن منصور عند مسلم، وأبو معشر البراء عند الطبراني. قوله: "فتمزق" بالزاي أي تقطع، كذا للكشميهني والحموي وهي رواية مسلم، وبالراء للباقين أي مرق من أصله وهو أبلغ، ويحتمل أن يكون من المرق وهو نتف الصوف، وللطبراني من طريق محمد بن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر "فأصابتها الحصبة أو الجدري فسقط شعرها، وقد صحت وزوجها يستحثنا وليس على رأسها شعر، أفنجعل على رأسها شيئا نجملها به؟" الحديث. وقوله: "أفأصل رأسها؟" في رواية الكشميهني: "شعرها" وهو المراد بالرواية الأخرى. قوله: "فسب" بالمهملة والموحدة أي لعن كما صرح به في الرواية الأخرى. قوله: "عن امرأته فاطمة" هي بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي بنت عم هشام بن عروة الراوي عنها، وأسماء بنت أبي بكر هي جدتهما معا لأنها أم المنذر وأم عروة، وهذه الطريق تؤكد رواية منصور بن عبد الرحمن عن أمه، وأن للحديث عن أسماء بنت أبي بكر أصلا ولو كان مختصرا. قوله: "الواصلة والمستوصلة" هذا القدر الذي وجدته من حديث أسماء فكأنها ما سمعت الزيادة التي في حديث أبي هريرة وفي حديث ابن عمر في الواشمة والمستوشمة فأخرج الطبري بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم قال: "دخلت مع أبي على أبي بكر الصديق فرأيت يد أسماء موشومة" قال الطبري: كأنها كانت صنعته قبل النهي فاستمر في يدها، قال:

(10/376)


ولا يظن بها أنها فعلته بعد النهي لثبوت النهي عن ذلك. قلت: فيحتمل أنها لم تسمعه، أو كانت بيدها جراحة فداوتها فبقي الأثر مثل الوشم في يدها. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عمر العمري. قوله: "قال نافع: الوشم في اللثة" بكسر اللام وتخفيف المثلثة وهي ما على الأسنان من اللحم وقال الداودي: هو أن يعمل على الأسنان صفرة أو غيرها، كذا قال، ولم يرد نافع الحصر في كون الوشم في اللثة بل مراده أنه قد يقع فيها. وفي هذه الأحاديث حجة لمن قال يحرم الوصل في الشعر والوشم والنمص على الفاعل والمفعول به، وهي حجة على من حمل النهي فيه على التنزيه، لأن دلالة اللعن على التحريم من أقوى الدلالات، بل عند بعضهم أنه من علامات الكبيرة. وفي حديث عائشة دلالة على بطلان ما روي عنها أنها رخصت في وصل الشعر بالشعر وقالت: إن المراد بالواصل المرأة تفجر في شبابها ثم تصل ذلك بالقيادة، وقد رد ذلك الطبري وأبطله بما جاء عن عائشة في قصة المرأة المذكورة في الباب. حديث معاوية وفيه طهارة شعر الآدمي لعدم الاستفصال، وإيقاع المنع على فعل الوصل لا على كون الشعر نجسا، وفيه نظر، وفيه جواز إبقاء الشعر وعدم وجوب دفنه، وفيه قيام الإمام بالنهي على المنبر ولا سيما إذا رآه فاشيا فيفشي إنكاره تأكيدا ليحذر منه، وفيه إنذار من عمل المعصية بوقوع الهلاك بمن فعلها قبله كما قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} وفيه جواز تناول الشيء في الخطبة ليراه من لم يكن رآه للمصلحة الدينية وفيه إباحة الحديث عن بني إسرائيل وكذا غيرهم من الأمم للتحذير مما عصوا فيه.

(10/377)


84 - باب الْمُتَنَمِّصَاتِ
5939- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: "لعن عبد الله الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وفي كتاب الله قالت والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته قال والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . قوله: "باب المتنمصات" جمع متنمصة وحكى ابن الجوزي منتمصة بتقديم الميم على النون وهو مقلوب، والمتنمصة التي تطلب النماص، والنامصة التي تفعله، والنماص إزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمى المنقاش منماصا لذلك، ويقال إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما. قال أبو داود في السنن: النامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه. ذكر فيه حديث ابن مسعود الماضي في "باب المتفلجات" قال الطبري: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص التماس الحسن لا للزوج ولا لغيره كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه، ومن تكون لها سن زائدة فتقلعها أو طويلة فتقطع منها أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيرا أو حقيرا فتطوله أو تغزره بشعر غيرها، فكل ذلك داخل في النهي. وهو من تغيير خلق الله تعالى. قال: ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضرر والأذية كمن يكون لها سن زائدة أو طويلة تعيقها في الأكل أو إصبع زائدة تؤذيها أو تؤلمها فيجوز ذلك، والرجل في هذا الأخير

(10/377)


كالمرأة. وقال النووي: يستثنى من النماص ما إذا نبت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة فلا يحرم عليها إزالتها بل يستحب. قلت: وإطلاقه مقيد بإذن الزوج وعلمه، وإلا فمتى خلا عن ذلك منع للتدليس. وقال بعض الحنابلة: إن كان النمص أشهر شعارا للفواجر امتنع وإلا فيكون تنزيها. وفي رواية يجوز بإذن الزوج إلا إن وقع به تدليس فيحرم، قالوا ويجوز الحف والتحمير والنقش والتطريف إذا كان بإذن الزوج لأنه من الزينة. وقد أخرج الطبري من طريق أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة وكانت شابة يعجبها الجمال فقالت: المرأة تحف. جبينها لزوجها فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت. وقال النووي: يجوز التزين بما ذكر، إلا الحف فإنه من جملة النماص.

(10/378)


85 - باب الْمَوْصُولَةِ
5940- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" .
5941- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّهُ سَمِعَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْمُنْذِرِ تَقُولُ سَمِعْتُ أَسْمَاءَ قَالَتْ: "سَأَلَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ فَامَّرَقَ شَعَرُهَا وَإِنِّي زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ" .
5942- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَاشِمَةُ وَالْمُوتَشِمَةُ وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ يَعْنِي لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5943- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ مَا لِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ".
قوله: "باب الموصولة" تقدمت مباحثه قبل بباب. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله: "المستوصلة" هي التي تطلب وصل شعرها. قوله: "أصابتها" في رواية الكشميهني: "أصابها" بالتذكير على إرادة الحب، والحصبة بفتح الحاء المهملة وسكون الصاد المهملة ويجوز فتحها وكسرها بعدها موحدة: بثرات حمر تخرج في الجلد متفرقة، وهي نوع من الجدري. قوله: "امرق" بتشديد الميم بعدها راء وأصله انمرق بنون فذهبت في الإدغام، ووقع في رواية الحموي والكشميهني بالزاي بدل الراء كما تقدم. قوله: "حدثني يوسف بن موسى حدثنا الفضل بن دكين" كذا للأكثر وهو كذلك في رواية النسفي. وفي رواية المستملي: "الفضل بن زهير" ولبعض رواة الفربري أيضا: "الفضل بن زهير أو الفضل بن دكين" وجزم مرة أخرى بالفضل بن زهير، قال أبو علي الغساني: هو الفضل بن دكين بن

(10/378)


حماد بن زهير فنسب مرة إلى جد أبيه وهو أبو نعيم شيخ البخاري، وقد حدث عنه بالكثير بغير واسطة، وحدث هنا وفي مواضع أخرى قليلة بواسطة. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم" شك من الراوي وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن صخر بن جويرية بلفظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "لعن الله - ثم قال في آخره - يعني لعن النبي صلى الله عليه وسلم" لم يتجه لي هذا التفسير إلا إن كان المراد لعن الله على لسان نبيه أو لعن النبي صلى الله عليه وسلم للعن الله، وقد سقط الكلام الأخير من بعض الروايات وسقط من بعضها لفظ: "لعن الله" من أوله. وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن صخر بن جويرية بلفظ: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا في أول الباب، ويأتي كذلك بعد باب، وقد تقدم في آخر "باب وصل الشعر" بلفظ: "لعن الله" وكلها من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع. قوله: "والمستوصلة" في رواية النسائي من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر "الموتصلة" وهي بمعناها وكذا في حديث أسماء "الموصولة". قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، وسفيان هو الثوري. ولم يقع في هذه الرواية للواصلة ولا للموصولة ذكر، وإنما أشار به إلى ما ورد في بعض طرقه وقد تقدم بيانه في "باب المتفلجات" وأنه صرح بذكر الواصلة فيه في التفسير، وعند أحمد والنسائي من طريق الحسن العوفي عن يحيى بن الخراز عن مسروق "أن المرأة جاءت إلى ابن مسعود فقالت: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة؟ قال: نعم" القصة بطولها، وفي آخره: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من أذى".

  86 - باب الْوَاشِمَةِ
5944- حَدَّثَنِي يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ" .
حَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ ذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ أُمِّ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ... مِثْلَ حَدِيثِ مَنْصُورٍ.
5945- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي فَقَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ وَالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ" .
قوله: "باب الواشمة" تقدم شرحه قريبا. حديث أبي هريرة "العين حق، ونهى عن الوشم" وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الطب، ويأتي في الباب الذي يليه عن أبي هريرة بلفظ آخر في الوشم. حديث ابن مسعود أورده مختصرا من وجهين وقد تقدم بيانه في "باب المتفلجات". قوله: "رأيت أبي فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى" كذا أورده مختصرا وساقه في البيوع تاما ولفظه: "رأيت أبي اشترى حجاما فكسر محاجمه. فسألته عن ذلك" فذكر الحديث كالذي هنا وزاد: "وعن كسب الأمة" وسيأتي بأتم من سياقه في "باب من لعن المصور".

  87 – بَاب الْمُسْتَوْشِمَةِ
5946- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ تَشِمُ فَقَامَ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَشْمِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُمْتُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا سَمِعْتُ قَالَ مَا سَمِعْتَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لاَ تَشِمْنَ وَلاَ تَسْتَوْشِمْنَ" .
5947- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" .
5948- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله".
قوله: "عن عمارة" هو ابن القعقاع بن شبرمة، وأبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير. قوله: "أتي عمر بامرأة تشم" قلت لم تسم هذه المرأة. قوله: "أنشدكم بالله" يحتمل أن يكون عمر سمع الزجر عن ذلك فأراد أن يستثبت فيه، أو كان نسيه فأراد أن يتذكره، أو بلغه ممن لم يصرح بسماعه فأراد أن يسمعه ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقال أبو هريرة" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "لا تشمن" بفتح أوله وكسر المعجمة وسكون الميم ثم نون خطاب جمع المؤنث بالنهي، وكذا "ولا تستوشمن" أي لا تطلبن ذلك، وهذا يفسر قوله في الباب الذي قبله "نهى عن الوشم" وفائدة ذكر أبي هريرة قصة عمر إظهار ضبطه وأن عمر كان يستثبته في الأحاديث مع تشدد عمر، ولو أنكر عليه عمر ذلك لنقل. الحديث الثاني والحديث الثالث عن ابن عمر وعن ابن مسعود وقد تقدما. قال الخطابي: إنما ورد الوعيد الشديد في هذه الأشياء لما فيها من الغش والخداع، ولو رخص في شيء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغش، ولما فيها من تغيير الخلقة، وإلى ذلك الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله: "المغيرات خلق الله" والله أعلم.

  88 - باب التَّصَاوِيرِ
5949- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ تَصَاوِيرُ" وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ أَبَا طَلْحَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب التصاوير" جمع تصوير بمعنى الصورة والمراد بيان حكمها من جهة مباشرة صنعتها، ثم من جهة  استعمالها واتخاذها. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة" أي ابن مسعود. قوله: "عن أبي طلحة" هو زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس. قوله: "وقال الليث حدثني يونس الخ" وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي صالح كاتب الليث حدثنا الليث، وفائدة هذا التعليق تصريح الزهري بن شهاب وتصريح شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وكذا من فوقهما بالتحديث في جميع الإسناد، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب عن يونس وفيه التصريح أيضا، ووقع في رواية الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله عن أبي طلحة لم يذكر ابن عباس بينهما، ورجح الدار قطني رواية من أثبته، وقد أخرجه مالك في الموطأ عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة يعوده فذكر قصة وفيها المتن المذكور وزاد فيه استثناء الرقم في الثوب كما سيأتي البحث فيه، فلعل عبيد الله سمعه من ابن عباس عن أبي طلحة ثم لقي أبا طلحة لما دخل يعوده فسمعه منه، ويؤيد ذلك زيادة القصة في رواية أبي النضر لكن قال ابن عبد البر: الحديث لعبيد الله عن ابن عباس عن أبي طلحة، فإن عبيد الله لم يدرك أبا طلحة ولا سهل بن حنيف، كذا قال وكأن مستنده في ذلك أن سهل بن حنيف مات في خلافة علي وعبيد الله لم يدرك عليا بل قال علي بن المديني إنه لم يدرك زيد بن ثابت ولا رآه، وزيد مات بعد سهل بن حنيف بمدة، ولكن روى الحديث المذكور محمد بن إسحاق عن أبي النضر فذكر القصة لعثمان بن حنيف لا لسهل أخرجه الطبراني، وعثمان تأخر بعد سهل بمدة وكذلك أبو طلحة، فلا يبعد أن يكون عبيد الله أدركهما. قوله: "لا تدخل الملائكة" ظاهره العموم، وقيل: يستثنى من ذلك الحفظة فإنهم لا يفارقون الشخص في كل حالة، وبذلك جزم ابن وضاح والخطابي وآخرون، لكن قال القرطبي: كذا قال بعض علمائنا، والظاهر العموم، والمخصص يعني الدال على كون الحفظة لا يمتنعون من الدخول ليس نصا. قلت: ويؤيده أنه ليس من الجائز أن يطلعهم الله تعالى على عمل العبد ويسمعهم قوله وهم بباب الدار التي هو فيها مثلا، ويقابل القول بالتعميم القول بتخصيص الملائكة بملائكة الوحي، وهو قول من ادعى أن ذلك كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما سأذكره وهو شاذ. قوله: "بيتا فيه كلب" المراد بالبيت المكان الذي يستقر فيه الشخص سواء كان بناء أو خيمة أم غير ذلك، والظاهر العموم في كل كلب لأنه نكرة في سياق النفي، وذهب الخطابي وطائفة إلى استثناء الكلاب التي أذن في اتخاذها وهي كلاب الصيد والماشية والزرع، وجنح القرطبي إلى ترجيح العموم، وكذا قال النووي، واستدل لذلك بقصة الجرو التي تأتي الإشارة إليها في حديث ابن عمر بعد ستة أبواب، قال فامتنع جبريل من دخول البيت الذي كان فيه مع ظهور العذر فيه، قال فلو كان العذر لا يمنعهم من الدخول لم يمتنع جبريل من الدخول اهـ. ويحتمل أن يقال: لا يلزم من التسوية بين ما علم به أو لم يعلم فيما لم يؤمر باتخاذه أن يكون الحكم كذلك فيما أذن في اتخاذه قال القرطبي. واختلف في المعنى الذي في الكلب حتى منع الملائكة من دخول البيت الذي هو فيه، فقيل: لكونها نجسة العين، ويتأيد ذلك بما ورد في بعض طرق الحديث عن عائشة عند مسلم: "فأمر بنضح موضع الكلب" وقيل: لكونها من الشياطين، وقيل: لأجل النجاسة التي تتعلق بها فإنها تكثر أكل النجاسة وتتلطخ بها فينجس ما تعلقت به، وعلى هذا يحمل من لا يقول إن الكلب نجس العين نضح موضعه احتياطا لأن النضح مشروع لتطهير المشكوك فيه، واختلف في المراد بالملائكة فقيل: هو على العموم وأيده النووي بقصة جبريل الآتي ذكرها فقيل: يستثنى الحفظة، وأجاب الأول بجواز أن لا يدخلوا مع استمرار الكناية بأن يكونوا على باب البيت، وقيل: المراد من

(10/381)


نزل منهم بالرحمة، وقيل: من نزل بالوحي خاصة كجبريل، وهذا نقل عن ابن وضاح والداودي وغيرهما ويلزم منه اختصاص النهي بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الوحي انقطع بعده وبانقطاعه انقطع نزولهم. وقيل: التخصيص في الصفة أي لا يدخله الملائكة دخولهم بيت من لا كلب فيه. قوله: "ولا تصاوير" في رواية معمر الماضية في بدء الخلق عن الزهري "ولا صورة" بالإفراد، وكذا في معظم الروايات وفائدة إعادة حرف النفي الاحتراز من توهم القصر في عدم الدخول على اجتماع الصنفين، فلا يمتنع الدخول مع وجود أحدهما، فلما أعيد حرف النفي صار التقدير ولا تدخل بيتا فيه صورة، قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن على ما سيأتي تقريره في "باب ما وطئ من التصاوير" بعد بابين، وتأتي الإشارة إلى تقوية ما ذهب إليه الخطابي في "باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" وأغرب ابن حبان فادعى أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو نظير الحديث الآخر "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس " قال فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ محال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل لا تصحبها الملائكة وهم وفد الله انتهى وهو تأويل بعيد جدا لم أره لغيره، ويزيل شبهته أن كونهم وفد الله لا يمنع أن يؤاخذوا بما يرتكبونه من خطيئة فيجوز أن يحرموا بركة الملائكة بعد مخالطتهم لهم إذا ارتكبوا النهي واستصحبوا الجرس، وكذا القول فيمن يقتني الصورة والكلب. والله أعلم. وقد استشكل كون الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع قوله سبحانه وتعالى عند ذكر سليمان عليه السلام {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} وقد قال مجاهد: كانت صورا من نحاس أخرجه الطبري. وقال قتادة: كانت من خشب ومن زجاج أخرجه عبد الرزاق. والجواب أن ذلك كان جائزا في تلك الشريعة وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة ليتعبدوا كعبادتهم، وقد قال أبو العالية: لم يكن ذلك في شريعتهم حراما ثم جاء شرعنا بالنهي عنه، ويحتمل أن يقال إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذوات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملا لم يتعين الحمل على المعنى المشكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة الكنيسة التي كانت بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله" فإن ذلك يشعر بأنه لو كان ذلك جائزا في ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدل على أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عباد الصور، والله أعلم.

(10/382)


89 - باب عَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
5950- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ مَسْرُوقٍ فِي دَارِ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَأَى فِي صُفَّتِهِ تَمَاثِيلَ فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ" .
5951- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ

(10/382)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ" .
[الحديث 5951 – طرفه في: 7558]
قوله: "باب عذاب المصورين يوم القيامة" أي الذين يصنعون الصور. قوله: "عن مسلم" هو ابن صبيح أبو الضحى وهو بكنيته أشهر، وجوز الكرماني أن يكون مسلم بن عمران البطين ثم قال إنه الظاهر، وهو مردود فقد وقع في رواية مسلم في هذا الحديث من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى. قوله: "كنا مع مسروق" هو ابن الأجدع. قوله: "في دار يسار بن نمير" هو بتحتانية ومهملة خفيفة، وأبوه بنون مصغر؛ ويسار مدني سكن الكوفة وكان مولى عمر وخازنه، وله رواية عن عمر وعن غيره. وروى عنه أبو وائل وهو من أقرانه، وأبو بردة بن أبي موسى وأبو إسحاق السبيعي، وهو موثق ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "فرأى في صفته" بضم المهملة وتشديد الفاء في رواية منصور عن أبي الضحى عند مسلم: "كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل فقال لي مسروق هذه تماثيل كسرى، فقلت: لا هذه تماثيل مريم" كأن مسروقا ظن أن التصوير كان من مجوسي، وكانوا يصورون صورة ملوكهم حتى في الأواني، فظهر أن التصوير كان من نصراني لأنهم يصورون صورة مريم والمسيح وغيرهما ويعبدونها. قوله: "سمعت عبد الله" هو ابن مسعود وفي رواية منصور فقال: "أما إني سمعت عبد الله بن مسعود". قوله: "إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون" وقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "يوم القيامة" بدل قوله: "عند الله" وكذا هو في مسند ابن أبي عمر عن سفيان، وأخرجه عن الإسماعيلي من طريقه، فلعل الحميدي حدث به على الوجهين بدليل ما وقع في الترجمة، أو لما حدث به البخاري حدث به بلفظ: "عند الله" والترجمة مطابقة للفظ الذي في حديث ابن عمر ثاني حديثي الباب، والمراد بقوله: "عند الله" حكم الله. ووقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش أن "من أشد الناس" واختلف نسخه ففي بعضها "المصورين" وهي للأكثر وفي بعضها "المصورون" وهي لأحمد عن أبي معاوية أيضا، ووجهت بأن "من" زائدة واسم إن أشد، ووجهها ابن مالك على حذف ضمير الشأن والتقدير أنه من أشد الناس الخ. وقد استشكل كون المصور أشد الناس عذابا مع قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فإنه يقتضي أن يكون المصور أشد عذابا من آل فرعون، وأجاب الطبري بأن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصدا له فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصيا بتصويره فقط. وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات "من" ثابتة وبحذفها محمولة عليها، وإذا كان من يفعل التصوير من أشد الناس عذابا كان مشتركا مع غيره، وليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب بل هم في العذاب الأشد، فكذلك غيرهم يجوز أن يكون في العذاب الأشد، وقوى الطحاوي ذلك بما أخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود رفعه: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين" وكذا أخرجه أحمد. وقد وقع بعض هذه الزيادة في رواية ابن أبي عمر التي أشرت إليها فاقتصر على المصور وعلى من قتله نبي. وأخرج الطحاوي أيضا من حديث عائشة مرفوعا: "أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل هجا رجلا فهجا القبيلة بأسرها" قال الطحاوي: فكل

(10/383)


واحد من هؤلاء يشترك مع الآخر في شدة العذاب. وقال أبو الوليد بن رشد في "مختصر مشكل الطحاوي" ما حاصله. إن الوعيد بهذه الصيغة إن ورد في حق كافر فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركا في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكور، وإن ورد في حق عاص فيكون أشد عذابا من غيره من العصاة ويكون ذلك دالا على عظم المعصية المذكورة. وأجاب القرطبي في "المفهم" بأن الناس الذين أضيف إليهم "أشد" لا يراد بهم كل الناس بل بعضهم وهم من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الإلهية عذابا، ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد عذابا ممن يقتدي به في ضلالة فسقه، ومن صور صورة ذات روح للعبادة أشد عذابا ممن يصورها لا للعبادة. واستشكل ظاهر الحديث أيضا بإبليس وبابن آدم الذي سن القتل، وأجيب بأنه في إبليس واضح، ويجاب بأن المراد بالناس من ينسب إلى آدم، وأما في ابن آدم فأجيب بأن الثابت في حقه أن عليه مثل أوزار من يقتل ظلما، ولا يمتنع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنا مثلا فإن عليه مثل أوزار من يزني بعده لأنه أول من سن ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين. قال النووي قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام. قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها" الحديث، وفيه: "من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد" وقال الخطابي: إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل. قال: والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح وقيل: يفرق بين العذاب والعقاب، فالعذاب يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب يختصن بالفعل فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابا أن يكون أشد الناس عقوبة. هكذا ذكره الشريف المرتضى في "الغرر" وتعقب بالآية المشار إليها وعليها انبنى الإشكال، ولم يكن هو عرج عليها، فلهذا ارتضى التفرقة، والله أعلم. واستدل به أبو علي الفارسي في "التذكرة" على تكفير المشبهة فحمل الحديث عليهم وأنهم المراد بقوله المصورون أي الذين يعتقدون أن لله صورة. وتعقب بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ: "إن الذين يصنعون هذه الصورة يعذبون" وبحديث عائشة الآتي بعد بابين بلفظ: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون" وغير ذلك، ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره. وخص بعضهم الوعيد الشديد بمن صور قاصدا أن يضاهي، فإنه يصير بذلك القصد كافرا، وسيأتي في "باب ما وطئ من التصاوير" بلفظ: "أشد الناس عذابا الذين يضاهون بخلق الله تعالى" وأما من عداه فيحرم عليه ويأثم. لكن إثمه دون إثم المضاهي. قلت: وأشد منه من يصور ما يعبد من دون الله كما تقدم. وذكر القرطبي أن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء حتى أن بعضهم عمل صنمه من عجوة ثم جاع فأكله. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم" هو أمر تعجيز، ويستفاد منه صفة تعذيب المصور، وهو أن يكلف نفخ الروح في الصورة التي صورها، وهو لا يقدر على ذلك، فيستمر تعذيبه كما سيأتي تقريره في "باب من صور صورة" بعد أبواب.

(10/384)


90 - باب نَقْضِ الصُّوَرِ
5952- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئاً فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ".
5953- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: "دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَاراً بِالْمَدِينَةِ فَرَأَى أَعْلاَهَا مُصَوِّراً يُصَوِّرُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً" ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مُنْتَهَى الْحِلْيَةِ".
[الحديث 5953 – طرفه في: 7559]
قوله: "باب نقض الصور" بفتح النون وسكون القاف بعدها معجمة، والصور بضم المهملة وفتح الواو جمع صورة، وحكي سكون الواو في الجمع أيضا. قوله: "هشام" هو ابن أبي عبد الله الدستوائي. قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير، وعمران بن حطان تقدم ذكره في أوائل كتاب اللباس. وفي قوله: "أن عائشة حدثته" رد على ابن عبد البر في قوله إن عمران لم يسمع من عائشة، وقد أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده من رواية صالح بن سرح عن عمران "سمعت عائشة" فذكر حديثا آخر. وفي الطبري الصغير بسند قوي من وجه آخر عن عمران "قالت لي عائشة" وتقدم في أوائل اللباس له حديث آخر فيه التصريح بسؤاله عائشة. قوله: "لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب" جمع صليب كأنهم سموا ما كانت فيه صورة الصليب تصليبا تسمية بالمصدر، ووقع في رواية الإسماعيلي: "شيئا فيه تصليب" وفي رواية الكشميهني: "تصاوير" يدل تصاليب، ورواية الجماعة أثبت، فقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن هشام فقال: "تصاليب" وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير، وعلى هذا فيحتاج إلى مطابقة الحديث للترجمة، والذي يظهر أنه استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك مع الصليب في المعنى وهو عبادتهما من دون الله. فيكون المراد بالصور في الترجمة خصوص ما يكون من ذوات الأرواح، بل أخص من ذلك. قوله: "إلا نقضه" كذا للأكثر، ووقع في رواية أبان إلا قضبه، بتقديم القاف ثم المعجمة ثم الموحدة، وكذا وقع في رواية عند ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن هشام ورجحها بعض شراح "المصابيح" وعكسه الطيبي فقال: رواية البخاري أضبط والاعتماد عليهم أولى. قلت: ويترجح من حيث المعنى أن النقض يزيل الصورة مع بقاء الثوب على حاله، والقضب وهو القطع يزيل صورة الثوب، قال ابن بطال: في هذا الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقض الصورة سواء كانت مما له ظل أم لا، وسواء كانت مما توطأ أم لا، سواء في الثياب وفي الحيطان وفي الفرش والأوراق وغيرها. قلت: وهذا مبني على ثبوت الرواية بلفظ: "تصاوير" وأما بلفظ: "تصاليب" فلا لأن في التصاليب معنى زائدا على مطلق الصور، لأن الصليب مما عبد من دون الله بخلاف الصور فليس جميعها مما عبد، فلا يكون فيه حجة على من فرق في الصور بين ما له روح فمنعه وما لا روح فيه فلم يمنعه كما سيأتي تفصيله. فإذا كان المراد بالنقض الإزالة دخل طمسها فيما لو كانت نقشا في

(10/385)


الحائط أو حكها أو لطخها بما يغيب هيئتها. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، وعمارة هو ابن القعقاع. قوله: "حدثنا أبو زرعة" هو ابن عمرو بن جرير. قوله: "دخلت مع أبي هريرة" جاء عن أبي زرعة المذكور حديث آخر بسند آخر أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من طريق علي بن مدرك عن عبد الله بن نجي بنون وجيم مصغر عن أبيه عن علي رفعه: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" . قوله: "دارا بالمدينة" هي لمروان بن الحكم، وقع ذلك في رواية محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عند مسلم من هذا الوجه، وعند مسلم أيضا والإسماعيلي من طريق جرير عن عمارة "دارا تبنى لسعيد أو لمروان" بالشك، وسعيد هو ابن العاص بن سعيد الأموي، وكان هو ومروان بن الحكم يتعاقبان إمرة المدينة لمعاوية، والرواية الجازمة أولى. قوله: "مصورا يصور" لم أقف على اسمه، وقوله: "يصور" بصيغة المضارعة للجميع، وضبطه الكرماني بوجهين أحدهما هذا والآخر بكسر الموحدة وضم الصاد المهملة وفتح الواو ثم راء منونة، وهو بعيد. قوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" هكذا في البخاري، وقد وقع نحو ذلك في حديث آخر لأبي هريرة تقدم قريبا في "باب ما يذكر في المسك" وفيه حذف بينه ما وقع في رواية جرير المذكورة "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} الخ، ونحوه في رواية ابن فضيل، وقوله: "ذهب" أي قصد وقوله: "كخلقي" التشبيه في فعل الصورة وحدها لا من كل الوجوه، قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن التصوير يتناول ما له ظل وما ليس له ظل، فلهذا أنكر ما ينقش في الحيطان. قلت: هو ظاهر من عموم اللفظ، ويحتمل أن يقصر على ما له ظل من جهة قوله: "كخلقي" فإن خلقه الذي اخترعه ليس صورة في حائط بل هو خلق تام، لكن بقية الحديث تقتضي تعميم الزجر عن تصوير كل شيء وهي قوله: "فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة" وهي بفتح المعجمة وتشديد الراء، ويجاب عن ذلك بأن المراد إيجاد حبة على الحقيقة لا تصويرها. ووقع لابن فضيل من الزيادة "وليخلقوا شعرة" والمراد بالحبة حبة القمح بقرينة ذكر الشعير، أو الحبة أعم، والمراد بالذرة النملة، والغرض تعجيزهم تارة بتكليفهم خلق حيوان وهو أشد وأخرى بتكليفهم خلق جماد وهو أهون، ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك. قوله: "ثم دعا بتور" أي طلب تورا، وهو بمثناة إناء كالطست تقدم بيانه في كتاب الطهارة. قوله: "من ماء" أي فيه ماء. قوله: "فغسل يديه حتى بلغ إبطه" في هذه الرواية اختصار وبيانه في رواية جرير بلفظ: "فتوضأ أبو هريرة فغسل يده حتى بلغ إبطه وغسل رجليه حتى بلغ ركبتيه" أخرجها الإسماعيلي، وقدم قصة الوضوء على قصة المصور، ولم يذكر مسلم قصة الوضوء هنا. قوله: "منتهى الحلية" في رواية جرير "إنه منتهى الحلية" كأنه يشير إلى الحديث المتقدم في الطهارة في فصل الغرة والتحجيل في الوضوء، ويؤيده حديثه الآخر "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" وقد تقدم شرحه، والبحث في ذلك مستوفى هناك. وليس بين ما دل عليه الخبر من الزجر عن التصوير وبين ما ذكر من وضوء أبي هريرة مناسبة، وإنما أخبر أبو زرعة بما شاهد وسمع من ذلك.

(10/386)


باب ما وطىء من التصاوير
...
91 - باب مَا وُطِئَ مِنْ التَّصَاوِيرِ
5954- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مِنْهُ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ

(10/386)


بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ وَقَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ ".
5955- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَعَلَّقْتُ دُرْنُوكاً فِيهِ تَمَاثِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَنْزِعَهُ فَنَزَعْتُهُ".
5956- "وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ".
قوله: "باب ما وطئ من التصاوير" أي هل يرخص فيه؟ ووطئ بضم الواو مبني للمجهول، أي صار يداس عليه ويمتهن. قوله: "القاسم" هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "من سفر" في رواية البيهقي أنها غزوة تبوك، وفي أخرى لأبي داود والنسائي غزوة تبوك أو خيبر على الشك. قوله: "بقرام" بكسر القاف وتخفيف الراء: هو ستر فيه رقم ونقش، وقيل: ثوب من صوف ملون يفرش في الهودج أو يغطى به. قوله: "على سهوة" بفتح المهملة وسكون الهاء هي صفة من جانب البيت، وقيل: الكوة، وقيل: الرف، وقيل: أربعة أعواد أو ثلاثة يعارض بعضها ببعض يوضع عليها شيء من الأمتعة، وقيل: أن يبنى من حائط البيت حائط صغير ويجعل السقف على الجميع فما كان وسط البيت فهو السهوة وما كان داخله فهو المخدع، وقيل: دخلة في ناحية البيت، وقيل: بيت صغير يشبه المخدع، وقيل: بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع، ورجح هذا الأخير أبو عبيد، ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله. قلت: وقد وقع في حديث عائشة أيضا في ثاني حديثي الباب أنها علقته على بابها، وكذا في رواية زيد بن خالد الجهني عن عائشة عند مسلم، فتعين أن السهوة بيت صغير علقت الستر على بابه. قوله: "فيه تماثيل" بمثناة ثم مثلثة جمع تمثال وهو الشيء المصور، أعم من أن يكون شاخصا أو يكون نقشا أو دهانا أو نسجا في ثوب. وفي رواية بكير بن الأشج عن عبد الرحمن بن القاسم عند مسلم أنها نصبت سترا فيه تصاوير. قوله: "هتكه" أي نزعه، وقد وقع في الرواية التي بعدها "فأمرني أن أنزعه فنزعته". قوله: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" أي يشبهون ما يصنعونه بما يصنعه الله، ووقع في رواية الزهري عن: القاسم عند مسلم: "الذين يشبهون بخلق الله" وقد تقدم الكلام على قوله: "أشد" قبل بباب. قوله: "فجعلناه وسادة أو وسادتين" تقدم هذا الحديث في المظالم من طريق عبيد الله العمري عن عبد الرحمن بن القاسم بهذا السند قالت: "فاتخذت منه نمرقتين فكانتا في البيت يجلس عليهما" وهو عند مسلم من وجه آخر عن عبيد الله بلفظ: "فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت" والنمرقة يأتي ضبطها في الباب الذي يليه. ولمسلم من طريق بكير بن الأشج "فقطعته وسادتين فقال رجل في المجلس يقال له ربيعة بن عطاء: أفما سمعت أبا محمد، يريد القاسم بن محمد، يذكر أن عائشة قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق عليهما؟ قال ابن القاسم يعني عبد الرحمن: لا. قال: لكني قد سمعته". قوله: "عبد الله بن داود" هو الخريبي بمعجمة وراء وموحدة مصغر، وهشام هو ابن عروة. قوله: "درنوكا" زاد مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام "على بابي" والدرنوك بضم الدال المهملة وسكون الراء بعدها نون مضمومة ثم كاف ويقال فيه درموك بالميم بدل النون، قال الخطابي: هو ثوب غليظ له خمل إذا فرش فهو بساط، وإذا علق

(10/387)


فهو ستر. قوله: "فيه تماثيل" زاد في رواية أبي أسامة عند مسلم: "فيه الخيل ذوات الأجنحة". واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظل لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق في ذلك بين ما له ظل وما لا ظل له، فإن كان معلقا على حائط أو ملبوسا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام. قلت: وفيما نقله مؤاخذات: منها أن ابن العربي من المالكية نقل أن الصورة إذا كان لها ظل حرم بالإجماع سواء كانت مما يمتهن أم لا، وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في "باب من صور صورة" وحكى القرطبي في "المفهم" في الصور التي لا تتخذ للإبقاء كالفخار قولين أظهرهما المنع. قلت: وهل يلتحق ما يصنع من الحلوى بالفخار، أو بلعب البنات؟ محل تأمل. وصحح ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت سواء كانت مما يمتهن أم لا، وإن قطع رأسها أو فرقت هيئتها جاز، وهذا المذهب منقول عن الزهري وقواه النووي، وقد يشهد له حديث النمرقة - يعني المذكور في الباب الذي بعده - وسيأتي ما فيه. ومنها أن إمام الحرمين نقل وجها أن الذي يرخص فيه مما لا ظل له ما كان على ستر أو وسادة، وأما ما على الجدار والسقف فيمنع، والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعا فيخرج عن هيئة الامتهان بخلاف الثوب فإنه بصدد أن يمتهن، وتساعده عبارة "مختصر المزني" صورة ذات روح إن كانت منصوبة.
ونقل الرافعي عن الجمهور أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع. وقال المتولي في "التتمة" لا فرق. ومنها أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب ولو كان معلقا على ما في خبر أبي طلحة، لكن إن ستر به الجدار منع عندهم، قال النووي: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقا، وهو مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك، ومع ذلك فأمر بنزعه. قلت: المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح ولفظه عن ابن عون "قال دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء" ففي إطلاق كونه مذهبا باطلا نظر، إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله: "إلا رقما في ثوب" فإنه أعم من أن يكون معلقا أو مفروشا، وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبا من كونه مصورا ومن كونه ساترا للجدار، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم. فأخرج من طريق سعيد بن يسار عن زيد بن خالد الجهني قال: "دخلت على عائشة" فذكر نحو حديث الباب لكن قال: "فجذبه حتى هتكه وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين. قال فقطعنا منه وسادتين" الحديث؛ فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار. والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها، لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رخص فيه من ذلك ما يمتهن، لا ما كان منصوبا. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق أيوب عن عكرمة قال: كانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذل لها. ومن طريق عاصم عن عكرمة قال: كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام. ومن طريق ابن سيرين وسالم بن عبد الله وعكرمة بن خالد وسعيد بن جبير فرقهم أنهم قالوا: لا بأس

(10/388)


بالصورة إذا كانت توطأ. ومن طريق عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل الطير والرجال. قوله في آخر الحديث: "وكنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد" كذا أورده عقب حديث التصوير، وهو حديث آخر مستقل قد أفرده في كتاب الطهارة من وجه آخر عن الزهري عن عروة، وأخرجه عقب حديث عائشة في صفة الغسل من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة به، وتقدم شرحه هناك، وكأن البخاري سمع الحديث على هذه الصورة فأورده كما هو واغتفر ذلك لكون المتن قصيرا مع أن كثرة عادته التصرف في المتن بالاختصار والاقتصار. وقال الكرماني: يحتمل أن الدرموك كان في باب المغتسل، أو اقتضى الحال ذكر الاغتسال إما بحسب سؤال وإما بغيره.

(10/389)


92 - باب مَنْ كَرِهَ الْقُعُودَ عَلَى الصُّورَةِ
5957- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَقُلْتُ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ قَالَ: مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟ قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا. قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ الصُّورَةُ" .
5958- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ الصُّورَةُ" قَالَ بُسْرٌ ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاهُ فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ فَقُلْتُ لعبيد الله رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنْ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَوَّلِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ إِلاَّ رَقْماً فِي ثَوْبٍ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ بُكَيْرٌ حَدَّثَهُ بُسْرٌ حَدَّثَهُ زَيْدٌ حَدَّثَهُ أَبُو طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب من كره القعود على الصور" أي ولو كانت مما توطأ. قوله: "جويرية" بالجيم والراء مصغر. قوله: "عن عائشة" في رواية مالك عن نافع عن القاسم "عن عائشة أنها أخبرته" وسيأتي بعد بابين. قوله: "نمرقة" بفتح النون وسكون الميم وضم الراء بعدها قاف كذا ضبطها القزاز وغيره، وضبطها ابن السكيت بضم النون أيضا وبكسرها وكسر الراء، وقيل: في النون الحركات الثلاث والراء مضمومة جزما والجمع نمارق، وهي الوسائد التي يصف بعضها إلى بعض، وقيل: النمرقة الوسادة التي يجلس عليها.
قوله: "فلم يدخل" زاد مالك في روايته فعرفت الكراهية في وجهه. قوله: "أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت" يستفاد منه جواز التوبة من الذنوب كلها إجمالا وإن لم يستحضر التائب خصوص الذنب الذي حصلت به مؤاخذته. قوله: "ما هذه النمرقة" في رواية مالك "ما بال هذه". قوله: "قلت لتجلس عليها" في رواية مالك "اشتريتها لتقعد عليها". قوله: "وتوسدها" بفتح أوله وبتشديد السين المهملة أصله تتوسدها. قوله: "إن أصحاب هذه الصور الخ" وفيه: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور" والجملة الثانية هي المطابقة لامتناعه من الدخول، وإنما قدم الجملة الأولى عليها

(10/389)


اهتماما بالزجر عن اتخاذ الصور، لأن الوعيد إذا حصل لصانعها فهو حاصل لمستعملها، لأنها لا تصنع إلا لتستعمل فالصانع متسبب والمستعمل مباشر فيكون أولى بالوعيد، ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، ولا ببن أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة، خلافا لمن استثنى النسج وادعى أنه ليس بتصوير، وظاهر حديثي عائشة هذا والذي قبله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استعمل الستر الذي فيه الصورة بعد أن قطع وعملت منه الوسادة، وهذا يدل على أنه لم يستعمله أصلا، وقد أشار المصنف إلى الجمع بينهما بأنه لا يلزم من جواز اتخاذ ما يوطأ من الصور جواز القعود على الصورة فيجوز أن يكون استعمل من الوسادة ما لا صورة فيه، ويجوز أن يكون رأى التفرقة بين القعود والاتكاء وهو بعيد، ويحتمل أيضا أن يجمع بين الحديثين بأنها لما قطعت الستر وقع القطع في وسط الصورة مثلا فخرجت عن هيئتها فلهذا صار يرتفق بها، ويؤيد هذا الجمع الحديث الذي في الباب قبله في نقض الصور وما سيأتي في حديث أبي هريرة المخرج في السنن، وسأذكره في الباب بعده. وسلك الداودي في الجمع مسلكا آخر فادعى أن حديث الباب ناسخ لجميع الأحاديث الدالة على الرخصة، واحتج بأنه خبر والخبر لا يدخله النسخ فيكون هو الناسخ. قلت: والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد أمكن الجمع فلا يلتفت لدعوى النسخ، وأما ما احتج به فرده ابن التين بأن الخبر إذا قارنه الأمر جاز دخول النسخ فيه. قوله: "عن بكير" بالموحدة مصغر، في رواية النسائي عن عيسى بن حماد عن الليث "حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج" وكذا عند أحمد عن حجاج بن محمد وهاشم بن القاسم عن الليث. قوله: "عن بسر" بضم الموحدة وسكون المهملة، في رواية عمرو بن الحارث عن بكير "أن بسر بن سعيد حدثه" وقد مضت في بدء الخلق. قوله: "عن زيد بن خالد" هو الجهني الصحابي، في رواية عمرو أيضا: "أن زيد بن خالد الجهني حدثه ومع بسر بن سعيد عبيد الله الخولاني الذي كان في حجر ميمونة". قوله: "أبي طلحة" هو زيد بن سهل الأنصاري الصحابي المشهور، وفي الإسناد تابعيان في نسق وصحابيان في نسق، وعلى رواية بسر عن عبيد الله الخولاني للزيادة الآتي ذكرها يكون فيه ثلاثة من التابعين في نسق وكلهم مدنيون. ووقع في رواية عمرو بن الحارث أن أبا طلحة حدثه. قوله: "فيه صورة" كذا لكريمة وغيرها. وفي رواية أبي ذر عن مشايخه إلا المستملي: "صور" بصيغة الجمع، وكذا في قوله: "فإذا على بابه ستر فيه صورة" ووقع في رواية عمرو بن الحارث "فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير" وهي تقوي رواية أبي ذر. قوله: "فقلت لعبيد الله الخولاني" أي الذي كان معه كما بينته رواية عمرو بن الحارث، وعبيد الله هو ابن الأسود ويقال ابن أسد، ويقال له ربيب ميمونة لأنها كانت ربته وكان من مواليها ولم يكن ابن زوجها، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الصلاة من روايته عن عثمان. قوله: "يوم الأول" في رواية الكشميهني: "يوم أول". قوله: "فقال عبيد الله ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب" في رواية عمرو بن الحارث "فقال إنه قال إلا رقما في ثوب، ألا سمعته؟ قلت: لا. قال: بلى قد ذكره". قوله: "وقال ابن وهب أخبرني عمرو هو ابن الحارث" تقدم أنه وصله في بدء الخلق، وقد بينت ما في روايته من فائدة زائدة، ووقع عند النسائي من وجه آخر عن بسر بن سعيد عن عبيدة بن سفيان قال: "دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على زيد بن خالد نعوده فوجدنا عنده نمرقتين فيهما تصاوير. وقال أبو سلمة: أليس حدثتنا" فذكر الحديث، فقال زيد: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إلا رقما في ثوب" قال النووي: يجمع بين الأحاديث بأن المراد باستثناء الرقم في الثوب ما كانت

(10/390)


الصورة فيه من غير ذوات الأرواح كصورة الشجر ونحوها اهـ. ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن وسأذكره في الباب الذي يليه. وقال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقما فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقا على ظاهر قوله في حديث الباب إلا رقما في ثوب، الثاني: المنع مطلقا حتى الرقم، الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال وهذا هو الأصح، الرابع: إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقا لم يجز.

(10/391)


93 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي التَّصَاوِيرِ
5959- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمِيطِي عَنِّي فَإِنَّهُ لاَ تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلاَتِي
قوله: "باب كراهية الصلاة في التصاوير" أي في الثياب المصورة. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، والإسناد كله بصريون. قوله: "كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها" تقدم ضبط القرام قريبا. قوله: "أميطي" أي أزيلي وزنه ومعناه. قوله: "تعرض" بفتح أوله وكسر الراء أي أنظر إليها فتشغلني، ووقع في حديث عائشة عند مسلم أنها كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم: يصلي إليه، فقال: أخريه عني. ووجه انتزاع الترجمة من الحديث أن الصور إذا كانت تلهي المصلي وهي مقابله فكذا تلهيه وهو لابسها بل حالة اللبس أشد، ويحتمل أن تكون "في" بمعنى "إلى" فتحصل المطابقة وهو اللائق بمراده، فإن في المسألة خلافا، فنقل عن الحنفية أنه لا تكره الصلاة إلى جهة فيها صورة إذا كانت صغيرة أو مقطوعة الرأس، وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة أيضا في النمرقة لأنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصور أصلا حتى نزعه وهذا يدل على أنه أقره وصلى وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤيته الصورة حالة الصلاة، ولم يتعرض لخصوص كونها صورة. ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره من ذوات الأرواح وهذا كانت تصاويره من غير الحيوان كما تقدم تقريره في حديث زيد بن خالد.

(10/391)


باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة
...
الصور في بيوتهم ويعظمونها فكرهت الملائكة ذلك فلم تدخل بيته هجرا له لذلك. قوله: "عمر بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر، وسالم شيخه هو عم أبيه وهو ابن عبد الله بن عمر. قوله: "وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم" زادت عائشة "في ساعة يأتيه فيها" أخرجه مسلم. قوله: "فراث عليه" بالمثلثة أي أبطأ، وفي حديث عائشة "فجاءت تلك الساعة ولم يأته". قوله: "حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم" في حديث عائشة "وفي يده عصا فألقاها من يده وقال: ما يخلف الله وعده ولا رسله " وفي حديث ميمونة عند مسلم نحو حديث عائشة وفيه: "أنه أصبح واجما" بالجيم أي منقبضا. قوله: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه فشكا إليه ما وجد" أي من إبطائه "فقال له: إنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب " في هذا الحديث اختصار، وحديث عائشة أتم ففيه: "ثم التفت فإذا جر وكلب تحت سريره فقال: يا عائشة متى دخل هذا الكلب؟ فقالت: وايم الله ما دريت. ثم أمر به فأخرج، فجاء جبريل، فقال: واعدتني فجلست لك فلم تأت. فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك" وفي حديث ميمونة "فظل يومه على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل" وزاد فيه الأمر بقتل الكلاب. وحديث أبي هريرة في السنن وصححه الترمذي وابن حبان أتم سياقا منه ولفظه: "أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية النسائي: "إما أن تقطع رءوسها أو تجعل بسطا توطأ" وفي هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أن الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه باقية على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غيرت من هيئتها إما بقطعها من نصفها أو بقطع رأسها فلا امتناع. وقال القرطبي: ظاهر حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قيل إن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقما في الثوب، وظاهر حديث عائشة المنع ويجمع بينهما بأن يحمل حديث عائشة على الكراهة وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز وهو لا ينافي الكراهة. قلت: وهو جمع حسن، لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه، والله تعالى أعلم.

(10/292)


95 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتاً فِيهِ صُورَةٌ
5961- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" .
قوله: "باب من لم يدخل بيتا فيه صورة" ذكر فيه حديث عائشة في النمرقة وقد تقدم بيانه في "باب من كره

(10/392)


القعود على التصاوير" قال الرافعي: وفي دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان: قال الأكثر: يكره. وقال أبو محمد: يحرم، فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار كما في ظاهر الحمام أو دهليزها لا يمتنع الدخول، قال وكان السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة وفي المجلس مكرمة. قلت: وقصة إطلاق نص المختصر وكلام الماوردي وابن الصباغ وغيرهما لا فرق.

(10/393)


96 - باب مَنْ لَعَنَ الْمُصَوِّرَ
حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه "أنه اشترى غلاما حجاما فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور" .
قوله: "باب من لعن المصور" ذكر فيه حديث أبي جحيفة وقد تقدم بيانه في "باب الواشمة".

(10/393)


97 - باب مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ
5963- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ قَتَادَةَ قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَلاَ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سُئِلَ فَقَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ" .
قوله: "باب من صور صورة الخ" كذا ترجم بلفظ الحديث، ووقع عند النسفي "باب" بغير ترجمة، وثبتت الترجمة عند الأكثر، وسقط الباب والترجمة من رواية الإسماعيلي، وعلى ذلك جرى ابن بطال، ونقل عن المهلب توجيه إدخال حديث الباب في الباب الذي قبله فقال: اللعن في اللغة الإبعاد من رحمة الله تعالى، ومن كلف أن ينفخ الروح وليس بنافخ فقد أبعد من الرحمة. قوله: "حدثنا عياش" هو بالتحتانية وبالشين المعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، وسعيد هو ابن أبي عروبة، والسند كله بصريون. قوله: "سمعت النضر بن أنس بن مالك يحدث قتادة" كان سعيد بن أبي عروبة كثير الملازمة لقتادة فاتفق أن قتادة والنضر بن أنس اجتمعا، فحدث النضر قتادة فسمعه سعيد وهو معه، ووقع في رواية المستملي وغيره: "يحدثه قتادة" والضمير للحديث، وقتادة بالنصب على المفعولية والفاعل النضر، وضبطه بعضهم بالرفع على أن الضمير للنضر وفاعل يحدث قتادة، وهو خطأ لأنه لا يلائم قوله: "سمعت النضر" ولأن قتادة لم يسمع من ابن عباس ولا حضر عنده، وقد تقدم تصريح البخاري بأن سعيدا سمع من النضر هذا الحديث الواحد، ووقع في رواية خالد بن الحارث عن سعيد عن قتادة عن النضر بن أنس أخرجها الإسماعيلي، وقوله: "عن قتادة" من المزيد في متصل الأسانيد فإن كان خالد حفظه احتمل أن يكون سعيد كان سمعه من قتادة عن النضر ثم لقي النضر فسمعه منه فكان يحدثه به على الوجهين، وقد حدث به قتادة عن النضر من غير طريق سعيد أخرجها الإسماعيلي من رواية هشام الدستوائي عن قتادة. قوله: "وهم يسألونه ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم" أي يجيبهم عما يسألونه بالفتوى من غير أن يذكر الدليل من السنة، وقد وقع بيان ذلك عند الإسماعيلي من رواية

(10/393)


98 - باب الارْتِدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ
5964- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ".
قوله: "باب الارتداف على الدابة" أي إركاب راكب الدابة خلفه غيره، وقد كنت استشكلت إدخال هذه التراجم في كتاب اللباس، ثم ظهر لي أن وجهه أن الذي يرتدف لا يأمن من السقوط فينكشف فأشار إلى أن احتمال السقوط لا يمنع من الارتداف إذ الأصل عدمه فيتحفظ المرتدف إذا ارتدف من السقوط، وإذا سقط فليبادر إلى الستر، وتلقيت فهم ذلك من حديث أنس في قصة صفية الآتي في "باب إرداف المرأة خلف الرجل" وقال الكرماني الغرض الجلوس على لباس الدابة وإن تعدد أشخاص الراكبين عليها، والتصريح بلفظ القطيفة في الحديث الثامن مشعر بذلك. قوله: "أبو صفوان" هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي. قوله: "ركب على حمار" هو طرف من حديث طويل تقدم أصله في العلم، ويأتي بهذا السند في الاستئذان ثم في الرقاق، وهو ظاهر في مشروعية الارتداف.

(10/395)


99 - باب الثَّلاَثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
5965- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِداً بَيْنَ يَدَيْهِ وَالآخَرَ خَلْفَهُ".
قوله: "باب الثلاثة على الدابة" كأنه يشير إلى الزيادة التي في حديث الباب الذي بعده، والأصل في ذلك ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ثلاثة على دابة" وسنده ضعيف. وأخرج

(10/395)


100 - باب حَمْلِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ غَيْرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِ الدَّابَّةِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ
5966- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ذُكِرَ شَرُّ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ فَقَالَ "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَيُّهُمْ شَرٌّ أَوْ أَيُّهُمْ خَيْرٌ".
قوله: "باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه. وقال بعضهم: صاحب الدابة أحق بصدر الدابة إلا أن يأذن له" ثبت هذا التعليق عند النسفي، وهو لأبي ذر عن المستملي وحده، والبعض المبهم هو الشعبي أخرجه ابن أبي

(10/396)


شيبة عنه، وقد جاء ذلك مرفوعا أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم من طريق حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ جاءه رجل ومعه حمار فقال: يا رسول الله اركب، وتأخر الرجل، فقال: لأنت أحق بصدر دابتك إلا أن تجعله لي، قال: قد جعلته لك. فركب" وهذا الرجل هو معاذ بن جبل بينه حبيب بن الشهيد في روايته عن عبد الله بن بريدة لكنه أرسله، أخرجه ابن أبي شيبة من طريقه. قال ابن بطال: كأن البخاري لم يرتض إسناده يعني حديث بريدة فأدخل حديث ابن عباس ليدل على معناه. قلت: ليس هو على شرطه، فلذلك اقتصر على الإشارة إليه، وقد وجدت له شاهدا من حديث النعمان بن بشير أخرجه الطبراني وفيه زيادة الاستثناء. وأخرج أحمد من حديث قيس بن سعد بدون هذه الزيادة. وفي الباب عدة أحاديث مرفوعة وموقوفة بمعنى ذلك، قال ابن العربي: إنما كان الرجل أحق بصدر دابته لأنه شرف والشرف حق المالك، ولأنه يصرفها في المشي حيث شاء وعلى أي وجه أراد من إسراع أو بطء ومن طول أو قصر، بخلاف غير المالك. وقوله في حديث بريدة "إلا أن تجعله لي " يريد الركوب على مقدم الدابة، وفيه نظر لأن الرجل قد تأخر وقال له: يا رسول الله اركب، أي في المقدم، فدل على أنه جعله له، ويمكن أن يجاب بأن المراد أنه طلب منه أن يجعله له صريحا، أو الضمير للتصرف في الدابة بعد الركوب كيف أراد كما أشار إليه ابن العربي في حق صاحب الدابة، فكأنه قال اجعل حقك لي كله من الركوب على مقدم الدابة وما يترتب على ذلك. قوله: "ذكر شر الثلاثة عند عكرمة" كذا للمستملي وفي رواية الكشميهني: "أشر" بزيادة ألف أوله. وفي رواية الحموي "الأشر" فأما أشر بزيادة ألف فهي لغة تقدم تقريرها في شرح حديث عبد الله بن سلام، ففيه: "قالوا أخيرنا وابن أخيرنا" وجاء في المثل "صغراها أشرها" وقالوا أيضا: "نعوذ بالله من نفس حرى، وعين شرى" أي ملأى من الشر، وهو مثل أصغر وصغرى. وأما الرواية بزيادة اللام فهو مثل قولهم: الحسن الوجه والواهب المائة، والمراد بلفظ الأشر الشر لأن أفعل التفضيل لا يستعمل على هذه الصور إلا نادرا. قوله: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" بفتح الهمزة من أتى ورسول الله بالرفع أي جاء، وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه وهما ولدا العباس بن عبد المطلب وأخوا عبد الله بن عباس راوي الحديث. قوله: "أو قثم خلفه" شك من الراوي، وقثم بقاف ومثلثة وزن عمر، ليس له في البخاري رواية، وهو صحابي، وذكره الحافظ عبد الغني مع غير الصحابة فوهم. قوله: "فأيهم شر أو أيهم خير" ؟ هذا كلام عكرمة يرد به على من ذكر له شر الثلاثة وقال الداودي: إن ثبت الخبر في ذلك قدم على هذا ويكون ناسخا له، لأن الفعل يدخله النسخ والخبر لا يدخله النسخ، كذا، قال. ودعوى النسخ هنا في غاية البعد، والجمع الذي أشار إليه الطبري أولا أولى.=

34.

مجلد  34. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
----

101 - باب إِرْدَافِ الرَّجُلِ خَلْفَ الرَّجُلِ
5967- حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق

(10/397)


الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك فقال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم" .
قوله: "باب إرداف الرجل خلف الرجل" ذكر فيه حديث معاذ بن جبل وقد تقدم في الجهاد، وأحيل بشرحه على هذا المكان واللائق به كتاب الرقاق فقد ذكره فيه بهذا السند والمتن تاما فليشرح هناك، والمقصود منه هنا من الإرداف واضح. ووقع في شرح ابن بطال "باب" بلا ترجمة. وقال: كان ينبغي له أن يورده مع حديث أسامة في "باب الارتداف" وقد عرف جوابه، وقوله: "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم: "الردف والرديف الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء هو مؤخره، وأصله من الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه وأردفته إذا أركبته وراءك. وقد أفرد ابن منده أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فبلغوا ثلاثين نفسا.

(10/398)


3 - باب إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ الرَّجُلِ
5968- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ وَإِنِّي لَرَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ يَسِيرُ وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَثَرَتْ النَّاقَةُ فَقُلْتُ الْمَرْأَةَ فَنَزَلْتُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا أُمُّكُمْ" فَشَدَدْتُ الرَّحْلَ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَنَا أَوْ رَأَى الْمَدِينَةَ قَالَ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ" .
قوله: "باب إرداف المرأة خلف الرجل ذا محرم" كذا للأكثر، والنصب على الحال ولبعضهم ذي محرم على الصفة. واقتصر النسفي على "خلف الرجل" فلم يذكر ما بعده. قوله: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وإني لرديف أبي طلحة وهو يسير وبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عثرت الناقة فقلت المرأة فنزلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها أمكم، فشددت الرحل" كذا في هذه الرواية وظاهره أن الذي قال ذلك وفعله هو أنس، وقد تقدم في أواخر الجهاد من وجه آخر عن يحيي بن أبي إسحاق وفيه أن الذي فعل ذلك أبو طلحة وأن الذي قال: "المرأة" رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه أنه "أقبل هو وأبو طلحة ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفية يردفها على راحلته، فلما كان ببعض الطريق عثرت الدابة فصرع النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة، وأن أبا طلحة أحسبه قال اقتحم عن بعيره فقال: " يا نبي الله هل أصابك من شيء؟ قال: لا، ولكن عليك المرأة" . فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها فألقى ثوبه عليها، فقامت المرأة فشد لهما على راحلتهما فركبا" الحديث. وفي أخرى عن يحيى بن أبي إسحاق أيضا: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وقد أردف صفية بنت حيي، فعثرت ناقته" فساقه نحوه. فيستفاد من هاتين الطريقتين تسمية المرأة، وأن الذي تولى شد الرحل وغير ذلك مما ذكر هو أبو طلحة لا أنس، والاختلاف فيه على يحيى بن

(10/398)


أبي إسحاق رواية عن أنس، فقال شعبة عنه ما في هذا الباب. وقال عبد الوارث وبشر بن المفضل كلاهما عنه ما أشرت إليه في الجهاد، وهو المعتمد فإن القصة واحدة ومخرج الحديث واحد واتفاق اثنين أولى من انفراد واحد، ولا سيما أن أنسا كان إذا ذاك يصغر عن تعاطي ذلك الأمر، وإن كان لا يمتنع أن يساعد عمه أبا طلحة على شيء من ذلك، والله أعلم. فقد يرتفع الإشكال بهذا. وفي الحديث أنه لا بأس للرجل أن يتدارك المرأة الأجنبية إذا سقطت أو كادت تسقط فيعينها على التخلص مما يخشى عليها.

(10/399)


103 - باب الإسْتِلْقَاءِ وَوَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى الأُخْرَى
5969- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ "أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ فِي الْمَسْجِدِ رَافِعاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى".
قوله: "باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى" وجه دخول هذه الترجمة في كتاب اللباس من جهة أن الذي يفعل ذلك لا يأمن من الانكشاف، ولا سيما الاستلقاء يستدعي النوم، والنائم لا يتحفظ، فكأنه أشار إلى أن من فعل ذلك ينبغي له أن يتحفظ لئلا ينكشف. حديث عباد بن تميم عن عمه وهو عبد الله بن زيد، وفيه ثبوت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزاد عند الإسماعيلي في روايته في آخر الحديث: "وإن أبا بكر كان يفعل ذلك وعمر وعثمان" وكأنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك، وهو فيما أخرجه مسلم من حديث جابر رفعه: " لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى " أو ثبت لكنه رآه منسوخا، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى.
" خاتمة ": اشتمل كتاب اللباس من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث واثنين وعشرين حديثا، المعلق منها وما أشبهه ستة وأربعون حديثا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة واثنان وثمانون حديثا، والخالص أربعون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة " ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" وحديث الزبير في لبس الحرير، وحديث أم سلمة في شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أنس "كان لا يرد الطيب"، وحديث أبي هريرة في لعن الواصلة، وحديثه "لا تشمن"، وحديث عائشة في نقض الصور، وحديث ابن عمر في وعد جبريل ومنه "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" وقد أخرجه مسلم من حديث عائشة، وحديث: "صاحب الدابة أحق بصدرها " على أنه لم يصرح برفعه وهو مرفوع على ما بينته. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم تسعة عشر أثرا والله أعلم.

(10/399)


كتاب الأدب
باب البر والصلة، وقول الله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 - كِتَاب الأَدَبِ
1 – باب البرِّ والصِّلةِ، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}
5970- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَيْزَارٍ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي".
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأدب". حذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول "الأدب المفرد للبخاري" باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة(1). والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه. قوله: "باب البر والصلة، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} كذا للأكثر، وحذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول "الأدب المفرد للبخاري" باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة. والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه؛ وهذه الآية وقعت بهذا اللفظ في العنكبوت وفي الأحقاف لكن المراد هنا التي في العنكبوت. وقال ابن بطال: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التي في لقمان نزلت في سند بن أبي وقاص، كذا قال إنها التي في لقمان وليس كذلك، وقد أخرج مسلم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه. قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا" كذا وقع عنده، وفيه انتقال من آية إلى آية، فإن في آية العنكبوت {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا - إلى – مَرْجِعُكُمْ} والمذكور عنده بعد قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى} الخ إنما هو في لقمان. وقد وقع عند الترمذي إلى قوله: {حُسْناً} الآية، فقط، ومثله عند أحمد لكن لم يقل "الآية"، ووقع في أخرى لأحمد {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ - وقرأ حتى بلغ - ِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا القدر الأخير إنما هو في آية العنكبوت وأوله من آية لقمان، ويظهر لي أن الآيتين مما كانتا في الأصل ثابتتين فسقط بعضهما على بعض الرواة، والله أعلم. واسم أم سعد بن أبي وقاص حمنة - بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نون - بنت سفيان بن أمية، وهي ابنة عم أبي سفيان بن حرب بن أمية، ولم أر في شيء من
ـــــــ
(1) وقد نشرته المطبعة السلفية بعناية وتخريج. ونشرت شرحا له مفيدا في مجلدين.

(10/400)


الأخبار أنها أسلمت. واقتضت الآية الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، ففيها بيان ما أجمل في غيرها، وكذا في حديث الباب، من الأمر ببرهما. قوله: "قال الوليد بن عيزار أخبرني" هو من تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وكان شعبة يستعمله كثيرا، ووقع لبعضهم "العيزار" بزيادة ألف ولام في أوله، وكذا تقدم في أوائل الصلاة مع كثير من فوائد الحديث ولله الحمد. وقال ابن التين: تقديم البر على الجهاد يحتمل وجهين: أحدهما: التعدية إلى نفع الغير، والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأة على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضل منه، فنبهه على إثبات الفضيلة فيه. قلت: والأول ليس بواضح، ويحتمل أنه قدم لتوقف الجهاد عليه، إذ من بر الوالدين استئذانهما في الجهاد لثبوت النهي عن الجهاد بغير إذنهما كما يأتي قريبا.

(10/401)


2 - باب مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ
5971- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ" .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ... مِثْلَهُ.
قوله: "باب من أحق الناس بحسن الصحبة" الصحبة والصحابة مصدران بمعنى، وهو المصاحبة أيضا. قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عمارة بن القعقاع بن شبرمة" بضم المعجمة والراء بينهما موحدة كذا للأكثر ووقع عند النسفي وكذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي: "عن عمارة بن القعقاع وابن شبرمة" بزيادة واو والصواب حذفها فإن رواية ابن شبرمة قد علقها المصنف عقب رواية عمارة وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق زهير بن حرب عن جرير عن عمارة حسب. قوله: "جاء رجل" يحتمل أنه معاوية بن حيدة بفتح المهملة وسكون التحتانية، وهو جد بهز بن حكيم، فقد أخرج المصنف في "الأدب المفرد" من حديثه "قال قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك" الحديث. وأخرجه أبو داود والترمذي. قوله: "فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟" في رواية محمد بن فضيل عن عمارة عند مسلم: "بحسن الصحبة" وعنده في رواية شريك عن عمارة وابن شبرمة جميعا عن أبي زرعة قال مثل رواية جرير، وزاد: "فقال نعم وأبيك لتنبأن" وقد أخرجه ابن ماجه من هذا الوجه مطولا وزاد فيه حديث: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح" وأخرجه أحمد من طريق شريك فقال في أوله: "يا رسول الله نبئني بأحق الناس مني صحبة" ووجدته في النسخة بلفظ: "فقال نعم والله" بدل "وأبيك" فلعلها تصحفت، وقوله: "وأبيك" لم يقصد به القسم وإنما هي كلمة تجري لإرادة تثبيت الكلام، ويحتمل أن يكون ذلك وقع قبل النهي عن الحلف بالآباء. قوله: "قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" كذا للجميع بالرفع ووقع عند مسلم من هذا الوجه وعند المصنف في "الأدب المفرد" من وجه آخر بالنصب، وفي آخر "ثم أباك" والأول ظاهر ويخرج الثاني على

(10/401)


إضمار فعل. ووقع صريحا عند المصنف في "الأدب المفرد" كما سأنبه عليه، وهكذا وقع تكرار الأم ثلاثا وذكر الأب في الرابعة، وصرح بذلك في الرواية يحيى بن أيوب ولفظه: "ثم عاد الرابعة فقال: بر أباك" وكذا وقع في رواية بهز بن حكيم وزاد في آخره ثم "الأقرب فالأقرب" وله شاهد من حديث خداش أبي سلامة رفعه: "أوصي امرءا بأمه، أوصى امرءا بأمه، أوصي امرءا بأمه، أوصي امرءا بأبيه، أوصي امرءا بمولاه الذي يليه، وإن كان عليه فيه أذى يؤذيه" أخرجه ابن ماجه والحاكم، قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة. قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة. وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول. قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك فقد ذكره ابن بطال قال: سئل مالك طلبني أبي فمنعتني أمي، قال: أطع أباك ولا تعص أمك قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال وليست الدلالة على ذلك بواضحة، قال: وسئل الليث يعني عن المسألة بعينها فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين. وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" وأحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب" وكذا وقع في حديث بهز بن حكيم كما تقدم، وكذا في آخر رواية محمد بن فضيل المذكورة عند مسلم بلفظ: "ثم أدناك فأدناك" وفي حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك" أخرجه الحاكم هكذا، وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان، والمراد بالدنو القرب إلى البار. قال عياض: تردد بعض العلماء في الجد والأخ، والأكثر على تقديم الجد. قلت: وبه جزم الشافعية، قالوا: يقدم الجد ثم الأخ، ثم يقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بواحد، ثم تقدم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم، ثم سائر العصبات، ثم المصاهرة ثم الولاء، ثم الجار. وسيأتي الكلام على حكمه بعد. وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن إيصال البر دفعة واحدة وهو واضح، وجاء ما يدل على تقديم الأم في البر مطلقا، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عائشة "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها. قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه" ومؤيد تقديم الأم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي " كذا أخرجه الحاكم وأبو داود. فتوصلت لاختصاصها به وباختصاصه بها في الأمور الثلاثة. قوله: "وقال ابن شبرمة ويحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة مثله" أما ابن شبرمة فهو عبد الله الفقيه المشهور

(10/402)


الكوفي، وهو ابن عم عمارة بن القعقاع المذكور قبل، وطريقه هذه وصلها المؤلف في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا سليمان بن حرب حدثنا وهيب بن خالد عن ابن شبرمة سمعت أبا زرعة" فذكر بلفظ: "قيل: يا رسول الله من أبر" والباقي مثل رواية جرير سواء لكن على سياق مسلم، وأما يحيى بن أيوب فهو حفيد أبي زرعة بن عمرو بن جرير شيخه في هذا الحديث ولهذا يقال له الجريري، وطريقه هذه وصلها المؤلف أيضا في "الأدب المفرد" وأحمد كلاهما من طريق عبد الله هو ابن المبارك "أنبأنا يحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة" فذكره بلفظ: "أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تأمرني؟ فقال: بر أمك ثم عاد" الحديث وكذا هو في "كتاب البر والصلة لابن المبارك" ونقل المحاسبي الإجماع على أن الأم مقدمة في البر على الأب.

(10/403)


3 - باب لاَ يُجَاهِدُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ
5972- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ قَالَ ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُجَاهِدُ. قَالَ: لَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" .
قوله: "باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين" ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد. حبيب المذكور في السند هو حبيب بن أبي ثابت، وسفيان في الطريقين هو الثوري، وترجم له هناك في الجهاد بإذن الأبوين، ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد "هاجر رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم قال: أذنا لك؟ قال: لا قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما" وقوله: "ففيهما فجاهد" أي إن كان لك أبوان فابلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو.

(10/403)


4 - باب لاَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ
5973- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فيسب أمّه" .
قوله: "باب لا يسب الرجل والديه" أي ولا أحدهما، أي لا يتسبب إلى ذلك. قوله: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" سيأتي بعد باب عد العقوق في أكبر الكبائر، والمذكور هنا فرد من أفراد العقوق، وإن كان التسبب إلى لعن الوالد من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنه أشد، وترجم بلفظ السب وساقه بلفظ اللعن إشارة إلى ما وقع في بقية الحديث، وقد وقع أيضا في بعض طرقه وهو في "الأدب المفرد" من طريق عروة بن عياض سمع عبد الله بن عمرو يقول: "من الكبائر عند الله أن يسب الرجل والده" وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" من طريق سفيان الثوري ومسلم من طريق يزيد بن الهاد كلاهما عن سعد بن إبراهيم بلفظ: "من الكبائر شتم الرجل" وفي رواية المصنف "أن يشتم الرجل والديه". قوله: "قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟" هو استبعاد من السائل، لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك، فبين في الجواب أنه وإن لم يتعاط السب بنفسه في الأغلب

(10/403)


5 - باب إِجَابَةِ دُعَاءِ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ
5974- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا فَقَالَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ وَقَالَ الثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفْتَحْ الْخَاتَمَ فَقُمْتُ عَنْهَا اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيراً بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَراً وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَهْزَأْ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لاَ أَهْزَأُ بِكَ فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ" .

(10/404)


قوله: "باب إجابة دعاء من بر والديه" ذكر فيه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم فم الغار حتى ذكروا أعمالهم الصالحة ففرج عنهم، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة. وقوله في هذه الرواية: "على فم غارهم" في رواية الكشميهني: "باب" بدل "فم" وقوله: "فأطبقت" تقدم توجيهه في أواخر أحاديث الأنبياء. ووقع هنا في رواية الكشميهني: "فتطابقت". وقوله: "نأى" أي بعد، والشجر بمعجمة وجيم للأكثر وفي رواية الكشميهني بالمهملتين، والأول أولى فإن في الخبر أنه رجع بعد أن ناما ينتظر استيقاظهما إلى الصباح حتى انتبها من قبل أنفسهما، وإنما قال: "بعد بي الشجر" أي لطلب المرعى. وقوله: "فرجة يرون منها السماء" في رواية: "حتى رأوا" ووقع هنا للحموي: وقص الحديث بطوله، وساقه الباقون. وقوله: يحب الرجال النساء، في رواية الكشميهني: "الرجل" بالإفراد. وقوله: "تلك البقر" في رواية الكشميهني: "ذلك البقر" في الموضعين، والإشارة فيه إلى الجنس.

(10/405)


6 - باب عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5975- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمُسَيَّبِ عَنْ وَرَّادٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ وَمَنْعاً وَهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ
5976- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لاَ يَسْكُتُ" .
5977- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالَ قَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ" .
قوله: "باب" بالتنوين. قوله: "عقوق الوالدين من الكبائر، قاله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في رواية أبي ذر "عمر" بضم العين، وللأصيلي عمرو بفتحها، وكذا هو في بعض النسخ عن أبي ذر وهو المحفوظ، وسيأتي في كتاب الأيمان والنذور موصولا من رواية الشعبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس" ولابن عمر حديث في العاق أخرجه النسائي والبزار وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان" وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضا نحو حديث ابن عمر هذا لكن

(10/405)


قال: "الديوث" بدل "المنان" والديوث بمهملة ثم تحتانية وآخره مثلثة بوزن فروج وقع تفسيره في نفس الخبر أنه الذي يقر الخبث في أهله، والعقوق بضم العين المهملة مشتق من العق وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد، وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عبد تعارض الأمرين وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك لو تركها وفعله وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة. حديث المغيرة بن شعبة. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر، والمسيب هو ابن رافع، ووراد هو كاتب المغيرة بن شعبة، والسند كله كوفيون. ووقع التصريح بسماع منصور له من المسيب في الدعوات، وقد تقدم في الاستقراض من رواية عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور كالذي هنا، وذكر المزي في "الأطراف" أن في رواية منصور عن المسيب عند البخاري ذكر عقوق الأمهات فقط، وليس كما قال بل هو بتمامه في الموضعين، لكنه في الأصل طرف من حديث مطول سيأتي في القدر من طريق عبد الملك بن عمير. وفي الرقاق من طريق الشعبي كلاهما عن وراد أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إلي بحديث سمعته، فذكر الحديث في التهليل عقب الصلوات، قال: وكان ينهى، فذكر ما هنا، وسيأتي في الدعوات أوله فقط من رواية قتيبة عن جرير دون ما في آخره. والحاصل أنه فرقه من حديث جرير عن منصور في موضعين، ويحتمل أنه كان عند شيخه هكذا، وتقدم في الزكاة من طريق أخرى عن الشعبي مقتصرا على الذي هنا أيضا. قوله: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات" تقدم في الاستقراض الإشارة إلى حكمة اختصاص الأم بالذكر، وهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارا لعظم موقعه. والأمهات جمع أمهة وهي لمن يعقل، بخلاف لفظ الأم فإنه أعم. قوله: "ومنعا وهات" وقع في رواية غير أبي ذر وفي الاستقراض "ومنع" بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون مصدر منع يمنع، وسيأتي ما يتعلق به في الكلام على "قيل وقال" وأما هات فبكسر المثناة فعل أمر من الإيتاء قال الخليل: أصل هات آت فقلبت الألف هاء. والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا كما سيأتي بسط القول فيه قريبا، ويكون ذكره هنا مع ضده ثم أعيد تأكيدا للنهي عنه، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابا لاثنين كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه على الإثم. قوله: "ووأد البنات" بسكون الهمزة هو دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة فيهن، ويقال إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها. فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضا وهو جد الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله:

(10/406)


وجدي الذي منع الوائدا ... ت وأحيا الوئيد فلم يوأد
وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة، وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم، لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب. وكانوا في صفة الوأد على طريقين: أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا أليق بالفريق الأول. ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها، وهذا اللائق بالفريق الثاني، والله أعلم. قوله: " وكره لكم قيل وقال " في رواية الشعبي "وكان ينهى عن قيل وقال" كذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، ووقع في رواية الكشميهني هنا "قيلا وقالا" والأول أشهر، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز ولم تقع به الرواية، قال الجوهري: قيل وقال اسمان، يقال كثير القيل والقال، كذا جزم بأنهما اسمان، وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما. وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين بمعنى واحد كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، فأشار إلى ترجيح الأول. وقال المحب الطبري في قيل وقال ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما مصدران للقول، تقول قلت قولا وقيلا وقالا والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ، قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه، ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر عنها فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكي عنه. ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له. قلت: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم، وفي "شرح المشكاة" قوله: قيل وقال من قولهم قيل كذا وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوهن من الضمير، ومنه قوله: "إنما الدنيا قيل وقال" وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله: ما يعرف القال القيل لذلك. قوله: "وكثرة السؤال " تقدم في كتاب الزكاة بيان الاختلاف في المراد منه وهل هو سؤال المال، أو السؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعم من ذلك؟ وأن الأولى حمله على العموم. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يكره المسئول غالبا. وقد ثبت النهي عن الأغلوطات أخرجه أبو داود من حديث معاوية. وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ وأما ما تقدم في اللعان فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى: { لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث: "أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وثبت أيضا ذم السؤال للمال ومدح من لا يحلف فيه كقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وتقدم في الزكاة حديث: "لا تزال المسألة بالعبد حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم" وفي صحيح مسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي

(10/407)


فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو جائحة" وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله" وفي سنن أبي داود "إن كنت لا بد سائلا فاسأل الصالحين" وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز لأنه طلب مباح فأشبه العارية، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها، لكن قال النووي في "شرح مسلم": اتفق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة. قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين أصحهما التحريم لظاهر الأحاديث. والثاني: يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة: أن لا يلح ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسئول. فإن فقد شرط من ذلك حرم. وقال الفكهاني: يتعجب ممن قال بكراهة السؤال مطلقا مع وجود السؤال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلف الصالح من غير نكير، فالشارع لا يقر على مكروه. قلت: لعل من كره مطلقا أراد أنه خلاف الأولى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته ولا من تقريره أيضا، وينبغي حمل حال أولئك على السداد؛ وأن السائل منهم غالبا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة. وفي قوله: "من غير نكير" نظر ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك.
" تنبيه ": جميع ما تقدم فيما سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضا أنه يختلف باختلاف الأحوال.
قوله: "وإضاعة المال" تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه. والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه، والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشرط المذكور، والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له. قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال اهـ. وقد صرح بالمنع القاضي حسين فقال في كتاب قسم الصدقات: هو حرام، وتبعه الغزالي، وجزم به الرافعي في الكلام على المغارم، وصحح في باب الحجر من الشرح وفي المحرر أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموما لذاته، لكنه يفضي غالبا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس، وما أدى إلى المحذور فهو محذور. وقد تقدم في كتاب الزكاة البحث في جواز التصدق بجميع المال وأن ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة، وجزم الباجي من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث كضيف أو عيد أو وليمة. ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب. وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمه مالا

(10/408)


ينتفع بجزئه كالجوهرة النفيسة. وقال السبكي الكبير في "الحلبيات": الضابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرض ديني ولا دنيوي، فإن انتفيا حرم قطعا، وإن وجد أحدهما وجودا له بال وكان الإنفاق لائقا بالحال ولا معصية فيه جاز قطعا. وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط. فعلى المفتي أن يرى فيما تيسر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له؛ فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذة حسنة. وأما إنفاقه في الملاذ المباحة فهو موضع الاختلاف، فظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف. ثم قال: ومن بذل مالا كثيرا في غرض يسير تافه عده العقلاء مضيعا، بخلاف عكسه، والله أعلم. قال الطيبي: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق، وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن شاهين الواسطي، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والجريري بضم الجيم هو سعيد بن إياس، وهو ممن اختلط ولم أر من صرح بأن سماع خالد منه قبل الاختلاط ولا بعده، لكن تقدم في الشهادات من طريق بشر بن المفضل ويأتي في استتابة المرتدين من رواية إسماعيل بن علية كلاهما عن الجريري، وإسماعيل ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه، وبين في الشهادات تصريح الجريري في رواية إسماعيل عنه بتحديث عبد الرحمن بن أبي بكرة له به. قوله: "ألا أنبئكم" في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الاستئذان " ألا أخبركم". قوله: "بأكبر الكبائر ثلاثا" أي قالها ثلاث مرات على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدا لينبه السامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله: "ثلاثا" عدد الكبائر وهو بعيد، ويؤيد الأول أن أول رواية إسماعيل بن علية في استتابة المرتدين "أكبر الكبائر الإشراك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور ثلاثا" وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فقال: ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة اهـ. ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أن المراد الشرك. وقد قال الفراء: من قرأ: {كَبَائِرَ} فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ولم يرسل إليهم غير نوح، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة اهـ. قال النووي: قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول. وقال الغزالي في "البسيط" إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه. قلت: قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور. فقال في "الإرشاد": المرضي عندنا أن كل ذنب يعصى الله به كبيرة، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حق الملك لكان كبيرة، والرب أعظم من عصي، فكل ذنب

(10/409)


بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها. وظن بعض الناس أن الخلاف لفظي فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين: فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر اهـ. والتحقيق أن الخلاف معنوي، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما تقدم، والله أعلم. وقال القرطبي: ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فجعل في المنهيات صغائر وكبائر، وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن؟ قلت: ويؤيده ما سيأتي عن ابن عباس في تفسير اللمم، لكن النقل المذكور عنه أخرجه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس فالأولى أن يكون المراد بقوله: "نهى الله عنه" محمولا على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد كما قيد في الرواية الأخرى عن ابن عباس فيحمل مطلقه على مقيده جمعا بين كلاميه. وقال الطيبي: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة أو المعصية أو الثواب. فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا هو من الصغائر، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر. وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية اهـ. وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها. لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة، كأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد، فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبيرة وأكبر، والله أعلم. قال النووي: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا. قلت: وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعية الماوردي ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعا. وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال: كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة.
وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى، منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقول الحليمي: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر اهـ كلامه. وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقال ابن: عبد السلام في "القواعد": لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من

(10/410)


الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها. قلت: وهو ضابط جيد. وقال القرطبي في "المفهم": الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة، وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس، وزاد إيجاب الحد، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. فأما ما ورد النص الصريح بكونه كبيرة فسيأتي القول فيه في الكلام على حديث أبي هريرة " اجتنبوا السبع الموبقات" في كتاب استتابة المرتدين، ونذكر هناك ما ورد في الأحاديث زيادة على السبع المذكورات مما نص على كونها كبيرة أو موبقة. وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها، فقال الواحدي: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم، والله أعلم.
" فصل " قوله: "أكبر الكبائر" ليس على ظاهره من الحصر بل "من" فيه مقدرة، فقد ثبت في أشياء أخر أنها من أكبر الكبائر، منها حديث أنس في قتل النفس وسيأتي بيانه في الذي بعده، وحديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" فذكر فيه الزنا بحليلة الجار وسيأتي بعد أبواب، وحديث عبد الله بن أنيس الجهني مرفوعا قال: "من أكبر الكبائر - فذكر منها - اليمين الغموس" أخرجه الترمذي بسند حسن، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد، وحديث أبي هريرة رفعه: "إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم " أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وحديث بريدة رفعه: "من أكبر الكبائر - فذكر منها - منع فضل الماء ومنع الفحل" أخرجه البزار بسند ضعيف، وحديث ابن عمر رفعه: "أكبر الكبائر سوء الظن بالله" أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، ويقرب منه حديث أبي هريرة مرفوعا: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" الحديث وقد تقدم قريبا في كتاب اللباس، وحديث عائشة "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" أخرجه الشيخان، وتقدم قريبا حديث عبد الله بن عمرو "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه" ولكنه من جملة العقوق، قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله: "أكبر الكبائر" انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر، لكن فيه نظر، لأن من قال كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد، فكأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب؟ قال ولا يلزم من كون الذي ذكر أنه أكبر الكبائر استواؤها فإن الشرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه. قوله: "الإشراك بالله" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد به مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، لا سيما في بلاد العرب، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر. ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك وهو التعطيل فيترجح الاحتمال الأول على هذا. قوله: "وعقوق الوالدين" تقدم الكلام عليه قريبا، وذكر قبله في حديث أنس الآتي بعده قتل النفس والمراد قتلها بغير حق. قوله: "وكان متكئا فجلس" في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الشهادات "وجلس وكان متكئا" وأما في الاستئذان فكالأول. قوله: " فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت" هكذا في هذه الطريق، ووقع في رواية بشر بن المفضل " فقال ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" أي تمنيناه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك. وقال ابن دقيق العيد: اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون

(10/411)


بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا، لأن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع، وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها. قال: وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك، وإذا كان بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} . وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، قال: وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلا، والله أعلم. وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن كل شهادة زور قول زور بغير عكس، ويحتمل قول الزور على نوع خاص منه. قلت: والأولى ما قاله الشيخ، ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس الذي بعده، فدل على أن المراد شيء واحد. وقال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله. وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر. فإن الكافر شاهد بالزور وهو ضعيف، وقيل: المراد من يستحل شهادة الزور وهو بعيد، والله أعلم. قوله: "عبيد الله بن أبي بكر" أي ابن أنس بن مالك، ووقع كذلك في الشهادات من رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم عن شعبة. قوله: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر" كذا في هذه الرواية بالشك، وجزم في الرواية التي في الشهادات بالثاني قال: سئل الخ. ووقع في الديات عن عمر وهو ابن مرزوق عن شعبة عن ابن أبي بكر "سمع أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله " الحديث وكذا رويناه في "كتاب الإيمان لابن منده" وفي "كتاب القضاة للنقاش" من طريق أبي عامر العقدي عن شعبة وقد علق البخاري في الشهادات طريق أبي عامر ولم يسق لفظه، وهذا موافق لحديث أبي بكرة في أن المذكورات من أكبر الكبائر لا من الكبائر المطلقة. قوله: "فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور الخ" هذا ظاهره أنه خص أكبر الكبائر بقول الزور، ولكن الرواية التي أشرت إليها قبل تؤذن بأن الأربعة المذكورات مشتركات في ذلك. قوله: "أو قال شهادة الزور، قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور" قلت: ووقع الجزم بذلك في رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم في الشهادات، قال قتيبة "وشهادة الزور" ولم يشك. ولمسلم من رواية خالد بن الحارث عن شعبة "وقول الزور" ولم يشك أيضا. وفي هذا الحديث والذي قبله استحباب إعادة الموعظة ثلاثا لتفهم، وانزعاج الواعظ في وعظه ليكون أبلغ في الوعي عنه والزجر عن فعل ما ينهى عنه، وفيه غلظ أمر شهادة الزور لما يترتب عليها من المفاسد وإن كانت مراتبها متفاوتة، وقد تقدم بيان شيء من أحكامها في كتاب الشهادات، وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل؛ وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه "لابس ثوبي زور" ومنه تسمية الشعر الموصول زورا كما تقدم في اللباس، وتقدم بيان الاختلاف في المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وأن الراجح أن المراد به في الآية الباطل والمراد لا يحضرونه، وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك كما وعد الله عز وجل، وفيه إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه منزعجا وتمني عدم غضبه لما

(10/412)


يترتب على الغضب من تغير مزاجه، والله أعلم.

(10/413)


7 - باب صِلَةِ الْوَالِدِ الْمُشْرِكِ
5978- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: " أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آصِلُهَا قَالَ نَعَمْ" قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .
قوله: "باب صلة الوالد المشرك" ذكر فيه حديث أسماء بنت أبي بكر "أتتني أمي وهي راغبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة. حديث أسماء بنت أبي بكر "أتتني أمي وهي راغبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة، وتقدم بيان الاختلاف في قوله: "راغبة" هل هو بالميم أو الموحدة، قال الطيبي: الذي تحرر أن قولها: "راغبة" إن كان بلا قيد فالمراد راغبة في الإسلام لا غير، وإذا قرنت بقوله مشركة أو في عهد قريش فالمراد راغبة في صلتي، وإن كانت الرواية: "راغمة" بالميم فمعناه كارهة للإسلام. قلت: أما التي بالموحدة فيتعين حمل المطلق فيه على المقيد فإنه حديث واحد في قصة واحدة، ويتعين القيد من جهة أخرى، وهي أنها لو جاءت راغبة في الإسلام لم تحتج أسماء أن تستأذن في صلتها لشيوع التألف على الإسلام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فلا يحتاج إلى استئذانه في ذلك.

(10/413)


8 - باب صِلَةِ الْمَرْأَةِ أُمَّهَا وَلَهَا زَوْجٌ
5979- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَ: "قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِهَا فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ".
5980- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ".
قوله: "باب صلة المرأة أمها ولها زوج" ذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث أبي سفيان في قصة هرقل، أورد منها طرفا وهو قول أبي سفيان "يأمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة" وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الصحيح، وذكرت كثيرا من فوائده أيضا في تفسير آل عمران، والمراد منه هنا ذكر الصلة فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها. الثاني: حديث أسماء بنت أبي بكر المشار إليه في الباب قبله أورده معلقا فقال: "وقال الليث حدثني هشام" وهو ابن عروة، وقد وقع لنا موصولا في "مستخرج أبي نعيم" إلى الليث، ووقع لنا بعلو في "جزء أبي الجهم العلاء بن موسى" عن الليث. قال ابن بطال: فقه الترجمة من حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، قال: وفيه حجة لمن أجاز للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها

(10/413)


9 - باب صِلَةِ الأَخِ الْمُشْرِكِ
5981- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ رَأَى عُمَرُ حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ وَالْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوُفُودُ قَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ فَقَالَ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ".
قوله: "باب صلة الأخ المشرك" ذكر فيه حديث ابن عمر "رأى عمر حلة سيراء تباع" الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس. وقوله فيه: "ولكن تبيعها" وقع في رواية الكشميهني: "لتبيعها".

(10/414)


10 - باب فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ
5982- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ". ح
5983- وحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ الْقَوْمُ مَا لَهُ مَا لَهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَبٌ مَا لَهُ" . فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا قَالَ كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ" .
قوله: "باب فضل صلة الرحم" بفتح الراء وكسر الحاء المهملة، يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا. وقيل: هم المحارم فقط، والأول هو المرجح لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك. حديث أبي أيوب الأنصاري "قال قيل: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة" أورده من وجهين، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "أرب ماله" وفيه: "تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم " وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة.

(10/414)


11 - باب إِثْمِ الْقَاطِعِ
5984- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ" .
قوله: "باب إثم القاطع" أي قاطع الرحم. قوله: "لا يدخل الجنة قاطع" كذا أورده من طريق عقيل: وكذا عند مسلم من رواية مالك ومعمر كلهم عن الزهري؛ وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح عن الليث وقال فيه: "قاطع رحم" وأخرجه مسلم والترمذي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري كرواية مالك، قال سفيان: يعني قاطع رحم. وذكر ابن بطال أن بعض أصحاب سفيان رواه عنه كرواية عبد الله بن صالح فأدرج التفسير، وقد ورد بهذا اللفظ من طريق الأعمش عن عطية عن أبي سعيد أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" ومن طريق أبي حريز بمهملة وراء ثم زاي بوزن عظيم واسمه عبد الله بن الحسين قاضي سجستان عن أبي بردة عن أبي موسى رفعه: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدق بسحر، ولا قاطع رحم" أخرجه ابن حبان والحاكم. ولأبي داود من حديث أبي بكرة رفعه: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وللمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة رفعه: "إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم " وللطبراني من حديث ابن مسعود "إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم" وللمصنف في "الأدب المفرد" من حديث ابن أبي أوفى رفعه: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم" وذكر الطيبي أنه يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر وأنه يحبس عن الناس عموما بشؤم التقاطع.

(10/415)


12 - باب مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ
5985- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" .
5986- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في رجاء فليصل رحمه".
قوله: "باب من بسط له في الرزق لصلة الرحم" أي لأجل صلة رحمه. قوله: "محمد بن معن" أي ابن محمد بن معن بن نضلة بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة ابن عمرو، ولنضلة جده الأعلى صحبة، وهو قليل الحديث موثق ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا أبوه لكن له موضع آخر أو موضعان. قوله: "سعيد هو ابن أبي سعيد" المقبري. قوله: "من سره أن يبسط له في رزقه" في حديث أنس "من أحب" وللترمذي وحسنه من وجه آخر عن أبي هريرة "إن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر" وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا: "صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الإعمار" وأخرج

(10/415)


عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" والبزار وصححه الحاكم من حديث علي نحو حديثي الباب قال: "ويدفع عنه ميتة السوء" ولأبي يعلى من حديث أنس رفعه: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء" فجمع الأمرين، لكن سنده ضعيف. وأخرج المؤلف في "الأدب المفرد" من حديث ابن عمر بلفظ: "من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره، وثري ماله، وأحبه أهله". قوله: "وينسأ" بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر. قوله: "في أثره" أي في أجله، وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر، قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر، قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} والجمع بينهما من وجهين: أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في النمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غيره ذلك. ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت. ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح.
وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة. ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق. والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور. وقال الطيبي: الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب "الفائق" قال: ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم. ولما أنشد أبو تمام قوله في بعض المراثي:
توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر
قال له أبو دلف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر. ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} وقد ورد في تفسيره وجه ثالث، فأخرج الطبراني في "الصغير" بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: "ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسيء له في أجله، فقال: إنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الآية، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده". وله في "الكبير" من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه: "إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة" الحديث. وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله. وقال غيره في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك.

(10/416)


13 - باب مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ
5987- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمِّي سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} .
5988- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ" .
5989- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ" .
قوله: "باب من وصل وصله الله" أي من وصل رحمه. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ومعاوية هو ابن أبي مزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء بعدها مهملة، تقدم ضبطه وتسميته في أول الزكاة، ولمعاوية بن أبي مزرد في هذا الباب حديث آخر وهو ثالث أحاديث الباب من طريق عائشة. قوله: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ" تقدم تأويل فرغ في تفسير القتال، قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالخلق جميع المخلوقات، ويحتمل أن يكون المراد به المكلفين. وهذا القول يحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض وإبرازها في الوجود، ويحتمل أن يكون بعد خلقها كتبا في اللوح المحفوظ ولم يبرز بعد إلا اللوح والقلم، ويحتمل أن يكون بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} لما أخرجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر. قوله: "قامت الرحم فقالت " قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون بلسان الحال ويحتمل أن يكون بلسان المقال قولان مشهوران، والثاني أرجح. وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي أو بخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا؟ قولان أيضا مشهوران، والأول أرجح لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء. قلت: وقد تقدم في تفسير القتال حمل عياض له على المجاز، وأنه من باب ضرب المثل، وقوله أيضا يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكا يتكلم على لسان الرحم، وتقدم أيضا ما يتعلق بزيادة في هذا الحديث من وجه آخر عن معاوية بن أبي مزرد وهي قوله: "فأخذت بحقو الرحمن " ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني "إن الرحم أخذت بحجزة الرحمن" وحكى

(10/417)


شيخنا في "شرح الترمذي" أن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش، وأيد ذلك بما أخرجه مسلم من حديث عائشة "إن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش" وتقدم أيضا ما يتعلق بقوله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة" في تفسير القتال، ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ: "هذا مكان" بدل "مقام" وهو تفسير المراد أخرجه النسائي. قوله: "أصل من وصلك وأقطع من قطعك" في ثاني أحاديث الباب من وجه آخر عن أبي هريرة "من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته" قال ابن أبي جمرة: الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبة الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده. قال: وكذا القول في القطع، هو كناية عن حرمان الإحسان. وقال القرطبي: وسواء قلنا إنه يعني القول المنسوب إلى الرحم على سبيل المجاز أو الحقيقة أو إنه على جهة التقدير والتمثيل كأن يكون المعنى: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، ومثله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً} الآية، وفي آخرها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار" أخرجه مسلم. قوله: "حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثنا عبد الله بن دينار" لسليمان في هذا المعنى ثلاثة أحاديث: أحدها: هذا، والآخر: الحديث الذي قبله - وقد سبق من طريقه في تفسير القتال ويأتي في التوحيد. قوله: "الرحم شجنة" بكسر المعجمة وسكون الجيم بعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة. وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: "الحديث ذو شجون" أي يدخل بعضه في بعض. وقوله: "من الرحمن" أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا: "أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي" والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله. وقال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله تعالى الله عن ذلك. قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة. وأما الرحم الخاصة فتزيد للنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم. وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في الحديث الأول من كتاب الأدب "الأقرب فالأقرب" وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى. قوله: "فقال الله" زاد الإسماعيلي في روايته: "لها" وهذه الفاء عاطفة على شيء محذوف، وأحسن ما يقدر له ما في الحديث الذي قبله " فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله الخ". حديث عائشة، وهو

(10/418)


بلفظ حديث أبي هريرة الذي قبله إلا أنه بلفظ الغيبة. وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم، وأن صلتها مندوب مرغب فيه وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه. واستدل به على أن الأسماء توقيفية، وعلى رجحان القول الصائر إلى أن المراد بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أسماء جميع الأشياء سواء كانت من الذوات أو من الصفات، والله أعلم.

(10/419)


14 - باب تُبَلُّ الرَّحِمُ بِبَلاَلِهَا
5990- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَاراً غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: "إِنَّ آلَ أَبِي -قَالَ عَمْرٌو فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ- لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ" زَادَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَهَا" يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بِبَلاَهَا كَذَا وَقَعَ وَبِبَلاَلِهَا أَجْوَدُ وَأَصَحُّ وَبِبَلاَهَا لاَ أَعْرِفُ لَهُ وَجْهاً".
قوله: "باب" هو بالتنوين "تبل الرحم ببلالها" بضم أوله بالمثناة، ويجوز بفتح أوله بالتحتانية، والمراد المكلف. قوله: "حدثني" لغير أبي ذر "حدثنا" وعمرو بن عباس بالموحدة والمهملة هو أبو عثمان الباهلي البصري ويقال له الأهوازي، أصله من إحداهما وسكن الأخرى، وهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وانفرد به عن الستة. وحديث الباب قد حدث به أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من شيوخ البخاري عن ابن مهدي، لكن ناسب تخريجه عنه كون صحابيه سميه وهو عمرو بن العاص، ومحمد بن جعفر شيخه هو غندر وهو بصري، ولم أر الحديث المذكور عند أحمد من أصحاب شعبة إلا عنده، إلا ما أخرجه الإسماعيلي من رواية وهب بن حفص عن عبد الملك بن إبراهيم الجعدي عن شعبة، ووهب بن حفص كذبوه. قوله: "أن عمرو بن العاص قال" عند مسلم عن أحمد وعند الإسماعيلي عن يحيى بن معين كلاهما عن غندر بلفظ: "عن عمرو بن العاص" ووقع في رواية بيان بن بشر عن قيس "سمعت عمرو بن العاص" وستأتي الإشارة إليها في الكلام على الطريق المعلقة، وليس لقيس بن أبي حازم في الصحيحين عن عمرو بن العاص غير هذا الحديث، ولعمرو في الصحيحين حديثان آخران حديث: "أي الرجال أحب إليك" وقد مضى في المناقب، وحديث: "إذا اجتهد الحاكم" وسيأتي في الاعتصام، وله آخر معلق عند البخاري مضى في المبعث النبوي، وآخر مضى في التيمم، وعند مسلم حديث آخر في السحور، وهذا جميع ما له عندهما من الأحاديث المرفوعة. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا" يحتمل أن يتعلق بالمفعول أي كان المسموع في حالة الجهر، ويحتمل أن يتعلق بالفاعل أي أقول ذلك جهارا، وقوله: "غير سر" تأكيد لذلك لدفع توهم أنه جهر به مرة وأخفاه أخرى، والمراد أنه لم يقل ذلك خفية بل جهر به وأشاعه. قوله: "إن آل أبي" كذا للأكثر بحذف ما يضاف إلى أداة الكنية، وأثبته المستملي في روايته لكن كنى عنه فقال: "آل أبي فلان" وكذا هو في روايتي مسلم والإسماعيلي، وذكر القرطبي أنه وقع في أصل مسلم موضع " فلان" بياض ثم كتب بعض الناس فيه: "فلان" على سبيل الإصلاح، وفلان كناية عن اسم علم، ولهذا وقع لبعض رواته "إن آل أبي يعني فلان" ولبعضهم

(10/419)


"إن آل أبي فلان" بالجزم. قوله: "قال عمرو" هو ابن عباس شيخ البخاري فيه. قوله: "في كتاب محمد بن جعفر" أي غندر شيخ عمرو فيه. قوله: "بياض" قال عبد الحق في كتاب "الجمع بين الصحيحين": إن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع، أي وقع في كتاب محمد بن جعفر موضع أبيض يعني بغير كتابة، وفهم منه بعضهم أنه الاسم المكني عنه في الرواية فقرأه بالجر على أنه في كتاب محمد بن جعفر إن آل أبي بياض، وهو فهم سيء ممن فهمه لأنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال لها آل أبي بياض، فضلا عن قريش، وسياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قريش، بل فيه إشعار بأنهم أخص من ذلك لقوله: "إن لهم رحما" وأبعد من حمله على بني بياضة وهم بطن من الأنصار لما فيه من التغيير أو الترخيم على رأي، ولا يناسب السياق أيضا. وقال ابن التين: حذفت التسمية لئلا يتأذى بذلك المسلمون من أبنائهم. وقال النووي: هذه الكناية من بعض الرواة، خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه، وإما في حق غيره، وإما معا. وقال عياض: إن المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص. وقال ابن دقيق العيد: كذا وقع مبهما في السياق، وحمله بعضهم على بني أمية ولا يستقيم مع قوله آل أبي، فلو كان آل بني لأمكن، ولا يصح تقدير آل أبي العاص لأنهم أخص من بني أمية والعام لا يفسر بالخاص. قلت: لعل مراد القائل أنه أطلق العام وأراد الخاص، وقد وقع في رواية وهب بن حفص التي أشرت إليها "أن آل بني" لكن وهب لا يعتمد عليه، وجزم الدمياطي في حواشيه بأنه آل أبي العاص بن أمية، ثم قال ابن دقيق العيد: إنه رأى في كلام ابن العربي في هذا شيئا يراجع منه. قلت: قال أبو بكر بن العربي في "سراج المريدين": كان في أصل حديث عمرو بن العاص "أن آل أبي طالب" فغير "آل أبي فلان" كذا جزم به، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب، ولم يصب هذا المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في "مستخرج أبي نعيم" من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص رفعه: "إن لبني أبي طالب رحما أبلها ببلاها" وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا لكن أبهم لفظ طالب، وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب؛ وليس كما توهموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى. قوله: "ليسوا بأوليائي" كذا للأكثر وفي نسخة من رواية أبي ذر "بأولياء" فنقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم، أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع. وقال الخطابي: الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح ابن التين الأول وهو الراجح، فإن من جملة آل أبي طالب عليا وجعفر أو هما من أخص الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين، وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته، قلت: أما قيس بن أبي حازم فقال يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد حتى قال ابن معين: هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير، وأجاب من أطراه بأنها غرائب وإفراده لا يقدح فيه. ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال: كان يحمل على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين، وأجاب من أطراه بأنه كان يقدم عثمان على علي. قلت: والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية، وهو من كبار

(10/420)


التابعين، سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه، وقد روي عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما كوفيان ولم ينسبا إلى، النصب، لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب، وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يتهم، وللحديث محل صحيح لا يستلزم نقصا في مؤمني آل أبي طالب، وهو أن المراد بالنفي المجموع كما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه وهو إطلاق سائغ كقوله في أبي موسى: " إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داود" وقوله صلى الله عليه وسلم "آل أبي أوفى" وخصه بالذكر مبالغة في الانتفاء ممن لم يسلم لكونه عمه وشقيق أبيه وكان القيم بأمره ونصره وحمايته، ومع ذلك فلما لم يتابعه على دينه انتفى من موالاته. قوله: "إنما وليي الله وصالح المؤمنين" كذا للأكثر بالإفراد وإرادة الجملة، وهو اسم جنس، ووقع في رواية البرقاني "وصالحو المؤمنين" بصيغة الجمع، وقد أجاز بعض المفسرين أن الآية التي في التحريم كانت في الأصل {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ} لكن حذقت الواو من الخط على وفق النطق، وهو مثل قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وقال النووي: معنى الحديث أن ولي من كان صالحا وإن بعد مني نسبه، وليس وليي من كان غير صالح وإن قرب مني نسبه. وقال القرطبي: فائدة الحديث انقطاع الولاية في الدين بين المسلم والكافر ولو كان قريبا حميما. وقال ابن بطال: أوجب في هذا الحديث الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه إن لم يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك على أن النسب يحتاج إلى الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين، وأن الأقارب إذا لم يكونوا على دين واحد لم يكن بينهم توارث ولا ولاية، قال: ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها والمتوعد على قطعها هي التي شرع لها ذلك، فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثنى من ذلك، ولا يلحق بالوعيد من قطعه لأنه قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلا، كما دعا صلى الله عليه وسلم لقريش بعد أن كانوا كذبوه فدعا عليهم بالقحط ثم استشفعوا به فرق لهم لما سألوه برحمهم فرحمهم ودعا لهم. قلت: ويتعقب كلامه في موضعين: أحدهما: يشاركه فيه كلام غيره وهو قصره النفي على من ليس على الدين، وظاهر الحديث أن من كان غير صالح في أعمال الدين دخل في النفي أيضا لتقييده الولاية بقوله: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ، والثاني: أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا أيس منه رجوعا عن الكفر، أو رجى أن يخرج من صلبه مسلم، كما في الصورة التي استدل بها وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بالخصب وعلل بنحو ذلك، فيحتاج من يترخص في صلة رحمه الكافر أن يقصد إلى شيء من ذلك، وأما من كان على الدين ولكنه مقصر في الأعمال مثلا فلا يشارك الكافر في ذلك. وقد وقع في "شرح المشكاة": المعنى أني لا أوالي أحدا بالقرابة، وإنما أحب الله تعالى لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالح المؤمنين لوجه الله تعالى، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح سواء كان من ذوي رحم أو لا، ولكن أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم، انتهى. وهو كلام منقح. وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} على أقوال: أحدها: الأنبياء أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة وأخرجه الطبري، وذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد. الثاني: الصحابة أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، ونحوه في تفسير الكلبي قال: هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأشباههم ممن ليس بمنافق. الثالث: خيار المؤمنين أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك. الرابع: أبو بكر وعمر وعثمان أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري. الخامس: أبو بكر وعمر

(10/421)


أخرجه الطبري وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وسنده ضعيف، وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وكذا هو في تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر ضعيف عنه كذلك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير وعبد الله بن بريدة ومقاتل بن حيان كذلك. السادس: أبو بكر خاصة ذكره القرطبي عن المسيب بن شريك. السابع: عمر خاصة أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس. الثامن: علي أخرجه ابن أبي حاتم بسند منقطع عن علي نفسه مرفوعا، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد قال: هو علي، وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين من حديث أسماء بنت عميس مرفوعا قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صالح المؤمنين علي بن أبي طالب" ومن طريق أبي مالك عن ابن عباس مثله موقوفا وفي سنده راو ضعيف، وذكره النقاش عن ابن عباس ومحمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق. قلت: فإن ثبت هذا فقيه دفع توهم من توهم أن في الحديث المرفوع نقصا من قدر علي رضي الله عنه ويكون المنفي أبا طالب ومن مات من آله كافرا، والمثبت من كان منهم مؤمنا، وخص علي بالذكر لكونه رأسهم، وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية المذكورة ونص فيها على علي تنويها بقدره ودفعا لظن من يتوهم عليه في الحديث المذكور غضاضة، ولو تفطن من كنى عن أبي طالب لذلك لاستغنى عما صنع، والله أعلم. قوله: "وزاد عنبسة بن عبد الواحد" أي ابن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة بمهملتين مصغرا وهو سعيد بن العاص بن أمية؛ وهو موثوق عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في كتاب البر والصلة فقال: "حدثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة حدثنا جدي" فذكره وأخرجه الإسماعيلي من رواية نهد بن سليمان عن محمد بن عبد الواحد المذكور وساقه بلفظ: "سمعت عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي جهرا غير سر: إن بني أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله والذين آمنوا، ولكن لهم رحم" الحديث وقد قدمت لفظ رواية الفضل بن الموفق عن عنبسة من عند أبي نعيم وأنها أخص من هذا. قوله: "ولكن لها رحم أبلها ببلالها، يعني أصلها بصلتها" كذا لهم، لكن سقط التفسير من رواية النسفي، ووقع عند أبي ذر بعده "أبلها ببلائها" وبعده في الأصل: كذا وقع، وببلالها أجود وأصح. وببلاها لا أعرف له وجها، انتهى. وأظنه من قوله: "كذا وقع الخ" من كلام أبي ذر، وقد وجه الداودي فيما نقله ابن التين هذه الرواية على تقدير ثبوتها بأن المراد ما أوصله إليها من الأذى على تركهم الإسلام، وتعقبه ابن التين بأنه لا يقال في الأذى أبله، ووجهها بعضهم بأن البلاء بالمد يجيء بمعنى المعروف والإنعام، ولما كان الرحم مما يستحق المعروف أضيف إليها ذلك. فكأنه قال: أصلها بالمعروف اللائق بها. والتحقيق أن الرواية إنما هي "ببلالها" مشتق من أبلها، قال النووي: ضبطنا قوله: "ببلالها" بفتح الموحدة وبكسرها وهما وجهان مشهوران. وقال عياض: رويناه بالكسر، ورأيته للخطابي بالفتح. وقال ابن التين: هو بالفتح للأكثر ولبعضهم بالكسر. قلت: بالكسر أوجه، فإنه من البلال جمع بلل مثل جمل وجمال، ومن قاله بالفتح بناه على الكسر مثل قطام وحذام. والبلال بمعنى البلل وهو النداوة، وأطلق ذلك على الصلة كما أطلق اليبس على القطيعة، لأن النداوة من شأنها تجميع ما يحصل فيها وتأليفه، بخلاف اليبس فمن شأنه التفريق. وقال الخطابي وغيره: بللت الرحم بلا وبللا وبلالا أي نديتها بالصلة. وقد أطلقوا على الإعطاء الندى وقالوا في البخيل ما تندى كفه

(10/422)


بخير، فشبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بالماء الذي يطفئ ببرده الحرارة، ومنه الحديث: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام" وقال الطيبي وغيره: شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حتى سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت منفعتها فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء، ومنه قولهم سنة جماد أي لا مطر فيها، وناقة جماد أي لا لبن فيها. وجوز الخطابي أن يكون معنى قوله: "أبلها ببلالها" في الآخرة أي أشفع لها يوم القيامة. وتعقبه الداودي بأن سياق الحديث يؤذن بأن المراد ما يصلهم به في الدنيا، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا، فعم وخص - إلى أن قال - يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" وأصله عند البخاري بدون هذه الزيادة. وقال الطيبي: في قوله: "ببلالها" مبالغة بديعة وهي مثل قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي زلزالها الشديد الذي لا شيء فوقه، فالمعنى أبلها بما اشتهر وشاع بحيث لا أترك منه شيئا.

(10/423)


باب ليس الواصل بالمكافىء
...
15 - باب لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ
5991- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو وَفِطْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سُفْيَانُ لَمْ يَرْفَعْهُ الأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا" .
قوله: "باب ليس الواصل بالمكافئ" التعريف فيه للجنس. قوله: "سفيان" هو الثوري؛ والحسن بن عمرو الفقيمي بفاء وقاف مصغر، وفطر بكسر الفاء وسكون المهملة ثم راء هو ابن خليفة. قوله: "عن مجاهد" أي الثلاثة عن مجاهد، وعبد الله بن عمرو هو ابن العاص، وقوله: "قال سفيان" هو الراوي، وهو موصول بهذا الإسناد. وقوله: "لم يرفعه الأعمش ورفعه حسن وفطر" هذا هو المحفوظ عن الثوري، وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري عن الحسن بن عمرو وحده مرفوعا من رواية مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن الحسن بن عمرو موقوفا وعن الأعمش مرفوعا، وتابعه أبو قرة موسى بن طارق عن الثوري على رفع رواية الأعمش، وخالفه عبد الرزاق عن الثوري فرفع رواية الحسن بن عمرو وهو المعتمد، ولم يختلفوا في أن رواية فطر بن خليفة مرفوعة. وقد أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن فطر وبشير بن إسماعيل كلاهما عن مجاهد مرفوعا، وأخرجه أحمد عن جماعة من شيوخه عن فطر مرفوعا وزاد في أول الحديث: "إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ" الحديث. قوله: "ليس الواصل بالمكافئ" أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفا " ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك". قوله: "ولكن" قال الطيبي الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف. قوله: " الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " أي الذي إذا منع أعطى، و"قطعت" ضبطت في بعض الروايات بضم أوله وكسر ثانيه على الباء للمجهول، وفي أكثرها بفتحتين، قال الطيبي: المعنى، ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" المراد

(10/423)


بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل "ليس الشديد بالصرعة، وليس الغنى عن كثرة العرض" انتهى. وأقول: لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك يقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا، والله أعلم.

(10/424)


16 - باب مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ
5992- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُوراً كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ قَالَ حَكِيمٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ" وَيُقَالُ أَيْضاً عَنْ أَبِي الْيَمَانِ أَتَحَنَّثُ". وَقَالَ مَعْمَرٌ وَصَالِحٌ وَابْنُ الْمُسَافِرِ "أَتَحَنَّثُ" وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: التَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ وَتَابَعَهُمْ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ.
قوله: "باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم" أي هل يكون له في ذلك ثواب؟ وإنما لم يجزم بالحكم لوجود الاختلاف في ذلك. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل كتاب الزكاة، وتقدم البحث في ذلك في كتاب الإيمان في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه" . قوله: "هل كان لي فيها من أجر؟" وهو تفسير رواية يونس بن يزيد عند مسلم: "هل لي فيها من شيء؟" ووقع في رواية صالح بن كيسان "أفيها أجر؟" وفي رواية ابن مسافر "هل لي فيها من أجر؟". قوله: "ويقال أيضا عن أبي اليمان أتحنت" كذا لأبي ذر، ووقع في رواية غيره: "وقال أيضا" وعلى هذا فهو من كلام البخاري وفاعل "قال" هو البخاري. قوله: "عن أبي اليمان أتحنت" يعني بالمثناة بدل المثلثة، يشير إلى ما أورده هو في "باب شراء المملوك من الحربي" في كتاب البيوع عن أبى اليمان بلفظ كنت أتحنت أو أتحنث بالشك، وكأنه سمعه منه بالوجهين؛ وتقدم في كتاب الزكاة ما صوبه عياض من ذلك. وقال ابن التين: "أتحنت" بالمثناة لا أعلم له وجها انتهى. ووقع عند الإسماعيلي: "أتجنب" بجيم وآخره موحدة فقال: قال البخاري "يقال أتجنب" قال الإسماعيلي: والتجنب تصحيف وإنما هو التحنث مأخوذ من الحنث وهو الإثم، فكأنه قال أتوقى ما يؤثم. قلت؛ وبهذا التأويل تقوى رواية: "أتجنب" بالجيم والموحدة ويكون التردد في اللفظتين وهما "أتحنث" بمهملة ومثلثة "وأتجنب" بجيم وموحدة والمعنى واحد، وهو توقي ما يوقع في الإثم، لكن ليس المراد توقي الإثم بل أعلى منه وهو تحصيل البر. قوله: "وقال معمر وصالح وابن المسافر أتحنث" يعني بالمثلثة، أما رواية معمر فوصلها المؤلف في الزكاة، وهي في "باب فمن تصدق في الشرك ثم أسلم" وعزاها المزي في "الأطراف" للصلاة، ولم أرها فيها، وأما رواية صالح وهو ابن كيسان فأخرجها مسلم، وأما رواية ابن المسافر فكذا وقع هنا بالألف واللام والمشهور فيه بحذفهما، وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر

(10/424)


الفهمي المصري أمير مصر، فوصلها الطبراني في "الأوسط" من طريق الليث بن سعد عنه. قوله: "وقال ابن إسحاق التحنث التبرر" هكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية فقال: "حدثني وهب بن كيسان قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبيد بن عمير: حدثنا كيف كان بدء النبوة؟ قال فقال عبيد وأنا حاضر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية، والتحنث التبرر" وقد تقدم التنبيه على ذلك في بدء الوحي في حديث عائشة في هذا المعنى: فكان يتحنث، وهو التعبد. ومضى التنبيه على ذلك في أول الكتاب. قوله: "وتابعه هشام بن عروة عن أبيه" في رواية الكشميهني: "وتابعهم" بصيغة الجمع، والأول أرجح فإن المراد بهذه المتابعة خصوص تفسير التحنث بالتبرر، ورواية هشام وصلها المؤلف في العتق من طريق أبي أسامة عنه ولفظه أن حكيم بن حزام قال، فذكر الحديث وفيه: "كنت أتحنث بها يعني أتبرر".

(10/425)


17 - باب مَنْ تَرَكَ صَبِيَّةَ غَيْرِهِ حَتَّى تَلْعَبَ بِهِ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ مَازَحَهَا
5993- حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دَعْهَا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا".
قوله: "باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به" أي ببعض جسده. قوله: "أو قبلها أو مازحها" قال ابن التين: ليس في الخبر المذكور في الباب للتقبيل ذكر، فيحتمل أن يكون لما لم ينهها عن مس جسده صار كالتقبيل، وإلى ذلك أشار ابن بطال، والذي يظهر لي أن ذكر المزح بعد التقبيل من العام بعد الخاص؛ وأن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك. وحديث الباب عن أم خالد بنت خالد بن سعيد تقدم شرحه في "باب الخميصة السوداء" من كتاب اللباس، وعبد الله في هذا السند هو ابن المبارك، وخالد بن سعيد المذكور في السند تقدم بيان نسبه في كتاب الجهاد. قوله: "فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي" أي نهرني، والزبر بزاي وموحدة ساكنة هو الزجر والمنع وزنه ومعناه. قوله: "أبلي وأخلقي" تقدم ضبطه والاختلاف فيه. قوله: "ثم أبلي وأخلقي" قال الداودي يستفاد منه مجيء "ثم" للمقارنة، وأبي ذلك بعض النحاة فقالوا لا تأتي إلا للتراخي، كذا قال، وتعقبه ابن التين بأن قال ما علمت أن أحدا قال إن ثم للمقارنة، وإنما هي للترتيب بالمهلة وقال وليس في الحديث ما ادعاه من المقارنة لأن الإبلاء يقع بعد الخلق أو الخلف. قلت: لعل الداودي أراد بالمقارنة المعاقبة فيتجه كلامه بعض اتجاه. قوله: "قال عبد الله" هو ابن المبارك وهو متصل بالإسناد المذكور. قوله: "فبقي" أي الثوب المذكور، كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "فبقيت" والمراد أم خالد. قوله: "حتى ذكر" كذا للأكثر بذال معجمة ثم كاف خفيفة مفتوحتين ثم راء وفيه اكتفاء، والتقدير ذكر الراوي زمنا طويلا. وقال الكرماني: المعنى صار شيئا مذكورا عند الناس بخروج بقائه عن العادة. قلت: وكأنه قرأه "ذكر" بضم أوله

(10/425)


لكن لم يقع عندنا في الرواية إلا بالفتح، ووقع في رواية أبي علي بن السكن "حتى ذكر دهرا" وهو يؤيد ما قدمته. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "حتى دكن" بدال مهملة وكاف مكسورة ثم نون أي صار أدكن أي أسود، قال أهل اللغة، الدكن لون يضرب إلى السواد، وقد دكن الثوب بالكسر يدكن بفتح الكاف وبضمها مع الفتح، وقد جزم جماعة بأن رواية الكشميهني تصحيف. قوله: "يعني من بقائها" كذا للأصيلي والضمير للخميصة أو لأم خالد بحسب التوجيهين المتقدمين.

(10/426)


باب رحمة الولد وتقبله ومعانقته
...
18- باب رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ
5994- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: "كُنْتُ شَاهِداً لِابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ. فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا" .
5995- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: "جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئاً فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنْ النَّارِ" .
5996- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا".
5997- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ" .
5998- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ" .
5999- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ

(10/426)


وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" .
قوله: "باب رحمة الولد وقبلته ومعانقته" قال ابن بطال: يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة، وتقدم في مناقب فاطمة عليها السلام أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها، وكذا كان أبو بكر يقبل ابنته عائشة. قوله: "وقال ثابت عن أنس: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه" سقط هذا التعليق لأبي ذر عن غبر الكشميهني، وقد وصله المؤلف في الجنائز من طريق قريش بن حبان عن ثابت في حديث طويل. وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية. حديث ابن عمر. قوله: "مهدي" هو ابن ميمون، وثبت ذلك في رواية أبي ذر. قوله: "ابن أبي يعقوب" هو محمد بن عبد الله الضبي البصري، وابن أبي نعم بضم النون وسكون المهملة هو عبد الرحمن، واسم أبيه لا يعرف، والسند كله إلى عبد الرحمن هذا بصريون، وهو كوفي عابد اتفقوا على توثيقه، وشذ ابن أبي خيثمة فحكى عن ابن معين أنه ضعفه. قوله: "كنت شاهدا لابن عمر" أي حاضرا عنده. قوله: "وسأله رجل" الجملة حالية، واسم الرجل السائل ما عرفته. قوله: "عن دم البعوض" تقدم في المناقب بلفظ: "الذباب" بضم المعجمة وموحدتين. قال الكرماني لعله سأل عنهما معا. قلت: أو أطلق الراوي الذباب على البعوض لقرب شبهه منه وإن كان في البعوض معنى زائد، قال الجاحظ: العرب تطلق على النحل والدبر وما أشبهه ذلك ذبابا. قوله: "وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني الحسين بن علي. قوله: "وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" هي جملة حالية. قوله: "ريحانتاي" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن المستملي والحموي "ريحاني" بكسر النون والتخفيف على الإفراد وكذا عند النسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني: "ريحانتي" بزيادة تاء التأنيث، قال ابن التين: وهو وهم والصواب "ريحانتاي". قلت: كأنه قرأه بفتح المثناة وتشديد الياء الأخيرة على التثنية فجعله وهما، ويجوز أن يكون بكسر المثناة والتخفيف فلا يكون وهما، والمراد بالريحان هنا الرزق قاله ابن التين. وقال صاحب "الفائق": أي هما من رزق الله الذي رزقنيه، يقال سبحان الله وريحانه أي أسبح الله وأسترزقه، ويجوز أن يريد بالريحان المشموم يقال حباني بطاقة ريحان، والمعنى أنهما مما أكرمني الله وحباني به، لأن الأولاد يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين. وقوله: "من الدنيا" أي نصيبي من الريحان الدنيوي. وقال ابن بطال يؤخذ من الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه لإنكار ابن عمر على من سأله عن دم البعوض مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها بالإعانة على قتل الحسين فوبخه بذلك، وإنما خصه بالذكر لعظم قدر الحسين ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. والذي يظهر أن ابن عمر لم يقصد ذلك الرجل بعينه بل أراد التنبيه على جفاء أهل العراق وغلبة الجهل عليهم بالنسبة لأهل الحجاز، ولا مانع أن يكون بعد ذلك أفتى السائل عن خصوص ما سأل عنه لأنه لا يحل له كتمان العلم إلا إن حمل على أن السائل كان متعنتا. ويؤيد ما قلته أنه ليس في القصة ما يدل على أن السائل المذكور كان ممن أعان على قتل الحسين، فإن ثبت ذلك فالقول ما قال ابن بطال والله أعلم. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، ومضى في الزكاة من رواية ابن المبارك عن معمر "عبد الله بن أبي بكر بن حزم" فنسب أباه لجد أبيه وإدخال الزهري بينه وبين عروة رجلا مما يؤذن بأنه قليل التدليس، وقد أخرجه الترمذي مختصرا من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن معمر بإسقاط عبد الله بن أبي بكر من السند، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون الزهري سمعه من عروة مختصرا

(10/427)


وسمعه عنه مطولا وإلا فالقول ما قال ابن المبارك. قوله: "جاءتني امرأة ومعها بنتان" لم أقف على أسمائهن، وسقطت الواو لغير أبي ذر من قوله: "ومعها" وكذا هو في رواية ابن المبارك. قوله: "فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها" زاد معمر "ولم تأكل منها شيئا". قوله: "ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته" هكذا في رواية عروة. ووقع في رواية عراك بن مالك عن عائشة "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهن تمرة، ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها، فأعجبني شأنها" الحديث أخرجه مسلم. وللطبراني من حديث الحسن بن علي نحوه، ويمكن الجمع بأن مرادها بقوله في حديث عروة فلم تجد عندي غير تمرة واحدة أي أخصها بها، ويحتمل أنها لم يكن عندها في أول الحال سوى واحدة فأعطتها ثم وجدت ثنتين، ويحتمل تعدد القصة. قوله: "من يلي من هذه البنات شيئا" كذا للأكثر بتحتانية مفتوحة أوله من الولاية، وللكشميهني بموحدة مضمومة من البلاء. وفي رواية الكشميهني أيضا: "بشيء" وقواه عياض وأيده برواية شعيب بلفظ: "من ابتلي" وكذا وقع في رواية معمر عند الترمذي، واختلف في المراد بالابتلاء هل هو نفس وجودهن أو ابتلي بما يصدر منهن، وكذلك هل هو على العموم في البنات، أو المراد من اتصف منهن بالحاجة إلى ما يفعل به. قوله: "فأحسن إليهن" هذا يشعر بأن المراد بقوله في أول الحديث: "من هذه" أكثر من واحدة، وقد وقع في حديث أنس عند مسلم: "من عال جاريتين " ولأحمد من حديث أم سلمة " من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذاتي قرابة يحتسب عليهما" والذي يقع في أكثر الروايات بلفظ الإحسان وفي رواية عبد المجيد فصبر عليهن، ومثله في حديث عقبة بن عامر في "الأدب المفرد" وكذا وقع في ابن ماجه وزاد: "وأطعمهن وسقاهن وكساهن" وفي حديث ابن عباس عند الطبراني فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن وفي حديث جابر عند أحمد وفي الأدب المفرد "يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن" زاد الطبري فيه: "ويزوجهن" وله نحوه من حديث أبي هريرة في "الأوسط" وللترمذي وفي "الأدب المفرد" من حديث أبي سعيد " فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن" وهذه الأوصاف يجمعها لفظ: "الإحسان" الذي اقتصر عليه في حديث الباب، وقد اختلف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه؟ والظاهر الثاني، فإن عائشة أعطت المرأة التمرة فآثرت بها ابنتيها فوصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان بما أشار إليه من الحكم المذكور، فدل على أن من فعل معروفا لم يكن واجبا عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عد محسنا، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنا لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله، وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط ففي حديث ابن عباس المتقدم "فقال رجل من الأعراب: أو اثنتين؟ فقال: أو اثنتين" وفي حديث عوف بن مالك عند الطبراني "فقالت امرأة" وفي حديث جابر "وقيل" وفي حديث أبي هريرة "قلنا" وهذا يدل على تعدد السائلين، وزاد في حديث جابر "فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال وواحدة" وفي حديث أبي هريرة "قلنا: وثنتين؟ قال: وثنتين. قلنا: وواحدة؟ قال: وواحدة" وشاهده حديث ابن مسعود رفعه: " من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه" أخرجه الطبراني بسند واه. قوله:

(10/428)


"كن له سترا من النار" كذا في أكثر الأحاديث التي أشرت إليها، ووقع في رواية عبد المجيد "حجابا" وهو بمعناه. وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال. قال ابن بطال: وفيه جواز سؤال المحتاج، وسخاء عائشة لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها، وأن القليل لا يمتنع التصدق به لحقارته، بل ينبغي للمتصدق أن يتصدق بما تيسر له قل أو كثر. وفيه جواز ذكر المعروف إن لم يكن على وجه الفخر ولا المنة. وقال النووي تبعا لابن بطال: إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورغب في إبقائهن وترك قتلهن بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن وجاهد نفسه في الصبر عليهن. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه، أو يقصر عما أمر بفعله، أولا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه والله أعلم. قوله: "وأمامة بنت أبي العاص" أي ابن الربيع، وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فإذا ركع وضع" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "وضعها" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الصلاة في أبواب سترة المصلي، ووقع هنا بلفظ: "ركع" وهناك بلفظ: "سجد" ولا منافاة بينهما بل يحمل على أنه كان يفعل ذلك في حال الركوع والسجود، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، وهو رحمة الولد، وولد الولد ولد. ومن شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها بالأرض وكأنها كانت لتعلقها به لا تصبر في الأرض فتجزع من مفارقته، فيحتاج أن يحملها إذا قام. واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لبيان الجواز. قوله: "أن أبا هريرة قال" كذا في رواية شعيب، ووقع عند مسلم من رواية سفيان بن عيينة ومعمر فرقهما كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: "وعنده الأقرع بن حابس" الجملة حالية، وقد تقدم نسب الأقرع في تفسير سورة الحجرات، وهو من المؤلفة، وممن حسن إسلامه. قوله: "إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا" زاد الإسماعيلي في روايته: "ما قبلت إنسانا قط". قوله: "من لا يرحم لا يرحم" هو بالرفع فيهما على الخبر. وقال عياض: هو للأكثر. وقال أبو البقاء "من" موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ بالجزم فيهما، قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام، لأنه سيق للرد على من قال: "إن لي عشرة من الولد الخ" أي الذي يفعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف. قلت: وهو أولى من جهة أخرى لأن يصير من نوع ضرب المثل، ورجح بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى غالبا بلم، وهذا لا يقتضي ترجيحا إذا كان المقام لائقا بكونها شرطية. وأجاز بعض شراح "المشارق" الرفع في الجزءين والجزم فيهما والرفع في الأولى والجزم في الثاني وبالعكس فيحصل أربعة أوجه، واستبعد الثالث، ووجه بأنه يكون في الثاني بمعنى النهي أي لا ترحموا من لا يرحم الناس، وأما الرابع فظاهر وتقديره من لا يكن من أهل الرحمة فإنه لا يرحم، ومثله قول الشاعر:
فقلت له احمل فوق طوقك إنها ... مطوقة من يأتها لا يضيرها

(10/429)


وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل المحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشم والمعانقة. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة، ووقع في رواية الإسماعيلي: "عن هشام بن عروة عن أبيه". قوله: "جاء أعرابي" يحتمل أن يكون هو الأقرع المذكور في الذي قبله، ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم التميمي ثم السعدي، فقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" ما يشعر بذلك ولفظه: "عن أبي هريرة أن قيس بن عاصم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر قصة فيها "فهل إلا أن تنزع الرحمة منك" فهذا أشبه بلفظ حديث عائشة. ووقع نحو ذلك لعيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري أخرجه أبو يعلى في مسنده بسند رجاله ثقات إلى أبي هريرة قال: "دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبل الحسن والحسين فقال: أتقبلهما يا رسول الله؟ إن لي عشرة فما قبلت أحدا منهم" ويحتمل أن يكون وقع ذلك لجميعهم فقد وقع في رواية مسلم: "قدم ناس من الأعراب فقالوا". قوله: "تقبلون الصبيان" كذا للأكثر بحذف أداة الاستفهام، وثبتت في رواية الكشميهني. قوله: "فما نقبلهم" وفي رواية الإسماعيلي: "فوالله ما نقبلهم" وعند مسلم: "فقال: نعم. قالوا: لكنا والله ما نقبل". قوله: "أو أملك" هو بفتح الواو والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاري ومعناه النفي، أي لا أملك، أي لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه. ووقع عند مسلم بحذف الاستفهام وهي مرادة، وعند الإسماعيلي: "وما أملك" وله في أخرى "ما ذنبي إن كان الخ". قوله: "أن نزع" بفتح الهمزة في الروايات كلها مفعول أملك وحكى بعض شراح "المصابيح" كسر الهمزة على أنها شرط والجزاء محذوف، وهو من جنس ما تقدم، أي إن نزع الله الرحمة من قلبك لا أملك لك ردها إليه. ووقع في قصة عيينة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم" . قوله: "حدثنا ابن أبي مريم" هو سعيد، ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه. وأبو غسان هو محمد بن مطرف، والإسناد منه فصاعدا مدنيون. قوله: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي" في رواية الكشميهني: "بسبي" وبضم قاف "قدم" وهذا السبي هو سبي هوازن. قوله: "فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي" كذا للمستملي والسرخسي بسكون المهملة من تحلب وضم اللام وثديها بالنصب وتسقي بفتح المثناة وبقاف مكسورة، وللباقين "قد تحلب" بفتح الحاء وتشديد اللام أي تهيأ لأن يحلب، وثديها بالرفع ففي رواية الكشميهني بالإفراد وللباقين "ثدياها" بالتثنية، وللكشميهني: "بسقي" بكسر الموحدة وفتح المهملة وسكون القاف وتنوين التحتانية وللباقين "تسعى" بفتح العين المهملة من السعي وهو المشي بسرعة. وفي رواية مسلم عن الحلواني وابن عسكر كلاهما عن ابن أبي مريم "تبتغي" بموحدة ساكنة ثم مثناة مفتوحة ثم غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب، قال عياض: وهو وهم، والصواب ما في رواية البخاري. وتعقبه النووي بأن كلا من الروايتين صواب، فهي ساعية وطالبة لولدها. وقال القرطبي: لا خفاء بحسن رواية: "تسعى" ووضوحها، ولكن لرواية تبتغي وجها وهو تطلب ولدها، وحذف المفعول للعلم به، فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه. قوله: "إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها" كذا للجميع ولمسلم، وحذف منه شيء بينته رواية الإسماعيلي ولفظه: "إذا وجدت صبيا أخذته فأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فألزمته بطنها" وعرف من سياقه أنها كانت فقدت صبيها وتضررت باجتماع اللبن في ثديها، فكانت إذا وجدت صبيا أرضعته ليخف عنها، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته. ولم أقف على اسم هذا الصبي ولا على اسم أمه. قوله: "أترون؟"

(10/430)


بضم المثناة أي أتظنون؟ قوله: "قلنا لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه" أي لا تطرحه طائعة أبدا. وفي رواية الإسماعيلي: "فقلنا لا والله الخ". قوله: "لله" بفتح أوله لام تأكيد، وصرح بالقسم في رواية الإسماعيلي فقال: "والله لله أرحم الخ". قوله: "بعباده" كأن المراد بالعباد هنا من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد والحاكم من حديث أنس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار" فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر. وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العبد علم ومعناه خاص بالمؤمنين، وهو كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فهي عامة من جهة الصلاحية وخاصة بمن كتبت له قال: ويحتمل أن يكون المراد أن رحمة الله لا يشبهها شيء لمن سبق له منها نصيب من أي العباد كان حتى الحيوانات. وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده، وأن كل من فرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه، فليقصد العاقل لجاجته من هو أشد له رحمة، قال: وفي الحديث جواز نطر النساء المسبيات، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن النظر إلى المرأة المذكورة، بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها. وفيه ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضرب به المثل لا يحاط بحقيقته لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل، ومع ذلك فقربها النبي صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأة المذكورة. وفيه جواز ارتكاب أخف الضررين، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن إرضاع للأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لما كانت حالة الإرضاع ناجزة، وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر. قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك، قال: وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وقد يستدل به على عكس ذلك، فأما الأول فمن جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى الإرضاع قي تلك الحالة ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ترضع أحدا منهم، وأما الثاني وهو أقوى فلأنه أقرها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة ا هـ ملخصا، ولا يخفي ما فيه.

(10/431)


باب جعل الله الرحمة في مائة جزء
...
19 - باب جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ
6000- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ الْبَهْرَانِيُّ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءاً وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ" .
[الحديث 6000 – طرفه في: 6469]
قوله: "باب" بالتنوين "جعل الله الرحمة في مائة جزء" هكذا ترجم ببعض الحديث. وفي رواية النسفي "باب من الرحمة" وللإسماعيلي: "باب" بغير ترجمة. قوله: "البهراني" بفتح الموحدة وسكون الهاء نسبة إلى قبيلة من قضاعة

(10/431)


ينتهي نسبهم إلى بهر ابن عمرو بن الحاف بن قضاعة، نزل أكثرهم حمص في الإسلام. قوله: " جعل الله الرحمة في مائة جزء" قال الكرماني كان المعنى يتم بدون الظرف فلعل "في" زائدة أو متعلقة بمحذوف، وفيه نوع مبالغة إذ جعلها مظروفا لها معنى بحيث لا يفوت منها شيء. وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون سبحانه وتعالى لما من على خلقه بالرحمة جعلها في مائة وعاء فأهبط منها واحدا للأرض. قلت: خلت أكثر الطرق عن الظرف كرواية سعيد المقبري عن أبي هريرة الآتية في الرقاق "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة" ولمسلم من رواية عطاء عن أبي هريرة "إن لله مائة رحمة" وله من حديث سلمان " إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض" وقال القرطبي: يجوز أن يكون معنى "خلق" اخترع وأوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قدر، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب فيكون المعنى أن الله أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض. وقوله: "كل رحمة تسع طباق الأرض" المراد بها التعظيم والتكثير، وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرا. قوله: "فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا" في رواية عطاء "وأخر عنده تسعة وتسعين رحمة" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم: "وخبأ عنده مائة إلا واحدة". قوله: "وأنزل في الأرض جزءا واحدا" في رواية المقبري "وأرسل في خلقه كلهم رحمة" وفي رواية عطاء "أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والبهائم" وفي حديث سلمان "فجعل منها في الأرض واحدة" قال القرطبي هذا نص في أن الرحمة يراد بها متعلق الإرادة لا نفس الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم. قوله: "فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" في رواية عطاء "فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها" وفي حديث سلمان " فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض" قال ابن أبي جمرة: خص الفرس بالذكر لأنها أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون حركته مع ولده، ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل. ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها. ووقع في حديث سلمان عند مسلم في آخره من الزيادة "فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة" وفيه إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضا، وصرح بذلك المهلب فقال: الرحمة التي خلقها الله لعباده وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم. قال: ويجوز أن يستعمل الله تلك الرحمة فيهم فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء وهي التي من صفة ذاته ولم يزل موصوفا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدا على الرحمة التي خلقها لهم، قال: ويجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض، لأن استغفارهم لهم دال على أن في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض. قلت: وحاصل كلامه أن الرحمة رحمتان، رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليها هنا. ولكن ليس في شيء من طرق الحديث أن التي عند الله رحمة واحدة بل اتفقت جميع الطرق على أن عنده تسعة وتسعين رحمة، وزاد في حديث سلمان أنه يكملها يوم القيامة مائة بالرحمة التي في الدنيا، فتعدد الرحمة بالنسبة للخلق. وقال القرطبي: مقتضى هذا الحديث أن الله علم إن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} فإن رحيما

(10/432)


من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها، ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمات للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية. وقال الكرماني: الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير، والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعليق غير متناه، لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلا للفهم وتقليلا لما عند الخلق وتكثيرا لما عند الله سبحانه وتعالى، وأما مناسبة هذا العدد الخاص فحكى القرطبي عن بعض الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه، وتعقبه بأنه لم تجر عادة العرب بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين، كذا قال. وقال ابن أبي جمرة: ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وستين جزءا فإذا قوبل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءا، فيؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من النقمة فيها. ويؤيده قوله: "غلبت رحمتي غضبي" . قلت: لكن تبقى مناسبة خصوص هذا العدد، فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة، فكان كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى، فمن نالته منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة. وقال ابن أبي جمرة: في الحديث إدخال السرور على المؤمنين، لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلوما مما يكون موعودا. وفيه الحث على الإيمان، واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة. قلت: وقد وقع في آخر حديث سعيد المقبري في الرقاق "فلو يعلم الكافر بكل ما عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة" وأفرده مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى.

(10/433)


20 - باب قَتْلِ الْوَلَدِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ
6001- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ" وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الْآيَةَ".
قوله: "باب قتل الولد خشية أن يأكل معه" تقدير الكلام: قتل المرء ولده الخ فالضمير يعود للمقدر في قوله قتل الولد. ووقع لأبي ذر عن المستملي والكشميهني: "باب أي الذنب أعظم" وعند النسفي "باب من الرحمة". حديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" الحديث، سيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(10/433)


21 - باب وَضْعِ الصَّبِيِّ فِي الْحِجْرِ
6002- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام قال أخبرني أبي عن عائشة "أن النبي

(10/433)


22 - باب وَضْعِ الصَّبِيِّ عَلَى الْفَخِذِ
6003- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ يُحَدِّثُهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا" وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ التَّيْمِيُّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ قُلْتُ حَدَّثْتُ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ فَنَظَرْتُ فَوَجَدْتُهُ عِنْدِي مَكْتُوباً فِيمَا سَمِعْتُ".
قوله: "باب وضع الصبي على الفخذ" هذه الترجمة أخص من التي قبلها، وذكر فيه حديث أسامة بن زيد. قوله: "عن أبيه" هو سليمان بن طرخان التيمي، وأبو تميمة هو طريف؛ بمهملة بوزن عظيم ابن مجالد بالجيم الهجيمي بالجيم مصغر. قوله: "فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر" استشكله الداودي فيما نقله ابن التين فقال: لا أدري ذلك وقع في وقت واحد لأن أسامة أكبر من الحسن، ثم أخذ يستدل على ذلك، والأمر فيه أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن أكثر ما قيل في عمر الحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين وأما أسامة فكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، وقد أمره على الجيش الذي اشتمل على عدد كثير من كبار المسلمين كعمر كما تقدم بيانه في ترجمته في المناقب، وصرح جماعة بأنه كان عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وذكر الواقدي في المغازي عن محمد بن الحسن بن أسامة عن أهله قالوا: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة ابن تسع عشرة سنة" فيحتمل أن يكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة مراهق والحسن ابن سنتين مثلا ويكون إقعاده أسامة في حجره لسبب اقتضى ذلك كمرض مثلا أصاب أسامة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لمحبته فيه ومعزته عنده يمرضه بنفسه، فيحتمل أن يكون أقعده في تلك الحالة، وجاء الحسن ابن ابنته فأقعده على الفخذ الأخرى وقال معتذرا عن ذلك "إني أحبهما " والله أعلم. قوله: "وعن علي قال حدثنا يحيى حدثنا سليمان" أما علي فهو علي بن عبد الله المديني، وأما يحيى فهو ابن سعيد القطان، وأما سليمان فهو التيمي المذكور قبل، ثم هو معطوف على السند الذي قبله وهو قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" فيكون من رواية البخاري عن علي، ولكنه عبر عنه بصيغة عن فقال: "حدثنا عبد الله بن محمد الخ وعن علي الخ" ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: "حدثنا عارم" فيكون من رواية البخاري عن شيخه بواسطة قرينه عبد الله بن محمد، ولا يستغرب ذلك من رواية الأقران ولا من البخاري فقد حدث بالكثير عن كثير من شيوخه ويدخل أحيانا بينهم الواسطة، وقد حدث عن عارم بالكثير بغير واسطة منها ما سيأتي قريبا من "باب قول النبي

(10/434)


صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا" وأدخل هنا بينه وبين عبد الله بن محمد الجعفي، ووقع في بعض النسخ في آخر هذا الحديث: "قيل لأبي عبد الله: من يقول عن علي؟ فقال: حدثنا عبد الله بن محمد" انتهى فإن كان محفوظا صح الاحتمال الأخير وبالله التوفيق. قوله: "قال التيمي" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "فوقع في قلبي منه شيء" يعني شك هل سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان أو سمعه من أبي عثمان بغير واسطة، وفي السند على الأول ثلاثة بصريون من التابعين في نسق من سليمان التيمي فصاعدا، وليس لأبي تميمة في البخاري إلا هذا الحديث وآخر سيأتي في كتاب الأحكام من روايته عن جندب البجلي. قوله: "فوجدته عندي مكتوبا فيما سمعت" أي من أبي عثمان، فكأنه سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان ثم لقي أبا عثمان فسمعه منه أو كان سمعه من أبي عثمان فثبته فيه أبو تميمة، وانتزع منه بعضهم جواز الاعتماد في تحديثهم على خطه ولو لم يتذكر السماع، ولا حجة فيه لاحتمال التذكر في هذه الحالة، وقد ذكر ابن الصلاح المسألة ونقل الخلاف فيها، والراجح في الرواية الاعتماد.

(10/435)


23 - باب حُسْنُ الْعَهْدِ مِنْ الإِيمَانِ
6004- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ - وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلاَثِ سِنِينَ - لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا".
قوله: "باب حسن العهد من الإيمان" قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة. وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له. وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال. وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} وأما لفظ: "العهد" فيطلق بالاشتراك بإزاء معان أخرى، منها الزمان والمكان واليمين والذمة والصحة والميثاق والإيمان والنصيحة والوصية والمطر ويقال له العهاد أيضا. قوله: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة" قد تقدم شرحه في ترجمة خديجة من كتاب المناقب. وقوله: "على خديجة" يريد من خديجة فأقام "على" مقام "من" وحروف الجر تتناوب في رأي. أو "على" سببية أي بسبب خديجة. وقوله فيه: "ولقد أمره ربه الخ" تقدم شرحه هناك أيضا، ولكن أورده هناك من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وقوله فيه: "وإن كان ليذبح الشاة ثم ليهدي في خلتها منها" أي من الشاة المذبوحة، وزاد في رواية الليث عن هشام في فضل خديجة ما يسعهن، وقد تقدم هناك بيان الاختلاف في ضبط هذه اللفظة، وإن مخففة من الثقيلة، وخلتها بضم المعجمة أي خلائلها. وقال الخطابي: الخلة مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجماعة، تقول: رجل خلة وامرأة خلة وقوم خلة، ويحتمل أن يكون فيه محذوف تقديره: إلى أهل خلتها، أي أهل صداقتها، والخلة الصداقة والخليل الصديق. قلت: وقع في رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ثم نهديها إلى خلائلها" وسبق في المناقب من وجه آخر عن هشام بن عروة "وإلى أصدقائها" وللبخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي

(10/435)


بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة".
" تنبيه ": جرى البخاري على عادته في الاكتفاء بالإشارة دون التصريح، فإن لفظ الترجمة قد ورد في حديث يتعلق بخديجة رضي الله عنها أخرجه الحاكم والبيهقي في "الشعب" من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: "جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان" وأخرجه البيهقي أيضا من طريق مسلم بن جنادة عن حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مثله بمعنى القصة وقال: غريب. ومن طريق أبي سلمة عن عائشة نحوه وإسناده ضعيف.

(10/436)


باب فضب من يعول يتيما
...
24 - باب فَضْلِ مَنْ يَعُولُ يَتِيماً
6005- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى" .
قوله: "باب فضل من يعول يتيما" أي يربيه وينفق عليه. قوله: "عبد العزيز بن أبي حازم" أي سلمة بن دينار. قوله: "أنا وكافل اليتيم" أي القيم بأمره ومصالحه، زاد مالك من مرسل صفوان بن سليم "كافل اليتيم له أو لغيره" ووصله البخاري في "الأدب المفرد" والطبراني من رواية أم سعيد بنت مرة الفهرية عن أبيها، ومعنى قوله له بأن يكون جدا أو عما أو أخا أو نحو ذلك من الأقارب، أو يكون أبو المولود قد مات فتقوم أمه مقامه أو ماتت أمه فقام أبوه في التربية مقامها. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة موصولا "من كفل يتيما ذا قرابة أو لا قرابة له " وهذه الرواية تفسر المراد بالرواية التي قبلها. قوله: "وأشار بإصبعيه السبابة" في رواية الكشميهني: "السباحة" بمهملة بدل الموحدة الثانية، والسباحة هي الأصبع التي تلي الإبهام سميت بذلك لأنها يسبح بها في الصلاة فيشار بها في التشهد لذلك، وهي السبابة أيضا لأنها يسب بها الشيطان حينئذ. قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك. قلت: قد تقدم الحديث في كتاب اللعان وفيه: "وفرج بينهما" أي بين السبابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى، وهو نظير الحديث الآخر "بعثت أنا والساعة كهاتين " الحديث، وزعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك استوت إصبعاه في تلك الساعة ثم عادتا إلى حالهما الطبيعية الأصلية تأكيدا لأمر كفالة اليتيم. قلت: ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال، ويكفي في إثبات قرب المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى، وقد وقع في رواية لأم سعيد المذكورة عند الطبراني " معي في الجنة كهاتين" يعني المسبحة والوسطى "إذا اتقى" ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حالة دخول الجنة، لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه: "أنا أول من يفتح باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول: من أنت فتقول: أنا امرأة تأيمت على أيتام لي" ورواته لا بأس بهم، وقوله: "تبادرني" أي لتدخل معي أو تدخل في أثري، ويحتمل أن يكون المراد بمجموع الأمرين: سرعة الدخول، وعلو المنزلة. وقد أخرج أبو داود من حديث عوف بن مالك رفعه: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة: امرأة ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا" فهذا

(10/436)


فيه قيد زائد وتقييد في الرواية التي أشرت إليها بقوله: "اتقي الله" أي فيما يتعلق باليتيم المذكور. وقد أخرج الطبراني في "المعجم الصغير" من حديث جابر "قلت يا رسول الله مم أضرب منه يتيمي؟ قال: مم كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله" وقد زاد في رواية مالك المذكور "حتى يستغني عنه" فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أمدا. قال شيخنا في "شرح الترمذي" لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك اهـ ملخصا.

(10/437)


25 - باب السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ
6006- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ" .
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... مِثْلَهُ.
قوله: "باب الساعي على الأرملة" أي في مصالحها. ذكر فيه حديث أبي هريرة ذكره موصولا وحديث صفوان بن سليم مرسلا كلاهما من رواية مالك، وقد تقدم شرحه في كتاب النفقات.

(10/437)


26 - باب السَّاعِي عَلَى الْمِسْكِينِ
6007- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وأحسبه قال كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر" .
قوله: "باب الساعي على المسكين" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبله مقتصرا عليه دون المرسل، ووقع في هذه الرواية: "كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال يشك القعنبي وهو رواية عن مالك "كالقائم لا يفتر" ولفظ الرواية التي قبلها لإسماعيل بن أبي أويس عن مالك "كالمجاهد أو كالذي يصوم" الحديث، وقد تقدم بيان ذلك واضحا في كتاب النفقات.

(10/437)


27 - باب رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ
6008- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ

(10/437)


28- باب الْوَصَاةِ بِالْجَارِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إِلَى قَوْلِهِ {مُخْتَالاً فَخُوراً}

(10/440)


6014- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" .
6015- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" .
قوله: "باب الوصاة بالجار" بفتح الواو وتخفيف الصاد المهملة مع المد لغة في الوصية، وكذا الوصاية بإبدال الهمزة ياء وهما بمعنى، لكن الأول من أوصيت والثاني من وصيت.
" تنبيه ": وقع في شرح شيخنا ابن الملقن هنا بسملة وبعدها كتاب البر والصلة ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، ويؤيد ما عندنا أن أحاديث صلة الرحم تقدمت وأحاديث بر الوالدين قبلها والوصية بالجار وما يتعلق بها ذكرت هنا وتلاها باقي أبواب الأدب وقوله هنا بعد الباب: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} يؤيد ذلك لأنه بوب على ترتيب ما في هذه الآية، فبدأ ببر الوالدين وثني بذي القربى وثلث بالجار وربع بالصاحب. ولم يقع ذلك أيضا في مستخرج الإسماعيلي ولا أبي نعيم. قوله: "وقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية" كذا لأبي ذر وللباقين بعد قوله: {إِحْسَاناً} إلى قوله: {مُخْتَالاً فَخُوراً} وللنسفي وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية، والمراد من هذه الآية هنا قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وثبت للنسفي البسملة قبل الباب وكأنه للانتقال إلى نوع غير الذي قبله، ورأيت في شرح شيخنا سراج الدين بن الملقن كتاب البر والصلة ولم أره لغيره، والجار القريب من بينهما قرابة والجار الجنب بخلافه وهذا قول الأكثر، وأخرجه الطبري بسند حسن عن ابن عباس، وقيل الجار القريب المسلم والجار الجنب غيره وأخرجه أيضا الطبري عن نوف البكالي أحد التابعين، وقيل: الجار القريب المرأة والجنب الرفيق في السفر. ثم ذكر فيه حديثين: الحديث الأول: حديث عائشة. قوله: "أبو بكر بن محمد" أي ابن عمرو بن حزم، وعمرة هي أمه، والسند كله كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وقد سمع يحيى بن سعيد وهو الأنصاري من عمرة كثيرا وربما دخل بينهما واسطة مثل هذا، وروايته عن أبي بكر المذكور من الأقران. قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره. واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وقيل: المراد أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والأول أظهر فإن الثاني استمر، والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع. ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ: "حتى ظننت أنه يجعل له ميراثا" وقال ابن أبي جمرة: الميراث على قسمين حسي ومعنوي، فالحسي هو المراد هنا، والمعنوي ميراث العلم، ويمكن أن يلحظ هنا أيضا فإن حق الجار على الجار أن يعلمه ما يحتاج إليه والله أعلم. واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه

(10/441)


من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيعطي كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي، وقد حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وحسنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرته في حديث مرفوع أخرجه الطبراني من حديث جابر رفعه: "الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق مسلم له رحم له حق الجوار والإسلام والرحم" قال القرطبي: الجار يطلق ويراد به الداخل في الجوار، ويطلق ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب، والذي يظهر أنه المراد به في الحديث الثاني لأن الأول كان يرث ويورث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التوريث بين المتعاقدين فقد كان ثابتا فكيف يترجى وقوعه؟ وإن كان بعد النسخ فكيف يظن رجوعه بعد رفعه؟ فتعين أن المراد به المجاور في الدار. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك. وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية. وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه كما في الحديث الذي يليه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر. قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح. والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضا ويستر عليه زلله عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبه وإلا فيهجره قاصدا تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف، وسيأتي القول في حد الجار في "باب حق الجوار" قريبا انتهى ملخصا. قوله: "عمر بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وذكر لفظه مثل لفظ حديث عائشة، وقد روي هذا المتن أيضا أبو هريرة وهو في صحيح ابن حبان، وعبد الله بن عمرو بن العاص وهو عند أبي داود والترمذي، وأبو أمامة وهو عند الطبراني. ووقع عنده في حديث عبد الله بن عمرو أن ذلك كان في حجة الوداع، وله في لفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" فأفاد أنه وقع لعبد الله بن عمرو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نظير ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل ولأحمد من حديث رجل من الأنصار "خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل مقبل عليه، فجلست حتى جعلت أرثي له من طول القيام، فذكرت له ذلك فقال: "أتدري من هذا؟ قلت لا. قال: هذا جبريل" فذكر مثل حديث ابن عمر سواء. وأخرج عبد بن حميد نحوه من حديث جابر فأفاد سبب الحديث، ولم أر في شيء من طرقه بيان لفظ وصية جبريل، إلا أن الحديث يشعر بأنه بالغ في تأكيد حق الجار. وقال ابن أبي جمرة: يستفاد من الحديث أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه، وأن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون، بخلافه ما إذا كان في طريق الشر. وفيه جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم. وفيه جواز التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير. والله أعلم.

(10/442)


29 - باب إِثْمِ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ. يُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكْهُنَّ. مَوْبِقاً: مَهْلِكاً
6016- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ" . تَابَعَهُ شَبَابَةُ وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قوله: "باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه" البوائق بالموحدة والقاف جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة. قوله: "يوبقهن يهلكهن، موبقا مهلكا" هما أثران قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} قال: يهلكهن. وقال في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي متوعدا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي مهلكا. قوله: "عن سعيد" هو المقبري، ووقع منسوبا غير مسمى عند الإسماعيلي عن محمد بن يحيى بن سليمان عن عاصم بن علي شيخ البخاري فيه، وأخرجه أبو نعيم من طريق عمر بن حفص ومن طريق إبراهيم الحربي كلاهما عن عاصم بن علي مسمى منسوبا قال: "عن سعيد المقبري". قوله: "عن أبي شريح" هو الخزاعي، ووقع كذلك عند أبي نعيم واسمه على المشهور خويلد وقيل عمرو وقيل: هانئ وقيل: كعب. قوله: "والله لا يؤمن" وقع تكريرها ثلاثا صريحا، ووقع عند أحمد "والله لا يؤمن ثلاثا" وكأنه اختصار من الراوي، ولأبي يعلى من حديث أنس "ما هو بمؤمن" وللطبراني من حديث كعب بن مالك "لا يدخل الجنة" ولأحمد نحوه عن أنس بسند صحيح. قوله: "قيل: يا رسول الله ومن؟" هذه الواو يحتمل أن تكون زائدة أو استئنافية أو عاطفة على شيء مقدر أي عرفنا ما المراد مثلا ومن المحدث عنه، ووقع لأحمد من حديث ابن مسعود أنه السائل عن ذلك، وذكره المنذري في ترغيبه بلفظ: "قالوا يا رسول الله لقد خاب وخسر من هو" وعزاه للبخاري وحده، وما رأيته فيه بهذه الزيادة ولا ذكرها الحميدي في الجمع. قوله: "قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" في حديث أنس "من لم يأمن" وفي حديث كعب "من خاف" زاد أحمد والإسماعيلي: "قالوا: وما بوائقه؟ قال: شره" وعند المنذري هذه الزيادة للبخاري ولم أرها فيه.
" تنبيه ": في المتن جناس بليغ وهو من جناس التحريف، وهو قوله: "لا يؤمن ولا يأمن" فالأول من الإيمان والثاني من الأمان. قوله: "تابعه شبابة وأسد بن موسى" يعني عن ابن أبي ذئب في ذكر أبي شريح، فأما رواية شبابة وهو ابن سوار المدايني فأخرجها الإسماعيلي، وأما رواية أسد بن موسى وهو الأموي المعروف بأسد السنة فأخرجها الطبراني في "مكارم الأخلاق". قوله: "وقال حميد بن الأسود وعثمان بن عمر وأبو بكر بن عياش وشعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة" يعني اختلف أصحاب ابن أبي ذئب عليه في صحابي هذا الحديث فالثلاثة الأول قالوا فيه عن أبي شريح، والأربعة قالوا عن أبي هريرة. وقد نقل أبو معين الرازي عن أحمد أن من سمع من ابن أبي ذئب بالمدينة فإنه يقول عن أبي هريرة، ومن سمع منه ببغداد فإنه يقول عن أبي شريح قلت: ومصداق ذلك أن ابن وهب وعبد العزيز الدراوردي وأبا عمرو العقدي وإسماعيل بن أبي أويس وابن

(10/443)


أبي فديك ومعن بن عيسى إنما سمعوا من ابن أبي ذئب بالمدينة وقد قالوا كلهم فيه: "عن أبي هريرة" وقد أخرجه الحاكم من رواية ابن وهب ومن رواية إسماعيل ومن رواية الدراوردي، وأخرجه الإسماعيلي من رواية معن والعقدي وابن أبي فديك وأما حميد بن الأسود وأبو بكر بن عياش اللذان علقه البخاري من طريقهما فهما كوفيان وسماعهما من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة لما حجا، وأما عثمان بن عمر فهو بصري وقد أخرج أحمد الحديث عنه كذلك، وأما رواية شعيب بن إسحاق فهو شامي وسماعه من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة، وقد أخرجه أحمد أيضا عن إسماعيل بن عمر فقال: "عن أبي هريرة" وإسماعيل واسطي. وممن سمعه ببغداد من ابن أبي ذئب يزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وحجاج بن محمد وروح بن عبادة وآدم بن أبي إياس وقد قالوا كلهم "عن أبي شريح" وهو في مسند الطيالسي كذلك، وعند الإسماعيلي من رواية يزيد، وعند الطبراني من رواية آدم، وعند أحمد من رواية حجاج وروح بن عبادة، ويزيد واسطي سكن بغداد، وأبو داود وروح بصريان وحجاج بن محمد مصيصي، وآدم عسقلاني، وكانوا كلهم يقدمون بغداد ويطلبون بها الحديث، وإذا تقرر ذلك فالأكثر قالوا فيه: "عن أبي هريرة" فكان ينبغي ترجيحهم. ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدثه به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة فمن قال عنه: "عن أبي هريرة" سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه: "عن أبي شريح" زيادة علم ليست عند الآخرين، وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن أبي شريح كما سيأتي بعد باب، فكانت فيه تقوية لمن رآه عن ابن أبي ذئب فقال فيه: "عن أبي شريح" ومع ذلك فصنيع البخاري يقتضي تصحيح الوجهين، وإن كانت الرواية عند أبي شريح أصح. وقد أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة ذاهلا عن الذي أورده البخاري بل وعن تخريج مسلم له من وجه آخر عن أبي هريرة فقال بعد تخريجه: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ وإنما أخرجاه من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" وتعقبه شيخنا في أماليه بأنهما لم يخرجا طريق أبي الزناد ولا واحد منهما. وإنما أخرج مسلم طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة باللفظ الذي ذكره الحاكم. قلت: وعلى الحاكم تعقب آخر وهو أن مثل هذا لا يستدرك لقرب اللفظين في المعنى، قال ابن بطال: في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان. وقال النووي عن نفي الإيمان في مثل هذا جوابان: أحدهما: أنه في حق المستحل، والثاني: أن معناه ليس مؤمنا كاملا اهـ. ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يجازي مجازاة المؤمن بدخول الجنة من أول وهلة مثلا، أو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد، والله أعلم. وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه وكف أسباب الضرر عنه فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران اهـ ملخصا.

(10/444)


30 - باب لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا
6017- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ" .
قوله: "باب لا تحقرن جارة لجارتها" كذا حذف المفعول اكتفاء بشهرة الحديث. وأورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك، واتفق أن هذا الحديث ورد من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة والحديث قبله من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة ليس بينهما واسطة، وكل من الطريقين صحيح لأن سعيدا أدرك أبا هريرة وسمع منه أحاديث وسمع من أبيه عن أبي هريرة أشياء كان يحدث بها تارة عن أبي هريرة بلا واسطة، وقد ذكر البخاري بعضها وبين الاختلاف على سعيد فيها، وهي محمولة على أنه سمعها من أبي هريرة واستثبت أباه فيها، فكان يحدث بها تارة عن أبيه عن أبي هريرة وتارة عنه بلا واسطة، ولم يكن مدلسا، وإلا لحدث بالجميع عن أبي هريرة والله أعلم. وبقية المتن " ولو فرسن شاة " بكسر الفاء وسكون الراء وكسر المهملة ثم نون: حافر الشاة. وقد تقدم شرحه مستوفى في "كتاب الهبة" والكلام على إعراب يا نساء المسلمات، وحاصله أن فيه اختصارا. لأن المخاطبين يعرفون المراد منه، أي لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الغالب، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون النهي للمعطية، ويحتمل أن يكون للمهدي إليها. قلت: ولا يتم حمله على المهدي إليها إلا بجعل اللام في قوله لجارتها بمعنى من ولا يمتنع حمله على المعنيين.

(10/445)


31 - باب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ
6018- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ" .
6019- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالَ وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ" .
[الحديث 6019 – طرفاه في: 6135، 6476]
قوله: "باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" ذكر فيه حديثا لأبي هريرة في ذلك وآخر لأبي شريح. قوله: "أبو الأحوص" هو سلام بالتشديد ابن سليم، وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم، وأبو

(10/445)


صالح هو ذكوان. قوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " المراد بقوله يؤمن الإيمان الكامل، وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي من آمن بالله الذي خلقه وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل الخصال المذكورات. قوله: "فلا يؤذ جاره" في حديث أبي شريح "فليكرم جاره" وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ: "فليحسن إلى جاره" وقد ورد تفسير الإكرام والإحسان للجار وترك أذاه في عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو الشيخ في "كتاب التوبيخ" من حديث معاذ بن جبل "قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده" وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب. وفي حديث بهز بن حكيم "وإن أعوز سترته" وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن الحديث أصلا. ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق. قوله: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" زاد في حديث أبي شريح "جائزته. قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام" الحديث وسيأتي شرحه بعد نيف وخمسين بابا في "باب إكرام الضيف" إن شاء الله تعالى. قوله: " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" بضم الميم ويجوز كسرها، وهذا من جوامع الكلم لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما؛ فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت. وقد أخرج الطبراني والبيهقي في "الزهد" من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب بلفظ: "فليقل خيرا ليغنم، أو ليسكت عن شر ليسلم" واشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية، أما الأولان فمن الفعلية، وأولهما يرجع إلى الأمر بالتخلي عن الرذيلة والثاني يرجع إلى الأمر بالتحلي بالفضيلة، وحاصله من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير وسكوتا عن الشر وفعلا لما ينفع أو تركا لما يضر، وفي معنى الأمر بالصمت عدة أحاديث: منها حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه" وقد تقدما في كتاب الإيمان، وللطبراني عن ابن مسعود "قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل" فذكر فيها " أن يسلم المسلمون من لسانك" ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء رفعه في ذكر أنواع من البر "قال فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير" وللترمذي من حديث ابن عمر "من صمت نجا" وله من حديثه "كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب" وله من حديث سفيان الثقفي "قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي؟ قال: هذا. وأشار إلى لسانه" وللطبراني مثله من حديث الحارث بن هشام وفي حديث معاذ عند أحمد والترمذي والنسائي: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة" فذكر الوصية بطولها وفي آخرها " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا. وأشار إلى لسانه " الحديث. وللترمذي من حديث عقبة بن عامر "قلت: يا رسول

(10/446)


الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك" .

(10/447)


32 - باب حَقِّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الأَبْوَابِ
6020- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَاباً" .
قوله: "باب حق الجوار في قرب الأبواب" ذكر فيه حديث عائشة "قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا" وقد تقدم الكلام على سنده مستوفي في كتاب الشفعة. وقوله: "أقربهما" أي أشدهما قربا. قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف لها بخلاف الأبعد وأن الأقرب أسرع إجارة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة. وقال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب، لأن الهدية في الأصل ليست واجبة فلا يكون الترتيب فيها واجبا. ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أولى، وفيه تقديم العلم على العمل. واختلف في حد الجوار: فجاء عن علي رضي الله عنه "من سمع النداء فهو جار" وقيل: "من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار" وعن عائشة "حد الجوار أربعون دارا من كل جانب" وعن الأوزاعي مثله. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" مثله عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعا: "ألا إن أربعين دارا جار" وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب "أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه" وهذا يحتمل كالأولى، ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة.

(10/447)


33 - باب كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ
6021- حدثنا علي بن عياش حدثنا أبو غسان قال حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل معروف صدقة" .
6022- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ" .
قوله: "باب كل معروف صدقة" أورد فيه حديث جابر بهذا اللفظ، وقد أخرج مسلم من حديث حذيفة وقد أخرجه الدار قطني والحاكم من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن ابن المنكدر مثله وزاد في آخره: " وما أنفق الرجل على أهله كتب له به صدقة، وما وقى به المرء عرضه فهو صدقة" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن المنكدر عن أبيه كالأول وزاد: ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تلقي من دلوك

(10/447)


34 - باب طِيبِ الْكَلاَمِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ"
6023- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: "ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ". قَالَ شُعْبَةُ: أَمَّا مَرَّتَيْنِ فَلاَ أَشُكُّ ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" .
قوله: "باب طيب الكلام" أصل الطيب ما تستلذه الحواس، ويختلف باختلاف متعلقه، قال ابن بطال: طيب الكلام من جليل عمل البر لقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية، والدفع قد يكون بالقول كما يكون

(10/448)


بالفعل. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الكلمة الطيبة صدقة" هو طرف من حديث أورده المصنف موصولا في كتاب الصلح وفي كتاب الجهاد، وقد تقدم الكلام عليه هناك في "باب من أخذ بالركاب" قال ابن بطال: وجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية. ذكر المصنف حديث عدي بن حاتم، وفيه: " اتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" وقوله: "أخبرني عمرو" كذا لهم وهو ابن مرة، وقد تقدم الحديث من طريق شعبة عنه في كتاب الزكاة مع شرحه، وخيثمة شيخ عمرو هو ابن عبد الرحمن، وتقدم الحديث مبسوطا في علامات النبوة.

(10/449)


35 - باب الرِّفْقِ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ
6024- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ: فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَهْلاً يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ" .
6025- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا إِلَيْهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُزْرِمُوهُ ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب الرفق في الأمر كله" الرفق بكسر الراء وسكون الفاء بعدها قاف هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف. حديث عائشة في قصة اليهود لما قالوا السام عليكم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان، وقوله: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" في حديث عمره عن عائشة عند مسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، وقيل: المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، والأول أوجه. وله في حديث شريح بن هانئ عنها "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شأنه" وفي حديث أبي الدرداء "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير" الحديث، وأخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة. وفي حديث جرير عند مسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" وقوله فيه: "عن صالح" هو ابن كيسان. حديث أنس في قصة الذي بال في المسجد، وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، وقوله: "لا تزرموه" بضم أوله وسكون الزاي وكسر الراء من الإزرام، أي لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم البول إذا انقطع وأزرمته قطعته، وكذلك يقال في الدمع.

(10/449)


36 - باب تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً
6026- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي

(10/449)


37 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً}
كِفْلٌ: نَصِيبٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: كِفْلَيْنِ: أَجْرَيْنِ بِالْحَبَشِيَّةِ
6028- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ" .
قوله: "باب قول الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} " كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {مُقِيتاً} وقد عقب المصنف الحديث المذكور قبله بهذه الترجمة إشارة إلى أن الأجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال: هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وحاصله أن من

(10/451)


شفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر، وقيل: الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن والسيئة الدعاء عليه. قوله: "كفل نصيب" هو تفسير أبي عبيدة. وقال الحسن وقتادة: الكفل الوزر والإثم. وأراد المصنف أن الكفل يطلق ويراد به النصيب، ويطلق ويراد به الأجر، وأنه في آية النساء بمعنى الجزاء، وفي آية الحديد بمعنى الأجر. ثم ذكر حديث أبي موسى، وقد أشرت إلى ما فيه في الذي قبله. ووقع فيه: "إذا أتاه صاحب الحاجة" وعند الكشميهني: "صاحب حاجة". قوله: "قال أبو موسى: كفلين أجرين بالحبشية" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبي موسى الأشعري في قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال: ضعفين بالحبشية أجرين.

(10/452)


38 - باب لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً
6029- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ سَمِعْتُ مَسْرُوقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ح وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَقَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقاً ".
6030- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ" .
6031- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى هُوَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً وَلاَ فَحَّاشاً وَلاَ لَعَّاناً كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ" .
[الحديث 6031 – طرفه في: 6046]
6032- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ" .
[الحديث 6032 – طرفاه في: 6054، 6131]

(10/452)


قوله: "باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا" كذا للأكثر، وللكشميهني: "ولا متفحشا" بالتشديد كما في لفظ حديث عبد الله بن عمرو في الباب، ووقع في بعضها بلفظ: "متفاحشا" والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول والفعل، والصفة، يقال طويل فاحش الطول إذا أفرط في طوله، لكن استعماله في القول أكثر. والمتفحش بالتشديد الذي يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه. وأغرب الداودي فقال: الفاحش الذي يقول الفحش، والمتفحش الذي يستعمل الفحش ليضحك الناس. حديث عبد الله بن عمرو، أورده من طريق شعبة عن سليمان وهو الأعمش سمعت أبا وائل، ومن طريق جرير عن الأعمش عن شقيق بن سلمة وهو أبو وائل المذكور، وقد تقدم المتن بتمامه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في معناه، وفيه أيضا قوله: "إن من خيركم أحسنكم أخلاقا" ووقع هنا للكشميهني: "إن خيركم" وتبين بالرواية الأخرى أن "من" مرادة فيه. ووقع للأكثر "أخيركم" بوزن أفضلكم ومعناه وهي على الأصل، والرواية الأخرى بمعناها، يقال فلان خير من فلان أي أفضل منه، وقد أخرج أحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أسامة رفعه: "إن الله لا يحب كل فحاش متفحش". حديث عائشة في قصة اليهود، وقد تقدم قريبا في "باب الرفق" وأن شرحه يأتي في الاستئذان، ووقع هنا "يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش" وقد حكى عياض عن بعض شيوخه أن عين العنف مثلثة والمشهور ضمها. حديث أنس: قوله: "سبابا" بالمهملة وموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "كان يقول لأحدنا عند المعتبة" بفتح الميم وسكون المهملة وكسر المثناة الفوقية - ويجوز فتحها - بعدها موحدة وهي مصدر عتب عليه يعتب عتبا وعتابا ومعتبة ومعاتبة، قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة. قوله: "ما له ترب جبينه" قال الخطابي: يحتمل أن يكون المعنى خر لوجهه فأصاب التراب جبينه ويحتمل أن يكون دعاء له بالعبادة كأن يصلي فيترب جبينه، والأول أشبه لأن الجبين لا يصلي عليه، قال ثعلب: الجبينان يكتنفان الجبهة ومنه قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي ألقاه على جبينه. قلت: وأيضا فالثاني بعيد جدا، لأن هذه الكلمة استعملها العرب قبل أن يعرفوا وضع الجبهة بالأرض في الصلاة. وقال الداودي: قوله ترب جبينه كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط جبينه للأرض، وهو كقولهم رغم أنفه، ولكن لا يراد معنى قوله ترب جبينه، بل هو نظير ما تقدم في قوله تربت يمينك، أي أنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها. حديث عائشة. قوله: "حدثنا عمرو بن عيسى" هو أبو عثمان الضبعي البصري، ثقة مستقيم الحديث قاله ابن حبان وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الصلاة. وشيخه محمد بن سواء هو أبو الخطاب السدوسي البصري، ثقة أيضا، له عند البخاري هذا الحديث وآخر في المناقب. وشيخه روح بن القاسم مشهور كثير الحديث وقد تابعه عن محمد بن المنكدر سفيان بن عيينة كما سيأتي في "باب اغتياب أهل الفساد" وفي "باب المداراة" ومعمر عند مسلم وسياق روح أتم. قوله: "عن عروة عن عائشة" في رواية ابن عيينة "سمعت عروة أن عائشة أخبرته". قوله: "أن رجلا" قال ابن بطال هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له الأحمق المطاع، ورجا النبي صلى الله عليه وسلم بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم، وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك، ونقله ابن التين عن الداودي لكن احتمالا لا جزما، وقد أخرجه عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" من طريق عبد

(10/453)


الله بن عبد الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة "استأذن عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بئس ابن العشيرة" الحديث، وأخرجه ابن بشكوال في "المبهمات" من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا. وأخرج عبد الغني أيضا من طريق أبي عامر الخراز عن أبي يزيد المدني عن عائشة قالت: "جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال: بئس أخو العشيرة" الحديث وهكذا وقع لنا في أواخر الجزء الأول من "فوائد أبي إسحاق الهاشمي" وأخرجه الخطيب، فيحمل على التعدد. وقد حكى المنذر في مختصره القولين فقال: هو عيينة، وقيل مخرمة. وأما شيخنا ابن الملقن فاقتصر على أنه مخرمة وذكر أنه نقله من حاشية بخط الدمياطي فقصر، لكنه حكى بعد ذلك عن ابن التين أنه جوز أنه عيينة قال: وصرح به ابن بطال. قوله: "بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة" في رواية معمر "بئس أخو القوم وابن القوم" وهي بالمعني، قال عياض المراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة. وقال غيره العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده. قوله: "فلما جلس تطلق" بفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي أبدى له طلاقة وجهه، يقال وجهه طلق وطليق أي مسترسل منبسط غير عبوس، ووقع في رواية ابن عامر "بش في وجهه" ولأحمد من وجه آخر عن عائشة "واستأذن آخر فقال نعم أخو العشيرة" فلما دخل لم يهش له ولم ينبسط كما فعل بالآخر، فسألته فذكر الحديث. قال الخطابي: جمع هذا الحديث علما وأدبا، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته. قلت: وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه. وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى. ثم قال تبعا لعياض: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى. وقال عياض: لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم. فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرفه باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه فيكون ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له. ثم ذكر نحو ما تقدم. وهذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ونحوهم والله أعلم. قوله: "متى عهدتني فاحشا" في رواية الكشميهني: "فحاشا" بصيغة المبالغة. قوله: "من تركه

(10/454)


الناس" في رواية عيينة "من تركه أو ودعه الناس" قال المازري: ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يدع وماضيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد نطق بالمصدر في قوله: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات" وبماضيه في هذا الحديث. وأجاب عياض بأن المراد بقولهم أماتوه أي تركوا استعماله إلا نادرا، قال: ولفظ أماتوه يدل عليه ويؤيد ذلك أنه لم ينقل في الحديث إلا في هذين الحديثين مع شك الراوي في حديث الباب مع كثرة استعمال ترك ولم يقل أحد من النحاة إنه لا يجوز. قوله: "اتقاء شره" أي قبح كلامه، لأن المذكور كان من جفاة العرب. وقال القرطبي: في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور ختم له بسوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتقى فحشه وشره، أخبر أن من يكون كذلك يكون شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة. قلت: ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال، فإن الحديث ورد بلفظ العموم فمن اتصف بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد، وشرط ذلك أن يموت على ذلك، ومن أين له أن عيينة مات على ذلك؟ واللفظ المذكور يحتمل لأن يقيد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك، وما المانع أن يكون تاب وأناب؟ وقد كان عيينة ارتد في زمن أبي بكر وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر، وله مع عمر قصة ذكرت في تفسير الأعراف، ويأتي شرحها في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى، وفيها ما يدل على جفائه. والحديث الذي فيه أنه "أحمق مطاع" أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: "جاء عيينة بن حصن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال: من هذه؟ قال: أم المؤمنين: قال ألا أنزل لك عن أجمل منها. فغضبت عائشة وقالت: من هذا؟ قال: هذا أحمق" ووصله الطبراني من حديث جرير وزاد فيه: اخرج فاستأذن، قال: إنها يمين علي أن لا أستأذن على مضري. وعلى تقدير أن يسلم له ذلك وللقاضي قبله في عيينة لا يسلم له ذلك في مخرمة بن نوفل وسيأتي في "باب المداراة" ما يدل على أن تفسير المبهم هنا بمخرمة هو الراجح.

(10/455)


39 - باب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الْبُخْلِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ فَرَجَعَ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ
6033- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْراً أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ" .
6034- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لاَ".

(10/455)


6035- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُنَا إِذْ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً" .
6036- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقَالَ الْقَوْمُ هِيَ الشَّمْلَةُ فَقَالَ سَهْلٌ هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا فَقَالَ: "نَعَمْ" فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَمَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجاً إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئاً فَيَمْنَعَهُ فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا".
6037- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ" .
6038- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ سَمِعَ سَلاَمَ بْنَ مِسْكِينٍ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتاً يَقُولُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ أَلاَ صَنَعْتَ؟".
قوله: "باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل" جمع في هذه الترجمة بين هذه الأمور الثلاثة لأن السخاء من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من معظمها والبخل ضده، فأما الحسن فقال الراغب: هو عبارة عن كل مرغوب فيه إما من جهة العقل وإما من جهة العرض وإما من جهة الحسن، وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، انتهى ملخصا. وأما الخلق فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها، قال الراغب: الخلق والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة انتهى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان. وفي حديث علي الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم: "واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت " وقال القرطبي في "المفهم": الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك،

(10/456)


وأما السخاء فهو بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض، وعطفه على حسن الخلق من عطف الخاص على العام، وإنما أفرد للتنويه به. وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول. وأشار بقوله: "وما يكره من البخل" إلى أن بعض ما يجوز انطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذموما. قوله: "وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس" تقدم موصولا في كتاب الإيمان، وتقدم شرحه في كتاب الصيام، وفيه بيان السبب في أكثرية جوده في رمضان. قوله: "وقال أبو ذر لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه الخ" كذا للأكثر بتكرير قال. وفي رواية الكشميهني: "وكان أبو ذر الخ " وهي أولى، وهذا طرف من قصة إسلام أبي ذر، وقد تقدمت موصولة مطولة في المبعث النبوي مشروحة والغرض منه هنا قوله: "ويأمر بمكارم الأخلاق" والمكارم جمع مكرمة بضم الراء وهي من الكرم، قال الراغب: وهو اسم الأخلاق، وكذلك الأفعال المحمودة، قال ولا يقال للرجل كريم حتى يظهر ذلك منه، ولما كان أكرم الأفعال ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرفها ما يقصد به وجه الله تعالى، وإنما يحصل ذلك من المتقي قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وكل فائق في بابه يقال له كريم. حديث أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس" أي أحسنهم خلقا وخلقا "وأجود الناس" أي أكثرهم بذلا لما يقدر عليه "وأشجع الناس" أي أكثرهم إقداما مع عدم الفرار، وقد تقدم شرح الحديث المذكور في كتاب الهبة، واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم لأنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية وكمالها الجود، ثالثها: العقلية وكمالها النطق بالحكمة. وقد أشار أنس إلى ذلك بقوله: "أحسن الناس" لأن الحسن يشمل القول والفعل، ويحتمل أن يكون المراد بأحسن الناس حسن الخلقة وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبع صفاء النفس الذي منه جودة القريحة التي تنشأ عنها الحكمة قاله الكرماني، وقوله: "فزع أهل المدينة" أي سمعوا صوتا في الليل فخافوا أن يهجم عليهم عدو، وقوله: "فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، قد سبق الناس إلى الصوت" أي أنه سبق فاستكشف الخبر فلم يجد ما يخاف منه فرجع يسكنهم. وقوله: "لم تراعوا" هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيسا، وإظهارا للرفق بالمخاطب. حديث جابر. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن ابن المنكدر" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي الوليد الطيالسي ومن طريق عبد الله وهو ابن المبارك كلاهما عن سفيان "سمعت محمد بن المنكدر". قوله: "ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا" كذا للجميع، وكذا في "الأدب المفرد" من طريق ابن عيينة سمعت ابن المنكدر، ووقع في رواية الإسماعيلي من الطريقين المذكورين، وكذا عند مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ: "ما سئل شيئا قط فقال لا" قال الكرماني: معناه ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه، قال الفرزدق: "ما قال لا قط إلا في تشهده" قلت: وليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزما، بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت. وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية أخرجه ابن سعد ولفظه: "إذا سئل فأراد أن يفعل قال نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت" وهو قريب من حديث أبي هريرة الماضي في الأطعمة "ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه" وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: معناه لم يقل "لا" منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ

(10/457)


مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ولا يخفى الفرق بين قول لا أجد ما أحملكم وبين لا أجملكم. قلت: وهو نظير ما تقدم في حديث أبي موسى الأشعري لما سأل الأشعريون الحملان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم" لكن يشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعري المذكور أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال: "والله لا أحملكم" فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر بما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة أو من حال السائل، كأن يكون لم يعرف العادة، فلو اقتصر في جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ} وقوله: "والله لا أحملكم" أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الأيمان والنذور. وفهم بعضهم من لازم عدم قول "لا" إثبات "نعم" ورتب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل، لأن من القواعد أنه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء كان ذلك علامة وجوبه، والترجمة تقتضي أن البخل مكروه. وأجيب بأنه إذا تم هذا البحث حملت الكراهة على التحريم، لكنه لا يتم لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب سلمنا أنه يدل على الوجوب لكن على من هو في مقام النبوة، إذ مقابله نقص منزه عنه الأنبياء فيختص الوجوب بالنبي صلى الله عليه وسلم، والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره، ومقابله أن منه ما يحرم كما أن فيه ما يباح بل ويستحب بل ويجب، فلذلك اقتصر المصنف على قوله يكره. حديث مسروق "كنا جلوسا عند عبد الله بن عمرو بن العاص" ورجاله إلى الصحابة كوفيون، وقد دخلها كما تقدم صريحا في هذا الحديث في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "لم يكن فاحشا" تقدم شرحه في الباب المذكور وهو الحديث السادس عشر منه، وقوله فيه: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا" في رواية الكشميهني: "أحسنكم" ووقع في الرواية الماضية "إن من خياركم" وهي مرادة هنا. وقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس رفعه: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رفعه: "إن من أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا " ولأحمد بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة نحوه بلفظ: "أحسن الناس إسلاما" وللترمذي من حديث جابر رفعه: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولأحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي ثعلبة نحوه وقال: "أحاسنكم أخلاقا" وسياقه أتم، وللبخاري في الأدب المفرد وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك "قالوا: يا رسول الله من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خلقا" وفي رواية عنه "ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن" ومن الأحاديث الصحيحة في حسن الخلق حديث النواس بن سمعان رفعه: "البر حسن الخلق" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد"، وحديث أبي الدرداء رفعه: "ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان وزاد الترمذي فيه وهو عند البزار "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة" وأخرجه أبو داود وابن حبان أيضا والحاكم من حديث عائشة نحوه، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" والحاكم من حديث أبي هريرة، وأخرجه الطبراني من حديث أنس نحوه، وأحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو. وأخرج الترمذي وابن حبان وصححاه وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" من

(10/458)


حديث أبي هريرة "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق" وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" والأحاديث في ذلك كثيرة. وحكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا: هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود "إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم" الحديث وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في كتاب القدر. وقال القرطبي في "المفهم" الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حني يقوى. قلت: وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. قال: يا رسول الله، قديما كانا في أو حديثا؟ قال: قديما. قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما" فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب. حديث سهل بن سعد في قصة البردة التي سأل الصحابي لتكون كفنه، والغرض منه قولهم للذي طلبها: "سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الجنائز، وفي قولهم: "سألته إياها" استعمال ثاني الضميرين منفصلا وهو المتعين هنا فرارا من الاستثقال، إذ لو قاله متصلا فإنه يصير هكذا سألتموها، قال ابن مالك: والأصل أن لا يستعمل المنفصل إلا عند تعذر المتصل؛ لأن الاتصال أخصر وأبين، لكن إذا اختلف الضميران وتقاربا فالأحسن الانفصال نحو هذا، فإن اختلفا في الرتبة جاز الاتصال والانفصال مثل أعطيتكه وأعطيتك إياه. حديث أبي هريرة "يتقارب الزمان" وسيأتي شرحه في كتاب الفتن وقوله فيه: "وينقص العمل" وقع في رواية الكشميهني: "وينقص العلم" وهو المعروف في هذا الحديث وللآخر وجه. وقوله فيه: "ويلقى الشح" وهو مقصود الباب وهو أخص من البخل فإنه بخل مع حرص. واختلف في ضبط "يلقى" فالأكثر على أنه بسكون اللام أي يوضع في القلوب فيكثر، وهو على هذا بالرفع، وقيل: بفتح اللام وتشديد القاف أي يعطي القلوب الشح، وهو على هذا بالنصب حكاه صاحب "المطالع" وقال الحميدي: لم تضبط الرواة هذا الحرف، ويحتمل أن يكون "تلقى" بالتشديد أي يتلقى ويتواصى به ويدعوه إليه من قوله: "وما يلقاها إلا الصابرون" أي ما يعلمها وينبه عليها، قال ولو قيل: يلقى مخففة لكان بعيدا لأنه لو ألقي لترك وكان مدحا والحديث مساق للذم، ولو كان بالفاء بمعنى يوجد لم يستقم لأنه لم يزل موجودا. اهـ. وقد ذكرت توجيه القاف. حديث أنس. قوله: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين" تقدم نظيره في الوليمة من وجه آخر عن أنس، ومثله عند أحمد وغيره عن ثابت عن أنس، وكذا هو في معظم الروايات، ووقع عند مسلم من طريق إسحاق بن طلحة عن أنس "والله لقد خدمته تسع سنين" ولا مغايرة بينهما لأن ابتداء خدمته له كان بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة، فقد مضى في الوصايا من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي" الحديث وفيه: "إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال فخدمته في السفر والحضر" وأشار بالسفر إلى ما وقع في المغازي وغيرها من طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه فأحضر له أنسا" فأشكل هذا على الحديث الأول لأن

(10/459)


بين قدومه المدينة وبين خروجه إلى خيبر ست سنين وأشهرا. وأجيب بأنه طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر فعرف أبو طلحة من أنس القوة على ذلك فأحضره، فلهذا قال أنس في هذه الرواية: "خدمته في الحضر والسفر" وإنما تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر؛ لأنها بادرت إلى الإسلام ووالد أنس حي فعرف بذلك فلم يسلم وخرج في حاجة له فقتله عدو له، وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه فاتفق أنه خطبها فاشترطت عليه أن يسلم فأسلم أخرجه ابن سعد بسند حسن، فعلى هذا تكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهرا، فألغى الكسر مرة وجبره أخرى. وقوله في هذا الحديث: "والله ما قال لي أف قط" قال الراغب: أصل الأف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال أيضا عند تكره الشيء وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل كأففت بفلان، وفي أف عدة لغات: الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين، ووقع في رواية مسلم هنا "أفا" بالنصب والتنوين وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة كما سيأتي، وهذا كله مع ضم الهمزة والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح، وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة فبلغها تسعا وثلاثين ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين، وقد سردها أبو حيان في "البحر" واعتمد على ضبط القلم. ولخص ضبطها صاحبه الشهاب السمين ولخصته منه، وهي الستة المقدمة، وبالتخفيف كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشددا ومخففا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا، وأفي بالإمالة وبين بين وبلا إمالة الثلاثة بلا تنوين، وأفو بضم ثم سكون وأفي بكسر ثم سكون. فذلك ثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة ويجوز كسرها وفتحها، فأما بكسرها ففي إحدى عشرة: كسر الفاء وضمها ومشددا مع التنوين وعدمه أربعة ومخففا بالحركات الثلاث مع التنوين وعدمه ستة، وأفي بالإمالة والتشديد، وأفا بفتح الهمزة ففي ست بفتح الفاء وكسرها مع التنوين وعدمه أربعة وبالسكون وبألف مع التشديد، والتي زادها ابن عطية أفاه بضم أوله وزيادة ألف وهاء ساكنة، وقرئ من هذه اللغات ست كلها بضم الهمزة، فأكثر السبعة بكسر الفاء مشددا بغير تنوين، ونافع وحفص كذلك لكن بالتنوين، وابن كثير وابن عامر بالفتح والتشديد بلا تنوين، وقرأ أبو السماك كذلك لكن بضم الفاء، وزيد بن علي بالنصب والتنوين، وعن ابن عباس بسكون الفاء. قلت: وبقي من الممكن في ذلك أفي كما مضى لكن بفتح الفاء وسكون الياء، وأفيه بزيادة هاء، وإذا ضممت هاتين إلى التي زادها ابن عطية وأضفتها إلى ما بدئ به صارت العدة خمسا وعشرين كلها بضم الهمزة، فإذا استعملت القياس في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك وبكسرها كذلك فتكمل خمسا وسبعين. قوله: "ولا لم صنعت ولا ألا صنعت" بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا. وفي رواية مسلم من هذا الوجه "لشيء مما يصنعه الخادم" وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة "ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، ولشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا" وفي رواية عبد العزيز بن صهيب "ما قال لشيء صنعته لم صنعت هذا كذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا كذا" ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات، لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(10/460)


40 - باب كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ؟
6039- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ".
قوله: "باب" بالتنوين "كيف يكون الرجل في أهله؟" ذكر فيه حديث عائشة "كان في مهنة أهله" وقد تقدم شرحه في أبواب صلاة الجماعة من كتاب الصلاة. قوله: "في مهنة أهله" المهنة بكسر الميم وبفتحها، وأنكر الأصمعي الكسر وفسرها هناك بخدمة أهله، وبينت أن التفسير من قول الراوي عن شعبة، وأن جماعة رووه عن شعبة بدونها، وكذا أخرجه ابن سعد في الترجمة النبوية عن وهب بن جرير وعفان وأبي قطن كلهم عن شعبة بدونها؛ لكن وقع عنده عن أبي النضر عن شعبة في آخره: "يعني بالمهنة في خدمة أهله" وقد وقع في حديث آخر لعائشة أخرجه أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان من رواية هشام بن عروة عن أبيه "قلت لعائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم" وفي رواية لابن حبان: "ما يعمل أحدكم في بيته" وله ولأحمد من رواية الزهري عن عروة عن عائشة "يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه" وله من طريق معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة بلفظ: "ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" وأخرجه الترمذي في الشمائل والبزار وقال: وروي عن يحيى عن القاسم عن عائشة، وروي عن يحيي عن حميد المكي عن مجاهد عن عائشة. وفي رواية حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عند أبي سعد "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان بساما" قال ابن بطال: من أخلاق الأنبياء التواضع، والبعد عن التنعم، وامتهان النفس ليستن بهم ولئلا يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} .

(10/461)


41 - باب الْمِقَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
6040- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ ".
قوله: "باب المقة من الله" أي ابتداؤها من الله. المقة بكسر الميم وتخفيف القاف هي المحبة، وقد ومق يمق، والأصل الومق والهاء فيه عوض عن الواو، كعدة ووعد وزنة ووزن. وهذه الترجمة لفظ زيادة وقعت في نحو حديث الباب في بعض طرقه، لكنها على غير شرط البخاري فأشار إليها في الترجمة كعادته، أخرجه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة من طريق محمد بن سعد الأنصاري عن أبي ظبية بمعجمة عن أبي أمامة مرفوعا قال: "المقة من الله والصيت من السماء، فإذا أحب الله عبدا" الحديث. وللبزار من طريق أبي وكيع الجراح بن مليح عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: "ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان حسنا وضع في الأرض وإن كان سيئا

(10/461)


وضع في الأرض" والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية بعدها مثناة أصله الصوت كالريح من الروح، والمراد به الذكر الجميل، وربما قيل لضده لكن بقيد. قوله: "أبو عاصم" هو النبيل، وهو من كبار شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة مثل هذا، فقد علقه في بدء الخلق لأبي عاصم وقد نبهت عليه ثم. قوله: "عن نافع" هو مولى ابن عمر، قال البزار بعد أن أخرجه عن عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري فيه: لم يروه عن نافع إلا موسى بن عقبة، ولا عن موسى إلا ابن جريج. قلت: وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان عند أحمد والطبراني في "الأوسط" وأبو أمامة عند أحمد، ورواه عن أبي هريرة أبو صالح عند المصنف في التوحيد وأخرجه مسلم والبزار. قوله: "إذا أحب الله العبد" وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان "إن العبد ليلتمس مرضاة الله تعالى فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي غلبت عليه" الحديث أخرجه أحمد والطبراني في "الأوسط" ويشهد له حديث أبي هريرة الآتي في الرقاق ففيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" الحديث. قوله: "إن الله يحب فلانا فأحبه" بفتح الموحدة المشددة ويجوز الضم، ووقع في حديث ثوبان "فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، وتقوله حملة العرش". قوله: " فينادي جبريل في أهل السماء الخ " في حديث ثوبان أهل السماوات السبع. قوله: "ثم يوضع له القبول في أهل الأرض" زاد الطبراني في حديث ثوبان "ثم يهبط إلى الأرض، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وثبتت هذه الزيادة في آخر هذا الحديث عند الترمذي وابن حاتم من طريق سهيل عن أبيه، وقد أخرج مسلم إسنادها ولم يسق اللفظ، وزاد مسلم فيه: "وإذا أبغض عبدا دعا جبريل" فساقه على منوال الحب وقال في آخره: "ثم يوضع له البغضاء في الأرض" ونحوه في حديث أبي أمامة عند أحمد، وفي حديث ثوبان عند الطبراني "وإن العبد يعمل بسخط الله فيقول الله يا جبريل إن فلانا يستسخطني" فذكر الحديث على منوال الحب أيضا وفيه: "فيقول جبريل: سخطة الله على فلان" وفي آخره مثل ما في الحب "حتى يقوله أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض" وقوله: "يوضع له القبول" هو من قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي رضيها، قال المطرزي: القبول مصدر لم أسمع غيره بالفتح؛ وقد جاء مفسرا في رواية القعنبي "فيوضع له المحبة" والقبول الرضا بالشيء وميل النفس إليه. وقال ابن القطاع: قبل الله منك قبولا والشيء والهدية أخذت. والخبر صدق، وفي التهذيب: عليه قبول إذا كانت العين تقبله، والقبول من الريح الصبا لأنها تستقبل الدبور، والقبول أن يقبل العفو والعافية وغير ذلك، وهو اسم للمصدر أميت الفعل منه. وقال أبو عمرو بن العلاء: القبول بفتح القاف لم أسمع غيره، يقال فلان عليه قبول إذا قبلته النفس، وتقبلت الشيء قبولا. ونحوه لابن الأعرابي وزاد: قبلته قبولا بالفتح والضم، وكذا قبلت هديته عن اللحياني. قال ابن بطال: في هذه الزيادة رد على ما يقوله القدرية إن الشر من فعل العبد وليس من خلق الله انتهى. والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه، ويؤخذ منه أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله، ويؤيده ما تقدم في الجنائز "أنتم شهداء الله في الأرض" والمراد بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له، وبمحبة الملائكة استغفارهم له وإرادتهم خير الدارين له وميل قلوبهم إليه لكونه مطيعا لله محبا له، ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وإرادتهم دفع الشر عنه ما أمكن، وقد تطلق محبة الله تعالى للشيء على إرادة إيجاده وعلى إرادة تكميله، والمحبة التي في هذا الباب من القبيل الثاني، وحقيقة المحبة

(10/462)


عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه، والحب على ثلاثة أقسام: إلهي وروحاني وطبيعي، وحديث الباب يشتمل على هذه الأقسام الثلاثة، فحب الله العبد حب إلهي، وحب جبريل والملائكة له حب روحاني، وحب العباد له حب طبيعي.

(10/463)


42 - باب الْحُبِّ فِي اللَّهِ
6041- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا" .
قوله: "باب الحب في الله" ذكر فيه حديث أنس "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان، وبيان أن هذه الترجمة أول حديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي أمامة ولفظه: "الحب في الله والبغض في الله من الإيمان" وأن له طرقا أخرى. قوله: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق أبيه وأمه وولده وزوجه وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله، ومن علامات محبته نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه، والله أعلم.

(10/463)


باب قول الله تعالى: {ياأيها الذين أمنوا لا يسخر قوما من قوما عسى أن يكونوا خيرا منهم ..}
...
43 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}
6042- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الأَنْفُسِ وَقَالَ بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوْ الْعَبْدِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا" . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَوُهَيْبٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ "جَلْدَ الْعَبْدِ".
6043- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم بِمِنًى: " أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" .
قوله: "باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية" كذا لأبي ذر والنسفي، وسقطت الآية لغيرهما وزاد {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} . وذكر فيه حديثين: أحدهما:

(10/463)


باب ما ينهى عن السباب واللعن
...
44 - باب مَا يُنْهَى مِنْ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ
6044- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ
6045- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ" .
6046- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ لَعَّاناً وَلاَ سَبَّاباً كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ ".
6047- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ

(10/464)


غَيْرِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِناً فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ" .
6048- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لاَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ" فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ أَتُرَى بِي بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ أَنَا؟ اذْهَبْ".
6049- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَإِنَّهَا رُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ" .
6050- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ هُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْداً وَعَلَى غُلاَمِهِ بُرْداً فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْباً آخَرَ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: "أَسَابَبْتَ فُلاَناً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلاَ يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب ما ينهى من السباب واللعن" في رواية غير أبي ذر والنسفي "عن" بدل "من" وهي أولى، وفي الأول حذف تقديره ما ينهى عنه. والسباب بكسر المهملة وتخفيف الموحدة تقدم بيانه مع شرح الحديث الأول في كتاب الإيمان، وهو محتمل لأن يكون على ظاهر لفظه من التفاعل، ويحتمل أن يكون بمعنى السب وهو الشتم وهو نسبة الإنسان إلى عيب ما، وعلى الأول فحكم من بدأ منهما أن الوزر عليه حتى يعتدي الثاني كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة وصحح ابن حبان من حديث العرباض بن سارية قال: "المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان". قوله: "تابعه محمد بن جعفر عن شعبة" وصله أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر وهو غندر بهذا الإسناد لكن قال فيه: "عن شعبة عن زبيد ومنصور" وزاد فيه زبيدا وهو بالزاي والموحدة مصغر، ومعنى اللعن الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى. قوله: "عن الحسين" هو ابن ذكوان المعلم، والإسناد إلى أبي

(10/465)


ذر بصريون وقد دخلها هو أيضا. وفي رواية مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث "حدثنا أبي حدثنا الحسين المعلم". قوله: "عن أبي ذر" في رواية الإسماعيلي من وجهين "عن أبي معمر" شيخ البخاري فيه بالسند إلى أبي الأسود أن أبا ذر حدثه. قوله: "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كما قال" وفي رواية للإسماعيلي: "إلا حار عليه" وفي أخرى "إلا ارتدت عليه" يعني رجعت عليه و"حار" بمهملتين أي رجع، وهذا يقتضي أن من قال لآخر أنت فاسق أو قال له أنت كافر فإن كان ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقا ولا كافرا أن لا يكون آثما في صورة قوله له أنت فاسق بل في هذه الصورة تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف لأنه قد يكون سببا لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس من الأنفة، ولا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة. ووقع في رواية مسلم بلفظ: "ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" ذكره في أثناء حديث في ذم من ادعى إلى غير أبيه، وقد تقدم صدره في مناقب قريش بالإسناد المذكور هنا، فهو حديث واحد فرقه البخاري حديثين، وسيأتي هذا المتن في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر بلفظ فقد باء بها أحدهما وهو بمعنى رجع أيضا، قال النووي: اختلف في تأويل هذا الرجوع فقيل رجع عليه الكفر إن كان مستحلا، وهذا بعيد من سياق الخبر، وقيل: محمول على الخوارج لأنهم يكفرون المؤمنين هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف. لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم. قلت: ولما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيرا من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل كما سيأتي إيضاحه في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم. وقيل: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، وهذا لا بأس به. وقيل: يخشى عليه أن يؤول به ذلك إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة، وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر فإنه يكفر بذلك كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه: "وجب الكفر على أحدهما" وقال القرطبي: حيث جاء الكفر في لسان الشرع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام بحقه كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان في "باب كفر دون كفر" وفي حديث أبي سعيد "يكفرن الإحسان ويكفرن العشير" قال وقوله باء بها أحدهما أي رجع بإثمها ولازم ذلك، وأصل البوء اللزوم، ومنه: "أبوء بنعمتك" أي ألزمها نفسي وأقر بها قال: والهاء في قوله: "بها" راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقل ما يدل عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة. والحاصل أن المقول له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت

(10/466)


للقائل معرة ذلك القول وإثمه، كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع، وهو من أعدل الأجوبة، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد رفعه: "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها" وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ورواته ثقات، ولكنه أعل بالإرسال. حديث أنس تقدم شرحه في "باب حسن الخلق". حديث ثابت بن الضحاك وقد اشتمل على خمسة أحكام وسيأتي في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" بتمامه إلا خصلة واحدة منها، ويأتي كذلك في الأيمان والنذور، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، ويؤخذ حكم ما يتعلق بتكفير من كفر المسلم من الذي قبله. وقوله: "لعن المسلم كقتله" أي لأنه إذا لعنه فكأنه دعا عليه بالهلاك. حديث سليمان بن صرد بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال مهملات، وهو ابن الجون بن أبي الجون الخزاعي، صحابي شهير يقال كان اسمه يسار بتحتانية ومهملة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا المطرف، وقتل في سنة خمس وستين وله ثلاث وتسعون سنة. قوله: "استب رجلان" لم أعرف أسماءهما ووقع في صفة إبليس من وجه آخر عن الأعمش بهذا السند "كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان". قوله: "حتى انتفخ وجهه" في الرواية المذكورة "فاحمر وجهه وانتفخت أوداجه" وفي رواية مسلم: "تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه" وقد تقدم تفسير الودج في صفة إبليس، وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن "حتى أنه ليخيل إلي أن أنفه ليتمزع من الغضب". قوله: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد" في الرواية المذكورة " لو قال أعوذ بالله من الشيطان" وفي رواية مسلم: "الرجيم" ومثله في حديث معاذ ولفظه: "إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم" . قوله: "فانطلق إليه الرجل" في رواية مسلم: "فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية المتقدمة "فقالوا له" فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه منهم واحد وهو معاذ بن جبل كما بينته رواية أبي داود ولفظه: "قال فجعل معاذ يأمره، فأبى وضحك وجعل يزداد غضبا". قوله: "وقال تعوذ بالله" في الرواية المذكورة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله" وهو بالمعنى فإنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك، وليس في الخبر أنه أمرهم أن يأمروه بذلك، لكن استفادوا ذلك من طريق عموم الأمر بالنصيحة للمسلمين. قوله: "أترى بي بأس" بضم التاء أي أتظن، ووقع "بأس" هنا بالرفع للأكثر وفي بعضها "بأسا" بالنصب وهو أوجه. قوله: "أمجنون أنا" في الرواية المذكورة "وهل بي من جنون؟" قوله: "اذهب" هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ أي امض في شغلك. وأخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيء، وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان ولهذا يخرج به عن صورته ويزين إفساد ما له كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الإقدام على من أغضبه ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال، وقد أخرج أبو داود من حديث عطية السعدي رفعه: "إن الغضب من الشيطان" الحديث. حديث عبادة بن الصامت في ذكر ليلة القدر وقد تقدم في أواخر الصيام مشروحا وأورده هنا لقوله فيه: "فتلاحى" أي تنازع، والتلاحي بالمهملة أي التجادل والتنازع، وهو يفضي في الغالب إلى المساببة

(10/467)


وتقدم أن الرجلين هما كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد. حديث أبي ذر "ساببت رجلا" وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان وأن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، وكان اسم أمه حمامة بفتح المهملة وتخفيف الميم. وقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية" التنوين للتقليل، والجاهلية ما كان قبل الإسلام، ويحتمل أن يراد بها هنا الجهل أي إن فيك جهلا. وقوله: "قلت على ساعتي هذه من كبر السن" أي هل في جاهلية أو جهل وأنا شيخ كبير؟ وقوله: "هم إخوانكم" أي العبيد أو الخدم حتى يدخل من ليس في الرق منهم، وقرينة قوله: "تحت أيديكم" ترشد إليه، ويؤخذ منه المبالغة في ذم السب واللعن لما فيه من احتقار المسلم، وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، وينتفع الوضيع النسب بالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

(10/468)


3 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ.
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟" وَمَا لاَ يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ.
6051- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلاَةُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ قَالُوا بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ" .
قوله: "باب ما يجوز من ذكر الناس" أي بأوصافهم "نحو قولهم الطويل والقصير. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يقول ذو اليدين، وما لا يراد به شين الرجل" هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما هو فيه. وحاصله أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره، ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لما سلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟" وقد أورده المصنف في الباب ولم يذكر هذه الزيادة. وقال في سياق الرواية التي أوردها "وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه ذا اليدين" وأما الرواية التي علقها في الباب فوصلها في "باب تشبيك الأصابع" في أوائل كتاب الصلاة من طريق ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة ولكن لفظه: "أكما يقول ذو اليدين؟" وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب عن ابن سيرين بلفظ: "ما يقول ذو اليدين؟" وهو المطابق للتعليق المذكور، وإلى ما ذهب إليه البخاري من التفصيل في ذلك ذهب الجمهور، وشذ قوم فشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان يقول: أخاف أن يكون قولنا حميدا الطويل غيبة، وكأن

(10/468)


البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها "وفي القوم رجل في يديه طول" قال ابن المنير أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز وإن كان للتنقيص لم يجز، قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتبتيها" وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا إنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب انتهى. الحديث المذكور أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الغيبة" وابن مردويه في "التفسير" و(1) في(1) من طريق حبان بن مخارق عن عائشة وهو(1) .
ـــــــ
(1) كذا بياض بالأصل

(10/469)


46 - باب الْغِيبَةِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
6052- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِداً يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِداً وَعَلَى هَذَا وَاحِداً ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" .
قوله: "باب الغيبة وقول الله تعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية" هكذا اكتفى بذكر الآية المصرحة بالنهي عن الغيبة ولم يذكر حكمها كما ذكر حكم النميمة بعد بابين حيث جزم بأن النميمة من الكبائر، وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها، فأما حدها فقال الراغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك. وقال الغزالي: حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه. وقال ابن الأثير في النهاية: الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه. وقال النووي في "الأذكار" تبعا للغزالي: ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز. قال النووي: وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة. وتمسك من قال: إنها لا يشترط فيها غيبة الشخص بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعه: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكرهه. قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" وله شاهد مرسل عن المطلب بن عبد الله عند مالك، فلم يقيد ذلك بغيبة الشخص فدل على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره، والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لاشتقاقها؛ وبذلك جزم أهل اللغة. قال ابن التين: الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب. وكذا قيده الزمخشري وأبو نصر القشيري في

(10/469)


التفسير وابن خميس في جزء له مفرد في الغيبة والمنذري وغير واحد من العلماء من آخرهم الكرماني قال: الغيبة أن تتكلم خلف الإنسان بما يكرهه لو سمعه وكان صدقا. قال: وحكم الكناية والإشارة مع النية كذلك. وكلام من أطلق منهم محمول على المقيد في ذلك. وقد وقع في حديث سليم بن جابر(1) والحديث سيق لبيان صفتها واكتفي باسمها على ذكر محلها. نعم المواجهة بما ذكر حرام لأنه داخل في السب والشتم، وأما حكمها فقال النووي في "الأذكار": الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك. وذكر في "الروضة" تبعا للرافعي أنها من الصغائر، وتعقبه جماعة. ونقل أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر لأن حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه. وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر إلا صاحب العدة(2) والغزالي. وصرح بعضهم بأنها من الكبائر. وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقل من التفصيل، فمن اغتاب وليا لله أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلا. وقد قالوا: ضابطها ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذيه بذلك وأذى المسلم محرم. وذكر النووي من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رفعه: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" أخرجه أبو داود وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد وحديث سعيد بن زيد رفعه: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" أخرجه أبو داود، وله شاهد عند البزار وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، وعند أبي يعلى من حديث عائشة، ومن حديث أبي هريرة رفعه: "من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا، فيأكله ويكلح ويصيح" سنده حسن. وفي "الأدب المفرد" عن ابن مسعود قال: "ما التقم أحد لقمة شرا من اغتياب مؤمن" الحديث، وفيه أيضا وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا "وإن رجلا قال لصاحبه انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم كلا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت - فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة" وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" بسند حسن عن جابر قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين" وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على أن الغيبة من الكبائر، لكن تقييده في بعضها بغير حق قد يخرج الغيبة بحق لما تقرر أنها ذكر المرء بما فيه. حديث ابن عباس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين يعذبان" الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه يمشي بالنميمة، قال ابن التين: إنما ترجم بالغيبة وذكر النميمة لأن الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه يظهر الغيب. وقال الكرماني: الغيبة نوع من النميمة لأنه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمه. قلت: الغيبة قد توجد في بعض صور النميمة، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه مما يسوؤه قاصدا بذلك الإفساد، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما رد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحا، وهو ما أخرجه هو في "الأدب المفرد" من حديث جابر قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى على قبرين - فذكر فيه نحو حديث الباب وقال فيه - أما أحدهما فكان يغتاب الناس" الحديث. وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما
ـــــــ
(1) بياض بأصله.
(2) في نسخة العمدة.

(10/470)


يعذبان، وما يعذبان في كبير وبكى - وفيه - وما يعذبان إلا في الغيبة والبول" ولأحمد والطبراني أيضا من حديث يعلى بن شبابة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب صاحبه فقال: إن هذا كان يأكل لحوم الناس ثم دعا بجريدة رطبة" الحديث، ورواته موثقون. ولأبي داود الطيالسي عن ابن عباس بسند جيد مثله. وأخرجه الطبراني وله شاهد عن أبي أمامة عند أبي جعفر الطبري في التفسير. وأكل لحوم الناس يصدق على النميمة والغيبة. والظاهر اتحاد القصة، ويحتمل التعدد، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الطهارة.

(10/471)


47 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ ...".
6053- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار" ذكر فيه أول حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه وقي إيراده هذه الترجمة هنا إشكال، لأن هذا ليس من الغيبة أصلا إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك فيستثنى ذلك من عموم قوله: "ذكرك أخاك بما يكره" ويكون محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة ولو كرهه المحدث عنه، ويدخل في ذلك ما يذكر لقصد النصيحة من بيان غلط من يخشى أن يقلد أو يغتر به في أمر ما، فلا يدخل ذكره بما يكره من ذلك في الغيبة المحرمة كما سيأتي، وإليه يشير ما ترجم به المصنف عقب هذا. حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه. قال ابن التين: في حديث أبي أسيد دليل على جواز المفاضلة بين الناس لمن يكون عالما بأحوالهم لينبه على فضل الفاضل ومن لا يلحق بدرجته في الفضل، فيمتثل أمره بتنزيل الناس منازلهم، وليس ذلك بغيبة.

(10/471)


48 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالرِّيَبِ
6054- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلاَمَ؟ قَالَ: أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" .
قوله: "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد" ذكر فيه حديث عائشة في قوله: "بئس أخو العشيرة" وقد تقدم شرحه قريبا في "باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا". وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة. والجواب أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، وإذا استثني منه ما ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي. قوله في الحديث: "إن شر الناس" استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته، ويستنبط منه

(10/471)


باب الغيبة من الكبائر
...
49 - باب النَّمِيمَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ
6055- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبِيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا فَقَالَ: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا بِكِسْرَتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فَجَعَلَ كِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا وَكِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" .
قوله: "باب النميمة من الكبائر" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر وحده. حديث ابن عباس في قصة القبرين، وهو ظاهر فيما ترجم به، لقوله في سياقه "وإنه لكبير" وقد تقدم القول فيه في كتاب الطهارة، وقد صحح ابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: "وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة". "لطيفة": أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة، وهي أن البرزخ مقدمة الآخرة، وأول ما يقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء.

(10/472)


باب ما يكره من الغيبة
...
50 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ.
وَقَوْلِهِ تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ وَيَعِيبُ وَاحِدٌ
6056- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ".
قوله: "باب ما يكره من النميمة" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى بعض القول المنقول على جهة الإفساد يجوز إذا كان المقول فيه كافرا مثلا، كما يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرهم. قوله: "وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} " قال الراغب همز الإنسان اغتيابه، والنم إظهار الحديث بالوشاية، وأصل النميمة الهمس والحركة. قوله: "{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يهمز ويلمز ويعيب واحد" كذا للأكثر بكسر العين المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة، ووقع في رواية الكشميهني ويغتاب بغين معجمة ساكنة ثم مثناة وأظنه تصحيفا، والهمزة الذي يكثر منه الهمز

(10/472)


51 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
6057- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" قَالَ أَحْمَدُ: أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ.
قوله: "باب قول الله تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} " قال الراغب: الزور الكذب، قيل له ذلك لكونه مائلا عن الحق، والزور بفتح الزاي الميل. وكان موقع هذه الترجمة للإشارة إلى أن القول المنقول بالنميمة لما كان أعم من أن يكون صدقا أو كذبا فالكذب فيه أقبح. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو أحمد بن عبد الله بن يونس نسب إلى جده، وقد تقدم حديث الباب في أوائل الصيام أخرجه عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب بالسند والمتن

(10/473)


وتقدم شرحه هناك، وقوله هنا في آخره: "قال أحمد أفهمني رجل إسناده" أحمد هو ابن يونس المذكور. والمعنى أنه لما سمع الحديث من ابن أبي ذئب لم يتيقن إسناده من لفظ شيخه فأفهمه إياه رجل كان معه في المجلس، وقد خالف أبو داود رواية البخاري فأخرج الحديث المذكور عن أحمد بن يونس هذا لكن قال في آخر: "قال أحمد فهمت إسناده من ابن أبي ذئب، وأفهمني الحديث رجل إلى جنبه أراه ابن أخيه" وهكذا أخرجه الإسماعيلي عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس، وهذا عكس ما ذكره البخاري، فإن مقتضى روايته أن المتن فهمه أحمد من شيخه ولم يفهم الإسناد منه بخلاف ما قال أبو داود وإبراهيم بن شريك، فيحمل على أن أحمد بن يونس حدث به على الوجهين. وخبط الكرماني هنا فقال: قال أفهمني أي كنت نسيت هذا الإسناد فذكرني رجل إسناده، ووجه الخبط نسبته إلى أحمد بن يونس نسيان الإسناد وأن التذكير وقع له من الرجل بعد ذلك، وليس كذلك، بل أراد أنه لما سمعه من ابن أبي ذئب خفي عنه بعض لفظه أما على رواية البخاري فمن الإسناد، وأما على رواية أبي داود فمن المتن، وكان الرجل بجنبه فكأنه استفهمه عما خفي عليه منه فأفهمه، فلما كان بعد ذلك وتصدى للتحديث به أخبر بالواقع ولم يستجز أن يسنده عن ابن أبي ذئب بغير بيان. وقد وقع مثل ذلك لكثير من المحدثين، وعقد الخطيب لذلك بابا في كتاب "الكفاية" وانظر إلى قوله: "أفهمني رجل إلى جنبه" أي إلى جنب ابن أبي ذئب. ثم قال الكرماني: وأراد رجل عظيم والتنوين يدل عليه والغرض مدح شيخه ابن أبي ذئب أو رجل آخر غيره أفهمني اهـ. ولم يتعين أنه تعظيم للرجل الذي أفهمه من مجرد قوله رجل، بل الذي فيه أنه إنما نسي اسمه فعبر عنه برجل أو كنى عن اسمه عمدا، وأما مدح شيخه فليس في السياق ما يقتضيه. قلت: وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة المخزومي، وكان له أخوان المغيرة وطالوت، ولم أقف على اسم ابن أخيه المذكور ولا على تعيين أبيه أيهما هو، قال ابن التين: ظاهر الحديث أن من اغتاب في صومه فهو مفطر، وإليه ذهب بعض السلف، وذهب الجمهور إلى خلافه، لكن معنى الحديث أن الغيبة من الكبائر وأن إثمها لا يفي له بأجر صومه فكأنه في حكم المفطر. قلت: وفي كلامه مناقشة لأن حديث الباب لا ذكر للغيبة فيه، وإنما فيه قول الزور والعمل به والجهل، ولكن الحكم والتأويل في كل ذلك ما أشار إليه والله أعلم. وقوله فيه: "فليس لله حاجة" هو مجاز عن عدم قبول الصوم.

(10/474)


52 - باب مَا قِيلَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ
6058- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ" .
قوله: "باب ما قيل في ذي الوجهين" أورد فيه حديث أبي هريرة وفيه تفسيره وهو من جملة صور التمام. قوله: "تجد من شرار الناس" كذا وقع في رواية الكشميهني: "شرار" بصيغة الجمع، وأخرجه الترمذي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بلفظ: "إن من شر الناس" وقد تقدم في أوائل المناقب في طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عنه عن أبي هريرة بلفظ: "تجدون شر الناس" وأخرجه مسلم من هذا الوجه ومن رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه بلفظ: "تجدون من شر الناس ذا الوجهين" وأخرجه أبو داود من رواية سفيان بن عيينة

(10/474)


عن أبي الزناد عن الأعرج عنه بلفظ: "من شر الناس ذو الوجهين" ولمسلم من رواية مالك عن أبي الزناد "إن من شر الناس ذا الوجهين" وسيأتي في الأحكام من طريق عراك بن مالك عنه بلفظ: " إن شر الناس ذو الوجهين" وهو عند مسلم أيضا، وهذه الألفاظ متقاربة والروايات التي فيها "شر الناس" محمولة على الرواية التي فيها "من شر الناس" ووصفه بكونه شر الناس أو من شر الناس مبالغة في ذلك، ورواية: "أشر الناس" بزيادة الألف لغة في شر يقال خير وأخير وشر وأشر بمعنى ولكن الذي بالألف أقل استعمالا، ويحتمل أن يكون المراد بالناس من ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصة، فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرا فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين ليطلع على أسرارهم فهو شرهم كلهم. والأولى حمل الناس على عمومه فهو أبلغ في الذم، وقد وقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي شهاب عن الأعمش بلفظ: "من شر خلق الله ذو الوجهين" قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس. وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة. قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح. ويؤيد هذه التفرقة رواية الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش "الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء" وقال ابن عبد البر: حمله على ظاهره جماعة وهو أولى، وتأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيري الناس خشوعا واستكانة ويوهمهم أنه يخشى الله حتى يكرموه وهو في الباطن بخلاف ذلك، قال: وهذا محتمل لو اقتصر في الحديث على صدره فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين، لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل وهي قوله: "يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" قلت: وقد اقتصر في رواية الترمذي على صدر الحديث، لكن دلت بقية الروايات على أن الراوي اختصره، فإنه عند الترمذي من رواية الأعمش، وقد ثبت هنا من رواية الأعمش بتمامه، ورواية ابن نمير التي أشرت إليها هي التي ترد التأويل المذكور صريحا، وقد رواه البخاري في "الأدب المفرد" من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا". وأخرج أبو داود من حديث عمار بن ياسر قال: "قال رسول الله صلى الله علبه وسلم: من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار" وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عبد البر بهذا اللفظ، وهذا يتناول الذي حكاه ابن عبد البر عمن ذكره بخلاف حديث الباب فإنه فسر من يتردد بين طائفتين من الناس، والله أعلم.

(10/475)


53 - باب مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ
6059- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ" .
قوله: "باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه" قد تقدمت الإشارة إلى أن المذموم من نقلة الأخبار من يقصد

(10/475)


الإفساد، وأما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق ويجتنب الأذى فلا، وقل من يفرق بين البابين، فطريق السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح الإمساك عن ذلك. حديث ابن مسعود في إخباره النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائل "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله" سيأتي شرحه مستوفى في "باب الصبر على الأذى" إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الرواية فتمعر وجهه بالعين المهملة أي تغير من الغضب، وللكشميهني فتمغر بالغين المعجمة أي صار لونه لون المغرة، وأراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على وجه النصيحة، لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه، ثم حلم عنه وصبر على أذاه ائتساء بموسى عليه السلام وامتثالا لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

(10/476)


54 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَادُحِ
6060- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: " سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَالَ أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ ".
6061- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْراً. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَاراً إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحاً لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَداً قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ وَيْلَكَ" .
قوله: "باب ما يكره من التمادح" هو تفاعل من المدح أي المبالغ، والتمدح التكلف والممادحة أي مدح كل من الشخصين الآخر، وكأنه ترجم ببعض ما يدل عليه الخبر لأنه أعم من أن يكون من الجانبين أو من جانب واحد، ويحتمل أن لا يريد حمل التفاعل فيه على ظاهره، وقد ترجم له في الشهادات "ما يكره من الإطناب في المدح". حديث أبي موسى قال فيه حدثنا محمد بن الصباح بفتح المهملة وتشديد الموحدة وآخره حاء مهملة هو البزار، ووقع هنا في رواية أبي ذر "محمد بن صباح" بغير ألف ولام، وتقدم الكل في الشهادات بهذا الحديث بعينه، وأخرجه مسلم عنه فقال: "حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح" وهذا الحديث هما اتفق الشيخان على تخريجه عن شيخ واحد، ومما ذكره البخاري بسنده ومتنه في موضعين ولم يتصرف في متنه ولا إسناده وهو قليل في كتابه، وقد أخرجه أحمد في مسنده عن محمد بن الصباح. وقال عبد الله بن أحمد بعد أن أخرجه عن أبيه عنه: قال عبد الله وسمعته أنا من محمد بن الصباح فذكره، وإسماعيل بن زكريا شيخه هو الخلقاني بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف، وبريدة بموحدة وراء يكنى أبا بردة مثل كنية جده وهو شيخه فيه، وقوله عن بريد في رواية الإسماعيلي: "حدثنا بريد" قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل" لم أقف على اسمهما صريحا، ولكن أخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي" فذكر

(10/476)


حديثا قال فيه: " فدخل المسجد فإذا رجل يصلي، فقال لي من هذا؟ فأثنيت عليه خيرا، فقال: اسكت لا تسمعه فتهلكه" وفي رواية له "فقلت يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا" وفي أخرى له "هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة، أو من أكثر أهل المدينة" الحديث. والذي أثنى عليه محجن يشبه أن يكون هو عبد الله ذو النجادين المزني، فقد ذكرت في ترجمته في الصحابة ما يقرب ذلك. قوله: "ويطريه" بضم أوله وبالطاء المهملة من الإطراء وهو المبالغة في المدح، وسأذكر ما ورد في بيان ما وقع من ذلك في الحديث الذي بعده. قوله: "في المدحة" بكسر الميم، وفي نسخة مضت في الشهادات "في المدح" بفتح الميم بلا هاء، وفي أخرى "في مدحه" بفتح الميم وزيادة الضمير والأول هو المعتمد. قوله: "لقد أهلكتم - أو قطعتم - ظهر الرجل" كذا فيه بالشك، وكذا لمسلم، وسيأتي في حديث أبي بكرة الذي بعده بلفظ: "قطعت عنق صاحبك" وهما بمعنى، والمراد بكل منهما الهلاك لأن من يقطع عنقه يقتل ومن يقطع ظهره يهلك. قوله: "عن خالد" هو الحذاء وصرح به مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة. قوله: "أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا" وفي رواية غندر "فقال: يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا" لعله يعني الصلاة لما سيأتي. قوله: "ويحك" هي كلمة رحمة وتوجع، وويل كلمة عذاب، وقد تأتي موضع ويح كما سأذكره. قوله: "قطعت عنق صاحبك يقوله مرارا" في رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء التي مضت في الشهادات "ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مرارا" وبين في رواية وهيب التي سأنبه عليها بعد أنه قال ذلك ثلاثا. قوله: "إن كان أحدكم" في رواية يزيد بن زريع "وقال إن كان" قوله: "لا محالة" أي لا حيلة له في ترك ذلك وهي بمعنى لا بد والميم زائدة، ويحتمل أن يكون من الحول أي القوة والحركة. قوله: "فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى" بضم أوله أي يظن ووقع في رواية يزيد بن زريع "إن كان يعلم ذلك" وكذا في رواية وهيب. قوله: "والله حسيبه" بفتح أوله وكسر ثانيه وبعد التحتانية الساكنة موحدة أي كافيه، ويحتمل أن يكون هنا فعيل من الحساب أي محاسبة على عمله الذي يعلم حقيقته، وهي جملة اعتراضية. وقال الطيبي: هي من تتمة المقول، والجملة الشرطية حال من فاعل فليقل، والمعنى فليقل أحسب أن فلانا كذا إن كان يحسب ذلك منه والله يعلم سره لأنه هو الذي يجازيه، ولا يقل أتيقن ولا أتحقق جازما بذلك. قوله: "ولا يزكي على الله أحد" كذا لأبي ذر عن المستملي والسرخسي بفتح الكاف على البناء للمجهول وفي رواية الكشميهني: "ولا يزكي" بكسر الكاف على البناء للفاعل وهو المخاطب أولا المقول له فليقل، وكذا في أكثر الروايات. وفي رواية غندر "ولا أزكي" بهمزة بدل التحتانية أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره لكون ذلك مغيبا عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر ومعناه النهي أي لا تزكوا أحدا على الله لأنه أعلم بكم منكم. قوله: "قال وهيب عن خالد" يعني بسنده المتقدم "ويلك" أي وقع في روايته ويلك بدل ويحك، وستأتي رواية وهيب موصولة في "باب ما جاء في قول الرجل ويلك" ويأتي شرح هذه اللفظة هناك. قال ابن بطال: حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به، ولذلك تأول العلماء في الحديث الآخر "احثوا في وجوه المداحين التراب" أن المراد من يمدح الناس في وجوههم بالباطل. وقال عمر: المدح هو الذبح. قال: وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهي، فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجه مادحه ترابا. انتهى ملخصا.

(10/477)


فأما الحديث المشار إليه فأخرجه مسلم من حديث المقداد، وللعلماء فيه خمسة أقوال: أحدها: هذا وهو حمله على ظاهره واستعمله المقداد راوي الحديث. والثاني: الخيبة والحرمان كقولهم لمن رجع خائبا رجع وكفه مملوءة ترابا. والثالث: قولوا له بفيك التراب، والعرب تستعمل ذلك لمن تكره قوله. والرابع: أن ذلك يتعلق بالممدوح كأن يأخذ ترابا فيبذره بين يديه يتذكر بذلك مصيره إليه فلا يطغي بالمدح الذي سمعه. والخامس المراد بحثو التراب في وجه المادح إعطاؤه ما طلب لأن كل الذي فوق التراب تراب، وبهذا جزم البيضاوي وقال: شبه الإعطاء بالحثي على سبيل الترشيح والمبالغة في التقليل والاستهانة، قال الطيبي: ويحتمل أن يراد رفعه عنه وقطع لسانه عن عرضه بما يرضيه من الرضخ، والدافع قد يدفع خصمه بحثي التراب على وجهه استهانة به. وأما الأثر عن عمر فورد مرفوعا أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث معاوية "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" فذكره بلفظ: "إياكم والتمادح فإنه الذبح" وإلى لفظ هذه الرواية رمز البخاري في الترجمة، وأخرجه البيهقي في "الشعب" مطولا وفيه: "وإياكم والمدح فإنه من الذبح" وأما ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرشد مادحيه إلى ما يجوز من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" الحديث، وقد تقدم بيانه في أحاديث الأنبياء، وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب، والممنوعة بخلافها، ويستثنى من ذلك ما جاء عن المعصوم فإنه لا يحتاج إلى قيد كالألفاظ التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بها بعض الصحابة مثل قوله لابن عمرو "نعم العبد عبد الله" وغير ذلك وقال الغزالي في "الإحياء" آفة المدح في المادح أنه قد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه ولا سيما إن كان فاسقا أو ظالما، فقد جاء في حديث أنس رفعه: "إذا مدح الفاسق غضب الرب" أخرجه أبو يعلى وابن أبي الدنيا في الصمت، وفي سنده ضعف، وقد يقول ما لا يتحققه مما لا سبيل له إلى الاطلاع عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فليقل أحسب" وذلك كقوله إنه ورع ومتق وزاهد، بخلاف ما لو قال: رأيته يصلي أو يحج أو يزكي فإنه يمكنه الاطلاع على ذلك، ولكن تبقى الآفة على الممدوح، فإنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبرا أو إعجابا أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل، لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرا، فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس، وربما كان مستحبا، قال ابن عيينة: من عرف نفسه لم يضره المدح. وقال بعض السلف: إذا مدح الرجل في وجهه فليقل: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، أخرجه البيهقي في "الشعب".

(10/478)


55 - باب مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلاَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ
6062- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ فِي الإِزَارِ مَا ذَكَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ".
قوله: "باب من أثنى على أخيه بما يعلم" أي فهو جائز ومستثنى من الذي قبله، والضابط أن لا يكون في المدح

(10/478)


مجازفة، ويؤمن على الممدوح الإعجاب والفتنة كما تقدم. قوله: "وقال سعد" هو ابن أبي وقاص، وتقدم الحديث المذكور موصولا في مناقب عبد الله من كتاب المناقب. ذكر المصنف حديث ابن عمر موصولا في قصة جر الإزار "فقال أبو بكر: إن إزاري يسقط من أحد شقيه، قال: إنك لست منهم " وقد تقدم أبسط من هذا في كتاب اللباس، وفي لفظ: "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقا محضا وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديث المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصف به من الأوصاف الجميلة كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر " ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" وقوله للأنصاري " عجب الله من صنعكما " وغير ذلك من الأخبار.

(10/479)


باب قول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يظكم لعلكم تذكرون}
...
56 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} وَتَرْكِ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ
6063- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ يَعْنِي مَسْحُوراً قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلاَ تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرّاً" قَالَتْ وَلَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ".
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الآية" كذا لأبي ذر والنسفي، وساق الباقون إلى {تَذَكَّرُونَ} وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق أبي الضحى قال: "قال شتير بن شكل لمسروق: حدث يا أبا عائشة وأصدقك. قال: هل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ؟ قال نعم" وسنده صحيح. قوله: "وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} " أي إن أثم البغي على الباغي إما عاجلا وإما آجلا. قوله: "وقوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} " كذا في رواية كريمة والأصيلي على وفق التلاوة، وكذا في رواية النسفي وأبي ذر وللباقين "ومن بغي عليه" وهو سبق قلم إما من المصنف وإما ممن بعده، كما أن المطابق للتلاوة إما من المصنف وإما من إصلاح من بعده، وإذا لم تتفق الروايات على شيء فمن جزم بأن الوهم من المصنف فقد تحامل عليه. قال

(10/479)


الراغب: البغي مجاوزة القصد في الشيء. فمنه ما يحمد ومنه ما يذم، فالمحمود مجاوزة العدل الذي هو الإتيان بالمأمور بغير زيادة فيه ولا نقصان منه إلى الإحسان وهو الزيادة عليه، ومنه الزيادة على الفرض بالتطوع المأذون فيه، والمذموم مجاوزة العدل إلى الجور والحق إلى الباطل والمباح إلى الشبهة، ومع ذلك فأكثر ما يطلق البغي على المذموم قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وإذا أطلق البغي وأريد به المحمود يزاد فيه غالبا التاء كما قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وقال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} وقال غيره: البغي الاستعلاء بغير حق، ومنه بغي الجرح إذا فسد. قوله: "وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر" ثم ذكر فيه حديث عائشة في قصة الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ابن بطال: وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب مع الحديث أن الله لما نهى عن البغي، وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي، وضمن النصر لمن بغي عليه كان حق من بغي عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك. انتهى ملخصا. ويحتمل أن يكون مطابقة الترجمة للآيات والحديث أنه صلى الله عليه وسلم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شر فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من آثر الضرر الناشئ عن السحر شر، وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني كما سبق. وقال ابن التين: يستفاد من الآية الأولى أن دلالة الاقتران ضعيفة، لجمعه تعالى بين العدل والإحسان في أمر واحد، والعدل واجب والإحسان مندوب. قلت: وهو مبني على تفسير العدل والإحسان، وقد اختلف السلف في المراد بهما في الآية فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الفرائض. وقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الإخلاص. وقيل: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهو بمعنى الذي قبله. وقيل: العدل الفرائض، والإحسان النافلة. وقيل: العدل العبادة، والإحسان الخشوع فيها. وقيل: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. وقيل: العدل امتثال المأمورات، والإحسان اجتناب المنهيات. وقيل: العدل بذل الحق، والإحسان ترك الظلم. وقيل: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان فضل العلانية. وقيل: العدل البذل، والإحسان العفو. وقيل: العدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال. وقيل غير ذلك. وأقر بها لكلامه الخامس والسادس. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: العدل بن العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وبين العبد وبين نفسه بمزيد الطاعات وتوقي الشبهات الشهوات، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف. انتهى ملخصا. وقال الراغب: العدل ضربان مطلق يقتضي العقل حسنه ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو أن تحسن لمن أحسن إليك وتكف الأذى عمن كف أذاه عنك. وعدل يعرف بالشرع ويمكن أن يدخله النسخ ويوصف بالاعتداء مقابلة كالقصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتد، ولذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية، وهذا النحو هو المعنى بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} فإن العدل هو المساواة في المكافأة في خير أو شر، والإحسان مقابلة الخير بأكثر منه والشر بالترك أو بأقل منه. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "مطبوب، يعني مسحورا" هذا التفسير مدرج في الخبر، وقد بينت ذلك عند شرح الحديث في كتاب الطب، وكذا قوله: "فهلا" تعني تنشرت. ومن قال هو مأخوذ من النشرة أو من نشر الشيء بمعنى إظهاره. وكيف يجمع بين قولها "فأخرج" وبين

(10/480)


قولها في الرواية الأخرى "هلا استخرجته" وأن حاصله أن الإخراج الواقع كان لأصل السحر والاستخراج المنفي كان لأجزاء السحر. وقوله في آخره: "حليف ليهود" وقع في رواية الكشميهني هنا "لليهود" بزيادة لام

(10/481)


باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى: {من شر حاسد إذا حسد}
...
57 - باب مَا يُنْهَى عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}
6064- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً" .
6065- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ" .
[الحديث 6065 – طرفه في: 6076]
قوله: "باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر" كذا للأكثر، وعند الكشميهني وحده "من" بدل "عن". وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أشار بذكر هذه الآية إلى أن النهي عن التحاسد ليس مقصورا على وقوعه بين اثنين فصاعدا، بل الحسد مذموم ومنهي عنه ولو وقع من جانب واحد، لأنه إذا ذم مع وقوعه مع المكافأة فهو مذموم مع الإفراد بطريق الأولى. قوله: "بشر بن محمد" هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "إياكم والظن" قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لا يكلف به، ويؤيده حديث: "تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها" وقد تقدم شرحه. وقال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله: "ولا تجسسوا" وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهى عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ، فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان أبحث لأتحقق، قيل له "ولا تجسسوا" فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له "ولا يغتب بعضكم بعضا" وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، وحمله المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنيا على أصل ولا تحقيق نظر. وقال النووي: ليس المراد في الحديث بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلا، بل الاستدلال به لذلك ضعيف أو باطل. وتعقب بأن ضعفه ظاهر وأما بطلانه فلا، فإن اللفظ صالح لذلك، ولا سيما إن حمل على ما ذكره القاضي عياض وقد قربه في "المفهم" وقال: الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو هو بمعنى اليقين ليس مرادا من الحديث ولا من الآية. فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي. وقال ابن عبد البر: احتج به بعض الشافعية على من قال بسد الذريعة في البيع فأبطل بيع العينة، ووجه

(10/481)


الاستدلال النهي عن الظن بالمسلم شرا، فإذا باع شيئا حمل على ظاهره الذي وقع العقد به ولم يبطل بمجرد توهم أنه سلك به مسلك الحيلة، ولا يخفى ما فيه. وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث، مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الأمر الذي يستند إلى الظن، فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به، فيكون الجازم به كاذبا؛ وإنما صار أشد من الكاذب لأن الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه، بخلاف هذا فإن صاحبه بزعمه مستند إلى شيء فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه، وإشارة إلى أن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض. قوله: "فإن الظن أكذب الحديث" قد استشكلت تسمية الظن حديثا، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أو فعلا، ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا. قوله: " ولا تحسسوا ولا تجسسوا" إحدى الكلمتين بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما حذف إحدى التاءين تخفيفا، وكذا في بقية المناهي التي في حديث الباب، والأصل تتحسسوا، قال الخطابي معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها، قال الله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} وأصل هذه الكلمة التي بالمهملة من الحاسة إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس بمعنى اختيار الشيء باليد وهي إحدى الحواس، فتكون التي بالحاء أعم. وقال إبراهيم الحربي: هما بمعنى واحد. وقال ابن الأنباري: ذكر الثاني للتأكيد كقولهم بعدا وسخطا، وقيل بالجيم البحث عن عوراتهم وبالحاء استماع حديث القوم، وهذا رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أحد صغار التابعين. وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر، وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن ورجح هذا القرطبي، وقيل بالجيم تتبع الشخص لأجل غيره وبالحاء تتبعه لنفسه وهذا اختيار ثعلب، ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبر ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما، أو بامرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه، نقله النووي عن "الأحكام السلطانية" للماوردي واستجاده، وأن كلامه: ليس للمحتسب أن يبحث عما لما يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة. قوله: "ولا تحاسدوا" الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أو لا، فإن سعى كان باغيا، وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نظر: فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى ففد يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية رفعه: "ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والظن والحسد. قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قالا: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ " وعن الحسن البصري قال: ما من آدمي إلا وفيه الحسد. فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء. قوله: "ولا تدابروا" قال الخطابي: لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه. وقال ابن عبد البر: قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره، والمحب بالعكس. وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر، وقيل للمستأثر مستدبر لأنه يولى دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر وقال المازري: معنى

(10/482)


التدابر المعاداة يقول دابرته أي عاديته. وحكى عياض أن معناه لا تجادلوا ولكن تعاونوا، والأول أولى. وقد فسره مالك في "الموطأ" بأخص منه فقال إذ ساق حديث الباب عن الزهري بهذا السند: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يدبر عنه بوجهه. وكأنه أخذه من بقية الحديث: "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض، وسيأتي مزيد لهذا في "باب الهجرة" ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في "زيادات كتاب البر والصلة" لابن المبارك بسند صحيح عن أنس قال: التدابر التصارم. قوله: "ولا تباغضوا" أي لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء. وقيل المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض. قلت: بل هو لأعم من الأهواء، لأن تعاطي الأهواء ضرب من ذلك، وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله. قوله: "وكونوا عباد الله إخوانا" بلفظ المنادي المضاف، زاد مسلم في آخره من رواية أبي صالح عن أبي هريرة "كما أمركم الله" ومثله عنده من طريق قتادة عن أنس، وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم، كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء، ومعنى كونوا إخوانا اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتا ونفيا، وقوله: "عباد الله" بحذف حرف النداء، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله فحقكم أن تتواخوا بذلك، قال القرطبي: المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة، ولعل قوله في الرواية الزائدة "كما أمركم الله" أي بهذه الأوامر المقدم ذكرها فإنها جامعة لمعاني الأخوة، ونسبتها إلى الله لأن الرسول مبلغ عن الله، وقد أخرج أحمد بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا: "لا أقول إلا ما أقول" ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "كما أمركم الله" الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فإنه خبر عن الحالة التي شرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر، قال ابن عبد البر: تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والإعراض عنه وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم به عليه، وأن يعامله معاملة الأخ النسيب، وأن لا ينقب عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك.
" تنبيه ": وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن همام في هذا الحديث من الزيادة "ولا تنافسوا" وكذا وقعت في حديث أبي هريرة من رواية الأعرج وبين الاختلاف فيها في الباب الذي بعده، ووقع عند مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة في آخره: "كما أمركم الله" وقد نبهت عليها. ولمسلم أيضا من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فيه: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" وأفرد هذه الزيادة في البيوع من وجه آخر، ومثله من رواية أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة وزاد بعد قوله: "إخوانا": "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره" وزاد في رواية أخرى من هذه الطريق "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وقد أفردها أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة، وزاد البخاري من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج فيه زيادة سأذكرها في الباب الذي بعده. وهذه الطريق من رواية مولى عامر

(10/483)


أجمع ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث عن أبي هريرة، وكأنه كان يحدث به أحيانا مختصرا وطورا بتمامه، وقد فرقه بعض الرواة أحاديث، وممن وقع عنده بعضه مفرقا ابن ماجه في كتاب الزهد من كتابه وهو حديث عظيم اشتمل على جمل من الفوائد والآداب المحتاج إليها. حديث أنس: قوله: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا" هكذا اقتصر الحفاظ من أصحاب الزهري عنه على هذه الثلاثة، وزاد عبد الرحمن بن إسحاق عنه فيه: "ولا تنافسوا" ذكر ذلك ابن عبد البر في "التمهيد" والخطيب في "المدرج" قال: وهكذا قال سعيد بن أبي مريم عن مالك عن ابن شهاب، وقد قال الخطيب وابن عبد البر: خالف سعيد جميع الرواة عن مالك في "الموطأ" وغيره فإنهم لم يذكروا هذه الكلمة في حديث أنس، وإنما هي عندهم في حديث مالك عن أبي الزناد، أي الحديث الذي يلي هذا، فأدرجها ابن أبي مريم في إسناد حديث أنس، وكذا قال حمزة الكناني: لا أعلم أحدا قالها عن مالك في حديث أنس غير سعيد، وسيأتي الكلام على حكم التهاجر، والتنبيه على زيادة وقعت في آخر حديث أنس هذا بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى.

(10/484)


48 - باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا}
6066- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً".
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا} " كذا للجميع، إلا أن لفظ: "باب" سقط من رواية أبي ذر. حديث أبي هريرة من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه فقط، وزعم ابن بطال وتبعه ابن التين أن البخاري أورد فيه حديث أنس - أي المذكور في الباب الذي قبله - ثم حكى ابن بطال عن المهلب أن مطابقته للترجمة من جهة أن البغض والحسد ينشآن عن سوء الظن، قال ابن التين: وذلك أنهما يتأولان أفعال من يبغضانه ويحسدانه على أسوأ التأويل. اهـ. والذي وقفت عليه في النسخ التي وقعت لنا كلها أن حديث أنس في الباب الذي قبله ولا إشكال فيه. قوله فيه "ولا تناجشوا" كذا في جميع النسخ التي وقفت عليها من البخاري بالجيم والشين المعجمة، من النجش وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، وقد تقدم بيانه وحكمه في كتاب البيوع، والذي في جميع الروايات عن مالك بلفظ: "ولا تنافسوا" بالفاء والسين المهملة، وكذا أخرجه الدار قطني في "الموطآت" من طريق ابن وهب ومعن وابن القاسم وإسحاق بن عيسى بن الطباع وروح بن عبادة ويحيي بن يحيى التميمي والقعنبي ويحيى بن بكير ومحمد بن الحسن ومحمد بن جعفر الوركاني وأبي مصعب وأبي حذافة كلهم عن مالك، وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية يحيى بن يحيي الليثي وغيره عن مالك، وكذا أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي، وكذلك أخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ولكنه أخرج من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ: "ولا تناجشوا" كما وقع عند البخاري ومن طريق أبي سعيد مولى عامر بن كريز كذلك فاختلف فيها على أبي هريرة ثم أبي صالح عنه، فلا يمتنع أن يختلف فيها على مالك، إلا أني ما وجدت ما يعضد رواية عبد الله بن يوسف هذه، ويبعد أن يجتمع الجميع على

(10/484)


شيء وينفرد واحد بخلافه ويكون محفوظا، ولم أر الحديث في نسختي من "مستخرج الإسماعيلي" أصلا فلا أدري سقط عليه أو سقط من النسخة، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية الوركاني عن مالك ووقع فيه عنده ولا تنافسوا كالجماعة، ولكنه قال في آخره: أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك ولم ينبه على هذه اللفظة، فما أدري هل وقع في نسخته على وفاق الجماعة أو على ما عندنا ولم يعتن ببيان ذلك، ولم أر من نبه على هذا الموضع حتى أن الحميدي ساقه من البخاري وحده من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة، وهذه الطريق قد مضت في أوائل النكاح، وليس فيها هذه اللفظة المختلف فيها ولكن فيها بعد قوله إخوانا "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" قال: وأخرجه البخاري أيضا من حديث مالك فساقه بهذا السند والمتن بتمامه دون اللفظة التي أتكلم عليها وقال: هكذا أخرجه البخاري في الأدب، وأغفله أبو مسعود، ولكنه ذكر أنه أخرجه من رواية شعيب عن أبي الزناد، ولم أجد ذلك فيه إلا من رواية شعيب عن الزهري عن أنس، قال الحميدي: وأخرجه البخاري من رواية همام عن أبي هريرة نحوه، ومن رواية طاوس عن أبي هريرة مثل رواية الأعرج سواء. قلت: ورواية طاوس تأتي في الفرائض. قال الحميدي: وقد أخرجه مسلم أيضا من رواية مالك عن أبي الزناد فساقه وفيه: "ولا تنافسوا" قال: فهو متفق عليه من رواية مالك لا من أفراد البخاري وكأنه استدرك ذلك على نفسه، والغرض من ذلك أن الحميدي مع تتبعه واعتنائه لم ينبه على ما وقع في هذه اللفظة من الاختلاف، وكذا أغفل ابن عبد البر التنبيه عليها، وهي على شرطه في "التمهيد" وكذلك الدار قطني، ولو تفطن لها لساقها في "غرائب مالك" كعادته في أنظارها، ولكنه لم يتعرض لها فلعلها من تغيير بعض الرواة بعد البخاري. والله أعلم.

(10/485)


59 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الظَّنِّ
6067- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا أَظُنُّ فُلاَناً وَفُلاَناً يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً" . قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ.
[الحديث 6067 – طرفه في: 6068]
6068- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بِهَذَا "وَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا أَظُنُّ فُلاَناً وَفُلاَناً يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب ما يجوز من الظن" كذا للنسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني، وكذا في ابن بطال. وفي رواية القابسي والجرجاني "ما يكره" وللباقين "ما يكون" والأول أليق بسياق الحديث. قوله: "ما أظن فلانا وفلانا" لم أقف على تسميتهما، وقد ذكر الليث في الرواية الأولى أنهما كانا منافقين. قوله: "يعرفان من ديننا شيئا" وفي الرواية الأخرى "يعرفان ديننا الذي نحن عليه". قال الداودي: تأويل الليث بعيد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف جميع المنافقين، كذا قال. وقال غيره: الحديث لا يطابق الترجمة لأن في الترجمة إثبات الظن وفي الحديث نفي الظن. والجواب أن النفي في الحديث لظن النفي لا لنفي الظن فلا تنافي بينه وبين الترجمة، وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي

(10/485)


وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه، لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن الظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه، وقد قال ابن عمر: إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن، ومعناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيء إما في بدنه وإما في دينه.

(10/486)


باب ستر المسلم على نفسه
...
60 - باب سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ
6069- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" .
6070- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى. قَالَ: "يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ" .
قوله: "باب ستر المؤمن على نفسه" أي إذا وقع منه ما يعاب فيشرع له ويندب له. قوله: "عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي. قوله: "عن ابن أخي ابن شهاب" هو محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري، ووقع في رواية لأبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه: "حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن عبد الله ابن أخي ابن شهاب" وقد روى إبراهيم بن سعد عن الزهري نفسه الكبير، وربما أدخل بينهما واسطة مثل هذا. قوله: "عن ابن شهاب" في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخرجه مسلم والإسماعيلي. قوله: "كل أمتي معافى " بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه. قوله: " إلا المجاهرين" كذا هو للأكثر وكذا في رواية مسلم ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم بالنصب. وفي رواية النسفي "إلا المجاهرون" بالرفع وعليها شرح ابن بطال وابن التين وقال: كذا وقع، وصوابه عند البصريين بالنصب، وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع، كذا قال. وقال ابن مالك "إلا" على هذا بمعنى لكن، وعليها خرجوا قراءة ابن كثير وأبي عمرو {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} أي لكن امرأتك {أنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} وكذلك هنا المعنى: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، فالمجاهرون مبتدأ والخبر محذوف. وقال الكرماني: حق الكلام النصب إلا أن يقال العفو بمعنى الترك وهو نوع من النفي، ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن اهـ. واختصره من كلام الطيبي فإنه قال: كتب في نسخة "المصابيح" المجاهرون بالرفع وحقه النصب، وأجاب بعض شراح المصابيح بأنه مستثنى من قوله معافى وهو في معنى النفي، أي كل أمتي لا ذنب عليهم إلا المجاهرون. وقال الطيبي: الأظهر أن يقال المعنى:

(10/486)


كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} والمجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها، وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به اهـ. والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به. والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول. قوله: "وإن من المجاهرة" كذا لابن السكن والكشميهني وعليه شرح ابن بطال، وللباقين "المجانة" بدل المجاهرة. ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد "وإن من الإجهار" كذا عند مسلم. وفي رواية له "الجهار" وفي رواية الإسماعيلي: "الإهجار" وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج "وإن من الهجار" فتحصلنا على أربعة أشهرها الجهار ثم تقديم الهاء وبزيادة ألف قبل كل منهما، قال الإسماعيلي: لا أعلم أني سمعت هذه اللفظة في شيء من الحديث، يعني إلا في هذا الحديث. وقال عياض: وقع للعذري والسجزي في مسلم الإجهار وللفارسي الإهجار وقال في آخره: وقال زهير الجهار، هذه الروايات من طريق ابن سفيان وابن أبي ماهان عن مسلم، وفي أخرى عن ابن سفيان في رواية زهير الهجار، قال عياض: الجهار والإجهار والمجاهرة كله صواب بمعنى الظهور والإظهار، ويقال جهر وأجهر بقوله وقراءته إذا أظهر وأعلن لأنه راجع لتفسير قوله أولا "إلا المجاهرون" قال وأما المجانة فتصحيف وإن كان معناها لا يبعد هنا، لأن الماجن هو الذي يستهتر في أموره وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له. قلت: بل الذي يظهر رجحان هذه الرواية لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة فليس في إعادة ذكره كبير فائدة، وأما الرواية بلفظ المجانة فتفيد معنى زائدا وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان، والمجانة مذمومة شرعا وعرفا، فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين: إظهار المعصية وتلبسه بفعل المجان، قال عياض: وأما الإهجار فهو الفحش والخناء وكثرة الكلام، وهو قريب من معنى المجانة، يقال أهجر في كلامه، وكأنه أيضا تصحيف من الجهار أو الإجهار وإن كان المعنى لا يبعد أيضا هنا، وأما لفظ الهجار فبعيد لفظا ومعنى لأن الهجار الحبل أو الوتر تشد به يد البعير أو الحلقة التي يتعلم فيها الطعن ولا يصح له هنا معنى، والله أعلم. قلت: بل له معنى صحيح أيضا فأنه يقال هجر وأهجر إذا أفحش في كلامه فهو مثل جهر وأجهر، فما صح في هذا صح في هذا، ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل أو غيره أن لا يستعمل مصدرا من الهجر بضم الهاء. قوله: "البارحة" هي أقرب ليلة مضت من وقت القول، تقول لقيته البارحة، وأصلها من برح إذا زال. وورد في الأمر بالستر في الأمر حديث ليس على شرط البخاري وهو حديث ابن عمر رفعه: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله" الحديث أخرجه الحاكم، وهو في "الموطأ" من مرسل زيد بن أسلم، قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك، وبهذا يعرف موقع إيراد حديث النجوى عقب حديث الباب، وقد استشكلت مطابقته للترجمة من جهة أنها معقودة لستر المؤمن على نفسه والذي في الحديث ستر الله على المؤمن، والجواب أن الحديث مصرح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم

(10/487)


مدح من يستتر، وأيضا فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره، ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من الله عليه بستره إياه، وقيل إن البخاري يشير بذكر هذا الحديث في هذه الترجمة إلى تقوية مذهبه أن أفعال العباد مخلوقة لله. قوله: "عن صفوان بن محرز" في رواية شيبان عن قتادة "حدثنا صفوان" وتقدم التنبيه عليها في تفسير سورة هود، وصفوان مازني بصري وأبوه بضم أوله وسكون المهملة وكسر الراء ثم الزاي ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق عنه عن عمران بن حصين وقد ذكرهما في عدة مواضع. قوله: "أن رجلا سأل ابن عمر" في رواية همام عن قتادة الماضية في المظالم عن صفوان قال: "بينما أنا أمشي مع ابن عمر آخذ بيده" وفي رواية سعيد وهشام عن قتادة في تفسير هود "بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل" ولم أقف على اسم السائل لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير فقد أخرج الطبراني من طريقه قال: "قلت لابن عمر حدثني" فذكر الحديث. قوله: "كيف سمعت" في رواية سعيد وهشام "فقال يا أبا عبد الرحمن" وهي كنية عبد الله بن عمر. قوله: "كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى" هي ما تكلم به المرء يسمع نفسه ولا يسمع غيره، أو يسمع غيره سرا دون من يليه، قال الراغب: ناجيته إذا ساررته، وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض، وقيل أصله من النجاة وهي أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه، والنجوى أصله المصدر، وقد يوصف بها فيقال هو نجوى وهم نجوى، والمراد بها هنا المناجاة التي تقع من الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة مع المؤمنين. وقال الكرماني: أطلق على ذلك النجوى لمقابلة مخاطبة الكفار على رءوس الأشهاد هناك. قوله: " يدنو أحدكم من ربه " في رواية سعيد بن أبي عروبة "يدنو المؤمن من ربه" أي يقرب منه قرب كرامة وعلو منزلة. قوله: "حتى يضع كنفه" بفتح الكاف والنون بعدها فاء أي جانبه، والكنف أيضا الستر وهو المراد هنا، والأول مجاز في حق الله تعالى كما يقال فلان في كنف فلان أي في حمايته وكلاءته. وذكر عياض أن بعضهم صحفه تصحيفا شنيعا فقال بالمثناة بدل النون ويؤيد الرواية الصحيحة أنه وقع في رواية سعيد بن جبير بلفظ: "يجعله في حجابه" زاد في رواية همام "وستره". قوله: " فيقول عملت كذا وكذا" في رواية همام فيقول: "أتعرف ذنب كذا وكذا" زاد في رواية سعيد وهشام " فيقرره بذنوبه" وفي رواية سعيد بن جبير "فيقول له أقرأ صحيفتك فيقرأ، ويقرره بذنب ذنب، ويقول أتعرف أتعرف". قوله: "فيقول نعم" زاد في رواية همام "أي رب" وفي رواية سعيد وهشام "فيقول أعرف". قوله: " ثم يقول إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" في رواية سعيد بن جبير "فيلتفت يمنة ويسرة فيقول: لا بأس عليك إنك في ستري لا يطلع على ذنوبك غيري" زاد همام وسعيد وهشام في روايتهم "فيعطى كتاب حسناته" ووقع في بعض روايات سعيد وهشام "فيطوى" وهو خطأ. وفي رواية سعيد بن جبير "اذهب فقد غفرتها لك " ووقع عند الثلاثة "وأما الكافر والمنافق" ولبعضهم "الكفار والمنافقون" وفي رواية سعيد وهشام "وأما الكافر فينادي على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين" وقد تقدم في تفسير هود أن الأشهاد جمع شاهد مثل أصحاب وصاحب، وهو أيضا جمع شهيد كشريف وأشراف، قال المهلب: في الحديث تفضل الله على عباده بستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان لأنه لم يستثن في هذا الحديث ممن يضع عليه كنفه وستره أحدا إلا الكفار والمنافقين فإنهم الذين

(10/488)


ينادي عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة. قلت: قد استشعر البخاري هذا فأورد في كتاب المظالم هذا الحديث ومعه حديث أبي سعيد "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" الحديث، فدل هذا الحديث على أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر ما يكون بين المرء وربه سبحانه وتعالى دون مظالم العباد، فمقتضى الحديث أنها تحتاج إلى المقاصصة، ودل حديث الشفاعة أن بعض المؤمنين من العصاة يعذب بالنار ثم يخرج منها بالشفاعة كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان، فدل مجموع الأحاديث على أن العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: أحدهما من معصيته بينه وبين ربه، فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين: قسم تكون معصيته مستورة في الدنيا فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة وهو بالمنطوق، وقسم تكون معصيته مجاهرة فدل مفهومه على أنه بخلاف ذلك. والقسم الثاني من تكون معصيته بينه وبين العباد فهم على قسمين أيضا: قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم فهؤلاء يقعون في النار ثم يخرجون بالشفاعة، وقسم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص كما دل عليه حديث أبي سعيد، وهذا كله بناء على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن(1) يفعله باختياره، وإلا فلا يجب على الله شيء وهو يفعل في عباده ما يشاء.
ـــــــ
(1) هكذا بياض بالأصل.

(10/489)


61 - باب الْكِبْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرٌ فِي نَفْسِهِ. عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ
6071- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ" .
6072- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "إِنْ كَانَتْ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ" .
قوله: "باب الكبر" بكسر الكاف وسكون الموحدة ثم راء، قال الراغب: الكبر والتكبر والاستكبار متقارب، فالكبر الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة. والتكبر يأتي على وجهين: أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر، والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا بما ليس فيه، وهو وصف عامة الناس نحو قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} والمستكبر مثله. وقال الغزالي: الكبر على قسمين: فإن ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإلا قيل: في نفسه كبر. والأصل هو الذي في النفس وهو الاسترواح إلى رؤية النفس، والكبر يستدعي متكبرا عليه يرى نفسه فوقه ومتكبرا به، وبه ينفصل الكبر عن العجب، فمن لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجبا لا متكبرا. قوله: "وقال

(10/489)


مجاهد: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مستكبرا في نفسه، عطفه رقبته" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال رقبته. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال مستكبرا في نفسه، ومن طريق قتادة قال: لاوي عنقه. ومن طريق السدي {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي معرض من العظمة. ومن طريق أبي صخير المدني قال: كان محمد بن كعب يقول: هو الرجل يقول هذا شيء ثنيت عليه رجلي، فالعطف هو الرجل، قال أبو صخر: والعرب تقول العطف العنق. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد أنها نزلت في النضر بن الحارث. حديث حارثة بن وهب وقد تقدم شرحه في تفسير سورة ن، والغرض منه وصف المستكبر بأنه من أهل النار. وقوله: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف" هو برفع كل لأن التقدير هم كل ضعيف الخ ولا يجوز أن يكون بدلا من أهل. حديث أنس: قوله: "وقال محمد بن عيسى" أي ابن أبي نجيح المعروف بابن الطباع بمهملة مفتوحة وموحدة ثقيلة، وهو أبو جعفر البغدادي نزيل أذنة بفتح الهمزة والمعجمة والنون، وهو ثقة عالم بحديث هشيم حتى قال علي بن المديني سمعت يحيي القطان وابن مهدي يسألانه عن حديث هشيم. وقال أبو حاتم: حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع الثقة المأمون، ورجحه على أخيه إسحاق بن عيسى وإسحاق أكثر من محمد. وقال أبو داود: كان يتفقه، وكان يحفظ نحو أربعين ألف حديث، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين، وحدث عنه أبو داود بلا واسطة. وأخرج الترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه من حديثه بواسطة، ولم أر له في البخاري سوى هذا الموضع وموضع آخر في الحج "قال محمد بن عيسى حدثنا" قال حماد ولم أر في شيء من نسخ البخاري تصريحه عنه بالتحديث، وقد قال أبو نعيم بعد تخريجه ذكره البخاري بلا رواية، وأما الإسماعيلي فإنه قال: قال البخاري قال محمد بن عيسى فذكره ولم يخرج له سندا، وقد ضاق مخرجه على أبي نعيم أيضا، فساقه في مستخرجه من طريق البخاري، وغفل عن كونه في مسند أحمد وأخرجه أحمد عن هشيم شيخ محمد بن عيسى فيه، وإنما عدل البخاري عن تخريجه عن أحمد بن حنبل لتصريح حميد في رواية محمد بن عيسى بالتحديث، فإنه عنده عن هشيم "أنبأنا حميد عن أنس" وحميد مدلس، والبخاري يخرج له ما صرح فيه بالحديث. قوله: "فتنطلق به حيث شاءت" في رواية أحمد "فتنطلق به في حاجتها" وله من طريق علي بن زيد عن أنس "أن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت" وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه، والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت، وبقوله: "حيث شاءت" أي من الأمكنة. والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة على ذلك، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث، من أصحها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: الكبر بطر الحق وغمط الناس" والغمط بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة هو الازدراء والاحتقار، وقد أخرجه الحاكم بلفظ: "الكبر من بطر الحق وازدري الناس" والسائل المذكور يحتمل أن يكون ثابت بن قيس فقد روى الطبراني بسند حسن عنه أنه سأل عن

(10/490)


ذلك، وكذا أخرج من حديث سواد بن عمرو أنه سأل عن ذلك. وأخرج عبد بن حميد من حديث ابن عباس رفعه: "الكبر السفه عن الحق، وغمص الناس. فقال: يا نبي الله وما هو؟ قال: السفه أن يكون لك على رجل مال فينكره فيأمره رحل بتقوى الله فيأبى، والغمص أن يجيء شامخا بأنفه، وإذا رأى ضعفاء الناس وفقراءهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم " وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة" وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه: "من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله الله في أعلى عليين، ومن تكبر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين" وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رفعه: " إياكم والكبر، فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة " ورواته ثقات، وحكى ابن بطال عن الطبري أن المراد بالكبر في هذه الأحاديث الكفر، بدليل قوله في الأحاديث "على الله" ثم قال: ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله تعالى ولكنه غير خارج عن معنى ما قلناه، لأن معتقد الكبر على ربه يكون لخلق الله أشد استحقارا انتهى. وقد أخرج مسلم من حديث عياض بن حماد بكسر المهملة وتخفيف الميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد" الحديث، والأمر بالتواضع نهي عن الكبر فإنه ضده، وهو أعم من الكفر وغيره واختلف في تأويل ذلك في حق المسلم فقيل: لا يدخل الجنة مع أول الداخلين، وقيل لا يدخلها بدون مجازاة، وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه، وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد. وقيل: معناه لا يدخل الجنة حال دخولها وفي قلبه كبر، حكاه الخطابي، واستضعفه النووي فأجاد لأن الحديث سيق لذم الكبر وصاحبه لا للإخبار عن صفة دخول أهل الجنة الجنة قال الطيبي: المقام يقتضي حمل الكبر على من يرتكب الباطل، لأن تحرير الجواب إن كان استعمال الزينة لإظهار نعمة الله فهو جائز أو مستحب، وإن كان للبطر المؤدي إلى تسفيه الحق وتحقير الناس والصد عن سبيل الله فهو المذموم.

(10/491)


باب الهجرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث"
...
62 - باب الْهِجْرَةِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ"
6073، 6074، 6075- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّهَا "أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لاَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَداً فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ لاَ وَاللَّهِ لاَ أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَداً وَلاَ أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُلُ قَالَتْ عَائِشَةُ ادْخُلُوا قَالُوا كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ - وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ

(10/491)


مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ - فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ وَيَقُولاَنِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا".
6076- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ"
6077- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" .
[الحديث 6077 – طرفه في: 6237]
قوله: "باب الهجرة" بكسر الهاء وسكون الجيم، أي ترك الشخص مكالمة الأخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلا كان أو قولا، وليس المراد بها مفارقة الوطن فإن تلك تقدم حكمها. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" قد وصله في الباب عن أبي أيوب، وأراد هنا أن يبين أن عمومه مخصوص بمن هجر أخاه بغير موجب لذلك، قال النووي قال العلماء تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض. وقال أبو العباس القرطبي: المعتبر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض وتعتبر ذلك ليلة اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة. قلت: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، وقد مضى في "باب ما نهي عن التحاسد" في رواية شعيب في حديث أبي أيوب بلفظ: "ثلاثة أيام" فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضي ثلاثة أيام بلياليها ملفقة، إذا ابتدئت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء، ويحتمل أن يلغي الكسر، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط. فيه عن ثلاثة من الصحابة شيء مرفوع وباقيه عنهم وعن رابع موقوف. قوله: "حدثني عوف بن الطفيل وهو ابن أخي عائشة" كذا عند النسفي وأبي ذر، وعند غيرهما وكذا أخرجه أحمد عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فقال: "عوف بن مالك بن الطفيل، وهو ابن أخي عائشة لأمها" وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن المديني من رواية الأوزاعي وصالح بن كيسان ومعمر ثلاثتهم عن الزهري، ففي رواية الأوزاعي عنه "حدثني

(10/492)


الطفيل بن الحارث وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان" وفي رواية صالح عنه "حدثني عوف بن الطفيل بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها" وفي رواية معمر "عوف بن الحارث بن الطفيل" قال علي بن المديني: هكذا اختلفوا والصواب عندي وهو المعروف عوف بن الحارث بن الطفيل بن سخبرة يعني بفتح المهملة والموحدة بينهما معجمة ساكنة، قال: والطفيل أبوه هو الذي روى عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عنه، يعني حديث: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان" أخرجه النسائي وابن ماجه، وكذا أخرج أحمد طريق معمر والأوزاعي. وقال إبراهيم الحربي في "كتاب النهي عن الهجران" بعد أن أورد من طريق معمر وشعيب وصالح والأوزاعي كما تقدم، ومن طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عن عوف بن الحارث بن الطفيل، ومن طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن عروة عن المسور: هذا وهم، قال: وكذا وهم الأوزاعي في قوله الطفيل بن الحارث وصالح في قوله عوف بن الطفيل بن الحارث، وأصاب معمر وعبد الرحمن بن خالد في قولهما عوف بن الحارث بن الطفيل، كذا قال، ثم قال: الذي عندي أن الحارث بن سخبرة الأزدي قدم مكة ومعه امرأته أم رومان بنت عامر الكنانية فخالف أبا بكر الصديق، ثم مات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبد الرحمن وعائشة وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث فهو أخو عائشة لأمها، وولد الطفيل بن الحارث عوفا، وله عن عائشة رواية غير هذه، وهو الذي حدث عنه الزهري انتهى. فعلى هذا يكون الذي أصاب في تسميته ونسبه صالح بن كيسان، وأما معمر وعبد الرحمن بن خالد فقلباه، والأول هو الذي صوبه علي بن المديني. وقد اختلف على الأوزاعي، فالرواية التي ذكرها الحربي عنه هي رواية الوليد بن مسلم، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن كثير عن الأوزاعي على وفق رواية معمر وابن خالد، وأما شعيب في رواية أحمد فقلب الحارث أيضا فسماه مالكا، وحذفه في رواية أبي ذر فأصاب وسكت عن تسمية جده، وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" رواية عبد الرحمن بن خالد كذلك. وإذا تحرر ذلك ظهر أن الذي جزم به ابن الأثير في "جامع الأصول" من أنه عوف بن مالك بن الطفيل ليس بجيد، والاختلاف المذكور كله في تحرير اسم الراوي هنا عن عائشة ونسبه إلا رواية النعمان بن راشد فإنها شاذة، لأنه قلب شيخ الزهري فجعله عروة بن الزبير والمحفوظ رواية الجماعة، على أن للخبر من رواية عروة أصلا كما تقدم في أوائل مناقب قريش لكنه من غير رواية الزهري عنه. قوله: "أن عائشة حدثت" كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول، ووقع في رواية الأصيلي: "حدثته" والأول أصح، ويؤيده أن في رواية الأوزاعي "أن عائشة بلغها"، ووقع في رواية معمر على الوجهين، ووقع في رواية صالح أيضا: "حدثته". قوله: "في بيع أو عطاء أعطته عائشة" في رواية الأوزاعي "في دار لها باعتها، فسخط عبد الله ابن الزبير بيع تلك الدار". قوله: "لتنتهين عائشة" زاد في رواية الأوزاعي "فقال: أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها" وهذا مفسر لما أبهم في رواية غيره، وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال: "كانت عائشة لا تمسك شيئا، فما جاءها من رزق الله تصدقت به" وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها، وقوله: "لتنتهين أو لأحجرن عليها" هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة "ينبغي أن يؤخذ على يدها". قوله: "لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا" في رواية عبد الرحمن بن خالد "كلمة أبدا" وفي رواية معمر "بكلمة" وفي رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا "حتى يفرق الموت بيني وبينه" قال

(10/493)


ابن التين: قولها "أن لا أكلم" تقديره علي نذر إن كلمته اهـ. ووقع في بعض الروايات بحذف "لا" وشرح عليها الكرماني وضبطها بالكسر بصيغة الشرط قال: وهو الموافق للرواية المتقدمة في مناقب قريش بلفظ: "لله علي نذر إن كلمته" فعلى هذا يكون النذر معلقا على كلامه لا أنها نذرت ترك كلامه ناجزا. قوله: "فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة" كذا للأكثر، ووقع في رواية السرخسي والمستملي: "حتى" بدل "حين" والأول الصواب، ووقع في رواية معمر على الصواب، زاد في رواية الأوزاعي "فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله، فاستشفع بكل جدير أنها تقبل عليه" في الرواية الأخرى عنه "فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل" وفي رواية عبد الرحمن بن خالد "فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين" وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله بن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال: "فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها: أين حديث أخبرتنيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصوم فوق ثلاث". قوله: "فقالت لا ولله لا أشفع" بكسر الفاء الثقيلة. قوله: "فيه أحدا" في رواية الكشميهني: "أبدا" بدل قوله: "أحدا" وجمع بين اللفظين في رواية عبد الرحمن بن خالد وكذا في رواية معمر. قوله: "ولا أتحنث إلى نذري" في رواية معمر "ولا أحنث في نذري" وفي رواية الأوزاعي "فقالت والله لا آثم فيه" أي في نذرها أو في ابن الزبير وتكون في سببية. قوله: "فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة" أما المسور فهو ابن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن زهرة بن كلاب، وأما عبد الرحمن فجده يغوث بفتح التحتانية وضم المعجمة وسكون الواو بعدها مثلثة وهو ابن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، يجتمع مع المسور في عبد مناف بن زهرة، ووهيب وأهيب أخوان، ومات الأسود قبل الهجرة ولم يسلم، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن صغير فذكر في الصحابة، وله في البخاري غير هذا الموضع حديث عن أبي بن كعب سيأتي قريبا، ووقع في رواية عروة المتقدمة "فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة" وقد بينت هناك معنى هذه الخؤولة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه. قوله: "أنشدكما بالله لما" بالتخفيف و"ما" زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض، يعني ألا، أي لا أطلب إلا الإدخال عليها، ونظره بقوله تعالى: {لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} وقوله: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} فقد قرنا بالوجهين. وفي رواية الكشميهني: "ألا أدخلتماني" زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما. قوله: "فإنها" في رواية الكشميهني: "فإنه" والهاء ضمير الشأن. قوله: "لا يحل لها أن تنذر قطيعتي" لأنه كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا. قوله: "فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته" في رواية معمر "فقالا السلام على النبي ورحمة الله" فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة. قوله: "أندخل؟ قالت: نعم. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم" في رواية الأوزاعي "قالا: ومن معنا؟ قالت: ومن معكما". قوله: "فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي" في رواية الأوزاعي "فبكى إليها وبكت إليه وقبلها" وفي روايته الأخرى عند الإسماعيلي: "وناشدها ابن الزبير الله والرحم". قوله: "ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" في رواية معمر "أنه لا يحل" بحذف الواو وهو كالتفسير لما قبله ويؤيد ذلك ورود الحديث مرفوعا من طريق أخرى كحديثي أنس وأبي أيوب اللذين بعده، وهذا القدر هو المرفوع من الحديث، وهو هنا من مسند المسور وعبد الرحمن بن الأسود وعائشة جميعا فإنها أقرتهما على ذلك،

(10/494)


وقد غفل أصحاب الأطراف عن ذكره في مسند عبد الرحمن بن الأسود لكونه مرسلا، ولكن ذكروا أنظاره فيلزمهم من هذه الحيثية، وله عن عائشة طريق أخرى تقدم بيانها وأنها من رواية حميد بن قيس عن عبيد بن عمير عنها، وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أخرى عن عائشة، وجاء المتن عن جماعة كثيرة من الصحابة يزيد بعضهم على بعض كما سأبينه بعد. "تنبيه": ادعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا، ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير، ولا يخفى ما فيه، فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث، وترك السلام داخل في ترك الكلام، وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت. ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك. قوله: "فلما أكثروا على عائشة من التذكرة" أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم والعفو وكظم الغيظ. قوله: "والتحريج" بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما ورد في القطيعة من النهي. وفي رواية معمر "التخويف". قوله: "فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير" في رواية الأوزاعي "فكلمته بعدما خشي أن لا تكلمه، وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه". قوله: "وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة" في رواية الأوزاعي "ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به أربعون رقبة فأعتقتها كفارة لنذرها" ووقع في رواية عروة المتقدمة "فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم" وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا، ولا ينافي رواية الباب أن تكون هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم، وقد وقع في الرواية الماضية "ثم لم تزل حتى بلغت أربعين". قوله: "وكانت تذكر نذرها" في رواية الأوزاعي "قال عوف بن الحارث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر نذرها ذلك" ووقع في رواية عروة أنها قالت: "وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه"، وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا. حديث الزهري عن أنس وعن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب، وقد تقدم حديث أنس في "باب التحاسد" وأراد بإيرادهما معا أنه عند الزهري على الوجهين، لأنه أخرج من طريق مالك عن شيخه، وأول حديث أبي أيوب عنه "لا يحل لرجل" كما علقه أولا وزاد فيه: "يلتقيان" وفي رواية الكشميهني: "فيلتقيان" بزيادة فاء. قوله: "عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب" هكذا اتفق أصحاب الزهري، وخالفهم عقيل فقال: "عن عطاء بن يزيد عن أبي" وخالفهم كلهم شبيب بن سعيد عن يونس عنه فقال: "عن عبيد الله أو عبد الرحمن عن أبي بن كعب" قال إبراهيم الحربي: أما شبيب فلم يضبط سنده، وقد ضبطه ابن وهب عن يونس فساقه على الصواب أخرجه مسلم، وأما عقيل فلعله سقط عليه لفظ أيوب فصار عن أبي فنسبه من قبل نفسه فقال ابن كعب فوهم في ذلك. قوله: "فوق ثلاث" ظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق، لأن الآدمي في طبعه الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، والغالب أنه يزول أو يقل في الثلاث. قوله: "فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" زاد الطبري من طريق أخرى عن الزهري "يسبق إلى الجنة" ولأبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة "فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة" ولأحمد والمصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر "فإنهما ناكثان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئا يكون سبقه كفارة" فذكر نحو حديث أبي هريرة، وزاد في آخره: "فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا". قوله: "وخيرهما الذي يبدأ

(10/495)


بالسلام" قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده. وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا. وقال أيضا: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام. وكذا قال ابن القاسم وقال عياض: إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه، يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم. قلت: ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها، وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئا فلا تقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع، واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه: "ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه" واستدل بقوله: "أخاه" على أن الحكم يختص بالمؤمنين. وقال النووي: لا حجة في قوله: "لا يحل لمسلم" لمن يقول الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به. وأما التقييد بالأخوة فدال على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد. واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم وامتنع من مكالمته والسلام عليه أثم بذلك، لأن نفي الحل يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك جاز، ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية. وقد استشكل على هذا ما صدر من عائشة في حق ابن الزبير قال ابن التين: إنما ينعقد النذر إذا كان في طاعة كلله علي أن أعتق أو أن أصلي، وأما إذا كان قي حرام أو مكروه أو مباح فلا نذر، وترك الكلام يفضي إلى التهاجر وهو حرام أو مكروه. وأجاب الطبري بأن المحرم إنما هو ترك السلام فقط، وإن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير ولا من رد السلام عليه لما بدأها بالسلام، وأطال في تقرير ذلك وجعله نظير من كانا في بلدين لا يجتمعان ولا يكلم أحدهما الآخر وليسا مع ذلك متهاجرين، قال: وكانت عائشة لا تأذن لأحد من الرجال عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرم منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها، كذا قال، ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رأت ابن الزبير ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله لأحجرن عليها، فإن فيه تنقيصا لقدرها ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته كما تقدم التصريح به في أوائل مناقب قريش، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء بالمنافقين لحقارتهم، فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة. وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرا، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة. ولا يخفى أن هنا مقامين أعلى وأدنى، فالأعلى اجتناب الإعراض جملة فيبذل السلام والكلام والمواددة بكل طريق، والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره، والوعيد الشديد إنما هو لمن يترك المقام الأدنى، وأما الأعلى فمن تركه

(10/496)


من الأجانب فلا يلحقه اللوم، بخلاف الأقارب فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم، وإلى هذا أشار ابن الزبير في قوله: "فإنه لا يحل لها قطيعتي" أي إن كانت هجرتي عقوبة على ذنبي فليكن لذلك أمد، وإلا فتأييد ذلك يفضي إلى قطيعة الرحم، وقد كانت عائشة علمت بذلك لكنها تعارض عندها هذا والنذر الذي التزمته، فلما وقع من اعتذار ابن الزبير واستشفاعه ما وقع رجح عندها ترك الإعراض عنه، واحتاجت إلى التكفير عن نذرها بالعتق الذي تقدم ذكره، ثم كانت بعد ذلك يعرض عندها شك في أن التكفير المذكور لا يكفيها فتظهر الأسف على ذلك إما ندما على ما صدر منها من أصل النذر المذكور وإما خوفا من عاقبة ترك الوفاء به، والله أعلم.

(10/497)


63 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى
وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا". وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.
6078- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً قُلْتِ بَلَى وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلاَّ اسْمَكَ" .
قوله: "باب ما يجوز من الهجران لمن عصى" أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز، لأن عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فتبين هنا السبب المسوغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها. قوله: "وقال كعب" أي ابن مالك الأنصاري "حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة" وهذا طرف من الحديث الطويل، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر المغازي. حديث عائشة "إني لأعرف غضبك ورضاك" وقد تقدم شرحه في باب غيرة النساء ووجدهن في كتاب النكاح، قال المهلب: غرض البخاري في هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز، وأنه يتنوع بقدر الجرم، فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران بترك المكالمة كما في قصة كعب وصاحبيه، وما كان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فيجوز الهجر فيه بترك التسمية مثلا أو بترك بسط الوجه مع عدم هجر السلام والكلام. وقال الكرماني: لعله أراد قياس هجران من يخالف الأمر على هجران اسم من يخالف الأمر الطبيعي. وقال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل هو هجران أهل المعاصي، وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعا ولا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرما منهما لكونهما من أهل التوحيد في الجملة، وأجاب ابن بطال بأن لله أحكاما فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه. وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان. فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر، لا سيما إذا كان حربيا وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالبا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها. قال

(10/497)


عياض: إنما اغتفرت مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما في ذلك من الحرج - لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم معصية كبيرة - لأن الحامل لها على ذلك الغيرة التي جبلت عليها النساء، وهي لا تنشأ إلا عن فرط المحبة، فلما كان الغضب لا يستلزم البغض اغتفر، لأن البغض هو الذي يفضي إلى الكفر أو المعصية، وقد دل قولها "لا أهجر إلا اسمك" على أن قلبها مملوء بمحبته صلى الله عليه وسلم. قوله: "أجل" بوزن نعم ومعناه. وقال الأخفش: إلا أن نعم أحسن من أجل في جواب الاستفهام، وأجل أحسن من نعم في التصديق. قلت: وهي في هذا الحديث على وفق ما قال.

(10/498)


باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة أو عشيا
...
64 - باب هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
6079- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ؟ قَالَ: إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ ".
قوله: "باب هل يزور صاحبه كل يوم، أو بكرة وعشيا" قيل: العشي من الزوال إلى العتمة. وقيل: إلى الفجر. فقال ابن فارس: العشاء بالفتح والمد الطعام وبالكسر من الزوال إلى العتمة، والعشي من الزوال إلى الفجر. قوله: "هشام" هو ابن يوسف. قوله: "عن معمر وقال الليث حدثني عقيل" وفي بعض النسخ "ح وقال الليث" وهذا التعليق سبق مطولا في "باب الهجرة إلى المدينة" موصولا عن يحيى بن بكير عن الليث. قوله: "قال ابن شهاب فأخبرني عروة" كأن هذا سياق معمر، وكأنه كان عنده قبل قوله: "لم أعقل أبوي" كلام آخر فعطف هذا عليه. وقد وقع عند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب "قال وأخبرني" كذا رأيته فيه بالواو، وأما رواية عقيل فلفظه في "باب الهجرة إلى المدينة" عن ابن شهاب "أخبرني عروة عن عائشة قالت: "لم أعقل الخ" وقد استشكل كون أبي بكر كان يحوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتكلف المجيء إليه وكان يمكنه هو أن يفعل ذلك، وأجاب ابن التين بأنه لم يكن يجيء إلى أبي بكر لمجرد الزيارة بل لما يتزايد عنده من علم الله، ولم يتضح لي هذا الجواب، ويحتمل أن يقال: إنه ليس في الخير ما يمنع أن أبا بكر كان يجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الليل والنهار أكثر من مرتين، ويحتمل أن يقال: كان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء إلى بيت أبي بكر يأمن من أذى المشركين بخلاف ما لو جاء أبو بكر إليه. ويحتمل أن يكون منزل أبي بكر كان بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسجد فكان يمر به والمقصود المسجد وكان يشهده كلما مر به، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى بطوله في "باب الهجرة إلى المدينة" وكأن البخاري رمز بالترجمة إلى توهين الحديث المشهور "زر غبا تزدد حبا" وقد ورد من طرق كثرها غرائب لا يخلو واحد منها من مقال، وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره، وجاء من حديث علي وأبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي برزة وعبد الله بن عمر وأنس وجابر وحبيب بن مسلمة ومعاوية بن حيدة، وقد جمعتها في جزء مفرد، وأقوى طرقه ما أخرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور" والخطيب في "تاريخ بغداد" والحافظ أبو محمد بن

(10/498)


السقاء في فوائده من طريق أبي عقيل يحيى بن حبيب بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي ثابت عن جعفر بن عون عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبو عقيل كوفي مشهور بكنيته، قاله ابن أبي حاتم: سمع منه أبي وهو صدوق، وذكر ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ وأغرب. قلت: واختلف عليه في رفعه ووقفه، وقد رفعه أيضا يعقوب بن شيبة عن جعفر بن عون رويناه في "فوائد أبي محمد بن السقاء" أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جده يعقوب، واختلف فيه على جعفر بن عون فرواه عبد بن حميد في تفسيره عنه عن أبي حبان الكلبي عن عطاء عن عبيد بن عمير موقوفا في قصة له مع عائشة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: "دخلت أنا وعبيد على عائشة فقالت: يا عبيد بن عمير ما يمنعك أن تزورنا؟ قال: قول الأول زر غبا تزدد حبا. فقال عند الله بن عمير: دعونا من بطالتكم هذه وأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث في صلاته صلى الله عليه وسلم: "وذكر أبو عبيد في الأمثال بأنه من أمثال العرب، وكان هذا الكلام شائعا في المتقدمين، فرويناه في فوائد أبي محمد السقاء قال انشدونا لهلال بن العلاء:
الله يعلم أنني ... لك أخلص الثقلين قلبا
لكن لقول نبينا ... زوروا على الأيام غبا
ولقوله من زار غـ ... با منكم يزداد حبا
قلت: وكان يمكنه أن يوجز فيقول:
لكن لقول نبينا ... من زار غبا زاد حبا
وقد أنشدونا لأبي محمد بن هارون القرطبي راوي الموطأ:
أقل زيارة الإخوا ... ن تزدد عندهم قربا
فإن المصطفى قد قا ... ل زر غبا تزد حبا
قلت: ولا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب لأن عمومه يقبل التخصيص فيحمل على من ليست له خصوصية مودة ثابتة فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته. قال ابن بطال: الصديق الملاطف لا يزيده كثرة الزيارة إلا محبة، بخلاف غيره.

(10/499)


65 - باب الزِّيَارَةِ. وَمَنْ زَارَ قَوْماً فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ
وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ عِنْدَهُ
6080- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَاماً فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُمْ".
قوله: "باب الزيارة" أي مشروعيتها "ومن زار قوما فطعم عندهم" أي من تمام الزيارة أن يقدم. للزائر ما حضر، قاله ابن بطال، وهو مما يثبت المودة ويزيد في المحبة. قلت: وقد ورد في ذلك حديث أخرجه الحاكم

(10/499)


وأبو يعلى من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال: "دخل على جابر نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقدم إليهم خبزا وخلا فقال: كلوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم الإدام الخل، إنه هلاك بالرجل أن يدخل إليه النفر من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه إليهم، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم". وورد في فضل الزيارة أحاديث: منها عند الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رفعه: "من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا " وله شاهد عند البزار من حديث أنس بسند جيد، وعند مالك وصححه ابن حبان من حديث معاذ بن جبل مرفوعا: "حقت محبتي للمتزاورين في" الحديث وأخرجه أحمد بسند صحيح من حديث عتبان بن مالك، وعند الطبراني من حديث صفوان بن عسال رفعه: "من زار أخاه المؤمن خاض في الرحمة حتى يرجع". قوله: "وزار سلمان أبا الدرداء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأكل عنده" هو طرف من حديث لأبي جحيفة تقدم مستوفى مشروحا في كتاب الصيام. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "زار أهل بيت من الأنصار" هم أهل عتبان بن مالك كما مضى من وجه آخر عن أنس بن سيرين بأتم من هذا السياق وأوله "قال رجل من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم إني لا أستطيع الصلاة معك، وصنع طعاما" الحديث، وأورده في صلاة الضحى وقصة عتبان وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته قد تقدمت في الصلاة أيضا مطولة. وفيها أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى في بيته تأخر حتى أكل عندهم، وفيه قصة مالك بن الدخشم، ووقع له صلى الله عليه وسلم نحو القصة التي في هذا الباب في بيت أبي طلحة كما سيأتي في "باب كنية الصبي" من طريق أبي التياح عن أنس، فإن فيه ذكر البساط ونضحه، لكن ليس فيه ذكر الطعام، نعم في رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، وفيه ذكر نضح الحصير والصلاة بهم لكن ليس في أوله القصة التي في رواية أنس بن سيرين عن أنس أن الرجل قالا "لا أستطيع الصلاة معك" فإن هذا القدر مختص بقصة عتبان، فتعين الحمل عليه، ووهم من رجح أنه بيت أبي طلحة، وفي الحديث استحباب الزيارة ودعاء الزائر لمن زاره وطعم عنده.

(10/500)


66 - باب مَنْ تَجَمَّلَ لِلْوُفُودِ
6081- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: "قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَا الإِسْتَبْرَقُ قُلْتُ مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِ هَذِهِ فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَمَضَى مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِحُلَّةٍ فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ وَقَدْ قُلْتَ فِي مِثْلِهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِهَا مَالاً فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ".
قوله: "باب من تجمل للوفود" أي حسن هيئته بالملبوس ونحوه لمن يقدم عليه، والوفود جمع وافد وهو من يقدم على من له أمر أو سلطان زائرا أو مسترفدا والمراد من قول عمر "للوفود" من كان يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ممن يرسلهم قبائلهم يبايعون لهم على الإسلام ويتعلمون أمور الدين حتى يعلموهم، وإنما أورد الترجمة بصورة

(10/500)


الاستفهام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر، فالظاهر أنه إنما أنكر لبس الحرير بقرينة قوله: "إنما يلبس هذه" ولم ينكر أصل التجمل، لكنه محتمل مع ذلك. حديث ابن عمر في قصة حلة عطارد، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب اللباس. وعبد الصمد في سنده هو ابن عبد الوارث. وقوله: "وخشن" بفتح الخاء وضم الشين المعجمتين للأكثر، ولبعضهم بالمهملتين، وشاهد الترجمة منه قول عمر "تجمل بها للوفود" وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقد اعترضها الداودي فقال: كان ينبغي أن يقول التجمل للوفود لأنه لا يقال فعل كذا إلا لمن صدر منه الفعل، وليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وجوابه أن معنى الترجمة من فعل ذلك متمسكا بما دل عليه الحديث المذكور، وقوله في آخر الحديث: "وكان ابن عمر يكره العلم في الثوب لهذا الحديث" قال الخطابي: مذهب ابن عمر في هذا مذهب الورع، وكان ابن عباس يقول في روايته: "إلا علما في ثوب" وذلك لأن مقدار العلم لا يقع عليه اسم اللبس، قال: ولو أن رجلا حلف لا يلبس غزل فلانة فأخذ ثوبا فنسج فيه من غزلها ومن غزل غيرها وكان الذي من غزلها لو انفرد لم يبلغ إذا نسج أنه يحصل منه شيء مما يقع على مثله اسم اللبس لم يحنث، كذا قال، وقد تقدم في كتاب اللباس من رواية أبي عثمان عن عمر في النهي عن لبس الحرير، "إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع" وتقدم شرح ذلك مستوفى هناك.

(10/501)


67 - باب الإِخَاءِ وَالْحِلْفِ.
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: "آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ". وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ "لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ".
6082- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" .
6083- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: "قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِي".
قوله: "باب الإخاء والحلف" بكسر المهملة وسكون اللام وبفتح المهملة وكسر اللام هو المعاهدة، وقد تقدم بيانها في أوائل الهجرة. قوله: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء" هو طرف من الحديث الذي أشرت إليه في الباب الذي قبله، وقد تقدم في "باب الهجرة إلى المدينة" أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين الصحابة. وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أنس قال: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين ابن مسعود والزبير" والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة، وذكر غير واحد أنه آخى صلى الله عليه وسلم بين أصحابه مرتين مرة بين المهاجرين فقط ومرة بين المهاجرين والأنصار. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف: لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في فضائل الأنصار، وقدمت شيئا يتعلق به في أبواب الوليمة. قوله: "حدثنا إسماعيل بن زكريا" لمحمد بن الصباح فيه شيخ آخر، فإن مسلما أخرجه عنه عن حفص بن غياث عن عاصم. قوله: "عاصم" هو ابن سليمان الأحول. قوله: "قلت لأنس بن مالك أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري" ووقع في رواية أبي داود من رواية سفيان بن عيينة

(10/501)


عن عاصم قال: "سمعت أنس بن مالك يقول حالف" فذكره بلفظ المهاجرين بدل قريش، فقيل له أليس قال لا حلف في الإسلام؟ قال: قد حالف فذكر مثله وزاد مرتين أو ثلاثا، وأخرجه مسلم بنحوه مختصرا، وعرف من رواية الباب تسمية السائل عن ذلك، وذكره الصنف في الاعتصام مختصرا خاليا عن السؤال وزاد في آخره: "وقنت شهرا يدعو على أحياء من بني سليم" وحديث القنوت من طريق عاصم مضى في الوتر وغيره. وأما الحديث المسئول عنه فهو حديث صحيح أخرجه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" وأخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه(1) وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن أبي أوفى نحوه باختصار. وأخرج أيضا أحمد وأبو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: "شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه" وحلف المطيبين كان قبل المبعث بمدة، ذكره ابن إسحاق وغيره، وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خلال الخير، واستمر ذلك بعد المبعث، ويستفاد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنهم استمروا على ذلك في الإسلام، وإلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم. وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث لأن فيه نفي الحلف وفيما قاله هو إثباته، ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد، وقد تقدم حديث ابن عباس في نسخ التوارث بين المتعاقدين، وذكر الداودي أنهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما فنسخ ذلك. وقال ابن عيينة: حمل العلماء قول أنس "حالف" على المؤاخاة. قلت: لكن سياق عاصم عنه يقتضي أنه أراد المحالفة حقيقة، وإلا كان الجواب مطابقا، وترجمة البخاري طاهرة في المغايرة بينهما وتقدم في الهجرة إلى المدينة "باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه" وذكر الحديثين المذكورين هنا أولا ولم يذكر حديث الحلف، وتقدم ما يتعلق بالمؤاخاة هناك. قال النووي: المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل

(10/502)


68 - باب التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ
وَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم: "أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكْتُ".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى.
6084- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلاَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ فَجَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلاَثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا قَالَ وَأَبُو بَكْرٍ

(10/502)


جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلاَ تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" .
6085- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ فَقَالَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَالَ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَتِي كُنَّ عِنْدِي لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَمْ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكاً فَجّاً إِلاَّ سَلَكَ فَجّاً غَيْرَ فَجِّكَ".
6086- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّائِفِ قَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ" فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نَبْرَحُ أَوْ نَفْتَحَهَا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ قَالَ فَغَدَوْا فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالاً شَدِيداً وَكَثُرَ فِيهِمْ الْجِرَاحَاتُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا قَافِلُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ فَسَكَتُوا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِالْخَبَرِ كُلِّهِ
6087- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ لَيْسَ لِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً قَالَ لاَ أَجِدُ فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ؟ تَصَدَّقْ بِهَا. قَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي؟ وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَأَنْتُمْ إِذاً" .
6088- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ

(10/503)


فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
6089- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: "مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي".
6090- "وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِياً مَهْدِيّاً" .
6091- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ. فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَبِمَ شَبَهُ الْوَلَدِ؟" .
6092- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعاً قَطُّ ضَاحِكاً حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ".
6093- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ ح وقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ قَحَطَ الْمَطَرُ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ فَاسْتَسْقَى فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ مُطِرُوا حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ غَرِقْنَا فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِيناً وَشِمَالاً يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا وَلاَ يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ" .
قوله: "باب التبسم والضحك" قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ. قوله:

(10/504)


"وقالت فاطمة أسرَّ إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت" هو من طرف من حديث لعائشة عن فاطمة عليها السلام مر بتمامه وشرحه في الوفاة النبوية. قوله: "وقال ابن عباس: إن الله هو أضحك وأبكى" أي خلق في الإنسان الضحك والبكاء، وهذا طرف من حديث لابن عباس تقدم في الجنائز، وأشار فيه ابن عباس - بجواز البكاء بغير نياحة - إلى قوله تعالى في سورة النجم {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث تقدم أكثرها وفي جميعها ذكر التبسم أو الضحك، وأسبابها مختلفة لكن أكثرها للتعجب، وبعضها للإعجاب، وبعضها للملاطفة. حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، والغرض منه قولها فيه: "وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم" وقد مر شرحه مستوفى في كتاب الصلاة، وقوله فيه: "وابن سعيد بن العاص جالس" وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني "وسعيد بن العاص" والصواب الأول وهو خالد وقد وقع مسمى فيما مضى. حديث سعد "استأذن عمر" تقدم شرحه مستوفى في مناقب عمر، والغرض منه قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك" ويستفاد منه ما يقال للكبير إذا ضحك، وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي. وقال أبو علي الجياني: لعله ابن أبى أويس. قلت: وقد تقدم في فضائل الأنصار حديث قال فيه البخاري "حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد" وإسماعيل هذا هو ابن أبي أويس جزما، وهو يؤيد ما جزم به المزي. حديث عمرو هو ابن دينار عن أبي العباس وهو الشاعر عن عبد الله بن عمر. كذا للأكثر بضم العين، وللحموي وحده هنا "عمرو" بفتحها والصواب الأول، وقد تقدم بيانه في غزوة الطائف مع شرح الحديث، والغرض منه هنا قوله: "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقوله فيه: "لا نبرح أو نفتحها" قال ابن التين: ضبطناه بالرفع والصواب النصب، لأن "أو" إذا كانت بمعنى "حتى" أو "إلى إن" نصبت وهي هنا كذلك. قوله: "قال الحميدي حدثنا سفيان بالخبر كله" تقدم بيان من وصله في غزوة الطائف، ووقع في رواية الكشميهني: "حدثنا سفيان كله بالخبر" والمعني أنه ذكر بصريح الأخبار في جميع السند لا بالعنعنة. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل وإبراهيم هو ابن سعد. قوله: "حدثنا ابن شهاب" هذا إنما سمعه إبراهيم بن سعد من الزهري، وقد سبق في الحديث الثاني أنه روى عنه بواسطة صالح بن كيسان بينهما. وقصة المجامع في رمضان تقدم شرحها في كتاب الصيام، وقوله فيه: "قال إبراهيم" هو ابن سعد وهو موصول بالسند المذكور، وقوله: "والعرق المكتل" فيه بيان لما أدرجه غيره فجعل تفسير العرق من نفس الحديث، والغرض منه قوله: "فضحك حتى بدت نواجذه" والنواجذ جمع ناجذة بالنون والجيم والمعجمة هي الأضراس، ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك، ولا منافاة بينه وبين حديث عائشة ثامن أحاديث الباب: "ما رأيته صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته" لأن المثبت مقدم على النافي قاله ابن بطال، وأقوى منه أن الذي نفته غير الذي أثبته أبو هريرة، ويحتمل أن يريد بالنواجذ الأنياب مجازا أو تسامحا وبالأنياب مرة(1) فقد تقدم في الصيام في هذا الحديث بلفظ: "حتى بدت أنيابه" والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه أو الإفراط فيه لأنه يذهب الوقار، قال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله ما واظب عليه من ذلك،
ـــــــ
(1) لعل هنا سقطا، تمامه: "فعبر بالنواجذ مرة وبالأنياب مرة الخ".

(10/505)


فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة رفعه: "لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" . قوله: "مالك" قال الدار قطني لم أر هذا الحديث عند أحد من رواة الموطأ إلا عند يحيى بن بكير ومعن بن عيسى، ورواه جماعة من رواة الموطأ عن مالك لكن خارج الموطأ، وزاد ابن عبد البر أنه رواه في الموطأ أيضا مصعب بن عبد الله الزبيري وسليمان بن صرد. قلت: ولم يخرجه البخاري إلا من رواية مالك، وأخرجه مسلم أيضا من رواية الأوزاعي ومن رواية همام ومن رواية عكرمة بن عمار كلهم عن إسحاق بن أبي طلحة، وساقه على لفظ مالك وبين بعض غيره. قوله: "كنت أمشي" في رواية الأوزاعي "أدخل المسجد". قوله: "وعليه برد" في رواية الأوزاعي "رداء". قوله: "نجراني" بفتح النون وسكون الجيم نسبة إلى نجران بلد معروف بين الحجاز واليمن، وتقدم في أواخر المغازي. قوله: "غليظ الحاشية" في رواية الأوزاعي "الصنفة" بفتح المهملة وكسر النون بعدها فاء وهي طرف الثوب مما يلي طرته. قوله: "فأدركه أعرابي" زاد همام "من أهل البادية" وفي رواية الأوزاعي "فجاء أعرابي من خلفه". قوله: "فجبذ" بفتح الجيم والموحدة بعدها ذال معجمة. وفي رواية الأوزاعي "فجذب" وهي بمعنى جبذ. قوله: "جبذة شديدة" في رواية عكرمة "حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي". قوله: "قال أنس فنظرت إلى صفحة عاتق" في رواية مسلم: "عنق" وكذا عند جميع الرواة عن مالك، وكذا في رواية الأوزاعي. قوله: "أثرت فيها" في رواية الكشميهني: "بها" وكذا لمسلم من رواية مالك. وفي رواية همام "حتى انشق البرد وذهبت حاشيته في عنقه" وزاد أن ذلك وقع من الأعرابي لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، ويجمع بأنه لقيه خارج المسجد فأدركه لما كاد يدخل فكلمه أو مسك بثوبه لما دخل، فلما كاد يدخل الحجرة خشي أن يفوته فجبذه. قوله: "مر لي" في رواية الأوزاعي "أعطنا". قوله: "فضحك" في رواية الأوزاعي "فتبسم ثم قال مروا له" وفي رواية همام "وأمر له بشيء" وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن. حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي، وابن نمير هو محمد بن عبد الله بن نمير، وابن إدريس هو عبد الله، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، والجميع كوفيون، والغرض منه قوله: "ولا رآني إلا تبسم" وتقدم في المناقب بلفظ: "إلا ضحك" وهما متقاربان، والتبسم أوائل الضحك كما تقدم، وبقية شرحه هناك. حديث أم سلمة في سؤال أم سليم "هل على المرأة من غسل" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الطهارة، والغرض منه قوله: "فضحكت أم سلمة" لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة. قوله: "عمرو" هو ابن الحارث المصري، وأبو النضر هو سالم. قوله: "مستجمعا قط ضاحكا" في رواية الكشميهني: "مستجمعا ضحكا" أي مبالغا في الضحك لم يترك منه شيئا، يقال استجمع السيل: اجتمع من كل موضع، واستجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه، فعلى هذا قوله: "ضاحكا" منصوب على التمييز وإن كان مشتقا مثل لله دره فارسا أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك، واللهوات بفتح اللام والهاء جمع لهاة وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم، وهذا القدر المذكور طرف من حديث تقدم بتمامه وشرحه في تفسير سورة الأحقاف. حديث أنس في قصة الذي طلب الاستقاء ثم

(10/506)


الاستصحاء والغرض منه ضحكه صلى الله عليه وسلم عند قول القائل "غرقنا" أورده من وجهين عن قتادة، وساقه هنا على لفظ سعيد بن أبي عروبة، وساقه في الدعوات على لفظ أبي عوانة، ومحمد بن محبوب شيخه هو أبو عبد الله البنائي البصري، وهو غير محمد بن الحسن الذي لقيه محبوب، ووهم من وحدهما كشيخنا ابن الملقن فإنه جزم بذلك وعم أن البخاري روى عنه هنا وروى عن رجل عنه، وليس كذلك بل هما اثنان أحدهما في عداد شيوخ الآخر، وشيخ البخاري اسمه محمد واسم أبيه محبوب والآخر اسمه محمد واسم أبيه الحسن ومحبوب لقب محمد لا لقب الحسن، وقد أخرج له البخاري في كتاب الأحكام حديثا واحدا قال فيه: "حدثنا محبوب بن الحسن" وسبب الوهم أنه وقع في بعض الأسانيد "حدثنا محمد بن الحسن محبوب" فظنوا أنه لقب الحسن وليس كذلك.

(10/507)


69 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَمَا يُنْهَى عَنْ الْكَذِبِ
6094- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً" .
6095- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" .
6096- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالاَ الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
قوله: "باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وما ينهى عن الكذب" قال الراغب أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب، والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإن انخرم شرط لم يكن صدقا، بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق: محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال صدق لكون المخبر عنه كذلك، يصح أن يقال كذب لمخالفة قوله لضميره. والصديق من كثر منه الصدق، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو صدق ظني، وفي الفعل نحو صدق في القتال، ومنه {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} اهـ ملخصا. وقال ابن التين: اختلف في قوله: {مَعَ الصَّادِقِينَ} فقيل: معناه مثلهم.

(10/507)


وقيل: منهم. قلت: وأظن المصنف لمح بذكر الآية إلى قصة كعب بن مالك وما أداه صدقه في الحديث إلى الخير الذي ذكره في الآية بعد أن وقع له ما وقع من ترك المسلمين كلامه تلك المدة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت ثم من الله عليه بقبول توبته. وقال في قصته: ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا. وقال الغزالي: الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة. وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب - إذا لم ينشأ عنه ضرر - مباحا، وليس كذلك، ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال: "الكذب بجانب الإيمان" وأخرجه عنه مرفوعا وقال: الصحيح موقوف. وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص رفعه قال: "يطبع المؤمن على كل شيء، إلا الخيانة والكذب" وسنده قوي، وذكر الدار قطني في "العلل" أن الأشبه أنه موقوف، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في الموطأ قال ابن التين: ظاهره يعارض حديث ابن مسعود، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأما جرير المذكور في ثالث أحاديث الباب فهو ابن حازم. قوله: "إن الصدق يهدي" بفتح أوله من الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، هكذا وقع أول الحديث من رواية منصور عن أبي وائل، ووقع في أوله من رواية الأعمش عن أبي وائل عند مسلم وأبي داود والترمذي "عليكم بالصدق فإن الصدق" وفيه: "وإياكم والكذب فإن الكذب الخ". قوله: "إلى البر" بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم. قوله: "وإن البر يهدي إلى الجنة" قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} . قوله: "وإن الرجل ليصدق" زاد في رواية الأعمش "ويتحرى الصدق" وكذا زادها في الشق الثاني. قوله: "حتى يكون صديقا" في رواية الأعمش "حتى يكتب عند الله صديقا" قال ابن بطال: المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق. قوله: "وإن الكذب يهدي إلى الفجور" قال الراغب: أصل الفجر الشق، فالفجور شق ستر الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشر. قوله: "وإن الرجل ليكذب حتى يكتب" في رواية الكشميهني: "يكون" وهو وزن الأول، والمراد بالكتابة الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغا عن ابن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه: "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين" قال النووي قال العلماء: في هذا الحديث حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به. قلت: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص عن منصور بن المعتمر عند مسلم ولفظه: "وإن العبد ليتحرى الصدق " وكذا قال في الكذب، وعنده أيضا في رواية الأعمش عن شقيق وهو أبو وائل وأوله عنده "عليكم بالصدق" وفيه: "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق" وقال فيه: "وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب " فذكره، وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار له الصدق سجية حتى يستحق الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذم فيهما يختص بمن يقصد إليهما

(10/508)


فقط، إن كان الصادق في الأصل ممدوحا والكاذب مذموما. ثم قال النووي: وأعلم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه قاله القاضي عياض، وكذا نقله الحميدي، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن مثنى وابن بشار زيادة وهي "إن شر الروايا روايا الكذب، لأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه" فذكر أبو مسعود أن مسلما روى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضا أبو بكر البرقاني في هذا الحديث، قال الحميدي: وليست عندنا في كتاب مسلم، والروايا جمع رواية بالتشديد وهو ما يتروى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله، وقيل هو جمع رواية أي للكذب والهاء للمبالغة. قلت: لم أر شيئا من هذا في "الأطراف لأبي مسعود" ولا في "الجمع بين الصحيحين للحميدي" فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين. حديث أبي هريرة "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب" الحديث وتقدم شرحه في كتاب الإيمان، وطرفا من حديث سمرة في المنام الطويل المقدم ذكره وشرحه في كتاب الجنائز، وفيه: "الذي رأيته يشق شدقه الكذاب" قال ابن بطال: إذا كرر الرجل الكذب حتى استحق اسم المبالغة بالوصف بالكذب لم يكن من صفات كملة المؤمنين بل من صفات المنافقين، يعني فلهذا عقب البخاري حديث ابن مسعود بحديث أبي هريرة. قلت: وحديث أبي هريرة المذكور هنا في صفة المنافق يشمل الكذب في القول والفعل، والقصد الأول في حديثه والثاني في أمارته والثالث في وعده. أخبر في حديث سمرة بعقوبة الكاذب بأنه يشق شدقه وذلك في موضع المعصية وهو فمه الذي كذب به. قلت: ومناسبته للحديث الأول أن عقوبة الكاذب أطلقت في الحديث الأول بالنار فكان في حديث سمرة بيانها. قوله في حديث سمرة "قالا الذي رأيته يشق شدقه فكذاب" هكذا وقع بالفاء واستشكل بأن الموصول الذي يدخل خبره الفاء يشترط أن يكون مبهما عاما، وأجاب ابن مالك بأنه نزل المعين المبهم منزلة العام إشارة إلى اشتراك من يتصف في العقاب المذكور، والله أعلم.

(10/509)


70 - باب فِي الْهَدْيِ الصَّالِحِ
6097- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ الأَعْمَشُ سَمِعْتُ شَقِيقاً قَالَ: "سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلّاً وَسَمْتاً وَهَدْياً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَبْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لاَ نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ إِذَا خَلاَ".
6098- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُخَارِقٍ سَمِعْتُ طَارِقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 6098 – طرفه في: 7277]
قوله: "باب الهدي الصالح" بفتح الهاء وسكون الدال هو الطريقة الصالحة، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من وجهين من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رفعه: "الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" وفي الطريق الأخرى "جزء من سبعين جزءا من النبوة" وأخرجه أبو داود وأحمد باللفظ الأول وسنده حسن، وأخرجه الطبراني من وجه آخر

(10/509)


عن ابن عباس بلفظ: "خمسة وأربعين" وسنده ضعيف، وستأتي الإشارة إلى طريق الجمع بين هذه الروايات في التعبير في شرح حديث الرؤيات الصالحة، قال التوربشتي: الاقتصاد على ضربين: أحدهما ما كان متوسطا بين محمود ومذموم كالتوسط بين الجور والعدل، وهذا المراد بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ، وهذا محمود ومذموم بالنسبة، والثاني متوسط بين طرفي الإفراط والتفريط كالجود فإنه متوسط بين الإسراف والبخل، وكالشجاعة فإنها متوسطة بين التهور والجبن، وهذا هو المراد في الحديث. قوله: "حدثني إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه ونص البخاري لفظه، ولكنه حذف من آخره قول أبي أسامة وهو ثابت في مسند إسحاق فقال في آخر الحديث: "فأقر به أبو أسامة وقال نعم" وشقيق هو أبو وائل. قوله: "دلا" يفتح المهملة وتشديد اللام هو حسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما، ويطلق أيضا على الطريق. قوله: "وسمتا" بفتح المهملة وسكون الميم هو حسن المنظر في أمر الدين، ويطلق أيضا على القصد في الأمر وعلى الطريق والجهة. قوله: "وهديا" قال أبو عبيد: الهدي والدل متقاربان، يقال في السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر والشمائل قال: والسمت يكون في حسن الهيئة والمنظر من جهة الخير والدين لا من جهة الجمال والزينة، ويطلق على الطريق، وكلاهما جيد بأن يكون له هيئة أهل الخير على طريقة أهل الإسلام. قوله: "لابن أم عبد" بفتح اللام وهي تأكيد بعد التأكيد بأن المكسورة التي في أول الحديث وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود، ووقع في رواية محمد بن عبيد عن الأعمش عند الإسماعيلي بلفظ: "عبد الله بن مسعود" وفي الحديث فضيلة لابن مسعود جليلة لشهادة حذيفة له بأنه أشد الناس شبها برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال، وفيه توقى حذيفة حيث قال: "من حين يخرج إلى أن يرجع" فإنه اقتصر في الشهادة له بذلك على ما يمكنه مشاهدته، وإنما قال: "لا أدري ما يصنع في أهله" لأنه جوز أن يكون إذا خلا يكون في انبساطه لأهله يزيد أو ينقص عن هيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله، ولم يرد بذلك إثبات نقص في حق عبد الله رضي الله عنه. وقد أخرج أبو عبيد في "غريب الحديث" أن أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا ينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به، فكأن الحامل لهم على ذلك حديث حذيفة. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق زيد بن وهب "سمعت ابن مسعود قال: اعلموا أن حسن الهدي في أخر الزمان خير من بعض العمل" وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فكأن ابن مسعود لأجل هذا كان يحرص على حسن الهدي، وقد استشكل الداودي الشارح بقول حذيفة في ابن مسعود قول مالك "كان عمر أشبه الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبه الناس بعمر ابنه عبد الله، وبعبد الله ابنه سالم" قال الداودي: وقول حذيفة يقدم على قول مالك، ويمكن الجمع باختلاف متعلق الشبه بحمل شبه ابن مسعود بالسمت وما ذكر معه، وقول مالك بالقوة في الدين ونحوها، ويحتمل أن تكون مقالة حذيفة وقعت بعد موت عمر، يؤيد قول مالك ما أخرج البخاري في "كتاب رفع اليدين" عن جابر قال: "لم يكن أحد منهم ألزم لطريق النبي صلى الله عليه وسلم من عمر" وفي السنن ومستدرك. الحاكم عن عائشة قالت: "ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة عليها السلام" قلت: ويجمع بالحمل في هذا على النساء. وأخرج أحمد عن عمر "من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود". قلت: ويجمع بالحمل على من بعد الصحابة، وعن عبد الرحمن بن حبير بن نفير "حج عمرو بن الأسود فرآه ابن عمر يصلي فقال: ما رأيت أشبه صلاة

(10/510)


ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل" انتهى. وعمرو المذكور(1). قوله: "عن مخارق" هو ابن عبد الله ويقال ابن خليفة الأحمسي وطارق هو ابن شهاب الأحمسي. قوله: "قال قال عبد الله" في رواية الإسماعيلي: "كان عبد الله يقول" وعبد الله هو ابن مسعود؛ وجزم ابن بطال بأن عبد الله هذا هو ابن عمر فوهم في ذلك. قوله: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد" هو بفتح الهاء كما في الترجمة وروي بضمها ضد الضلال، زاد أبو خليفة عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه في آخره: وشر الأمور محدثاتها "وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" وسيأتي في كتاب الاعتصام من وجه آخر عن ابن مسعود وفيه هذه الزيادة بلفظها وسأذكر شرحها هناك إن شاء الله تعالى. هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفا، وقد ورد بعضه مرفوعا من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود أخرجه أصحاب السنن، وجاء أكثره مرفوعا من حديث جابر أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه وغيرهم من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بألفاظ مختلفة، منها لأحمد عن يحيى القطان عن جعفر به "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته بعد التشهد: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد" قال يحيي ولا أعلمه إلا قال: "وشر الأمور محدثاتها" الحديث، وفي لفظ لمسلم من طريق عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد في أثناء حديث قال فيه: "ويقول: أما بعد إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" الحديث.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل، كأنه محل ترجمة عمرو.

(10/511)


71 - باب الصَّبْرِ عَلَى الأَذَى
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
6099- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ".
[الحديث 6099 – طرفه في: 7378]
6100- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقاً يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ أَمَّا أَنَا لاَقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ" .
قوله: "باب الصبر في الأذى" أي حبس النفس عن المجازاة على الأذى قولا أو فعلا، وقد يطلق على الحلم "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} " قال بعض أهل العلم: الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة،

(10/511)


لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرا من المنفق لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء أن يزيده، وقد تقدم في أوائل الإيمان حديث ابن مسعود "الصبر نصف الإيمان" وقد ورد في الصبر على الأذى حديث ليس على شرط البخاري، وهو ما أخرجه ابن ماجه يسند حسن عن ابن عمر رفعه: "المؤمن الذي يخالط الناس يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " وأخرجه الترمذي من حديث صحابي لم يسم. قوله: حديث أبي موسى "ليس أحد أو ليس شيء" هو شك من الراوي، وقد أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد بسند البخاري وقال فيه: "أحد" بغير شك. قوله: "أصبر على أذى" هو بمعنى الحلم، أو أطلق الصبر لأنه بمعنى الحبس والمراد به حبس العقوبة على مستحقها عاجلا وهذا هو الحلم. قوله: "على أذى سمعه من الله" قد بينه في بقية الحديث، وهو أنهم يشركون به ويرزقهم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "قال عبد الله" هو ابن مسعود ووقع في رواية سفيان عن الأعمش الماضية في "باب من أخبر صاحبه بما يعلم" بلفظ: "عن ابن مسعود". قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما" في رواية شعبة عن الأعمش أنها قسمه غنائم حنين. وفي رواية منصور عن ابن أبي وائل "لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل وأعطى ناسا من أشراف العرب" وقد تقدم إيضاح ذلك في غزوة حنين. قوله: "فقال رجل من الأنصار" تقدمت تسميته في غزوة حنين والرد على من زعم أنه حرقوص بن زهير. قوله: "والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله" قد تقدم في غزوة حنين من وجه آخر بلفظ: "ما أراد" على البناء للفاعل وفي رواية منصور "ما عدل فيها" وهو بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "قلت أما لأقولن" قال ابن التين: هي بتخفيف الميم ووقع في رواية: "أما" بتشديدها وليس ببين. قلت: وقع للكشميهني: "أم" بغير ألف وهو يؤيد التخفيف، ويوجه التشديد على أن في الكلام حذفا تقديره أما إذ قلت ذلك لأقولن. قوله: "فشق ذلك عليه وتغير وجهه" قد تقدم قبل بأكثر من عشرة أبواب بلفظ: "فتمعر وجهه" وهو بالعين المهملة ويجوز بالمعجمة. قوله: "حتى وددت أني لم أكن" في رواية أن بفتح وتخفيف. قوله: "ثم قال: قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" في رواية شعبة عن الأعمش " يرحم الله موسى قد أوذي " فذكره وزاد في رواية منصور "فقال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى" الحديث. وفي هذا الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم ليحذروا القائل وفيه بيان ما يباح من الغيبة والنميمة لأن صورتهما موجودة في صنيع ابن مسعود هذا ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قصد ابن مسعود كان نصح النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه بمن يطعن فيه ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن من كيدهم، وقد ارتكب الرجل المذكور بما قال إثما عظيما فلم يكن له حرمة. وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى عليه السلام، وأشار بقوله: "قد أوذي موسى" إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قد حكي في صفة أذاهم له ثلاث قصص: إحداها قولهم هو آدر، وقد تقدم ضبط ذلك وشرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء. ثانيها: في قصة موت هارون، وقد أوضحته أيضا في قصة موسى ثالثها: في قصته مع قارون حيث أمر البغي أن تزعم أن موسى

(10/512)


راودها حتى كان ذلك سبب هلاك: قارون، وقد تقدم ذلك في قصة قارون في آخر أخبار موسى من أحاديث الأنبياء.

(10/513)


72 - باب مَنْ لَمْ يُوَاجِهْ النَّاسَ بِالْعِتَابِ
6101- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لاَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً" .
[الحديث 6601 – طرفه في: 7301]
6102- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَى أَنَسٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ".
قوله: "باب من لم يواجه الناس بالعتاب" أي حياء منهم. قوله: "مسلم" هو ابن صبيح أبو الضحى، ووهم من زعم أنه ابن عمران البطين، وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن الأعمش فقال: "عن أبي الضحى" ومن طريق حفص بن غياث التي أخرجها البخاري من طريقه فقال نحو جرير، ومن طريق عيسى بن يونس عن الأعمش كذلك، ومن طريق معاوية عن الأعمش عن مسلم. قوله: "صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فترخص فيه" في رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش "رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أمر". قوله: "فتنزه عنه قوم" في رواية مسلم من طريق جرير عن الأعمش "فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا". قوله: "فخطب" في رواية أبي معاوية "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بأن الغضب في وجهه". قوله: " ما بال أقوام" في رواية جرير "ما بال رجال" قال ابن بطال: هذا لا ينافي الترجمة، لأن المراد بها المواجهة مع التعيين كأن يقول ما بالك يا فلان تفعل كذا، وما بال فلان يفعل كذا. فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة وهي مخاطبة من فعل ذلك، لكنه لما كان من جملة المخاطبين ولم يميز عنهم صار كأنه لم يخاطب. قوله: "يتنزهون عن الشيء أصنعه" في رواية جرير " بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه" وفي رواية أبي معاوية "يرغبون عما رخص لي فيه". قوله: "فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية" جمع بين القوة العلمية والقوة العملية، أي أنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وليس كذلك إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها. وقد تقدم معنى هذا الحديث في كتاب الإيمان في رواية هشام بن عروة عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون" الحديث، وفيه: "فيغضب ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" وقد أوضحت شرحه هناك وذكرت فيه أن الحديث من أفراد هشام عن أبيه عروة عن عائشة، وطريق مسروق هذه متابعة جيدة لأصل هذا الحديث، قال ابن بطال: كان النبي صلى الله عليه وسلم رفيقا بأمته فلذلك خفف عنهم العتاب، لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، ولو كان ذلك حراما لأمرهم بالرجوع إلى فعله. قلت: أما المعاتبة فقد حصلت

(10/513)


منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميز الذي صدر منه ذلك سترا عليه، فحصل منه الرفق من هذه الحيثية لا بترك العتاب أصلا. وأما استدلاله يكون ما فعلوه غير حرام فواضح من جهة أنه لم يلزمهم بفعل ما فعله هو. وفي الحديث الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذم التعمق والتنزه عن المباح، وحسن العشرة عند الموعظة، والإنكار والتلطف في ذلك، ولم أعرف أعيان القوم المشار إليهم في هذا الحديث، ولا الشيء الذي ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت ما يمكن أن يعرف به ذلك وهو ما أخرجه مسلم في كتاب الصيام من وجه آخر عن عائشة "أن رجلا قال: يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله وقال : إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح "أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر" الحديث وفيه قولهم "وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وفيه قولهم "والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء". حديث أبي سعيد يأتي في "باب الحياء" بعد أربعة أبواب، وقد تقدم شرحه أيضا في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم". قال ابن بطال: يستفاد منه الحكم بالدليل، لأنهم جزموا بأنهم كانوا يعرفون ما يكرهه بتغير وجهه، ونظيره أنهم كانوا يعرفون أنه يقرأ في الصلاة باضطراب لحيته كما تقدم في موضعه.

(10/514)


73 - باب مَنْ كَفَّرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ
6103- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا" وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
6104- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا" .
6105- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِباً فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ" .
قوله: "باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال" كذا قيد مطلق الخبر بما إذا صدر ذلك بغير تأويل من قائله. واستدل لذلك في الباب الذي يليه. قوله: "حدثنا محمد وأحمد بن سعيد قالا حدثنا عثمان بن عمر" أما محمد فهو ابن يحيى الذهلي، وأما أحمد بن سعيد فهو ابن سعيد بن صخر أبو جعفر الدارمي، جزم بذلك أبو نصر الكلاباذي. قوله: "عن يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة" كذا في رواية الجميع بالعنعنة. قوله: "عن أبي هريرة" في

(10/514)


رواية عكرمة بن عمار المعلقة أنه "سمع أبا هريرة". قوله: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر" تقدم شرحه في "باب ما ينهي عنه من السباب واللعن". قوله: "وقال عكرمة بن عمار عن يحيى" هو ابن أبي كثير "عن عبد الله بن يزيد" هو المدني مولى الأسود بن سفيان، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث المعلق وحديث آخر موصول مضى في التفسير. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني بهذا الحديث، وقد وصله الحارث بن أبي أسامة في مسنده وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه عن النضر بن محمد اليماني عن عكرمة بن عمار به، وقد أخرج مسلم في كتاب الإيمان من طريق النضر بن محمد عن عكرمة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة حديثا غير هذا ليس فيه بين يحيى وأبي سلمة واسطة. وأخرج الإسماعيلي حديث الباب من رواية حذيفة عن عكرمة بن عمار بهذا السند وقال: إنه موقوف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وقد رفعه النضر بن محمد عن عكرمة كما ترى، ودل صنيع البخاري على أن زيادة عبد الله بن يزيد بين يحيى وأبي سلمة في هذه الرواية المعلقة لم تقدح في رواية علي بن المبارك عن يحيى بدون ذكر عبد الله بن يزيد عنده، إما لاحتمال أن يكون يحيى سمعه من أبي سلمة بواسطة ثم سمعه من أبي سلمة، وإما أن يكون لم يعتد بزيادة عكرمة بن عمار لضعف حفظه عنده.
وقد استدرك الدار قطني عليه إخراجه لرواية علي بن المبارك. وقال: يحيى بن أبي كثير مدلس، وقد زاد فيه عكرمة رجلا، والحق أن مثل هذا لا يتعقب به البخاري لأنه لم تخف عليه العلة بل عرفها وأبرزها وأشار إلى أنها لا تقدح، وكأن ذلك لأن أصل الحديث معروف ومتنه مشهور مروي من عدة طرق، فيستفاد منه أن مراتب العلل متفاوتة، وأن ما ظاهره القدح منها إذا انجبر زال عنه القدح، والله أعلم. حديث ابن عمر في نفس المعنى وتقدم شرحه. حديث ثابت بن الضحاك تقدم شرحه. قال ابن بطال: كنت أسأل المهلب كثيرا عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبني بأجوبة مختلفة والمعنى واحد قال: قوله: "فهو كما قال" يعني فهو كاذب لا كافر، إلا أنه لما تعمد الكذب الذي حلف عليه والتزم الملة التي حلف بها قال عليه السلام "فهو كما قال" من التزام تلك الملة إن صح قصده بكذبه إلى التزامها في تلك الحالة، لا في وقت ثان إذا كان على سبيل الخديعة للمحلوف له. قلت: وحاصله أنه لا يصير بذلك كافرا وإنما يكون كالكافر في حال حلفه بذلك خاصة، وسيأتي أن غيره حمل الحديث على الزجر والتغليظ، وأن ظاهره غير مراد، وفيه غير ذلك من التأويلات.

(10/515)


74 - باب مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَوْ جَاهِلاً.
وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" .
6106- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا سَلِيمٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلاَةَ فَقَرَأَ بِهِمْ الْبَقَرَةَ قَالَ فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذاً فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا وَإِنَّ مُعَاذاً صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ثَلاَثاً اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا

(10/515)


وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَنَحْوَهما" .
6107- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ" .
6108- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَإِلاَ فَلْيَصْمُتْ" .
قوله: "باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا" أي بالحكم أو بحال المقول فيه. قوله: "وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة إنه نافق"، كذا للأكثر بلفظ الفعل الماضي. وفي رواية الكشميهني: "منافق" باسم الفاعل. وهذا طرف من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وقد تقدم موصولا مع شرحه في تفسير سورة الممتحنة. حديث جابر في قصة معاذ بن جبل حيث طول في صلاة الصبح ففارقه الرجل فصلى وحده، فقال معاذ إنه منافق وتقدم شرحه مستوفى في صلاة الجماعة، ومحمد بن عبادة شيخ البخاري فيه أبوه بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة. وقوله: "فتجوز رجل" بالجيم والزاي للجميع، وحكى ابن التين أنه روي بالحاء المهملة أي انحاز فصلى وحده. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وأبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، وهو من شيوخ البخاري قد حدث عنه كثيرا بلا واسطة. وتقدم الحديث في تفسير سورة النجم مع شرحه، ووجه دخوله في هذا الباب واضح، قال ابن بطال عن المهلب: أمره صلى الله عليه وسلم للحالف باللات والعزى بقوله لا إله إلا الله خشية أن يستديم حاله على ما قال فيخشى عليه من حبوط عمله فيما نطق به من كلمة الكفر بعد الإيمان، قال: ومثله قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فنفى عنه الإيمان في حالة الزنا خاصة انتهى. وقال في موضع آخر ليس في هذا الحديث إطلاق الحلف بغير الله، وإنما فيه تعليم من نسي أو جهل فحلف بذلك أن يبادر إلى ما يكفر عنه ما وقع فيه. وحاصله أنه أرشد من تلفظ بشيء مما لا ينبغي له التلفظ به أن يبادر إلى ما يرفع الحرج عن القائل أن لو قال ذلك قاصدا إلى معني ما قال، وقد قدمت توجيه هذا في شرح الحديث المذكور، ومناسبة الأمر بالصدقة لمن قال أقامرك من حيث أنه أراد إخراج المال في الباطل، فأمر بإخراجه في الحق. حديث ابن عمر في حلف عمر بأبيه، وفيه النهي عن ذلك، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الأيمان والنذور، وقصد بذكره هنا الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه: "من حلف بغير الله فقد أشرك" لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يقتضي النهي كان معذورا فيما صنع، فلذلك اقتصر على نهيه ولم يؤاخذه بذلك لأنه تأول أن حق أبيه عليه يقتضي أنه يستحق أن يحلف به، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يحب لعبده أن يحلف بغيره، والله علم.

(10/516)


75 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لأَمْرِ اللَّهِ
وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}
6109- حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ"
6110- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي لاَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَباً فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ" .
6111- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِيَدِهِ فَتَغَيَّظَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاَةِ" .
6112- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: "عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا" .
6113- وَقَالَ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيراً فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَباً فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ" .
قوله: "باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى وقال الله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ

(10/517)


عَلَيْهِمْ} كأنه يشير إلى أن الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة. وذكر فيه خمسة أحاديث تقدمت كلها وفي كل منها ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم في أسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كله كان في أمر الله، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر عنها. حديث عائشة في القرام، وقد تقدم شرحه في اللباس، ويسرة شيخه بفتح الياء المثناة من تحت والمهملة. حديث أبي مسعود في قصة تطويل الإمام في صلاة الغداة، وتقدم شرحه في صلاة الجماعة. حديث ابن عمر في النخامة في القبلة، وقد تقدم شرحه في أوائل كتاب الصلاة، وقوله: "حيال وجهه" بكسر المهملة بعدها تحتانية خفيفة أي تلقاء. حديث زيد بن خالد في اللقطة، وتقدم شرحه هناك. حديث زيد بن ثابت "احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة" وقد تقدم شرحه في أبواب الإمامة، وحجيرة تصغير حجرة بالراء، وقد تقدم فيه رواية بالزاي، ويقال بفتح أوله وكسر ثانيه، والخصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ثم فاء: ما يتخذ من خوص المقل أو النخل، وقوله فيه: "وقال المكي" هو ابن إبراهيم البلخي أحد مشايخه، وقد وصله أحمد والدارمي في مسنديهما عن المكي بن إبراهيم بتمامه، ومحمد بن زياد شيخه في الطريق الثانية هو الزيادي ماله في البخاري سوى هذا الحديث، قال الكلاباذي: أخرج له شبه المقرون! وكذا قال ابن عدي: روى له استشهادا، وكانت وفاته قبل البخاري بقليل، مات في حدود الخمسين ويقال سنة اثنتين وخمسين وذكر ذلك الدمياطي في حواشيه، ومحمد بن جعفر هو غندر وعبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند، وسياق الحديث في هذا الباب على لفظ محمد بن جعفر. والغرض منه قوله: "فخرج عليهم مغضبا" والظاهر أن غضبه لكونهم اجتمعوا بغير أمره فلم يكتفوا بالإشارة منه لكونه لم يخرج عليهم بل بالغوا فحصبوا بابه وتتبعوه، أو غضب لكونه تأخر إشفاقا عليهم لئلا تفرض عليه وهم يظنون غير ذلك، وأبعد من قال: "صلى في مسجده بغير أمره" وقوله في آخره: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" دال على أن المراد بالصلاة أي في قوله في الحديث الآخر "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" صلاة النافلة، وحكى ابن التين عن قوم أنه يستحب أن يجعل في بيته من فريضة، وزيفه بحديث الباب والله أعلم.

(10/518)


76 - باب الْحَذَرِ مِنْ الْغَضَبِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
6114- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" .
6115- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". فَقَالُوا

(10/518)


لِلرَّجُلِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ".
6116- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوْصِنِي قَالَ لاَ تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَاراً قَالَ لاَ تَغْضَبْ" .
قوله: "باب الحذر من الغضب لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} " الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى قوله: "المحسنين" وكأنه أشار بالآية الثانية إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الأول في الباب فعند أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه، قال: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه " رواه البزار بسند حسن، وليس في الآيتين دلالة على التحذير من الغضب إلا أنه لما ضم من يكظم غيطه إلى من يجتنب الفواحش كان في ذلك إشارة إلى المقصود. قوله: "ليس الشديد بالصرعة" بضم الصاد والمهملة وفتح الراء: الذي يصرع الناس كثيرا بقوته، والهاء للمبالغة في الصفة، والصرعة بسكون الراء بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرا، وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم وبالسكون فهو كذلك كهمزة ولمزة وحفظة وخدعة وضحكة، ووقع بيان ذلك في حديث ابن مسعود عند مسلم وأوله "ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال" قال: ابن التين: ضبطناه بفتح الراء. وقرأه بعضهم بسكونها، وليس بشيء لأنه عكس المطلوب، قال: وضبط أيضا في بعض الكتب بفتح الصاد وليس بشيء. قوله: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" في رواية أحمد من حديث رجل لم يسمه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الصرعة كل الصرعة - كررها ثلاثا - الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه فيصرع غضبه". حديث سليمان بن صرد، تقدم شرحه في باب السباب واللعن. قوله: "حدثني يحيى بن يوسف" هو الزمي بكسر الزاي وتشديد الميم، لم أر له في البخاري رواية إلا عن أبي بكر بن عياش، وأبو حصين بفتح أوله. قوله: "عن أبي صالح عن أبي هريرة" خالفه الأعمش فقال: "عن أبي صالح عن أبي سعيد" أخرجه مسدد في مسنده عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، وهو على شرط البخاري أيضا لولا عنعنة الأعمش. قوله: "أن رجلا" هو جارية بالجيم ابن قدامة أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني من حديثه مبهما ومفسرا، ويحتمل أن يفسر بغيره، ففي الطبراني من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي "قلت: يا رسول الله قل لي قولا أنتفع به وأقلل، قال: لا تغضب، ولك الجنة" وفيه عن أبي الدرداء "قلت: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: لا تغضب" وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى "قلت يا رسول الله قل لي قولا وأقلل لعلي أعقله". قوله: "أوصني" في حديث أبي الدرداء "دلني على عمل يدخلني الجنة" وفي حديث ابن عمر عند أحمد "ما يباعدني من غضب الله " زاد أبو كريب عن أبي بكر بن عياش عند الترمذي "ولا تكثر علي لعلي أعيه" وعند الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه. قوله: "فردد مرارا" أي ردد السؤال يلتمس أنفع من ذلك أو أعم فلم يزده على ذلك. قوله: "قال لا تغضب" في رواية أبي كريب "كل ذلك

(10/519)


يقول لا تغضب" وفي رواية عثمان بن أبي شيبة قال: "لا تغضب ثلاث مرات" وفيها بيان عدد المرار، وقد تقدم حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه، وأنه كان لا يراجع بعد ثلاث، وزاد أحمد وابن حبان في رواية عن رجل لم يسم قال: "تفكرت فيما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله" قال الخطابي معنى قوله: "لا تغضب" اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه. وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة. وقال غيره: ما كان من قبيل الطبع الحيواني لا يمكن دفعه، فلا يدخل في النهي لأنه من تكليف المحال، وما كان من قبيل ما يكتسب بالرياضة فهو المراد. وقيل: معناه لا تغضب لأن أعظم ما ينشأ عنه الغضب الكبر لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل: معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب. وقال ابن بطال: في الحديث الأول أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة. وقال غيره: لعل السائل كان غضوبا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كل أحد بما هو أولى به، فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب. وقال ابن التين: جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تغضب" خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين. وقال البيضاوي: لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان إنما هي من شهوته ومن غضبه، وكانت شهوة السائل مكسورة فلما سأل عما يحترز به عن القبائح نهاه عن الغضب الذي هو أعظم ضررا من غيره، وأنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه انتهى. ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى. وقال ابن حبان بعد أن أخرجه: أراد لا تعمل بعد الغضب شيئا مما نهيت عنه، لا أنه نهاه عن شيء جبل عليه ولا حيلة له في دفعه. وقال بعض العلماء: خلق الله الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان، فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم، لأن البشرة تحكي لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنا، وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن كتغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكان غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، هذا كله في الظاهر، وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر، لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أولى شيء يقبح منه باطنه، وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه، وهذا كله أثره في الجسد، وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمي عليه، وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة. ومن تأمل هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" من الحكمة واستجلاب المصلحة في درء

(10/520)


المفسدة مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته، وهذا كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله، ويعين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشيطان كما تقدم في حديث سليمان بن صرد، وأن يتوضأ كما تقدمت الإشارة إليه في حديث عطية، والله أعلم. وقال الطوفي: أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي، وهو أن لا فاعل إلا الله، وكل فاعل غيره فهو آلة له، فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه، لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه جل وعلا وهو خلاف العبودية. قلت: وبهذا يظهر السر في أمره صلى الله عليه وسلم الذي غضب بأن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به من الشيطان أمكنه استحضار ما ذكر، وإذا استمر الشيطان متلبسا متمكنا من الوسوسة لم يمكنه من استحضار شيء من ذلك، والله أعلم.

(10/521)


77 - باب الْحَيَاءِ
6117- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ وَقَاراً وَإِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ سَكِينَةً فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ" .
6118- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الإِيمَانِ" .
6119- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَوْلَى أَنَسٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا".
قوله: "باب الحياء" بالمد تقدم تعريفه في أول كتاب الإيمان، ووقع لابن دقيق العيد في "شرح العمدة" أن أصل الحياء الامتناع ثم استعمل في الانقباض، والحق أن الامتناع من لوازم الحياء ولازم الشيء لا يكون أصله، ولما كان الامتناع لازم الحياء كان في التحريض على ملازمة الحياء حض على الامتناع عن فعل ما يعاب، والحيا بالقصر المطر. قوله: "عن قتادة" كذا قال أكثر أصحاب شعبة، وخالفهم شبابة بن سوار فقال: "عن شعبة عن خالد بن رباح" بدل قتادة، أخرجه ابن منده، ووقع نطير هذه القصة عن عمران بن حصين أيضا للعلاء من زياد أخرجه ابن المبارك في "كتاب البر والصلة". قوله: "عن أبي السوار" بفتح المهملة وتشديد الواو وبعد الألف راء اسمه حريث على الصحيح، وقيل حجير بن الربيع، وقيل غير ذلك ووقع في رواية محمد بن جعفر عن شعبة عبد مسلم: "سمعت أما السوار". قوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير" في رواية خالد بن رباح عن أبي السوار عبد أحمد وكذلك في رواية أبي قتادة العدوي عن عمران عند مسلم: "الحياء خير كله"

(10/521)


وللطبراني من حديث قرة بن إياس " قيل لرسول الله: الحياء من الدين؟ فقال: بل هو الدين كله" وللطبراني من وجه آخر عن عمران بن حصين "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة". قوله: "بشير بن كعب" بالموحدة والمعجمة مصغر تابعي جليل، يأتي ذكره في الدعوات. قوله: "مكتوب في الحكمة" في رواية محمد بن جعفر "أنه مكتوب في الحكمة" وفي رواية أبي قتادة العدوي عند مسلم: "فقال بشير بن كعب إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة" بالشك، والحكمة في الأصل إصابة الحق بالعلم، وسيأتي بسط القول في ذلك في "باب ما يجوز من الشعر" إن شاء الله تعالى. قوله: "إن من الحياء وقارا، وإن من الحياء سكينه" في رواية الكشميهني: "السكينة" بزيادة ألف ولام. وفي رواية أبي قتادة العدوي، "إن منه سكينة ووقارا لله" وفيه ضعف، وهذه الزيادة متعينة ومن أجلها غضب عمران، وإلا فليس في ذكر السكينة والوقار ما ينافي كونه خيرا، أشار إلى ذلك ابن بطال، لكن يحتمل أن يكون غضب من قوله منه؛ لأن التبعيض يفهم أن منه ما يضاد ذلك، وهو قد روي أنه كله خير. وقال القرطبي: معنى كلام بشير أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه. ومنه ما يحمله على أن يسكن عن كثير مما يتحرم الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة، ولم ينكر عمران عليه هذا القدر من حيث معناه، وإنما أنكره عليه من حيث أنه ساقه في معرض من يعارض كلام الرسول بكلام غيره، وقيل إنما أنكر عليه كونه خاف أن يخلط السنة بغيرها. قلت: ولا يخفى حسن التوجيه السابق. قوله: "وتحدثني عن صحيفتك" في رواية أبي قتادة "فغضب عمران حتى احمرت عيناه وقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه" وفي رواية أحمد "وتعرض فيه بحديث الكتب" وهذا يؤيد الاحتمال الماضي، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه لبشير بن كعب هذا قصة مع ابن عباس تشعر بأنه كان يتساهل في الأخذ عن كل من لقيه. قوله: "عبد العزيز بن أبي سلمة" هو الماجشون. قوله: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يعظ أخاه في الحياء" تقدم في أول كتاب الإيمان مع شرحه، ولم أعرف اسم الرجل ولا اسم أخيه إلى الآن، والمراد بوعظه أنه يذكر له ما يترتب على ملازمته من المفسدة. قوله: "الحياء من الإيمان" حكى ابن التين عن أبي عبد الملك أن المراد به كمال الإيمان. وقال أبو عبيد الهروي: معناه أن المستحي ينقطع بحياته عن المعاصي وإن لم يكن له تقية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي. قال عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم، وأما كونه خيرا كله ولا يأتي إلا بخير فأشكل حمله على العموم، لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق. والجواب أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيا بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، وهو خلق يبعث على ترك القبيح. قلت: ويحتمل أن يكون أشير إلى من كان الحياء من خلقه أن الخير يكون فيه أغلب فيضمحل ما لعله يقع منه مما يذكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببا لجلب الخير إليه فيكون منه الخير بالذات والسبب. وقال أبو العباس القرطبي: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزي، غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزيا، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها،

(10/522)


وكان في الحياء المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم انتهى. الحديث تقدم شرحه في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم" وقوله: "عن مولى أنس" قال أبو عبد الله اسمه عبد الله بن أبي عتبة، كذا للأكثر، وحكى الجياني أنه وقع لبعض رواة الفربري عبد الله بدل عبد الرحمن، وأبو عبد الله المذكور هو البخاري، هكذا جزم بتسميته هنا، وتقدم كذلك مسمى هناك، وفي اسمه خلاف فقيل عبد الرحمن وقيل عبيد الله بالتصغير والمعتمد أنه عبد الله مكبرا، وقوله: "العذراء" بفتح المهملة وسكون الذال المعجمة ثم راء ومد هي البكر، والخدر بكسر المعجمة وسكون المهملة الموضع الذي تحبس فيه وتستتر، والله أعلم.

(10/523)


78 - باب إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ
6120- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" .
قوله: "باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت" كذا ترجم بلفظ الحديث وضمه في "الأدب المفرد" إلى ترجمة الحياء. قوله: "زهير" هو ابن معاوية أبو خيثمة، ومنصور هو ابن المعتمر، والإسناد كله كوفيون، وقد تقدم الاختلاف فيه على ربعي في آخر ذكر بني إسرائيل. قوله: "إن مما أدرك الناس" وقع في حديث حذيفة عند أحمد والبزار "إن آخر ما يعلق به أهل الجاهلية من كلام النبوة الأولى" والناس يجوز فيه الرفع، والعائد على "ما" محذوف، ويجوز النصب والعائد ضمير الفاعل، و"أدرك" بمعنى بلغ و"إذا لم تستح" اسم للكلمة المشبهة بتأويل هذا القول. قوله: "فاصنع ما شئت" قال الخطابي: الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في الحديث أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء فإذا تركه صار كالمأمور طبعا بارتكاب كل شر، وقد سبق هذا الحديث والإشارة إلى شرحه في ذكر بني إسرائيل في أواخر أحاديث الأنبياء، وأشير هنا إلى زيادة على ذلك، قال النووي في "الأربعين": الأمر فيه للإباحة، أي إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله وإلا فلا، وعلى هذا مدار الإسلام، وتوجيه ذلك أن المأمور به الواجب والمندوب يستحيي من تركه، والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحيي من فعله، وأما المباح فالحياء من فعله جائز وكذا من تركه فتضمن الحديث الأحكام الخمسة. وقيل هو أمر تهديد كما تقدم توجيهه، ومعناه إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت فإن الله مجازيك عليه، وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء، وقيل هو أمر بمعنى الخير، أي من لا يستحيي يصنع ما أراد.

(10/523)


79 - باب مَا لاَ يُسْتَحْيَا مِنْ الْحَقِّ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ
6121- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ فَقَالَ نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ" .
6122- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ

(10/523)


3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا"
وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَالْيُسْرَ عَلَى النَّاسِ
6124- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: " يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا " قَالَ أَبُو مُوسَى يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ يُصْنَعُ فِيهَا شَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ وَشَرَابٌ مِنْ الشَّعِيرِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" .
6125- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا" .
6126- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ

(10/524)


النَّاسِ مِنْهُ. وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ".
6127- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "كُنَّا عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ بِالأَهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ عَلَى فَرَسٍ فَصَلَّى وَخَلَّى فَرَسَهُ فَانْطَلَقَتْ الْفَرَسُ فَتَرَكَ صَلاَتَهُ وَتَبِعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا فَأَخَذَهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلاَتَهُ وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ فَأَقْبَلَ يَقُولُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ تَرَكَ صَلاَتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ فَأَقْبَلَ فَقَالَ مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إِنَّ مَنْزِلِي مُتَرَاخٍ فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى مِنْ تَيْسِيرِهِ".
6128- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ".
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا، وكان يحب التخفيف والتسري على الناس" أما حديث يسروا فوصله في الباب، وأما الحديث الآخر فأخرجه مالك في الموطأ عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكر حديثا في صلاة الضحى وفيه: "وكان يحب ما خف على الناس" وفي حديث أيمن المخزومي عن عائشة في قصة الصلاة بعد العصر وفيه: "وما كان يصليها في المسجد مخافة أن تثقل على أمته، وكان يحب ما خفف عليهم" وقد تقدم في "باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت" من كتاب الصلاة، وقد وصل في الباب حديث أبي برزة وفيه: "أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من تيسيره". حديث أبي موسى "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولمعاذ لما بعثهما إلى اليمن: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا". وإسحاق في حديث أبي موسى هو ابن راهويه كما وقع في رواية ابن السكن، وجزم به أبو نعيم، وتردد الكلاباذي وتبعه أبو علي الجياني هل هو ابن راهويه أو هو ابن منصور. حديث أنس " يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا ". قوله: "يسروا" هو أمر بالتيسير والمراد به الأخذ بالتسكين تارة وبالتيسير أخرى من جهة أن التنفير يصاحب المشقة غالبا وهو ضد التسكين، والتبشير يصاحب التسكين غالبا وهو ضد التنفير، وقد تقدم بيان الوقت الذي بعث فيه أبو موسى ومعاذ رضي الله عنهما إلى اليمن في أواخر كتاب المغازي، وتقدم الكلام على البتع وهو يكسر الموحدة وسكون المثناة بعدها مهملة في كتاب الأشربة. قال الطبري: المراد بالأمر بالتيسير فيما كان من النوافل مما كان شاقا لئلا يفضي بصاحبه إلى الملل فيتركه أصلا، أو يعجب بعمله فيحبط فيما رخص فيه من الفرائض كصلاة الفرض قاعدا للعاجز والفطر في الفرض لمن سافر فيشق عليه، وزاد غيره في ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن من أحدهما بد كما في قصة الأعرابي حيث بال في المسجد. حديث عائشة "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين" الحديث، وقد تقدم شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال البيضاوي: يتصور التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه إذا صدر من الكفار

(10/525)


مثلا، وفيه توجيه آخر تقدم هناك. حديث أبي برزة. قوله: "وفينا رجل له رأي" لم أقف على اسمه، وحكى ابن التين عن الداودي أن معنى قوله: "له رأي " يظن أنه محسن وليس كذلك. وقوله: "نضب عنه بالماء" بنون وضاد معجمة ثم موحدة أي زال، وقد تقدم في أواخر الصلاة بلفظ: "فجعل رجل من الخوارج يقول" فهذا هو المعتمد، وأن المراد بالرأي رأي الخوارج، والتنوين فيه للتحقير، أي رأي فاسد وقد تقدم شرح الحديث هناك. حديث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وقد سبقت الإشارة إليه في "باب الرفق" وأن شرحه تقدم في كتاب الطهارة. وفي هذه الأحاديث أن الغلو ومجاوزة القصد في العبادة وغيرها مذموم، وأن المحمود من جميع ذلك ما أمكنت المواظبة معه وأمن صاحبه العجب وغيره من المهلكات.

(10/526)


81 - باب الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لاَ تَكْلِمَنَّهُ. وَالدُّعَابَةِ مَعَ الأَهْلِ
6129- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟".
[الحديث 6129 – طرفه في: 6203]
6130- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي".
قوله: "باب الانبساط إلى الناس" في رواية الكشميهني: "مع الناس". قوله: "وقال ابن مسعود: خالط الناس ودينك لا تكلمنه" بفتح أوله وسكون الكاف وكسر اللام وفتح الميم من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام وهو الجرح وزنا ومعنى، وروي بالمثلثة بدل الكافة والنون مشددة للتأكيد. وقوله: "ودينك" يجوز فيه النصب والرفع. وهذا الأثر وصله الطبراني في الكبير من طريق عبد الله بن باباه بموحدتين عن ابن مسعود قال: "خالطوا الناس وصافوهم بما يشتهون، ودينكم لا تكلمنه" وهذه بضم الميم للجميع. وأخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة من وجه آخر عن ابن مسعود بلفظ: "خالطوا الناس وزايلوهم في الأعمال" وعن عمر مثله كمن قال: "وانظروا ألا تكلموا دينكم". قوله: "والدعابة مع الأهل" هو بقية الترجمة معطوف على الانبساط بالجر، ويجوز أن يعطف على "باب" فيقرأ بالرفع، والدعابة بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد ألف موحدة هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره، وقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقا" وأخرج من حديث ابن عباس رفعه: "لا تمار أخاك وتمازحه" الحديث، والجمع بينهما أن المنهي عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه لما فيه من الشغل عن ذكر الله

(10/526)


والتفكر في مهمات الدين ويؤول كثيرا إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطيب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب، قال الغزالي: من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم مزح فهو كمن يدور مع الريح حيث دار، وينظر رقصهم، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم. حديث أنس في قصة النغير سيأتي شرحه مستوفى في "باب ما يجوز من الشعر" قريبا إن شاء الله تعالى. حديث عائشة "كنت ألعب بالبنات" ومحمد شيخه فيه هو ابن سلام. قوله: "وكان لي صواحب يلعبن معي" أي من أقرانها. قوله: "يتقمعن" بمثناة وتشديد الميم المفتوحة وفي رواية الكشميهني بنون ساكنة وكسر الميم ومعناه أنهن يتغيبن منه ويدخلن من وراء الستر، وأصله من قمع التمرة أي يدخلن في الستر كما يدخلن التمرة في قمعها. قوله: "فيسربهن إلي" بسين مهملة ثم موحدة أي يرسلهن. واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن. قال وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال، وحكى عن ابن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ، وقد ترجم ابن حبان الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب، وترجم له النسائي إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات فلم يقيد بالصغر وفيه نظر. قال البيهقي بعد تخريجه ثبت النهي عن اتخاذ "الصور" فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل التحريم وبه جزم ابن الجوزي. وقال المنذري إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة، وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يجز وإلا جاز، وقيل: معنى الحديث اللعب مع البنات أي الجواري والباء هنا بمعنى مع حكاه ابن التين عن الداودي، ورده. قلت: ويرده ما أخرجه ابن عيينة في "الجامع" من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا الحديث: "وكن جواري يأتين فيلعبن بها معي" وفي رواية جرير عن هشام "كنت ألعب بالبنات وهن اللعب" أخرجه أبو عوانة وغيره. وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر" فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها قالت: "فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة، قالت: بناتي. قالت: ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان فقال: ما هذا؟ قلت فرس. قال فرس له جناحان؟ قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك" فهذا صريح في أن المراد باللعب غير الآدميات. قال الخطابي: في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد: وإنما أرخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ. قلت: وفي الجزم به نظر لكنه محتمل، لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها. وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا فيترجح رواية من قال في خيبر، ويجمع بما قال الخطابي لأن ذلك أولى من التعارض.

(10/527)


82 - باب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ

(10/527)


6131- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" .
6132- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِداً لِمَخْرَمَةَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: "قَدْ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ" قَالَ أَيُّوبُ بِثَوْبِهِ وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ". رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ".
قوله: "باب المداراة مع الناس" هو بغير همز، وأصله الهمز لأنه من المدافعة، والمراد به الدفع برفق. وأشار المصنف بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه واقتصر على إيراد ما يؤدي معناه، فمما ورد فيه صريحا لجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مداراة الناس صدقة" أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط، وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم في "آداب الحكماء" بسند أحسن منه، وحديث أبي هريرة "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس" أخرجه البزار بسند ضعيف. قوله: "ويذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر" بالكاف الساكنة وكسر المعجمة. قوله: "في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم" كذا للأكثر بالعين المهملة واللام الساكنة والنون، وللكشميهني بالقاف الساكنة قيل اللام المكسورة ثم تحتانية ساكنة من القلا بكسر القاف مقصور وهو البغض، وبهذه الرواية جزم ابن التين، ومثله في تفسير المزمل من "الكشاف". وهذا الأثر وصله ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي في "غريب الحديث" والدينوري في "المجالسة" من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكر مثله وزاد: "ونضحك إليهم" وذكره بلفظ اللعن ولم يذكر الدينوري في إسناده جبير بن نفير، ورويناه في "فوائد أبو بكر بن المقري" من طريق كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي الدرداء قال: "إنا لنكشر أقواما" فذكر مثله وهو منقطع، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" من طريق خلف بن حوشب قال قال أبو الدرداء فذكر اللفظ المعلق سواء، وهو منقطع أيضا والكشر بالشين المعجمة وفتح أوله ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك، والاسم الكشرة كالعشرة قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنه معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا

(10/528)


احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. حديث عائشة "استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة" وقد تقدم بيان موضع شرحه في "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد"، والنكتة في إيراده هنا التلميح إلى ما وقع في بعض الطرق بلفظ المداراة. وهو عند الحارث بن أبي أسامة من حديث صفوان بن عسل نحو حديث عائشة وفيه: "فقال: إنه منافق أداريه عن نفاقه، وأخشى أن يفسد على غيره". حديث المسور بن مخرمة "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية" وفيه قصة أبيه مخرمة وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس؛ ووقع في هذه الطريق "وكان في خلقه شيء" وقد رمز البخاري بإيراده عقب الحديث الذي قبله بأنه المبهم فيه كما أشرت إلى ذلك قبل، ووقع في رواية مسروق عن عائشة "مر رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بئس عبد الله وأخو العشيرة، ثم دخل عليه فرأيته أقبل عليه بوجهه كأن له عنده منزلة". أخرجه النسائي. وشرح ابن بطال الحديث على أن المذكور كان منافقا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالحكم بما ظهر، لا بما يعلمه في نفس الأمر، وأطال في تقرير ذلك، ولم يقل أحد في المبهم في حديث عائشة أنه كان منافقا لا مخرمة بن نوفل ولا عيينة بن حصن، وإنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خلقه من الشدة فكان لذلك في لسانه بذاءة، وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفا وكان مع ذلك أهوج فكان مطاعا في قومه كما تقدم، والله أعلم. وقوله في هذه الرواية: "فلما جاءه قال خبأت هذا لك" وفي رواية الكشميهني: "قد خبأت" وقوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "بثوبه وأنه يريه إياه" والمعنى أشار أيوب بثوبه ليرى الحاضرين كيفية ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند كلامه مع مخرمة، ولفظ القول يطلق ويراد به الفعل، وقوله: "رواه حماد بن زيد عن أيوب " تقدم موصولا في " باب فرض الخمس " وصورته مرسل أيضا. قوله: "وقال حاتم بن وردان الخ" أراد بهذا التعليق بيان وصل الخبر، وأن رواية ابن علية وحماد وإن كانت صورتهما الإرسال لكن الحديث في الأصل موصول، وقد مضى بيان وصل رواية حاتم هذه في الشهادات.

(10/529)


83 - باب لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لاَ حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ
6133- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ" .
قوله: "باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة ما يكون من ذوات السموم، واللذع بالذال المعجمة والعين المهملة ما يكون من النار، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الطب، والجحر بضم الجيم وسكون المهملة. قوله: "وقال معاوية لا حكيم إلا بتجربة" كذا للأكثر بوزن عظيم.
وفي رواية الأصيلي: "إلا ذو تجربة". وفي رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "لا حلم" بكسر المهملة وسكون اللام "إلا بتجربة" وفي رواية الكشميهني: "إلا لذي تجربة" وهذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "قال معاوية: لا حلم إلا بالتجارب" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال: "كنت جالسا عند معاوية فحدث نفسه ثم انتبه فقال: لا حليم إلا ذو تجربة. قالها ثلاثا" وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعا: "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" وأخرجه أحمد

(10/529)


وصححه ابن حبان، قال ابن الأثير: معناه: لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها. وقال غيره: المعني لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة وحصل منه خطأ فحينئذ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فبعفو عنه، وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل شيئا إلا عن حكمة. قال الطيبي ويمكن أن يكون تخصيص الحليم بذي التجربة للإشارة إلى أن غير الحكيم بخلافه، وأن الحليم الذي ليس له تجربة قد يعثر في مواضع لا ينبغي له فيها الحلم بخلاف الحليم المجرب، وبهذا تظهر مناسبة أثر معاوية لحديث الباب، والله تعالى أعلم. قوله: "عن ابن المسيب" في رواية يونس عن الزهري "أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه" أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وكذا قال أصحاب الزهري فيه، وخالفهم صالح بن أبي الأخضر وزمعة بن صالح وهما ضعيفان فقالا: "عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه" أخرجه ابن عدي من طريق المعافى بن عمران عن زمعة وابن أبي الأخضر، واستغربه من حديث المعافى قال: وأما زمعة فقد رواه عنه أيضا أبو نعيم. قلت: أخرجه أحمد عنه، ورواه عن زمعة أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو أحمد الزبيري أخرجه ابن ماجه. قوله: "لا يلدغ" هو بالرفع على صيغة الخبر، قال الخطابي هذا لفظه خبر ومعناه أمر، أي ليكن المؤمن حازما حذرا لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين كما يكون في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر، وقد روي بكسر الغين في الوصل فيتحقق معنى النهي عنه، قال ابن التين: وكذلك قرأناه، قيل: معنى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين أن من أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا لا يعاقب به في الآخرة. قلت: إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا فيمكن وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك، ويؤيده قول من قال: فيه تحذير من التغفيل، وإشارة إلى استعمال الفطنة. ومال أبو عبيد: معناه ولا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه أن يعود إليه. قلت وهذا هو الذي فهمه الأكثر ومنهم الزهري راوي الخبر، فأخرج ابن حبان من طريق سعيد بن عبد العزيز قال: "قيل للزهري لما قدم من عند هشام بن عبد الملك: ماذا صنع بك؟ قال: أوفى عني ديني، ثم قال: يا بن شهاب تعود تدان؟ قلت: لا" وذكر الحديث. وقال أبو داود الطيالسي بعد تخريجه: لا يعاقب في الدنيا بذنب فيعاقب به في الآخرة، وحمله غيره على غير ذلك. قيل: المراد بالمؤمن في هذا الحديث الكامل الذي قد أوقفته معرفته على غوامض الأمور حتى صار يحذر مما سيقع. وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مرارا. قوله: "من جحر" زاد في رواية الكشميهني والسرخسي "واحد" ووقع في بعض النسخ من "جحر حية" وهي زيادة شاذة. قال ابن بطال: وفيه أدب شريف أدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته، وفي معناه حديث: "المؤمن كيس حذر" أخرجه صاحب "مسند الفردوس" من حديث أنس بسند ضعيف قال: وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأول ما قاله لأبي عزة الجمحي وكان شاعرا فأسر ببدر فشكى عائلة وفقرا فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فداء، فظفر به بأحد فقال من علي وذكر فقره وعياله فقال: لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين، وأمر به فقتل. وأخرج قصته ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد. وقال ابن هشام في "تهذيب السيرة" بلغني عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينئذ "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " وصنيع أبي عبيد في كتاب الأمثال مشكل على قول ابن بطال أن النبي - أول من قال ذلك ولذلك قال ابن التين: إنه مثل قديم. وقال التوربشتي: هذا السبب يضعف الوجه الثاني يعني الرواية بكسر الغين

(10/530)


على النهي. وأجاب الطيبي بأنه يوجه بأن يكون صلى الله عليه وسلم لما رأى من نفسه الزكية الميل إلى الحلم جرد منها مؤمنا حازما فنهاه عن ذلك، يعني ليس من شيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله أن ينخدع من الغادر المتمرد فلا يستعمل الحلم في حقه، بل ينتقم منه. ومن هذا قول عائشة "ما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها" قال فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودا مطلقا، كما أن الجود ليس محمودا مطلقا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} قال وعلى الوجه الأول وهو الرواية بالرفع فيكون إخبارا محضا لا يفهم هذا الغرض المستفاد من هذه الرواية، فتكون الرواية بصيغة النهي أرجح والله أعلم. قلت: ويؤيده حديث: " احترسوا من الناس بسوء الظن" أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أنس، وهو من رواية بقية بالعنعنة عن معاوية بن يحيى وهو ضعيف، فله علتان. وصح من قول مطرف التابعي الكبير أخرجه مسدد.

(10/531)


84 - بَاب حَقِّ الضَّيْفِ
6134- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ قُلْتُ بَلَى قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ قُمْ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّكَ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ وَإِنَّ مِنْ حَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ قَالَ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ فَقُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَالَ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ صَوْمَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ قُلْتُ وَمَا صَوْمُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ قَالَ نِصْفُ الدَّهْرِ" .
قوله: "حسين" هو المعلم، وقد تقدم الحديث مشروحا في كتاب الصيام، والغرض منه "وإن لزورك عليك حقا" والزور بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء الزائر، وقد بسط القول فيه في الباب الذي يليه.

(10/531)


85 - باب إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ. وَقَوْلِهِ تعالى: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ هُوَ زَوْرٌ وَهَؤُلاَءِ زَوْرٌ وَضَيْفٌ وَمَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلُ قَوْمٍ رِضاً وَعَدْلٍ يُقَالُ مَاءٌ غَوْرٌ وَبِئْرٌ غَوْرٌ وَمَاءَانِ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ وَيُقَالُ الْغَوْرُ الْغَائِرُ لاَ تَنَالُهُ الدِّلاَءُ كُلَّ شَيْءٍ غُرْتَ فِيهِ فَهُوَ مَغَارَةٌ تَزَّاوَرُ تَمِيلُ مِنْ الزَّوَرِ وَالأَزْوَرُ الأَمْيَلُ
6135- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ" .
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ مِثْلَهُ وَزَادَ "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ".

(10/531)


86 - باب صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ
6139- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً فَقَالَ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ قَالَ فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ سَلْمَانُ". أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ يُقَالُ وَهْبُ الْخَيْرِ
قوله: "باب صنع الطعام والتكلف للضيف" ذكر فيه حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم إيضاح ذلك مع بقية شرحه في كتاب الصيام. قوله: "أبو جحيفة وهب السوائي" يعني بضم المهملة والمد "وهب الخير" أي كان يقال له وهب الخير، وهذا لم يقع في رواية أبي ذر. ووقع في التكلف للضيف حديث سلمان "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف" أخرجه أحمد والحاكم، وفيه قصة سلمان مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدم له فرهن مطهرته بسبب ذلك، ثم قال الرجل لما فرغ "الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا. فقال له سلمان: لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة".

(10/534)


87 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الضَّيْفِ
6140- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطاً فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ دُونَكَ أَضْيَافَكَ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ اطْعَمُوا فَقَالُوا أَيْنَ

(10/534)


88 - باب قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ: والله لاَ آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ.
فِيهِ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6141- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ لَهُ أُمِّي احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ أَوْ عَنْ أَضْيَافِكَ اللَّيْلَةَ قَالَ مَا عَشَّيْتِهِمْ فَقَالَتْ عَرَضْنَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا أَوْ فَأَبَى فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ وَحَلَفَ لاَ يَطْعَمُهُ فَاخْتَبَأْتُ أَنَا فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لاَ تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ فَحَلَفَ الضَّيْفُ أَوْ الأَضْيَافُ أَنْ لاَ يَطْعَمَهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَأَنَّ هَذِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا فَجَعَلُوا لاَ يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا فَقَالَتْ وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الآنَ لاَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَأْكُلَ فَأَكَلُوا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا".
قوله: "باب قول الضيف لصاحبه والله لا آكل حتى تأكل" ذكر فيه حديث أبي جحيفة، يشير إلى قصة أبي الدرداء وسلمان وقد تقدم شرحها في كتاب الصيام، ولم تقع هذه الترجمة ولا هذا التعليق في رواية أبي ذر، وإنما ساق قصة أضياف أبي بكر تلو الطريق التي قبلها، وهي من هذا الوجه مختصرة، وسليمان في سندها هو التيمي.

(10/535)


باب إكرام الكبير ويبدأ بالكلام والسؤال
...
89 - باب إِكْرَامِ الْكَبِيرِ وَيَبْدَأُ الأَكْبَرُ بِالْكَلاَمِ وَالسُّؤَالِ
6142، 6143- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ

(10/535)


90 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْحُدَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ

(10/536)


إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ
6145- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً" .
6146- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَباً يَقُولُ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
6147- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ".
6148- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ قَالَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِراً فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَاغْفِرْ فِدَاءٌ لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا ... وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ قَالَ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى لَحْمٍ قَالَ عَلَى أَيِّ لَحْمٍ قَالُوا عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ" فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيّاً لِيَضْرِبَهُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ

(10/537)


رُكْبَةَ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاحِباً فَقَالَ لِي: " مَا لَكَ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ مَنْ قَالَهُ قُلْتُ قَالَهُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الأَنْصَارِيُّ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إِنَّ لَهُ لاَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِيٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ"
6149- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقاً بِالْقَوَارِيرِ" قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ".
[الحديث 6149 – أطرافه في: 6161، 6202، 6209، 6210، 6211]
قوله: "باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء". أما الشعر فهو في الأصل اسم لما دق ومنه "ليت شعري" ثم استعمل في الكلام المقفى الموزون قصدا، ويقال أصله بفتحتين يقال شعرت أصبت الشعر وشعرت بكذا علمت علما دقيقا كإصابة الشعر. وقال الراغب: قال بعض الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر، فقيل لما وقع في القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي، وقيل: أرادوا أنه كاذب لأنه أكثر ما يأتي به الشاعر كذب، ومن ثم سموا الأدلة الكاذبة شعرا، وقيل في الشعر: أحسنه أكذبه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ويؤيد الأول ما ذكر في حد الشعر أن شرطه القصد إليه، وأما ما وقع موزونا اتفاقا فلا يسمى شعرا، وأما الرجز فهو بفتح الراء والجيم بعدها زاي، وهو نوع من الشعر عند الأكثر، وقيل: ليس بشعر لأنه يقال راجز لا شاعر وسمي رجزا لتقارب أجزائه واضطراب اللسان به، ويقال رجز البعير إذا تقارب خطوه واضطرب لضعف فيه، وأما الحداء فهو بضم الحاء وتخفيف الدال المهملتين يمد ويقصر: سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، والحداء في الغالب إنما يكون بالرجز وقد يكون بغيره من الشعر ولذلك عطفه على الشعر والرجز، وقد جرت عادة الإبل أنها تسرع السير إذا حدي بها. وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن طاوس مرسلا، وأورده البزار موصولا عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض: إن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان كان في إبل لمضر فقصر، فضربه مضر على يده فأوجعه فقال: يا يداه يا يداه، وكان حسن الصوت فأسرعت الإبل لما سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء. ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلافه فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد. قوله: "وقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ الغاوون. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ساق في رواية كريمة والأصيلي إلى آخر السورة، ووقع في رواية أبي ذر بين الآيتين المذكورتين لفظة "وقوله: "وهي زيادة لا يحتاج إليها، قال المفسرون في هذه الآية: المراد بالشعراء شعراء المشركين، يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن ويروون شعرهم لأن الغاوي لا يتبع إلا عاويا مثله، وسمى الثعلبي منهم عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب

(10/538)


ومسافع وعمرو بن أبي أمية بن أبي الصلت، وقيل: نزلت في شاعرين تهاجيا فكان مع كل واحد منهما جماعة وهم الغواة السفهاء. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى قوله: {مَا لا يَفْعَلُونَ} قال فنسخ من ذلك واستثنى فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر السورة. وأخرج ابن أبي شيبة - من طريق مرسلة - قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء. فقال اقرءوا ما بعدها {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أنتم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أنتم. وقال السهيلي: نزلت الآية في الثلاثة، وإنما وردت بالإبهام ليدخل معهم من اقتدى بهم، وذكر الثعلبي مع الثلاثة كعب بن زهير بغير إسناد، والله أعلم. قوله: "قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون" وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فِي كُلِّ وَادٍ} قال: في كل لغو. وفي قوله: {يَهِيمُونَ} قال: يخوضون. وقال غيره يهيمون أي يقولون في الممدوح والمذموم ما ليس فيه، فهم كالهائم على وجهه والهائم المخالف للقصد. قوله: "وما يكره منه" هو قسيم قوله: "ما يجوز"، والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد، وخلا عن هجو، وعن الإغراق في المدح والكذب المحض. والتغزل بمعين لا يحل. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك، واستدل بأحاديث الباب وغيرها وقال: ما أنشد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو استنشده ولم ينكره. قلت: وقد جمع ابن سيد الناس شيخ شيوخنا مجلدا في أسماء من نقل عنه من الصحابة شيء من شعر متعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد ذكر في الباب خمسة أحاديث دالة على الجواز، وبعضها مفصل لما يكره مما لا يكره، وترجم في "الأدب المفرد" ما يكره من الشعر وأورد فيه حديث عائشة مرفوعا: "إن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها" وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: " أعظم الناس فرية رجل هاجي رجلا فهجا القبيلة بأسرها" وصححه ابن حبان. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عائشة أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا، وسنده حسن. وأخرج أبو يعلي أوله من حديثها من وجه آخر مرفوعا، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" أيضا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام" وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي. واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر، وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي وقد شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي. وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: لا بأس به ما لم يكن فحشا. قوله: "عن الزهري أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن" يعني ابن الحارث بن هشام المخزومي، وفي هذا الإسناد أربعة من التابعين قرشيون مدنيون في نسق، فالزهري من صغار التابعين وأبو بكر ومن فوقه من كبارهم؛ ولمروان وعبد الرحمن مزية إدراك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهما من حيث الرواية معدودان في التابعين، وقد تقدم قريبا أن لعبد الرحمن رؤية وأنه عد لذلك في الصحابة، وكذا ذكر بعضهم مروان في الصحابة لإدراكه، وقد تقدم ذلك في الشروط. وقد اختلف على

(10/539)


الزهري في سنده: فالأكثر على ما قال شعيب. وقال معمر في المشهور عنه: "عن الزهري عن عروة" بدل أبي بكر موصولا، وأخرجه ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة "عن الزهري عن عروة" مرسلا، ووافق رباح بن أبي زيد عن معمر الجماعة، وكذا قال هشام بن يوسف عن معمر، لكن قال عبد الله بن الأسود وكذا قال إبراهيم بن سعيد: عن الزهري، وحذف يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد مروان من السند والصواب إثباته. قوله: "إن من الشعر حكمة" أي قولا صادقا مطابقا للحق. وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه. وأخرج أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا" . فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أما قوله: "إن من البيان سحرا" فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: "وإن من العلم جهلا" فيكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهل ذلك. وأما قوله: "إن من الشعر حكما" فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس. وأما قوله: "إن من القول عيا" فعرضك كلامك على من لا يريده. وقال ابن التين: مفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك، لأن "من" تبعيضية. ووقع في حديث ابن عباس عند البخاري في "الأدب المفرد" وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجة بلفظ: "إن من الشعر حكما" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود، وأخرجه أيضا من حديث بريدة مثله. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة الحكيمة. وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذكر الله تعالى وتعظيم له ووحدانيته وإيثار طاعته والاستسلام له فهو حسن مرغب فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم. قال الطبري: في هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا واحتج بقول ابن مسعود "الشعر مزامير الشيطان" وعن مسروق أنه تمثل بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له فقال: أخاف أن أجد في صحيفتي شعرا، وعن أبي أمامة رفعه: " أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي قرآنا، قال قرآنك الشعر" ثم أجاب عن ذلك بأنها أخبار واهية. وهو كذلك، فحديث أبي أمامة فيه علي بن يزيد الهاني وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه كما سيأتي تقريره بعد باب، ويدل على الجواز سائر أحاديث الباب. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عمر بن الشريد عن أبيه قال: "استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته حتى أنشدته مائة قافية". وعن مطرف قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فقل منزل نزله إلا وهو ينشدني شعرا. وأسند الطبري عن جماعة من كبار الصحابة ومن كبار التابعين أنهم قالوا الشعر وأنشدوه واستنشدوه. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن خالد بن كيسان قال: كنت عند ابن عمر فوقف عليه إياس بن خيثمة فقال: ألا أنشدك من شعري؟ قال: بلى ولكن لا تنشدني إلا حسنا. وأخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه" ومن طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: "كنت أجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي في المسجد فيتناشدون الأشعار ويذكرون حديث الجاهلية" وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة قال: "كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول

(10/540)


الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهاهم. وربما يتبسم". قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "سمعت جندبا" في رواية أبي عوانة عن الأسود الماضية في أوائل الجهاد: "جندب بن سفيان البجلي". قوله: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي" في رواية أبي عوانة "كان في بعض المشاهد" وفي رواية شعبة عن الأسود "خرج إلى الصلاة" وأخرج الطيالسي وأحمد في رواية ابن عيينة عن الأسود عن جندب "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار". قوله: "فعثر" بالعين المهملة والثاء المثلثة. قوله: "فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" هذان قسمان من رجز والتاء في آخرهما مكسورة على وفق الشعر، وجزم الكرماني بأنهما في الحديث بالسكون وفيه نظر، وزعم غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد إسكانهما ليخرج القسمين عن الشعر، وهو مردود فإنه يصير من ضرب آخر من الشعر وهو من ضروب البحر الملقب الكامل. وفي الثاني زحاف جائز. قال عياض: وقد غفل بعض الناس فروى دميت ولقيت بغير مد فخالف الرواية ليسلم من الإشكال فلم يصب، وقد اختلف هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم متمثلا أو قاله من قبل نفسه غير قاصد لإنشائه فخرج موزونا، وبالأول جزم الطبري وغيره، ويؤيده أن ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" أوردهما لعبد الله بن رواحة فذكر أن جعفر بن أبي طالب لما قتل في غزوة مؤتة بعد أن قتل زيد بن حارثة أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل فأصيب إصبعه، فارتجز وجعل يقول هذين القسمين وزاد:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذي حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وهكذا جزم ابن التين بأنهما من شعر ابن رواحة. وذكر الواقدي أن الوليد بن المغيرة كان رافق أبا بصير في صلح الحديبية على ساحل البحر، ثم أن الوليد رجع إلى المدينة فعثر بالحرة فانقطعت إصبعه فقال هذين القسمين. وأخرجه الطبراني من وجه آخر موصول بسند ضعيف. وقال ابن هشام في زيادات السيرة "حدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لي بعباس بن أبي ربيعة، فقال الوليد بن الوليد أنا" فذكر قصة فيها "فعثر فدميت إصبعه فقالهما" وهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون ابن رواحة ضمنهما شعره وزاد عليهما، فإن قصة الحديبية قبل قصة مؤتة، وقد تقدم نحو هذا الاحتمال في أوائل غزوة خيبر في الرجز المنسوب لعامر بن الأكوع "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" وأنه نسب في رواية أخرى لابن رواحة. وقد اختلف في جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر وإنشاده حاكيا عن غيره فالصحيح جوازه. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه والنسائي من رواية المقدام بن شريح عن أبيه "قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر ابن رواحة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود" وأخرج ابن أبي شيبة نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أيضا من مرسل أبي جعفر الخطمي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول: أفلح من يعالج المساجدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ابن رواحة: يتلو القرآن قائما وقاعدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأما ما أخرجه الخطيب في التاريخ عن عائشة:
تفاءل بما تهوى تكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحققا
قال: وإنما لم يعربه لئلا يكون شعرا، فهو شيء لا يصح. ومما يدل على وهائه التعليل المذكور، والحديث

(10/541)


الثالث في الباب يؤيد ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يحكي الشعر عن ناظمه. وقد تقدم في غزوة حنين قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وأنه دل على جواز وقوع الكلام منه منظوما من غير قصد إلى ذلك ولا يسمى ذلك شعرا. وقد وقع الكثير من ذلك في القرآن العظيم، لكن غالبها أشطار أبيات والقليل منها وقع وزن بيت تام، فمن التام قوله تعالى: {الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}- {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} - {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} - {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} - {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} - {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ - وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} - {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} - {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} - {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} - {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} – وكذلك السجود - {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} - {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} - {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ} - {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} - {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} - {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} - {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} - {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} والواو في كل منهما وإن كانت زائدة على الوزن لكنه يجوز في النظم ويسمى الخزم بالزاي بعد الخاء المعجمة. وأما الأشطار فكثيرة جدا فمنها {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} - {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} - {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} - {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ - فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} - {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} - {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} - {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} - {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} - {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} - {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} - {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} - {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} - {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} - {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} - {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} - {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} - {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} - {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} - لآبَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ - {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ - {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ - {َانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ - {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} - {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} - {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} - {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} - {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} - {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ - {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} - {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} - {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} - {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} - {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ} - {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} - {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ} - {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} - وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} - {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} - {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} - {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} - {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} - {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} - {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} - {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ومن التام أيضا {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} . وإذا انتهى إلى {النَّاسِ} تم أيضا، وأيضا {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} وقيل في الجواب عن الحديث: إن وقوع البيت الواحد من الفصيح لا يسمى شعرا، ولا يسمى قائله شاعرا. حديث أبي هريرة "أصدق كلمة قالها الشاعر" تقدم شرحه في أيام الجاهلية، وقوله: "عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وقع في رواية زائدة بن قدامة "عن عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة" به وزاد بعد قوله كلمة لبيد: ثم تمثل أوله وترك آخره. وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن زائدة مثل رواية سفيان ومن تابعه وهو المحفوظ. الحديث

(10/542)


الرابع: حديث سلمة بن الأكوع في قصة عامر بن الأكوع، تقدم شرحه مستوفى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وقوله فيه: "وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم" يؤخذ منه جميع الترجمة لاشتماله على الشعر والرجز والحداء ويؤخذ منه الرجز من جملة الشعر، وقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" قال ابن التين: هذا ليس بشعر ولا رجز لأنه ليس بموزون، وليس كما قال بل هو رجز موزون، وإنما زيد في أوله سبب خفيف ويسمى الخزم بالمعجمتين وقوله: "فاغفر فداء لك ما اقتفينا" أما فداء فهو بكسر الفاء والمدمنون، ومنهم من يقوله بالقصر، وشرط اتصاله بحرف الجر كالذي هنا، قاله ابن التين. وقال المازري لا يقال لله فداء لك لأنها كلمة تستعمل عند توقع مكروه لشخص فيختار شخص آخر أن يحل به دون ذلك الآخر ويفديه، فهو إما مجاز عن الرضا كأنه قال: نفسي مبذولة لرضاك أو هذه الكلمة وقعت خطابا لسامع الكلام، وقد تقدم له توجيه آخر في غزوة خيبر. وقال ابن بطال: معناه اغفر لنا ما ارتكبناه من الذنوب، وفداء لك دعاء أي افدنا من عقابك على ما اقترفنا من ذنوبنا، كأنه قال: أغفر لنا وافدنا منك فداء لك، أي من عندك فلا تعاقبنا به. وحاصله أنه جعل اللام للتبيين مثل هيت لك، واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب، وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط، وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقا بالألحان التي تشتمل عليها الموسيقى، وفيه نظر. وقال الماوردي: اختلف فيه، فأباحه قوم مطلقا، ومنعه قوم مطلقا، وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين، ونقل عن أبي حنيفة المنع، وكذا أكثر الحنابلة. ونقل ابن طاهر في "كتاب السماع" الجواز عن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النصب المشار إليه أولا. قال ابن عبد البر: الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلبا للطرب وخروجا من مذاهب العرب. وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم. وقال الماوردي: هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين: أن يكثر منه جدا وأن يصحبه ما يمنعه منه. واحتج من أباحه بأن فيه ترويحا للنفس، فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع أو على المعصية فهو عاص، وإلا فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة. وأطنب الغزالي في الاستدلال، ومحصله أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل في الحضرة النبوية، وربما التمس ذلك، وليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة وألحان موزونة، وكذلك الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة. وقد تقدم له بوجه آخر في غزوة خيبر(1) والحليمي ما تعين طريقا إلى الدواء أو شهد به طبيب عدل عارف. قوله: "إسماعيل" هو ابن علية. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه" يأتي في "باب المعاريض" في رواية حماد بن زيد عن أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر. وفي رواية شعبة عن ثابت عن أنس "كان في منزله فحدي الحادي" وسيأتي ذلك في "باب المعاريض" وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق شعبة بلفظ: "وكان معهم سائق وحاد" ولأبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال" وأخرجه أبو عوانة من رواية عفان عن حماد. وفي رواية قتادة عن أنس "كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت" وسيأتي في "باب المعاريض" وفي رواية وهيب "وأنجشة غلام النبي صلى الله عليه وسلم يسوق بهن" وفي رواية حميد عن أنس "فاشتد بهن في السياق" أخرجها أحمد عن ابن عدي عنه. وفي رواية حماد
ـــــــ
(1) بياض بأصله.

(10/543)


ابن سلمة عن ثابت "فإذا أعنقت الإبل" وهي بعين مهملة ونون وقاف أي أسرعت وزنه ومعناه، والعنق بفتحتين قد تقدم بيانه في كتاب الحج. قوله: "ومعهن أم سليم" في رواية حميد عن أنس عند الحارث "وكان يحدو بأمهات المؤمنين ونسائهم" وفي رواية وهيب عن أيوب كما سيأتي بعد عشرين بابا "كانت أم سليم في الثقل" وفي رواية سليمان التيمي عن أنس عند مسلم: "كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق يزيد بن زريع عنه، وأخرجه النسائي من طريق زهير والرامهرمزي في "الأمثال" من طريق حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان فقال: "عن أنس عن أم سليم" جعله من مسند أم سليم، والأول هو المحفوظ، وحكى عياض أن في رواية السمرقندي في مسلم: "أم سلمة" بدل أم سليم قال وقوله في الرواية الأخرى "مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم" يقوي أنها ليست من نسائه. قلت: وتضافر الروايات على أنها أم سليم يقضي بأن قوله أم سلمة تصحيف. قوله: "فقال: ويحك يا أنجشة" في رواية حماد "كان في سفر له وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة" وسيأتي في "باب المعاريض" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "كان في بعض أسفاره وغلام أسود" وفي رواية للنسائي عن قتيبة عن حماد "وغلام له يقال له أنجشة" وهو بفتح الهمز وسكون النون وفتح الجيم بعدها شين معجمة ثم هاء تأنيث، ووقع في رواية وهيب "يا أنجش" على الترخيم، قال البلاذري: كان أنجشة حبشيا يكني أبا مارية. وأخرج الطبراني من حديث واثلة أنه كان ممن نفاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المخنثين. قوله: "رويدك" كذا للأكثر وفي رواية سليمان التيمي "رويدا" وفي رواية شعبة "أرفق" ووقع في رواية حميد "رويدك أرفق" جمع بينهما رويناه في "جزء الأنصاري" عن حميد. وأخرجه الحارث عن عبد الله بن بكر عن حميد فقال: "كذلك سوقك" وهي بمعنى كفاك. قال عياض: قوله رويدا منصوب على أنه صفة لمحذوف دل عليه اللفظ أي سق سوقا رويدا، أو احد حدوا رويدا. أو على المصدر أي أورد رويدا مثل أرفق رفقا. أو على الحال أي سر رويدا، أو رويدك منصوب على الإغراء، أو مفعول بفعل مضمر أي الزم رفقك، أو على المصدر أي أرود رويدك. وقال الراغب: رويدا من أرود يرود كأمهل يمهل وزنه ومعناه، وهو من الرود بفتح الراء وسكون ثانيه وهو التردد في طلب الشيء برفق راد وارتاد، والرائد طالب الكلأ، ورادت المرأة ترود إذا مشت على هينتها. وقال الرامهرمزي: رويدا تصغير رود وهو مصدر فعل الرائد، وهو المبعوث في طلب الشيء، ولم يستعمل في معنى المهملة إلا مصغرا، قال وذكر صاحب "العين" أنه إذا أريد به معنى الترويد في الوعيد لم ينون. وقال السهيلي: قوله رويدا أي أرفق، جاء بلفظ التصغير لأن المراد التقليل أي أرفق قليلا، وقد يكون من تصغير المرخم وهو أن يصغر الاسم بعد حرف الزوائد كما قالوا في أسود سويد فكذا في أرود رويد. قوله: "سوقك" كذا للأكثر وفي رواية حميد "سيرك" وهو بالنصب على نزع الخافض أي أرفق في سوقك، أو سقهن كسوقك. وقال القرطبي في "المفهم": رويدا أي أرفق، وسوقك مفعول به. ووقع في رواية مسلم: "سوقا" وكذا للإسماعيلي في رواية شعبة، وهو منصوب على الإغراء بقوله أرفق سوقا، أو على المصدر أي سق سوقا. وقرأت بخط ابن الصائغ المتأخر: رويدك إما مصدر والكاف في محل خفض، وإما اسم فعل والكاف حرف خطاب، وسوقك بالنصب على الوجهين والمراد به حدوك إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقال ابن مالك: رويدك اسم فعل بمعني أرود أي أمهل، والكاف المتصلة به حرف خطاب، وفتحة داله بنائية. ولك أن تجعل رويدك مصدرا مضافا إلى الكاف ناصبها سوقك وفتحة دالة على هذا إعرابية. وقال أبو البقاء: الوجه

(10/544)


النصب برويدا والتقدير أمهل سوقك، والكاف حرف خطاب وليست اسما، ورويدا يتعدى إلى مفعول واحد. قوله: "بالقوارير" في رواية هشام عن قتادة "رويدك سوقك ولا تكسر القوارير" وزاد حماد في روايته عن أيوب قال أبو قلابة: يعني النساء، ففي رواية همام عن قتادة "ولا تكسر القوارير" قال قتادة: يعني ضعفة النساء والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها. وقال الرامهرمزي: كني عن النساء بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية، وقيل: المعنى سقهن كسوقك القوارير لو كانت محمولة على الإبل. وقال غيره: شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها الكسر ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير
قال أبو قلابة: فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه: "سوقك بالقوارير " قال الداودي: هذا قاله أبو قلابة لأهل العراق لما كان عندهم من التكلف ومعارضة الحق بالباطل. وقال الكرماني: لعله نظر إلى أن شرط الاستعارة أن يكون وجه الشبه جليا، وليس بين القارورة والمرأة وجه للتشبيه من حيث ذاتهما ظاهر، لكن الحق أنه كلام في غاية الحسن والسلامة عن العيب؛ ولا يلزم في الاستعارة أن يكون جلاء وجه الشبه من حيث ذاتهما، بل يكفي الجلاء الحاصل من القرائن الحاصلة، وهو هنا كذلك. قال: ويحتمل أن يكون قصد أبي قلابة أن هذه الاستعارة من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغة، ولو صدرت من غيره ممن لا بلاغة له لعبتموها. قال وهذا هو اللائق بمنصب أبي قلابة. قلت: وليس ما قاله الداودي بعيدا ولكن المراد من كان يتنطع في العبارة ويتجنب الألفاظ التي تشتمل على شيء من الهزل. وقريب من ذلك قول شداد بن أوس الصحابي لغلامه: ائتنا بسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه، أخرجه أحمد والطبراني. قال الخطابي: كان أنجشة أسود وكان في سوقه عنف، فأمره أن يرفق بالمطايا. وقيل: كان حسن الصوت بالحداء فكره أن تسمع النساء الحداء فإن حسن الصوت يحرك من النفوس، فشبه ضعف عزائمهن وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها. وجزم ابن بطال بالأول فقال: القوارير كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تساق حينئذ، فأمر الحادي بالرفق في الحداء لأنه يحنث الإبل حتى تسرع فإذا أسرعت لم يؤمن على النساء السقوط، وإذا مشت رويدا أمن على النساء السقوط، قال: وهذا من الاستعارة البديعة، لأن القوارير أسرع شيء تكسيرا، فأفادت الكناية من الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة لو قال أرفق بالنساء. وقال الطيبي: هي استعارة لأن المشبه به غير مذكور، والقرينة حالية لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها. وجزم أبو عبيد الهروي بالثاني وقال: شبه النساء بالقوارير لضعف عزائمهن، والقوارير يسرع إليها الكسر، فخشي من سماعهن النشيد الذي يحدو به أن يقع بقلوبهن منه، فأمره بالكف، فشبه عزائمهن بسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في إسراع الكسر إليها. ورجح عياض هذا الثاني فقال هذا أشبه بمساق الكلام، وهو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة، وإلا فلو عبر عن السقوط بالكسر لم يعبه أحد. وجوز القرطبي في "المفهم" الأمرين فقال: شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حث السير بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ

(10/545)


عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد. قلت: والراجح عند البخاري الثاني، ولذلك أدخل هذا الحديث في "باب المعاريض"، ولو أريد المعنى الأول لم يكن في القوارير تعريض.

(10/546)


91 - باب هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ
6150- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَكَيْفَ بِنَسَبِي" فَقَالَ حَسَّانُ لاَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ لاَ تَسُبُّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
6151- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ أَبِي سِنَانٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَخاً لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ يَعْنِي بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ قَالَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ
تَابَعَهُ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَالأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
6152- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ".
6153- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ اهْجُهُمْ أَوْ قَالَ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ".
قوله: "باب هجاء المشركين" الهجاء والهجو بمعني، ويقال هجوته ولا تقل هجيته. وأشار بهذه الترجمة إلى أن بعض الشعر قد يكون مستحبا، وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أنس رفعه: "جاهدوا المشركين بألسنتكم" وتقدم في مناقب قريش الإشارة إلى حديث كعب بن مالك وغيره في ذلك، وللطبراني من حديث عمار بن ياسر "لما هجانا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قولوا لهم كما يقولون لكم" فإن

(10/546)


كنا لنعلمه إماء أهل المدينة. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن سلام نسبه أبو علي بن السكن وصرح به البخاري في "الأدب المفرد" وعبدة هو ابن سليمان، وتقدم شرح حديث عائشة هذا في مناقب قريش. وقوله استأذن حسان، ووقع في طريق مرسلة بيان ذلك وسببه: فروى ابن وهب في جامعه وعبد الرزاق في مصنفه من طريق محمد بن سيرين قال: "هجا رهط من المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المهاجرون: يا رسول الله ألا تأمر عليا فيهجو هؤلاء القوم؟ فقال: إن القوم الذين نصروا بأيديهم أحق أن ينصروا بألسنتهم. فقالت الأنصار: أرادنا والله. فأرسلوا إلى حسان، فأقبل فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أحب أن لي بمقولي ما بين صنعاء وبصرى، فقال: أنت لها، فقال لا علم لي بقريش، فقال لأبي بكر أخبره عنهم ونقب له في مثالبهم. وقد تقدم بعض هذا موصولا من حديث عائشة وهو عند مسلم، وقوله: "لأسلنك" أي لأخلص نسبك من هجومهم بحيث لا يبقى شيء من نسبك فيناله الهجو، كالشعرة إذا انسلت لا يبقى عليها شيء من العجين. وفي الحديث جواز سب المشرك جوابا عن سبه للمسلمين، ولا يعارض ذلك مطلق النهي عن سب المشركين لئلا يسبوا المسلمين لأنه محمول على البداءة به، لا على من أجاب منتصرا. وقوله في الحديث الثاني "ينافح" بفاء ومهملة أي يخاصم بالمدافعة، والمنافح المدافع، تقول نافحت عن فلان أي دافعت عنه. حديث أبي هريرة في شعر عبد الله بن رواحة، وقد تقدم شرحه في قيام الليل في أواخر كتاب الصلاة، وكذا بيان متابعة عقيل ومن وصلها ورواية الزبيدي ومن وصلها. قال ابن بطال: فيه أن الشعر إذا اشتمل على ذكر الله والأعمال الصالحة كان حسنا ولم يدخل فيما ورد فيه الذم من الشعر. قال الكرماني: في البيت الأول إشارة إلى علمه، وفي الثالث إلى عمله، وفي الثاني إلى تكميله غيره صلى الله عليه وسلم فهو كامل مكمل. "تنبيه": وقع للجميع في البيت الثالث "إذا استثقلت بالكافرين المضاجع" إلا الكشميهني فقال: "بالمشركين" واستثقلت بالمثلثة والقاف من الثقل. وزعم عياض أنه وقع في رواية أبي ذر "استقلت" بمثناة فقط وتشديد اللام قال: وهو فاسد الرواية والنظم والمعنى. قلت: وروايتنا من طريق أبي ذر متقنة وهي كالجادة. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه أبو بكر واسمه عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، ومحمد بن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأبو عتيق كنية جده محمد. وقد تقدمت رواية شعيب مفردة في "باب الشعر في المسجد" في أوائل الصلاة وقرنها هنا برواية ابن أبي عتيق ولفظهما واحد، إلا أنه قال هناك "أنشدك الله هل سمعت" وقال هنا "نشدتك الله" وفي رواية الكشميهني: "نشدتك بالله يا أبا هريرة" والباقي سواء. وقد تقدم بيان الاختلاف على الزهري في شيخه في هذا الحديث هناك، وتوجيه الجمع، والإشارة إلى شرح الحديث، وقوله: "هل سمعت" وقال في آخره: "نعم" يستفاد منه مشروعية تحمل الحديث بهذه الصيغة، وعد المزي هذا الحديث في "الأطراف" من مسند حسان وهو صريح في كونه من مسند أبي هريرة، ويحتمل أن يكون من مسند حسان. قوله: "عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان" هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة فقال فيه: "عن البراء عن حسان" جعله من مسند حسان أخرجه النسائي، وقد أوردت هذا في الملائكة من بدء الخلق معزوا إلى الترمذي، وهو سهو كأن سببه التباس الرقم، فإنه للترمذي ت وللنسائي ن وهما يلتبسان، وقد تقدم بيان الوقت الذي وقع ذلك فيه لحسان في المغازي في غزوة بني قريظة.

(10/547)


92 - باب مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبَ عَلَى الإِنْسَانِ الشِّعْرُ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ
6154- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحاً خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً" .
6155- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال سمعت أبا صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا" .
قوله: "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن" هو في هذا الحمل متابع لأبي عبيد كما سأذكره، ووجهه أن الذم كان للامتلاء وهو الذي لا بقية لغيره معه دل على أن ما دون ذلك لا يدخله الذم. حديث: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" من حديث ابن عمر ومن حديث أبي هريرة. زاد أبو ذر في روايته عن الكشميهني في حديث أبي هريرة " حتى يريه " وهذه الزيادة ثابتة في "الأدب المفرد" عن الشيخ الذي أخرجه عنه هنا، وكذلك رواية النسفي، ونسبها بعضهم للأصيلي، ولسائر رواة الصحيح "قيحا يريه" بإسقاط حتى، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو عوانة وابن حبان من طرق عن الأعمش في أكثرها "حتى يريه" ووقع عند الطبراني من وجه آخر عن سالم عن ابن عمر بلفظ: "حتى يريه" أيضا. قال ابن الجوزي: وقع في حديث سعد عند مسلم: "حتى يريه" وفي حديث أبي هريرة عند البخاري بإسقاط "حتى" فعلى ثبوتها يقرأ: "يريه" بالنصب وعلى حذفها بالرفع، قال: ورأيت جماعة من المبتدئين يقرءونها بالنصب مع إسقاط حتى جريا على المألوف، وهو غلط إذ ليس هنا ما ينصب. وذكر أن ابن الخشاب نبه على ذلك. ووجه بعضهم النصب على بدل الفعل من الفعل وإجراء إعراب يمتلئ على يريه، ووقع في حديث عوف بن مالك عند الطحاوي والطبراني "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته قيحا يتخضخض خير له من أن يمتلئ شعرا" وسنده حسن. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم لهذا الحديث سبب ولفظه: "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض لنا شاعر ينشد فقال: أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ" فذكره. ويريه بفتح الياء آخر الحروف بعدها راء ثم ياء أخرى، قال الأصمعي: هو من الوري بوزن الرمي يقال منه رجل موري غير مهموز وهو أن يوري جوفه وأنشد: قالت له وريا إذا تنحنحا تدعو عليه بذلك. وقال أبو عبيد: الوري هو أن يأكل القيح جوفه. وحكى ابن التين فيه الفتح بوزن الفرى وهو قول الفراء. وقال ثعلب: هو بالسكون المصدر، وبالفتح الاسم. وقيل: معنى قوله: "حتى يريه" أي يصيب رئته، وتعقب بأن الرئة مهموزة فإذا بنيت منه فعلا قلت رأه يرأه فهو مرئي انتهى، ولا يلزم من كون أصلها مهموزا أن لا تستعمل مسهلة، ويقرب ذلك أن الرئة إذا امتلأت قيحا يحصل الهلاك، وأما قوله: "جوف أحدكم " فقال ابن أبي جمرة يحتمل ظاهره أن يكون المراد جوفه كله وما فيه من القلب وغيره، ويحتمل أن يريد به القلب خاصة وهو الأظهر لأن أهل الطب يزعمون أن القيح إذا وصل إلى القلب شيء منه وإن كان يسيرا فإن صاحبه يموت لا محالة، بخلاف غير القلب مما في

(10/548)


الجوف من الكبد والرئة. قلت: ويقوي الاحتمال الأول رواية عوف بن مالك "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته" وتظهر مناسبته للثاني لأن مقابله - وهو الشعر - محله القلب لأنه ينشأ عن الفكر، وأشار ابن أبي جمرة إلى عدم الفرق في امتلاء الجوف من الشعر بين من ينشئه أو يتعانى حفظه من شعر غيره وهو ظاهر، وقوله: "قيحا" بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها مهملة المدة لا يخالطها دم، وقوله: "شعرا" ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحا حقا كمدح الله ورسوله وما اشتمل على الذكر والزهد وسائر المواعظ مما لا إفراط فيه، ويؤيده حديث عمرو بن الشريد عن أبيه عند مسلم كما أشرت إليه قريبا، قال ابن بطال: ذكر بعضهم أن معنى قوله: "خير له من أن يمتلئ شعرا" يعني الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيد: والذي عندي في هذا الحديث غير هذا القول، لأن الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم لو كان شطر بيت لكان كفرا، فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص في القليل منه، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه، فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئا من الشعر. قلت: وأخرج أبو عبيد التأويل المذكور من رواية مجالد عن الشعبي مرسلا فذكر الحديث وقال في آخره: يعني من الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وقع لنا ذلك موصولا من وجهين آخرين، فعند أبي يعلى من حديث جابر في الحديث المذكور "قيحا أو دما خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به" وفي سنده راو لا يعرف، وأخرجه الطحاوي وابن عدي من رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة مثل حديث الباب قال: "فقالت عائشة لم يحفظ إنما قال: من أن يمتلئ شعرا هجيت به "، وابن الكلبي واهي الحديث، وأبو صالح شيخه ما هو الذي يقال له السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح عن أبي هريرة، بل هذا آخر ضعيف يقال له باذان، فلم تثبت هذه الزيادة. ويؤيد تأويل أبي عبيد ما أخرجه البغوي في "معجم الصحابة" والحسن بن سفيان في مسنده والطبراني في "الأوسط" من حديث مالك بن عمير السلمي أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح وغيرها وكان شاعرا فقال: "يا رسول الله أفتني في الشعر" فذكر الحديث وزاد: "قلت يا رسول الله امسح على رأسي، قال فوضع يده على رأسي فما قلت بيت شعر بعد" وفي رواية الحسن بن سفيان بعد قوله: "على رأسي ثم أمرها على كبدي وبطني" وزاد البغوي في روايته: "فإن رابك منه شيء فاشبب بامرأتك وامدح راحلتك" فلو كان المراد الامتلاء من الشعر لما أذن له في شيء منه. بل دلت الزيادة الأخيرة على الإذن في المباح منه. وذكر السهيلي في غزوة ودان عن جامع ابن وهب أنه روي فيه أن عائشة رضي الله عنها تأولت هذا الحديث على ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكرت على من حمله على العموم في جميع الشعر، قال السهيلي: فإن قلنا بذلك فليس في الحديث إلا عيب امتلاء الجوف منه، فلا يدخل في النهي رواية اليسير على سبيل الحكاية، ولا الاستشهاد به في اللغة. ثم ذكر استشكال أبي عبيد وقال: عائشة أعلم منه، فإن الذي يروي ذلك على سبيل الحكاية لا يكفر، ولا فرق بينه وبين الكلام الذي ذموا به النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الجواب عن صنيع ابن إسحاق في إيراده بعض أشعار الكفرة في هجو المسلمين، والله أعلم. واستدل بتأويل أبي عبيد على أن مفهوم الصفة ثابت باللغة، لأنه فهم منه أن غير الكثير من الشعر ليس كالكثير فخص الذم بالكثير الذي دل عليه الامتلاء دون القليل منه فلا يدخل في الذم. وأما من قال إن أبا عبيد بنى هذا التأويل على اجتهاده فلا يكون ناقلا للغة، فجوابه أنه إنما فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه على ما تلقفه من لسان

(10/549)


العرب لا على ما يعرض في خاطره لما عرف من تحرزه في تفسير الحديث النبوي. وقال النووي: استدل به على كراهة الشعر مطلقا وإن قل وإن سلم من الفحش. وتعلق بقوله في حديث أبي سعيد "خذوا الشيطان" (1). وأجيب باحتمال أن يكون كافرا، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره الذي ينشده إذ ذاك من المذموم. وبالجملة فهي واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال ولا عموم لها فلا حجة فيها، وألحق ابن أبي جمرة بامتلاء الجوف بالشعر المذموم حتى يشغله عما عداه من الواجبات والمستحبات الامتلاء من السجع مثلا ومن كل علم مذموم كالسحر وغير ذلك من العلوم التي تقسي القلب وتشغله عن الله تعالى وتحدث الشكوك في الاعتقاد وتفضي به إلى التباغض والتنافس.
" تنبيه ": مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه والاشتغال به، فزجرهم عنه ليقبلوا على القرآن وعلى ذكر الله تعالى وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أمر به لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك، والله أعلم.
ـــــــ
(1) هو في صحيح مسلم (كتاب الشعر) رقم 2259 عن أبي سعيد "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان – أو – أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" .

(10/550)


93 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَرِبَتْ يَمِينُكِ" وَ"عَقْرَى، حَلْقَى"
6156- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ قَالَ: " ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ" قَالَ عُرْوَةُ فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ".
6157- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْفِرَ فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً لأَنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ: "عَقْرَى حَلْقَى" لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا ثُمَّ قَالَ: "أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ يَعْنِي الطَّوَافَ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَانْفِرِي إِذاً" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم تربت يمينك، وعقرى، حلقي" ذكر فيه حديثين لعائشة مقدما فيهما ما ترجم به. حديثها في قصة أبي القعيس في الرضاعة، وقد تقدم شرحه في كتاب النكاح في "باب الأكفاء في الدين" في شرح حديث أبي هريرة "تنكح المرأة لأربع" الحديث. قال ابن السكيت: أصل تربت افتقرت، ولكنها كلمة

(10/550)


تقال ولا يراد بها الدعاء وإنما أراد التحريض على الفعل المذكور، وأنه إن خالف أساء. وقال النحاس: معناه إن لم تفعل لم يحصل في يديك إلا التراب. وقال ابن كيسان: هو مثل جرى على أنه إن فاتك ما أمرتك به افتقرت إليه فكأنه قال افتقرت إن فاتك فاختصر. وقال الداودي: معناه افتقرت من العلم. وقيل هي كلمة تستعمل في المدح عند المبالغة كما قالوا للشاعر قاتله الله لقد أجاد، وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه في حديث أبي هريرة. حديثها في قصة صفية لما حاضت في الحج، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج في "باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت" وضبطه أبو عبيد في "غريب الحديث" بالقصر وبالتنوين، وذكر في "الأمثال" أنه في كلام العرب بالمد وفي كلام المحدثين بالقصر. وقال أبو علي القالي: هو بالمد وبالقصر معا، قالوا: والمعنى عقرها الله وحلقها. وفيه من القول نحو ما تقدم في تربت.

(10/551)


94 - باب مَا جَاءَ فِي زَعَمُوا
6158- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره فسلمت عليه فقال من هذه فقلت أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا بأم هانئ فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد فلما انصرف قلت يا رسول الله زعم بن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ قالت أم هانئ وذاك ضحى" .
قوله: "باب ما جاء في زعموا" كأنه يشير إلى حديث أبي قلابة قال: "قيل لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا؟ قال: "بئس مطيه الرجل" أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا. وكأن البخاري أشار إلى ضعف هذا الحديث بإخراجه حديث أم هانئ وفيه قولها "زعم ابن أمي" فإن أم هانئ أطلقت ذلك في حق علي ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في زعم أنها تقال في الأمر الذي لا يوقف على حقيقته. وقال ابن بطال: معنى حديث أبي مسعود أن من أكثر من الحديث بما لا يتحقق صحته لم يؤمن عليه الكذب. وقال غيره: كثر استعمال الزعم بمعنى القول، وقد وقع في حديث ضمام بن ثعلبة الماضي في كتاب العلم "زعم رسولك" وقد أكثر سيبويه في كتابه من قوله في أشياء يرتضيها "زعم الخليل".

(10/551)


باب وا جاء في قول الرجل: "ويلك"
...
95 - باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ وَيْلَكَ
6159- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: "ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ" .
6160- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ

(10/551)


96 - باب عَلاَمَةِ الحبِّ في اللَّهِ. لِقَوْلِهِ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}
6168- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" .
[الحديث 6168 – طرفه في: 6169]
6169- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " .
تَابَعَهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6170- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" .
تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ
6171- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" .

(10/557)


قوله: "باب علامة الحب في الله لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} ذكر فيه حديث: "المرء مع من أحب" قال الكرماني: يحتمل أن يكون المراد بالترجمة محبة الله للعبد، أو محبة العبد لله، أو المحبة بين العباد في ذات الله بحيث لا يشوبها شيء من الرياء، والآية مساعدة للأولين، واتباع الرسول علامة للأولى لأنها مسببة للاتباع، وللثانية لأنها سببه انتهى. ولم يتعرض لمطابقة الحديث للترجمة. وقد توقف فيه غير واحد. والمشكل منه جعل ذلك علامة الحب في الله، وكأنه محمول على الاحتمال الثاني الذي أبداه الكرماني، وأن المراد علامة حب العبد لله، فدلت الآية أنها لا تحصل إلا باتباع الرسول، ودل الخبر على أن اتباع الرسول وإن كان الأصل أنه لا يحصل إلا بامتثال جميع ما أمر به أنه قد يحصل من طريق التفضل باعتقاد ذلك وإن لم يحصل استيفاء العمل بمقتضاه، بل محبة من يعمل ذلك كافية في حصول أصل النجاة، والكون مع العاملين بذلك لأن محبتهم إنما هي لأجل طاعتهم. والمحبة من أعمال القلوب فأثاب الله محبهم على معتقده، إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المعية الاستواء في الدرجات. وقد اختلف في سبب نزول الآية: فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل فأنزل الله هذه الآية. وذكر الكلبي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت حين قال اليهود {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وفي تفسير محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت في نصارى نجران، قالوا: إنما نعبد المسيح حبا لله وتعظيما له. وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في قريش، قالوا: إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إليه زلفى فنزلت. قوله: "شعبة عن سليمان" هو الأعمش. وفي رواية أبي داود الطيالسي "عن شعبة عن الأعمش". قوله: "عن أبي وائل" في رواية الطيالسي "عن شعبة عن الأعمش سمع أبا وائل" وكذا في رواية عمرو بن مرزوق "عن شعبة عن الأعمش سمعت أبا وائل". قوله: "عن عبد الله" هكذا رواه أصحاب شعبة، فقالوا "عن عبد الله" ولم ينسبوه منهم ابن أبي عدي عند مسلم، وأبو داود الطيالسي، عند أبي عوانة، وعمرو بن مرزوق عند أبي نعيم وأبو عامر العقدي، ووهب بن جرير عند الإسماعيلي، وحكى الإسماعيلي عن بندار أنه عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري، واستدل برواية سفيان الثوري عن الأعمش الآتية عقب هذا، وسيأتي ما يؤيده، ولكن صنيع البخاري يقتضي أنه كان عند أبي وائل عن ابن مسعود وعن أبي موسى جميعا وأن الطريقين صحيحان لأنه بين الاختلاف في ذلك ولم يرجح، ولذا ذكر أبو عوانة في صحيحه عن عثمان بن أبي شيبة أن الطريقين صحيحان. قلت: ويؤيد ذلك أن له عند ابن مسعود أصلا، فقد أخرج أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق عطية عن أبي سعيد قال: "أتيت أنا وأخي عبد الله بن مسعود فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث. وأخرجه أيضا من طريق مسروق عن عبد الله به. قوله: "جرير عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال عبد الله بن مسعود - ثم قال في آخره - تابعه جرير بن حازم" فيه إشارة إلى أن جريرا الأول هو ابن عبد الحميد. وأما متابعة جرير بن حازم فوصلها أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق أبي الأزهر أحمد بن الأزهر عن وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، فذكره ولم ينسب عبد الله. قوله: "وسليمان بن قرم" هو بفتح القاف وسكون الراء ومتابعته هذه وصلها مسلم من طريق أبي الجواب عمار بن رزيق بتقديم الراء عنه عن عبد الله وعطفها على رواية شعبة فقال مثله، وساق أبو عوانة في صحيحه لفظها ولم ينسب عبد الله أيضا، وساقها الخطيب في كتاب "المكمل" مطولة. قوله: "وأبو عوانة

(10/558)


عن الأعمش" يعني أن الثلاثة رووه عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، وأبو عوانة هذا هو الوضاح، وأما أبو عوانة صاحب الصحيح فاسمه يعقوب ومتابعة أبي عوانة وصلها أبو عوانة يعقوب والخطيب في كتاب "المكمل" من طريق يحيى بن حماد عنه وقال فيه أيضا: "عن عبد الله" ولم ينسبه. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن أبي موسى" هكذا صرح به أبو نعيم، وأخرجه أبو عوانة من رواية قبيصة عن سفيان الثوري فقال: "عن عبد الله" ولم ينسبه، وهذا يؤيد قول بندار أن عبد الله حيث لم ينسب فالمراد به في هذا الحديث أبو موسى، وأن من نسبه ظن أنه ابن مسعود لكثرة مجيء ذلك على هذه الصورة في رواية أبي وائل، ولكنه هنا خرج عن القاعدة، وتبين برواية من صرح أنه أبو موسى الأشعري أن المراد بعبد الله ابن قيس وهو أبو موسى الأشعري، ولم أر من صرح في روايته عن ابن الأعمش أنه عبد الله بن مسعود إلا ما وقع في رواية جرير بن عبد الحميد هذه عند البخاري عن قتيبة عنه، وقد أخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة كلاهما عن جرير فقال: "عن عبد الله" حسب، وكذا قال أبو يعلي عن أبي خيثمة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر بن العباس وأبو عوانة من رواية إسحاق بن إسماعيل كلهم عن جرير به، وكل من ذكر البخاري أنه تابعه إنما جاء من روايته أيضا عن عبد الله غير منسوب، كذا أخرجه أبو عوانة من رواية شيبان عن الأعمش فقال عبد الله ولم ينسبه. قوله: "المرء مع من أحب" قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه "كتاب المحبين مع المحبوبين" وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين. وفي رواية أكثرهم بهذا اللفظ، وفي بعضها بلفظ أنس الآتي عقب هذا. قوله: "تابعه أبو معاوية ومحمد بن عبيد" يعني عن الأعمش، وهذه المتابعة وصلها مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عنهما وقال في روايته: "عن أبي موسى" وهكذا أخرجه أبو عوانة من طريق محمد ابن كناسة عن الأعمش، ووجدت للأعمش فيه إسنادا آخر أخرجه الحسن بن رشيق في "شيوخ مكة" له عن جعفر بن محمد السوسي عن سهل بن عثمان عن حفص بن غياث عن الأعمش عن الشعبي عن عروة بن مضرس به وقال: غريب تفرد به سهل، قلت: ورجاله ثقات، إلا أني لا أعرف جعفر بن محمد، ولعله دخل عليه متن حديث في إسناد حديث. قوله: "جاء رجل" في حديث أبي موسى "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية أبي معاوية ومحمد بن عبيد "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل" وأولى ما فسر به هذا المبهم أنه أبو موسى راوي الحديث، فعند أبي عوانة من رواية محمد بن كناسة عن الأعمش في هذا الحديث عن شقيق "عن أبي موسى قلت يا رسول الله" فذكر الحديث، ولكن يعكر عليه ما وقع في رواية وهب بن جرير التي تقدم ذكرها من عند أبي نعيم فإن لفظه: "عن عبد الله قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله إني أحب قوما ولا ألحق بهم" الحديث وأبو موسى إن جاز أن يبهم نفسه فيقول أتى رجل فغير جائز أن يصف نفسه بأنه أعرابي، وقد وقع في حديث صفوان بن عسال الذي أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: "قلت لصفوان بن عسال: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوى شيئا؟ قال: نعم، كنا مع رسول الله في مسير، فناداه أعرابي بصوت له جهوري فقال: أيا محمد، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم على قدر ذلك فقال: هاؤم. قال: أرأيت المرء يحب القوم" الحديث وأخرج أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق مسروق عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: "أتى أعرابي فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إني لأحبك" فذكر الحديث فهذا الأعرابي يحتمل أن يكون هو صفوان بن قدامة، فقد أخرج الطبراني وصححه أبو عوانة من حديثه قال: "قلت يا رسول الله إني أحبك، قال: "المرء مع من أحب" وقد وقع هذا السؤال لغير من ذكر، فعند أبي عوانة أيضا وأحمد وأبي داود وابن حبان من

(10/559)


طريق عبد الله بن الصامت "عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله الرجل يحب القوم" الحديث ورجاله ثقات، فإن كان مضبوطا أمكن أن يفسر به المبهم في حديث أبي موسى، لكن المحفوظ بهذا الإسناد عن أبي ذر "الرجل يعمل العمل من الخير ويحمد الناس عليه" كذا أخرجه مسلم وغيره، فلعل بعض رواته دخل عليه حديث في حديث. قوله: "كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم" في رواية سفيان الآتية "ولما يلحق بهم" وهي أبلغ فإن النفي بلما أبلغ من النفي بلم، فيؤخذ منه أن الحكم ثابت ولو بعد اللحاق. ووقع في حديث أنس عند مسلم: "ولم يلحق بعملهم" وفي حديث أبي ذر المشار إليه قبل "ولا يستطيع أن يعمل بعملهم" وفي بعض طرق حديث صفوان بن عسال عند أبي نعيم "ولم يعمل بمثل عملهم" وهو يفسر المراد. قوله: "المرء مع من أحب " قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه "كتاب المحبين مع المحبوبين". وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين. وفي رواية أكثرهم بهذا الحديث، وفي بعضها بلفظ أنس الآتي عقب هذا. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان بن أبي جبلة بن أبي رواد، ويقال إن أباه تفرد برواية هذا الحديث عن شعبة، وضاق مخرجه على الإسماعيلي وأبي نعيم فأخرجه من طريق البخاري عنه وأخرجه مسلم عن واحد عن عبدان، ووقع لي في رواية أخرى عن شعبة أخرجه أبو نعيم في المحبين من طريق السميدع بن واهب عنه وقد رواه منصور عن سالم بن أبي الجعد كما سيأتي في كتاب الأحكام، وأخرجه أبو عوانة من رواية الأعمش عن سالم واستغربه. قوله: "أن رجلا" تقدم القول في تسميته في الباب الذي قبله. قوله: "متى الساعة" هكذا في أكثر الروايات عن أنس، ووقع في رواية جرير عن منصور في أوله "بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله متى الساعة"؟ وفي رواية أبي المليح الرقي عن الزهري عن أنس "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعرض له أعرابي" أخرجه أبو نعيم، وله من طريق شريك عن أبي نمر عن أنس "دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب" ومن رواية أبي ضمرة عن حميد عن أنس "جاء رجل فقال: متى الساعة؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ثم صلى، ثم قال: أين السائل عن الساعة"؟ ويجمع بينهما بأن سأله والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلم يجبه حينئذ، فلما انصرف من الصلاة وخرج من المسجد رآه فتذكر سؤاله، أو عاوده الأعرابي في السؤال فأجابه حينئذ. قوله: "ما أعددت لها" ؟ قال الكرماني: سلك مع السائل أسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يطلب مما يهمه أو هو أهم. قوله: "أنت مع من أحببت" زاد سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس " إنك مع من أحببت، ولك ما احتسبت" أخرجه أبو نعيم، وله مثله من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أنس. وأخرج أيضا من طريق أشعث عن الحسن عن أنس "المرء مع من أحب، وله ما اكتسب" ومن طريق مسروق عن عبد الله "أنت مع من أحببت، وعليك ما اكتسبت، وعلى الله ما احتسبت".

(10/560)


باب الرجل يقول للرجل: "إخسأ"
...
97 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ اخْسَأْ
6172- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لابْنِ صَائِدٍ قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً فَمَا هُوَ قَالَ الدُّخُّ قَالَ اخْسَأْ" .
6173- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ

(10/560)


ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَضَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ مَاذَا تَرَى قَالَ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً قَالَ هُوَ الدُّخُّ قَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَكُنْ هُوَ لاَ تُسَلَّطُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ" .
6174- قَالَ سَالِمٌ: "فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئاً قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ أَيْ صَافِ وَهُوَ اسْمُهُ هَذَا مُحَمَّدٌ فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ" .
6175- قَالَ سَالِمٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ" .
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: خَسَأْتُ الْكَلْبَ بَعَّدْتُهُ. خَاسِئِينَ مُبْعَدِينَ.
قوله: "باب قول الرجل للرجل اخسأ" سيأتي بيانه في آخر الباب، قال ابن بطال: اخسأ زجر للكلب وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة، واستعملتها العرب في كل من قال أو فعل ما لا ينبغي له مما يسخط الله. ذكر فيه حديث ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لابن صياد: قد خبأت لك خبيئا، قال: فما هو؟ قال: الدخ. حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد: "قد خبأت لك خبيئا، قال: فما هو؟ قال: الدخ. قال: اخسأ" وأخرجه من رواية عبد الله بن عمر قال: "انطلق عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد" فذكر الحديث مطولا وفيه: "اخسأ فلن تعدو قدرك" وقد سبق مطولا في أواخر كتاب الجنائز. وقوله في هذه الرواية: "فرضه النبي صلى الله عليه وسلم" قال الخطابي: وقع هنا بالضاد المعجمة وهو غلط والصواب بالصاد أي المهملة أي قبض عليه بثوبه يضم بعضه إلى بعض. وقال ابن بطال: من رواه بالمعجمة فمعناه دفعه حتى وقع فتكسر، يقال رض الشيء فهو رضيض ومرضوض إذا انكسر. قوله: "قال أبو عبد الله: خسأت الكلب بعدته، خاسئين مبعدين" ثبت هذا في رواية المستملي وحده، وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي قاصين مبعدين، يقال:

(10/561)


خسأته عني، وخسأ هو، يعني يتعدى ولا يتعدى. وقال في قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً} أي مبعدا وقال الراغب: خسأ البصر انقبض عن مهانة، وخسأت الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر. ومال ابن التين في قوله في حديث الباب: "اخسأ": معناه اسكت صاغرا مطرودا. وثبتت الهمزة في آخر اخسأ في رواية وحذفت في أخرى بلفظ: "اخس" وهو تخفيف.

(10/562)


98 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ: "مَرْحَباً".
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: "مَرْحَباً بِابْنَتِي" . وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِئٍ" .
6176- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَرْحَباً بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى" فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مُضَرُ وَإِنَّا لاَ نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَنَدْعُو بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَقَالَ: أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا رَمَضَانَ وَأَعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَلاَ تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ" .
قوله: "باب قول الرجل مرحبا" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا" قال الأصمعي: معنى قوله: "مرحبا" لقيت رحبا وسعة. وقال الفراء: نصب على المصدر، وفيه معنى الدعاء بالرحب والسعة، وقيل هو مفعول به أي لقيت سعة لا ضيقا. قوله: "وقالت عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: " مرحبا بابنتي" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في علامات النبوة من رواية مسروق عن عائشة قالت: "أقبلت فاطمة تمشي" الحديث، وفيه القدر المعلق، وقد تقدم شرحه هناك. قوله: "وقالت أم هانئ جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مرحبا بأم هانئ" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في مواضع: منها في أوائل الصلاة من رواية أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ وفيه اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. حديث ابن عباس في وفد عبد قيس وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بالوفد" وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان وفي كتاب الأشربة مستوفي، وأخرجه هنا من طريق أبي التياح بالمثناة الفوقانية المفتوحة وتشديد التحتانية وآخره مهملة واسمه يزيد بن حميد عن أبي جمرة بالجيم والراء، ووقع في سياق متنه ألفاظ ليست في رواية غيره، منها قوله: "مرحبا بالوفد الذين جاؤوا" ومنها قوله: " أربع وأربع، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأعطوا خمس ما غنمتم ولا تشربوا" الحديث. والمعنى آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع كما في رواية غيره. ومنها جعله إعطاء الخمس من جملة الأربع، وفي سائر الروايات هي زائدة على الأربع. وقد أخرج ابن أبي عاصم في هذا الباب حديث بريدة "أن عليا لما خطب فاطمة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا وأهلا" وهو عند النسائي وصححه الحاكم. وأخرج فيه أيضا من حديث علي "استأذن عمار بن ياسر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبا بالطيب المطيب" وهو عند الترمذي وابن ماجة والمصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان والحاكم. وأخرج ابن أبي عاصم وابن السني فيه أحاديث أخرى غير هذه.

(10/562)


99 - باب مَا يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ
6177- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" .
6178- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان" .
قوله: "باب ما يدعى الناس بآبائهم" كذا للأكثر، وذكره ابن بطال بلفظ: "هل يدعي الناس" زاد في أوله هل، وقد ورد في ذلك حديث لأم الدرداء سأنبه عليه في "باب تحويل الاسم" واستغنى المصنف عنه لما لم يكن على شرطه بحديث الباب. حديث ابن عمر في الغادر يرفع له لواء لقوله فيه: "غدرة فلان ابن فلان" فتضمن الحديث أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم. وقع في رواية الكشميهني في الرواية الأولى "ينصب" بدل "يرفع" قال الكرماني: الرفع والنصب هنا بمعنى واحد، يعني لأن الغرض إظهار ذلك. وقال ابن بطال: في هذا الحديث رد لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترا على آبائهم. قلت: هو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف جدا. وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله وقال: منكر. أورده في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الطبري. قال ابن بطال: والدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز. وفي الحديث جواز الحكم بظواهر الأمور. قلت: وهذا يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر وهو المعتمد، وينظر كلامه من شرحه. وقال ابن أبي جمرة: والغدر على عمومه في الجليل والحقير. وفيه أن لصاحب كل ذنب من الذنوب التي يريد الله إظهارها علامة يعرف بها صاحبها، ويؤيده قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قال: وظاهر الحديث أن لكل غدرة لواء، فعلى هذا يكون للشخص الواحد عدة ألوية بعدد غدراته. قال: والحكمة في نصب اللواء أن العقوبة تقع غالبا بضد الذنب، فلما كان الغدر من الأمور الخفية ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب.

(10/563)


100 - باب لاَ يَقُلْ خَبُثَتْ نَفْسِي
6179- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي" .
6180- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي" . تَابَعَهُ عُقَيْلٌ
قوله: "باب لا يقل خبثت نفسي" بفتح الخاء المعجمة وضم الموحدة بعدها مثلثة ثم مثناة، ويقال: بفتح الموحدة، والضم أصوب. قال الراغب: الخبث يطلق على الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في

(10/563)


الفعال. قلت: وعلى الحرام والصفات المذمومة القولية والفعلية. حديث عائشة بلفظ: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي" . قال الخطابي تبعا لأبي عبيد: لقست وخبثت بمعنى واحد. وإنما كره صلى الله عليه وسلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن. وقال غيره: معنى لقست غثت بغين معجمة ثم مثلثة، وهو يرجع أيضا إلى معنى خبيث، وقيل معناه ساء خلقها، وقيل: مالت به إلى الدعة. وقال ابن بطال: هو على معنى الأدب وليس على سبيل الإيجاب. وقد تقدم في الصلاة في الذي يعقد الشيطان على قافية رأسه فيصبح خبيث النفس.
ونطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} . قلت: لكن لم يرد ذلك إلا في معرض الذم، فلا ينافي ذلك ما دل عليه حديث الباب من كراهة وصف الإنسان نفسه بذلك. وقد سبق لهذا عياض فقال: الفرق أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة شخص مذموم الحال فلم يمتنع إطلاق ذلك اللفظ عليه. وقال ابن أبي جمرة: النهي عن ذلك للندب، والأمر بقوله: "لقست" للندب أيضا، فإن عبر بما يؤدي معناه كفى، ولكن ترك الأولى. قال: ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء، والعدول إلى ما لا قبح فيه، والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد، بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة. قال وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة. قال: ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول لست بطيب بل يقول ضعيف، ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين.
" تنبيه ": أخرج أبو نعيم في "المستخرج" حديث سهل من طريق شبيب بن سعيد عن يونس بن يزيد عن الزهري ثم قال: أخرجه البخاري عن عبدان عن ابن المبارك عن موسى. وقال: هو موسى بن عقبة، والصحيح يونس. قلت: لم أقف عليه في الأصول المعتمدة من رواية أبي ذر إلا عن يونس وكذا في رواية النسفي. قوله: "تابعه عقيل" يعني عن الزهري بسنده المذكور والمتن، وهذه المتابعة وصلها الطبراني من طريق نافع بن يزيد عن عقيل وسقطت من رواية أبي ذر، وثبتت للنسفي والباقين.

(10/564)


101 - باب لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ
6181- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللَّهُ يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ" .
6182- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَلاَ تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" .
[الحديث 6182 – طرفه في: 6183]
قوله: "باب لا تسبوا الدهر" هذا اللفظ أخرجه مسلم من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي

(10/564)


هريرة فذكره، وبعده " فإن الله هو الدهر" . قوله: "الليث عن يونس عن ابن شهاب" قال أبو علي الجياني هكذا للجميع إلا لأبي علي بن السكن فقال فيه: "الليث عن عقيل عن ابن شهاب" وهكذا وقع في "الزهريات للذهلي" من روايته عن أبي صالح عن الليث، ولكن لفظه: "لا يسب ابن آدم الدهر" قال أبو علي الجياني الحديث محفوظ ليونس عن ابن شهاب أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عنه. قلت الحديث عند الليث عن شيخين، وقد أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو نعيم من طريقه قال: "حدثنا أبو صالح وابن بكير قالا حدثنا الليث حدثني يونس به". قوله: " قال الله يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار" هذه رواية يونس بن يزيد عن الزهري، ورواية معمر بعدها بلفظ: "ولا تقولوا يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر" وأوله "لا تسموا العنب الكرم" ويأتي شرحه في الباب الذي بعده، وقد اختلف على معمر فيه شيخ الزهري فقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عنه عن أبي سلمة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ولفظه: "قال الله يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر" الحديث أخرجه مسلم، وهكذا قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد أخرجه أحمد عنه ولفظه: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" وقد مضى في التفسير من هذا الوجه، وسيأتي في التوحيد، وهكذا أخرجه مسلم وغيره من رواية سفيان بن عيينة. قال ابن عبد البر الحديثان للزهري عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب جميعا صحيحان قلت قال النسائي كلاهما محفوظ، لكن حديث أبي سلمة أشهرهما، قلت ولعبد الرزاق فيه عن معمر إسناد آخر أخرجه مسلم أيضا من طريقه فقال: "عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة " بلفظ: "لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر؛ ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم " الحديث، وأخرجه أحمد من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، إني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما " وأخرجه مالك في " الموطأ " عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقولن أحدكم " والباقي مثل رواية الأعلى عن معمر، لكن وقع في رواية يحيى بن يحيى الليثي عن مالك في آخره: "فإن الدهر هو الله " قال ابن عبد البر خالف جميع الرواة عن مالك، وجميع رواة الحديث مطلقا، فإن الجميع قالوا " فإن الله هو الدهر " وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: " لا تسبوا الدهر فإن الله قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك" وسنده صحيح. قوله: "ولا تقولوا خيبة الدهر" كذا للأكثر، وللنسفي "يا خيبة الدهر" وفي البخاري "واخيبة الدهر " الخيبة بفتح الخاء المعجمة وإسكان التحتانية بعدها موحدة الحرمان، وهي بالنصب على الندبة، كأنه فقد الدهر لما يصدر عنه مما يكرهه فندبه متفجعا عليه أو متوجعا منه. وقال الداودي: هو دعاء على الدهر بالخيبة وهو كقولهم قحط الله نوءها يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها ثم صارت تقال لكل مذموم. ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "وادهره وادهره" ومعنى النهي عن سب الدهر أن من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبه أخطأ فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم من أنزل ذلك بكم رجع السب إلى الله. وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة الجاثية. ومحصل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد بقوله: "أن الله هو الدهر" أي المدبر للأمور. ثانيها: أنه على حذف مضاف أي صاحب الدهر. ثالثها: التقدير مقلب الدهر، ولذلك عقبه بقوله: "بيدي الليل والنهار" ووقع في رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "بيدي

(10/565)


الليل والنهار أجدده وأبليه وأذهب بالملوك" أخرجه أحمد. وقال المحققون: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق، وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم: مطرنا بكذا. وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث: "أنا الدهر أقلب ليله ونهاره" فكيف يقلب الشيء نفسه؟ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك، وأما الحوادث فمنها ما يجري بوساطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه، ويضاف إلى الله تعالى لكونه بتقديره، فأفعال العباد من أكسابهم، ولهذا ترتبت عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله. ومنها ما يجري يغير وساطة فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير لا لغة ولا عقلا ولا شرعا، وهو المعني في هذا الحديث. ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل. ثم أشار بأن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلقا إلا ما أذن الشرع فيه، لأن العلة واحدة، والله أعلم انتهى ملخصا. واستنبط منه أيضا منع الحيلة في البيوع كالعينة لأنه نهى عن سب الدهر لما يؤول إليه من حيث المعنى وجعله سبا لخالقه.

(10/566)


102 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ"
وَقَدْ قَالَ: "إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" كَقَوْلِهِ: "إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" كَقَوْلِهِ: "لاَ مُلْكَ إِلاَّ لِلَّهِ". فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضاً، فَقَالَ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}
6183- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الكرم قلب المؤمن، وقد قال: إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة كقوله: إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب، كقوله: لا ملك إلا الله فوصفه بانتهاء الملك. ثم ذكر الملوك أيضا فقال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} غرض البخاري أن الحصر ليس على ظاهره، وإنما المعنى أن الأحق باسم الكرم قلب المؤمن، ولم يرد أن غيره لا يسمى كرما، كما أن المراد بقوله: "إنما المفلس من ذكر" ولم يرد أن من يفلس في الدنيا لا يسمى مفلسا، وبقوله: "إنما الصرعة" كذلك، وكذا قوله: "لا ملك إلا الله" لم يرد أنه لا يجوز أن يسمى غيره ملكا، وإنما أراد الملك الحقيقي وإن سمي غيره ملكا، واستشهد لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ

(10/102)


103- باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. فِيهِ الزُّبَيْرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6184- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَدِّي أَحَداً غَيْرَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ".
قوله: "باب قول الرجل فداك أبي وأمي" تقدم ضبط فداك ومعناه في "باب ما يجوز من الرجز والشعر" قريبا. قوله: "فيه الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى ما وصله في مناقب الزبير بن العوام من طريق عبد الله بن الزبير قال: "جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الأحزاب في النساء" الحديث. وفيه قول الزبير "فلما رجعت جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي" . قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان وسفيان هو الثوري. قوله: "يفدي" بفتح أوله وسكون الفاء للكشميهني، ولغيره يضم أوله والفاء المفتوحة والتشديد، وقد تقدم في مناقب سعد بن أبي وقاص بيان الجمع بين حديث الزبير المذكور في الباب في إثبات التفدية له وبين حديث علي هذا في نفي ذلك عن غير سند، وكأن البخاري رمز بذلك إلى هذا الجمع، وغفل من خص حديث الزبير بتخريج مسلم مع إخراج البخاري له ورمزه إليه في هذا الباب، وقوله في آخر هذا الحديث: "أظنه يوم أحد" تقدم الجزم بذلك في رواية إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه في غزوة أحد من كتاب المغازي ولفظه: "فإني سمعته يقول: ارم سعد، فداك

(10/568)


أبي وأمي" وتقدم هناك سبب هذا القول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(10/569)


104 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا".
6185- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ مُرْدِفُهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتْ النَّاقَةُ فَصُرِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْأَةُ وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ أَحْسِبُ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ: "لاَ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ " فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَصَدَ قَصْدَهَا فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا فَقَامَتْ الْمَرْأَةُ فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَالَ أَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ" فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ".
قوله: "باب قول الرجل جعلني الله فداك" أي هل يباح أو يكره؟ وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه "آداب الحكماء" وجزم بجواز ذلك فقال: للمرء أن يقول ذلك لسلطانه ولكبيره ولذوي العلم ولمن أحب من إخوانه غير محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره واستعطافه، ولو كان ذلك محظورا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره. قوله: "وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: فديناك بآبائنا وأمهاتنا" هو طرف من حديث لأبي سعيد رفعه: "أن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده. فقال أبو بكر: فديناك بآبائنا وأمهاتنا " الحديث، وقد تقدم موصولا في مناقب أبي بكر مع شرحه. حديث أنس في إرداف صفية قد تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس، والمراد منه قول أبي طلحة "يا نبي الله جعلني الله فداك، هل أصابك شيء؟" وقد ترجم أبو داود نحو هذه الترجمة وساق حديث أبي ذر "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك، جعلني الله فداك" الحديث، وكذا أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" في الترجمة. قال الطبراني: في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك. وأما ما رواه مبارك بن فضالة عن الحسن قال: "دخل الزبير على النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاك فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟ قال: ما تركت أعرابيتك بعد" ثم ساقه من هذا الوجه ومن وجه آخر ثم قال: لا حجة في ذلك على المنع، لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة. وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح المنع، بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأولى في القول للمريض إما بالتأنيس والملاطفة وإما بالدعاء والتوجع. فإن قيل: إنما ساغ ذلك لأن الذي دعا بذلك كان أبواه مشركين، فالجواب أن قول أبي طلحة كان بعد أن أسلم، وكذا أبو ذر. وقول أبي بكر كان بعد أن أسلم أبواه. انتهى ملخصا. ويمكن أن يعترض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسوغ لغيره، لأن نفسه أعز من أنفس القائلين وآبائهم ولو كانوا أسلموا، فالجواب ما تقدم من كلام ابن أبي عاصم، فإن فيه إشارة إلى أن الأصل عدم الخصوصية. وأخرج ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة "فداك أبوك" ومن حديث

(10/569)


ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "فداكم أبي وأمي" ومن حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للأنصار.

(10/570)


105 - باب أَحَبِّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
6186- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ فَقُلْنَا لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ كَرَامَةَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ" .
قوله: "باب أحب الأسماء إلى الله عز وجل" ورد بهذا اللفظ حديث أخرجه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر "إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" وله شاهد من حديث أبي وهب الجشمي وسيأتي التنبيه عليه بعد باب، وآخر عن مجاهد عند ابن أبي شيبة مثله، قال القرطبي: يلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد، وإنما كانت أحب إلى الله لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله وما هو وصف للإنسان وواجب له وهو العبودية. ثم أضيف العبد إلى الرب إضافة حقيقية فصدقت أفراد هذه الأسماء وشرفت بهذا التركيب فحصلت لها هذه الفضيلة. وقال غيره: الحكمة في الاقتصار على الاسمين أنه لم يقع في القرآن إضافة عبد إلى اسم من أسماء الله تعالى غيرهما، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقال في آية أخرى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} ويؤيده قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} وقد أخرج الطبراني من حديث أبي زهير الثقفي رفعه: "إذا سميتم فعبدوا " ومن حديث ابن مسعود رفعه: "أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به" وفي إسناد كل منهما ضعف. قوله: "عن جابر ولد لرجل منا غلام" اسم الرجل المذكور لم أقف عليه. قوله: "فسماه القاسم" مقتضى رواية مسلم عن رفاعة بن الهيثم عن خالد بالسند المذكور هنا "فسماه محمدا" إلا أنه أورده عقب رواية عبثر وهو بوزن جعفر بعين مهملة ثم موحدة ثم ساكنة ثم مثلثة عن حصين بالسند المذكور فسماه محمدا فذكر الحديث، وفي آخره: "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم" ثم ساق رواية خالد وقال بهذا الإسناد ولم يذكر "فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم" وكأن الاختلاف فيه على خالد، فإن الإسماعيلي أخرجه من رواية وهيب بن بقية عن خالد فقال: "فسماه القاسم" وأخرجه أحمد عن هشيم عن حصين فقال: "سماه القاسم" وأخرجه أيضا من رواية معمر عن منصور كذلك، وأخرجه أبو نعيم من رواية يوسف القاضي عن مسدد عن خالد فقال: "سماه باسم النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا قاله أبو عوانة عن: حصين أخرجه أبو نعيم في "المستخرج على مسلم" وهذا يقتضي ترجيح رواية رفاعة بن الهيثم، وأخرجه أحمد عن زياد البكائي عن منصور كما قال رفاعة، وقد وقع الاختلاف فيه على شعبة أيضا في "باب قوله تعالى: { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يعني قسم ذلك من كتاب فرض الخمس فأخرجه البخاري هناك عن أبي الوليد عن شعبة عن سليمان وهو الأعمش ومنصور وقتادة قالوا سمعنا سالما أي ابن أبي الجعد عن جابر قال: "ولد لرجل منا غلام فأراد أن يسميه محمدا" قال وقال عمر ويعني ابن مرزوق عن شعبة عن قتادة بسنده "أراد أن يسميه القاسم" وأورده من رواية سفيان الثوري عن الأعمش فقال: "أراد أن يسميه القاسم" وأخرجه مسلم من رواية جرير عن منصور فقال فيه: "ولد لرجل منا غلام فسماه محمدا فقال له قومه:

(10/570)


لا ندعك تسميه باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إليه بابنه حامله على ظهره فقال: يا رسول الله ولد لي غلام فسميته محمدا" فذكر الحديث، وقد بين شعبة أن في رواية منصور عن سالم عن جابر أن الأنصاري قال: "حملته على عنقي" أورده البخاري في فرض الخمس، وقد تقدم أنه يقتضي أن يكون من مسند الأنصاري من رواية جابر عنه، وسائر الروايات عن سالم بن أبي الجعد يقتضي أنه من مسند جابر، وفيه أورده أصحاب المسانيد والأطراف، وقدمت في فرض الخمس أن رواية من قال أراد أن يسميه القاسم أرجح، وذكرت وجه رجحانه. ويؤيده أنه لم يختلف على محمد بن المنكدر عن جابر في ذلك كما أخرجه المؤلف في آخر الباب الذي يليه. قوله: "لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة" في الرواية التي في الباب بعده من هذا الوجه "ولا ننعمك عينا" هو من الإنعام أي لا ننعم عليك بذلك فتقر به عينك، ويؤخذ منه مشروعية تكنية المرء بمن يولد له ولا يختص بأول أولاده. قوله: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر بضم الهمزة على البناء للمجهول، ولبعضهم بالبناء للفاعل، ويؤيده ما في الباب الذي بعده بلفظ: "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: سم ابنك عبد الرحمن " في مطابقه الترجمة لحديث جابر عسر، وأقرب ما قيل أنهم لما أنكروا عليه التكني بكنية النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى مشروعية الكنية، وأنه لما أمره أن يسميه عبد الرحمن اختار له اسما يطيب خاطره به إذ غير الاسم فاقتضى الحال أنه لا يشير عليه إلا باسم حسن، وتوجيه كونه أحسن تقدم في أول الباب، قال بعض شراح "المشارق" لله الأسماء الحسنى، وفيها أصول وفروع أي من حيث الاشتقاق قال: وللأصول أصول أي من حيث المعني، فأصول الأصول اسمان الله والرحمن، لأن كلا منهما مشتمل على الأسماء كلها، قال كلها تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ولذلك لم يتسم بهما أحد. وما ورد من رحمن اليمامة غير وارد لأنه مضاف، وقول شاعرهم "وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا" تغالى في الكفر، وليس بوارد، لأن الكلام في أنه لم يتسم به أحد، ولا يرد إطلاق من أطلقه وصفا لأنه لا يستلزم التسمية بذلك، وقد لقب غير واحد الملك الرحيم ولم يقع مثل ذلك في الرحمن، وإذا تقرر ذلك كانت إضافة العبودية إلى كل منهما حقيقة محضة، فظهر وجه الأحبية، والله أعلم.

(10/571)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : "سموا بإسمي ولا تكنوا بكنيتي"
...
3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي" . قَالَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6187- حدثنا مسدد حدثنا خالد حدثنا حصين عن سالم عن جابر رضي الله عنه قال: "ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقالوا: لا نكنيه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي" .
6188- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن أيوب عن بن سيرين سمعت أبا هريرة قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي" .
6189- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان قال: سمعت بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "ولد لرجل منا غلام، فسماه القاسم فقالوا: لا نكنيك بأبي القاسم ولا ننعمك عينا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: سم ابنك عبد الرحمن" .

(10/571)


قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سموا باسمي ولا تكنوا" بفتح الكاف وتشديد النون وهو على حذف إحدى التائين أو بسكون الكاف وضم النون. وفي رواية الكشميهني: "ولا تكتنوا" بسكون الكاف وفتح المثناة بعدها نون. قوله: "بكنيتي" في رواية الأصيلي: "بكنوتي" بالواو بدل التحتانية وهي بمعناها كنوته وكنيته بمعنى، قال عياض رووه كلهم في عدة مواضع بالياء، وقد تقدم معنى الكنية والتعريف بها في أوائل المناقب في "باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فيه أنس" يشير إلى ما تقدم موصولا في البيوع ثم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حميد عن، أنس بهذا، وفيه قصة سيأتي التنبيه عليها ولفظه: "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي". ثم ذكر فيه حديث جابر في ذلك ثم حديث أبي هريرة ثم حديث جابر من وجه آخر فأما حديث أبي هريرة فاقتصر فيه المتن ولفظه كحديث أنس المذكور، وأما حديث جابر ففي الرواية الأولى من طريق سالم وهو ابن أبي الجعد عنه "ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقالوا لا نكنيك حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الثانية من طريق محمد بن المنكدر عنه "فقلنا لا نكنيك بأبي القاسم ولا ننعمك عينا" فيجمع بين هذا الاختلاف إما بأن بعضهم قال هذا وبعضهم قال هذا، وإما أنهم منعوا أولا مطلقا ثم استدركوا فقالوا حتى نسأل. وفي الرواية الأولى أيضا: "فقال سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" وفي الرواية الثانية "فقال سم ابنك عبد الرحمن" ويجمع بينهما بأن أحد الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر. وقوله: "لا نكنيك" بفتح أوله مع التخفيف وبضمه مع التشديد، و"ننعمك" بضم أوله. قال النووي: اختلف في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب: الأول المنع مطلقا سواء كان اسمه محمدا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعي. والثاني الجواز مطلقا، ويختص النهي بحياته صلى الله عليه وسلم. والثالث لا يجوز لمن اسمه محمد ويجوز لغيره. قال الرافعي: يشبه أن يكون هذا هو الأصح، لأن الناس لم يزالوا يفعلونه في جميع الأعصار من غير إنكار. قال النووي: هذا مخالف لظاهر الحديث، وأما إطباق الناس عليه ففيه تقوية للمذهب الثاني، وكأن مستندهم ما وقع في حديث أنس المشار إليه قبل "أنه صلى الله عليه وسلم كان في السوق، فسمع رجلا يقول: يا أبا القاسم، فالتفت إليه فقال: لم أعنك، فقال: سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" قال ففهموا من النهي الاختصاص بحياته للسبب المذكور، وقد زال بعده صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا. وهذا السبب ثابت في الصحيح، فما خرج صاحب القول المذكور عن الظاهر إلا بدليل. ومما ننبه عليه أن النووي أورد المذهب الثالث مقلوبا فقال: يجوز لمن اسمه محمد دون غيره، وهذا لا يعرف به قائل، وإنما هو سبق قلم، وقد حكى المذاهب الثلاثة في "الأذكار" على الصواب، وكذا هي في الرافعي. ومما تعقبه السبكي عليه أنه رجح منع التكنية بأبي القاسم مطلقا، ولما ذكر الرافعي في خطبة المنهاج فقال المحرر للإمام أبي القاسم الرافعي، وكان يمكنه أن يقول للإمام الرافعي فقط أو يسميه باسمه ولا يكنيه بالكنية التي يعتقد المصنف منعها. وأجيب باحتمال أن يكون أشار بذلك إلى اختيار الرافعي الجواز، أو إلى أنه مشتهر بذلك، ومن شهر بشيء لم يمتنع تعريفه به، ولو كان بغير هذا القصد فإنه لا يسوغ والله أعلم. وبالمذهب الأول قال الظاهرية، وبالغ بعضهم فقال: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه القاسم لئلا يكني أبا القاسم. وحكى الطبري مذهبا رابعا وهو المنع من التسمية بمحمد مطلقا، وكذا التكني بأبي القاسم مطلقا، ثم ساق من طريق سالم بن أبي الجعد "كتب عمر: لا تسموا أحدا باسم نبي" واحتج لصاحب هذا القول بما أخرجه من طريق الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس رفعه: "يسمونهم محمدا ثم يلعنونهم" وهو حديث أخرجه البزار وأبو يعلي أيضا وسنده لين، قال عياض: والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك

(10/572)


إعظاما لاسم النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينتهك. وقد كان سمع رجلا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب: يا محمد فعل الله بك وفعل، فدعاه وقال: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك فغير اسمه. قلت: أخرجه أحمد والطبراني من طريق عبد الرحمن بن ابن أبي ليلى "نظر عمر إلى ابن عبد الحميد وكان اسمه محمدا ورجل يقول له: فعل الله بك يا محمد، فأرسل إلى ابن زيد بن الخطاب فقال: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك، فسماه عبد الرحمن. وأرسل إلى بني طلحة وهم سبعة ليغير أسماءهم فقال له محمد وهو كبيرهم: والله لقد سماني النبي صلى الله عليه وسلم محمدا، فقال: قوموا فلا سبيل إليكم" فهذا يدل على رجوعه عن ذلك. وحكى غيره مذهبا خامسا وهو المنع مطلقا في حياته والتفصيل بعده بين من اسمه محمد وأحمد فيمتنع وإلا فيجوز وقد ورد ما يؤيد المذهب الثالث الذي ارتضاه الرافعي ووهاه النووي، وذلك فيما أخرجه أحد وأبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان من طريق أبي الزبير عن جابر رفعه: "من تسمي باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومن اكتني بكنيتي فلا يتسمى باسمي" لفظ أبي داود وأحمد من طريق هشام الدستوائي عن أبي الزبير، ولفظ الترمذي وابن حبان من طريق حسين بن الواقد عن أبي الزبير "إذا سميتم بي فلا تكنوا بي، وإذا كنيتم بي فلا تسموا بي" قال أبو داود ورواه الثوري عن ابن جريج مثل رواية هشام، ورواه معقل عن أبي الزبير مثل رواية ابن سيرين عن أبي هريرة، قال ورواه محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي الزبير. قلت: ووصله البخاري في "الأدب المفرد" وأبو يعلى ولفظه: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" والترمذي من طريق الليث عنه ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته وقال: أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم" قال أبو داود: واختلف على عبد الرحمن بن أبي عمرة وعلى أبي زرعة بن عمرو وموسى بن يسار عن أبي هريرة على الوجهين قلت: وحديث ابن أبي عمرة أخرجه أحمد وابن أبي شيبة من طريقه عن عمه رفعه: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" وأخرج الطبراني من حديث محمد بن فضالة قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتي بي إليه فمسح على رأسي وقال: سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي" ورواية أبي زرعة عند أبي يعلى بلفظ: "من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي" واحتج للمذهب الثاني بما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث علي قال: "قلت يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال نعم" وفي بعض طرقه: "فسماني محمدا وكناني أبا القاسم" وكان رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، روينا هذه الرخصة في "أمالي الجوهري" وأخرجها ابن عساكر في الترجمة النبوية من طريقه وسندها قوي، قال الطبري: في إباحة ذلك لعلي ثم تكنية علي ولده أبا القاسم إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة لا على التحريم، قال ويؤيد ذلك أنه لو كان على التحريم لأنكره الصحابة ولما مكنوه أن يكني ولده أبا القاسم أصلا، فدل على أنهم إنما فهموا من النهي التنزيه. وتعقب بأنه لم ينحصر الأمر فيما قال، فلعلهم علموا الرخصة له دون غيره كما في بعض طرقه، أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى لأن بعض الصحابة سمى ابنه محمدا وكناه أبا القاسم وهو طلحة بن عبيد الله. وقد جزم الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه. وأخرج ذلك من طريق عيسى بن طلحة عن ظئر محمد بن طلحة وكذا يقال لكنية كل من المحمدين ابن أبي بكر وابن سعد وابن جعفر بن أبي طالب وابن عبد الرحمن بن عوف وابن حاطب بن أبي بلتعة وابن الأشعث بن قيس أبو القاسم وأن آباءهم كنوهم بذلك، قال عياض: وبه قال جمهور السلف والخلف وفقهاء الأمصار، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث عائشة "أن امرأة قالت:

(10/573)


يا رسول الله إني سميت ابني محمدا وكنيته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك، قال: ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي" فقد ذكر الطبراني في "الأوسط" أن محمدا بن عمران الحجبي تفرد به عن صفية بنت شيبة عنها، ومحمد المذكور مجهول، وعلى تقدير أن يكون محفوظا فلا دلالة فيه على الجواز مطلقا، لاحتمال أن يكون قبل النهي. وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفصل المحكي أخيرا مع غرابته. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح المذهب الثالث من حيث الجواز: لكن الأولى الأخذ بالمذهب الأول فإنه أبرأ للذمة وأعظم للحرمة، والله أعلم.

(10/574)


107 - باب اسْمِ الْحَزْنِ
6190- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا اسْمُكَ قَالَ حَزْنٌ قَالَ أَنْتَ سَهْلٌ" قَالَ لاَ أُغَيِّرُ اسْماً سَمَّانِيهِ أَبِي قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمَحْمُودٌ هُوَ ابْنُ غَيْلاَنَ قَالاَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ... بِهَذَا
[الحديث 6190 – طرفه في: 6193]
قوله: "باب اسم الحزن" بفتح المهملة وسكون الزاي: ما غلظ من الأرض، وهو ضد السهل، واستعمل في الخلق يقال: في فلان حزونة أي في خلقه غلظة وقساوة. قوله: "عن ابن المسيب" هو سعيد، وسماه أحمد في روايته عن عبد الرزاق، وكذا محمود بن غيلان وأحمد بن صالح وغيرهما. قوله: "عن أبيه أن أباه جاء" كذا رواه إسحاق بن نصر عن عبد الرزاق، وتابعه أحمد عن عبد الرزاق في روايته: "عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجده" وكذا أخرجه ابن حبان من طريق محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، وأورده المصنف عن عقبة عن محمود بن غيلان وعلي بن عبد الله كلاهما عن عبد الرزاق فقالا في روايتهما: "عن أبيه عن جده" وكذا أورده أبو داود عن أحمد بن صالح والإسماعيلي من طريق إسحاق بن الضيف كلاهما عن عبد الرزاق وفيه: "عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له" وهذا الاختلاف على عبد الرزاق وبحسبه يكون الحديث إما من مسند المسيب بن حزن على الرواية الأولى، وإما من مسند حزن بن أبي وهب والده على الرواية الثانية، وقد أعرض الحميدي تبعا لأبي مسعود عن الرواية الثانية وأورد الحديث في مسند المسيب، وأما الكلاباذي فجزم بأن الحديث من مسند حزن، وهذا الذي ينبغي أن يعتمد، لأن الزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما وفيهم ابن المديني. قوله: "قال أنت سهل" في وراية الإسماعيلي من طريق محمود بن غيلان، ومن طريق إسحاق بن الضيف جميعا قال: "بل اسمك سهل" . قوله: "لا أغير اسما" في رواية أحمد بن صالح "فقال: لا، السهل يوطأ ويمتهن" ويجمع بأنه قال كلا من الكلامين فنقل بعض الرواة ما لم ينقله الآخر. قوله: "فما زالت الحزونة فينا بعد" في رواية أحمد بن صالح "فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة". قوله: "حدثنا علي بن عبد الله ومحمود هو ابن غيلان" كذا ثبت للأكثر، وسقط محمود من رواية الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني، وقد أخرجه الإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن محمود بن غيلان كما قال البخاري ولفظه كما

(10/574)


قدمته، وأخرجه أبو نعيم عن أبي أحمد وهو الغطريفي عن الهيثم فقال في السند "عن أبيه أن أباه جاءه" والمعتمد ما قال الإسماعيلي. قال ابن بطال: فيه أن الأمر بتحسين الأسماء وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب، وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يليه. وقال ابن التين: معنى قول ابن المسيب "فما زالت فينا الحزونة" يريد اتساع التسهيل(1) فيما يريدونه. وقال الداودي: يريد الصعوبة في أخلاقهم، إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في الله. وقال غيره: يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم. فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد يعدم منهم.
" تنبيه ": قال الكرماني هنا: قالوا لم يرو عن المسيب بن حزن - وهو وأبوه صحابيان - إلا ابنه سعيد بن المسيب، وهذا خلاف المشهور من شرط البخاري أنه لم يرو عن واحد ليس له إلا راو واحد. قلت: وهذا المشهور راجع إلى غرابته، وذلك أنه لم يذعه إلا الحاكم ومن تلقى كلامه، وأما المحققون فلم يلتزموا ذلك، وحجتهم أن ذلك لم ينقل عن البخاري صريحا، وقد وجد عمله على خلافه في عدة مواضع: منها "هذا فلان يعتد به" وقد قررت ذلك في "النكت على علوم الحديث" وعلى تقدير تسليم الشرط المذكور، فالجواب عن هذا الموضع أن الشرط المذكور إنما هو في غير الصحابة، وأما الصحابة فكلهم عدول فلا يقال في واحد منهم بعد أن ثبتت صحبته مجهول، وإن وقع ذلك في كلام بعضهم فهو مرجوح، ويحتاج من ادعى الشرط في بقية المواضع إلى الأجوبة.
ـــــــ
(1) لعله امتناع التسهيل.

(10/575)


108 - باب تَحْوِيلِ الاسْمِ إِلَى اسْمٍ أَحْسَنَ مِنْهُ
6190- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وُلِدَ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ فَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ فَاحْتُمِلَ مِنْ فَخِذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفَاقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَيْنَ الصَّبِيُّ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ قَلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا اسْمُهُ قَالَ فُلاَنٌ قَالَ وَلَكِنْ أَسْمِهِ الْمُنْذِرَ فَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ" .
6192- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَقِيلَ تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ" .
6193- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزْناً قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ قَالَ اسْمِي حَزْنٌ قَالَ بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ قَالَ مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْماً سَمَّانِيهِ أَبِي" قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ".
قوله: "باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه" هذه الترجمة منتزعة مما أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عروة ==

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...