Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الخميس، 12 مايو 2022

مجلد 11. و12. فتح الباري المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 11. و12. فتح الباري المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

11.

مجلد 11.  فتح الباري
المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
85 - باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ
1367 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ

(3/228)


86 - باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى[الأنعام 93]: {إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} هُوَ الْهَوَانُ. وَالْهَوْنُ. الرِّفْقُ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ [التوبة 101]: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى [غافر 45]: { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}
1369 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ

(3/231)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا وَزَادَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ
[الحديث 1369
طرفه في: 4699]
1370 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ "اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقِيلَ لَهُ تَدْعُو أَمْوَاتًا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ"
[الحديث 1370
طرفاه في: 3980, 4026
1371 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "إِنَّمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى}
[الحديث 1371
طرفاه في: 3979, 3981]
1372 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ الأَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" زَادَ غُنْدَر:ٌ" عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ"
1373 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَقُولُ " قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً"
1374 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا" قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ " وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ:

(3/232)


مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ"
قوله: "باب ما جاء في عذاب القبر" لم يتعرض المصنف في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين، وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين فلم يتقلد الحكم في ذلك واكتفى بإثبات وجوده، خلافا لمن نفاه مطلقا من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو وبشر المريسي ومن وافقهما، وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلة وجميع أهل السنة وغيرهم وأكثروا من الاحتجاج له. وذهب بعض المعتزلة كالجياني إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين، وبعض الأحاديث الآتية ترد عليهم أيضا. قوله: "وقوله تعالى" بالجر عطفا على عذاب القبر، أي ما ورد في تفسير الآيات المذكورة. وكأن المصنف قدم ذكر هذه الآيات لينبه على ثبوت ذكره في القرآن، خلافا لمن رده وزعم أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد. فأما الآية التي في الأنعام فروى الطبراني وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قال: هذا عند الموت، والبسط الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم انتهى. ويشهد له قوله تعالى في سورة القتال {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، إلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله. قوله: "وقوله جل ذكره. {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} " وروى الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط أيضا من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق " فذكر الحديث، وفيه: "ففضح الله المنافقين" فهذا العذاب الأول، والعذاب الثاني عذاب القبر. وريا أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه، ومن طريق محمد بن ثور عن معمر عن الحسن " {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} عذاب الدنيا وعذاب القبر "وعن محمد بن إسحاق قال: "بلغني" فذكر نحوه. وقال الطبري بعد أن ذكر اختلافا عن غير هؤلاء: والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك. قوله: "وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} الآية" روى الطبري من طريق الثوري عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل قال: أرواح آل فرعون في طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها. ووصله ابن أبي حاتم من طريق ليث عن أبي قيس فذكر عبد الله بن مسعود فيه، وليث ضعيف، وسيأتي بعد بابين في الكلام على حديث ابن عمر بيان أن هذا العرض يكون في الدنيا قبل يوم القيامة. قال القرطبي: الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر. وقال غيره: وقع ذكر عذاب الدارين في هذه الآية مفسرا مبينا، لكنه حجة على من أنكر عذاب القبر مطلقا لا على من خصه بالكفار. واستدل بها على أن الأرواح باقية بعد فراق الأجساد، وهو قول أهل السنة كما سيأتي. واحتج بالآية الأولى على أن النفس والروح شيء واحد لقوله تعالى: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} والمراد الأرواح، وهي مسألة مشهورة فيها أقوال كثيرة وستأتي الإشارة إلى شيء منها في التفسير عند قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. ثم أورد المصنف في الباب ستة أحاديث. حديث

(3/233)


البراء في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وقد أورد المصنف في التفسير عن أبي الوليد الطيالسي عن شعبة، وصرح فيه بالإخبار بين شعبة وعلقمة، وبالسماع بين علقمة وسعد بن عبيدة. قوله: "إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد" في رواية الحموي والمستملي: "ثم يشهد" هكذا ساقه المصنف بهذا اللفظ، وقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ أبين من لفظه قال: "أن المؤمن إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف محمدا في قبره فذلك قوله إلخ" وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه وغيره بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عذاب القبر فقال: إن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف أن محمدا رسول الله" الحديث. قوله في الطريق الثانية "بهذا وزاد { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في عذاب القبر" يوهم أن لفظ غندر كلفظ حفص وزيادة، وليس كذلك، وإنما هو بالمعنى، فقد أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه، والقدر الذي ذكره هو أول الحديث، وبقيته عندهم "يقال له من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبيي محمد" ، والقدر المذكور أيضا أخرجه مسلم والنسائي من طريق خيثمة عن البراء، وقد اختصر سعد وخيثمة هذا الحديث جدا، لكن أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن خيثمة فزاد فيه: "إن كان صالحا وفق، وإن كان لا خير فيه وجد أبله" وفيه اختصار أيضا وقد رواه زاذان أبو عمر عن البراء مطولا مبينا أخرجه أصحاب السنن وصححه أبو عوانة وغيره وفيه من الزيادة في أوله "استعيذوا بالله من عذاب القبر" وفيه: "فترد روحه في جسده "وفيه: " فيأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له. ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت القرآن كتاب الله فآمنت به وصدقت. فذلك قوله تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} " وفيه: " وأن الكافر تعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري " الحديث. وسيأتي نحو هذا في حديث أنس سادس أحاديث الباب، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. قال الكرماني: ليس في الآية ذكر عذاب القبر، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليبا لفتنة الكافر على فتنة المؤمن لأجل التخويف، ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة. ثانيها حديث ابن عمر في قصة أصحاب القليب قليب بدر وفيه قوله صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "أورده هنا مختصرا، وسيأتي مطولا في المغازي. وصالح المذكور في الإسناد هو ابن كيسان. ثالثها حديث عائشة قالت: "إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنهم ليعلمون الآن ما أن كنت أقول لهم حق" وهذا مصير من عائشة إلى رد رواية بن عمر المذكورة. وقد خالفها الجمهور في ذلك وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه غيره عليه. وأما استدلالها بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فقالوا معناها لا تسمعهم سماعا ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله. وقال السهيلي: عائشة لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له "يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين جاز أن يكونوا سامعين إما بآذان رءوسهم كما هو قول الجمهور، أو بآذان الروح على رأي من يوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد. قال: وأما الآية فإنها كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي إن الله هو الذي يسمع ويهدي انتهى. وقوله: إنها لم تحضر صحيح، لكن لا يقدح ذلك في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنها سمعت

(3/234)


ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر فإنه لم يحضر أيضا، ولا مانع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال اللفظين معا فإنه لا تعارض بينهما. وقال ابن التين. لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لا يسمعون بلا شك، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع كقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية، وقوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} الآية. وسيأتي في المغازي قول قتادة: إن الله أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه توبيخا ونقمة انتهى. وقد أخذ ابن جرير وجماعة من الكرامية من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط، وأن الله يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم. وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد، وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه. والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد ولا غيره، ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب. وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما أو لذة لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله. وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور كقوله: "أنه ليسمع خفق نعالهم " وقوله: "تختلف أضلاعه لضمة القبر " وقوله: "يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق" وقوله: "يضرب بين أذنيه" وقوله: "فيقعدانه" وكل ذلك من صفات الأجساد. وذهب أبو الهذيل ومن تبعه إلى أن الميت لا يشعر بالتعذيب ولا بغيره إلا بين النفختين، قالوا وحاله كحال النائم والمغشي عليه لا يحس بالضرب ولا بغيره إلا بعد الإفاقة، والأحاديث الثابتة في السؤال حالة تولي أصحاب الميت عنه ترد عليهم.
" تنبيه ": وجه إدخال حديث ابن عمر وما عارضه من حديث عائشة في ترجمة عذاب القبر أنه لما ثبت من سماع أهل القليب وتوبيخه لهم دل إدراكهم الكلام بحاسة السمع على جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس بل بالذات إذ الجامع بينهما وبين بقية الأحاديث أن المصنف أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسألة وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد، وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسئول يعذب، وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران. ويظهر من هذا التقرير وجه إدخال حديث ابن عمر في هذه الترجمة والله أعلم. قوله: "سمعت الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء سليم بن الأسود المحاربي. قوله: "أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر" وقع في رواية أبي وائل عن مسروق عند المصنف في الدعوات "دخلت عجوزان من عجز يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم" وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى على ذلك فنسبت القول إليهما مجازا، والإفراد يحمل على المتكلمة. ولم أقف على اسم واحدة منهما. وزاد في رواية أبي وائل "فكذبتهما" ووقع عند مسلم من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: "دخلت علي امرأة من اليهود وهي

(3/235)


تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور. قال: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يفتن يهود. قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحي إلى أنكم تفتنون في القبور. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر" وبين هاتين الروايتين مخالفة، لأن في هذه أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على اليهودية، وفي الأولى أنه أقرها. قال النووي تبعا للطحاوي وغيره: هما قصتان، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في القصة الأولى، ثم أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة فذكرت لها ذلك فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته انتهى. وقال الكرماني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ سرا فلما رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به انتهى. وكأنه لم يقف على رواية الزهري عن عروة التي ذكرناها عن صحيح مسلم، وقد تقدم في "باب التعوذ من عذاب القبر" في الكسوف من طريق عمرة عن عائشة "أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك. ثم ركب ذات غداة مركبا فخسفت الشمس" فذكر الحديث، وفي آخره: "ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر" وفي هذه موافقة لرواية الزهري وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن علم بذلك. وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة "أن يهودية كانت تخدمها، فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر. قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق" وفي هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم إنما علم بحكم عذاب القير إذ هو بالمدينة في آخر الأمر كما تقدم تاريخ صلاة الكسوف في موضعه. وقد استشكل ذلك بأن الآية المتقدمة مكية وهي قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} وكذلك الآية الأخرى المتقدمة وهي قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم من حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى في حق آل فرعون وإن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار، فالذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم أعلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم فجزم به وحذر منه وبالغ في الاستعاذة منه تعليما لأمته وإرشادا، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى. وفيه دلالة على أن عذاب القبر ليس بخاص بهذه الأمة بخلاف المسألة ففيها اختلاف سيأتي ذكره آخر الباب. قوله: "قال نعم عذاب القبر" كذا للأكثر، زاد في رواية الحموي والمستملي: "حق" وليس بجيد لأن المصنف قال عقب هذه الطريق: زاد غندر "عذاب القبر حق" فتبين أن لفظ: "حق" ليست في رواية عبدان عن أبيه عن شعبة، وأنها ثابتة في رواية غندر عن شعبة وهو كذلك. وقد أخرج طريق غندر النسائي والإسماعيلي كذلك وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة.
" تنبيه ": وقع قوله: "زاد غندر إلخ" في رواية أبي ذر وحده، ووقع ذلك في بعض النسخ عقب حديث أسماء بنت أبي بكر وهو غلط. أورده مختصرا جدا بلفظ: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة" وهو مختصر، وقد ساقه النسائي والإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري فزاد بعد قوله ضجة "حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكت

(3/236)


ضجيجهم قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه؟ قال قال: قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال" انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في كتاب العلم وفي الكسوف من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بتمامه، وفيه من الزيادة "يؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل" الحديث، فلم يبين فيه ما بين في هذه الرواية من تفهيم الرجل المذكور لأسماء فيه. وأخرجه في كتاب الجمعة من طريق فاطمة أيضا وفيه أنه "لما قال أما بعد لغط نسوة من الأنصار، وأنها ذهبت لتسكتهن فاستفهمت عائشة عما قال" فيجمع بين مختلف هذه الروايات أنها احتاجت إلى الاستفهام مرتين، وأنه لما حدثت فاطمة لم تبين لها الاستفهام الثاني. ولم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه عن ذلك إلى الآن. ولأحمد من طريق محمد بن المنكدر عن أسماء مرفوعا: "إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا احتف به عمله فيأتيه الملك فترده الصلاة والصيام، فيناديه الملك: اجلس، فيجلس فيقول: ما تقول في هذا الرجل محمد؟ قال: أشهد أنه رسول الله. قال: على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث" الحديث. وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الحديث الذي يليه. وقد تقدم الكلام على بقية فوائد حديث أسماء في كتاب العلم، ووقع في بعض النسخ هنا "زاد غندر عذاب القبر" وهو غلط لأن هذا إنما هو في آخر حديث عائشة الذي قبله، وأما حديث أسماء فلا رواية لغندر فيه. حديث أنس قد تقدم بهذا الإسناد في "باب خفق النعال" وعبد الأعلى المذكور فيه هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري، وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "إن العبد إذا وضع في قبره" كذا وقع عنده مختصرا، وأوله عند أبي داود من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بهذا السند "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع فقال: من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر ومن فتنة الدجال. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إن العبد" فذكر الحديث، فأفاد بيان سبب الحديث قوله: "وإنه ليسمع قرع نعالهم" زاد مسلم: "إذا انصرفوا" وفي رواية له "يأتيه ملكان" زاد ابن حبان والترمذي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة "أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير" وفي رواية ابن حبان: "يقال لهما منكر ونكير" زاد الطبراني في الأوسط من طريق أخرى عن أبي هريرة "أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد" ونحوه لعبد الرزاق من مرسل عمرو بن دينار وزاد: "يحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها "وأورد ابن الجوزي في "الموضوعات" حديثا فيه: "أن فيهم رومان وهو كبيرهم" وذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذين يسألان المذنب منكر ونكير، وأن اسم اللذين يسألان المطيع مبشر وبشير. قوله: "فيقعدانه" زاد في حديث البراء فتعاد روحه في جسده كما تقدم في أول أحاديث الباب، وزاد ابن حبان من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة "فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه. فيقال له: اجلس، فيجلس وقد مثلت له الشمس عند الغروب" زاد ابن ماجه من حديث جابر "فيجلس فيمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي". قوله: "فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد" زاد أبو داود في أوله "ما كنت تعبد؟ فإن هداه الله قال: كنت أعبد الله. فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل" ولأحمد من حديث عائشة "ما هذا الرجل الذي كان فيكم" وله من حديث أبي سعيد "فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.

(3/237)


فيقال له: صدقت" زاد أبو داود "فلا يسأل عن شيء غيرهما" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم في العلم والطهارة وغيرهما: "فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا. فيقال له: نم صالحا" وفي حديث أبي سعيد عند سعيد بن منصور "فيقال له: نم نومة العروس، فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى يبعث" وللترمذي في حديث أبي هريرة "ويقال له: نم، فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" ولابن حبان وابن ماجه من حديث أبي هريرة وأحمد من حديث عائشة "ويقال له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله". قوله: "فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار" في رواية أبي داود "فيقال له: هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عز وجل عصمك ورحمك فأبدلك الله به بيتا في الجنة. فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكت" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك" ولابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح "فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فتفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله "وسيأتي في أواخر الرقاق من وجه آخر عن أبي هريرة" لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا" وذكر عكسه. قوله: "قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره" زاد مسلم من طريق شيبان عن قتادة "سبعون ذراعا، ويملأ خضرا إلى يوم يبعثون" ولم أقف على هذه الزيادة موصولة من حديث قتادة. وفي حديث أبي سعيد من وجه آخر عند أحمد "ويفسح له في قبره" وللترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة "فيفسح له في قبره سبعين ذراعا" زاد ابن حبان: "في سبعين ذراعا". وله من وجه آخر عن أبي هريرة "ويرحب له في قبره سبعون ذراعا، وينور له كالقمر ليلة البدر" وفي حديث البراء الطويل "فينادي مناد من السماء: إن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا في الجنة وألبسوه من الجنة. قال فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره" زاد ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة "فيزداد غبطة وسرورا، فيعاد الجلد إلى ما بدأ منه وتجعل روحه في نسم طائر يعلق في شجر الجنة"1. قوله: "وأما المنافق والكافر" كذا في هذه الطريق بواو العطف، وتقدم في "باب خفق النعال" بها "وأما الكافر أو المنافق" بالشك. وفي رواية أبي داود "وأن الكافر إذا وضع" وكذا لابن حبان من حديث أبي هريرة، وكذا في حديث البراء الطويل، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "وإن كان كافرا أو منافقا" بالشك، وله في حديث أسماء "فإن كان فاجرا أو كافرا" وفي الصحيحين من حديثها "وأما المنافق أو المرتاب" وفي حديث جابر عند عبد الرزاق وحديث أبي هريرة عند الترمذي "وأما المنافق" وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي هريرة عند ابن ماجه: "وأما الرجل السوء" وللطبراني من حديث أبي هريرة "وإن كان من أهل الشك" فاختلفت هذه الروايات لفظا وهي مجتمعة على أن كلا من الكافر والمنافق يسأل، ففيه تعقب على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعي الإيمان إن محقا وإن مبطلا، ومستندهم في ذلك ما رواه
ـــــــ
1 خرج الإمام أحمد عن كعب بن مالك أن النبيصلى الله عليه وسلم قال "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" قال الحافظ ابن كثير في اسناد هذا الحديث: إنه إسناد صحيح عزيز عظيم. قال: ومعنى "يعلق" أي يأكل .وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا "أرواح الشهداء في جوف طير العهد في خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل" الحديث. والله أعلم

(3/238)


عبد الرزاق من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين قال: "إنما يفتن رجلان: مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه" وهذا موقوف. والأحاديث الناصة على أن الكافر يسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة فهي أولى بالقبول، وجزم الترمذي الحكيم بأن الكافر يسأل، واختلف في الطفل غير المميز فحزم القرطبي في التذكرة بأنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم غير واحد من الشافعية بأنه لا يسأل، ومن ثم قالوا: لا يستحب أن يلقن. واختلف أيضا في النبي هل يسأل، وأما الملك فلا أعرف أحدا ذكره، والذي يظهر أنه لا يسأل لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يفتن، وقد مال ابن عبد البر إلى الأول وقال. الآثار تدل على أن الفتنة لمن كان منسوبا إلى أهل القبلة، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل عن دينه. وتعقبه ابن القيم في "كتاب الروح" وقال: في الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وفي حديث أنس في البخاري "وأما المنافق والكافر" بواو العطف، وفي حديث أبي سعيد "فإن كان مؤمنا -فذكره وفيه- وإن كان كافرا" وفي حديث البراء "وإن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا - فذكره وفيه - فيأتيه منكر ونكير" الحديث أخرجه أحمد هكذا، قال: وأما قول أبي عمر: فأما الكافر الجاحد فليس ممن يسأل عن دينه، فجوابه أنه نفي بلا دليل. بل في الكتاب العزيز الدلالة على أن الكافر يسأل عن دينه، قال الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لكن للنافي أن يقول إن هذا السؤال يكون يوم القيامة. قوله: "فيقول لا أدري" في رواية أبي داود المذكورة " وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد" وفي أكثر الأحاديث "فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل" وفي حديث البراء "فيقولان له من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري" وهو أتم الأحاديث سياقا. قوله: " كنت أقول ما يقول الناس" في حديث أسماء "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته" وكذا في أكثر الأحاديث. قوله: "لا دريت ولا تليت" كذا في أكثر الروايات بمثناة مفتوحة بعدها لام مفتوحة وتحتانية ساكنة، قال ثعلب: قوله: "تليت "أصله تلوت، أي لا فهمت ولا قرأت القرآن، والمعنى لا دريت ولا اتبعت من يدري، وإنما قاله بالياء لمؤاخاة دريت. وقال ابن السكيت: قوله: "تليت" إتباع ولا معنى لها، وقيل صوابه ولا ائتليت بزيادة همزتين قيل المثناة بوزن افتعلت من قولهم ما ألوت أي ما استطعت، حكي ذلك عن الأصمعي، وبه جزم الخطابي. وقال الفراء: أي قصرت كأنه قيل له لا دريت ولا قصرت في طلب الدارية ثم أنت لا تدري. وقال الأزهري. الألو يكون بمعنى الجهد وبمعنى التقصير وبمعنى الاستطاعة. وحكى ابن قتيبة عن يونس بن حبيب أن صواب الرواية: "لا دريت ولا أتليت" بزيادة ألف وتسكين المثناة كأنه يدعو عليه بأن لا يكون له من يتبعه، وهو من الإتلاء يقال ما أتلت إبله أي لم تلد أولادا يتبعونها. وقال: قول الأصمعي أشبه بالمعنى، أي لا دريت ولا استطعت أن تدري. ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد "لا دريت ولا اهتديت "وفي مرسل عبيد بن عمير عند عبد الرزاق "لا دريت ولا أفلحت". قوله: "بمطارق من حديد ضربة" تقدم في "باب خفق النعال" بلفظ: "بمطرقة" على الإفراد، وكذا هو في معظم الأحاديث. قال الكرماني: الجمع مؤذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة اه. وفي حديث البراء "لو ضرب بها جبل لصار

(3/239)


ترابا" وفي حديث أسماء "ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل غرب البعير تضربه ما شاء الله صماء لا تسمع صوته فترحمه" وزاد في أحاديث أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة التي أشرنا إليها "ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك هذا، ويفتح له باب إلى النار" زاد في حديث أبي هريرة "فيزداد حسرة وثبورا، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه" ، في حديث البراء " فينادي مناد من السماء: أفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها" . قوله: "من يليه" قال المهلب: المراد الملائكة الذين يلون فتنته، كذا قال، ولا وجه لتخصيصه بالملائكة فقد ثبت أن البهائم تسمعه. وفي حديث البراء "يسمعه من بين المشرق والمغرب" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين" وهذا يدخل فيه الحيوان والجماد، لكن يمكن أن يخص منه الجماد. ويؤيده أن في حديث أبي هريرة عند البزار "يسمعه كل دابة إلا الثقلين" والمراد بالثقلين الإنس والجن، قيل لهم ذلك لأنهم كالثقل على وجه الأرض. قال المهلب: الحكمة في أن الله يسمع الجن قول الميت قدموني ولا يسمعهم صوته إذا عذب بأن كلامه قبل الدفن متعلق بأحكام الدنيا وصوته إذا عذب في القبر متعلق بأحكام الآخرة، وقد أخفى الله على المكلفين أحوال الآخرة إلا من شاء الله إبقاء عليهم كما تقدم. وقد جاء في عذاب القبر غير هذه الأحاديث: منها عن أبي هريرة وابن عباس وأبي أيوب وسعد وزيد بن أرقم وأم خالد في الصحيحين أو أحدهما، وعن جابر عند ابن ماجه، وأبي سعيد عند ابن مردويه، وعمر وعبد الرحمن بن حسنة وعبد الله بن عمرو عند أبي داود، وابن مسعود عند الطحاوي، وأبي بكرة وأسماء بنت يزيد عند النسائي، وأم مبشر عند ابن أبي شيبة، وعن غيرهم. وفي أحاديث الباب من الفوائد: إثبات عذاب القبر، وأنه واقع على الكفار ومن شاء الله من الموحدين. والمسألة وهل هي واقعة على كل واحد؟ تقدم تقرير ذلك، وهل تختص بهذه الأمة أم وقعت على الأمم قبلها؟ ظاهر الأحاديث الأول وبه جزم الحكيم الترمذي وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة تأتيهم الرسل فإن أطاعوا فذاك وإن أبوا اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب، وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أسر الكفر أو لا، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سرهم بالسؤال وليميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله الذين آمنوا ويضل الله الظالمين انتهى. ويؤيده حديث زيد بن ثابت مرفوعا: "أن هذه الأمة تبتلى في قبورها" الحديث أخرجه مسلم، ومثله عند أحمد عن أبي سعيد في أثناء حديث، ويؤيده أيضا قول الملكين "ما تقول في هذا الرجل محمد" وحديث عائشة عند أحمد أيضا بلفظ: "وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون" وجنح ابن القيم إلى الثاني وقال: ليس في الأحاديث ما ينفي المسألة عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكيفية امتحانهم في القبور لا أنه نفى ذلك عن غيرهم، قال: والذي يظهر أن كل نبي مع أمته كذلك، فتعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. وحكي في مسألة الأطفال احتمالا، والظاهر أن ذلك لا يمتنع في حق المميز دون غيره. وفيه ذم التقليد في الاعتقادات لمعاقبة من قال: كنت أسمع الناس يقولون شيئا فقلته، وفيه أن الميت يحيا في قبره للمسألة خلافا لمن رده واحتج بقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الآية قال: فلو كان يحيا في قبره للزم أن يحيا ثلاث مرات ويموت ثلاثا وهو خلاف النص، والجواب بأن المراد بالحياة في القبر للمسألة ليست الحياة المستقرة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه

(3/240)


وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذي وردت به الأحاديث الصحيحة، فهي إعادة عارضة، كما حيي خلق لكثير من الأنبياء لمسألتهم لهم عن أشياء ثم عادوا موتى. وفي حديث عائشة جواز التحديث عن أهل الكتاب بما وافق الحق.

(3/241)


87 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
1375 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ " خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتْ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا" وَقَالَ النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَوْنٌ سَمِعْتُ أَبِي سَمِعْتُ الْبَرَاءَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1376 - حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ " أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر"
[الحديث 1376
طرفه في: 6364]
1377 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ"
قوله: "باب التعوذ من عذاب القبر" قال الزين بن المنير: أحاديث هذا الباب تدخل في الباب الذي قبله، وإنما أفردها عنها لأن الباب الأول معقود لثبوته ردا على من أنكره. والثاني لبيان ما ينبغي اعتماده في مدة الحياة من التوسل إلى الله بالنجاة منه والابتهال إليه في الصرف عنه. قوله: "أخبرنا يحيي" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن أبي أيوب" هو الأنصاري. وفي هذا الإسناد ثلاثة من الصحابة في نسق أولهم أبو جحيفة. قوله: "وجبت الشمس" أي سقطت، والمراد غروبها. قوله: "فسمع صوتا" قيل يحتمل أن يكون سمع صوت ملائكة العذاب أو صوت اليهود المعذبين أو صوت وقع العذاب. قلت: وقد وقع عند الطبراني من طريق عبد الجبار بن العباس عن عون بهذا السند مفسرا ولفظه: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس ومعي كوز من ماء، فانطلق لحاجته حتى جاء فوضأته فقال: أتسمع ما اسمع؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أسمع أصوات اليهود يعذبون في قبورهم" . قوله: "يهود تعذب في قبورها" هو خبر مبتدأ أي هذه يهود، أو هو مبتدأ خبره محذوف. قال الجوهري: اليهود قبيلة والأصل اليهوديون فحذفت ياء الإضافة مثل زنج وزنجي ثم عرف على هذا الحد فجمع على قياس شعير وشعيرة ثم عرف الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام لأنه معرفة مؤنث فجرى مجرى القبيلة وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهو موافق لقوله فيما تقدم من حديث عائشة "إنما تعذب اليهود" وإذا ثبت أن اليهود تعذب بيهوديتهم ثبت تعذيب غيرهم من المشركين لأن كفرهم بالشرك أشد من كفر اليهود. قوله: "وقال النضر

(3/241)


إلخ" ساق هذه الطريق لتصريح عون فيها بسماعه له من أبيه وسماع أبيه له من البراء، وقد وصلها الإسماعيلي من طريق أحمد بن منصور عن النضر ولم يسق المتن، وساقه إسحاق بن راهويه في مسنده عن النضر بلفظ: "فقال: هذه يهود تعذب في قبورها" قال ابن رشد: لم يجر للتعوذ من عذاب القبر في هذا الحديث ذكر، فلهذا قال بعض الشارحين: إنه من بقية الباب الذي قبله، وإنما أدخله في هذا الباب بعض من نسخ الكتاب ولم يميز، قال: ويحتمل أن يكون المصنف أراد أن يعلم بأن حديث أم خالد ثاني أحاديث هذا الباب محمول على أنه صلى الله عليه وسلم نعوذ من عذاب القبر حين سمع أصوات يهود، لما علم من حاله أنه كان يتعوذ ويأمر بالتعوذ مع عدم سماع العذاب فكيف مع سماعه. قال: وهذا جار على ما عرف من عادة المصنف في الإغماض. وقال الكرماني: العادة قاضية بأن كل من سمع مثل ذلك الصوت يتعوذ من مثله. قوله: "حدثنا معلى" هو ابن أسد، وبنت خالد اسمها أمة وتكنى أم خالد، وقد أورده المصنف في الدعوات من وجه آخر "عن موسى بن عقبة سمعت أم خالد بنت خالد ولم أسمع أحدا سمع من النبي غيرها" فذكره. ووقع في الطبراني من وجه آخر عن موسى بلفظ: "استجيروا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق ". قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو" زاد الكشميهني: "ويقول" وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في آخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة.

(3/242)


88 - باب عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ
1378 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ قَالَ ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا"
قوله: "باب عذاب القبر من الغيبة والبول" قال الزين بن المنير: المراد بتخصيص هذين الأمرين بالذكر تعظيم أمرهما. لا نفي الحكم عما عداهما، فعلى هذا لا يلزم من ذكرهما حصر عذاب القبر فيهما، لكن الظاهر من الاقتصار على ذكرهما أنهما أمكن في ذلك من غيرهما، وقد روى أصحاب السنن من حديث أبي هريرة "استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه" . حديث ابن عباس أورده المصنف في قصة القبرين، وليس فيه للغيبة ذكر، وإنما ورد بلفظ النميمة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الطهارة. وقيل مراد المصنف أن الغيبة تلازم النميمة لأن النميمة مشتملة على ضربين: نقل كلام المغتاب إلى الذي اغتابه، والحديث عن المنقول عنه بما لا يريده. قال بن رشيد: لكن لا يلزم من الوعيد على النميمة ثبوته على الغيبة وحدها، لأن مفسدة النميمة أعظم، وإذا لم تساوها لم يصح الإلحاق إذ لا يلزم من التعذيب على الأشد التعذيب على الأخف، لكن يجوز أن يكون ورد على معنى التوقع والحذر فيكون قصد التحذير من المغتاب لئلا يكون له في ذلك نصيب انتهى. وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث بلفظ الغيبة كما بيناه في الطهارة، فالظاهر أن البخاري جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث والله أعلم.

(3/242)


89 - باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
1379 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[الحديث 1379
طرفاه في: 3240, 6515]
قوله: "باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي" أورد فيه حديث ابن عمر "أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي" قال ابن التين: يحتمل أن يريد بالغداة والعشي غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيها. ومعنى قوله: "حتى يبعثك الله" أي لا تصل إليه إلى يوم البعث. ويحتمل أن يريد كل غداة وكل عشي، وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه انتهى. والأول موافق للأحاديث المتقدمة قبل بابين في سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد. وقال القرطبي: يجوز أن يكون هذا العرض على الروح فقط، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن. قال: والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء. قال: وهذا في حق المؤمن والكافر واضح، فأما المؤمن المخلط فمحتمل في حقه أيضا، لأنه يدخل الجنة في الجملة، ثم هو مخصوص بغير الشهداء لأنهم أحياء وأرواحهم تسرح في الجنة. ويحتمل أن يقال: إن فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها، فإن فيه قدرا زائدا على ما هي فيه الآن. قوله: "إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة" اتحد فيه الشرط والجزاء لفظا ولا بد فيه من تقدير، قال التوربشتي: التقدير إن كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه. وقال الطيبي: الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظا دل على الفخامة، والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى. ووقع عند مسلم بلفظ: "إن كان من أهل الجنة فالجنة" أي فالمعروض الجنة. وفي هذا الحديث إثبات عذاب القبر، وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي. وقال ابن عبد البر: استدل به على أن الأرواح على أفنية القبور1. قال: والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية قبورها لا أنها لا تفارق الأفنية، بل هي كما قال مالك إنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت. قوله: "حتى يبعثك الله يوم القيامة" في رواية مسلم عن يحيى بن مالك " حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " وحكى ابن عبد البر فيه الاختلاف بين أصحاب مالك، وأن الأكثر رووه كرواية البخاري وأن ابن القاسم رواه كرواية مسلم، قال. والمعنى حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد. ويحتمل أن يعود الضمير إلى الله. فإلى الله ترجع الأمور، والأول
ـــــــ
1 ما قاله اين عبد البر ومالك في الأرواح ضعيف مخالف لظاهر القرآن الكريم, وقد دل ظاهر القرآان على أن الأرواح ممسكة عند الله سبحانه وينالها من العذب والنعيم ما شاء الله من ذلك, ولا مانع من عرض العذاب والنعيم عليها وإحساس البدن أو ما بقي منه بما شاء الله من ذلك كما هو قول أهل السنة, والدليل المشار إليه قوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} . وقد دلت الأحاديث على إعادتها إلى الجسد بعد الدفن عند السؤال, ولا مانع من إعادتها إليه فيما يشاء الله من الأوقات كوقت السلام عليه. وثبت في الحديث الصحيح أن أرواح المؤمنين في شكل طيور تعلق بشجرة الجنة, وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت..الحديث. والله أعلم

(3/243)


أظهر اهـ. ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ: "ثم يقال: هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة " أخرجه مسلم. وقد أخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن لفظه كلفظ البخاري.

(3/244)


باب كلام الميت في الجنازة
...
90 - باب كَلاَمِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ
1380 - حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين يذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق"
قوله: "باب كلام الميت على الجنازة" أي بعد حملها، أورد فيه حديث أبي سعيد، وقد تقدم الكلام عليه قبل بضعة وثلاثين بابا، وترجم له "قول الميت وهو على الجنازة قدموني" قال ابن رشيد: الحكمة في هذا التكرير أن الترجمة الأولى مناسبة للترجمة التي قبلها وهي "باب السرعة بالجنازة" لاشتمال الحديث على بيان موجب الإسراع، وكذلك هذه الترجمة مناسبة للتي قبلها كأنه أراد أن يبين أن ابتداء العرض إنما يكون عند حمل الجنازة لأنها حينئذ يظهر لها ما تؤول إليه فتقول ما تقول.

(3/244)


91 - باب مَا قِيلَ فِي أَوْلاَدِ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ"
1381 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ"
1382 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ"
[الحديث 1382
طرفاه في: 3255, 6195]
قوله: "باب ما قيل في أولاد المسلمين" أي غير البالغين. قال الزين بن المنير: تقدم في أوائل الجنائز ترجمة "من مات له ولد فاحتسب" وفيها الحديث المصدر به، وإنما ترجم بهذه لمعرفة مآل الأولاد، ووجه انتزاع ذلك أن من يكون سببا في حجب النار عن أبويه أولى بأن يحجب هو لأنه أصل الرحمة وسببها. وقال النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة. وتوقف فيه بعضهم لحديث عائشة، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: "توفي صبي من الأنصار فقلت: طوبى له لم يعلم سوءا ولم يدركه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا" الحديث. قال والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى. وقال القرطبي: نفى بعضهم

(3/244)


92 - باب مَا قِيلَ فِي أَوْلاَدِ الْمُشْرِكِينَ
1383 - حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلاَدِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
[الحديث 1383
طرفه في: 6597]
1384 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ " سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
[الحديث 1384
طرفاه في: 6598, 660]
1385 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ

(3/245)


اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ"
قوله: "باب ما قيل في أولاد المشركين" هذه الترجمة تشعر أيضا بأنه كان متوقفا في ذلك، وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم بما يدل على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة كما سيأتي تحريره، وقد رتب أيضا أحاديث هذا الباب ترتيبا يشير إلى المذهب المختار، فإنه صدره بالحديث الدال على التوقف، ثم ثنى بالحديث المرجح لكونهم في الجنة، ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك فإن قوله في سياقه "وأما الصبيان حوله فأولاد الناس" قد أخرجه في التعبير بلفظ: "وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة. فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟ فقال: وأولاد المشركين" ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعا: "سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم" إسناده حسن. وورد تفسير "اللاهين" بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه البزار، وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: " قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة" إسناده حسن. واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال: أحدها أنهم في مشيئة الله تعالى، وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق، ونقله البيهقي في "الاعتقاد" عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة، قال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، والحجة فيه حديث: "الله أعلم بما كانوا عاملين" . ثانيها أنهم تبع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة وأولاد الكفار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج، واحتجوا بقوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وتعقبه بأن المراد قوم نوح خاصة، وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} وأما حديث: "هم من آبائهم أو منهم " فذاك ورد في حكم الحربي، وروى أحمد من حديث عائشة "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين، قال: في الجنة. وعن أولاد المشركين، قال: في النار فقلت يا رسول الله لم يدركوا الأعمال، قال: ربك أعلم بما كانوا عاملين، لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار" وهو حديث ضعيف جدا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك. ثالثها أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار، لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار. رابعها خدم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس ضعيف أخرجه أبو داود الطيالسي وأبو يعلى، وللطبراني والبزار من حديث سمرة مرفوعا: "أولاد المشركين خدم أهل الجنة" وإسناده ضعيف. خامسها أنهم يصيرون ترابا، روي عن ثمامة بن أشرس. سادسها هم في النار حكاه عياض عن أحمد، وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلا. سابعها أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن أبى عذب، أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل. وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في "كتاب الاعتقاد" أنه المذهب الصحيح، وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار، وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا

(3/246)


يَسْتَطِيعُونَ} وفي الصحيحين " أن الناس يؤمرون بالسجود، فيصير ظهر المنافق طبقا، فلا يستطيع أن يسجد" . ثامنها أنهم في الجنة، وقد تقدم القول فيه في "باب فضل من مات له ولد" قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى، ولحديث سمرة المذكور في هذا الباب، ولحديث عمة خنساء المتقدم، ولحديث عائشة الآتي قريبا. تاسعها الوقف. عاشرها الإمساك. وفي الفرق بينهما دقة. ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث ابن عباس وأبي هريرة "سئل عن أولاد المشركين"وفي رواية ابن عباس "ذراري المشركين" ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية هذا السائل، لكن عند أحمد وأبي داود عن عائشة ما يحتمل أن تكون هي السائلة، فأخرجا من طريق عبد الله بن أبي قيس عنها قالت: "قلت: يا رسول الله ذراري المسلمين؟ قال: مع آبائهم. قلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" الحديث. وروى عبد الرزاق من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: " سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزل : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال: هم على الفطرة، أو قال: في الجنة" وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع رافعا لكثير من الإشكال المتقدم. "تنبيه": لم يسمع ابن عباس هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، بين ذلك أحمد من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: كنت أقول في أولاد المشركين: هم منهم، حتى حدثني رجل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيته فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ربهم أعلم بهم، هو خلقهم وهو أعلم بما كانوا عاملين" فأمسكت عن قولي انتهى. وهذا أيضا يدفع القول الأول الذي حكيناه. قوله: "الله أعلم" قال ابن قتيبة: معنى قوله: "بما كانوا عاملين" أي لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء. وقال غيره: أي علم أنهم لا يعملون شيئا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم1 شيء لو وجد كيف يكون، مثل قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} ولكن لم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل.
" تنبيه " وأما حديث أبي هريرة فهو طرف من ثاني أحاديث الباب كما سيأتي في القدر من طريق همام عن أبي هريرة، ففي آخره: "قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فقال رجل: يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك" ولأبي داود من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة نحو رواية همام. وأخرج أبو داود عقبه عن ابن وهب سمعت مالكا وقيل له إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث يعني قوله: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه" فقال مالك: احتج عليهم بآخره: "الله أعلم بما كانوا عاملين" . ووجه ذلك أن أهل القدر استدلوا على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدا وإنما يضل الكافر أبواه، فأشار مالك إلى الرد عليهم بقوله: "الله أعلم" فهو دال على أنه يعلم بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة، فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم، ومن ثم قال الشافعي: أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا. قوله: "عن أبي سلمة" هكذا رواه ابن أبي ذئب عن الزهري، وتابعه يونس كما تقدم قبل أبواب من طريق عبد الله بن المبارك عنه، وأخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس،
ـــــــ
1 في نسخة "بعلم الشيء"

(3/247)


وخالفهما الزبيدي ومعمر فروياه عن الزهري عن سعيد بن المسيب بدل أبي سلمة، وأخرجه الذهلي في "الزهريات" من طريق الأوزاعي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وقد تقدم أيضا من طريق شعيب عن الزهري عن أبي هريرة من غير ذكر واسطة. وصنيع البخاري يقتضي ترجيح طريق أبي سلمة، وصنيع مسلم يقتضي تصحيح القولين عن الزهري، وبذلك جزم الذهلي. قوله: " كل مولود " أي من بني آدم، وصرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "كل بني آدم يولد على الفطرة" وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج ذكرها ابن عبد البر، واستشكل هذا التركيب بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهويد وغيره مما ذكر، والفرض أن بعضهم يستمر مسلما ولا يقع له شيء، والجواب أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجي، فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق. وهذا يقوي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة كما سيأتي. قوله: "يولد على الفطرة" ظاهره تعميم الوصف المذكور في جميع المولودين، وأصرح منه رواية يونس المتقدمة بلفظ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة"، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: " ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه". وفي رواية له من هذا الوجه " ما من مولود إلا وهو على الملة" . وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم، وإنما المراد أن كل من ولد على الفطرة وكان له أبوان على غير الإسلام نقلاه إلى دينهما، فتقدير الخبر على هذا: كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلا فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه. ويكفي في الرد عليهم رواية أبي صالح المتقدمة. وأصرح منها رواية جعفر بن ربيعة بلفظ: "كل بني آدم يولد على الفطرة" وقد اختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة، وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن ذلك فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنه عني أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلا لم يرثاه. والواقع في الحكم أنهما يرثانه فدل على تغير الحكم. وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره. وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادعى فيه النسخ، والحق أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا. وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف. وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب: اقرؤوا إن شئتم {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وبحديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" الحديث. وقد رواه غيره فزاد فيه: "حنفاء مسلمين "ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى :{فِطْرَتَ اللَّهِ} لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه بلزومها، فعلم أنها الإسلام. وقال ابن جرير: قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي سدد لطاعته {حَنِيفاً} أي مستقيما {فِطْرَتَ اللَّهِ} أي صبغة الله، وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدر، أي ألزم. وقد سبق قبل أبواب قول الزهري في الصلاة على المولود: من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام، وسيأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإسلام، وقد قال أحمد: من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه. واستدل بحديث الباب فدل على أنه فسر الفطرة بالإسلام. وتعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن لا يصح استرقاقه، ولا يحكم

(3/248)


بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه. والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا. وحكى محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام. قال ابن القيم: وقد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم. وروى أبو داود عن حماد بن سلمة أنه قال: المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد حيث قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قالوا بلى" ونقله ابن عبد البر عن الأوزاعي وعن سحنون، ونقله أبو يعلى بن الفراء عن إحدى الروايتين عن أحمد، وهو ما حكاه الميموني عنه وذكره ابن بطة، وقد سبق في "باب إسلام الصبي" في آخر حديث الباب من طريق يونس ثم يقول: { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} - إلى قوله - القيم" وظاهره أنه من الحديث المرفوع، وليس كذلك بل هو من كلام أبي هريرة أدرج في الخبر، بينه مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري ولفظه: "ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم" قال الطيبي: ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقوي ما أوله حماد بن سلمة من أوجه: أحدها أن التعريف في قوله: "على الفطرة" إشارة إلى معهود وهو قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ} ومعنى المأمور في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي اثبت على العهد القديم. ثانيها ورود الرواية بلفظ: "الملة" بدل الفطرة و "الدين" في قوله: "للدين حنيفا" هو عين الملة، قال تعالى: { دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ويؤيده حديث عياض المتقدم. ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس، قال. والمراد تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى. وإلى هذا مال القرطبي في "المفهم "فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث حيث قال: "كما تنتج البهيمة" يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلا فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح والله أعلم. وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله: "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلا بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا. والله أعلم. وفي المسألة أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وغيره: منها قول ابن المبارك أن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلما ولد على الإسلام، ومن علم الله أنه يصير كافرا ولد على الكفر، فكأنه أول الفطرة بالعلم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله: "فأبواه يهودانه إلخ "معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي في التمثيل بحال البهيمة. ومنها أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة والإنكار، فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعا {بَلَى} أما أهل السعادة فقالوها طوعا، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرها. وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق ابن راهويه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه،

(3/249)


وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فأنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيم عن شيخه. ومنها أن المراد بالفطرة الخلقة أي يولد سالما لا يعرف كفرا ولا إيمانا، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البر وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله: {حَنِيفاً} أي على استقامة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر دون ملة الإسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى. ومنها قول بعضهم: أن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه، وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله. ويؤيد المذهب الصحيح أن قوله: "فأبواه يهودانه إلخ "ليس فيه لوجود الفطرة شرط بل ذكر ما يمنع موجبها كحصول اليهودية مثلا متوقف على أشياء خارجة عن الفطرة، بخلاف الإسلام. وقال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن قوله: " فأبواه يهودانه إلخ" محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى، ومن ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث: "الله أعلم بما كانوا عاملين" . قوله: "فأبواه" أي المولود، قال الطيبي: الفاء أما للتعقيب أو السببية أو جزاء شرط مقدر، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو بترغيبهما فيه، وكونه تبعا لهما في الدين يقتضي أن يكون حكمه حكمهما. وخص الأبوان بالذكر للغالب، فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو قول أحمد، فقد استمر عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة. قوله: "كمثل البهيمة تنتج البهيمة" أي تلدها فالبهيمة الثانية بالنصب على المفعولية وقد تقدم بلفظ: " كما تنتج البهيمة بهيمة "، قال الطيبي: قوله: "كما" حال من الضمير المنصوب في "يهودانه" أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة تشبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة، أو هو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه تغييرا مثل تغييرهم البهيمة السليمة، قال: وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في "كما" على التقديرين. قوله: "تنتج" بضم أوله وسكون النون وفتح المثناة بعدها جيم، قال أهل اللغة: نتجت الناقة على صيغة ما لم يسم فاعله تنتج بفتح المثناة وأنتج الرجل ناقته ينتجها إنتاجا، زاد في الرواية المتقدمة "بهيمة جمعاء" أي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع أعضائها. قوله: "هل ترى فيها جدعاء"؟ قال الطيبي: هو في موضع الحال أي سليمة مقولا في حقها ذلك، وفيه نوع التأكيد أي إن كل من نظر إليها قال ذلك لظهور سلامتها. والجدعاء المقطوعة الأذن، ففيه إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر كان بسبب صممهم عن الحق. ووقع في الرواية المتقدمة بلفظ: " هل تحسون فيها من جدعاء" وهو من الإحساس والمراد به العلم بالشيء، يريد أنها تولد لا جدع فيها وإنما يجدعها أهلها بعد ذلك. وسيأتي في تفسير سورة الروم أن معنى قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي لدين الله وتوجيه ذلك.
" تنبيه ": ذكر ابن هشام في "المغني" عن ابن هشام الخضراوي أنه جعل هذا الحديث شاهدا لورود "حتى" للاستثناء، فذكره بلفظ: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه" وقال: ولك أن تخرجه على أن فيه حذفا أي يولد على الفطرة ويستمر على ذلك حتى يكون، يعني فتكون للغاية على بابها انتهى. ومال صاحب "المغني" في موضع آخر إلى أنه ضمن "يولد" معنى

(3/250)


ينشأ مثلا، وقد وجدت الحديث في تفسير ابن مردويه من طريق الأسود بن سريع بلفظ: " ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها" الحديث. وهو يؤيد الاحتمال المذكور. واللفظ الذي ساقه الخضراوي لم أره في الصحيحين ولا غيرهما، إلا عند مسلم كما تقدم في رواية: " حتى يعرب عنه لسانه" ثم وجدت أبا نعيم في مستخرجه على مسلم أورد الحديث من طريق كثير بن عبيد عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري بلفظ: " ما من مولود يولد في بني آدم إلا يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه" الحديث. وكذا أخرجه ابن مردويه من هذا الوجه، وهو عند مسلم عن حاجب بن الوليد عن محمد بن حرب بلفظ: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، أبواه يهودانه" الحديث.

(3/251)


93 باب - 1386 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لاَ قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلاَنِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالاَ نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ

(3/251)


يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلاَدُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالاَ ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي قَالاَ إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ"
قوله "باب" كذا ثبت جميعهم إلا لأبي ذر وهو كالفصل من الباب الذي قبله وتعلق الحديث به ظاهر من قوله في حديث سمرة في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس وقد تقدم التنبيه على أنه أورده بزيادة قالوا وأولاد المشركين فقال وأولاد المشركين وسيأتي الكلام على بقية الحديث مستوفى في إن شاء الله تعالى قوله في هذه الطريق فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده قال بعض أصحابنا عن موسى كلوب من حديد في شدقه كذا في رواية أبي ذر وهو سياق مستقيم ووقع في رواية غيره بخلاف ذلك والبعض المبهم لم أعرف المراد به إلا أن الطبراني أخرجه في المعجم الكبير عن العباس بن الفضل الإسقاطي عن موسى بن إسماعيل فذكر الحديث بطوله مثل حديث قبله وفيه بيده كلاب من حديد قوله فيه حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر قال يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم وعلى شط النهر رجل وهذا التعليق عن هذين ثبت في رواية أبي ذر أيضا فأما حديث يزيد وهو بن هارون فوصله أحمد عنه فساق الحديث بطوله وفيه فإذا نهر من دم فيه رجل وعلى شط النهر رجل وأما حديث وهب بن جرير فوصله أبو عوانة في صحيحه من طريقه فساق الحديث بطوله وفيه حتى ينتهى إلى نهر من دم ورجل قائم في وسطه ورجل قائم على شاطئ النهر الحديث وأصل الحديث ثم مسلم من طريق وهب لكن باختصار وقوله فيه إذا ارتفعوا كذا فيه بالفاء فتكون المهملة ووقع في جمع الحميدي ارتقوا بالقاف فقط من الإرتقاء وهو الصعود

(3/252)


94 - باب مَوْتِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ
1387 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فِي كَمْ كَفَّنْتُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ وَقَالَ لَهَا فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ يَوْمُ الاثْنَيْنِ قَالَ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا قُلْتُ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ قَالَ إِنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاَثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ"

(3/252)


قوله: "باب موت يوم الاثنين" قال الزين بن المنير: تعين وقت الموت ليس لأحد فيه اختيار، لكن في التسبب في حصوله مدخل كالرغبة إلى الله لقصد التبرك فمن لم تحصل له الإجابة أثيب على اعتقاده. وكأن الخبر الذي ورد في فضل الموت يوم الجمعة لم يصح عند البخاري فاقتصر على ما وافق شرطه، وأشار إلى ترجيحه على غيره، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" وفي إسناده ضعف، وأخرجه أبو يعلى من حديث أنس نحوه وإسناده أضعف. قوله: "قالت عائشة: دخلت على أبي بكر" تعني أباها، زاد أبو نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه "فرأيت به الموت، فقلت هيج هيج
من لا يزال دمعه مقنعا ... فإنه في مرة مدفوق
فقال: لا تقولي هذا، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} الآية - ثم قال - في أي يوم" الحديث. وهذه الزيادة أخرجها ابن سعد مفردة عن أبي سامة عن هشام. وقولها "هيج" بالجيم حكاية بكائها. قوله: "في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم" أي كم ثوبا كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ وقوله: "في كم" معمول مقدم لكفنتم، قيل: ذكر لها أبو بكر ذلك بصيغة الاستفهام توطئة لها للصبر على فقده، واستنطاقا لها بما يعلم أنه يعظم عليها ذكره، لما في بداءته لها بذلك من إدخال الغم العظيم عليها، لأنه يبعد أن يكون أبو بكر نسي ما سأل عنه مع قرب العهد، ويحتمل أن يكون السؤال عن قدر الكفن على حقيقته، لأنه لم يحضر ذلك لاشتغاله بأمر البيعة. وأما تعيين اليوم فنسيانه أيضا محتمل لأنه صلى الله عليه وسلم دفن ليلة الأربعاء، فيمكن أن يحصل التردد هل مات يوم الاثنين أو الثلاثاء. وقد تقدم الكلام على الكفن في موضعه. قوله: "قلت يوم الاثنين" بالنصب أي في يوم الاثنين، وقولها بعد ذلك "قلت يوم الاثنين" بالرفع أي هذا يوم الاثنين. قوله: "أرجو فيما بيني وبين الليل" في رواية المستملي: "الليلة" ولابن سعد من طريق الزهري عن عروة عن عائشة "أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا، فحم خمسة عشر يوما، ومات مساء ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة" وأشار الزين بن المنير إلى أن الحكمة في تأخر وفاته عن يوم الاثنين مع أنه كان يحب ذلك ويرغب فيه لكونه قام في الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن تكون وفاته متأخرة عن الوقت الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "به ردع" بسكون المهملة بعدها عين مهملة أي لطخ لم يعمه كله. قوله: "وزيدوا عليه ثوبين" زاد ابن سعد عن أبي معاوية عن هشام "جديدين". قوله: "فكفنوني فيهما" أي المزيد والمزيد عليه. وفي رواية غير أبي ذر "فيها" أي الثلاثة. قوله: "خلق" بفتح المعجمة واللام أي غير جديد. وفي رواية أبي معاوية عند ابن سعد "ألا نجعلها جددا كلها؟ قال: لا،"، وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان. ويؤيده قوله بعد ذلك "إنما هو للمهلة" وروى أبو داود من حديث علي مرفوعا: "لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا" ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن أخرجه مسلم، فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة وحمل المغالاة على الثمن. وقيل التحسين حق الميت، فإذا أوصى بتركه اتبع كما فعل الصديق، ويحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه لمعنى فيه من التبرك به لكونه صار إليه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو لكونه كان جاهد فيه أو تعبد فيه. ويؤيده ما رواه ابن سعد من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: قال أبو بكر "كفنوني في ثوبي اللذين كنت أصلي فيهما".

(3/253)


قوله: "إنما هو" أي الكفن. قوله: "للمهلة" قال عياض: روي بضم الميم وفتحها وكسرها. قلت: جزم به الخليل. وقال ابن حبيب: هو بالكسر الصديد، وبالفتح التمهل، وبالضم عكر الزيت. والمراد هنا الصديد. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "إنما هو" أي الجديد، وأن يكون المراد "بالمهلة "على هذا التمهل أي إن الجديد لمن يريد البقاء، والأول أظهر. ويؤيده قول القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: "كفن أبو بكر في ريطة بيضاء وريطة ممصرة وقال: إنما هو لما يخرج من أنفه وفيه" أخرجه ابن سعد. وله عنه من وجه آخر "إنما هو للمهل والتراب" وضبط الأصمعي هذه بالفتح. وفي هذا الحديث استحباب التكفين في الثياب البيض وتثليث الكفن وطلب الموافقة فيما وقع للأكابر تبركا بذلك1. وفيه جواز التكفين في الثياب المغسولة، وإيثار الحي بالجديد، والدفن بالليل، وفضل أبي بكر وصحة فراسته وثباته عند وفاته. وفيه أخذ المرء العلم عمن دونه. وقال أبو عمر: فيه أن التكفين في الثوب الجديد والخلق سواء. وتعقب بما تقدم من احتمال أن يكون أبو بكر اختاره لمعنى فيه، وعلى تقدير أن لا يكون كذلك فلا دليل فيه على المساواة.
ـــــــ
1 هذا فيه نظر. والصواب أن ذلك غير مشروع إلا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, لأن الله سبحانه شرع لنا التأسي به, وأما غيره فيخطيء ويصيب. وسبق في هذا المعنى حواشي في المجلد الأول والثاني وأوائل هذا الجزء, فراجعها إن شئت. والله أعلم

(3/254)


95 - باب مَوْتِ الْفجاءةِ الْبَغْتَةِ
1388 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ: "نَعَمْ"
[الحديث 1388
طرفه في: 2760]
قوله: "باب موت الفجاءة، البغتة" قال ابن رشيد: هو مضبوط بالكسر على البدل، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي البغتة، ووقع في رواية الكشميهني: "بغتة". والفجاءة بضم الفاء وبعد الجيم مد ثم همز، ويروى بفتح ثم سكون بغير مد، وهي الهجوم على من لم يشعر به. وموت الفجأة وقوعه بغير سبب من مرض وغيره، قال ابن رشيد: مقصود المصنف والله أعلم الإشارة إلى أنه ليس بمكروه، لأنه لم يظهر منه كراهيته لما أخبره الرجل بأن أمه افتلتت نفسها، وأشار إلى ما رواه أبو داود بلفظ: "موت الفجأة أخذة أسف" وفي إسناده مقال، فجرى على عادته في الترجمة بما لم يوافق شرطه، وإدخال ما يومئ إلى ذلك ولو من طرف خفي انتهى. والحديث المذكور أخرجه أبو داود من حديث عبيد بن خالد السلمي ورجاله ثقات، إلا أن راويه رفعه مرة ووقفه أخرى. وقوله: "أسف" أي غضب وزنا ومعنى، وروي بوزن فاعل أي غضبان، ولأحمد من حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدار مائل فأسرع وقال: أكره موت الفوات" قال ابن بطال: وكان ذلك - والله أعلم - لما في موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة وغيرها من الأعمال الصالحة. وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت" من حديث أنس نحو حديث عبيد بن خالد وزاد فيه: "المحروم من حرم وصيته" انتهى. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن عائشة وابن مسعود "موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر"

(3/254)


وقال ابن المنير لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة، كما وقع في حديث الباب. وقد نقل عن أحمد وبعض الشافعية كراهة موت الفجأة، ونقل النووي عن بعض القدماء أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا كذلك، قال النووي: وهو محبوب للمراقبين. قلت: وبذلك يجتمع القولان. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير المدني. قوله: "أن رجلا" هو سعد بن عبادة، واسم أمه عمرة، وسيأتي حديثه والكلام عليه في الوصايا إن شاء الله تعالى. قوله: "افتلتت" بضم المثناة وكسر اللام أي سلبت، على ما لم يسم فاعله، يقال افتلت فلان أي مات فجأة وافتلتت نفسه كذلك، وضبطه بعضهم بفتح السين إما على التمييز، وإما على أنه مفعول ثان، والفلتة والافتلات ما وقع بغتة من غير روية، وذكره ابن قتيبة بالقاف وتقديم المثناة وقال: هي كلمة تقال لمن فتله الحب ولمن مات فجأة، والمشهور في الرواية بالفاء. والله أعلم.

(3/255)


96 - باب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
{فَأَقْبَرَهُ} أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ أُقْبِرُهُ إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا وَقَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ
{كِفَاتًا} يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا
1389 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ هِشَامٍ و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ أَيْنَ أَنَا غَدًا اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَدُفِنَ فِي بَيْتِي"
1390 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلاَلٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"
وَعَنْ هِلاَلٍ قَالَ كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا
حَدَّثَنَا: فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ لاَ وَاللَّهِ مَا هِيَ قَدَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هِيَ إِلاَّ قَدَمُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
1391 - وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ تَدْفِنِّي مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ لاَ أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا
[الحديث 1391
طرفه في: 7327]

(3/255)


1392 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ "رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلاَمَ ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ قَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلأوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ مَا لَدَيْكَ قَالَ أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي وَإِلاَ فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ فَمَنْ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ كَانَ لَكَ مِنْ الْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ كَفَافًا لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ"
[الحديث 1392
أطرافه في: 3052, 3162, 3700, 4888, 7207]
قوله: "باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" قال ابن رشيد: قال بعضهم مراده بقوله: "قبر النبي صلى الله عليه وسلم: "المصدر من قبرته قبرا، والأظهر عندي أنه أراد الاسم، ومقصوده بيان صفته من كونه مسنما أو غير مسنم وغير ذلك مما يتعلق بعضه ببعض. قوله: "قول الله عز وجل: {فَأَقْبَرَهُ} يريد تفسير الآية: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعله ممن يقبر لا ممن يلقى حتى تأكله الكلاب مثلا. وقال أبو عبيدة في "المجاز" أقبره أمر بأن يقبر. قوله: "أقبرت الرجل إذا جعلت له قبرا وقبرته دفنته" قال يحيى الفراء في المعاني: يقال أقبره جعله مقبورا وقبره دفنه. قوله: "كفاتا إلخ" روى عبد بن حميد من طريق مجاهد قال في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} قال: يكونون فيها ما أرادوا ثم يدفنون فيها. ثم أورد المصنف في الباب أحاديث: قوله: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه" وقد ضبط في روايتنا بالعين المهملة والذال المعجمة أي يتمنع، وحكى ابن التين أنه في رواية القابسي بالقاف والدال المهملة أي يسأل عن قدر ما بقي إلى يومها، لأن المريض يجد عند بعض أهله من الأنس ما لا يجد عند بعض. وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث والذي بعده في "باب الوفاة النبوية" آخر المغازي إن شاء الله تعالى. والمقصود من إيرادهما هنا بيان أنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيت عائشة. تقدم في "باب ما يكره من اتخاذ القبور على المساجد" من طريق هلال المذكور، وفي "باب بناء المسجد على القبر "من وجه آخر، وفي أبواب المساجد أيضا. قوله: "وعن هلال" يعني بالإسناد المذكور إليه. قوله: "كناني عروة بن الزبير" أي الذي

(3/256)


روى عنه ذلك الحديث. واختلف في كنية هلال: فالمشهور أنه أبو عمرو، وقيل أبو أمية، وقيل أبو الجهم. قوله: "عن سفيان التمار" هو ابن دينار على الصحيح، وقيل ابن زياد، والصواب أنه غيره، وكل منهما عصفري كوفي. وهو من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر الصحابة، ولم أر له رواية عن صحابي. قوله: "مسنما" أي مرتفعا، زاد أبو نعيم في المستخرج "وقبر أبي بكر وعمر كذلك" واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية، وادعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعي وبه جزم الماوردي وآخرون. وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأول مسنما، فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: "دخلت على عائشة فقلت: يا أمة اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء" زاد الحاكم "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدما، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم" وهذا كان في خلافة معاوية، فكأنها كانت في الأول مسطحة، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة. وقد روى أبو بكر الآجري في "كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند عن غنيم بن بسطام المديني قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه. ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل لا في أصل الجواز، ورجح المزني التسنيم من حيث المعنى بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس بخلاف المسنم، ورجحه ابن قدامة بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا وهو من شعار أهل البدع فكان التسنيم أولى. ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي، ثم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها". قوله: "حدثنا فروة" هو ابن أبي المغراء، وعلي هو ابن مسهر، وثبت ذلك في رواية أبي ذر. قوله: "لما سقط عليهم الحائط" أي حائط حجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الحموي عنهم: والسبب في ذلك ما رواه أبو بكر الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: "كان الناس يصلون إلى القبر فأمر به عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذا ساق عمر وركبته، فسري عن عمر بن عبد العزيز" وروى الآجري من طريق مالك بن مغول عن رجاء بن حيوة قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز -وكان قد اشترى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم- أن اهدمها ووسع بها المسجد، فقعد عمر في ناحية، ثم أمر بهدمها، فما رأيته باكيا أكثر من يومئذ. ثم بناه كما أراد. فلما أن بنى البيت على القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة وكان الرمل الذي عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له: أصلحك الله، إنك إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلا أن يصلحها، ورجوت أنه يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم -يعني مولاه- قم فأصلحها. قال رجاء: وكان قبر أبي بكر عند وسط النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر خلف أبي بكر رأسه عند وسطه. وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع وإلا فحديث القاسم أصح. وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة "أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره "فسنده ضعيف، ويمكن تأويله. والله أعلم.

(3/257)


قوله: "وعن هشام" هو بالإسناد المذكور، وقد أخرجه المصنف في الاعتصام من وجه آخر عن هشام وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبدة عن هشام وزاد فيه: "وكان في بيتها موضع قبر". قوله: "لا أزكى" بضم أوله وفتح الكاف على البناء للمجهول، أي لا يثنى علي بسببه ويجعل لي بذلك مزية وفضل وأنا في نفس الأمر يحتمل أن لا أكون كذلك، وهذا منها على سبيل التواضع وهضم النفس بخلاف قولها لعمر كنت أريده لنفسي فكأن اجتهادها في ذلك تغير أو لما قالت ذلك لعمر كان قبل أن يقع لها ما وقع في قصة الجمل فاستحيت بعد ذلك أن تدفن هناك وقد قال عنها عمار بن ياسر وهو أحد من حاربها يومئذ: إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وسيأتي ذلك مبسوطا في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى، وهو كما قال رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قوله: "رأيت عمر بن الخطاب قال يا عبد الله بن عمر" هذا طرف من حديث طويل سيأتي في مناقب عثمان وزاد فيه: "وقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين" وفي أوله قدر ورقة في سياق مقتله وفي آخره قدر صفحة في قصة بيعة عثمان. قال ابن التين. قول عائشة في قصة عمر "كنت أريده لنفسي" يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد، فهو يغاير قولها عند وفاتها لا تدفني عندهم فإنه يشعر بأنه بقي من البيت موضع للدفن. والجمع بينهما أنها كانت أولا تظن أنه لا يسع إلا قبرا واحدا فلما دفن ظهر لها أن هناك وسعا لقبر آخر، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: إنما استأذنها عمر لأن الموضع كان بيتها وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به على نفسها فآثرت عمر. وفيه الحرص على مجاورة الصالحين في القبور طمعا في إصابة الرحمة إذا نزلت عليهم وفي دعاء من يزورهم من أهل الخير. وفي قول عمر "قل يستأذن عمر فإن أذنت" أن من وعد عدة جاز له الرجوع فيها ولا يلزم بالوفاء. وفيه أن من بعث رسولا في حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه ولا يعد ذلك من قلة الصبر بل من الحرص على الخير. والله أعلم.

(3/258)


باب ما ينهى عن سب الأموات
...
97 - باب مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ
1393 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا" وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنْ الأَعْمَشِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ الأَعْمَشِ تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ وَابْنُ عَرْعَرَةَ وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ
[الحديث 1393
طرفه في: 6516]
قوله: "باب ما ينهى من سب الأموات" قال الزين بن المنير: لفظ الترجمة يشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقا. والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير وبالشر "وجبت، وأنتم شهداء الله في الأرض" ولم ينكر عليهم. ويحتمل أن اللام في الأموات عهدية والمراد به المسلمون، لأن الكفار مما يتقرب إلى الله بسبهم. وقال القرطبي في الكلام على حديث: "وجبت" يحتمل أجوبة، الأول أن الذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهرا به فيكون من باب لا غيبة لفاسق، أو كان منافقا. ثانيها يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه. ثالثها يكون النهي العام متأخرا فيكون ناسخا، وهذا ضعيف. وقال ابن رشيد ما محصله: أن السب ينقسم في حق الكفار وفي حق

(3/258)


المسلمين، أما الكافر فيمنع إذا تأذى به الحي المسلم، وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة، وقد يجب في بعض المواضع، وقد يكون فيه مصلحة للميت، كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن ذلك المال يرد إلى صاحبه. قال: ولأجل الغفلة عن هذا التفضيل ظن بعضهم أن البخاري سها عن حديث الثناء بالخير والشر، وإنما قصد البخاري أن يبين أن ذلك الجائز كان على معنى الشهادة، وهذا الممنوع هو على معنى السب، ولما كان المتن قد يشعر بالعموم أتبعه بالترجمة التي بعده. وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصة. والوجه عندي حمله على العموم إلا ما خصصه الدليل. بل لقائل أن يمنع أن ما كان على جهة الشهادة وقصد التحذير يسمى سبا في اللغة. وقال ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير -وقد تكون منه الفلتة- فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له، فكذلك الميت. ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن، والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن ليتعظ بذلك فساق الأحياء، فإذا صار إلى قبره أمسك عنه لإفضائه إلى ما قدم. وقد عملت عائشة راوية هذا الحديث بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي، فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه كما سأذكره. قوله: "أفضوا" أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، واستدل به على منع سب الأموات مطلقا، وقد تقدم أن عمومه مخصوص، وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحذير منهم والتنفير عنهم. وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا. قوله: "ورواه عبد الله بن عبد القدوس ومحمد بن أنس عن الأعمش" أي متابعين لشعبة، وأنس والد محمد كالجادة، وهو كوفي سكن الدينور، وثقه أبو زرعة وغيره، وروى عنه من شيوخ البخاري إبراهيم بن موسى الرازي. وأما ابن عبد القدوس فذكره البخاري في التاريخ فقال: إنه صدوق إلا أنه يروي عن قوم ضعفاء. واختلف كلام غيره فيه، وليس له في الصحيح غير هذا الموضع الواحد. ووقع لنا أيضا من رواية محمد بن فضيل عن الأعمش بزيادة فيه، أخرجه عمر بن شبة في "كتاب أخبار البصرة "عن محمد بن يزيد الرفاعي عنه بهذا السند إلى مجاهد" إن عائشة قالت: ما فعل يزيد الأرجي لعنه الله؟ قالوا: مات. قالت: أستغفر الله. قالوا: ما هذا؟ فذكرت الحديث: "وأخرجه من طريق مسروق "إن عليا بعث يزيد بن قيس الأرجي في أيام الجمل برسالة فلم ترد عليه جوابا، فبلغها أنه عاب عليها ذلك فكانت تلعنه، ثم لما بلغها موته نهت عن لعنه وقالت: إن رسول الله نهانا عن سب الأموات" وصححه ابن حبان من وجه آخر عن الأعمش عن مجاهد بالقصة. قوله: "تابعه علي بن الجعد" وصله المصنف في الرقاق عنه. قوله: "ومحمد بن عرعرة وابن أبي عدي" لم أره من طريق محمد بن عرعرة موصولا، وطريق ابن أبي عدي ذكرها الإسماعيلي. ووصله أيضا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة، وهو عند أحمد عنه.

(3/259)


98 - باب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى
1394 - حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن بن عباس رضي الله عنهما قال قال أبو لهب عليه لعنة الله للنبي صلى الله عليه وسلم تبا لك سائر اليوم فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
[الحديث 1394
أطرافه في: 3525, 3526, 4770, 4801, 4971, 4972, 4973]

(3/259)


قوله: "باب ذكر شرار الموتى" تقدم في الباب قبله من شرح ذلك ما فيه كفاية. وحديث الباب أورده هنا مختصرا، وسيأتي مطولا مع الكلام عليه في تفسير الشعراء إن شاء الله تعالى.
" خاتمة ": اشتمل كتاب الجنائز من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وعشرة أحاديث، المعلق من ذلك والمتابعة ستة وخمسون حديثا، والبقية موصولة. المكرر من ذلك فيه وفيما مضى مائة حديث وتسعة أحاديث، والخالص مائة حديث وحديث. وافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة وعشرين حديثا وهي: حديث عائشة "أقبل أبو بكر على فرسه"، وحديث أم العلاء في قصة عثمان ابن مظعون، وحديث أنس "أخذ الراية زيد فأصيب"، وحديثه "ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاثة"، وحديث عبد الرحمن بن عوف "قتل مصعب بن عمير"، وحديث سهل بن سعد "أن امرأة جاءت ببردة منسوجة"، وحديث أنس "شهدنا بنتا للنبي صلى الله عليه وسلم"، وحديث أبي سعيد "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال"، وحديث ابن عباس في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، وحديث جابر في قصة قتلى أحد "زملوهم بدمائهم"، وحديثه في قصة استشهاد أبيه ودفنه، وحديث صفية بنت شيبة في تحريم مكة، وحديث أنس في قصة الغلام اليهودي، وحديث ابن عباس "كنت أنا وأمي من المستضعفين" وقد وهم المزي تبعا لأبي مسعود في جعله من المتفق، وقد تعقبه الحميدي على أبي مسعود فأجاد، وحديث أبي هريرة الذي يخنق نفسه كما أوضحته فيما مضى، وحديث عمر "أيما مسلم شهد له أربعة بخير"، وحديث بنت خالد بن سعيد في التعوذ، وحديث البراء لما توفي إبراهيم، وحديث سمرة في الرؤيا بطوله لكن عند مسلم طرف يسير من أوله، وحديث عائشة "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين"، وحديثها في وصيتها أن لا تدفن معهم، وحديث عمر في قصة وصيته عند قتله، وحديث عائشة "لا تسبوا الأموات"، وحديث ابن عباس في قول أبي لهب. وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم ثمانية وأربعون أثرا، منها ستة موصولة، والبقية معلقة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(3/260)


كتاب الزكاة
باب وجوب الزكاة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
22 - كتاب الزكاة
1 - باب وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة 43, 83, 110] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ"
1395 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ"
[الحديث 1395
أطرافه في: 1458, 1496, 2448, 4347, 7372]
1396 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ مَا لَهُ مَا لَهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَرَبٌ مَا لَهُ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ"
وَقَالَ بَهْزٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو
[الحديث 1396
طرفاه في: 5982, 5983]
1397 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا فَلَمَّا وَلَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا"
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
1398 - حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

(3/261)


يَقُولُ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ وَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَعَقَدَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَقَالَ سُلَيْمَانُ وَأَبُو النُّعْمَانِ عَنْ حَمَّادٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ"
1399 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"
[الحديث 1399
أطرافه في: 1457, 6924, 7284]
1400
"فَقَالَ وَاللَّهِ لاَقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ"
[الحديث 1400
أطرافه في: 1456, 6925, 7285]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الزكاة" البسملة ثابتة في الأصل ولأكثر الرواة "باب" بدل كتاب، وسقط ذلك لأبي ذر فلم يقل باب ولا كتاب، وفي بعض النسخ "كتاب الزكاة - باب وجوب الزكاة". والزكاة في اللغة النماء، يقال زكا الزرع إذا نما، وترد أيضا في المال، وترد أيضا بمعنى التطهير. وشرعا بالاعتبارين معا: أما بالأول فلأن إخراجها سبب للنماء في المال، أو بمعنى أن الأجر بسببها يكثر، أو بمعنى أن متعلقها الأموال ذات النماء كالتجارة والزراعة. ودليل الأول "ما نقص مال من صدقة" ولأنها يضاعف ثوابها كما جاء "أن الله يربي الصدقة". وأما بالثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، وتطهير من الذنوب. وهي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها كما تقدم في كتاب الإيمان. وقال ابن العربي: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والحق والعفو. وتعريفها في الشرع. إعطاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير ونحوه غير هاشمي ولا مطلبي. ثم لها ركن وهو الإخلاص، وشرط هو السبب وهو ملك النصاب الحولي، وشرط من تجب عليه وهو العقل والبلوغ والحرية. ولها حكم وهو سقوط الواجب في الدنيا وحصول الثواب في الأخرى. وحكمة وهي التطهير من الأدناس ورفع الدرجة واسترقاق الأحرار انتهى. وهو جيد لكن في شرط من تجب عليه اختلاف. والزكاة أمر مقطوع به في الشرع يستغني عن تكلف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في فروعه، وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر. وإنما ترجم المصنف بذلك على عادته في إيراد الأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف

(3/262)


فيها. قوله: "وقول الله" هو بالرفع. قال الزين بن المنير. مبتدأ وخبره محذوف أي هو دليل على ما قلناه من الوجوب. ثم أورد المصنف في الباب ستة أحاديث: أولها حديث أبي سفيان هو ابن حرب، الطويل في قصة هرقل، أورده هنا معلقا واقتصر منه على قوله: "يأمر بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف"، ودلالته على الوجوب ظاهرة. وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في بدء الوحي. حديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، ودلالته على وجوب الزكاة أوضح من الذي قبله. وسيأتي الكلام عليه في أواخر كتاب الزكاة قبل أبواب صدقة الفطر بستة أبواب، وقوله في أوله "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال ادعهم" هكذا أورده في التوحيد مختصرا في أوله واختصر أيضا من آخره، وأورده في التوحيد عن أبي عاصم مثله لكنه قرنه برواية غيره، وقد أخرجه الدارمي في مسنده عن أبي عاصم ولفظه في أوله "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فادعهم " وفي آخره بعد قوله فقرائهم " فإن هم أطاعوا لك في ذلك فإياك وكرائم أموالهم، وإياك ودعوة المظلوم فإنها ليس لها من دون الله حجاب" وكذا قال في المواضع كلها "فإن أطاعوا لك في ذلك" والذي عند البخاري هنا " فإن هم أطاعوا لذلك" وستأتي هذه الزيادة من وجه آخر مع شرحها إن شاء الله تعالى. حديث أبي أيوب في سؤال الرجل عن العمل الذي يدخل به الجنة، وأجيب عنه بأن " تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم" ، وفي دلالته على الوجوب غموض. وقد أجيب عنه بأجوبة: أحدها أن سؤاله عن العمل الذي يدخل الجنة يقتضي أن لا يجاب بالنوافل قبل الفرائض فتحمل على الزكاة الواجبة. ثاني الأجوبة أن الزكاة قرينة الصلاة كما سيأتي في الباب من قول أبي بكر الصديق، وقد قرن بينهما في الذكر هنا. ثالثها أنه وقف دخول الجنة على أعمال من جملتها أداء الزكاة، فيلزم أن من لم يعملها لم يدخل، ومن لم يدخل الجنة دخل النار، وذلك يقتضي الوجوب. رابعها أنه أشار إلى أن القصة التي في حديث أبي أيوب والقصة التي في حديث أبي هريرة الذي يعقبه واحدة، فأراد أن يفسر الأول بالثاني لقوله فيه: "وتؤدي الزكاة المفروضة" وهذا أحسن الأجوبة. وقد أكثر المصنف من استعمال هذه الطريقة. وأما حديث أبي أيوب فقوله فيه: "عن ابن عثمان" الإبهام فيه من الراوي عن شعبة، وذلك أن اسم هذا الرجل عمرو، وكان شعبة يسميه محمدا، وكان الحذاق من أصحابه يهمونه كما وقع في رواية حفص بن عمرو كما سيأتي في الأدب عن أبي الوليد عن شعبة، وكان بعضهم يقول محمد كما قال شعبة، وبيان ذلك في طريق بهز التي علقها المصنف هنا ووصله في كتاب الأدب الآتي عن عبد الرحمن بن بشير عن بهز بن أسد، وكذا أخرجه مسلم والنسائي من طريق بهز. قوله: "عن موسى بن طلحة عن أبي أيوب" هو الأنصاري. ووقع في رواية مسلم الآتي ذكرها "حدثنا موسى بن طلحة حدثني أبو أيوب". قوله: "أن رجلا" هذا الرجل حكى ابن قتيبة في "غريب الحديث: "له أنه أبو أيوب الراوي، وغلطه بعضهم في ذلك فقال. إنما هو راوي الحديث. وفي التغليط نظر، إذ لا مانع أن يبهم الراوي نفسه لغرض له، ولا يقال يبعد، لوصفه في رواية أبي هريرة التي بعد هذه بكونه أعرابيا، لأنا نقول: لا مانع من تعدد القصة فيكون السائل في حديث أبي أيوب هو نفسه لقوله إن رجلا، والسائل في حديث أبي هريرة

(3/263)


أعرابي آخر قد سمي فيما رواه البغوي وابن السكن والطبراني في الكبير أبو مسلم الكجي في السنن من طريق محمد بن جحادة وغيره عن المغيرة بن عبد الله اليشكري أن أباه حدثه قال: "انطلقت إلى الكوفة فدخلت المسجد، فإذا رجل من قيس يقال له ابن المنتفق وهو يقول: وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبته فلقيته بعرفات، فزاحمت عليه، فقيل لي إليك عنه، فقال. دعوا الرجل، أرب ما له. قال فزاحمت عليه حتى خلصت إليه فأخذت بخطام راحلته فما غير علي، قال شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟ قال فنظر إلى السماء ثم أقبل علي بوجهه الكريم فقال: لئن كنت أوجزت المسألة لقد أعظمت وطولت فاعقل علي، اعبد الله لا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان" . وأخرجه البخاري في "التاريخ" من طريق يونس بن أبي إسحاق عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن أبيه قال: "غدوت فإذا رجل يحدثهم". قال وقال جرير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن المغيرة بن عبد الله قال: "سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم" ثم ذكر الاختلاف فيه عن الأعمش وأن بعضهم قال فيه عن المغيرة بن سعد بن الأخرم عن أبيه والصواب المغيرة بن عبد الله اليشكري. وزعم الصيرفي أن اسم ابن المنتفق هذا لقيط بن صبرة وافد بني المنتفق، فالله أعلم. وقد يؤخذ من هذه الرواية أن السائل في حديث أبي هريرة هو السائل في حديث أبي أيوب لأن سياقه شبيه بالقصة التي ذكرها أبو هريرة لكن قوله في هذه الرواية: "أرب ما له" في رواية أبي أيوب دون أبي هريرة، وكذا حديث أبي أيوب وقع عند مسلم من رواية عبد الله بن نمير عن عمرو بن عثمان بلفظ: "أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته ثم قال: يا رسول الله، أخبرني" فذكره. وهذا شبيه بقصة سؤال ابن المنتفق. وأيضا فأبو أيوب لا يقول عن نفسه "أن أعرابيا" والله أعلم. وقد وقع نحو هذا السؤال لصخر بن القعقاع الباهلي، ففي حديث الطبراني أيضا من طريق قزعة بن سويد الباهلي "حدثني أبي حدثني خالي واسمه صخر بن القعقاع قال: لقيت النبي صلى الله عليه وسلم بين عرفة ومزدلفة، فأخذت بخطام ناقته فقلت: يا رسول الله ما يقربني من الجنة ويباعدني من النار" فذكر الحديث وإسناده حصن. قوله: "قال ما له ما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرب ما له" كذا في هذه الرواية لم يذكر فاعل قال ما له ما له. وفي رواية بهز المعلقة هنا الموصولة في كتاب الأدب" قال القوم ما له ما له "قال ابن بطال: هو استفهام والتكرار للتأكيد. وقوله: "أرب" بفتح الهمزة والراء منونا أي حاجة، وهو مبتدأ وخبره محذوف، استفهم أولا ثم رجع إلى نفسه فقال: "له أرب" انتهى، وهذا بناء على أن فاعل قال النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك لما بيناه، بل المستفهم الصحابة والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم. وما زائدة كأنه قال: له حاجة ما. وقال ابن الجوزي: المعنى له حاجة مهمة مفيدة جاءت به لأنه قد علم بالسؤال أن له حاجة. وروي بكسر الراء وفتح الموحدة بلفظ الفعل الماضي، وظاهره الدعاء والمعنى التعجب من السائل. وقال النضر بن شميل: يقال أرب الرجل في الأمر إذا بلغ فيه جهده. وقال الأصمعي: أرب في الشيء صار ماهرا فيه فهو أريب، وكأنه تعجب من حسن فطنته والتهدي إلى موضع حاجته. ويؤيده قوله في رواية مسلم المشار إليها "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد وفق، ولقد هدي" وقال ابن قتيبة: قوله: "أرب" من الآراب وهي الأعضاء، أي سقطت أعضاؤه وأصيب بها كما يقال تربت يمينك وهو مما جاء بصيغة الدعاء ولا يراد حقيقته. وقيل: لما رأى الرجل يزاحمه دعا عليه، لكن دعاءه على المؤمن طهر له كما ثبت في الصحيح. وروى بفتح أوله وكسر الراء والتنوين أي هو أرب أي حاذق فطن. ولم أقف على صحة هذه الرواية. وجزم الكرماني بأنها ليست محفوظة. وحكى القاضي عن

(3/264)


رواية لأبي ذر أرب بفتح الجميع وقال: لا وجه له، قلت: وقعت في الأدب من طريق الكشميهني وحده. وقوله: "يدخلني الجنة" بضم اللام والجملة في موضع جر صفة لقوله: "بعمل" ويجوز الجزم جوابا للأمر. ورده بعض شراح "المصابيح "لأن قوله بعمل يصير غير موصوف مع أنه نكرة فلا يفيد. وأجيب بأنه موصوف تقديرا لأن التنكير للتعظيم فأفاد ولأن جزاء الشرط محذوف والتقدير إن عملته يدخلني. قوله: "وتصل الرحم" أي تواسي ذوي القرابة في الخيرات. وقال النووي: معناه أن تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من إنفاق أو سلام أو زيارة أو طاعة أو غير ذلك. وخص هذه الخصلة من بين خلاله الخير نظرا إلى حال السائل، كأنه كان لا يصل رحمه فأمره به لأنه المهم بالنسبة إليه. ويؤخذ منه تخصيص بعض الأعمال بالحض عليها بحسب حال المخاطب وافتقاره للتنبيه عليها أكثر مما سواها إما لمشقتها عليه وإما لتسهيله في أمرها. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، إنما هو عمرو" وجزم في "التاريخ" بذلك، وكذا قال مسلم في شيوخ شعبة، والدارقطني في "العلل" وآخرون: المحفوظ عمرو بن عثمان. وقال النووي: اتفقوا على أنه وهم من شعبة، وأن الصواب عمرو والله أعلم. حديث أبي هريرة قد تقدم الكلام عليه في كون الأعرابي السائل فيه هل هو السائل في حديث أبي أيوب أو لا، والأعرابي بفتح الهمزة من سكن البادية كما تقدم. قوله: "عن يحيى بن سعيد بن حيان عن أبي زرعة" قال أبو علي: وقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني هنا عن يحيى بن سعيد بن أبي حيان أو عن يحيى بن سعيد عن أبي حيان، وهو خطأ إنما هو يحيى بن سعيد بن حيان كما لغيره من الرواة. قوله: " وتقيم الصلاة المكتوية وتؤدي الزكاة المفروضة" قيل. فرق بين القيدين كراهية لتكرير اللفظ الواحد، وقيل: عبر في الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة التطوع فإنها زكاة لغوية، وقيل: احترز من الزكاة المعجلة قبل الحول فإنها زكاة وليست مفروضة. قوله فيه "وتصوم رمضان" لم يذكر الحج لأنه كان حينئذ حاجا ولعله ذكره له فاختصره. قوله: "قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا" زاد مسلم عن أبي بكر بن إسحاق عن عفان بهذا السند "شيئا أبدا، ولا أنقض منه" وباقي الحديث مثله. وظاهر قوله: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" إما أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك فأخبر به، أو في الكلام حذف تقديره إن دام على فعل ذلك الذي أمر به. ويؤيده قوله في حديث أبي أيوب عند مسلم أيضا: " إن تمسك بما أمر به دخل الجنة "قال القرطبي: في هذا الحديث -وكذا حديث طلحة في قصة الأعرابي وغيرهما- دلالة على جواز ترك التطوعات، لكن من داوم على ترك السنن كان نقصا في دينه، فإن كان تركها تهاونا بها ورغبة عنها كان ذلك فسقا، يعني لورود الوعيد عليه حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" وقد كان صدر الصحابة ومن تبعهم يواظبون على السنن مواظبتهم على الفرائض، ولا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابهما. وإنما احتاج الفقهاء إلى التفرقة لما يترتب عليه من وجوب الإعادة وتركها ووجوب العقاب على الترك ونفيه، ولعل أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحال لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهلت عليهم انتهى. وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في شرح حديث طلحة في كتاب الإيمان. قوله: "حدثنا مسدد عن يحيى" هو القطان. قوله: "عن أبي حيان" هو يحيى بن سعيد بن حيان المذكور في الإسناد الذي قبله. وأفادت هذه الرواية تصريح أبي حيان بسماعه

(3/265)


له من أبي زرعة، وبطل التردد وقع عند الجرجاني، لكن لم يذكر يحيى القطان في هذا الإسناد أبا هريرة كما هو في رواية أبي ذر وغيرها من الروايات المعتمدة، وثبت ذكره في بعض الروايات، وهو خطأ فقد ذكر الدارقطني في "التتبع "أن رواية القطان مرسلة كما تقدم ذلك في المقدمة. حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس فقد تقدم الكلام عليه مستوفى في أواخر كتاب الإيمان. وحجاج شيخ البخاري هنا هو ابن منهال. قوله: "وقال سليمان وأبو النعمان عن حماد" يعني ابن زيد بالإسناد المذكور في طريق حجاج "الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله" أي وافقا حجاجا على سياقه إلا في إثبات الواو في قوله: "وشهادة أن لا إله إلا الله "فحذفاها وهو أصوب، فأما سليمان فهو ابن حرب، وقد وصل المصنف حديثه هذا عنه في المغازي. وأما أبو النعمان فهو محمد بن الفضل. وقد وصل المصنف حديثه هذا عنه في الخمس. حديث أبي هريرة في قصة أبي بكر في قتال مانعي الزكاة، واحتجاجه في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن عصمة النفس والمال تتوقف على أداء الحق، وحق المال الزكاة". حديث أبي هريرة في قصة أبي بكر في قتال مانعي الزكاة فقد تقدم الكلام عليه في شرح حديث ابن عمر في باب قوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة" ويأتي الكلام على بقية ما يختص به في كتاب أحكام المرتدين إن شاء الله. قوله في هذه الرواية: "لما توفي رسوله الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر" "كان" تامة بمعنى حصل والمراد به قام مقامه. "تكميل": اختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثر إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان أشار إليه النووي في باب السير من الروضة، وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك كان في التاسعة، وفيه نظر فقد تقدم في حديث ضمام بن ثعلبة وفي حديث وفد عبد القيس وفي عدة أحاديث ذكر الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكانت في أول السابعة وقال فيهما "يأمرنا بالزكاة "لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام. وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها "لا أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاملا فقال ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية". والجزية إنما وجبت في التاسعة فتكون الزكاة في التاسعة، لكنه حديث ضعيف لا يحتج به. وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة وفيها أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" انتهى، وفي استدلاله بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من قصة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: "يأمرنا" بمعنى يأمر به أمته، وهو بعيد جدا، وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا -إن سلم من قدح في إسناده- أن المراد بقوله: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" أي في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام رمضان ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول والله أعلم. ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس المتقدم في العلم في قصة ضمام بن ثعلبة وقوله: "أنشدك الله. آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا" وكان قدوم ضمام سنة خمس كما تقدم. وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعي تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك. ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة أيضا والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة

(3/266)


الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله" إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا أبا عمار الراوي له عن قيس بن سعد وهو كوفي اسمه عريب بالمهملة المفتوحة ابن حميد وقد وثقه أحمد وابن معين، وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان وذلك بعد الهجرة وهو المطلوب. ووقع في "تاريخ الإسلام": في السنة الأولى فرضت الزكاة، وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث أم سلمة المذكور من طريق "المغازي لابن إسحاق" من رواية يونس بن بكير عنه وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من حديث ابن إسحاق لكن من طريق سلمة بن الفضل عنه، وفي سلمة مقال. والله أعلم.

(3/267)


2 - باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [11 التوبة]
1401 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"
قوله: "باب البيعة على إيتاء الزكاة" قال الزين بن المنير: هذه الترجمة أخص من التي قبلها، لتضمنها أن بيعة الإسلام لا تتم إلا بالتزام إيتاء الزكاة وأن مانعها ناقض لعهده مبطل لبيعته فهو أخص من الإيجاب لأن كل ما تضمنته بيعة النبي صلى الله عليه وسلم واجب وليس كل واجب تضمنته بيعته، وموضع التخصيص الاهتمام والاعتناء بالذكر حال البيعة. قال: وأتبع المصنف الترجمة بالآية معتضدا بحكمها لأنها تضمنت أنه لا يدخل في التوبة من الكفر وينال أخوة المؤمنين في الدين إلا من أقام الصلاة وآتى الزكاة انتهى. تقدم الكلام على حديث جرير مستوفى في آخر كتاب الإيمان.

(3/267)


3 - باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [34-35 التوبة] {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
1402 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَأْتِي الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَقَالَ وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ قَالَ وَلاَ يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ وَلاَ يَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ"
[الحديث 1402
أطرافه في: 2378, 3073, 9658]

(3/267)


4 - باب مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ"
1404 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأَمْوَالِ"
[الحديث 1404
طرفه في: 4661]
1405 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"
[الحديث 1405
أطرافه في: 1447, 1459, 1484]
1406 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ سَمِعَ هُشَيْمًا أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ "مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا قَالَ كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ اقْدَمْ الْمَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ"
[الحديث 1406
طرفه في: 466]
1407 - حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ عَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ جَلَسْتُ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلاَءِ بْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ "جَلَسْتُ إِلَى مَلإ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ

(3/271)


وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لاَ أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ لاَ أُرَى الْقَوْمَ إِلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ قَالَ إِنَّهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا"
1408 - قَالَ لِي خَلِيلِي قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ" وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لاَ وَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ"
قوله: "باب ما أدي زكاته فليس بكنز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" قال ابن بطال وغيره: وجه استدلال البخاري بهذا الحديث للترجمة أن الكنز المنفي هو المتوعد عليه الموجب لصاحبه النار لا مطلق الكنز الذي هو أعم من ذلك، وإذا تقرر ذلك فحديث: "لا صدقة فيما دون خمس أواق" مفهومه أن ما زاد على الخمس ففيه الصدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا. وقال ابن رشيد: وجه التمسك به أن ما دون الخمس وهو الذي لا تجب فيه الزكاة قد عفي عن الحق فيه فليس بكنز قطعا، والله قد أثنى على فاعل الزكاة، ومن أثني عليه في واجب حق المال لم يلحقه ذم من جهة ما أثني عليه فيه وهو المال. انتهى. ويتلخص أن يقال: ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزا لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك لأنه عفي عنه بإخراج ما وجب عنه فلا يسمى كنزا. ثم إن لفظ الترجمة لفظ حديث روي مرفوعا وموقوفا عن ابن عمر أخرجه مالك عن عبد الله بن دينار عنه موقوفا، وكذا أخرجه الشافعي عنه، ووصله البيهقي والطبراني من طريق الثوري عن عبد الله بن دينار وقال: إنه ليس بمحفوظ. وأخرجه البيهقي أيضا من رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "كل ما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض" أورده مرفوعا ثم قال: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بالكنز معناه الشرعي. وفي الباب عن جابر أخرجه الحاكم بلفظ: "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره" ورجح أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقفه كما عند البزار. وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي بلفظ: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك" وقال: حسن غريب، وصححه الحاكم، وهو على شرط ابن حبان. وعن أم سلمة عند الحاكم وصححه ابن القطان أيضا وأخرجه أبو داود. وقال ابن عبد البر: في سنده مقال. وذكر شيخنا1 في "شرح الترمذي" أن سنده جيد.
ـــــــ
1 هو الحافظ العراقي. ولفظه عند أبي داود "عن أم سلمة أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب فقالت: يارسول الله, أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي, فليس بكنز". اهـ وسنده جيد كما قال العراقي. وهوحجة ظاهرة على أن الكنز المتوعد عليه بالعذاب هو المال الذي لا تؤدى زكاته. والله أعلم

(3/272)


وعن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا بلفظ الترجمة، وأخرجه أبو داود مرفوعا بلفظ: "أن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم" وفيه قصة. قال ابن عبد البر: والجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته. ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك" فذكر بعض ما تقدم من الطرق ثم قال: ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر، وسيأتي شرح ما ذهب إليه من ذلك في هذا الباب. قوله: "وقال أحمد بن شبيب" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "حدثنا أحمد" وقد وصله أبو داود في "كتاب الناسخ والمنسوخ" عن محمد بن يحيى وهو الذهلي، عن أحمد بن شبيب بإسناده. ووقع لنا بعلو في جزء الذهلي وسياقه أتم مما في البخاري وزاد فيه سؤال الأعرابي "أترث العمة؟ قال ابن عمر: لا أدري. فلما أدبر قبل ابن عمر يديه1 ثم قال: نعم ما قال أبو عبد الرحمن - يعني نفسه - سئل عما لا يدري فقال: لا أدري. وزاد في آخره - بعد قوله: طهرة للأموال - ثم التفت إلي فقال: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى" وهو عند ابن ماجه من طريق عقيل عن الزهري. قوله: "من كنزها فلم يؤد زكاتها" أفرد الضمير إما على سبيل تأويل الأموال، أو عودا إلى الفضة لأن الانتفاع بها أكثر أو كان وجودها في زمنهم أكثر من الذهب، أو على الاكتفاء ببيان حالها عن بيان حال الذهب، والحامل على ذلك رعاية لفظ القرآن حيث قال: {يُنْفِقُونَهَا} قال صاحب الكشاف: أفرد ذهابا إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد منهما جملة وافية. وقيل: المعنى ولا ينفقونها، والذهب كذلك، وهو كقول الشاعر وإني وقيار بها لغريب أي وقيار كذلك. قوله: "إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة" هذا مشعر بأن الوعيد على الاكتناز -وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به- كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح وقدرت نصب الزكاة، فعلى هذا المراد بنزول الزكاة بيان نصبها ومقاديرها لا إنزال أصلها. والله أعلم. وقال ابن عمر "لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا" كأنه يشير إلى قول أبي ذر الآتي آخر الباب. والجمع بين كلام ابن عمر وحديث أبي ذر أن يحمل حديث أبي ذر على مال تحت يد الشخص لغيره فلا يجب أن يحبسه عنه، أو يكون له لكنه ممن يرجى فضله وتطلب عائدته كالإمام الأعظم فلا يجب أن يدخر عن المحتاجين من رعيته شيئا، ويحمل حديث ابن عمر على مال يملكه قد أدى زكاته فهو يحب أن يكون عنده ليصل به قرابته ويستغني به عن مسألة الناس، وكان أبو ذر يحمل الحديث على إطلاقه فلا يرى بادخار شيء أصلا. قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال: "هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع" انتهى. والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر، وقد استدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي ما فضل عن الكفاية، فكان ذلك واجبا في أول الأمر ثم نسخ. والله أعلم. وفي المسند من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال: "كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة ويتعلق بالأمر الأول" ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث أبي سعيد في تقدير نصب زكاة الورق
ـــــــ
1 في المخطوطة "يده"

(3/273)


وغيره. قوله: "أخبرني يحيى بن أبي كثير" تعقبه الدارقطني وأبو مسعود بأن عبد الوهاب بن نجدة خالف إسحاق بن يزيد شيخ البخاري فيه فقال: "عن شعيب عن الأوزاعي حدثني يحيى بن سعيد وحماد" ورواه داود بن رشيد وهشام بن خالد جميعا عن شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى غير منسوب وقال: "الوليد بن مسلم رواه عن الأوزاعي عن عبد الرحمن بن اليمان عن يحيى بن سعيد. وقال الإسماعيلي: هذا الحديث مشهور عن يحيى بن سعيد رواه عنه الخلق، وقد رواه داود بن رشيد عن شعيب فقال: "عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد" انتهى. وقد تابع إسحاق بن يزيد سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن شعيب بن إسحاق أخرجه أبو عوانة والإسماعيلي من طريقه، وذلك دال على أنه عند شعيب عن الأوزاعي على الوجهين، لكن دلت رواية الوليد بن مسلم على أن رواية الأوزاعي عن يحيى بن سعيد بغير واسطة موهومة أو مدلسة، ولذلك عدل عنها البخاري واقتصر على طريق يحيى بن أبي كثير. والله أعلم. قوله: "عن أبيه يحيى بن عمارة" في رواية يحيى بن سعيد عن عمرو أنه سمع أباه، وسيأتي الكلام عليه مستوفى بعد بضعة وعشرين بابا. ثانيها حديث أبي ذر مع معاوية. قوله: "حدثنا علي سمع هشيما" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن مشايخه "حدثنا علي بن أبي هاشم" وهو المعروف بابن طبراخ بكسر المهملة وسكون الموحدة وآخره معجمة، ووقع في "أطراف المزي" عن علي بن عبد الله المديني وهو خطأ. قوله: "عن زيد بن وهب" هو التابعي الكبير الكوفي أحد المخضرمين. قوله: "بالربذة" بفتح الراء والموحدة والمعجمة مكان معروف بين مكة والمدينة، نزل به أبو ذر في عهد عثمان ومات به، وقد ذكر في هذا الحديث سبب نزوله، وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر، وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره. نعم أمره عثمان بالتنحي عن المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور فاختار الربذة، وقد كان يغدو إليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر عنه، وفيه قصة له في التيمم. وروينا في فوائد أبي الحسن بن جذلم بإسناده إلى عبد الله بن الصامت قال: "دخلت مع أبي ذر على عثمان، فحسر عن رأسه فقال: والله ما أنا منهم يعني الخوارج. فقال. إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة. فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالربذة. قال: نعم". ورواه أبو داود الطيالسي من هذا الوجه دون آخره وقال بعد قوله ما أنا منهم "ولا أدركهم، سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت" وفي "طبقات ابن سعد" من وجه آخر "أن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية - يعني فنقاتله - فقال: لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت". قوله: "كنت بالشام" يعني بدمشق، ومعاوية إذ ذاك عامل عثمان عليها. وقد بين السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى من طريق أخرى عن زيد بن وهب "حدثني أبو ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ البناء - أي بالمدينة سلعا ترتحل إلى الشام. فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام فسكنت بها" فذكر الحديث نحوه. وعنده أيضا بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس قال: "استأذن أبو ذر على عثمان فقال. إنه يؤذينا، فلما دخل قال له عثمان: أنت الذي تزعم أنك خير من أبي بكر وعمر؟ قال. لا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أحبكم إلي وأقربكم مني من بقي على العهد الذي عاهدته عليه، وأنا باق على عهده" . قال فأمر أن يلحق بالشام. وكان يحدثهم ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم، فكتب معاوية إلى عثمان:

(3/274)


إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر. فكتب إليه عثمان أن اقدم علي، فقدم. قوله: "في والذين يكنزون الذهب والفضة" سيأتي في تفسير براءة من طريق جرير عن حصين بلفظ: "فقرأت والذين يكنزون الذهب والفضة" إلى آخر الآية. قوله: "نزلت في أهل الكتاب" في رواية جرير "ما هذه فينا". قوله: "فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني" في رواية الطبري. أنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، قال فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام. قوله: "إن شئت تنحيت" في رواية الطبري "فقال له تنح قربيا. وقال: والله لن أدع ما كنت أقوله" وكذا لابن مردويه من طريق ورقاء عن حصين بلفظ: "والله لا أدع ما قلت". قوله: "حبشيا" في رواية ورقاء "عبدا حبشيا "ولأحمد وأبي يعلى من طريق أبي حرب بن أبي الأسود عن عمه عن أبي ذر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ أي المسجد النبوي، قال: آتي الشام. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قال. أعود إليه. أي المسجد. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: أضرب بسيفي. قال: أدلك1 على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشدا، قال: تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك". وعند أحمد أيضا من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن أبي ذر نحوه، والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقبه النووي بالإبطال. لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وهؤلاء لم يخونوا. قلت. لقوله محمل. وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذ من يفعله. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لاتفاق أبي ذر ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب. وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه حتى كاتب من هو أعلى منه في أمره، وعثمان لم يحنق على أبي ذر مع كونه كان مخالفا له في تأويله. وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة، وجواز الاختلاف في الاجتهاد، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى ذلك إلى فراق الوطن، وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه لأن كلا منهما كان مجتهدا. قوله: "حدثنا عياش" هو ابن الوليد الرقام، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، والجريري بضم الجيم هو سعيد، وأبو العلاء هو يزيد بن عبد الله بن الشخير. وأردف المصنف هذا الإسناد بالإسناد الذي بعده وإن كان أنزل منه لتصريح عبد الصمد وهو ابن عبد الوارث فيه بتحديث أبي العلاء للجريري، والأحنف لأبي العلاء. وقد روى الأسود بن شيبان عن أبي العلاء يزيد المذكور عن أخيه مطرف عن أبي ذر طرفا من آخر هذا الحديث أيضا، وأخرجه أحمد، وليس ذلك بعلة لحديث الأحنف لأن حديث الأحنف أتم سياقا وأكثر فوائد، ولا مانع أن يكون ليزيد فيه شيخان. قوله: "جلست إلى ملأ" في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق إسماعيل بن علية عن الجريري "قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة من قريش". قوله: "خشن الشعر إلخ" كذا للأكثر بمعجمتين من الخشونة، وللقابسي بمهملتين من الحسن، والأول أصح. ووقع في رواية مسلم: "أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام عليهم" وليعقوب بن سفيان من طريق حميد بن هلال عن الأحنف "قدمت
ـــــــ
1 في المخطوطة "ألا أدلك"

(3/275)


المدينة فدخلت مسجدها إذ دخل رجل آدم طوال أبيض الرأس واللحية يشبه بعضه بعضا فقالوا. هذا أبو ذر". قوله: "بشر الكانزين" في رواية الإسماعيلي: "بشر الكنازين". قوله: "برضف" بفتح الراء وسكون المعجمة بعدها فاء هي الحجارة المحماة واحدها رضفة. قوله: "نغض" بضم النون وسكون المعجمة بعدها ضاد معجمة: العظم الدقيق الذي على طرف الكتف أو على أعلى الكتف، قال الخطابي: هو الشاخص منه، وأصل النغض الحركة فسمي ذلك الموضع نغضا لأنه يتحرك بحركة الإنسان. قوله: "يتزلزل" أي يضطرب ويتحرك، في رواية الإسماعيلي: "فيتجلجل" بجيمين، وزاد إسماعيل في هذه الرواية: "فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا. قال: فأدبر، فاتبعته حتى جلس إلى سارية". قوله: "وأنا لا أدري من هو" زاد مسلم من طريق خليد العصري عن الأحنف "فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، فقمت إليه فقلت: ما شيء سمعتك تقوله؟ قال: ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم". وفي هذه الزيادة رد لقول من قال إنه موقوف على أبي ذر فلا يكون حجة على غيره. ولأحمد من طريق يزيد الباهلي عن الأحنف "كنت بالمدينة، فإذا أنا برجل يفر منه الناس حين يرونه، قلت: من أنت؟ قال: أبو ذر. قلت: ما نفر الناس عنك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز التي كان ينهاهم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "إنهم لا يعقلون شيئا" بين وجه ذلك في آخر الحديث حيث قال: "إنما يجمعون الدنيا". وقوله: "لا أسألهم دنيا" في رواية إسماعيل المذكورة "فقلت: ما لك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم ولا تصيب منهم؟ قال: وربك لا أسألهم دنيا إلخ". قوله: "قلت: ومن خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم" فاعل قال هو أبو ذر والنبي صلى الله عليه وسلم خبر المبتدأ كأنه قال: خليلي النبي صلى الله عليه وسلم وسقط بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال فقط، وكأن بعض الرواة ظنها مكررة فحذفها ولا بد من إثباتها. قوله: " يا أبا ذر أتبصر أحدا" وهو حديث مستقل سيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الرقاق. وعلى ما وقع في هذه الرواية من قوله: "إلا ثلاثة دنانير " إن شاء الله تعالى. وإنما أورده أبو ذر للأحنف لتقوية ما ذهب إليه من ذم اكتناز المال، وهو ظاهر في ذلك إلا أنه ليس على الوجوب، ومن ثم عقبه المصنف بالترجمة التي تليه. قوله: "وإن هؤلاء لا يعقلون" هو من كلام أبي ذر كرره تأكيدا لكلامه ولربط ما بعده عليه.

(3/276)


5 - باب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي حَقِّهِ
1409 - حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس عن بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا حسد لا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها"
" باب إنفاق المال في حقه"، وأورد فيه الحديث الدال على الترغيب في ذلك، وهو من أدل دليل على أن أحاديث الوعيد محمولة على من لا يؤدي الزكاة، وأما حديث: "ما أحب أن لي أحدا ذهبا" فمحمول على الأولوية، لأن جمع المال وإن كان مباحا لكن الجامع مسؤول عنه، وفي المحاسبة خطر وإن كان الترك أسلم، وما ورد من الترغيب في تحصيله وإنفاقه في حقه فمحمول على من وثق بأنه يجمعه من الحلال الذي يأمن خطر المحاسبة عليه، فإنه إذا أنفقه حصل له ثواب ذلك النفع المتعدي، ولا يتأتى ذلك لمن لم يحصل شيئا كما تقدم شاهده في حديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور" والله أعلم. وقد تقدم الكلام على حديث الباب مستوفى في أوائل كتاب العلم، قال الزين بن

(3/276)


المنير: في هذا الحديث حجة على جواز إنفاق جميع المال وبذله في الصحة والخروج عنه بالكلية في وجوه البر، ما لم يؤد إلى حرمان الوارث ونحو ذلك مما منع منه الشرع. قوله وان هؤلاء لا يعقلون هو من كلام أبي ذر كرره تأكيدا لكلامه ولربط ما بعده عليه قوله "وان هؤلاء لا يعقلون هو من كلام أبي ذر كرره تأكيدا لكلامه ولربط ما بعده عليه

(3/277)


6 - باب الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ لِقَوْلِهِ [264 البقرة]:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} - إلى قوله - {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {صَلْدًا} لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ {وَابِلٌ} مَطَرٌ شَدِيدٌ وَالطَّلُّ النَّدَى
قوله: "باب الرياء في الصدقة" قال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون مراده إبطال الرياء للصدقة فيحمل على ما تمحض منها لحب المحمدة والثناء من الخلق بحيث لولا ذلك لم يتصدق بها. قوله: "لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} - إلى قوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} " قال الزين بن المنير: وجه الاستدلال من الآية أن الله تعالى شبه مقارنة المن والأذى للصدقة أو اتباعها بإنفاق الكافر المرائي الذي لا يجد بين يديه شيئا منه، ومقارنة الرياء من المسلم لصدقته أقبح من مقارنة الإيذاء، وأولى أن يشبه بإنفاق الكافر المرائي في إبطال إنفاقه اه. وقال ابن رشيد: اقتصر البخاري في هذه الترجمة على الآية، ومراده أن المشبه بالشيء يكون أخفى من المشبه به، لأن الخفي ربما شبه بالظاهر ليخرج من حيز الخفاء إلى الظهور. ولما كان الإنفاق رياء من غير المؤمن ظاهرا في إبطال الصدقة شبه به الإبطال بالمن والأذى، أي حالة هؤلاء في الإبطال كحالة هؤلاء، هذا من حيث الجملة، ولا يبعد أن يراعى حال التفضيل أيضا لأن حال المان شبيه بحال المرائي، لأنه لما من ظهر أنه لم يقصد وجه الله، وحال المؤذي يشبه حال الفاقد للإيمان من المنافقين لأن من يعلم أن للمؤذي ناصرا ينصره لم يؤذه، فعلم بهذا أن حالة المرائي أشد من حالة المان والمؤذي انتهى. ويتلخص أن يقال: لما كان المشبه به أقوى من المشبه، وإبطال الصدقة بالمن والأذى قد شبه بإبطالها بالرياء فيها كان أمر الرياء أشد. قوله: "وقاله ابن عباس: صلدا ليس عليه شيء" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هكذا في قوله: "فتركه صلدا" أي ليس عليه شيء. وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه الآية قال: "هذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ كما ترك هذا المطر الصفا نقيا ليس عليه شيء"، ومن طريق أسباط عن السدي نحوه.

(3/277)


باب لايقبل الله صدقة من غلول ولا يفبل إلا من كسب طيب
...
7 - باب لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلاَ يَقْبَلُ إِلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ [البقرة 263]:
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}

(3/277)


8 - باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ[البقرة 276-277]:

(3/277)


باب اصدقة قبل الرد
...
9 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ
1411 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهَا"
[الحديث 1411
طرفاه في: 1424,7120]
1412 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لاَ أَرَبَ لِي"
1413 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكَ إِلاَّ قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ وَأَمَّا الْعَيْلَةُ فَإِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلاَ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا فَلَيَقُولَنَّ بَلَى ثُمَّ لَيَقُولَنَّ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَلَيَقُولَنَّ بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمْ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"
[الحديث 1413
أطرافه في: 1417, 3595, 6023, 6540, 6563, 7443, 7512]
1414 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ ثُمَّ لاَ يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ"

(3/281)


قوله: "باب الصدقة قبل الرد" قال الزين بن المنير ما ملخصه: مقصوده بهذه الترجمة الحث على التحذير من التسويف بالصدقة، لما في المسارعة إليها من تحصيل النمو المذكور. قيل لأن التسويف بها قد يكون ذريعة إلى عدم القابل لها إذ لا يتم مقصود الصدقة إلا بمصادفة المحتاج إليها، وقد أخبر الصادق أنه سيقع فقد الفقراء المحتاجين إلى الصدقة بأن يخرج الغني صدقته فلا يجد من يقبلها. فإن قيل إن من أخرج صدقته مثاب على نيته ولو لم يجد من يقبلها، فالجواب أن الواجد يثاب ثواب المجازاة والفضل، والناوي يثاب ثواب الفضل فقط والأول أربح والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث في كل منها الإنذار بوقوع فقدان من يقبل الصدقة. حارثة بن وهب هو الخزاعي. قوله: " فإنه يأتي عليكم زمان " سيأتي بعد سبعة أبواب - من وجه آخر - بلفظ: "فسيأتي". قوله: "يقول الرجل" أي الذي يريد المتصدق أن يعطيه إياها. قوله: "فأما اليوم فلا حاجة لي بها" في رواية الكشميهني: "فيها"، والظاهر أن ذلك يقع في زمن كثرة المال وفيضه قرب الساعة كما قال ابن بطال، ومن ثم أورده المصنف في كتاب الفتن كما سيأتي. حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، وقد ساقه في الفتن بالإسناد المذكور هنا مطولا، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. وقوله: "حتى يهم" بفتح أوله وضم الهاء، و "رب المال" منصوب على المفعولية وفاعله قوله: " من يقبله" يقال همه الشيء أحزنه. ويروى بضم أوله يقال أهمه الأمر أقلقه. وقال النووي في شرح مسلم: ضبطوه بوجهين أشهرهما بضم أوله وكسر الهاء ورب المال مفعول والفاعل من يقبل أي يحزنه، والثاني بفتح أوله وضم الهاء ورب المال فاعل ومن مفعول أي يقصد. والله أعلم. قوله: "لا أرب لي" زاد في الفتن "به" أي لا حاجة لي به لاستغنائي عنه. حديث عدي بن حاتم، وقد أورده المصنف بأتم من هذا السياق، ويأتي الكلام عليه مستوفى. وشاهده هنا قوله فيه "فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه" وهو موافق لحديث أبي هريرة الذي قبله ومشعر بأن ذلك يكون في آخر الزمان. وحديث أبي موسى الآتي بعده مشعر بذلك أيضا، وقد أشار عدي بن حاتم - كما سيأتي في علامات النبوة - إلى أن ذلك لم يقع في زمانه وكانت وفاته في خلافة معاوية بعد استقرار أمر الفتوح، فانتفى قول من زعم أن ذلك وقع في ذلك الزمان. قال ابن التين: إنما يقع ذلك بعد نزول عيسى حين تخرج الأرض بركاتها حتى تشبع الرمانة أهل البيت ولا يبقى في الأرض كافر. ويأتي الكلام على اتقاء النار ولو بشق تمرة في الباب الذي يليه. قوله: "من الذهب" خصه بالذكر مبالغة في عدم من يقبل الصدقة، وكذا قوله يطوف ثم لا يجد من يقبلها وقوله: "ويرى الرجل إلخ" تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب رفع العلم" من كتاب العلم.

(3/282)


10 - باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنْ الصَّدَقَةِ
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ - إلى قوله: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}
1415 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا مُرَائِي وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} الْآيَةَ"

(3/282)


[الحديث 1415 أطرافه في: 1416, 2273, 4668, 4669]
1416 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ الْمُدَّ وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ"
1417 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"
1418 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: " مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ"
[الحديث 1418
طرفه في: 5995]
قوله: "باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ - إلى قوله - فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} " قال الزين بن المنير وغيره: جمع المصنف بين لفظ الخبر والآية لاشتمال ذلك كله على الحث على الصدقة قليلها وكثيرها، فإن قوله تعالى: {أَمْوَالَهُمْ} يشمل قليل النفقة وكثيرها، ويشهد له قوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس"، فإنه يتناول القليل والكثير، إذ لا قائل بحل القليل دون الكثير. وقوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة "يتناول الكثير والقليل أيضا، والآية أيضا مشتملة على قليل الصدقة وغيرها من جهة التمثيل المذكور فيها بالطل والوابل، فشبهت الصدقة بالقليل بإصابة الطل والصدقة بالكثير بإصابة الوابل. وأما ذكر القليل من الصدقة بعد ذكر شق التمرة فهو من عطف العام على الخاص، ولهذا أورد في الباب حديث أبي مسعود الذي كان سببا لنزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: تقدير الآية مثل تضعيف أجور الذين ينفقون كمثل تضعيف ثمار الجنة بالمطر، إن قليلا فقليل، وإن كثيرا فكثير. وكأن البخاري أتبع الآية الأولى التي ضربت مثلا بالربوة بالآية الثانية التي تضمنت ضرب المثل لمن عمل عملا يفقده أحوج ما كان إليه للإشارة إلى اجتناب الرياء في الصدقة، ولأن قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يشعر بالوعيد بعد الوعد، فأوضحه بذكر الآية الثانية، وكأن هذا هو السر في اقتصاره على بعضها اختصارا. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أبي مسعود ورد من وجهين تاما ومختصرا. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وأبو مسعود هو الأنصاري البدري. قوله: "لما نزلت آية الصدقة" كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية. قوله: "كنا نحامل" أي نحمل على ظهورنا بالأجرة، يقال حاملت بمعنى حملت كسافرت. وقال الخطابي: يريد نتكلف الحمل بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، ويؤيده قوله في الرواية الثانية التي بعد هذه حيث قال: "انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل" أي يطلب الحمل بالأجرة. قوله: "فجاء رجل فتصدق بشيء كثير"

(3/283)


هو عبد الرحمن بن عوف كما سيأتي في التفسير، والشيء المذكور كان ثمانية آلاف أو أربعة آلاف. قوله: "وجاء رجل" هو أبو عقيل بفتح العين كما سيأتي في التفسير، ونذكر هناك إن شاء الله تعالى الاختلاف في اسمه واسم أبيه ومن وقع له ذلك أيضا من الصحابة كأبي خيثمة، وأن الصاع إنما حصل لأبي عقيل لكونه أجر نفسه على النزح من البئر بالحبل. قوله: "فقالوا" سمي من اللامزين في "مغازي الواقدي "معتب بن قشير وعبد الرحمن بن نبتل بنون ومثناة مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام. قوله: "يلمزون" أي يعيبون، وشاهد الترجمة قوله: { وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} . قوله: "سعيد بن يحيى" أي ابن سعيد الأموي. قوله: "فيحامل" بضم التحتانية واللام مضمومة بلفظ المضارع من المفاعلة. ويروي بفتح المثناة وفتح اللام أيضا، ويؤيده قوله في رواية زائدة الآتية في التفسير "فيحتال أحدنا حتى يجيء بالمد". قوله: "فيصيب المد" أي في مقابلة أجرته فيتصدق به. قوله: "وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف" زاد في التفسير "كأنه يعرض بنفسه" وأشار بذلك إلى ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قلة الشيء، وإلى ما صاروا إليه بعده من التوسع لكثرة الفتوح، ومع ذلك فكانوا في العهد الأول يتصدقون بما يجدون ولو جهدوا، والذين أشار إليهم آخرا بخلاف ذلك. "تنبيه": وقع بخط مغلطاي في شرحه "وإن لبعضهم اليوم ثمانية آلاف" وهو تصحيف. عدي بن حاتم وهو بلفظ الترجمة، وهو طرف من حديثه المذكور في الباب الذي قبله، و "بشق" بكسر المعجمة نصفها أو جانبها، أي ولو كان الاتقاء بالتصدق بشق تمرة واحدة فإنه يفيد. وفي الطبراني من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا: " اجعلوا بينكم وبين النار حجابا ولو بشق تمرة" ولأحمد من حديث ابن مسعود مرفوعا بإسناد صحيح "ليتق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة" ، وله من حديث عائشة بإسناد حسن "يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان" ، ولأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه وأتم منه بلفظ: "تقع من الجائع موقعها من الشبعان" وكأن الجامع بينهما في ذلك حلاوتها. وفي الحديث الحث على الصدقة بما قل وما جل، وأن لا يحتقر ما يتصدق به، وأن اليسير من الصدقة يستر المتصدق من النار. حديث عائشة، وسيأتي في الأدب من وجه آخر عن الزهري بسنده، وفيه التقييد بالإحسان ولفظه: "من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار" وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. ومناسبته للترجمة من جهة أن الأم المذكورة لما قسمت التمرة بين ابنتيها صار لكل واحدة منهما شق تمرة، وقد دخلت في عموم خبر الصادق أنها ممن ستر من النار لأنها ممن ابتلي بشيء من البنات فأحسن. ومناسبة فعل عائشة للترجمة من قوله: "والقليل من الصدقة" وللآية من قوله: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} لقولها في الحديث: "فلم تجد عندي غير تمرة" وفيه شدة حرص عائشة على الصدقة امتثالا لوصيته صلى الله عليه وسلم لها حيث قال: "لا يرجع من عندك سائل ولو بشق تمرة" رواه البزار من حديث أبي هريرة.

(3/284)


11 - باب فَضْلِ صَدَقَةِ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ
لِقَوْلِه [10 المنافقون]: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية
وقوله [254 البقرة]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعَ فِيهِ}
1419 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا

(3/284)


أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ"
[الحديث 1419
طرفه في: 2748]
قوله: "باب فضل صدقة الشحيح الصحيح" كذا لأبي ذر، ولغيره: "أي الصدقة أفضل، وصدقة الشحيح الصحيح، لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية", فعلى الأول المراد فضل من كان كذلك على غيره وهو واضح، وعلى الثاني كأنه تردد في إطلاق أفضلية من كان كذلك, فأورد الترجمة بصيغة الاستفهام. قال الزين بن المنير ما ملخصه: مناسبة الآية للترجمة أن معنى الآية التحذير من التسويف بالإنفاق استبعادا لحلول الأجل واشتغالا بطول الأمل، والترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية وفوات الأمنية. والمراد بالصحة في الحديث من لم يدخل في مرض مخوف فيتصدق عند انقطاع أمله من الحياة كما أشار إليه في آخره بقوله: "ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم" ، ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالا على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة كان ذلك أفضل من غيره، وليس المراد أن نفس الشح هو السبب في هذه الأفضلية. والله أعلم.
" تنبيه ": وقع في رواية غير أبي ذر تقديم آية المنافقين على آية البقرة. وفي رواية أبي ذر بالعكس. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد. قوله: "جاء رجل" لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون أبا ذر، ففي مسند أحمد عنه أنه سأل أي الصدقة أفضل، لكن في الجواب "جهد من مقل أوسر إلى فقير" وكذا روى الطبراني من حديث أبي أمامة أن أبا ذر سأل فأجيب. قوله: "أي الصدقة أعظم أجرا" في الوصايا من وجه آخر عن عمارة بن القعقاع "أي الصدقة أفضل". قوله: "أن تصدق" بتشديد الصاد وأصله تتصدق فأدغمت إحدى التاءين. قوله: " وأنت صحيح شحيح" في الوصايا " وأنت صحيح حريص" قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص. وقال صاحب المحكم: الشح مثلث الشين والضم أعلى. وقال صاحب الجامع: كأن الفتح في المصدر والضم في الاسم. وقال الخطابي: فيه أن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سيمة البخل، فلذلك شرط صحة البدن في الشح بالمال لأنه في الحالتين يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر، وأحد الأمرين للموصي والثالث للوارث لأنه إذا شاء أبطله. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون الثالث للموصي أيضا لخروجه عن الاستقلال بالتصرف فيما يشاء فلذلك نقص ثوابه عن حال الصحة. قال ابن بطال وغيره: لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للأجر، بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره. قوله: "وتأمل" بضم الميم أي تطمع. قوله: "إذا بلغت" أي الروح، والمراد قاربت بلوغه إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شيء من تصرفاته. ولم يجر للروح ذكر اغتناء بدلالة السياق. والحلقوم مجرى النفس قاله أبو عبيدة، وقد تقدم في أواخر كتاب العلم، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى.

(3/285)


1420 باب: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ

(3/285)


عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا قَالَ: "أَطْوَلُكُنَّ يَدًا" فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ"
قوله: "باب" كذا للأكثر وبه جزم الإسماعيلي، وسقط لأبي ذر، فعلى روايته هو من ترجمة فضل صدقة الصحيح، وعلى رواية غيره فهو بمنزلة الفصل منه وأورد فيه المصنف قصة سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه أيتهن أسرع لحوقا به، وفيه قوله لهن "أطولكن يدا" الحديث. ووجه تعلقه بما قبله أن هذا الحديث تضمن أن الإيثار والاستكثار من الصدقة في زمن القدرة على العمل سبب للحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الغاية في الفضيلة، أشار إلى هذا الزين بن المنير قال ابن رشيد: وجه المناسبة أنه تبين في الحديث أن المراد بطول اليد المقتضي للحاق به الطول1، وذلك إنما يتأتى للصحيح لأنه إنما يحصل بالمداومة في حال الصحة وبذلك يتم المراد. والله أعلم. قوله: "أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على تعيين السائلة منهن عن ذلك، إلا عند ابن حبان من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة بهذا الإسناد "قالت فقلت" بالمثناة، وقد أخرجه النسائي من هذا الوجه بلفظ: "فقلن" بالنون فالله أعلم. قوله: "أسرع بك لحوقا" منصوب على التمييز، وكذا قوله يدا، وأطولكن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "فأخذوا قصبة يذرعونها" أي يقدرونها بذراع كل واحدة منهن، وإنما ذكره بلفظ جمع المذكر بالنظر إلى لفظ الجمع لا بلفظ جماعة النساء، وقد قيل في قول الشاعر وإن شئت حرمت النساء سواكم أنه ذكره بلفظ جمع المذكر تعظيما. وقوله: "أطولكن" يناسب ذلك، وإلا لقال طولاكن. قوله: "فكانت سودة" زاد ابن سعد عن عفان عن أبي عوانة بهذا الإسناد "بنت زمعة بن قيس". قوله: "أطولهن يدا" في رواية عفان "ذراعا "وهي تعين أنهن فهمن من لفظ اليد الجارحة. قوله: "فعلمنا بعد" أي لما ماتت أول نسائه به لحوقا. قوله: "إنما" بالفتح، والصدقة بالرفع، وطوله يدها بالنصب لأنه الخبر. قوله: "وكانت أسرعنا" كذا وقع في الصحيح بغير تعيين، ووقع في "التاريخ الصغير "للمصنف عن موسى بن إسماعيل بهذا الإسناد "فكانت سودة أسرعنا إلخ" وكذا أخرجه البيهقي في "الدلائل" وابن حبان في صحيحه من طريق العباس الدوري عن موسى، وكذا في رواية عفان عند أحمد وابن سعد عنه "قال ابن سعد: قال لنا محمد بن عمر -يعني الواقدي- هذا الحديث وهل في سودة، وإنما هو في زينب بنت جحش، فهي أول نسائه به لحوقا وتوفيت في خلافة عمر وبقيت سودة إلى أن توفيت في خلافة معاوية في شوال سنة أربع وخمسين" قال ابن بطال: هذا الحديث سقط منه ذكر زينب لاتفاق أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أن الصواب: وكانت زينب أسرعنا إلخ، ولكن يعكر على هذا التأويل تلك الروايات المتقدمة المصرح فيها بأن الضمير لسودة. وقرأت بخط الحافظ أبي علي الصدفي: ظاهر هذا اللفظ أن سودة كانت أسرع وهو خلاف المعروف عند أهل العلم أن زينب أول من مات من الأزواج، ثم نقله عن مالك من روايته عن الواقدي، قال: ويقويه رواية عائشة بنت طلحة. وقال ابن الجوزي. هذا الحديث غلط من بعض الرواة، والعجب من البخاري كيف لم ينبه عليه ولا أصحاب التعاليق ولا علم بفساد
ـــــــ
1 هو بفتح الطاء أي الجود وسعة العطاء. والله أعلم

(3/286)


ذلك الخطابي فإنه فسره وقال: لحوق سودة به من أعلام النبوة. وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب، فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء كما رواه مسلم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة بلفظ: "فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل وتتصدق" انتهى. وتلقى مغلطاي كلام ابن الجوزي فجزم به ولم ينسبه له. وقد جمع بعضهم بين الروايتين فقال الطيبي: يمكن أن يقال فيما رواه البخاري المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب، وكانت سودة أولهن موتا. قلت: وقد وقع نحوه في كلام مغلطاي، لكن يعكر على هذا أن في رواية يحيى بن حماد عند ابن حبان أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده لم تغادر منهن واحدة، ثم هو مع ذلك إنما يتأتى على أحد القولين في وفاة سودة، فقد روى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن هلال أنه قال: ماتت سودة في خلافة عمر، وجزم الذهبي في "التاريخ الكبير" بأنها ماتت في آخر خلافة عمر. وقال ابن سيد الناس: أنه المشهور. وهذا يخالف ما أطلقه الشيخ محيي الدين حيث قال: أجمع أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواجه. وسبقه إلى نقل الاتفاق ابن بطال كما تقدم. ويمكن الجواب بأن النقل مقيد بأهل السير، فلا يرد نقل قول من خالفهم من أهل النقل ممن لا يدخل في زمرة أهل السير. وأما على قول الواقدي الذي تقدم فلا يصح. وقد تقدم عن ابن بطال أن الضمير في قوله: "فكانت" لزينب وذكرت ما يعكر عليه، لكن يمكن أن يكون تفسيره بسودة من بعض الرواة لكون غيرها لم يتقدم له ذكر، فلما لم يطلع على قصة زينب وكونها أول الأزواج لحوقا به جعل الضمائر كلها لسودة، وهذا عندي من أبي عوانة، فقد خالفه في ذلك ابن عيينة عن فراس كما قرأت بخط ابن رشيد أنه قرأه بخط أبي القاسم بن الورد، ولم أقف إلى الآن على رواية ابن عيينة هذه، لكن روى يونس بن بكير في "زيادات المغازي "والبيهقي في "الدلائل" بإسناده عنه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي التصريح بأن ذلك لزينب، لكن قصر زكريا في إسناده فلم يذكر مسروقا ولا عائشة، ولفظه: "قلن النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن يتذارعن أيتهن أطول يدا، فلما توفيت زينب علمن أنها كانت أطولهن يدا في الخير والصدقة " ويؤيده أيضا ما روى الحاكم في المناقب من مستدركه من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأزواجه: "أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا" قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش -وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا- فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينب امرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله" قال الحاكم على شرط مسلم انتهى. وهي رواية مفسرة مبينة مرجحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب، قال ابن رشيد: والدليل على أن عائشة لا تعني سودة قولها: "فعلمنا بعد" إذ قد أخبرت عن سودة بالطول الحقيقي ولم تذكر سبب الرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت، فإذا طلب السامع سبب العدول لم يجد إلا الإضمار مع أنه يصلح أن يكون المعنى فعلمنا بعد أن المخبر عنها إنما هي الموصوفة بالصدقة لموتها قبل الباقيات، فينظر السامع ويبحث فلا يجد إلا زينب، فيتعين الحمل عليه، وهو من باب إضمار ما لا يصلح غيره كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} قال الزين بن المنير: وجه الجمع أن قولها "فعلمنا بعد" يشعر إشعارا قويا أنهن حملن طول اليد على ظاهره، ثم علمن بعد ذلك خلافه وأنه كناية عن كثرة الصدقة، والذي علمنه آخرا خلاف ما اعتقدنه أولا، وقد انحصر الثاني في زينب للاتفاق على أنها أولهن

(3/287)


موتا فتعين أن تكون هي المرادة. وكذلك بقية الضمائر بعد قوله: "فكانت" واستغنى عن تسميتها لشهرتها بذلك انتهى. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال إن في الحديث اختصارا أو اكتفاء بشهرة القصة لزينب، ويؤول الكلام بأن الضمير رجع إلى المرأة التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أول من يلحق به، وكانت كثيرة الصدقة. قلت: الأول هو المعتمد، وكأن هذا هو السر في كون البخاري حذف لفظ سودة من سياق الحديث لما أخرجه في الصحيح لعلمه بالوهم فيه، وأنه لما ساقه في التاريخ بإثبات ذكرها ذكر ما يرد عليه من طريق الشعبي أيضا عن عبد الرحمن بن أبزي قال: "صليت مع عمر على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به" وقد تقدم الكلام على تاريخ وفاتها في كتاب الجنائز، وأنه سنة عشرين. وروى ابن سعد من طريق برزة بنت رافع قالت: "لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فتعجبت وسترته بثوب وأمرت بتفرقته، إلى أن كشف الثوب فوجدت تحته خمسة وثمانين درهما ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت فكانت أول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به" وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن قال: كانت زينب أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به فهذه روايات يعضد بعضها بعضا ويحصل من مجموعها أن في رواية أبي عوانة وهما. وقد ساقه يحيى بن حماد عنه مختصرا ولفظه: "فأخذن قصبة يتذارعنها، فماتت سودة بنت زمعة وكانت كثيرة الصدقة فعلمنا أنه قال أطولكن بدا بالصدقة "هذا لفظه عند ابن حبان من طريق الحسن بن مدرك عنه، ولفظه عند النسائي عن أبي داود وهو الحراني عنه "فأخذن قصبة فجعلن يذرعنها فكانت سودة أسرعهن به لحوقا، وكانت أطولهن يدا، وكأن ذلك من كثرة الصدقة". وهذا السياق لا يحتمل التأويل، إلا أنه محمول على ما تقدم ذكره من دخول الوهم على الراوي في التسمية خاصة والله أعلم. وفي الحديث علم من أعلام النبوة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة وهو لفظ: "أطولكن" إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنير: لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بالوحي أجابهن بلفظ غير صريح وأحالهن على ما لا يتبين إلا بآخر. وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه أن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يلم وإن كان مراد المتكلم مجازه، لأن نسوة النبي صلى الله عليه وسلم حملن طول اليد على الحقيقة فلم ينكر عليهن. وأما ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن الأصم عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن: ليس ذلك أعني إنما أعني أصنعكن يدا، فهو ضعيف جدا، ولو كان ثابتا لم يحتجن بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذرع أيديهن كما تقدم في رواية عمرة عن عائشة. وقال المهلب: في الحديث دلالة على أن الحكم للمعاني لا للألفاظ لأن النسوة فهمن من طول اليد الجارحة، وإنما المراد بالطول كثرة الصدقة، وما قاله لا يمكن إطراده في جميع الأحوال. والله أعلم.

(3/288)


12 - باب صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ. وقوله عزوجل [274 البقرة]
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً -إلى قوله- وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}

(3/288)


13 - باب صَدَقَةِ السِّرِّ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ" وَقَوْلِهِ تعالى: [271]: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآيَةَ

(3/288)


14 - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ
1421 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَالَ رَجُلٌ لاَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لاَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لاَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ"
قوله: "باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم" أي فصدقته مقبولة. قوله: "عن الأعرج عن أبي هريرة" في رواية مالك في "الغرائب للدارقطني" عن أبي الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة. قوله: "قال رجل" لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن الأعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل. قوله: "لأتصدقن بصدقة" في رواية أبي عوانة عن أبي أمية عن أبي اليمان بهذا الإسناد "لأتصدقن الليلة "وكرر كذلك في المواضع الثلاثة. وكذا أخرجه أحمد من طريق ورقاء ومسلم من طريق موسى بن عقبة والدارقطني في "غرائب مالك" كلهم عن أبي الزناد. وقوله: "لأتصدقن" من باب الالتزام كالنذر مثلا، والقسم فيه مقدر كأنه قال: والله لأتصدقن. قوله: " فوضعها في يد سارق " أي وهو لا يعلم أنه سارق. قوله: "فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق" في رواية أبي أمية "تصدق الليلة على سارق" وفي رواية ابن لهيعة "تصدق الليلة على فلان السارق" ولم أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدق عليهم. وقوله: "تصدق" بضم أوله على البناء للمفعول. قوله: " فقال اللهم لك الحمد" أي لا لي لأن صدقتي وقعت بيد من لا يستحقها فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، فإن إرادة الله كلها جميلة. قال الطيبي: لما عزم على أن يتصدق على مستحق فوضعها بيد زانية حمد الله على أنه لم يقدر أن يتصدق على من هو أسوأ حالا منها، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيما لله، فلما تعجبوا من فعله تعجب هو أيضا فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، أي التي تصدقت عليها فهو متعلق بمحذوف انتهى. ولا يخفى بعد هذا الوجه، وأما الذي قبله فأبعد منه. والذي يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله فحمد الله على تلك الحال، لأنه المحمود على جميع الحال، لا يحمد على المكروه سواه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال: "اللهم لك الحمد على كل حال" . قوله: "فأتي فقيل له" في رواية الطبراني في "مسند الشاميين" عن أحمد بن عبد الوهاب عن أبي اليمان بهذا الإسناد "فساءه ذلك فأتى في منامه" وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عنه، وكذا الإسماعيلي من طريق علي بن عياش عن شعيب وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره قال الكرماني: قوله: "أتي" أي أري في المنام أو سمع هاتفا ملكا أو غيره أو أخبره نبي أو أفتاه عالم. وقال غيره: أو أتاه ملك فكلمه، فقد كانت الملائكة تكلم

(3/290)


بعضهم في بعض الأمور. وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلها لم تقع إلا النقل الأول. قوله: " أما صدقتك على سارق " زاد أبو أمية "فقد قبلت" وفي رواية موسى بن عقبة وابن لهيعة "أما صدقتك فقد قبلت" وفي رواية الطبراني "إن الله قد قبل صدقتك" وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة. وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع. واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على المنع، ومن ثم أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام ولم يجزم بالحكم. فإن قيل إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخير على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. وقيه فضل صدقة السر، وفضل الإخلاص، واستحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وأن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه، وبركة التسليم والرضا، وذم التضجر بالقضاء كما قال بعض السلف. لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول.

(3/291)


15 - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ
1422 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ"
قوله: "باب إذا تصدق" أي الشخص "على ابنه وهو لا يشعر" قال الزين بن المنير: لم يذكر جواب الشرط اختصارا، وتقديره جاز، لأنه يصير لعدم شعوره كالأجنبي. ومناسبة الترجمة للخبر من جهة أن يزيد أعطى من يتصدق عنه ولم يحجر عليه، وكان هو السبب في وقوع الصدقة في يد ولده قال: وعبر في هذه الترجمة بنفي الشعور وفي التي قبلها بنفي العلم لأن المتصدق في السابقة بذل وسعه في طلب إعطاء الفقير فأخطأ اجتهاده فناسب أن ينفي عنه العلم، وأما هذا فباشر التصدق غيره فناسب أن ينفى عن صاحب الصدقة الشعور. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وأبو الجويرية بالجيم مصغرا اسمه حطان بكسر المهملة وكان سماعه عن معن ومعن أمير على غزاة بالروم في خلافة معاوية كما رواه أبو داود من طريق أبي الجويرية. قوله: "أنا وأبي وجدي" اسم جده الأخنس بن حبيب السلمي كما جزم به ابن حبان وغير واحد، ووقع في الصحابة لمطين وتبعه البارودي والطبراني وابن منده وأبو نعيم أن اسم جد معن بن يزيد ثور فترجموا في كتبهم بثور وساقوا حديث الباب من طريق الجراح والد وكيع عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد بن ثور السلمي أخرجه مطين عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن جده، ورواه البارودي والطبراني عن مطين، ورواه ابن منده عن البارودي، وأبو نعيم عن الطبراني، وجمهور الرواة عن أبي الجويرية لم يسموا جد معن بل تفرد سفيان بن وكيع بذلك وهو ضعيف، وأظنه كان فيه عن معن بن يزيد أبي ثور السلمي فتصحفت أداة الكنية بابن، فإن معنا كان يكنى أبا ثور، فقد ذكر خليفة بن خياط في تاريخه أن معن بن يزيد وابنه ثورا قتلا يوم مرج راهط مع الضحاك بن قيس. وجمع ابن حبان بين القولين بوجه آخر فقال في

(3/291)


"الصحابة": ثور السلمي جد معن بن يزيد بن الأخنس السلمي لأمه. فإن كان ضبطه فقد زال الإشكال والله أعلم. وروي عن يزيد بن أبي حبيب أن معن بن يزيد شهد بدرا هو وأبوه وجده ولم يتابع على ذلك. فقد روى أحمد والطبراني من طريق صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن يزيد بن الأخنس السلمي أنه أسلم فأسلم معه جميع أهله إلا امرأة واحدة أبت أن تسلم فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" فهذا دال على أن إسلامه كان متأخرا لأن الآية متأخرة الإنزال عن بدر قطعا. وقد فرق البغوي وغيره في الصحابة بين يزيد بن الأخنس وبين يزيد والد معن، والجمهور على أنه هو. قوله: "وخطب علي فأنكحني" أي طلب لي النكاح فأجيب، يقال خطب المرأة إلى وليها إذا أرادها الخاطب لنفسه، وعلى فلان إذا أرادها لغيره، والفاعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن مقصود الراوي بيان أنواع علاقاته به من المبايعة وغيرها. ولم أقف على اسم المخطوبة، ولو ورد أنها ولدت منه لضاهى بيت الصديق في الصحبة من جهة كونهم أربعة في نسق، وقد وقع ذلك لأسامة بن زيد بن حارثة فروى الحاكم في "المستدرك" أن حارثة قدم فأسلم، وذكر الواقدي في المغازي أن أسامة ولد له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تتبعت نظائر لذلك أكثرها فيه مقال ذكرتها في "النكت على علوم الحديث لابن الصلاح". قوله: "وكان أبي يزيد" بالرفع على البدلية. قوله: "فوضعها عند رجل" لم أقف على اسمه، وفي السياق حذف تقديره وأذن له أن يتصدق بها على محتاج إليها إذنا مطلقا. قوله: "فجئت فأخذتها" أي من المأذون له في التصدق بها بإذنه لا بطريق الاعتداء، ووقع عند البيهقي من طريق أبي حمزة السكري عن أبي الجويرية في هذا الحديث: "قلت ما كانت خصومتك؟ قال: كان رجل يغشى المسجد فيتصدق على رجال يعرفهم، فظن أني بعض من يعرف" فذكر الحديث. قوله: "فأتيته" الضمير لأبيه أي فأتيت أبي بالدنانير المذكورة. قوله: "والله ما إياك أردت" يعني لو أردت أنك تأخذها لناولتها لك ولم أوكل فيها، أو كأنه كان يرى أن الصدقة على الولد لا تجزئ، أو يرى أن الصدقة على الأجنبي أفضل. قوله: "فخاصمته" تفسير لقوله أولا "وخاصمت إليه". قوله: "لك ما نويت" أي إنك نويت أن تتصدق بها على من يحتاج إليها وابنك يحتاج إليها فوقعت الموقع، وإن كان لم يخطر ببالك أنه يأخذها. قوله: "ولك ما أخذت يا معن" أي لأنك أخذتها محتاجا إليها. قال ابن رشيد: الظاهر أنه لم يرد بقوله: "والله ما إياك أردت" أي إني أخرجتك بنيتي، وإنما أطلقت لمن تجزئ عني الصدقة عليه ولم تخطر أنت ببالي، فأمضى النبي صلى الله عليه وسلم الإطلاق لأنه فوض للوكيل بلفظ مطلق فنفذ فعله. وفيه دليل على العمل بالمطلقات على إطلاقها وإن احتمل أن المطلق لو خطر بباله فرد من الأفراد لقيد اللفظ به والله أعلم. واستدل به على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع ولو كان ممن تلزمه نفقته، 0 ولا حجة فيه لأنها واقعة حال فاحتمل أن يكون معن كان مستقلا لا يلزم أباه يزيد نفقته، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مبسوطا في "باب الزكاة على الزوج" بعد ثلاثين بابا إن شاء الله تعالى. وفيه جواز الافتخار بالمواهب الربانية والتحدث بنعم الله. وفيه جواز التحاكم بين الأب والابن وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقا. وجواز الاستخلاف في الصدقة ولا سيما صدقة التطوع لأن فيه نوع إسرار. وفيه أن للتصدق أجر ما نواه سواء صادف المستحق أو لا. وأن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده بخلاف الهبة. والله أعلم.

(3/292)


16 - باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ
1423 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ

(3/292)


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"
1424 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " تَصَدَّقُوا فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لقَبِلْتُهَا مِنْكَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا"
قوله: "باب الصدقة باليمين" أي حكم، أو "باب" بالتنوين والتقدير أي فاضلة أو يرغب فيها. حديث أبي هريرة "سبعة يظلهم الله في ظله "وفي قوله: " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وقد تقدم الكلام عليه مستوفى كما بينته قريبا. حديث حارثة بن وهب تقدم في "باب الصدقة قبل الرد" وفيه: "يمشي الرجل بصدقته فيقول الرجل: لو جئت بها أمس لقبلتها منك" قال ابن رشيد: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أنه اشترك مع الذي قبله في كون كل منهما حاملا لصدقته، لأنه إذا كان حاملا لها بنفسه كان أخفى لها، فكان في معنى " لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" .
ويحمل المطلق في هذا على المقيد في هذا أي المناولة باليمين، قال: ويقوي أن ذلك مقصده إتباعه بالترجمة التي بعدها حيث قال: "من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه" وكأنه قصد في هذا من حملها بنفسه.

(3/293)


17 - باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ"
1425 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن شقيق عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أنفقت المرأة من طعام مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا"
[الحديث 1425
أطرافه في: 1439, 1440, 1441, 2065]
قوله: "باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه" قال الزين بن المنير: فائدة قوله: "ولم يناول نفسه" التنبيه على أن ذلك مما يغتفر، وأن قوله في الباب قبله "الصدقة باليمين" لا يلزم منه المنع من إعطائها بيد الغير وإن كانت المباشرة أولى. قوله: "وقال أبو موسى" هو الأشعري قوله: "هو أحد المتصدقين " ضبط في جميع روايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية، قال القرطبي: ويجوز الكسر على الجمع أي هو متصدق من المتصدقين. وهذا التعليق طرف من حديث وصله بعد ستة أبواب بلفظ: "الخازن" والخازن خادم المالك في الخزن وإن لم يكن خادمه

(3/293)


حقيقة. ثم أورد المصنف هنا حديث عائشة "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها" الحديث. قال ابن رشيد: نبه بالترجمة على أن هذا الحديث مفسر بها، لأن كلا من الخازن والخادم والمرأة أمين ليس له أن يتصرف إلا بإذن المالك نصا أو عرفا إجمالا أو تفضيلا انتهى. وسيأتي البحث في ذلك بعد سبعة أبواب.

(3/294)


18 - باب لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ" إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَذَلِكَ آثَرَ الأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ "
1426 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ"
[الحديث 1426
أطرافه في: 1428, 5355, 5356]
1427 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ"
1428 - وَعَنْ وُهَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
1429 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ"
قوله: "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى" أورد في الباب حديث أبي هريرة بلفظ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهو مشعر بأن النفي في اللفظ الأول للكمال لا للحقيقة، فالحقيقة لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى، وقد أورده أحمد من طريق أبي صالح بلفظ: "إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى "وهو أقرب إلى لفظ الترجمة.
وأخرجه أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة بلفظ الترجمة قال: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" الحديث.

(3/294)


وكذا ذكره المصنف تعليقا في الوصايا، وساقه مغلطا بإسناد له إلى أبي هريرة بلفظه، وليس هو باللفظ المذكور في الكتاب الذي ساقه منه، فلا يغتر به ولا بمن تبعه على ذلك. قوله: "ومن تصدق وهو محتاج إلى آخر الترجمة" كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق أن لا يكون محتاجا لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. ويلتحق بالتصدق سائر التبرعات. وأما قوله: "فهو رد عليه" فمقتضاه أن ذا الدين المستغرق لا يصح منه التبرع، لكن محل هذا عند الفقهاء إذا حجر عليه الحاكم بالفلس، وقد نقل فيه صاحب "المغني" وغيره الإجماع، فيحمل إطلاق المصنف عليه. واستدل له المصنف بالأحاديث التي علقها. وأما قوله: "إلا أن يكون معروفا بالصبر" فهو من كلام المصنف، وكلام ابن التين يوهم أنه بقية الحديث فلا يغتر به، وكأن المصنف أراد أن يخص به عموم الحديث الأول. والظاهر أنه يختص بالمحتاج، ويحتمل أن يكون عاما ويكون التقدير إلا أن يكون كل من المحتاج أو من تلزمه النفقة أو صاحب الدين معروفا بالصبر. ويقوي الأول التمثيل الذي مثل به من فعل أبي بكر والأنصار، قال ابن بطال: أجمعوا على أن المديان لا يجوز له أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدين، فتعين حمل ذلك على المحتاج. وحكى ابن رشيد عن بعضهم أنه يتصور في المديان فيما إذا عامله الغرماء على أن يأكل من المال فلو آثر بقوته وكان صبورا جاز له ذلك وإلا كان إيثاره سببا في أن يرجع لاحتياجه فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع. وإذا تقرر ذلك فقد اشتملت الترجمة على خمسة أحاديث معلقة، وفي الباب أربعة أحاديث موصولة. فأما المعلقة فأولها قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أخذ أموال الناس" وهو طرف من حديث لأبي هريرة موصول عنده في الاستقراض. ثانيها قوله: "كفعل أبي بكر حين تصدق بماله" هذا مشهور في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه سمعت عمر يقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله" الحديث تفرد به هشام بن سعد عن زيد، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه. قال الطبري وغيره: قال الجمهور من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه وكان صبورا على الإضاقة ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود. وروي عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله. ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره، فإنه صلى الله عليه وسلم باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجا. وقال آخرون: يجوز من الثلث ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول. وعن مكحول أيضا يرد ما زاد على النصف. قال الطبري: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعا بين قصة أبي بكر وحديث كعب والله أعلم. ثالثها قوله: "وكذلك آثر الأنصار المهاجرين" هو مشهور أيضا في السير، وفيه أحاديث مرفوعة: منها حديث أنس "قدم المهاجرون المدينة وليس بأيديهم شيء، فقاسمهم الأنصار". وسيأتي موصولا في الهبة. وحديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي آثر ضيفه بعشائه وعشاء أهله، وسيأتي موصولا في تفسير سورة الحشر. رابعها قوله: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال" هو طرف من حديث المغيرة، وقد تقدم بتمامه في آخر صفة الصلاة. خامسها قوله: "وقال كعب" يعني ابن مالك إلخ، وهو طرف من حديثه الطويل في قصة توبته وسيأتي بتمامه في تفسير سورة التوبة. حديث أبي هريرة "خير

(3/295)


الصدقة ما كان عن ظهر غنى" فعبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. ومعنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. قال الخطابي: لفظ الظهر يرد في مثل هذا إشباعا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده وابدأ بمن تعول. وقال البغوي: المراد غني يستظهر به على النوائب التي تنوبه. ونحوه قولهم ركب متن السلامة. والتنكير في قوله: "غنى" للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل "عن" للسببية والظهر زائد، أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقال النووي: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه. وقال القرطبي في "المفهم" : يرد على تأويل الخطابي بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذر "فضل الصدقة جهد من مقل" والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله. قوله: "وابدأ بمن تعول" فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم، وسيأتي شرحه في النفقات إن شاء الله تعالى. حديث حكيم بن حزام " اليد العليا خير من اليد السفلى" الحديث، وشاهد الترجمة منه قوله فيه: "وخير الصدقة عن ظهر غنى" وهشام المذكور في الإسناد هو ابن عروة بن الزبير، وقوله فيه: "ومن يستعف يعفه الله" يأتي الكلام عليه في حديث أبي سعيد بعد أبواب. ثالثها حديث أبي هريرة قال: "بهذا "أي بحديث حكيم، أورده معطوفا على إسناد حديث حكيم بلفظ: "وعن وهيب" والظاهر أنه حمله عن موسى بن إسماعيل عنه بالطريقين معا، وكأن هشاما حدث به وهيبا تارة عن أبيه عن حكيم وتارة عن أبيه عن أبي هريرة، أو حدثه به عنهما مجموعا ففرقه وهيب أو الراوي عنه. وقد وصل حديث أبي هريرة من طريق وهيب الإسماعيلي قال: "أخبرني ابن ياسين حدثنا محمد بن سفيان حدثنا حبان - هو ابن هلال - حدثنا وهيب حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة قال" مثل حديث حكيم. حديث ابن عمر من وجهين في ذكر اليد العليا، وإنما أورده ليفسر به ما أجمل في حديث حكيم، قال ابن رشيد: والذي يظهر أن حديث حكيم بن حزام لما اشتمل على شيئين: حديث: "اليد العليا" وحديث: " لا صدقة إلا عن ظهر غنى" ذكر معه حديث ابن عمر المشتمل على الشيء الأول تكثيرا لطرقه. ويحتمل أن يكون مناسبة حديث: "اليد العليا" للترجمة من جهة أن إطلاق كون اليد العليا هي المنفقة، محله ما إذا كان الإنفاق لا يمنع منه بالشرع كالمديان المحجور عليه، فعمومه مخصوص بقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" والله أعلم.
" تنبيه ": لم يسق البخاري متن طريق حماد عن أيوب، وعطف عليه طريق مالك، فربما أوهم أنهما سواء، وليس كذلك لما سنذكره عن أبي داود. وقال ابن عبد البر في "التمهيد": لم تختلف الرواة عن مالك أي في سياقه، كذا قال وفيه

(3/296)


نظر كما سيأتي. وقال القرطبي: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نص يرفع الخلاف ويدفع تعسف من تعسف في تأويله ذلك انتهى. لكن ادعى أبو العباس الداني في "أطراف الموطأ "أن التفسير المذكور مدرج في الحديث، ولم يذكر مستندا لذلك. ثم وجدت في "كتاب العسكري في الصحابة" بإسناد له فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان "إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اليد العليا خير من اليد السفلى" ، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية "فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة". قوله: "وذكر الصدقة والتعفف والمسألة" كذا للبخاري بالواو قبل المسألة. وفي رواية مسلم عن قتيبة عن مالك "والتعفف عن المسألة" ولأبي داود "والتعفف منها" أي من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغني على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضه على التعفف ويذم المسألة. قوله: "فاليد العليا هي المنفقة" قال أبو داود قال الأكثر عن حماد بن زيد: المنفقة. وقال واحد عنه: المتعففة، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب انتهى. فأما الذي قال عن حماد المتعففة بالعين وفاءين فهو مسدد، كذلك رويناه عنه في مسنده رواية معاذ بن المثنى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقد تابعه على ذلك أبو الربيع الزهراني كما رويناه في "كتاب الزكاة ليوسف بن يعقوب القاضي "حدثنا أبو الربيع. وأما رواية عبد الوارث فلم أقف عليها موصولة. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ: "واليد العليا يد المعطي" وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ: "المتعففة" فقد صحف. قال ابن عبد البر: ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضا، فقال حفص بن ميسرة عنه "المنفقة" كما قال مالك. قلت: وكذلك قال فضيل بن سليمان عنه أخرجه ابن حبان من طريقه قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن موسى فقال: "المنفقة" قال ابن عبد البر: رواية مالك أولى وأشبه بالأصول. ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي قال: "قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: " يد المعطي العليا" انتهى. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا: "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي" وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعا مثله، ولأبي داود وابن خزيمة من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا: "الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى" ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي "اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى" فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور. وقيل اليد السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا، لأن يد الله هي المعطية ويد الله هي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين انتهى. وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال، وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا. ثانيها يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما. ثالثها يد

(3/297)


المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا، وهذه توصف بكونها عليا علوا معنويا. رابعها يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به أو تقرب إلى ربه متنفلا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي انتهى. وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا، وقد حكى ابن قتيبة في "غريب الحديث": ذلك عن قوم ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتقه انتهى. وقرأت في "مطلع الفوائد" للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأن المعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. قال: وهذا حث على المكارم بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله: "ما أبقت غنى" أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله كمن أراد أن يتصدق بألف فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد. قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة، لأن ذلك لا يستمر إذ فيمن يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي. قلت: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير "أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال: التي تعطي ولا تأخذ" فقوله: "ولا تأخذ" صريح في أن الآخذة ليست بعليا والله أعلم. وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث، ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعففة عن الآخذ، ثم الآخذة بغير سؤال. وأسفل الأيدي السائلة والمانعة والله أعلم. قال ابن عبد البر: وفي الحديث إباحة الكلام للخطيب بكل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة. وفيه تفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر، لأن العطاء إنما يكون مع الغنى، وقد تقدم الخلاف في ذلك في حديث: "ذهب أهل الدثور" في أواخر صفة الصلاة. وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه. وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقال مرفوعا: "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا" وسيأتي حديث حكيم مطولا في "باب الاستعفاف عن المسألة" وفيه بيان سببه إن شاء الله تعالى.

(3/298)


19 - باب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى لِقَوْلِهِ: [262 البقرة]
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى} الآيَةَ
قوله: "باب المنان بما أعطى، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً} الآية" هذه الترجمة ثبتت في رواية الكشميهني وحده بغير حديث، وكأنه أشار إلى ما رواه مسلم من حديث أبي ذر مرفوعا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة المنان الذي لا يعطي شيئا إلا من به" الحديث، ولما لم يكن على شرطه

(3/298)


اقتصر على الإشارة إليه. ومناسبة الآية للترجمة واضحة من جهة أن النفقة في سبيل الله لما كان المان بها مذموما كان ذم المعطي في غيرها من باب الأولى. قال القرطبي: المن غالبا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطي وإن كان أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو نظر مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما يترتب له من الفوائد.

(3/299)


20 - باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا
1430 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ " صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فَقُلْتُ أَوْ قِيلَ لَهُ فَقَالَ كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ"
قوله: "باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها" ذكر فيه حديث عقبة بن الحارث "صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع، ثم دخل البيت" الحديث وفيه: "كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته" قال ابن بطال: فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف غير محمود، زاد غيره: وهو أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب. وقد تقدمت بقية فوائده في أواخر صفة الصلاة. وقال الزين بن المنير: ترجم المصنف بالاستحباب وكان يمكن أن يقول كراهة تبييت الصدقة لأن الكراهة صريحة في الخبر، واستحباب التعجيل مستنبط من قرائن سياق الخبر حيث أسرع في الدخول والقسمة، فجرى على عادته في إيثار الأخفى على الأجلى. قوله: "أن أبيته" أي أتركه حتى يدخل عليه الليل، يقال بات الرجل دخل في الليل، وبيته تركه حتى دخل الليل.

(3/299)


21 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا
1431 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ"
1432 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ"
[الحديث 1432
أطرافه في: 6027, 6028, 7476]
1433 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:

(3/299)


22 - باب الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ
1434 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " لاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ"
قوله: "باب الصدقة فيما استطاع" أورد فيه حديث أسماء المذكور من وجه آخر عنها من وجهين، وساقه هنا على لفظ حجاج بن محمد لخلو طريق أبي عاصم من التقييد بالاستطاعة، وسيأتي في الهبة بلفظ أبي عاصم وسياقه أتم. قوله: "ارضخي" بكسر الهمزة من الرضخ بمعجمتين وهو العطاء اليسير، فالمعنى أنفقي بغير إجحاف ما دمت قادرة مستطيعة.

(3/301)


23 - باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ
1435 - حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال "قال عمر رضي الله عنه ثم أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة قال قلت أنا أحفظه كما قال: قال إنك عليه لجريء فكيف قال قلت " فتنة الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف" - قال سليمان قد كان يقول الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - قال: ليس هذه أريد ولكني أريد التي تموج كموج البحر. قال: قلت ليس عليك بها يا أمير المؤمنين بأس بينك وبينها باب مغلق قال: فيكسر الباب أو يفتح قال قلت: لا, بل يكسر قال: فإنه إذا كسر لم يغلق أبدا قال قلت: أجل فهبنا أن نسأله من الباب فقلنا لمسروق سله قال فسأله فقال: عمر رضي الله عنه قال قلنا: فعلم عمر من تعني قال نعم كما أن دون غد ليلة وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط"
قوله: "باب الصدقة تكفر الخطيئة" أورد فيه حديث حذيفة "فتنة الرجل في أهله وولده تكفرها الصلاة والصدقة" الحديث، وقد تقدم في باب الصلاة، وسيأتي الكلام عليه مبسوطا في علامات النبوة إن شاء الله تعالى.

(3/301)


24 - باب مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ
1436 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمتَ على ما سَلفَ مِن خيرٍ"
[الحديث 1436
أطرافه في: 2220, 2538, 5992]
قوله: "باب من تصدق في الشرك ثم أسلم" أي هل يعتد له بثواب ذلك أو لا؟ قال الزين بن المنير: لم يبت الحكم

(3/301)


26 - باب أَجْرِ الْخَادِمِ إِذَا تَصَدَّقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ
1437 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِك"
1438 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الأَمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ"
[الحديث 1439
طرفاه في: 2260, 2319]

(3/302)


قوله: "باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد" قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم من أجازه لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النقصان. ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال، وهو اختيار البخاري، ولذلك قيد الترجمة بالأمر به. ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على العادة، وأما التقييد بغير الإفساد فمتفق عليه. ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على رب البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيتها فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه فيشترط الإذن فيه. وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به، وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت والله أعلم. حديث عائشة وسيأتي في الباب الذي بعده. حديث أبي موسى، وقد قيد الخازن فيه بكونه مسلما فأخرج الكافر لأنه لا نية له، وبكونه أمينا فأخرج الخائن لأنه مأزور. ورتب الأجر على إعطائه ما يؤمر به غير ناقص لكونه خائنا أيضا، وبكون نفسه بذلك طيبة لئلا يعدم النية فيفقد الأجر وهي قيود لا بد منها. قوله: "الذي ينفذ" بفاء مكسورة مثقلة ومخففة.

(3/303)


26 - باب أَجْرِ الْمَرْأَةِ إِذَا تَصَدَّقَتْ أَوْ أَطْعَمَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ
1439 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِي إِذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا
1440 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَطْعَمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ, لَهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ"
1441 - حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا جرير عن منصور عن شقيق عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أنفقت المرأة من طعام مفسدة فلها أجرها وللزوج بما اكتسب وللخازن مثل ذلك"
قوله: "باب أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة" قد تقدمت مباحثه في الذي قبله، ولم يقيده بالأمر كما قيد الذي قبله فقيل: إنه فرق بين المراة والخادم بأن المرأة لها أن تتصرف في بيت زوجها بما ليس فيه إفساد للرضا بذلك في الغالب، بخلاف الخادم الخازن. ويدل على ذلك ما رواه المصنف من حديث همام عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره" وسيأتي في البيوع وأورد فيه المصنف حديث عائشة المذكور من ثلاثة طرق تدور على أبي وائل شقيق بن سلمة عن مسروق عنها: أولها شعبة عن منصور والأعمش عنه ولم يسق لفظه بتمامه، ثانيها حفص بن غياث عن الأعمش وحده. ثالثها

(3/303)


جرير عن منصور وحده، ولفظ الأعمش " إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها" ولفظ منصور " إذا أنفقت من طعام بيتها " وقد أورده الإسماعيلي من حديث شعبة ولفظه: "إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كتب لها أجر ولزوجها مثل ذلك وللخازن مثل ذلك لا ينقص كل واحد منهم من أجر صاحبه شيئا، للزوج بما اكتسب ولها بما أنفقت غير مفسدة" ولشعبة فيه إسناد آخر أورده الإسماعيلي أيضا من روايته عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عائشة ليس فيه مسروق وقد أخرجه الترمذي بالإسنادين وقال: إن رواية منصور والأعمش بذكر مسروق فيه أصح. قوله: "وله مثله" أي مثل أجرها "وللخازن مثل ذلك" أي بالشروط المذكورة في حديث أبي موسى، وظاهره يقتضي تساويهم في الأجر، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة وإن كان أجر الكاسب أوفر، لكن التعبير في حديث أبي هريرة الذي ذكرته بقوله: " فلها نصف أجره" يشعر بالتساوي، وقد سبق قبل بستة أبواب من طريق جرير أيضا وزاد في آخره: "لا ينقص بعضهم أجر بعض" والمراد عدم المساهمة والمزاحمة في الأجر، ويحتمل أن يراد مساواة بعضهم بعضا والله أعلم. وفي الحديث فضل الأمانة، وسخاوة النفس، وطيب النفس في فعل الخير، والإعانة على فعل الخير.

(3/304)


27 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [5 الليل]: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَ مَالٍ خَلَفًا
1442 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"
قوله: "باب قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية" قال الزين بن المنير: أدخل هذه الترجمة بين أبواب الترغيب في الصدقة ليفهم أن المقصود الخاص بها الترغيب في الإنفاق في وجوه البر، وإن ذلك موعود عليه بالخلف في العاجل زيادة على الثواب الأجل. قوله: "اللهم أعط منفق مال خلفا" قال الكرماني: هو معطوف على الآية وحذف أداة العطف كثير، وهو مذكور على سبيل البيان للحسنى، أي تيسير الحسنى له إعطاء الخلف. قلت: قد أخرج الطبري من طرق متعددة عن ابن عباس في هذه الآية قال: أعطى مما عنده واتقى ربه وصدق بالخلف من الله تعالى. ثم حكى عن غيره أقوالا أخرى قال: وأشبهها بالصواب قول ابن عباس. والذي يظهر لي أن البخاري أشار بذلك إلى سبب نزول الآية المذكورة، وهو بين فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق قتادة "حدثني خالد العصري عن أبي الدرداء مرفوعا" نحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وزاد في آخره: فأنزل الله في ذلك {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - إلى قوله
لِلْعُسْرَى} وهو عند أحمد من هذا الوجه، لكن ليس فيه آخره. قوله: "منفق مال" بالإضافة ولبعضهم "منفقا مالا خلفا" ومالا مفعول منفق بدليل رواية الإضافة ولولاها احتمل أن يكون مفعول أعطى، والأول أولى من جهة أخرى وهي أن سياق الحديث للحض على إنفاق المال فناسب أن

(3/304)


يكون مفعول منفق، وأما الخلف فإبهامه أولى ليتناول المال والثواب: وغيرهما، وكم من متق مات قبل أن يقع له الخلف المالي فيكون خلفة الثواب المعد له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك. قوله: "حدثنا إسماعيل حدثني أخي" هو أبو بكر بن أبي أويس، وسليمان هو ابن بلال، وأبو الحباب بضم المهملة وموحدتين الأولى خفيفة وسماه مسلم في روايته سعيد بن يسار وهو عم معاوية الراوي عنه، ومزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء الثقيلة واسم أبي مزرد عبد الرحمن، وهذا الإسناد كله مدنيون. قوله: "ما من يوم" في حديث أبي الدرداء "م ا من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان" فذكر مثل حديث أبي هريرة. قوله: "إلا ملكا" في حديث أبي الدرداء "إلا وبجنبتيها ملكان" والجنبة بسكون النون الناحية، وقوله: "خلفا" أي عوضا. قوله: "أعط ممسكا تلفا" التعبير بالعطية في هذه للمشاكلة، لأن التلف ليس بعطية. وأفاد حديث أبي هريرة أن الكلام المذكور موزع بينهما، فنسب إليهما في حديث أبي الدرداء نسبة المجموع إلى المجموع، وتضمنت الآية الوعد بالتيسير لمن ينفق في وجوه البر، والوعيد بالتعسير لعكسه. والتيسير المذكور أعم من أن يكون لأحوال الدنيا أو لأحوال الآخرة، وكذا دعاء الملك بالخلف يحتمل الأمرين، وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات. وقال القرطبي: وهو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قوله في حديث أبي موسى "طيبة بها نفسه" والله أعلم.

(3/305)


28 - باب مَثَلِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْبَخِيلِ
1443 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال: النبي صلى الله عليه وسلم " مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ"
و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ"
تَابَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي الْجُبَّتَيْنِ
[الحديث 1443 - أطرافه في: 1444, 2917, 5299, 5797]
1444 - وَقَالَ حَنْظَلَةُ عَنْ طَاوُسٍ "جُنَّتَانِ"
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جُنَّتَانِ"

(3/305)


قوله: "باب مثل المتصدق والبخيل" قال الزين بن المنير: قام التمثيل في خبر الباب مقام الدليل على تفضيل المتصدق على البخيل، فاكتفى المصنف بذلك عن أن يضمن الترجمة مقاصد الخبر على التفصيل. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي، وابن طاوس اسمه عبد الله. ولم يسق المتن من هذه الطريق الأولى هنا، وقد أورده في الجهاد عن موسى بهذا الإسناد فساقه بتمامه. قوله: "أن عبد الرحمن" هو ابن هرمز الأعرج. قوله: "مثل البخيل والمنفق" وقع عند مسلم من طريق سفيان عن أبي الزناد "مثل المنفق والمتصدق "قال عياض: وهو وهم، ويمكن أن يكون حذف مقابله لدلالة السياق عليه. قلت قد رواه الحميدي وأحمد وابن أبي عمر وغيرهم في مسانيدهم عن ابن عيينة فقالوا في روايتهم "مثل المنفق والبخيل "كما في رواية شعيب عن أبي الزناد وهو الصواب، ووقع في رواية الحسن بن مسلم عن طاوس "ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق" أخرجها المصنف في اللباس. قوله: " عليهما جبتان من حديد" كذا في هذه الرواية بضم الجيم بعدها موحدة، ومن رواه فيها بالنون فقد صحف، وكذا رواية الحسن بن مسلم، ورواه حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن طاوس بالنون ورجحت لقوله: "من حديد" والجنة في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تجن صاحبها أي تحصنه، والجبة بالموحدة ثوب مخصوص، ولا مانع من إطلاقه على الدرع. واختلف في رواية الأعرج والأكثر على أنها بالموحدة أيضا. قوله: "من ثديهما" بضم المثلثة جمع ثدي، و "تراقيهم" بمثناة وقاف جمع ترقوة. قوله: "سبغت" أي امتدت وغطت. قوله: "أو وفرت" شك من الراوي، وهو بتخفيف الفاء من الوفور، ووقع في رواية الحسن بن مسلم: "انبسطت" وفي رواية الأعرج "اتسعت عليه" وكلها متقاربة. قوله: "حتى تخفي بنانه" أي تستر أصابعه. وفي رواية الحميدي "حتى تجن" بكسر الجيم وتشديد النون وهي بمعنى تخفي، وذكرها الخطابي في شرحه للبخاري كرواية الحميدي، وبنانه بفتح الموحدة ونونين الأولى خفيفة: الإصبع، ورواه بعضهم "ثيابه" بمثلثة وبعد الألف موحدة وهو تصحيف. وقد وقع في رواية الحسن بن مسلم: "حتى تغشي - بمعجمتين - أنامله". قوله: "وتعفو أثره" بالنصب أي تستر أثره، يقال عفا الشيء وعفوته أنا لازم ومتعد، ويقال عفت الدار إذا غطاها التراب، والمعنى أن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي الثوب الذي يجر على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه. قوله: "لزقت" في رواية مسلم: "انقبضت "وفي رواية همام "غاصت كل حلقة مكانها" وفي رواية سفيان عند مسلم: "قلصت" وكذا في رواية الحسن بن مسلم عند المصنف، والمفاد واحد لكن الأولى نظر فيها إلى صورة الضيق والأخيرة نظر فيها إلى سبب الضيق. وزعم ابن التين أن فيه إشارة إلى أن البخيل يكوى بالنار يوم القيامة، قال الخطابي وغيره: وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعا يستتر به من سلاح عدوه، فصبها على رأسه ليلبسها، والدروع أول ما تقع على الصدر والثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعا سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله: "حتى تعفو أثره" أي تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه، كلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معني قوله: "قلصت" أي تضامنت واجتمعت، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره وطابت نفسه فتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وقال المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدنيا والآخرة، بخلاف البخيل فإنه

(3/306)


يفضحه. ومعنى تعفو أثره تمحو خطاياه. وتعقبه عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار عن كائن. قال: وقيل هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخل بضده. وقيل تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعود ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادة. وقال الطيبي: قيد المشبه به بالحديد إعلاما بأن القبض والشدة من جبلة الإنسان، وأوقع المتصدق موقع السخي لكونه جعله في مقابلة البخيل إشعارا بأن السخاء هو ما أمر به الشارع وندب إليه من الإنفاق لا ما يتعاناه المسرفون. قوله: "فهو يوسعها ولا تتسع" ، وقع في رواية سفيان عند مسلم: "قال أبو هريرة فهو يوسعها ولا تتسع" وهذا يوهم أن يكون مدرجا وليس كذلك، وقد وقع التصريح برفع هذه الجملة في طريق طاوس عن أبي هريرة: ففي رواية ابن طاوس عند المصنف في الجهاد "فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فيجتهد أن يوسعها ولا تتسع" وفي رواية مسلم: "فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره. وفي رواية الحسن بن مسلم عندهما "فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتسع" ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق عن أبي الزناد في الحديث: "وأما البخيل فإنها لا تزداد عليه إلا استحكاما" وهذا بالمعنى. قوله: "تابعه الحسن بن مسلم عن طاوس" وصله المصنف في اللباس من طريقه. قوله: "وقال حنظلة عن طاوس" ذكره في اللباس أيضا تعليقا بلفظ: "وقال حنظلة سمعت طاوسا سمعت أبا هريرة" وقد وصله الإسماعيلي من طريق إسحاق الأزرق عن حنظلة. قوله: "وقال الليث حدثني جعفر" هو ابن ربيعة، وابن هرمز هو عبد الرحمن الأعرج، ولم تقع في رواية الليث موصولة إلى الآن، وقد رأيته عنه بإسناد آخر أخرجه ابن حبان من طريق عيسى ابن حماد عن الليث عن ابن عجلان عن أبي الزناد بسنده.

(3/307)


29 - باب صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [267 البقرة]:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ - إلى قوله: أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
قوله: "باب صدقة الكسب والتجارة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية إلى قوله {حَمِيدٌ} هكذا أورد هذه الترجمة مقتصرا على الآية بغير حديث، وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة الحلال أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق آدم عنه، وأخرجه الطبري من طريق هشيم عن شعبة ولفظه {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} قال: من الثمار. ومن طريق أبي بكر الهذلي عن محمد بن سيرين عن عبيدة ابن عمرو عن علي قال في قوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} قال: يعني من الحب والتمر كل شيء عليه زكاة. قال الزين بن المنير لم يقيد الكسب في الترجمة بالطيب كما في الآية استغناء عن ذلك بما قدم في ترجمة "باب الصدقة من كسب طيب".

(3/307)


30 - باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ
1445 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ

(3/307)


31 - باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً
1446 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الأَنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْهَا, فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْتُ لاَ إِلاَّ مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ فَقَالَ هَاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا"
[الحديث 1446
طرفاه في: 1494, 2579]
قوله: "باب قدر كم يعطي من الزكاة والصدقة، ومن أعطى شاة" أورد فيه حديث أم عطية في إهدائها الشاة التي تصدق بها عليها. قال الزين بن المنير: عطف الصدقة على الزكاة من عطف العام على الخاص، إذ لو اقتصر على الزكاة لأفهم أن غيرها بخلافها، وحذف مفعول يعطي اختصارا لكونهم ثمانية أصناف، وأشار بذلك إلى الرد على من كره أن يدفع إلى شخص واحد قدر النصاب، وهو محكي عن أبي حنيفة. وقال محمد بن الحسن: لا بأس به انتهى.
وقال غيره: لفظ الصدقة يعم الفرض والنفل، والزكاة كذلك لكنها لا تطلق غالبا إلا على المفروض دون التطوع فهي أخص من الصدقة من هذا الوجه، ولفظ الصدقة من حيث الإطلاق على الفرض مرادف الزكاة لا من حيث الإطلاق على النفل، وقد تكرر في الأحاديث لفظ الصدقة على المفروضة ولكن الأغلب التفرقة. والله أعلم.

(3/309)


قوله: "بعث إلى نسيبة الأنصارية" هي أم عطية كذا وقع في رواية ابن السكن عن الفربري عن البخاري في آخر هذا الحديث، وكان السياق يقتضي أن يقول: "بعث إلي" بلفظ ضمير المتكلم المجرور كما وقع عند مسلم من طريق ابن علية عن خالد، لكنه في هذا السياق وضع الظاهر موضع المضمر إما تجريدا وإما التفاتا، وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في "باب إذا حولت الصدقة" في أواخر كتاب الزكاة إن شاء الله تعالى.

(3/310)


32 - باب زَكَاةِ الْوَرِقِ
1447 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنْ الإِبِلِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"
1448 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
قوله: "باب زكاة الورق" أي الفضة، يقال: "ورق" بفتح الواو وبكسرها وبكسر الراء وسكونها، قال ابن المنير: لما كانت الفضة هي المال الذي يكثر دورانه في أيدي الناس ويروج بكل مكان كان أولى بأن يقدم على ذكر تفاصيل الأموال الزكوية. قوله: "عن عمرو بن يحيى المازني" في موطأ ابن وهب "عن مالك أن عمرو بن يحيى حدثه".
قوله: "عن أبيه" في مسند الحميدي عن سفيان "سألت عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني فحدثني عن أبيه" وفي رواية يحيى بن سعيد وهو الأنصاري التي ذكرها المصنف عقب هذا الإسناد التصريح بسماع عمرو وهو ابن يحيى المذكور له من أبيه، وهذا هو السر في إيراده للإسناد خاصة، وقد حكى ابن عبد البر عن بعض أهل العلم أن حديث الباب لم يأت إلا من حديث أبي سعيد الخدري، قال: وهذا هو الأغلب، إلا أنني وجدته من رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ومن طريق محمد بن مسلم1 عن عمرو بن دينار عن جابر انتهى. ورواية سهيل في "الأموال لأبي عبيد" ورواية مسلم في "المستدرك" وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن جابر، وجاء أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وأبي رافع ومحمد بن عبد الله بن جحش أخرج أحاديث الأربعة الدارقطني، ومن حديث ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد أيضا. قوله: "خمس ذود" بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد. قوله: "خمس أواق" زاد مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد "خمس أواق من الورق صدقة" وهو مطابق للفظ الترجمة، وكأن المصنف أراد أن يبين بالترجمة ما أبهم في لفظ الحديث اعتمادا على الطريق الأخرى. و "أواق" بالتنوين وبإثبات التحتانية مشددا ومخففا جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية، وحكى اللحياني "وقية" بحذف الألف وفتح الواو. ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهما بالاتفاق، والمراد بالدرهم الخالص من الفضة سواء كان مضروبا أو غير مضروب، قال عياض قال أبو عبيد: إن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتى جاء عبد الملك بن
ـــــــ
1 كذا في المخطوطة وطبعة بولاق. والصواب "ورواية ابن مسلم" كما يعلم من السياق. والله أعلم

(3/310)


مروان فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، قال: وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وسلم أحال بنصاب الزكاة على أمر مجهول وهو مشكل، والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام وكانت مختلفة في الوزن بالنسبة إلى العدد، فعشرة مثلا وزن عشرة وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصير وزنها وزنا واحدا. وقال غيره: لم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام، وأما الدرهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم يبلغ مائة وأربعين مثقالا من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فإنه انفرد بقوله: إن كل أهل بلد يتعاملون بدراهمهم. وذكر ابن عبد البر اختلافا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي الإجماع فاعتبر النصاب بالعدد لا الوزن، وانفرد السرخسي من الشافعية بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلا لبلغ نصابا فإن الزكاة تجب فيه كما نقل عن أبي حنيفة، واستدل بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب ولو حبة واحدة، خلافا لمن سامح بنقص يسير كما نقل عن بعض المالكية. قوله: "أوسق" جمع وسق بفتح الواو ويجوز كسرها كما حكاه صاحب "المحكم" وجمعه حينئذ أوساق كحمل وأحمال، وقد وقع كذلك في رواية لمسلم، وهو ستون صاعا بالاتفاق، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق أبي البختري عن أبي سعيد نحو هذا الحديث وفيه: "والوسق ستون صاعا"، وأخرجها أبو داود أيضا لكن قال: "ستون مختوما"1 والدارقطني من حديث عائشة أيضا والوسق ستون صاعا، ولم يقع في الحديث بيان المكيل بالأوسق لكن في رواية مسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة" وفي رواية له "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" ولفظ: "دون" في المواضع الثلاثة بمعنى أقل لا أنه نفى عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعض من لا يعتد بقوله. واستدل بهذا الحديث على وجوب الزكاة في الأمور الثلاثة، واستدل به على أن الزروع لا زكاة فيها حتى تبلغ خمسة أوسق، وعن أبي حنيفة تجب في قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وسيأتي البحث في ذلك في باب مفرد إن شاء الله تعالى. ولم يتعرض الحديث للقدر الزائد على المحدود، وقد أجمعوا في الأوساق على أنه لا وقص فيها، وأما الفضة فقال الجمهور هو كذلك، وعن أبي حنيفة لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ النصاب وهو أربعون فجعل لها وقصا كالماشية، واحتج عليه الطبراني بالقياس على الثمار والحبوب، والجامع كون الذهب والفضة مستخرجين من الأرض بكلفة ومؤونة، وقد أجمعوا على ذلك في خمسة أوسق فما زاد.
" فائدة ": أجمع العلماء على اشتراط الحول في الماشية والنقد دون المعشرات. والله أعلم.
ـــــــ
1 ثم روى أبو داود بعد ما ذكر اللفظ المذكور عن إبراهيم النخعي ما نصه قال: الوسق ستون صاعا مختوما بالحجاجي. وبما قاله إبراهيم المذكورين يعرف معنى قوله "مختوما" في الرواية التي ذكرها الشارح. والله أعلم

(3/311)


33 - باب الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَهْلِ الْيَمَنِ ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"

(3/311)


وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْعُرُوضِ
1449 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ"
[الحديث 1448
أطرافه في: 1450, 1451, 1452, 1453, 1454, 6487, 3106, 5878, 6955]
1449 - حدثنا مؤمل حدثنا إسماعيل عن أيوب عن عطاء بن أبي رباح قال قال بن عباس رضي الله عنهما ثم أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم "لصلى قبل الخطبة فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهن ومعه بلال ناشر ثوبه فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن فجعلت المرأة تلقي وأشار أيوب إلى أذنه وإلى حلقه"
قوله: "باب العرض في الزكاة" أي جواز أخذ العرض، وهو بفتح المهملة وسكون الراء بعدها معجمة، والمراد به ما عدا النقدين. قال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل. وقد أجاب الجمهور عن قصة معاذ وعن الأحاديث كما سيأتي عقب كل منها. قوله: "وقال طاوس: قال معاذ لأهل اليمن" هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس، لكن طاوس لم يسمع من معاذ فهو منقطع، فلا يغتر بقول من قال ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه، وأما باقي الإسناد فلا، إلا أن إيراده له في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده، وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في الباب. وقد روينا أثر طاوس المذكور في "كتاب الخراج ليحيى بن آدم" من رواية ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة وعمرو بن دينار فرقهما كلاهما عن طاوس. وقوله: "خميص" قال الداودي والجوهري وغيرهما: ثوب خميس بسين مهملة هو ثوب طوله خمسة أذرع، وقيل سمي بذلك لأن أول من عمله الخميس ملك من ملوك اليمن. وقال عياض: ذكره البخاري بالصاد، وأما أبو عبيدة فذكره بالسين، قال أبو عبيدة: كأن معاذا عنى الصفيق من الثياب. وقال عياض: قد يكون المراد ثوب خميص أي خميصة، لكن ذكره على إرادة الثوب. وقوله: "لبيس" أي ملبوس فعيل بمعنى مفعول. وقوله: "في الصدقة" يرد قول من قال إن ذلك كان في الخراج، وحكى البيهقي أن بعضهم قال فيه: "من الجزية" بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاستدلال، لكن المشهور الأول، وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس "أن معاذا كان يأخذ العروض في الصدقة "وأجاب الإسماعيلي باحتمال أن يكون المعنى ائتوني به آخذه منكم مكان الشعير والذرة الذي آخذه شراء بما آخذه فيكون بقبضه قد بلغ محله، ثم يأخذ مكانه ما يشتريه مما هو أوسع عندهم وأنفع للآخذ. قال: ويؤيده أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصحابة، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها

(3/312)


على فقرائهم. وأجيب بأنه لا مانع من أنه كان يحمل الزكاة إلى الإمام ليتولى قسمتها. وقد احتج به من يجيز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وهي مسألة خلافية أيضا. وقيل في الجواب عن قصة معاذ إنها اجتهاد منه فلا حجة فيها، وفيه نظر لأنه كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد بين له النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن ما يصنع. وقيل كانت تلك واقعة حال لا دلالة فيها لاحتمال أن يكون علم بأهل المدينة حاجة لذلك وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي: كانوا يطلقون على الجزية اسم الصدقة فلعل هذا منها. وتعقب بقوله: "مكان الشعير والذرة" وما كانت الجزية حينئذ من أولئك من شعير ولا ذرة إلا من النقدين. وقوله: "أهون عليكم" أراد معنى تسلط السهولة عليهم فلم يقل أهون لكم. وقوله: "وخير لأصحاب محمد" أي أرفق بهم لأن مؤونة النقل ثقيلة فرأى الأخف في ذلك خيرا من الأثقل. قوله: "وقاله النبي صلى الله عليه وسلم وأما خالد" هو طرف من حديث لأبي هريرة أوله "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة، فقيل منع ابن جميل" الحديث وسيأتي موصولا في "باب قول الله وفي الرقاب" مع بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقن ولو من حليكن" فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها، ولم يخص الذهب والفضة من العروض" أما الحديث فطرف من حديث لابن عباس أخرجه المصنف بمعناه وقد تقدم في العيدين، وهو عند مسلم بلفظه من طريق عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وأوله "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى" الحديث وفيه: "فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها" والخرص بضم المعجمة وسكون الراء بعدها مهملة الحلقة التي تجعل في الأذن، وقد ذكره المصنف موصولا في آخر الباب لكن لفظه: "فجعلت المرأة تلقي، وأشار أيوب إلى أذنه وحلقه" وقد وقع تفسير ذلك بما ذكره في الترجمة من قوله: "تلقي خرصها وسخابها" لأن الخرص من الأذن والسخاب من الحلق، والسخاب بكسر المهملة بعدها معجمة وآخره موحدة القلادة. وقوله: "فلم يستثن" وقوله: "فلم يخص" كل من الكلامين للبخاري ذكرهما بيانا لكيفية الاستدلال على أداء العرض في الزكاة، وهو مصير منه إلى أن مصارف الصدقة الواجبة كمصارف صدقة التطوع بجامع ما فيهما من قصد القربة، والمصروف إليهم بجامع الفقر والاحتياج، إلا ما استثناه الدليل. وأما من وجهه فقال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالصدقة في ذلك اليوم وأمره على الوجوب صارت صدقة واجبة، ففيه نظر لأنه لو كان للإيجاب هنا لكان مقدرا وكانت المجازفة فيه وقبول ما تيسر غير جائز. ويمكن أن يكون تمسك بقوله: "تصدقن" فإنه مطلق يصلح لجميع أنواع الصدقات واجبها ونفلها وجميع أنواع المتصدق به عينا وعرضا، ويكون قوله: "ولو من حليكن" للمبالغة أي ولو لم تجدن إلا ذلك. وموضع الاستدلال منه للعرض قوله: "وسخابها" لأنه قلادة تتخذ من مسك وقرنفل ونحوهما تجعل في العنق، والبخاري فيما عرف بالاستقراء من طريقته يتمسك بالمطلقات تمسك غيره بالعمومات.ثم ذكر المصنف في هذا الباب حديث أنس أن أبا بكر كتب له، وسيأتي معظمه في "باب زكاة الغنم" وموضع الدلالة منه قبول ما هو أنفس مما يجب على المتصدق وإعطاؤه التفاوت من جنس غير الجنس الواجب، وكذا العكس، لكن أجاب الجمهور عن ذلك بأنه لو كان كذلك لكان ينظر إلى ما بين الشيئين في القيمة، فكان العرض1 يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف ذلك في الأمكنة والأزمنة، فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في
ـــــــ
1 كذا في النسخ, ولعله"فإن العرض"

(3/313)


الأصل في مثل ذلك، ولولا تقدير الشارع بذلك لتعينت بنت المخاض مثلا ولم يجز أن تبدل بنت لبون مع التفاوت. والله أعلم

(3/314)


34 - باب لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ
1450 - حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا أبي حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة"
قوله: "باب لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" في رواية الكشميهني: "متفرق" بتقديم التاء وتشديد الراء، قال الزين بن المنير: لم يقيد المصنف الترجمة بقوله خشية الصدقة لاختلاف نظر العلماء في المراد بذلك كما سيأتي. قوله: "ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله" أي مثل لفظ هذه الترجمة، وهو طرف من حديث أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي والحاكم وغيرهم من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عنه موصولا، وسفيان بن حسين ضعيف في الزهري، وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري فأخرجه الحاكم من طريق يونس بن يزيد عن الزهري وقال: إن فيه تقوية لرواية سفيان بن حسين لأنه قال عن الزهري "قال أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها" فذكر الحديث ولم يقل إن ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاري، لكن أورده شاهدا لحديث أنس الذي وصله البخاري في الباب ولفظه: "ولا يجمع بين متفرق" بتقديم التاء أيضا وزاد: "خشية الصدقة" واختلف في المراد بالخشية كما سنذكره، وفي الباب عن علي عند أصحاب السنن وعن سويد بن غفلة قال: "أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فقرأت في عهده" فذكر مثله أخرجه النسائي، وعن سعد بن أبي وقاص أخرجه البيهقي. قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة وللساعي من جهة، فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر، فمعنى قوله خشية الصدقة أي خشية أن تكثر الصدقة أو خشية أن تقل الصدقة، فلما كان محتملا للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر، فحمل عليهما معا، لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر والله أعلم. واستدل به على أن من كان عنده دون النصاب من الفضة ودون النصاب من الذهب مثلا أنه لا يجب ضم بعضه إلى بعض حتى يصير نصابا كاملا فتجب فيه الزكاة خلافا لمن قال يضم على الأجزاء كالمالكية أو على القيم كالحنفية، واستدل به لأحمد على أن من كان له ماشية ببلد لا تبلغ النصاب كعشرين شاة مثلا بالكوفة ومثلها بالبصرة أنها لا تضم باعتبار كونها ملك رجل واحد وتؤخذ منها الزكاة لبلوغها النصاب قاله ابن المنذر، وخالفه الجمهور فقالوا: يجمع على صاحب المال أمواله

(3/314)


ولو كانت في بلدان شتى ويخرج منها الزكاة. واستدل به على إبطال الحيل والعمل على المقاصد المدلول عليها بالقرائن، وأن زكاة العين لا تسقط بالهبة مثلا. والله أعلم.

(3/315)


باب ما كان خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية
...
35 - باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلاَ يُجْمَعُ مَالُهُمَا
وَقَالَ سُفْيَانُ لاَ يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً
1451 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ
قوله: "باب وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" اختلف في المراد بالخليط كما سيأتي، فعند أبي حنيفة أنه الشريك قال: ولا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذي كان يحب عليه لو لم يكن خلط، وتعقبه ابن جرير بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث. وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهي، ولو كان كما قال لما كان لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى. قوله: "يتراجعان" قال الخطابي: معناه أن يكون بينهما أربعون شاة مثلا لكل واحد منهما عشرون قد عرف كل منهما عين ماله فيأخذ المصدق من أحدهما شاة فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بقيمة نصف شاة، وهذه تسمى خلطة الجوار. قوله: "وقال طاوس وعطاء إلخ" هذا التعليق وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال" قال: "حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن طاوس قال: إذا كان الخليطان يعلمان أموالهما لم يجمع مالهما في الصدقة، قال -يعني ابن جريج- فذكرته لعطاء فقال: ما أراه إلا حقا وهكذا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن شيخه. وقال أيضا عن ابن جريج "قلت لعطاء: ناس "خلطاء لهم أربعون شاة؟ قال: عليهم شاة. قلت: فلواحد تسعة وثلاثون شاة ولآخر شاة؟ قال: عليهما شاة". قوله: "وقال سفيان لا تجب حتى يتم لهذا أربعون شاة ولهذا أربعون شاة" قال عبد الرزاق عن الثوري "قولنا لا يجب على الخليطين شيء إلا أن يتم لهذا أربعون ولهذا أربعون" انتهى، وبهذا قال مالك. وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا، والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل، والشركة أخص منها. وفي "جامع سفيان الثوري" عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر "ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية". قلت لعبيد الله: ما يعني بالخليطين؟ قال: إذا كان المراح واحدا والراعي واحدا والدلو واحدا. ثم أورد المصنف طرفا من حديث أنس المذكور وفيه لفظ الترجمة.
واختلف في المراد بالخليط، فقال أبو حنيفة هو الشريك، واعترض عليه بأن الشريك قد لا يعرف عين ماله وقد قال إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد بينه قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} واعتذر بعضهم عن الحنفية بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، أو رأوا أن الأصل قوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" وحكم الخلطة بغير هذا الأصل فلم يقولوا به.

(3/315)


36 - باب زَكَاةِ الإِبِلِ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1452 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي قال حدثني بن شهاب عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال ويحك إن شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي صدقتها قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا"
[الحديث 1452
أطرافه: 2633, 3923, 6165]
قوله: "باب زكاة الإبل" سقط لفظ: "باب" من رواية الكشميهني والحموي. قوله: "ذكره أبو بكر وأبو ذر وأبو هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث أبي بكر فقد ذكره مطولا كما سيأتي بعد باب من رواية أنس عنه، ولأبي بكر حديث آخر تقدم أيضا فيما يتعلق بقتال مانعي الزكاة. وأما حديث أبي ذر فسيأتي بعد ستة أبواب من رواية المعرور بن سويد عنه في وعيد من لا يؤدي زكاة أبله وغيرها ويأتي منه حديث أبي هريرة أيضا في ذلك إن شاء الله تعالى. ثم ذكر المصنف حديث الأعرابي الذي سأل عن شأن الهجرة، وموضع الحاجة منه قوله: "فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟ قال. نعم" وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الهجرة إن شاء الله تعالى. قال الزين بن المنير: في هذه الأحاديث أحكام متعددة تتعلق بهذه الترجمة، منها إيجاب الزكاة، والتسوية بينها وبين الصلاة في قتال مانعيها حتى لو منعوا عقالا وهو الذي تربط به الإبل، وتسميتها فريضة وذلك أعلى الواجبات وتوعد من لم يؤدها بالعقوبة في الدار الآخرة كما في حديثي أبي ذر وأبي هريرة. وفي حديث أبي سعيد فضل أداء زكاة الإبل، ومعادلة إخراج حق الله منها لفضل الهجرة، فإن في الحديث إشارة إلى أن استقراره بوطنه إذا أدى زكاة إبله يقوم له مقام ثواب هجرته وإقامته بالمدينة.

(3/316)


باب من بلغت عنده الصدقة بنت مخاض وليست عنده
...
37 - باب مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ
1453 - حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة أن أنسا رضي الله عنه حدثه ثم أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة ليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة إنها تقبل منه الجذعة يعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين"

(3/316)


قوله: "باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده" أورد فيه طرفا من حديث أنس المذكور، وليس فيه ما ترجم به، وقد أورد الحكم الذي ترجم به في "باب العرض في الزكاة" وحذفه هنا، فقال ابن بطال: هذه غفلة منه. وتعقبه ابن رشيد وقال: بل هي غفلة ممن ظن به الغفلة، وإنما مقصده أن يستدل على من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده هي ولا ابن لبون لكن عنده مثلا حقة وهي أرفع من بنت مخاض لأن بينهما بنت لبون، وقد تقرر أن بين بنت اللبون وبنت المخاض عشرين درهما أو شاتين، وكذلك سائر ما وقع ذكره في الحديث من سن يزيد أو ينقص إنما ذكر فيه ما يليها لا ما يقع بينهما بتفاوت درجة، فأشار البخاري إلى أنه يستنبط من الزائد والناقص والمنفصل ما يكون منفصلا بحساب ذلك. فعلى هذا من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده إلا حقة أن يرد عليه المصدق أربعين درهما أو أربع شياه جبرانا أو بالعكس، فلو ذكر اللفظ الذي ترجم به لما أفهم هذا الغرض، فتدبره انتهى. قال الزين بن المنير: من أمعن النظر في تراجم هذا الكتاب وما أودعه فيها من أسرار المقاصد استبعد أن يغفل أو يهمل أو يضع لفظا بغير معنى أو يرسم في الباب خبرا يكون غيره به أقعد وأولى، وإنما قصد بذكر ما لم يترجم به أن يقرر أن المفقود إذا وجد الأكمل منه أو الأنقص شرع الجبران كما شرع ذلك فيما تضمنه هذا الخبر من ذكر الأسنان فإنه لا فرق بين فقد بنت المخاض ووجود الأكمل منها. قال: ولو جعل العمدة في هذا الباب الخبر المشتمل على ذكر فقد بنت المخاض لكان نصا في الترجمة ظاهرا، فلما تركه واستدل بنظيره أفهم ما ذكرناه من الإلحاق بنفي الفرق وتسويته بين فقد بنت المخاض ووجود الأكمل منها وبين فقد الحقة ووجود الأكمل منها. والله أعلم.

(3/317)


38 - باب زَكَاةِ الْغَنَمِ
1454 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ

(3/317)


عَلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا وَفِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا"
قوله: "باب زكاة الغنم" قال الزين بن المنير: حذف وصف الغنم بالسائمة وهو ثابت في الخبر، إما لأنه لم يعتبر هذا المفهوم أو لتردده من جهة تعارض وجوه النظر فيه عنده، وهي مسألة خلافية شهيرة، والراجح في مفهوم الصفة أنها إن كانت تناسب الحكم مناسبة العلة لمعلولها اعتبرت وإلا فلا، ولا شك أن السوم يشعر بخفة المؤونة ودرء المشقة بخلاف العلف فالراجح اعتباره هنا والله أعلم. قوله: "حدثني ثمامة" هو عم الراوي عنه لأنه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، وهذا الإسناد مسلسل بالبصريين من آل أنس بن مالك. وعبد الله بن المثنى اختلف فيه قول ابن معين فقال مرة: صالح، ومرة: ليس بشيء. وقواه أبو زرعة وأبو حاتم والعجلي. وأما النسائي فقال: ليس بالقوي. وقال العقيلي: لا يتابع في أكثر حديثه انتهى. وقد تابعه على حديثه هذا حماد بن سلمة فرواه عن ثمامة أنه أعطاه كتابا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقا فذكر الحديث، هكذا أخرجه أبو داود عن أبي سلمة عنه، ورواه أحمد في مسنده قال: "حدثنا أبو كامل حدثنا حماد قال أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس أن أبا بكر" فذكره. وقال إسحاق بن راهويه في مسنده "أخبرنا النضر بن شميل حدثنا حماد بن سلمة أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدثه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم" فذكره. فوضح أن حمادا سمعه من ثمامة وأقرأه الكتاب فانتفى تعليل من أعله بكونه مكاتبة، وانتفى تعليل من أعله بكون عبد الله بن المثنى لم يتابع عليه. قوله: "أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين" أي عاملا عليها، وهي اسم لإقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها هجر، وهكذا ينطق به بلفظ التثنية والنسبة إليه بحراني. قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم هذه" قال الماوردي يستدل به على إثبات البسملة في ابتداء الكتب وعلى أن الابتداء بالحمد ليس بشرط. قوله: "هذه فريضة الصدقة" أي نسخة فريضة فحذف المضاف للعلم به، وفيه أن اسم الصدقة يقع على الزكاة خلافا لمن منع ذلك من الحنفية. قوله: "التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين" ظاهر في رفع الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس موقوفا على أبي بكر، وقد صرح برفعه في رواية إسحاق المقدم ذكرها. ومعنى "فرض" هنا أوجب أو شرع يعني يأمر الله تعالى، وقيل معناه قدر لأن إيجابها ثابت في الكتاب ففرض النبي صلى الله عليه وسلم لها بيانه للمجمل من الكتاب بتقدير الأنواع والأجناس. وأصل الفرض قطع الشيء الصلب ثم استعمل في التقدير لكونه مقتطعا من الشيء الذي يقدر منه، ويرد بمعنى البيان كقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وبمعنى الإنزال كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} وبمعنى الحل كقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} وكل ذلك لا يخرج من معنى التقدير. ووقع استعمال الفرض بمعنى اللزوم حتى كاد يغلب عليه وهو لا يخرج أيضا عن معنى التقدير، وقد قال الراغب: كل شيء ورد في القرآن فرض على فلان فهو بمعنى الإلزام، وكل شيء فرض له فهو بمعنى لم يحرمه عليه. وذكر أن معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي أوجب عليك العمل به، وهذا يؤيد قول الجمهور إن الفرض مرادف للوجوب. وتفريق الحنفية بين الفرض والواجب باعتبار ما يثبتان به لا مشاحة فيه، وإنما النزع في حمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة على ذلك لأن اللفظ السابق لا يحمل على الاصطلاح الحادث والله أعلم.
قوله: "على المسلمين" استدل به على أن

(3/318)


الكافر ليس مخاطبا بذلك، وتعقب بأن المراد بذلك كونها لا تصح منه، لا أنه لا يعاقب عليها وهو محل النزاع. قوله: "والتي أمر الله بها رسوله" كذا في كثير من نسخ البخاري، ووقع في كثير منها بحذف "بها" وأنكرها النووي في شرح المهذب، ووقع في رواية أبي داود المقدم ذكرها "التي أمر" بغير واو على أنها بدل من الأولى. قوله: "فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها" أي على هذه الكيفية المبينة في هذا الحديث. وفيه دلالة على دفع الأموال الظاهرة إلى الإمام. قوله: "ومن سئل فوقها فلا يعط" أي من سئل زائدا على ذلك في سن أو عدد فله المنع. ونقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه. وقيل معناه فليمنع الساعي وليتول هو إخراجه بنفسه أو بساع آخر فإن الساعي الذي، طلب الزيادة يكون بذلك متعديا وشرطه أن يكون أمينا، لكن محل هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل. قوله: "في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها" أي إلى خمس. قوله: "من الغنم" كذا للأكثر. وفي رواية ابن السكن بإسقاط "من" وصوبها بعضهم. وقال عياض: من أثبتها فمعناه زكاتها أي الإبل من الغنم، و "من" للبيان لا للتبعيض. ومن حذفها فالغنم مبتدأ والخبر مضمر في قوله: "في كل أربع وعشرين" وما بعده، وإنما قدم الخبر لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، والزكاة إنما تجب بعد وجود النصاب فحسن التقديم، واستدل به على تعين إخراج الغنم في مثل ذلك وهو قول مالك وأحمد، فلو أخرج بعيرا عن الأربع والعشرين لم يجزه. وقال الشافعي والجمهور: يجزئه لأنه يجزئ عن خمس وعشرين، فما دونها أولى. ولأن الأصل أن يجب من جنس المال، وإنما عدل عنه رفقا بالمالك، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه، فإن كانت قيمة البعير مثلا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، والأقيس أنه لا يجزئ، واستدل بقوله: "في كل أربع وعشرين" على أن الأربع مأخوذة عن الجمع وإن كانت الأربع الزائدة على العشرين وقصا وهو قول الشافعي في البويطي. وقال في غيره: إنه عفو. ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلا تسع من الإبل فتلف منها أربعة بعد الحول وقبل التمكن حيث قلنا إنه شرط في الوجوب وجبت عليه شاة بلا خلاف، وكذا إن قلنا التمكن شرط في الضمان وقلنا الوقص عفو، وإن قلنا يتعلق به الفرض وجب خمسة أتساع شاة، والأول قول الجمهور كما نقله ابن المنذر، وعن مالك رواية كالأول. "تنبيه": الوقص بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وبالسين المهملة بدل الصاد: هو ما بين الفرضين عند الجمهور، واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول أيضا والله أعلم. قوله: "فإذا بلغت خمسا وعشرين" فيه أن في هذا القدر بنت مخاض، وهو قول الجمهور إلا ما جاء عن علي أن في خمس وعشرين خمس شياه فإذا صارت ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه موقوفا ومرفوعا وإسناد المرفوع ضعيف. قوله: "إلى خمس وثلاثين" استدل به على أنه لا يجب فيما بين العددين شيء غير بنت مخاض، خلافا لمن قال كالحنفية تستأنف الفريضة فيجب في كل خمس من الإبل شاة مضافة إلى بنت المخاض. قوله: "ففيها بنت مخاض أنثى" زاد حماد بن سلمة في روايته فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، وقوله أنثى وكذا قوله ذكر للتأكيد أو لتنبيه رب المال ليطيب نفسا بالزيادة، وقيل احترز بذلك من الخنثى وفيه بعد. وبنت المخاض بفتح الميم والمعجمة الخفيفة وآخره معجمة هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت أمها، والماخض الحامل، أي دخل وقت حملها وإن لم تحمل. وابن اللبون الذي دخل في ثالث سنة فصارت أمه لبونا بوضع الحمل.
قوله: "إلى خمس وأربعين" إلى الغاية وهو يقتضي أن ما قبل الغاية يشتمل عليه الحكم المقصود بيانه بخلاف ما بعدها فلا يدخل إلا بدليل، وقد

(3/319)


دخلت هنا بدليل قوله بعد ذلك "فإذا بلغت ستا وأربعين" فعلم أن حكمها حكم ما قبلها. قوله: "حقة طروقة الجمل" حقة بكسر المهملة وتشديد القاف والجمع حقاق بالكسر والتخفيف، وطروقة بفتح أوله أي مطروقة وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة بمعنى محلوبة، والمراد أنها بلغت أن يطرقها الفحل، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة. قوله: "جذعة" بفتح الجيم والمعجمة وهي التي أتت عليها أربع ودخلت في الخامسة. قوله: "فإذا بلغت يعني ستا وسبعين" كذا في الأصل بزيادة يعني، وكأن العدد حذف من الأصل اكتفاء بدلالة الكلام عليه فذكره بعض رواته وأتى بلفظ يعني لينبه على أنه مزيد، أو شك أحد رواته فيه. وقد ثبت بغير لفظ: "يعني" في رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن الأنصاري شيخ البخاري فيه فيحتمل أن يكون الشك فيه من البخاري، وقد وقع في رواية حماد بن سلمة بإثباته أيضا. قوله: "فإذا زادت على عشرين ومائة" أي واحدة فصاعدا، وهذا قول الجمهور. وعن الإصطخري من الشافعية تجب ثلاث بنات لبون لزيادة بعض واحدة لصدق الزيادة، وتتصور المسألة في الشركة، ويرده ما في كتاب عمر المذكور "إذا كان إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة" ومقتضاه أن ما زاد على ذلك فزكاته بالإبل خاصة، وعن أبي حنيفة إذا زادت على عشرين ومائة رجعت إلى فريضة الغنم فيكون في خمس وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون وشاة. قوله: "فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة وفي صدقة الغنم إلخ". "تنبيه": اقتطع البخاري من بين هاتين الجملتين قوله: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة. إلى آخر ما ذكره في الباب الذي قبله وقد ذكر آخره في "باب العرض في الزكاة" وزاد بعد قوله فيه: يقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين "فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء" وهذا الحكم متفق عليه، فلو لم يجد واحدا منهما فله أن يشتري أيهما شاء على الأصح عند الشافعية، وقيل يتعين شراء بنت مخاض وهو قول مالك وأحمد، وقوله: "ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين" هو قول الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث. وعن الثوري "عشرة" وهي رواية عن إسحاق، وعن مالك يلزم رب المال بشراء ذلك السن بغير جبران، قال الخطابي: يشبه أن يكون الشارع جعل الشاتين أو العشرين درهما تقديرا في الجبران لئلا يكل الأمر إلى اجتهاد الساعي لأنه يأخذها على المياه حيث لا حاكم ولا مقوم غالبا، فضبطه بشيء يرفع التنازع كالصاع في المصراة والغرة في الجنين والله أعلم.وبين هاتين الجملتين قوله: "وفي صدقة الغنم" وسيأتي التنبيه على ما حذفه منه أيضا في موضع آخر قريبا. قوله: "إذا كانت" في رواية الكشميهني: "إذا بلغت".
قوله: "فإذا زادت على عشرين ومائة" في كتاب عمر "فإذا كانت إحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين ففيها شاتان" وقد تقدم قول الإصطخري في ذلك والتعقيب عليه. قوله: "فإذا زادت على ثلثمائة ففي كل مائة شاة" مقتضاه أنه لا تجب الشاة الرابعة حتى توفي أربعمائة وهو قول الجمهور، قالوا فائدة ذكر الثلثمائة لبيان النصاب الذي بعده لكون ما قبله مختلفا، وعن بعض الكوفيين كالحسن بن صالح ورواية عن أحمد إذا زادت على الثلثمائة واحدة وجب الأربع.
قوله: "ففي كل مائة شاة شاة فإذا كانت سائمة الرجل".
" تنبيه ": اقتطع البخاري أيضا من بين هاتين الجملتين قوله: "ولا يخرج في الصدقة هرمة" إلى آخر ما ذكره في الباب الذي يليه، واقتطع منه أيضا قوله: "ولا يجمع بين متفرق" إلى آخر ما ذكره في بابه، وكذا قوله: "ومن كان من خليطين" إلى آخر ما ذكره في بابه، ويلي هذا قوله هنا "فإذا كانت سائمة الرجل"إلخ. وهذا حديث واحد يشتمل على هذه الأحكام التي فرقها

(3/320)


المصنف في هذه الأبواب غير مراع للترتيب فيها بل بحسب ما ظهر له من مناسبة إيراد التراجم المذكورة. قوله: "وفي الرقة" بكسر الراء وتخفيف القاف الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة، قيل أصلها الورق فحذفت الواو وعوضت الهاء، وقيل يطلق على الذهب والفضة بخلاف الورق فعلى هذا فقيل أن الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة، فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة وجبت فيه الزكاة وهو ربع العشر، وهذا قول الزهري وخالفه الجمهور. قوله: "فإن لم تكن" أي الفضة "إلا تسعين ومائة" يوهم أنها إذا زادت على التسعين ومائة قبل بلوغ المائتين أن فيها صدقة، وليس كذلك، وإنما ذكر التسعين لأنه آخر عقد قبل المائة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود كالعشرات والمئين والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المائتين، ويدل عليه قوله الماضي "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" قوله: "إلا أن يشاء ربها في المواضع الثلاثة" أي إلا أن يتبرع متطوعا.

(3/321)


39 - باب لاَ تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ إِلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ
1455 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلاَ يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ إِلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ"
قوله: "باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة - إلى قوله - ما شاء المصدق" اختلف في ضبطه فالأكثر على أنه بالتشديد والمراد المالك، وهذا اختيار أبي عبيد، وتقدير الحديث لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلا، ولا يؤخذ التيس وهو فحل الغنم إلا برضا المالك لكونه يحتاج إليه، ففي أخذه بغير اختياره إضرار به والله أعلم. وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث، ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد وهو الساعي وكأنه يشير بذلك إلى التقويض إليه في اجتهاده لكونه يجري مجرى الوكيل فلا يتصرف بغير المصلحة فيتقيد بما تقتضيه القواعد، وهذا قول الشافعي في البويطي ولفظه: ولا تؤخذ ذات عوار ولا تيس ولا هرمة إلا أن يرى المصدق أن ذلك أفضل للمساكين فيأخذه على النظر انتهى. وهذا أشبه بقاعدة الشافعي في تناول الاستثناء جميع ما ذكر قبله، فلو كانت الغنم كلها معيبة مثلا أو تيوسا أجزأه أن يخرج منها، وعن المالكية يلزم المالك أن يشتري شاه مجزئة تمسكا بظاهر هذا الحديث. وفي رواية أخرى عندهم كالأول. قوله: "هرمة" بفتح الهاء وكسر الراء: الكبيرة التي سقطت أسنانها. قوله: "ذات عوار" بفتح العين المهملة وبضمها أي معيبة، وقيل بالفتح العيب وبالضم العور، واختلف في ضبطها فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع، وقيل ما يمنع الإجزاء في الأضحية، ويدخل في المعيب المريض والذكورة بالنسبة إلى الأنوثة والصغير سنا بالنسبة إلى سن أكبر منه.

(3/321)


40 - باب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِي الصَّدَقَةِ
1456 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ

(3/321)


41 - باب لاَ تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ
1458 - حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن قال: " إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس"
قوله: "لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة" هذه الترجمة مقيدة لمطلق الحديث لأن فيه: "وتوق كرائم أموال الناس" بغير تقييد بالصدقة، وأموال الناس يستوي التوقي لها بين الكرائم وغيرها فقيدها في الترجمة بالصدقة وهو بين من سياق الحديث لأنه ورد في شأن الصدقة، والكرائم جمع كريمة يقال ناقة كريمة أي غزيرة اللبن، والمراد نفائس الأموال من أي صنف كان، وقيل له نفيس لأن نفس صاحبه تتعلق به وأصل الكريمة كثيرة الخير، وقيل للمال النفيس كريم لكثرة منفعته. وسيأتي الكلام على بقية الحديث قبيل أبواب زكاة الفطر إن شاء الله تعالى.

(3/322)


42 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ
1459 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ

(3/322)


43 - باب زَكَاةِ الْبَقَرِ. وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ" وَيُقَالُ جُؤَارٌ تَجْأَرُونَ تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ
1460 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أَوْ كَمَا حَلَفَ- مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلاَّ أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ" رَوَاهُ بُكَيْرٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
[الحديث 1460
طرفه في: 6638]َ
قوله: "باب زكاة البقر" البقر اسم جنس يكون للمذكر والمؤنث، اشتق من بقرت الشيء إذا شققته لأنها تبقر

(3/323)


الأرض بالحراثة. قال الزين بن المنير: أخر زكاة البقر لأنها أقل النعم وجودا ونصبا، ولم يذكر في الباب شيئا مما يتعلق بنصابها لكون ذلك لم يقع على شرطه، فتقدير الترجمة إيجاب زكاة البقر، لأن جملة ما ذكره في الباب يدل على ذلك من جهة الوعيد على تركها، إذ لا يتوعد على ترك غير الواجب. قال ابن رشيد: وهذا الدليل يحتاج إلى مقدمة، وهو أنه ليس في البقر حق واجب سوى الزكاة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الزكاة حيث قال: "باب إثم مانع الزكاة" وذكر فيه حديث أبي هريرة لكن ليس فيه ذكر البقر، ومن ثم أورد في هذا الباب حديث أبي ذر، وأشار إلى أن ذكر البقر وقع أيضا في طريق أخرى في حديث أبي هريرة والله أعلم. وزعم ابن بطال أن حديث معاذ المرفوع "إن في كل ثلاثين بقرة تبيعا وفي كل أربعين مسنة "متصل صحيح وأن مثله في كتاب الصدقات لأبي بكر وعمر، وفي كلامه نظر: أما حديث معاذ فأخرجه أصحاب السنن وقال الترمذي حسن وأخرجه الحاكم في المستدرك، وفي الحكم بصحته نظر لأن مسروقا لم يلق معاذا وإنما حسنه الترمذي لشواهده، ففي الموطأ من طريق طاوس عن معاذ نحوه، وطاوس عن معاذ منقطع أيضا، وفي الباب عن علي عند أبي داود، وأما قوله إن مثله في كتاب الصدقة لأبي بكر فوهم منه لأن ذكر البقر لم يقع في شيء من طرق حديث أبي بكر، نعم هو في كتاب عمر والله أعلم. قوله: "وقال أبو حميد" هو الساعدي، وهذا طرف من حديث أورده المصنف موصولا من طرق، وهذا القدر وقع عنده موصولا في كتاب ترك الحيل في أثناء الحديث المذكور. قوله: "لأعرفن" أي لأعرفنكم غدا هذه الحالة. وفي رواية الكشميهني: "لا أعرفن" بحرف النفي أي ما ينبغي أن تكونوا على هذه الحال فأعرفكم بها. قوله: "ما جاء الله رجل" ما مصدرية أي مجيء رجل إلى الله. قوله: "لها خوار" بضم المعجمة وتخفيف الواو: صوت البقر. قوله: "ويقال جؤار" هذا كلام البخاري، يريد بذلك أن هذا الحرف جاء بالخاء المعجمة وتخفيف الواو وبالجيم والواو المهموزة، ثم فسره فقال: تجأرون ترفعون أصواتكم، وهذه عادة البخاري إذا مرت به لفظة غريبة توافق كلمة في القرآن نقل تفسير تلك الكلمة التي من القرآن، والتفسير المذكور رواه ابن أبي حاتم عن السدي، وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "يجأرون" قال: يستغيثون. وقال القزاز: الخوار بالمعجمة والجؤار بالجيم بمعنى واحد في البقر. وقال ابن سيده: خار الرجل رفع صوته بتضرع. قوله: "عن المعرور بن سويد" هو بالعين المهملة. قوله: "قال انتهيت إليه" هو مقول المعرور والضمير يعود على أبي ذر وهو الحالف، و قوله: "أو كما حلف" يشير بذلك إلى أنه لم يضبط اللفظ الذي حلف به. وقوله: "أعظم" بالنصب على الحال و "أسمنه" عطفه عليه. و قوله: "جازت" أي مرت، و "ردت" أي أعيدت. قوله: "لا يؤدي حقها" في رواية مسلم من طريق وكيع وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش لا يؤدي زكاتها، وهو أصرح في مقصود الترجمة. وقد تقدم الكلام على بقية المتن في أوائل الزكاة، واستدل بقوله: "يكون له إبل أو بقر" ففي مستواه زكاة البقر والإبل في النصاب، ولا دلالة فيه لأنه قرن معه الغنم وليس نصابها مثل نصاب الإبل اتفاقا.
" تنبيه ": أخرج مسلم في أول هذا الحديث قصة فيها "هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا "وقد أفرد البخاري هذه القطعة فأخرجها في كتاب الأيمان والنذور بهذا الإسناد ولم يذكر هناك القدر الذي ذكره هنا. قوله: "رواه بكير" يعني ابن عبد الله بن الأشج، ومراد البخاري بذلك موافقة هذه الرواية لحديث أبي ذر في ذكر البقر لأن الحديثين مستويان في جميع ما وردا فيه، وقد أخرجه مسلم موصولا من طريق بكير بهذا الإسناد مطولا.

(3/324)


44 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الأَقَارِبِ. وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ"
1461 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ"
تَابَعَهُ رَوْحٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ "رَايِحٌ"
[الحديث 1461
أطرافه في: 2718, 2758, 27582769, 4555, 5611]
1462 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ ائْذَنُوا لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ"
قوله: "باب الزكاة على الأقارب" قال الزين بن المنير: ووجه استدلاله لذلك بأحاديث الباب أن صدقة التطوع على الأقارب لما لم ينقص أجرها بوقوعها موقع الصدقة والصلة معا كانت صدقة الواجب كذلك، لكن لا يلزم من جواز صدقة التطوع على من يلزم المرء نفقته أن تكون الصدقة الواجبة كذلك. وقد اعترضه الإسماعيلي بأن الذي في الأحاديث التي ذكرها مطلق الصدقة لا الصدقة الواجبة فلا يتم استدلاله إلا إن أراد الاستدلال على أن الأقارب في الزكاة أحق بها إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم صرف الصدقة المتطوع بها إلى الأقارب أفضل فلذلك حينئذ له وجه. قال ابن

(3/325)


رشيد: قد يؤخذ ما اختاره المصنف من حديث أبي طلحة فيما فهمه من الآية، وذلك أن النفقة في قوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا} أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، فعمل بها أبو طلحة في فرد من أفراده، فيجوز أن يعمل بها في بقية مفرداته، ولا يعارضها قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية لأنها تدل على حصر الصدقة الواجبة في المذكورين. وأما صنيع أبي طلحة فبدل على تقديم ذوي القربى إذا اتصفوا بصفة من صفات أهل الصدقة على غيرهم، وسيأتي ذكر من يستثنى من الأقارب في الصدقة الواجبة بعد بابين. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: له أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" هذا طرف من حديث فيه قصة لامرأة ابن مسعود، وسيأتي موصولا بعد ثلاثة أبواب. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: حديث أنس في تصدق أبي طلحة بأرضه، وحديث أبي سعيد في قصة امرأة ابن مسعود وغير ذلك. فأما حديث أنس فسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الوقف. قوله: "بيرحاء" بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمد، وجاء في ضبطه أوجه كثيرة جمعها ابن الأثير في النهاية فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة "بريحا" بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود "باريحا" مثله لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور، وكذا جزم به الصغاني وقال: إنه فيعلى من البراح، قال: ومن ذكره بكسر الموحدة وظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف. قوله: "تابعه روح" يعني عن مالك في قوله: "رابح" بالموحدة وسيأتي من طريقه موصولا في البيوع. قوله: "وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك زايح" يعني بالتحتانية، أما رواية يحيى فستأتي موصولة في الوكالة وعزاها مغلطاي لتخريج الدارقطني فأبعد، وأما رواية إسماعيل وهو ابن أبي أويس فوصلها المصنف في التفسير، وقد وهم صاحب "المطالع" فقال: رواية يحيى بن يحيى بالموحدة، وكأنه اشتبه عليه الأندلسي بالنيسابوري، فالذي عناه هو الأندلسي والذي عناه البخاري النيسابوري، قال الداني في أطرافه: رواه يحيى بن يحيى الأندلسي بالموحدة وتابعه جماعة، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري بالمثناة وتابعه إسماعيل وابن وهب، ورواه القعنبي بالشك اهـ. ورواية القعنبي وصلها البخاري في الأشربة بالشك كما قال والرواية الأولى واضحة من الربح أي ذو ربح، وقيل هو فاعل بمعنى مفعول أي هو مال مربوح فيه، وأما الثانية فمعناها رائح عليه أجره، قال ابن بطال: والمعنى أن مسافته قريبة وذلك أنفس الأموال، وقيل معناه يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو. وادعى الإسماعيلي أن من رواها بالتحتانية فقد صحف والله أعلم. حديث أبي سعيد تقدم الكلام على صدره مستوفي في كتاب الحيض، وبقية ما فيه من قصة امرأة ابن مسعود يأتي الكلام عليه بعد بابين مستوفي إن شاء الله تعالى. وقوله فيه: "فقيل يا رسول الله هذه زينب" القائل هو بلال كما سيأتي، وقوله: "ائذنوا لها فأذن لها فقالت يا رسول الله إلخ" لم يبين أبو سعيد ممن سمع ذلك، فإن يكن حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم حال المراجعة المذكورة فهو من مسنده وإلا فيحتمل أن يكون حمله عن زينب صاحبه القصة. والله أعلم.

(3/326)


45 - باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
1463 - حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد الله بن دينار قال سمعت سليمان بن يسار عن عراك بن

(3/326)


مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة"

(3/327)


46 - باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ
1464 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن خثيم بن عراك قال حدثني أبي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه"
قوله: "باب ليس على المسلم في فرسه صدقة" وقال في الذي يليه "ليس على المسلم في عبده صدقة" ثم أورد حديث أبي هريرة بلفظ الترجمتين مجموعا من طريقين، لكن في الأولى بلفظ: "غلامه" بدل عبده، قال ابن رشيد: أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب، ولا خلاف أيضا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين يؤخذ منها بالقيمة. ولعل البخاري أشار إلى حديث علي مرفوعا: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة" الحديث أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن، والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذكرانا وإناثا نظرا إلى النسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثم عنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو يقوم ويخرج ربع العشر، واستدل عليه بهذا الحديث. وأجيب بحمل النفي فيه على الرقبة لا على القيمة، واستدل به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقا ولو كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث. والله أعلم.

(3/327)


47 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى
1465 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ إِنَّهُ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب الصدقة على اليتامى" قال الزين بن المنير: عبر بالصدقة دون الزكاة لتردد الخبر بين صدقه الفرض والتطوع، لكون ذكر اليتيم جاء متوسطا بين المسكين وابن السبيل وهما من مصارف الزكاة.
وقال ابن رشيد: لما

(3/327)


49 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأَيْتَامِ فِي الْحَجْرِ. قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1466 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ ح فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً قَالَتْ "كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لاَ تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ"
1467 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ؟ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ. فَقَالَ أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ"
[الحديث 1466
طرفه في: 5369]
قوله: "باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، قاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه السابق موصولا في "باب الزكاة على الأقارب" وستذكر ما فيه في هذا الحديث. قال ابن رشيد. أعاد الأيتام في هذه الترجمة لعموم الأولى وخصوص الثانية، ومحمل الحديثين في وجه الاستدلال بهما على العموم لأن الإعطاء أعم من كونه واجبا أو مندوبا. قوله: "عن عمرو بن الحارث" هو ابن أبي ضرار بكسر المعجمة الخزاعي ثم المصطلقي أخو جويرية بنت الحارث روج النبي صلى الله عليه وسلم له صحبة، وروى هنا عن صحابية، ففي الإسناد تابعي عن تابعي الأعمش عن شقيق، وصحابي عن صحابي عمرو عن زينب وهي بنت معاوية -ويقال بنت عبد الله بن معاوية- ابن عتاب الثقفية ويقال لها أيضا رائطة، وقع ذلك في "صحيح ابن حبان": في نحو هذه القصة، ويقال هما ثنتان عند الأكثر وممن جزم به ابن سعد. وقال الكلاباذي رائطة هي المعروفة بزينب، وبهذا جزم الطحاوي فقال رائطة هي زينب لا يعلم

(3/328)


أن لعبد الله امرأة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها، ووقع عند الترمذي عن هناد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن الحارث بن المصطلق عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن امرأة عبد الله فزاد في الإسناد رجلا، والموصوف بكونه ابن أخي زينب هو عمرو بن الحارث نفسه، وكان أباه كان أخا زينب لأمها لأنها ثقفية وهو خزاعي. ووقع عند الترمذي أيضا من طريق شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن زينب، فجعله عبد الله بن عمرو، هكذا جزم به المزي وعقد لعبد الله بن عمرو في "الأطراف" ترجمة لم يزد فيها على ما في هذا الحديث، ولم أقف على ذلك في الترمذي بل وقفت على عدة نسخ منه ليس فيها إلا عمرو بن الحارث، وقد حكى ابن القطان الخلاف فيه على أبي معاوية وشعبة، وخالف الترمذي في ترجيح رواية شعبة في قوله: "عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب" لانفراد أبي معاوية بذلك. قال ابن القطان: لا يضره الانفراد لأنه حافظ، وقد وافقه حفص بن غياث في رواية عنه وقد زاد في الإسناد رجلا، لكن يلزم من ذلك أن يتوقف في صحة الإسناد لأن ابن أخي زينب حينئذ لا يعرف حاله. وقد حكى الترمذي في "العلل المفردات" أنه سأل البخاري عنه فحكم على رواية أبي معاوية بالوهم وأن الصواب رواية الجماعة عن الأعمش عن شقيق عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب. قلت: ووافقه منصور عن شقيق أخرجه أحمد، فإن كان محفوظا فلعل أبا وائل حمله عن الأب والابن، وإلا فالمحفوظ عن عمرو بن الحارث، وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة على الصواب فقال: "عمرو بن الحارث". قوله: "قال فذكرته لإبراهيم" القائل هو الأعمش، وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي، وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود، ففي هذه الطريق ثلاثة من التابعين، ورجال الطريقين كلهم كوفيون. قوله: "كنت في المسجد فرأيت إلخ" في هذا زيادة على ما في حديث أبي سعيد المتقدم، وبيان السبب في سؤالها ذلك. ولم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حجرها. قوله: "فوجدت امرأة من الأنصار" في رواية الطيالسي المذكورة "فإذا امرأة من الأنصار يقال لها زينب" وكذا أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية عن الأعمش، وزاد من وجه آخر عن علقمة عن عبد الله قال: "انطلقت امرأة عبد الله يعني ابن مسعود وامرأة أبي مسعود يعني عقبه بن عمرو الأنصاري". قلت: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هزيلة بنت ثابت بن ثعلبة الخزرجية فلعل لها اسمين، أو وهم من سماها زينب انتقالا من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها. قوله: "وأيتام لي في حجري" في رواية النسائي المذكورة "على أزواجنا وأيتام في حجورنا" وفي رواية الطيالسي المذكورة أنهم بنو أخيها وبنو أختها. وللنسائي من طريق علقمة "لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها أيتام، وللأخرى فضل مال وزوج خفيف ذات اليد" وهذا القول كناية عن الفقر. قوله: " ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" أي أجر صلة الرحم وأجر منفعة الصدقة، وهذا ظاهره أنها لم تشافهه بالسؤال ولا شافهها بالجواب، وحديث أبي سعيد السابق ببابين يدل على أنها شافهته وشافهها لقولها فيه: "يا نبي الله إنك أمرت" وقوله فيه: "صدق زوجك" فيحتمل أن يكونا قصتين، ويحتمل في الجمع بينهما أن يقال تحمل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد كذا أطلق بعضهم ورواية المنع عنه مقيدة بالوارث وعبارة الجوزقي: ولا لمن تلزمه مؤونته، فشرحه ابن قدامة بما قيدته قال: والأظهر الجواز مطلقا

(3/329)


إلا للأبوين والولد، وحملوا الصدقة في الحديث على الواجبة لقولها "أتجزئ عني" وبه جزم المازري، وتعقبه عياض بأن قوله: "ولو من حليكن" وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان على التطوع، وبه جزم النووي وتأولوا لقوله: "أتجزئ عني" أي في الوقاية من النار كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود. وما أشار إليه من الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي حنيفة، فأخرج من طريق رائطة امرأة ابن مسعود أنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلى ولده، قال: فهذا يدل على أنها صدقة تطوع، وأما الحلي فإنما يحتج به على من لا يوجب فيه الزكاة، وأما من يوجب فلا. وقد روى الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال: قال ابن مسعود لامرأته في حليها "إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة" فكيف يحتج على الطحاوي بما لا يقول به، لكن تمسك الطحاوي بقولها في حديث أبي سعيد السابق "وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به" لأن الحلي ولو قيل بوجوب الزكاة فيه إلا أنها لا تجب في جميعه، كذا قال وهو متعقب، لأنها وإن لم تجب في عينه فقد تجب فيه بمعنى أنه قدر النصاب الذي وجب عليها إخراجه، واحتجوا أيضا بأن ظاهر قوله في حديث أبي سعيد المذكور "زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم" دال على أنها صدقة تطوع، لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره، وفي هذا الاحتجاج نظر لأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من يلزم المعطي نفقته والأم لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه. وقال ابن التيمي: قوله: "وولدك "محمول على أن الإضافة للتربية لا للولادة فكأنه ولده من غيرها. وقال ابن المنير: اعتل من منعها من إعطائها زكاتها لزوجها بأنها تعود إليها في النفقة فكأنها ما خرجت عنها، وجوابه أن احتمال رجوع الصدقة إليها واقع في التطوع أيضا، ويؤيد المذهب الأول أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم، فلما ذكرت الصدقة ولم يستفصلها عن تطوع ولا واجب فكأنه قال: تجزئ عنك فرضا كان أو تطوعا. وأما ولدها فليس في الحديث تصريح بأنها تعطي ولدها من زكاتها، بل معناه أنها إذا أعطت زوجها فأنفقه على ولدها كانوا أحق من الأجانب، فالإجزاء يقع بالإعطاء للزوج والوصول إلى الولد بعد بلوغ الزكاة محلها. والذي يظهر لي أنهما قضيتان: إحداهما في سؤالها عن تصدقها بحليها على زوجها وولده، والأخرى في سؤالها عن النفقة والله أعلم. وفي الحديث الحث على الصدقة على الأقارب، وهو محمول في الواجبة على من لا يلزم المعطي نفقته منهم، واختلف في علة المنع فقيل لأن أخذهم لها يصيرهم أغنياء فيسقط بذلك نفقتهم عن المعطي، أو لأنهم أغنياء بإنفاقه عليهم، والزكاة لا تصرف لغني، وعن الحسن وطاوس لا يعطي قرابته من الزكاة شيئا وهو رواية عن مالك. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن الزكاة، وأما إعطاؤها للزوج فاختلف فيه كما سبق. وفيه الحث على صلة الرحم وجواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها. وفيه عظة النساء، وترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء، والتحدث مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة، والتخويف من المؤاخذة بالذنوب وما يتوقع بسببها من العذاب. وفيه فتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، وطلب الترقي في تحمل العلم. قال القرطبي: ليس إخبار بلال باسم المرأتين بعد أن استكتمتاه بإذاعة سر ولا كشف أمانة لوجهين: أحدهما أنهما لم تلزماه بذلك وإنما علم أنهما رأتا أن لا ضرورة1 تحوج إلى كتمانهما. ثانيهما أنه أخبر بذلك جوابا لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لكون
ـــــــ
1 كذا في الأصلين اللذين بأيدينا, وفيه إشكال, ولعل الصواب "وإنما علم أن لا ضرورة"والله أعلم

(3/330)


إجابته أوجب من التمسك بما أمرتاه به من الكتمان، وهذا كله بناء على أنه التزم لهما بذلك. ويحتمل أن تكونا سألتاه، ولا يجب إسعاف كل سائل. قوله: "حدثنا عبدة" هو ابن سليمان، وهشام هو ابن عروة. وفي الإسناد تابعي عن تابعي: هشام عن أبيه، وصحابية عن صحابية: زينب عن أمها. قوله: "على بني أبي سلمة" أي ابن عبد الأسد، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها النبي ولها من أبي سلمة عمرو ومحمد وزينب ودرة، وليس في حديث أم سلمة تصريح بأن الذي كانت تنفقه عليهم من الزكاة، فكان القدر المشترك من الحديث حصول الإنفاق على الأيتام والله أعلم. قوله: "فلك أجر ما أنفقت عليهم" رواه الأكثر بالإضافة على أن تكون "ما" موصولة، وجوز أبو جعفر الغرناطي نزيل حلب تنوين "أجر" على أن تكون "ما" ظرفية، ذكر ذلك لنا عنه الشيخ برهان الدين المحدث بحلب.

(3/331)


49 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [التوبة 60]: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ
وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ
ثُمَّ تَلاَ [التوبة 60]: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لاَسٍ "حَمَلَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ"
1468 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ, فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ, وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا "
تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ "هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا"
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ حُدِّثْتُ عَنِ الأَعْرَجِ بِمِثْلِهِ
قوله: "باب قول الله تعالى وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله" قال الزين بن المنير: اقتطع البخاري هذه الآية من التفسير للاحتياج إليها في بيان مصاريف الزكاة. قوله: "ويذكر عن ابن عباس يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج" وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال" من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة أخرجه عن أبي معاوية عن الأعمش عنه. وأخرج عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: "أعتق من زكاة مالك"، وتابع أبا معاوية عبدة بن سليمان رويناه في "فوائد يحيى بن معين" رواية أبي بكر بن علي المروزي عنه عن عبدة عن الأعمش عن ابن أبي الأشرس ولفظه: "كان يخرج زكاته ثم يقول جهزوا منها إلى الحج" وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله

(3/331)


يشتري الرجل من زكاة ماله الرقاب فيعتق ويجعل في ابن السبيل؟ قال: نعم، ابن عباس يقول ذلك ولا أعلم شيئا يدفعه. وقال الخلال: أخبرنا أحمد بن هاشم قال قال أحمد: كنت أرى أن يعتق من الزكاة، ثم كففت عن ذلك لأني لم أره يصح. قال حرب: فاحتج عليه بحديث ابن عباس، فقال: هو مضطرب انتهى. وإنما وصفه بالاضطراب للاختلاف في إسناده على الأعمش كما ترى، ولهذا لم يجزم به البخاري. وقد اختلف السلف في تفسير قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} فقيل: المراد شراء الرقبة لتعتق، وهو رواية ابن القاسم عن مالك واختيار أبي عبيد وأبي ثور وقول إسحاق وإليه مال البخاري وابن المنذر. وقال أبو عبيد: أعلى ما جاء فيه قول ابن عباس وهو أولى بالاتباع وأعلم بالتأويل. وروى ابن وهب عن مالك أنها في المكاتب وهو قول الشافعي والليث والكوفيين وأكثر أهل العلم، ورجحه الطبري. وفيه قول ثالث أن سهم الرقاب يجعل نصفين: نصف لكل مكاتب يدعي الإسلام، ونصف يشتري بها رقاب ممن صلى وصام، أخرجه ابن أبي حاتم وأبو عبيد في الأموال بإسناد صحيح عن الزهري أنه كتب ذلك لعمر بن عبد العزيز، واحتج للأول بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لأنه غارم، وبأن شراء الرقيق ليعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق، ولأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم والزكاة لا تصرف للعبد، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت بخلاف الكتابة، ولأن ولاءه يرجع للسيد فيأخذ المال والولاء بخلاف ذلك فإن عتقه يتنجز ويصير ولاؤه للمسلمين، وهذا الأخير على طريقة مالك في ذلك. وقال أحمد وإسحاق: يرد ولاؤه في شراء الرقاب للعتق أيضا. وعن مالك: الولاء للمعتق تمسكا بالعموم. وقال عبيد الله العنبري: يجعل في بيت المال. وأما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. وعن أحمد وإسحاق الحج من سبيل الله، وقد تقدم أثر ابن عباس. وقال ابن عمر "أما أن الحج من سبيل الله" أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه. وقال ابن المنذر: إن ثبت حديث أبي لاس -يعني الآتي في هذا الباب- قلت بذلك. وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة. ولم يتملكوها. قوله: "وقال الحسن إلخ" هذا صحيح عنه أخرج أوله ابن أبي شيبة من طريقه وهو مصير منه إلى القول بالمسألتين معا الإعتاق من الزكاة والصرف منها في الحج، إلا أن تنصيصه على شراء الأب لم يوافقه عليه الباقون لأنه يعتق عليه ولا يصير ولاؤه للمسلمين فيستعيد المنفعة ويوفر ما كان يخرجه من خالص ماله لدفع عار استرقاق أبيه. وقوله: "في أيها أعطيت جزت" كذا في الأصل بغير همز أي قضت، وفيه مصير منه إلى أن اللام في قوله: "للفقراء" لبيان المصرف لا للتمليك، فلو صرف الزكاة في صنف واحد كفى. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم" إن خالدا إلخ" سيأتي موصولا في هذا الباب. قوله: "ويذكر عن أبي لاس" بسين مهملة، خزاعي اختلف في اسمه فقيل زياد، وقيل عبد الله بن عنمة بمهملة ونون مفتوحتين، وقيل غير ذلك. له صحبة وحديثان هذا أحدهما. وقد وصله أحمد وابن خزيمة والحاكم وغيرهم من طريقه، ولفظ أحمد "على إبل من إبل الصدقة ضعاف للحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحمل هذه. فقال: إنما يحمل الله" الحديث ورجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. قوله: "عن الأعرج" في رواية النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يقول قال قال عمر فذكره، صرح بالتحديث في الإسناد وزاد فيه عمر، والمحفوظ أنه من مسند أبي هريرة وإنما جرى لعمر فيه ذكر فقط. قوله: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة" في رواية مسلم من طريق ورقاء عن أبي

(3/332)


الزناد "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ساعيا على الصدقة" وهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة. وقال ابن القصار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض. وتعقب بأنهم ما منعوه كلهم جحدا ولا عنادا، أما ابن جميل فقد قيل: إنه كان منافقا ثم تاب بعد ذلك، كذا حكاه المهلب، وجزم القاضي حسين في تعليقه أن فيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية انتهى.
والمشهور أنها نزلت في ثعلبة، وأما خالد فكان متأولا بإجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العباس لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عذر النبي صلى الله عليه وسلم خالدا والعباس ولم يعذر ابن جميل. قوله: "فقيل منع ابن جميل" قائل ذلك عمر كما سيأتي في حديث ابن عباس في الكلام على قصة العباس، ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عبيد "فقال بعض من يلمز" أي يعيب. وابن جميل لم أقف على اسمه في كتب الحديث، لكن وقع في تعليق القاضي الحسين المروزي الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشيخ سراج الدين بن الملقن أن ابن بزيزة سماه حميدا، ولم أر ذلك في كتاب ابن بزيزة. ووقع في رواية ابن جريج أبو جهم بن حذيفة بدل ابن جميل، وهو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنه كان أنصاريا، وأما أبو جهم ابن حذيفة فهو قرشي فافترقا، وذكر بعض المتأخرين أن أبا عبيد البكري ذكر في شرح الأمثال له أنه أبو جهم بن جميل. قوله: "والعباس" زاد ابن أبي الزناد عن أبيه عند أبي عبيد "أن يعطوا الصدقة" قال فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذب عن اثنين العباس وخالد. قوله: "ما ينقم" بكسر القاف أي ما ينكر أو يكره، وقوله: "فأغناه الله ورسوله" إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه لأنه كان سببا لدخوله في الإسلام فأصبح غنيا بعد فقره بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته من الغنائم، وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكر من أن الله أغناه فلا عذر له، وفيه التعريض بكفران النعم وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان. قوله: "احتبس" أي حبس. قوله: "وأعتده" بضم المثناة جمع عتد بفتحتين، ووقع في رواية مسلم: "أعتاده" وهو جمعه أيضا، قبل هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل الخيل خاصة، يقال فرس عتيد أي صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب أقوال، وقيل إن لبعض رواة البخاري "وأعبده "بالموحدة جمع عبد حكاه عياض، والأول هو المشهور. قوله: "فهي عليه صدقة ومثلها معها" كذا في رواية شعيب، ولم يقل ورقاء ولا موسى بن عقبة "صدقة" فعلى الرواية الأولى يكون صلى الله عليه وسلم ألزمه بتضعيف صدقته1 ليكون أرفع لقدره وأنبه لذكره وأنفى للذم عنه، فالمعنى فهو صدقة ثابتة عليه سيصدق بها ويضيف إليها مثلها كرما، ودلت رواية مسلم على أنه صلى الله عليه وسلم التزم بإخراج ذلك عنه لقوله: "فهي علي" وفيه تنبيه على سبب ذلك وهو قوله: "إن العم صنو الأب" تفضيلا له وتشريفا، ويحتمل أن يكون تحمل عنه بها فيستفاد منه أن الزكاة تتعلق بالذمة كما هو أحد قولي الشافعي، وجمع بعضهم بين رواية: "علي" ورواية: "عليه" بأن الأصل رواية: "علي" ورواية: "عليه" مثلها إلا أن فيها زيادة هاه السكت حكاه ابن الجوزي عن ابن ناصر، وقيل معنى قوله: "علي" أي هي عندي قرض لأنني استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحا فيما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي وفي إسناده مقال، وفي الدارقطني من طريق موسى بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا كنا احتجنا فتعجلنا من
ـــــــ
1 هذا فيه نظر, وظاهر الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تركها له وتحملها عنه وسمى ذلك صدقه تجوزا وتسامحا في اللفظ, ويدل على ذلك رواية مسلم فهي "علي ومثلها" فتأمل

(3/333)


العباس صدقة ماله سنتين" وهذا مرسل، وروى الدارقطني أيضا موصولا بذكر طلحة فيه وإسناد المرسل أصح، وفي الدارقطني أيضا من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيا، فأتى العباس فأغلظ له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام، والعام المقبل" وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضا هو والطبراني من حديث أبي رافع نحو هذا وإسناده ضعيف أيضا، ومن حديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقته سنتين "وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعا للإشكال ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات، وفيه رد لقول من قال: إن قصة التعجيل إنما وردت في وقت غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصدقة، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق والله أعلم. وقيل: المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين؛ فأمر أن يقاص به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان صلى الله عليه وسلم أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد. ومعنى "عليه" على التأويل الأول أي لازمة "له" وليس معناه أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم، ومنهم من حمل رواية الباب على ظاهرها فقال: كان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم، ويؤيده رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند ابن خزيمة بلفظ: "فهي له" بدل "عليه" وقال الببيهقي: اللام هنا بمعنى على لتتفق الروايات، وهذا أولى لأن المخرج واحد، وإليه مال ابن حبان. وقيل: معناها فهي له أي القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه لأنني التزمت عنه بإخراجه، وقيل إنه أخرها عنه ذلك العام إلى عام قابل فيكون عليه صدقة عامين قاله أبو عبيد، وقيل إنه كان استدان حين فادى عقيلا وغيره فصار من جملة الغارمين فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار. وأبعد الأقوال كلها قول من قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العباس بامتناعه من أداء الزكاة بأن يؤدي ضعف ما وجب عليه لعظمة قدره وجلالته كما في قوله تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية، وقد تقدم بعضه في أول الكلام، واستدل بقصة خالد على جواز إخراج مال الزكاة في شراء السلاح وغيره من آلات الحرب والإعانة بها في سبيل الله، بناء على أنه عليه الصلاة والسلام أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه كما سبق، وهي طريقة البخاري. وأجاب الجمهور بأجوبة: أحدها أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل أخبار من أخبره بمنع خالد حملا على أنه لم يصرح بالمنع، وإنما نقلوه عنه بناء على ما فهموه، ويكون قوله: "تظلمونه" أي بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لا يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله؟ ثانيها أنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبو بزكاة قيمتها فأعلمهم عليه الصلاة والسلام بأنه لا زكاة عليه فيما حبس، وهذا يحتاج لنقل خاص فيكون فيه حجة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبسة، ولمن أوجبها في عروض التجارة. ثالثها أنه كان نوى بإخراجها عن ملكه الزكاة عن ماله لأن أحد الأصناف سبيل الله وهم المجاهدون، وهذا يقوله من يجير إخراج القيم في الزكاة كالحنفية ومن يجز التعجيل كالشافعية، وقد تقدم استدلال البخاري به على إخراج العروض في الزكاة. واستدل بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه، وعلى جواز إخراج العروض في الزكاة وقد سبق ما فيه، وعلى صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية. وتعقب ابن دقيق العيد جميع ذلك بأن القصة واقعة عين. محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر، قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادا وعدم تصرف، ولا يبعد أن يطلق على ذلك التحبيس فلا يتعين الاستدلال بذلك

(3/334)


لما ذكر. وفي الحديث بعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، والعتب على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمل الإمام عن بعض رعيته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرعية بما يسوغ الاعتذار به. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(3/335)


50 - باب الِاسْتِعْفَافِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ
1469 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "إِنَّ نَاسًا مِنْ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ"
[الحديث 1469
طرفه في: 6470]
1470 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ"
[الحديث 1470
أطرفاه في:1480, 2074, 2374]
1471 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ"
[الحديث 1471
طرفاه في:2075, 2373]
1472 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا" فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ"
[الحديث 1472
أطرافه في:2750]

(3/335)


قوله: "باب الاستعفاف عن المسألة" أي في شيء من غير المصالح الدينية. قوله: "إن ناسا من الأنصار" لم يتعين لي أسماؤهم، إلا أن النسائي روى من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ما يدل على أن أبا سعيد راوي هذا الحديث خوطب بشيء من ذلك ولفظه ففي حديثه "سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته وقعدت، فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله" الحديث وزاد فيه: "ومن سأل وله أوقية فقد ألحف" . فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله" وعند الطبراني من حديث حكيم بن حزام أنه ممن خوطب ببعض ذلك، ولكنه ليس أنصاريا إلا بالمعنى الأعم. قوله: "حتى نفد" بكسر الفاء أي فرغ. قوله: "فلن أدخره عنكم " أي أحبسه وأخبؤه وأمنعكم إياه منفردا به عنكم، وفيه ما كان عليه من السخاء وإنفاذ أمر الله، وفيه إعطاء السائل مرتين، والاعتذار إلى السائل، والحض على التعفف. وفيه جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة، وقوله: "ومن يستعفف" في رواية الكشميهني: "يستعف". حديث أبي هريرة والزبير بن العوام بمعناه. وفي رواية الزبير زيادة "فيبيعها فيكف الله بها وجهه" وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه. وفي رواية أبي هريرة "يأتي رجلا" وفي حديث الزبير "يسأل الناس" والمعنى واحد. وزاد في أول حديث أبي هريرة قوله: "والذي نفسي بيده" ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل، وأما قوله: "خير له" فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر، والله أعلم. حديث أبي هريرة والزبير بن العوام بمعناه. وفي رواية الزبير زيادة "فيبيعها فيكف الله بها وجهه" وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه. وفي رواية أبي هريرة "يأتي رجلا" وفي حديث الزبير "يسأل الناس" والمعنى واحد. وزاد في أول حديث أبي هريرة قوله: "والذي نفسي بيده" ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل، وأما قوله: "خير له" فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر، والله أعلم. قوله: "إن هذا المال خضرة" أنث الخبر لأن المراد الدنيا. قوله: "خضرة حلوة" شبهه بالرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس، والحلو مرغوب فيه على انفراده بالنسبة للحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد. قوله: "بسخاوة نفس" أي بغير شره ولا إلحاح أي من أخذه بغير سؤال، وهذا بالنسبة إلى الأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطي أي بسخاوة نفس المعطي أي انشراحه بما يعطيه. قوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" أي الذي يسمى جوعه كذابا لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقما ولم يجد شبعا. قوله: "اليد العليا" تقدم الكلام عليه مستوفي في "باب لا صدقة إلا عن ظهر غني". قوله: "لا أرزأ" بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي بعدها همزة أي لا أنقص ماله بالطلب منه. وفي رواية لإسحاق "قلت فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب" وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا فيعتاد الأخذ فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وإنما أشهد عليه عمر لأنه أراد أن لا ينسبه أحد لم يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه. قوله: "حتى توفي" زاد إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة مرسلا أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوانا ولا غيره حتى مات لعشر سنين مع إمارة معاوية. قال ابن أبي جمرة: في حديث حكيم فوائد، منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول سخت بكذا أي جادت وسخت عن كذا أي لم

(3/336)


تلتفت إليه. ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة. وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالأكل إنما يأكل ليشبع فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه وإنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم. وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع، لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه من حاجته. وفيه جواز تكرار السؤال ثلاثا، وجواز المنع في الرابعة والله أعلم، وفي الحديث أيضا أن سؤال الأعلى ليس بعار، وأن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه، وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة. وقد زاد إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق معمر عن الزهري في آخره: "فمات حين مات وإنه لمن أكثر قريش مالا". وفيه أيضا سبب ذلك وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه فقال حكيم: يا رسول الله ما كنت أظن أن تقصر بي دون أحد من الناس، فزاده، ثم استزاده حتى رضي" فذكر نحو الحديث.

(3/337)


باب من أعطاه الله سيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس
...
51 - باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافِ نَفْسٍ
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[19 الذريات]
1473 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ"
[الحديث 1473
طرفاه في: 7163, 7164]
قوله: "باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" في رواية المستملي تقديم الآية، وسقطت للأكثر، ومطابقتها لحديث الباب من جهة دلالتها على مدح من يعطي السائل وغير السائل، وإذا كان المعطي ممدوحا فعطيته مقبولة وآخذها غير ملوم. وقد اختلف أهل العلم بالتفسير في المراد بالمحروم: فروى الطبري من طريق ابن شهاب أنه المتعفف الذي لا يسأل. وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه، فذكر مثله، وأخرجه الطبري عن قتادة مثله. وأخرج فيه أقوالا أخر، وعلى التفسير المذكور تنطبق الترجمة. والأشراف بالمعجمة التعرض للشيء والحرص عليه، من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع شرف لذلك. وتقدير جواب الشرط فليقبل، أي من أعطاه الله مع انتفاء القيدين المذكورين فليقبل. وإنما حذفه للعلم به. وأوردها بلفظ العموم وإن كان الخبر ورد في الإعطاء من بيت المال لأن الصدقة للفقير في معنى العطاء للغني إذا انتفى الشرطان. قال أبو داود سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب. وقال يعقوب بن محمد سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث إلي فلان بكذا. وقال الأثرم يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك. قوله: "فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني" زاد في رواية شعيب عن الزهري الآتية في الأحكام "حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: خذه فتموله وتصدق به" وذكر

(3/337)


شعيب فيه عن الزهري إسنادا آخر قال: أخبرني السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فذكر قصة فيها هذا الحديث. والسائب فمن فوقه صحابة؛ ففيه أربعة من الصحابة في نسق. وقد أخرجه مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن الزهري بالإسنادين، لكن قال فيه: "عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر" فذكره، جعله من مسند ابن عمر. وأخرجه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن السعدي عن عمر، لكن قال فيه ابن الساعدي وزاد فيه: "أن عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بسبب العمالة" ولهذا قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست هي من جهة الفقر ولكن من الحقوق، فلما قال عمر أعطه من هو أفقر إليه مني لم يرض بذلك لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر قال: ويؤيده قوله في رواية شعيب "خذه فتموله" فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات. وقال الطبري: اختلفوا في قوله فخذه بعد إجماعهم على أنه أمر ندب، فقيل هو ندب لكل من أعطي عطية أبى قبولها كائنا من كان، وهذا هو الراجح يعني بالشرطين المتقدمين. وقيل هو مخصوص بالسلطان، ويؤيده حديث سمرة في السنن "إلا أن يسأل ذا سلطان" وكان بعضهم يقول: يحرم قبول العطية من السلطان، وبعضهم يقول يكره، وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر، والكراهة محمولة على الورع وهو المشهور من تصرف السلف والله أعلم. والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حراما فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل. قال ابن المنذر: واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وقد رهن الشارع درعه عند يهودي مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. وفي حديث الباب أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها وإن كان غيره أحوج إليه منه، وأن رد عطية الإمام ليس من الأدب ولا سيما من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية.

(3/338)


52 - باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا
1474 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ"
1474 - وَقَالَ " إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ وَقَالَ مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَة
[الحديث1475
طرفه في: 4718]

(3/338)


قوله: "باب من سأل الناس تكثرا" أي فهو مذموم، قال ابن رشيد: حديث المغيرة في النهي عن كثرة السؤال الذي أورده في الباب الذي يليه أصرح في مقصود الترجمة من حديث الباب، وإنما آثره عليه لأن من عادته أن يترجم بالأخفى، أو لاحتمال أن يكون المراد بالسؤال في حديث المغيرة النهي عن المسائل المشكلة كالأغلوطات، أو السؤال عما لا يغني، أو عما لم يقع مما يكره وقوعه، قال: وأشار مع ذلك إلى حديث ليس على شرطه، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق حبشي ابن جنادة في أثناء حديث مرفوع وفيه: "ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر" انتهى. وفي صحيح مسلم من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة ما هو مطابق للفظ الترجمة، فاحتمال كونه أشار إليه أولى ولفظه: "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا" الحديث، والمعنى أنه يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه. قوله: "عن عبيد الله بن أبي جعفر" في رواية أبي صالح الآتية "حدثنا عبيد الله". قوله: "مزعة لحم" مزعة بضم الميم وحكي كسرها وسكون الزاي بعدها مهملة أي قطعة. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي، والذي أحفظه عن المحدثين الضم، قال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به انتهى. والأول صرف للحديث عن ظاهره، وقد يؤيده ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمرو مرفوعا: "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه" وقال ابن أبي جمرة: معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء، لأن حسن الوجه هو بما فيه من اللحم. ومال المهلب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه أن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره، قال: والمراد به من سأل تكثرا وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه انتهى. وبهذا تظهر مناسبة إيراد هذا الطرف من حديث الشفاعة عقب هذا الحديث، قال ابن المنير في الحاشية: لفظ الحديث دال على ذم تكثير السؤال، والترجمة لمن سأل تكثرا، والفرق بينهما ظاهر، لكن لما كان المتوعد عليه على ما تشهد به القواعد هو السائل عن غني وأن سؤال ذي الحاجة مباح نزل البخاري الحديث على من يسأل ليكثر ماله. "بآدم ثم بموسى" هذا فيه اختصار، وسيأتي في الرقاق في حديث الشفاعة الطويل ذكر من يقصدونه بين آدم وموسى وبين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكذا الكلام على بقية ما في حديث الشفاعة مما يحتاج إلى الشرح. قوله: "وزاد عبد الله بن صالح" كذا عند أبي ذر، وسقط قوله: "ابن صالح" من رواية الأكثر، ولهذا جزم خلف وأبو نعيم بأنه ابن صالح، وقد رويناه في "الإيمان" لابن منده من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير وعبد الله بن صالح جميعا عن الليث، وساقه بلفظ: "عبد الله بن صالح" وقد رواه موصولا من طريق عبد الله بن صالح وحده البزار عن محمد بن إسحاق الصغاني والطبراني في الأوسط عن مطلب بن شعيب وابن منده في "كتاب الإيمان" من طريق يحيى بن عثمان ثلاثتهم عن عبد الله بن صالح فذكره وزاد بعد قوله: "استغاثوا بآدم: فيقول لست بصاحب ذلك" وتابع عبد الله بن صالح على هذه الزيادة عبد الله بن عبد الحكم عن الليث أخرجه ابن منده أيضا. قوله: "بحلقة الباب" أي باب الجنة، أو هو مجاز عن القرب إلى الله تعالى، والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى التي اختص بها وهي إراحة أهل الموقف من أهوال القضاء بينهم والفراغ من حسابهم، والمراد بأهل الجمع أهل الحشر

(3/339)


لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم. وسيأتي بقية الكلام على المقام المحمود في تفسير سورة سبحان إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال معلى" بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة، وهو ابن أسد، وقد وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه، ومن طريق البيهقي، وآخر حديثه "مزعة لحم" وفيه قصة لحمزة بن عبد الله بن عمر مع أبيه في ذلك، ولهذا قيده المصنف بقوله: "في المسألة" أي في الشق الأول من الحديث دون الزيادة، ورويناه أيضا في "معجم أبي سعيد بن الأعرابي" قال حدثنا حمدان بن علي عن معلى بن أسد به، وفي هذا الحديث أن هذا الوعيد يختص بمن أكثر السؤال لا من ندر ذلك منه، ويؤخذ منه جواز سؤال غير المسلم لأن لفظ: "الناس" يعم قاله ابن أبي جمرة، وحكي عن بعض الصالحين أنه كان إذا احتاج سأل ذميا لئلا يعاقب المسلم بسببه لو رده.

(3/340)


باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافا}
...
53 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [273 البقرة] {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
وَكَمْ الْغِنَى وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَلاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ"
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى قوله - فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [273 البقرة]
1476 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُكْلَةَ وَالأُكْلَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا"
[الحديث 1476
طرفاه في: 1479, 4539]
1477 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ ابْنِ أَشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"
1478 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا قَالَ فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا قَالَ فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا يَعْنِي فَقَالَ إِنِّي لاَعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ" وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي

(3/340)


يُحَدِّثُ بِهَذَا فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ثُمَّ قَالَ "أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ إِنِّي لاَعْطِي الرَّجُلَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {فَكُبْكِبُوا} قُلِبُوا {مُكِبًّا} أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتَ كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ وَكَبَبْتُهُ أَنَا
1479 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ"
1480 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ أَحْسِبُهُ قَالَ إِلَى الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ " قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَدْ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ
قوله: "باب قول الله عز وجل: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وكم الغني؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجد غني يغنيه" لقول الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} الآية" هذه اللام التي في قوله: "لقول الله" لام التعليل لأنه أورد الآية تفسيرا لقوله في الترجمة "وكم الغني" وكأنه يقول: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا يجد غني يغنيه" مبين لقدر الغني لأن الله تعالى جعل الصدقة للفقراء الموصوفين بهذه الصفة، أي من كان كذلك فليس بغني ومن كان بخلافها فهو غني، فحاصله أن شرط السؤال عدم وجدان الغني لوصف الله الفقراء بقوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} إذ من استطاع ضربا فيها فهو واجد لنوع من الغنى، والمراد بالذين أحصروا الذين حصرهم الجهاد أي منعهم الاشتغال به من الضرب في الأرض -أي التجارة- لاشتغالهم به عن التكسب، قال ابن علية: كل محيط يحصر بفتح أوله وضم الصاد، والأعذار المانعة تحصر بضم المثناة وكثر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به، وللفقراء يتعلق بمحذوف تقديره الإنفاق المقدم ذكره لهؤلاء انتهى. وأما قول المصنف في الترجمة "وكم الغني "فلم يذكر فيه حديثا صريحا فيحتمل أنه أشار إلى أنه لم يرد فيه شيء على شرطه، ويحتمل أن يستفاد المراد من قوله في حديث أبي هريرة "الذي لا يجد غني يغنيه" فإن معناه لا يجد شيئا يقع موقعا من حاجته، فمن وجد ذلك كان غنيا. وقد ورد فيه ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعا: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش. قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أوقيمتها من الذهب" وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف وقد تكلم فيه شعبة من أحل هذا الحديث، وحدث به سفيان الثوري عن حكيم فقيل له: إن شعبة لا يحدث عنه، قال: لقد حدثني به زبيد أبو عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد يعني شيخ حكيم أخرجه الترمذي أيضا، ونص أحمد في "علل الخلال" وغيرها على أن رواية زبيد موقوفة، وقد تقدم حديث أبي سعيد قريبا من عند النسائي في "باب الاستعفاف" وفيه: "من سأل وله أوقية فقد ألح "وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ: "فهو ملحف" وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ: "فهو الملحف" وعن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد له صحبة في أثناء حديث مرفوع قال فيه: "من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا"

(3/341)


أخرجه أبو داود، وعن سهل ابن الحنظلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال قدر ما يغديه ويعشيه" أخرجه أبو داود أيضا وصححه ابن حبان، قال الترمذي في حديث ابن مسعود: والعمل على هذا عند بعض أصحابنا كالثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال: ووسع قوم في ذلك فقالوا: إذا كان عنده خمسون درهما أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل العلم انتهى وقال الشافعي: قد يكون الرجل غنيا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله. وفي المسألة مذاهب أخرى: أحدها قول أبي حنيفة: إن الغني من ملك نصابا فيحرم عليه أخذ الزكاة، واحتج بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن وقول النبي صلى الله عليه وسلم له "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" فوصف من تؤخذ الزكاة منه بالغنى وقد قال: "لا تحل الصدقة لغني" . ثانيها أن حده " من وجد ما يغديه ويعشيه" على ظاهر حديث سهل ابن الحنظلية حكاه الخطابي عن بعضهم، ومنهم من قال: وجهه من لا يجد غداء ولا عشاء على دائم الأوقات. ثالثها أن حده أربعون درهما، وهو قول أبي عبيد بن سلام على ظاهر حديث أبي سعيد، وهو الظاهر من تصرف البخاري لأنه أتبع ذلك قوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وقد تضمن الحديث المذكور أن من سأل وعنده هذا القدر فقد سأل إلحافا. حديث أبي هريرة في ذكر المسكين أورده من طريقين، والمسكين مفعيل من السكون قاله القرطبي قال فكأنه من قلة المال سكنت حركاته ولذا قال تعالى: {أوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي لاصق بالتراب. قوله: "الأكلة والأكلتان" بالضم فيهما، ويؤيده ما في رواية الأعرج الآتية آخر الباب: "اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان "وزاد فيه: "الذي يطوف على الناس" قال أهل اللغة الأكلة بالضم اللقمة وبالفتح المرة من الغداء والعشاء. قوله: "ليس له غنى" زاد في رواية الأعرج غنى يغنيه، وهذه صفة زائدة على اليسار المنفي، إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغني به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، وكأن المعنى نفي اليسار المفيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار، وهذا كقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} . قوله: "يَسْتَحْيِي" زاد في رواية الأعرج "ولا يفطن به" وفي رواية الكشميهني: " له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس" وهو بنصب يتصدق ويسأل، وموضع الترجمة منه قوله: " ليس له غنى" وقد أورده المصنف في التفسير من طريق أخرى عن أبي هريرة يظهر تعلقها بهذه الترجمة أكثر من هذه الطريق، ولفظه هناك "إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم يعني قوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} كذا وقع فيه بزيادة يعني، وقد أخرجه مسلم وأحمد من هذا الوجه بدونها، وكذلك وقع فيه1 بزيادة ابن أبي حاتم في تفسيره. ثانيها: حديث المغيرة وابن أشوع بالشين المعجمة وزاد أحمد في رواية الكشميهني ابن الأشوع، وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع نسب لجده وكاتب المغيرة هو وراد. قوله: "وإضاعة الأموال" في رواية الكشميهني "المال" وموضع الترجمة منه قوله "وكثرة السؤال" قال ابن التين: فهم منه البخاري سؤال الناس، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المشكلات، أو عما لا حاجة للسائل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتكم" قلت: وحمله على المعنى الأعم أولى ويستقيم مراد البخاري مع ذلك. وقد مضى بعض شرحه في كتاب الصلاة، ويأتي في كتاب الأدب وفي الرقاق مستوفى إن شاء الله تعالى.
ثالثها: حديث سعد بن أبي وقاص أورده بإسنادين، وموضع الترجمة منه قوله في
ـــــــ
1 كذا في الأصلين اللذين بأيدينا, وفي الكلام نقص وتحريف, فليتأمل وليحرر

(3/342)


الرواية الثانية "فجمع بين عنقي وكتفي ثم قال: أقبل أي سعد" وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الإيمان، وأنه أمر بالإقبال أو بالقبول، ووقع عند مسلم "إقبالا أي سعد" على أنه مصدر أي أتقابلني قبالا بهذه المعارضة؟ وسياقه يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كره منه إلحاحه عليه في المسألة، ويحتمل أن يكون من جهة أن المشفوع له ترك السؤال فمدح. قوله: "وعن أبيه عن صالح" هو معطوف على الإسناد الأول، وكذا أخرجه مسلم عن الحسن الحلواني عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد. قوله: "أبو عبد الله" هو المصنف.قوله: "فكبكبوا إلخ" تقدمت الإشارة إليه في الإيمان، وجرى المصنف على عادته في إيراد تفسر اللفظة الغريبة إذا وافق ما في الحديث ما في القرآن. و قوله: "غير واقع" أي لازما و "إذا وقع" أي إذا كان متعديا، والغرض أن هذه الكلمة من النوادر حيث كان الثلاثي متعديا والمزيد فيه لازما عكس القاعدة التصريفية، قيل ويجوز أن يكون ألف أكب للصيرورة. قوله: "صالح بن كيسان" يعني المذكور في الإسنادين. قوله: "أكبر من الزهري" يعني في السن، ومثل هذا جاء عن أحمد وابن معين. وقال علي بن المديني: كان أسن من الزهري، فإن مولده سنة خمسين وقيل بعدها ومات سنة ثلاث وعشرين ومائة وقيل سنه أربع، وأما صالح بن كيسان فمات سنة أربعين ومائة وقيل قبلها. وذكر الحاكم في مقدار عمره سنا1 تعقبوه عليه. وقوله: "أدرك ابن عمر" يعني أدرك السماع منه، وأما الزهري فمختلف في لقيه له والصحيح أنه لم يلقه وإنما يروي عن ابنه سالم عنه، والحديثان اللذان وقع في رواية معمر عنه أنه سمعهما عن ابن عمر ثبت ذكر سالم بينهما في رواية غيره والله أعلم. رابعها: حديث أبي هريرة الدال على ذم السؤال ومدح الاكتساب، وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في "باب الاستعفاف عن المسألة". وفي الحديث الأول أن المسكنة إنما تحمد مع العفة عن السؤال والصبر على الحاجة، وفيه استحباب الحياء في كل الأحوال، وحسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يتحرى وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح، وفيه دلالة لمن يقول: إن الفقير أسوأ حالا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء لكنه لا يكفيه، والفقير الذي لا شيء له كما تقدم توجيهه، ويؤيده قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث والفقه، وعكس آخرون فقالوا: المسكين أسوأ حالا من الفقير. وقال آخرون: هما سواء، وهذا قول ابن القاسم وأصحاب مالك، وقيل الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل حكاه ابن بطال، وظاهره أيضا أن المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الإلحاف في السؤال، ولكن قال ابن بطال: معناه المسكين الكامل وليس المراد نفي أصل المسكنة عن الطواف، بل هي كقوله: " أتدرون من المفلس " الحديث، وقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} الآية، وكذا قرره القرطبي وغير واحد. والله أعلم.
ـــــــ
1 في مخطوطة الرياض"شيئا"

(3/343)


باب خرص التمر
...
54 - باب خَرْصِ الثَّمَرِ
1481 - حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: "اخْرُصُوا وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ فَقَالَ لَهَا أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ

(3/343)


قَالَ أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلاَ يَقُومَنَّ أَحَدٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّءٍ وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ الْقُرَى قَالَ لِلْمَرْأَةِ كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ قَالَتْ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ" فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ قَالُوا بَلَى قَالَ دُورُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ يَعْنِي خَيْرًا"
[الحديث 1481
أطرافه في: 1872, 3161, 3791, 4422]
1482 - وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنِي عَمْرٌو ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ
وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ حَدِيقَةٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ لَمْ يُقَلْ حَدِيقَةٌ
قوله: "باب خرص التمر" أي مشروعيته، والخرص بفتح المعجمة وحكي كسرها وبسكون الراء بعدها مهملة هو حزر ما على النخل من الرطب تمرا، حكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن تفسيره أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما تجب فيه الزكاة بعث السلطان خارصا ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا وكذا وكذا تمرا فيحصيه وينظر مبلغ العشر فيثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر انتهى. وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها والبيع من زهوها وإيثار الأهل والجيران والفقراء، لأن في منعهم منها تضييقا لا يخفى. وقال الخطابي: أنكر أصحاب الرأي الخرص. وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفا للمزارعين لئلا يخونوا إلا ليلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار. وتعقبه الخطابي بأن تحريم الربا والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم أبو بكر وعمر فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبي، قال: وأما قولهم إنه تخمين وغرور فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. وحكى أبو عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوفق له غيره، وتعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له سواء أن تثبت بذلك الخصوصية ولو كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه كتسديد الأنبياء لسقط الاتباع، وترد هذه الحجة أيضا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم الخراص في زمانه والله أعلم، واعتل الطحاوي بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفة فتتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذا بدلا مما لم يسلم له، وأجيب بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص، قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان قوله: "عن عمرو بن يحيى" هو المازني، ولمسلم من وجه آخر عن وهيب حدثنا عمرو بن يحيى.قوله: "عن عباس الساعدي" هو ابن سهل بن سعد، ووقع في رواية أبي داود

(3/344)


عن سهل بن بكار شيخ البخاري فيه عن العباس الساعدي يعني ابن سهل بن مسعد. وفي رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن وهيب حدثنا عمرو بن يحيى حدثنا عباس بن سهل الساعدي. قوله: "غزوة تبوك" سيأتي شرحها في المغازي. قوله: "فلما جاء وادي القرى" هي مدينة قديمة بين المدينة والشام سيأتي ذكرها في البيوع، وأغرب ابن قرقول فقال: إنها من أعمال المدينة. قوله: "إذا امرأة في حديقة لها" استدل به على جواز الابتداء بالنكرة لكن بشرط الإفادة، قال ابن مالك: لا يمتنع الابتداء بالنكرة المحضة على الإطلاق، بل إذا لم تحصل فائدة، فلو اقترن بالنكرة المحضة قرينة يتحصل بها الفائدة جاز الابتداء بها نحو انطلقت فإذا سبع في الطريق إلخ. ووقع في رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن يحيى عند مسلم: "فآتينا على حديقة امرأة" ولم أقف على اسمها في شيء من الطرق. قوله: " اخرصوا" بضم الراء، زاد سليمان "فخرصنا" ولم أقف على أسماء من خرص منهم. قوله: "وخرص" في رواية سليمان "وخرصها". قوله: "أحصي " أي احفظي عدد كيلها. وفي رواية سليمان "أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله تعالى" وأصل الإحصاء العدد بالحصى لأنهم كانوا لا يحسنون الكتابة فكانوا يضبطون العدد بالحصى. قوله: "ستهب الليلة" زاد سليمان "عليكم". قوله: "فلا يقومن أحد " في رواية سليمان "فلا يقم فيها أحد منكم ". قوله: "فليعقله" أي يشده بالعقال وهو الحبل. وفي رواية سليمان "فليشد عقاله" وفي رواية ابن إسحاق في المغازي عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عباس بن سهل "ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له" . قوله: "فقام رجل فألقته بجبل طيء" في رواية الكشميهني: "بجبلي طي" وفي رواية الإسماعيلي من طريق عفان عن وهيب "ولم يقم فيها أحد غير رجلين ألقتهما بجبل طي" وفيه نظر بينته رواية ابن إسحاق ولفظه: "ففعل الناس ما أمرهم إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج آخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طي، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له. ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك" والمراد بجبلي طي المكان الذي كانت القبيلة المذكورة تنزله، واسم الجبلين المذكورين "أجأ" بهمزة وجيم مفتوحتين بعدهما همزة بوزن قمر وقد لا تهمز فيكون بوزن عصا و "سلمى "وهما مشهوران، ويقال إنهما سميا باسم رجل وامرأة من العماليق. ولم أقف على اسم الرجلين المذكورين وأظن ترك ذكرهما وقع عمدا، فقد وقع في آخر حديث ابن إسحاق أن عبد الله بن أبي بكر حدثه أن العباس بن سهل سمى الرجلين ولكنه استكتمني إياهما قال: وأبى عبد الله أن يسميهما لنا. قوله: "وأهدى ملك أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام مفتوحة بلدة قديمة بساحل البحر تقدم ذكرها في "باب الجمعة في القرى والمدن"، ووقع في رواية سليمان عند مسلم: "وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء" وفي مغازي ابن إسحاق" ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يوحنا بن روبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية" وكذا رواه إبراهيم الحربي في الهدايا من حديث علي، فاستفيد من ذلك اسمه واسم أبيه، فلعل العلماء اسم أمه، ويوحنا بضم التحتانية وفتح المهملة وتشديد النون، وروبة بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة، واسم البغلة المذكورة دلدل هكذا جزم به النووي، ونقل عن العلماء أنه لا يعرف له بغلة سواها، وتعقب بأن الحاكم أخرج في "المستدرك" عن ابن عباس "أن كسرى أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه" الحديث،

(3/345)


وهذه غير دلدل. ويقال إن النجاشي أهدى له بغلة، وأن صاحب دومة الجندل أهدى له بغلة، وأن دلدل إنما أهداها له المقوقس. وذكر السهيلي أن التي كانت تحته يوم حنين تسمى فضة وكانت شهباء، ووقع عند مسلم في هذه البغلة أن فروة أهداها له. قوله: "وكتب له ببحرهم" أي ببلدهم، أو المراد بأهل بحرهم لأنهم كانوا سكانا بساحل البحر أي أنه أقره عليهم بما التزموه من الجزية، وفي بعض الروايات "ببحرتهم" أي بلدتهم، وقيل البحرة الأرض. وذكر ابن إسحاق الكتاب، وهو بعد البسملة: "هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن روبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبي" وساق بقية الكتاب. قوله: "كم جاء حديقتك" أي تمر حديقتك. وفي رواية مسلم: "فسأل المرأة عن حديقتها كما بلغ ثمرها" وقوله: "عشرة" بالنصب على نزع الخافض أو على الحال، وقوله: "خرص" بالنصب أيضا إما بدلا وإما بيانا، ويجوز الرفع فيهما وتقديره الحاصل عشرة أوسق وهو خرص رسول الله. قوله: "فلما قال ابن بكار كلمة معناها أشرف على المدينة" ابن بكار هو سهل شيخ البخاري، فكأن البخاري شك في هذه اللفظة فقال هذا، وقد رواه أبو نعيم في "المستخرج" عن فاروق عن أبي مسلم وغيره عن سهل فذكرها بهذا اللفظ سواء، وسيأتي الكلام على بقية الحديث وما يتعلق بالمدينة في فضل المدينة، وما يتعلق بالأنصار في مناقب الأنصار، فإنه ساق ذلك هناك أتم مما هنا. وقوله: "طابة" هو من أسماء المدينة كطيبة. قوله: "وقال سليمان بن بلال حدثني عمرو" يعني ابن يحيى بالإسناد المذكور، وهذه الطريق موصولة في فضائل الأنصار. قوله: "وقال سليمان" هو ابن بلال المذكور، وسعد بن سعيد هو الأنصاري أخو يحيى بن سعيد، وعباس هو ابن سهل بن سعد، وهي موصولة في "فوائد علي بن خزيمة" قال: "حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان أي ابن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال" فذكره وأوله "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من المدينة أخذ طريق غراب لأنها أقرب إلى المدينة وترك الأخرى" فساق الحديث ولم يذكر أوله، واستفيد منه بيان قوله: "إني متعجل إلى المدينة، فمن أحب فليتعجل معي" أي إني سالك الطريق القريبة فمن أراد فليأت معي يعني ممن له اقتدار على ذلك دون بقية الجيش. وظهر أن عمارة بن غزية خالف عمرو بن يحيى في إسناد الحديث فقال عمرو "عن عباس عن أبي حميد" وقال عمارة "عن عباس عن أبيه". فيحتمل أن يسلك طريق الجمع بأن يكون عباس أخذ القدر المذكور وهو "أحد جبل يحبنا ونحبه" عن أبيه وعن أبي حميد معا، أو حمل الحديث عنهما معا، أو كله عن أبي حميد ومعظمه عن أبيه وكان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، ولذلك كان لا يجمعهما. وقد وقع في رواية ابن إسحاق المذكورة "عباس بن سهل بن سعد أو عباس عن سهل" فتردد فيه هل هو مرسل أو رواه عن أبيه فيوافق قول عمارة، لكن سياق عمرو بن يحيى أتم من سياق غيره، والله أعلم. وفي هذا الحديث مشروعية الخرص، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه أول الباب، واختلف القائلون به هل هو وأجب أو مستحب، فحكى الصيمري من الشافعية وجها بوجوبه. وقال الجمهور هو مستحب إلا إن تعلق به حق لمحجور مثلا أو كان شركاؤه غير مؤتمنين فيجب لحفظ مال الغير، واختلف أيضا هل يختص بالنخل أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به رطبا وجافا؟ وبالأول قال شريح القاضي وبعض أهل الظاهر، والثاني قول الجمهور، وإلى الثالث نحا البخاري. وهل يمضي قول الخارص أو يرجع إلى ما آل إليه الحال بعد الجفاف؟ الأول قول مالك وطائفة، والثاني قول الشافعي ومن تبعه. وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أو لا بد من

(3/346)


اثنين؟ وهما قولان للشافعي، والجمهور على الأول. واختلف أيضا هل هو اعتبار أو تضمين؟ وهما قولان للشافعي أظهرهما الثاني، وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص. وفيه أشياء من أعلام النبوة كالإخبار عن الريح وما ذكر في تلك القصة، وفيه تدريب الاتباع وتعليمهم، وأخذ الحذر مما يتوقع الخوف منه. وفضل المدينة والأنصار، ومشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال والتعيين، ومشروعية الهدية والمكافأة عليها.
" تكميل ": في السنن وصحيح ابن حبان من حديث سهل ابن أبي حثمة مرفوعا: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" . وقال بظاهره الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبو عبيد في "كتاب الأموال" أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه فقال: يترك قدر احتياجهم. وقال مالك وسفيان: لا يترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعي، قال ابن العربي: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤونة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبا. قوله: "قال أبو عبيد1" هو القاسم بن سلام الإمام المشهور صاحب "الغريب" وكلامه هذا في غريب الحديث له. وقال صاحب "المحكم": هو من الرياض كل أرض استدارت، وقيل كل أرض ذات شجر مثمر ونخل، وقيل كل حفرة تكون في الوادي يحتبس فيها الماء، فإذا لم يكن فيه ماء فهو حديقة، ويقال الحديقة أعمق من الغدير والحديقة القطعة من الزرع يعني أنه من المشترك.
ـــــــ
1 كذا في نسخة الشارح وفي نسخة أخرى "قال عبد الله" يعني البخاري, قاله القسطلاني. فتنبه

(3/347)


55 - باب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَبِالْمَاءِ الْجَارِي
وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْعَسَلِ شَيْئًا
1483 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الأَوَّلِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَفِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَبَيَّنَ فِي هَذَا وَوَقَّتَ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ كَمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ بِلاَلٌ قَدْ صَلَّى فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلاَلٍ وَتُرِكَ قَوْلُ الْفَضْلِ
قوله: "باب العشر فيما يسقى من ماء السماء والماء الجاري" قال الزين بن المنير: عدل من لفظ العيون الواقع في الخبر إلى الماء الجاري ليجريه مجرى التفسير للمقصود من ماء العيون وأنه الماء الذي يجري بنفسه من غير نضح وليبين أن الذي يجري بنفسه من نهر أو غدير حكمه حكم ما يجري من العيون انتهى، وكأنه أشار إلى ما في بعض طرقه، فعند أبي داود "فيما سقت السماء والأنهار والعيون" الحديث. قوله: "ولم ير عمر بن عبد العزيز في العسل شيئا" أي زكاة، وصله مالك في "الموطأ" عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: جاء كتاب من عمر بن عبد العزيز

(3/347)


إلى أبي وهو بمنى أن لا تأخذ من الخيل ولا من العسل صدقة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بإسناد صحيح إلى نافع مولى ابن عمر قال: "بعثني عمر بن عبد العزيز على اليمن فأردت أن آخذ من العسل العشر، فقال مغيرة بن حكيم الصنعاني: ليس فيه شيء، فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز فقال: صدق، هو عدل رضا، ليس فيه شيء" وجاء عن عمر بن عبد العزيز ما يخالفه أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن كتاب إبراهيم بن ميسرة قال: "ذكر لي بعض من لا أتهم من أهلي أنه تذاكر هو وعروة بن محمد السعدي فزعم عروة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن صدقة العسل، فزعم عروة أنه كتب إليه: إنا قد وجدنا بيان صدقة العسل بأرض الطائف فخذ منه العشر انتهى" وهذا إسناد ضعيف لجهالة الواسطة، والأول أثبت، وكأن البخاري أشار إلى تضعيف ما روي "أن في العسل العشر" وهو ما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن أبي هريرة قال: " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر" وفي إسناده عبد الله بن محرر وهو بمهملات وزن محمد قال البخاري في تاريخه: عبد الله متروك، ولا يصح في زكاه العسل شيء. قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء. قال الشافعي في القديم: حديث أن في العسل العشر ضعيف، وفي أن لا يؤخذ منه العشر ضعيف، إلا عن عمر بن عبد العزيز انتهى. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق طاوس "أن معاذا لما أتى اليمن قال: لم أؤمر فيهما بشيء" يعني العسل وأوقاص البقر، وهذا منقطع، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جاء هلال أحد بني متعان - أي بضم الميم وسكون المثناة بعدها مهملة - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له واديا فحماه له، فلما ولي عمر كتب إلى عامله: إن أدى إليك عشور نحله فاحم له سلبه وإلا فلا" وإسناده صحيح إلى عمرو1 وترجمة عمرو قوية على المختار لكن حيث لا تعارض، وقد ورد ما يدل على أن هلالا أعطى ذلك تطوعا، فعند عبد الرزاق عن صالح بن دينار "أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه أن يأخذ من العسل صدقة إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذها فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا أن هلال بن سعد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعسل فقال: ما هذا؟ قال: صدقة فأمر برفعها ولم يذكر عشورا" لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب. وقال ابن المنذر: ليس في العسل خبر يثبت ولا إجماع فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور وعن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق يحب العشر فيما أخذ من غير أرض الخراج. وما نقله عن الجمهور مقابله قول الترمذي بعد أن أخرج حديث ابن عمر فيه، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء، وأشار شيخنا في شرحه إلى أن الذي نقله ابن المنذر أقوى، قال ابن المنير: مناسبة أثر عمر في العسل للترجمة من جهة أن الحديث يدل على أن لا عشر فيه لأنه خص العشر أو نصفه بما يسقى، فأفهم أن ما لا يسقى لا يعشر، زاد ابن رشيد فإن قيل المفهوم إنما ينفي العشر أو نصفه لا مطلق الزكاة، فالجواب أن الناس قائلان: مثبت للعشر وناف للزكاة أصلا فتم المراد، قال: ووجه إدخاله العسل أيضا للتنبيه على الخلاف فيه وأنه لا يرى فيه زكاة وإن كانت النحل تتغذى مما يسقى من السماء لكن المتولد بالمباشرة كالزرع ليس كالمتولد بواسطة حيوان كاللبن فإنه متولد عن الرعي ولا زكاة فيه.
ـــــــ
1 مراده أن إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شعيب صحيح وأما رواية عمرو عن أبيه عن جده فمختلف فيها بين أهل الحديث, والصواب أنها حجة ما لم يخالفها ما هو أقوى منها, كما أشار إليه الشارح, وقد ذكر ذلك غيره من أهل العلم, وصرح به العلامة ابن القيم في بعض كتبه. والله أعلم

(3/348)


قوله: "عثريا" بفتح المهملة والمثلثة وكسر الراء وتشديد التحتانية، وحكي عن ابن الأعرابي تشديد المثلثة ورده ثعلب وحكى ابن عديس في المثلث فيه ضم أوله وإسكان ثانيه قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها يصب إليه من ماء المطر في سواق تشق له قال: واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يعثر فيها.قال ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤونة، أو يشرب بعروقه كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها فيصل إليه عروق الشجر فيستغني عن السقي، وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي عبيد أن العثري ما سقته السماء، لأن سياق الحديث يدل على المغايرة، وكذا قول من فسر العثري بأنه الذي لا حمل له لأنه لا زكاة فيه، قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة التي ذكرناها خلافا قوله: "بالنضح" بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة أي بالسانية، وهي رواية مسلم والمراد بها الإبل التي يستقى عليها، وذكر الإبل كالمثال وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم. قوله: "قال أبو عبد الله: هذا تفسير الأول إلخ" هكذا وقع في رواية أبي ذر هذا الكلام عقب حديث ابن عمر في العثري، ووقع في رواية غيره عقب حديث أبي سعيد المذكور في الباب الذي بعده، وهو الذي وقع عند الإسماعيلي أيضا، وجزم أبو علي الصدفي بأن ذكره عقب حديث ابن عمر من قبل بعض نساخ الكتاب انتهى ولم يقف الصغاني على اختلاف الروايات فجزم بأنه وقع هنا في جميعها قال وحقه أن يذكر في الباب الذي يليه، قلت: ولذكره عقب كل من الحديثين وجه، لكن تعبيره بالأول يرجح كونه بعد حديث أبي سعيد لأنه هو المفسر الذي قبله وهو حديث ابن عمر، فحديث ابن عمر بعمومه ظاهر في عدم اشتراط النصاب وفي إيجاب الزكاة في كل ما يسقى بمؤونة وبغير مؤونة، ولكنه عند الجمهور مختص بالمعنى الذي سيق لأجله وهو التمييز بين ما يجب فيه العشر أو نصف العشر بخلاف حديث أبي سعيد فإنه مساق لبيان جنس المخرج منه وقدره فأخذ به الجمهور عملا بالدليلين كما سيأتي بسط القول فيه بعد إن شاء الله تعالى. وقد جزم الإسماعيلي بأن كلام البخاري وقع عقب حديث أبي سعيد ودل حديث الباب على التفرقة في القدر المخرج الذي يسقى بنضح أو بغير نضح، فإن وجد ما يسقى بهما فظاهره أنه يجب فيه ثلاثة أرباع العشر إذا تساوى ذلك وهو قول أهل العلم، قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافا، وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الأقل تبعا للأكثر نص عليه أحمد، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، والثاني يؤخذ بالقسط، ويحتمل أن يقال إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه، وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع وانتهى ولو كان أقل قاله ابن التين عن حكاية أبي محمد بن أبي زيد عنه والله أعلم. "تنبيه": قال النسائي عقب تخريج هذا الحديث: رواه نافع عن ابن عمر عن عمر، قال وسالم أجل من نافع وقول نافع أولى بالصواب. وقوله بعده "هذا تفسير الأول لأنه لم يوقت في الأول" أي لم يذكر حدا للنصاب، و قوله: "وبين في هذا" يعني في حديث أبي سعيد. قوله: "والزيادة مقبولة" أي من الحافظ، والثبت بتحريك الموحدة الثبات والحجة. قوله: "والمفسر يقضي على المبهم": أي الخاص يقضي على العام لأن "فيما سقت" عام يشمل النصاب ودونه، و "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " خاص بقدر النصاب وأجاب بعض الحنفية بأن محل ذلك ما إذا كان البيان وفق المبين لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه، أما إذا انتفى شيء من أفراد العام مثلا فيمكن التمسك به كحديث أبي سعيد هذا فإنه دل على النصاب فيما يقبل التوسيق، وسكت عما لا يقبل التوسيق فيمكن التمسك بعموم قوله فيما سقت السماء العشر أي مما لا يمكن التوسيق فيه عملا بالدليلين، وأجاب الجمهور

(3/349)


بما روي مرفوعا: "لا زكاة في الخضراوات"رواه الدارقطني من طريق علي وطلحة ومعاذ مرفوعا وقال الترمذي لا يصح فيه شيء إلا مرسل موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو دال على أن الزكاة إنما هي فيما يكال مما يدخر للاقتيات في حال الاختيار. وهذا قول مالك والشافعي. وعن أحمد يخرج من جميع ذلك ولو كان لا يقتات وهو قول محمد وأبي يوسف وحكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض، إلا أن أبا حنيفة قال تجب في جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقصب والحشيش والشجر الذي ليس له ثمر انتهى. وحكى عياض عن داود أن كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النصاب، وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليله وكثيره الزكاة، وهو نوع من الجمع بين الحديثين المذكورين والله أعلم. وقال ابن العربي أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين قول أبي حنيفة، وهو التمسك بالعموم قال: وقد زعم الجويني أن الحديث إنما جاء لتفصيل ما تقل مما تكثر مؤونته، قال ابن العربي: لا مانع أن يكون الحديث يقتضي الوجهين والله أعلم. قوله: "كما روى إلخ" أي كما أن المثبت مقدم على النافي في حديثي الفضل وبلال، وحديث الفضل أخرجه أحمد وغيره، وحديث بلال سيأتي موصولا في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. "تكميل": اختلف في هذا النصاب هل هو تحديد أو تقريب؟ وبالأول جزم أحمد، وهو أصح الوجهين للشافعية، إلا إن كان نقصا يسيرا جدا مما لا ينضبط فلا يضر قاله ابن دقيق العيد، وصحح النووي في شرح مسلم أنه تقريب، واتفقوا على وجوب الزكاة فيما زاد على الخمسة أوسق بحسابه ولا وقص فيها.

(3/350)


56 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
1484 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا مالك قال حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم "ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة ولا في أقل من خمسة من الإبل الذود صدقة ولا في أقل من خمس أواق من الورق صدقة"
قال أبو عبد الله: هذا تفسير الأول إذا قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ويؤخذ أبدا في العلم بما زاد أهل الثبت أو بينوا
قوله: "باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" أورد فيه حديث أبي سعيد وقد تقدم ذكره في "باب زكاة الورق" وذكر فيه قدر الوسق وقوله هنا "ليس فيما أقل" ما زائدة وأقل في موضع جر بقي وقد ذكره بعده بلفظ وليس في أقل.

(3/350)


57 - باب أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ
وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ
1485 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الأَسَدِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ فَيَجِيءُ هَذَا بِتَمْرِهِ وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ فَأَخَذَ

(3/350)


باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه وقد وجب في العشر أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره، أو باع ثماره ولم تجب فيها الصدقة
...
58 - باب مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ, أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا" فَلَمْ يَحْظُرْ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلاَحِ عَلَى أَحَدٍ
وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ
1486 - حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاَحِهَا قَالَ حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ "
[الحديث 1486
أطرافه في: 2183, 2194, 2199, 2247, 2249]
1487حدثنا عبد الله بن يوسف حدثني الليث حدثني خالد بن يزيد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها"
[الحديث 1487
أطرافه في: 2189, 2196, 2381]

(3/351)


1488 - حدثنا قتيبة عن مالك عن حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي قال حتى تحمار"
[الحديث 1488
أطرافه في: 2195, 2197, 2198, 2208]
قوله: "باب من باع ثماره أو أرضه أو نخله أو زرعه وقد وجب فيه العشر أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره، أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة إلخ" ظاهر سياق هذه الترجمة أن المصنف يرى جوازه بيع الثمرة بعد بدو الصلاح ولو وجبت فيها الزكاة بالخرص مثلا لعموم قوله: "حتى يبدو صلاحها" وهو أحد قولي العلماء، والثاني لا يجوز بيعها بعد الخرص لتعلق حق المساكين بها، وهو أحد قولي الشافعي، وقائل هذا حمل الحديث على الجواز بعد الصلاح وقبل الخرص جمعا بين الحديثين. وأما قوله: "العشر أو الصدقة" فمن العام بعد الخاص، وفيه إشارة إلى الرد على من جعل في الثمار العشر مطلقا من غير اعتبار نصاب، ولم يرد أن الصدقة تسقط بالبيع. وأما قوله: "فأدى الزكاة من غيره" فلأنه إذا باع بعد وجوب الزكاة فقد فعل أمرا جائزا كما تقدم فتعلقت الزكاة بذمته فله أن يعطيها من غيره أو يخرج قيمتها على رأي من يجيزه وهو اختيار البخاري كما سبق. وأما قوله: "ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب" فيتوقف على مقدمة أخرى وهي أن الحق يتعلق بالصلاح، وظاهر القرآن يقتضي أن وجوب الإيتاء إنما هو يوم الحصاد على رأي من جعلها في الزكاة، إلا أن يقال إنما تعرضت الآية لبيان زمن الإيتاء لا لبيان زمان الوجوب، والظاهر أن المصنف اعتمد في تصحيح هذه المقدمة استعمال الخرص عند الصلاح لتعلق حق المساكين، فطواها بتقديمه حكم الخرص فيما سبق أشار إلى ذلك ابن رشيد. وقال ابن بطال: أراد البخاري الرد على أحد قولي الشافعي بفساد البيع كما تقدم. وقال أبو حنيفة المشتري بالخيار ويؤخذ العشر منه ويرجع هو على البائع، وعن مالك العشر على البائع إلا أن يشترطه على المشتري وهو قول الليث، وعن أحمد الصدقة على البائع مطلقا وهو قول الثوري والأوزاعي والله أعلم. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الثمرة" أسنده في الباب بمعناه، وأما هذا اللفظ فمذكور عنده في موضعين من كتاب البيع من حديث ابن عمر، وسيأتي الكلام هناك على حديثه وعلى حديث أنس أيضا. قوله: "وكان إذا سئل عن صلاحها قال حتى تذهب عاهته" أي الثمر وفي رواية الكشميهني عاهتها وهو مقول ابن عمر بينه مسلم في روايته من طريق محمد بن جعفر عن شعبة ولفظه: "فقيل لابن عمر ما صلاحه؟ قال تذهب عاهته".

(3/352)


باب هل يشتري صدقته؟ ولا بأس أن يشتري صدقة غيره
...
59 - باب هَلْ يَشْتَرِي الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ ؟وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَتَهُ غَيْرُهُ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنْ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ
1489 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُحَدِّثُ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ: "لاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ" فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلاَّ جَعَلَهُ صَدَقَةً"
[الحديث 1489
أطرافه في: 2775, 2971, 3002]

(3/352)


1490 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لاَ تَشْتَرِي وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِه"
[الحديث 1490
أطرافه في: 2623, 2636, 2970, 3003]
قوله: "باب هل يشتري الرجل صدقته" قال الزين بن المنير: أورد الترجمة بالاستفهام لأن تنزيل حديث الباب على سببه يضعف معه تعميم المنع لاحتمال تخصيصه بالشراء بدون القيمة لقوله: "وظننت أنه يبيعه برخص" وكذا إطلاق الشارع العود عليه بمعنى أنه في معنى رجوع بعضها إليه بغير عوض، قال: وقصد بهذه الترجمة التنبيه على أن الذي تضمنته الترجمة التي قبلها من جواز بيع الثمرة قبل إخراج الزكاة ليس من جنس شراء الرجل صدقته، والفرق بينهما دقيق وقال ابن المنذر ليس لأحد أن يتصدق ثم يشتريها للنهي الثابت، ويلزم من ذلك فساد البيع إلا إن ثبت الإجماع على جوازه. قوله: "ولا بأس أن يشتري صدقة غيره" قد استدل له بما ذكر، ومراده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "لا تعد" وقوله: "العائد في صدقته" ولو كان المراد تعميم المنع لقال لا تشتروا الصدقة مثلا، وسيأتي لذلك مزيد بيان في "باب إذا حولت الصدقة". ثم أورد المصنف حديث عمر في تصدقه بالفرس واستئذانه في شرائه بعد ذلك من طريقين فسياق الأولى يقتضي أنه من حديث ابن عمر والثانية أنه من مسند عمر، ورجح الدارقطني الأولى، لكن حيث جاء من طريق سالم وغيره من الرواة عن ابن عمر فهو من مسنده، وأما رواية أسلم مولى عمر فهي عن عمر نفسه والله أعلم. قوله: "تصدق بفرس" أي حمل عليه رجلا في سبيل الله كما في الطريق الثانية والمعنى أنه ملكه له، ولذلك ساغ له بيعه ومنهم من قال كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه لأنه حصل فيه هزال عجز لأجله عن اللحاق بالخيل وضعف عن ذلك وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به، وأجاز ذلك ابن القاسم، ويدل على أنه حمل تمليك قوله: "ولا تعد في صدقتك" ولو كان حبسا لعلله به. قوله فيها "فأضاعه الذي كان عنده" أي بترك القيام عليه بالخدمة والعلف ونحوهما. وقال في الأولى "فوجده يباع". قوله: "وإن أعطاكه بدرهم" هو مبالغة في رخصه وهو الحامل له على شرائه. قوله: "ولا تعد" في رواية أحمد من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم "ولا تعودن" وسمي شراءه برخص عودا في الصدقة من حيث أن الغرض منها ثواب الآخرة، فإذا اشتراها برخص فكأنه اختار عرض الدنيا على الآخرة، مع أن العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدق فكيف بالمتصدق فيصير راجعا في ذلك المقدار الذي سومح فيه.
" فائدة " أفاد ابن سعد في الطبقات أن اسم هذا الفرس الورد وأنه كان لتميم الداري فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه لعمر، ولم أقف على اسم الرجل الذي حمله عليه. قوله: "كالعائد في قيئه" استدل به على تحريم ذلك لأن القيء حرام قال القرطبي: وهذا هو الظاهر من سياق الحديث، ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء مما يستقذر وهو قول الأكثر، ويلتحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القربات. وأما إذا ورثه فلا كراهة. وأبعد من قال يتصدق به. قوله في الطريق الأولى "ولهذا كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئا تصدق به إلا جعله صدقة" كذا في رواية أبي ذر، وعلى حرف لا تضبيب ولا أدري ما وجهه. وبإثبات النفي يتم المعنى أي كان

(3/353)


إذا اتفق له أن يشتري شيئا مما تصدق به لا يتركه في ملكه حتى يتصدق به، وكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملكها لا لمن يردها صدقة. وفي الحديث كراهة الرجوع في الصدقة وفضل الحمل في سبيل الله والإعانة على الغزو بكل شيء، وأن الحمل في سبيل الله تمليك وأن للمحمول بيعه والانتفاع بثمنه. وسيأتي تكميل الكلام على هذا الحديث في أبواب الهبة إن شاء الله تعالى.

(3/354)


60 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ
1491 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كِخْ كِخْ لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ"
قوله: "باب ما يذكر من الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وآله" لم يعين الحكم لشهرة الاختلاف فيه. والنظر فيه في ثلاثة مواضع: أولها المراد بالآل هنا بنو هاشم وبنو المطلب على الأرجح من أقوال العلماء وسيأتي دليله في أبواب الخمس في آخر الجهاد قال الشافعي أشركهم النبي صلى الله عليه وسلم في سهم ذوي القربى ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة. وعن أبي حنيفة ومالك بنو هاشم فقط، وعن أحمد في بني المطلب روايتان، وعن المالكية فيما بين هاشم وغالب بن فهر قولان، فعن أصبغ منهم هم بنو قصي وعن غيره بنو غالب بن فهر. ثانيها كان يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفرض والتطوع كما نقل فيه غير واحد منهم الخطابي الإجماع لكن حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولا وكذا في رواية عن أحمد ولفظه في رواية الميموني "لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته صدقة الفطر وزكاة الأموال والصدقة يصرفها الرجل على محتاج يريد بها وجه الله فأما غير ذلك فلا أليس يقال كل معروف صدقة، قال ابن قدامة ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة وإنما أراد أن ما ليس من صدقة الأموال كالقرض والهدية وفعل المعروف كان غير محرم. قال الماوردي يحرم عليه كل ما كان من الأموال متقوما. وقال غيره لا تحرم عليه الصدقة العامة كمياه الآبار وكالمساجد، وسيأتي دليل تحريم الصدقة مطلقا في اللقطة، واختلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه دون الأنبياء أو كلهم سواء في ذلك. ثالثها هل يلتحق به آله في ذلك أم لا؟ قال ابن قدامة لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة كذا قال، وقد نقل الطبري الجواز أيضا عن أبي حنيفة وقيل عنه يجوز لهم إذا حرموا سهم ذوي القربى حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم، وهو وجه لبعض الشافعية، وعن أبي يوسف يحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم، وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز المنع جواز التطوع دون الفرض عكسه، وأدلة المنع ظاهرة من حديث الباب ومن غيره ولقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ولو أحلها لآله لأوشك أن يطعنوا فيه، ولقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الصدقة أوساخ الناس " كما رواه مسلم، ويؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض وهو قول أكثر الحنفية والمصحح عند الشافعية والحنابلة، وأما عكسه فقالوا أن الواجب حق لازم لا يلحق بأخذه ذلة بخلاف التطوع، ووجه التفرقة بين بني هاشم وغيرهم أن موجب المنع رفع يد الأدنى على الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا، ولم أر لمن أجاز مطلقا دليلا إلا ما تقدم عن أبي حنيفة. قوله: "سمعت أبا هريرة قال أخذ الحسن" في رواية معمر عن محمد بن زياد أنه سمع

(3/354)


أبا هريرة قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم تمرا من تمر الصدقة والحسن في حجره" أخرجه أحمد. قوله: "فجعلها في فيه" زاد أبو مسلم الكجي من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد "فلم يفطن له النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام ولعابه يسيل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم شدقه "وفي رواية معمر "فلما فرغ حمله على عاتقه فسال لعابه فرفع رأسه فإذا تمرة في فيه" قوله: "كخ" بفتح الكاف وكسرها وسكون المعجمة مثقلا ومخففا وبكسر الخاء منونة وغير منونة فيخرج من ذلك ست لغات، والثانية توكيد للأولى، وهي كلمة تقال لردع الصبي عند تناوله ما يستقذر، قيل عربية وقيل أعجمية، وزعم الداودي أنها معربة، وقد أوردها البخاري في "باب من تكلم بالفارسية". قوله: "ليطرحها" زاد مسلم: "ارم بها "وفي رواية حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عند أحمد: "فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة فحرك خده وقال ألقها يا بني ألقها يا بني" ويجمع بين هذا وبين قوله: "كخ كخ" بأنه كلمه أولا بهذا فلما تمادى قال له كخ كخ إشارة إلى استقذار ذلك له، ويحتمل العكس بأن يكون كلمه أولا بذلك فلما تمادى نزعها من فيه. قوله: "أنا لا نأكل الصدقة" في رواية مسلم: "إنا لا تحل لنا الصدقة" وفي رواية معمر "إن الصدقة لا تحل لآل محمد" وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر علي جرين من تمر الصدقة فأخذت منه تمرة فألقيتها في في فأخذها بلعابها فقال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" وإسناده قوي. وللطبراني والطحاوي من حديث أبي ليلى الأنصاري نحوه وفي الحديث دفع الصدقات إلى الإمام، والانتفاع بالمسجد في الأمور العامة، وجواز إدخال الأطفال المساجد وتأديبهم بما ينفعهم ومنعهم مما يضرهم ومن تناول المحرمات وإن كانوا غير مكلفين ليتدربوا بذلك. واستنبط بعضهم منه منع ولي الصغيرة إذا اعتدت من الزينة، وفيه الإعلام بسبب النهي ومخاطبة من لا يميز لقصد إسماع من يميز لأن الحسن إذ ذاك كان طفلا، وأما قوله: "أما شعرت" وفي رواية البخاري في الجهاد "أما تعرف" ولمسلم: "أما علمت" فهو شيء يقال عند الأمر الواضح وإن لم يكن المخاطب بذلك عالما أي كيف خفي عليك هذا مع ظهوره، وهو أبلغ في الزجر من قوله لا تفعل، وقد تقدم ذكر بعض فوائده قبل بابين.

(3/355)


61 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1492 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "وَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلاَ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا قَالُوا إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا"
[الحديث 1492
أطرافه في: 2221, 5031, 5032]
1493 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاَءَهَا فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَتْ وَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ فَقُلْتُ هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"

(3/355)


قوله: "باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" لم يترجم لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا لموالي النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يثبت عنده فيه شيء، وقد نقل ابن بطال أنهن - أي الأزواج - لا يدخلن في ذلك باتفاق الفقهاء، وفيه نظر فقد ذكر ابن قدامة أن الخلال أخرج من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" قال وهذا يدل على تحريمها. قلت: وإسناده إلى عائشة حسن، أخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وهذا لا يقدح فيما نقله ابن بطال، وروى أصحاب السنن وصحة الترمذي وابن حبان وغيره عن أبي رافع مرفوعا: "إنا لا تحل لنا الصدقة، وأن موالي القوم من أنفسهم" وبه قال أحمد وأبو حنيفة وبعض المالكية كابن الماجشون، وهو الصحيح عند الشافعية. وقال الجمهور يجوز لهم لأنهم ليسوا منهم حقيقة، ولذلك لم يعوضوا بخمس الخمس، ومنشأ الخلاف قوله: "منهم" أو "من أنفسهم" هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة أو لا، وحجة الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام فلا دليل فيه على تحريم الصدقة، لكنه ورد على سبب الصدقة، وقد اتفقوا على أنه لا يخرج السبب، وإن اختلفوا: هل يخص به أو لا؟ ويمكن أن يستدل لهم بحديث الباب لأنه يدل على جوازها لموالي الأزواج، وقد تقدم أن الأزواج ليسوا في ذلك من جملة الآل فمواليهم أحرى بذلك، قال ابن المنير في الحاشية: إنما أورد البخاري هذه الترجمة ليحقق أن الأزواج لا يدخل مواليهن في الخلاف ولا يحرم عليهن الصدقة قولا واحدا لئلا يظن الظان أنه لما قال بعض الناس بدخول الأزواج في الآل أنه يطرد في مواليهن، فبين أنه لا يطرد.
" تنبيه ": قال الإسماعيلي: هذه الترجمة مستغنى عنها، فإن تسمية المولى لغير فائدة، وإنما هو لسوق الحديث على وجهه فقط. كذا قال وقد علمت ما فيها من الفائدة. حديث ابن عباس في الانتفاع بجلد الشاة لقوله فيه: "أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة" سيأتي الكلام عليه مستوفى في الذبائح إن شاء الله تعالى، ولم أقف على اسم هذه المولاة. حديث عائشة في قصة بريرة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به عليها "هو لها صدقة ولنا هدية" وسيأتي الكلام عليه مستوفى في العتق إن شاء الله تعالى.

(3/356)


62 - باب إِذَا تَحَوَّلَتْ الصَّدَقَةُ
1494 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقَالَتْ لاَ إِلاَّ شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثَتْ بِهَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا"
1495 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ"
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 1495
طرفه في:2577]
قوله: "باب إذا تحولت الصدقة" في رواية أبي ذر "إذا حولت" بضم أوله، أي فقد جاز للهاشمي تناولها. قوله: "حدثنا خالد" هو الحذاء والإسناد كله بصريون. قوله: "هل عندكم شيء" أي من الطعام، وقوله: "نسيبة"

(3/356)


بالنون والمهملة والموحدة مصغر اسم أم عطية. قوله: "من الشاة التي بعثت" بفتح المثناة أي بعثت بها أنت. قوله: "بلغت محلها" أي أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها انتقلت من حكم الصدقة فحلت محل الهدية وكانت تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف الصدقة كما سيأتي في الهبة، وهذا تقرير ابن بطال بعد أن ضبط محلها بفتح الحاء، وضبطه بعضهم بكسرها من الحلول أي بلغت مستقرها، والأول أولى، وعليه عول البخاري في الترجمة. وهذا نظير قصة بريرة كما سيأتي بسطه في كتاب الهبة. ثم أورد المصنف حديث أنس في قصة بريرة مختصرا وقال بعده "وقال أبو داود أنبأنا شعبة" فذكر الإسناد دون المتن لتصريح قتادة فيه بالسماع. وأبو داود هو الطيالسي، وقد أخرجه في مسنده كذلك ورأيته في النسخة التي وقفت عليها منه معنعنا، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة فصرح بسماع قتادة من أنس أيضا، واستنبط البخاري من قصة بريرة وأم عطية أن للهاشمي أن يأخذ من سهم العاملين إذا عمل على الزكاة، وذلك أنه إنما يأخذ على عمله، قال: فلما حل للهاشمي أن يأخذ ما يملكه بالهدية مما كان صدقة لا بالصدقة كذلك يحل له أخذ ما يملكه بعمله لا بالصدقة. واستدل به أيضا على جواز صدقة التطوع لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم فرقوا أنفسهم وبينه صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم ذلك، بل أخبرهم أن تلك الهدية بعينها خرجت من كونها صدقة بتصرف المتصدق عليه فيها كما تقدم تقريره. والله أعلم.

(3/357)


63 - باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا
1496 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ"
قوله: "باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا" قال الإسماعيلي: ظاهر حديث الباب أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم. وقال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله: "فترد في فقرائهم" لأن الضمير يعود على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان فقد وافق عموم الحديث انتهى. والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل، وأن الضمير يعود على المخاطبين فيختص بذلك فقراؤهم، لكن رجح ابن دقيق العيد الأول وقال: إنه وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر، فلا تعتبر في الزكاة كما لا تعتبر في الصلاة فلا يختص بهم الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة انتهى. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فأجاز النقل الليث وأبو حنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره، والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور ترك النقل فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها، ولا يبعد أنه اختيار البخاري

(3/357)


لأن قوله حيث كانوا يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد وفيه من هو متصف بصفة الاستحقاق. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، وزكريا بن إسحاق مكي وكذا من فوقه. قوله: "عن يحيى" في رواية وكيع عن زكريا "حدثني يحيى "أخرجه مسلم. قوله: "عن أبي معبد" في رواية إسماعيل بن أمية "عن يحيى أنه سمع أبا معبد يقول سمعت ابن عباس يقول" أخرجه المصنف في التوحيد. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن" كذا في جميع الطرق، إلا ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع فقال فيه: "عن ابن عباس عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم" فعلى هذا فهو من مسند معاذ، وظاهر سياق مسلم أن اللفظ مدرج، لكن لم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وسائر الروايات أنه من مسند ابن عباس فقد أخرجه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع فقال فيه: "عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا" وكذا هو في مسند إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه قال: "حدثنا وكيع به" وكذا رواه عن وكيع أحمد في مسنده أخرجه أبو داود عن أحمد، وسيأتي في المظالم عن يحيى بن موسى عن وكيع كذلك، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن عبد الله المخرمي وجعفر بن محمد الثعلبي، وللإسماعيلي من طريق أبي خيثمة وموسى بن السدي والدارقطني من طريق يعقوب بن إبراهيم الدورقي وإسحاق بن إبراهيم البغوي كلهم عن وكيع كذلك، فإن ثبتت رواية أبي بكر فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد لأنه كان في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إذ ذاك مع أبويه بالمدينة، وكان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف في أواخر المغازي، وقيل كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها، واختلف هل كان معاذ واليا أو قاضيا؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول. قوله: "ستأتي قوما أهل كتاب" هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصهم بالذكر تفضيلا لهم على غيرهم. قوله: "فإذا جئتهم" قيل عبر بلفظ إذا تفاؤلا بحصول الوصول إليهم. قوله: "فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" كذا للأكثر، وقد تقدم في أول الزكاة بلفظ: "وأني رسول الله" كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يختلف عليه فيها، وأما إسماعيل بن أمية ففي رواية روح بن القاسم عنه "فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله" وفي رواية الفضل بن العلاء عنه "إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك" ويجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة، ووقعت البداءة بهما لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما فمن كان منهم غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة، وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه كمن يقول ببنوة عزير أو يعتقد التشبيه فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم. واستدل به من قال من العلماء إنه لا يشترط التبري من كل دين يخالف دين الإسلام خلافا لمن قال إن من كان كافرا بشيء وهو مؤمن بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بترك اعتقاد ما كفر به،

(3/358)


والجواب أن اعتقاد الشهادتين يستلزم ترك اعتقاد التشبيه ودعوى بنوة عزير وغيره فيكتفى بذلك، واستدل به على أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله حتى يضيف إليها الشهادة لمحمد بالرسالة وهو قول الجمهور. وقال بعضهم يصير بالأولى مسلما ويطالب بالثانية. وفائدة الخلاف تظهر بالحكم بالردة. "تنبيهان" أحدهما كان أصل دخول اليهودية في اليمن في زمن أسعد أبي كرب وهو تبع الأصغر كما حكاه ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية. ثانيهما قال ابن العربي في شرح الترمذي: تبرأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن العزير ابن الله وهذا لا يمنع كونه كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك نزل في زمنه واليهود معه بالمدينة وغيرها فلم ينقل عن أحد منهم أنه رد ذلك ولا تعقبه، والظاهر أن القائل بذلك طائفة منهم لا جميعهم بدليل أن القائل من النصارى إن المسيح ابن الله طائفة منهم لا جميعهم فيجوز أن تكون تلك الطائفة انقرضت في هذه الأزمان كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل وتحول معتقد النصارى في الابن والأب إلى أنه من الأمور المعنوية لا الحسية، فسبحان مقلب القلوب. قوله: "فإن هم أطاعوا لك بذلك" أي شهدوا وانقادوا. وفي رواية ابن خزيمة: "فإن هم أجابوا لذلك" وفي رواية الفضل بن العلاء كما تقدم "فإذا عرفوا ذلك" وعدي أطاع باللام وإن كان يتعدى بنفسه لتضمنه معنى انقاد، واستدل به على أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين وإن كانوا يعبدون الله ويظهرون معرفته لكن قال حذاق المتكلمين: ما عرف الله من شبهه بخلقه أو أضاف إليه اليد أو أضاف إليه الولد1 فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به. واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعوا أولا إلى الإيمان فقط، ثم دعوا إلى العمل، ورتب ذلك عليها بالفاء. وأيضا فإن قوله: "فإن هم أطاعوا فاخبرهم" يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لا يجب عليهم شيء، وفيه نظر لأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به، وأجاب بعضهم عن الأول بأنه استدلال ضعيف، لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتبت الأخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة. وقيل الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة أن الذي يقر بالتوحيد ويجحد الصلاة يكفر بذلك فيصير ماله فيئا فلا تنفعه الزكاة، وأما قول الخطابي إن ذكر الصدقة أخر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم وأنها لا تكرر تكرار الصلاة فهو حسن، وتمامه أن يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة. قوله: "خمس صلوات" استدل به على أن الوتر ليس بفرض وقد تقدم البحث فيه في موضعه. قوله: "فإن هم أطاعوا لك بذلك" قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها عليهم والتزامهم لها، والثاني أن يكون المراد الطاعة بالفعل، وقد يرجح الأول بأن المذكور هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة بذلك إليها، ويترجح الثاني بأنهم لو أخبروا بالفريضة فبادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى ولم يشترط التلفظ بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب انتهى. والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى،
ـــــــ
1 لاشك أن من شبه الله بخلقه أو أضاف إليه الولد جاهل به سبحانه ولم يقدره حق قدره, لأنه سبحانه لا شبيه له ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا. وأما إضافة اليد إليه شبحانه فمحل تفصيل, فمن أضافها إليه سبحانه على أنها من جنس أيدي المخلوقين فهو مشبه ضال, وأما من أضافها إليه على الوجه الذي يليق بجلاله من غير أن يشابه خلقه في ذلك فهذا حق, واثباتها لله على هذا الوجه واجب كما نطق به القرآن وصحت به السنة, وهو مذهب أهل السنة, فتنبه. والله الموفق

(3/359)


وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة "فإذا صلوا" وبعد ذكر الزكاة "فإذا أقروا بذلك فخذ منهم" . قوله: " صدقة" زاد في رواية أبي عاصم عن زكريا " في أموالهم" كما تقدم في أول الزكاة. وفي رواية الفضل بن العلاء افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم. قوله: "تؤخذ من أغنيائهم" استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن امتنع منها أخذت منه قهرا. قوله: "على فقرائهم" استدل به لقول مالك وغيره إنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، وفيه بحث كما قال ابن دقيق العيد لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء. وقال الخطابي: وقد يستدل به من لا يرى على المديون زكاة ما في يده إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر نصاب لأنه ليس بغني إذا كان إخراج ماله مستحقا لغرمائه. قوله: " فإياك وكرائم أموالهم " كرائم منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف الواو، والكرائم جمع كريمة أي نفيسة، ففيه ترك أخذ خيار المال، والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا إن رضوا بذلك كما تقدم البحث فيه. قوله: "واتق دعوة المظلوم" أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم. وقال بعضهم: عطف واتق على عامل إياك المحذوف وجوبا، فالتقدير اتق نفسك أن تتعرض للكرائم. وأشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه عمم إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقا. قوله: "حجاب" أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيا كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا: "دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه" وإسناده حسن، وليس المراد أن لله تعالى حجابا يحجبه عن الناس. وقال الطيبي: قوله: "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله: "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء، كمن يقصد دار السلطان متظلما فلا يحجب، وسيأتي لهذا مزيد في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قال ابن العربي: إلا أنه وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى: {أم مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} بقوله تعالى : {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وفي الحديث أيضا الدعاء إلى التوحيد قبل القتال، وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وغيرها، وفيه بعث السعاة لأخذ الزكاة، وقبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وإيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون لعموم قوله: "من أغنيائهم" قاله عياض وفيه بحث، وأن الزكاة لا تدفع إلى الكافر لعود الضمير في فقرائهم إلى المسلمين سواء قلنا بخصوص البلد أو العموم، وأن الفقير لا زكاة عليه، وأن من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير، ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني والغني مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني، قال ابن دقيق العيد: وليس هذا البحث بالشديد القوة، وقد تقدم أنه قول الحنفية. وقال البغوي فيه أن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال وفيه نظر أيضا. "تكميل": لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر، وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان. وأجاب الكرماني

(3/360)


بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كررا في القرآن فمن ثم لم يذكر الصوم والحح في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإسلام، والسر في ذلك أن الصلاة والزكاة إذا وجبا على المكلف لا يسقطان عنه أصلا بخلاف الصوم فإنه قد يسقط بالفدية، والحج فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب، ويحتمل أنه حينئذ لم يكن شرع انتهى. وقال شيخنا شيخ الإسلام: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه بشيء كحديث ابن عمر "بني الإسلام على خمس" فإذا كان في الدعاء إلى الإسلام اكتفي بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحج كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} في موضعين من براءة مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعا، وحديث ابن عمر أيضا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" وغير ذلك من الأحاديث، قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة: اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة. اقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها لتفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض والحج بدني مالي، وأيضا فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار والصلوات شاقة لتكررها والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها. والله أعلم.

(3/361)


64 - باب صَلاَةِ الإِمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ، وَقَوْلِهِ [103 التوبة]
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
1497 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى"
[الحديث 1497
أطرافه في: 4166, 6323, 6359]
قوله: "باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} - إلى قوله - {سَكَنٌ لَهُمْ} قال الزين بن المنير: عطف الدعاء على الصلاة في الترجمة ليبين أن لفظ الصلاة ليس محتما بل غيره من الدعاء بنزل منزلته انتهى. ويؤيد عدم الانحصار في لفظ الصلاة ما أخرجه النسائي من حديث وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة " اللهم بارك فيه وفي إبله" . وأما استدلاله بالآية لذلك فكأنه فهم من سياق الحديث مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فحمله على امتثال الأمر في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} . وروى ابن أبي حاتم وغيره بإسناد صحيح عن السدي في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} قال: ادع لهم. وقال ابن المنير في الحاشية: عبر المصنف في الترجمة بالإمام ليبطل شبهة أهل الردة في قولهم للصديق: إنما قال الله لرسوله {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وهذا خاص بالرسول فأراد أن يبين أن كل إمام داخل في الخطاب. قوله: "عن عمرو" هو ابن مرة بن عبد الله بن طارق المرادي الكوفي تابعي صغير لم يسمع من الصحابة إلا من ابن أبي أوفى، قال شعبة: كان لا يدلس. قوله: "عن عبد الله" سيأتي في المغازي بلفظ: "سمعت ابن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة". قوله: "قال: اللهم صل على فلان" في رواية غير أبي ذر: على آل فلان. قوله: "على آل أبي أوفى" يريد أبا أوفى نفسه لأن الآل يطلق على ذات الشيء كقوله في قصة أبي موسى "لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود" وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق

(3/361)


الرجل الجليل القدر، واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة وعمر عبد الله إلى أن كان آخر من مات من الصحابة بالكوفة وذلك سنة سبع وثمانين، واستدل به على جواز الصلاة على غير الأنبياء وكرهه مالك والجمهور، قال ابن التين: وهذا الحديث يعكر عليه، وقد قال جماعة من العلماء: يدعو آخذ الصدقة للتصدق بهذا الدعاء لهذا الحديث، وأجاب الخطابي عنه قديما بأن أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعو له، فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة، وصلاة أمته عليه دعاء له بزيادة القربى والزلفى ولذلك كان لا يليق بغيره انتهى. واستدل به على استحباب دعاء آخذ الزكاة لمعطيها، وأوجبه بعض أهل الظاهر وحكاه الحناطي وجها لبعض الشافعية، وتعقب بأنه لو كان واجبا لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم السعاة، ولأن سائر ما يأخذه الإمام من الكفارات والديون وغيرهما لا يجب عليه فيها الدعاء فكذلك الزكاة، وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصا به لكون صلاته سكنا لهم بخلاف غيره.

(3/362)


65 - باب مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي الْمَاءِ
1498 - وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ"
الحديث 1498
أطرافه في: 2063, 2291, 2404, 2430, 2734, 6261]
قوله: "باب ما يستخرج من البحر" أي هل تجب فيه الزكاة أو لا؟ وإطلاق الاستخراج أعم من أن يكون بسهولة كما يوجد في الساحل، أو بصعوبة كما يوجد بعد الغوص ونحوه. قوله: "وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس العنبر بركاز، إنما هو شيء دسره البحر" اختلف في العنبر فقال الشافعي في كتاب السلم من الأم: أخبرني عدد ممن أثق بخبره أنه نبات يخلقه الله في جنبات البحر، قال: وقيل إنه يأكله حوت فيموت فيلقيه البحر فيؤخذ فيشق بطنه فيخرج منه. وحكى ابن رستم عن محمد بن الحسن أنه ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البر، وقيل هو شجر ينبت في البحر فيتكسر فيلقيه الموج إلى الساحل، وقيل يخرج من عين قاله ابن سينا، قال: وما يحكى من أنه روث دابة أو قيؤها أو من زبد البحر بعيد. وقال ابن البيطار في جامعه: هو روث دابة بحرية، وقيل هو شيء ينبت في قعر البحر، ثم حكي نحو ما تقدم عن الشافعي. وأما الركاز فبكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي سيأتي تحقيقه في الباب الذي بعده، ودسره أي دفعه ورمى به إلى الساحل، وهذا التعليق وصله الشافعي قال: "أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أذينة عن ابن عباس" فذكر مثله. وأخرجه البيهقي من طريقه ومن طريق يعقوب بن سفيان "حدثنا الحميدي وغيره عن ابن عيينة" وصرح فيه بسماع أذينة له من ابن عباس، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه

(3/362)


عن وكيع عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار مثله، وأذينة بمعجمة ونون مصغر تابعي ثقة. وقد جاء عن ابن عباس التوقف فيه فأخرج ابن أبي شيبة من طريق طاوس قال: "سئل ابن عباس عن العنبر فقال: إن كان فيه شيء ففيه الخمس" ويجمع بين القولين بأنه كان يشك فيه، ثم تبين له أن لا زكاة فيه فجزم بذلك. قوله: "وقال الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخمس" وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال" من طريقه بلفظ: "أنه كان يقول في العنبر الخمس، وكذلك اللؤلؤ". قوله: "فإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم إلخ" سيأتي موصولا في الذي بعده، وأراد بذلك الرد على ما قال الحسن، لأن الذي يستخرج من البحر لا يسمى في لغة العرب ركازا على ما سيأتي شرحه، قال ابن القصار: ومفهوم الحديث أن غير الركاز لا خمس فيه ولا سيما اللؤلؤ والعنبر لأنهما يتولدان من حيوان البحر فأشبها السمك. انتهى. قوله: "وقال الليث إلخ" هكذا أورده مختصرا، وقد أورده ثم وصله في البيوع، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. ووقع هنا في روايتنا من طريق أبي ذر معلقا، ووصله أبو ذر فقال: "حدثنا علي بن وصيف حدثنا محمد بن غسان حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث به" وقرأت بخط الحافظ أبي علي الصدفي هذا الحديث رواه عاصم بن علي عن الليث، فلعل البخاري إنما لم يسنده عنه لكونه ما سمعه منه، أو لأنه تفرد به فلم يوافقه عليه أحد انتهى. والأول بعيد، سلمنا، لكن لم ينفرد به عاصم فقد اعترف أبو علي بذلك فقال في آخر كلامه "رواه محمد بن رمح عن الليث". قلت: وكأنه لم يقف على الموضع الذي وصله فيه البخاري عن عبد الله بن صالح وبالله التوفيق. قال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث شيء يناسب الترجمة، رجل اقترض قرضا فارتجع قرضه، وكذا قال الداودي: حديث الخشبة ليس من هذا الباب في شيء، وأجاب أبو عبد الملك بأنه أشار به إلى أن كل ما ألقاه البحر جاز أخذه ولا خمس فيه. وقال ابن المنير موضع الاستشهاد منه أخذ الرجل الخشبة على أنها حطب، فإذا قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا فيستفاد منه إباحة ما يلفظه البحر من مثل ذلك مما نشأ في البحر أو عطب فانقطع ملك صاحبه، وكذلك ما لم يتقدم عليه ملك لأحد من باب الأولى، وكذلك ما يحتاج إلى معاناة وتعب في استخراجه أيضا، وقد فرق الأوزاعي بين ما يوجد في الساحل فيخمس أو في البحر بالغوص أو نحوه فلا شيء فيه، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب فيه شيء إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز كما أخرجه ابن أبي شيبة وكذا الزهري والحسن كما تقدم وهو قول أبي يوسف ورواية عن أحمد.

(3/363)


66 - باب فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ وَقَدْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ" وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً وَقَالَ الْحَسَنُ مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ قِيلَ لَهُ قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ أَرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ لاَ بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ فَلاَ يُؤَدِّيَ الْخُمُسَ

(3/363)


1499 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ"
قوله: "باب في الركاز الخمس" الركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي المال المدفون مأخوذ من الركز بفتح الراء يقال ركزه يركزه ركزا إذا دفنه فهو مركوز، وهذا متفق عليه، واختلف في المعدن كما سيأتي. قوله: "وقال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية إلخ" أما قول مالك فرواه أبو عبيد في "كتاب الأموال" حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير عن مالك قال: المعدن بمنزلة الزرع، تؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الزرع حتى يحصد، قال: وهذا ليس بركاز إنما الركاز دفن الجاهلية الذي يؤخذ من غير أن يطلب بمال ولا يتكلف له كثير عمل انتهى.وهكذا هو في سماعنا من "الموطأ" رواية يحيى بن بكير، لكن قال فيه: "عن مالك عن بعض أهل العلم" وأما قوله: "في قليله وكثيره الخمس" فنقله ابن المنذر عنه كذلك وفيه عند أصحابه عنه اختلاف، وقوله: "دفن الجاهلية" بكسر الدال وسكون الفاء الشيء المدفون كذبح بمعنى مذبوح، وأما بالفتح فهو المصدر ولا يراد هنا. وأما ابن إدريس فقال ابن التين قال أبو ذر: يقال أن ابن إدريس هو الشافعي، ويقال عبد الله بن إدريس الأودي الكوفي وهو أشبه، كذا قال، وقد جزم أبو زيد المروزي أحد الرواة عن الفربري بأنه الشافعي، وتابعه البيهقي وجمهور الأئمة، ويؤيده أن ذلك وجد في عبارة الشافعي دون الأودي، فروى البيهقي في "المعرفة" من طريق الربيع قال قال الشافعي: والركاز الذي فيه الخمس دفن الجاهلية ما وجد في غير ملك لأحد، وأما قوله: "في قليله وكثيره الخمس" فهو قوله في القديم كما نقله ابن المنذر واختاره، وأما الجديد فقال: لا يجب فيه الخمس حتى يبلغ نصاب الزكاة، والأول قول الجمهور كما نقله ابن المنذر أيضا وهو مقتضى ظاهر الحديث. قوله: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في المعدن جبار وفي الركاز الخمس" أي فغاير بينهما، وهذا وصله في آخر الباب من حديث أبي هريرة، ويأتي الكلام عليه. قوله: "وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مائتين خمسة" وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال" من طريق الثوري عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم نحوه، وروى البيهقي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن عمر بن عبد العزيز جعل المعدن بمنزلة الركاز يؤخذ منه الخمس، ثم عقب بكتاب آخر فجعل فيه الزكاة. قوله: "وقال الحسن: ما كان من ركاز في أرض الحرب ففيه الخمس، وما كان في أرض السلم ففيه الزكاة" وصله ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عنه بلفظ: "إذا وجد الكنز في أرض العدو ففيه الخمس، وإذا وجد في أرض العرب ففيه الزكاة" قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا فرق هذه التفرقة غير الحسن. قوله: "وإن وجدت اللقطة في أرض العدو فعرفها وإن كانت من العدو ففيها الخمس" لم أقف عليه موصولا وهو بمعنى ما تقدم عنه قوله: "وقال بعض الناس: المعدن ركاز إلخ" قال ابن التين: المراد ببعض الناس أبو حنيفة. قلت: وهذا أول موضع ذكره فيه البخاري بهذه الصيغة، ويحتمل أن يريد به أبا حنيفة وغيره من الكوفيين ممن قال بذلك، قال ابن بطال: ذهب أبو حنيفة والثوري وغيرهما إلى أن المعدن كالركاز، واحتج لهم بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازا، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن. والحجة للجمهور تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم بين المعدن والركاز بواو العطف

(3/364)


فصح أنه غيره، قال وما ألزم به البخاري القائل المذكور قد يقال لمن وهب له الشيء أو ربح ربحا كثيرا أو كثر ثمره: أركزت حجة بالغة، لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى، إلا إن أوجب ذلك من يجب التسليم له، وقد أجمعوا على أن المال الموهوب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز فكذلك المعدن. وأما قوله: "ثم ناقض" إلى آخر كلامه فليس كما قال، وإنما أجاز له أبو حنيفة أن يكتمه إذا كان محتاجا، بمعنى أنه يتأول أن له حقا في بيت المال ونصيبا في الفيء فأجاز له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضا عن ذلك لا أنه أسقط الخمس عن المعدن اهـ. وقد نقل الطحاوي المسألة التي ذكرها ابن بطال ونقل أيضا أنه لو وجد في داره معدنا فليس عليه شيء، وبهذا يتجه اعتراض البخاري. والفرق بين المعدن والركاز في الوجوب وعدمه أن المعدن يحتاج إلى عمل ومئونة ومعالجة لاستخراجه بخلاف الركاز، وقد جرت عادة الشرع أن ما غلظت مؤونته خفف عنه في قدر الزكاة وما خفت زيد فيه. وقيل إنما جعل في الركاز الخمس لأنه مال كافر فنزل من وجده منزلة الغنائم فكان له أربعة أخماسه. وقال الزين بن المنير: كأن الركاز مأخوذ من أركزته في الأرض إذا غرزته فيها، وأما المعدن فإنه ينبت في الأرض بغير وضع واضع. هذه حقيقتهما، فإذا افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما. قوله: "العجماء جبار" في رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة "العجماء عقلها جبار" وسيأتي في الديات مع الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وسميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم. قوله: "والمعدن جبار" أي هدر، وليس المراد أنه لا زكاة فيه، إنما المعنى أن من استأجر رجلا للعمل في معدن مثلا فهلك فهو هدر ولا شيء على من استأجره، وسيأتي بسطه في الديات. قوله: "وفي الركاز الخمس" قد تقدم ذكر الاختلاف في الركاز، وأن الجمهور ذهبوا إلى أنه المال المدفون، لكن حصره الشافعية فيما يوجد في الموات، بخلاف ما إذا وجده في طريق مسلوك أو مسجد فهو لقطة، وإذا وجده في أرض مملوكة فإن كان المالك الذي وجده فهو له، وإن كان غيره فإن ادعاه المالك فهو له وإلا فهو لمن تلقاه عنه إلى أن ينتهي الحال إلى من أحيا تلك الأرض، قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد: من قال من الفقهاء بأن في الركاز الخمس إما مطلقا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث، وخصه الشافعي أيضا بالذهب والفضة. وقال الجمهور: لا يختص، واختاره ابن المنذر. واختلفوا في مصرفه فقال مالك وأبو حنيفة والجمهور: مصرفه مصرف خمس الفيء، وهو اختيار المزني. وقال الشافعي في أصح قوليه: مصرفه مصرف الزكاة. وعن أحمد روايتان. وينبني على ذلك ما إذا وجده ذمي فعند الجمهور يخرج منه الخمس وعند الشافعي لا يؤخذ منه شيء، واتفقوا على أنه لا يشترط فيه الحول بل يجب إخراج الخمس في الحال. وأغرب ابن العربي في "شرح الترمذي" فحكى عن الشافعي الاشتراط، ولا يعرف ذلك في شيء من كتبه ولا من كتب أصحابه.

(3/365)


باب قوله تعالى: {والعاملين عليها} ومحاسبة المصدقين مع الإمام
...
67 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[60 التوبة] {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقِينَ مَعَ الإِمَامِ
1500 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنْ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ"
قوله: "باب قول الله تعالى {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ومحاسبة المصدقين مع الإمام" قال ابن بطال: اتفق العلماء على

(3/365)


أن العاملين عليها السعاة المتولون لقبض الصدقة. وقال المهلب: حديث الباب أصل في محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحيح أمانته. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون العامل المذكور صرف شيئا من الزكاة في مصارفه فحوسب على الحاصل والمصروف. قلت: والذي يظهر من مجموع الطرق أن سبب مطالبته بالمحاسبة ما وجد معه من جنس مال الصدقة وادعى أنه أهدي إليه. حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية وفيه: "فلما جاء حاسبه" سيأتي الكلام عليه حيث ذكره المصنف مستوفى في الأحكام إن شاء الله تعالى. وابن اللتبية المذكور اسمه عبد الله فيما ذكر ابن سعد وغيره، ولم أعرف اسم أمه. وقوله: "على صدقات بني سليم" أفاد العسكري بأنه بعث على صدقات بني ذبيان، فلعله كان على القبيلتين. واللتبية بضم اللام وسكون المثناة بعدها موحدة من بني لتب حي من الأزد قاله ابن دريد، قيل إنها كانت أمه فعرف بها، وقيل اللتبية بفتح اللام والمثناة.

(3/366)


68 - باب اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ
1501 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَعَضُّونَ الْحِجَارَةَ" . تَابَعَهُ أَبُو قِلاَبَةَ وَحُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ
قوله: "باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل" قال ابن بطال: غرض المصنف في هذا الباب إثبات وضع الصدقة في صنف واحد خلافا لمن قال يجب استيعاب الأصناف الثمانية، وفيما قال نظر لاحتمال أن يكون ما أباح لهم من الانتفاع إلا بما هو قدر حصتهم. على أنه ليس في الخبر أيضا أنه ملكهم رقابها، وإنما فيه أنه أباح لهم شرب ألبان الإبل للتداوي، فاستنبط منه البخاري جواز استعمالها في بقية المنافع إذ لا فرق، وأما تمليك رقابها فلم يقع، وتقدير الترجمة استعمال إبل الصدقة وشرب ألبانها، فاكتفى عن التصريح بالشرب لوضوحه، فغاية ما يفهم من حديث الباب أن للإمام أن يخص بمنفعة مال الزكاة - دون الرقبة - صنفا دون صنف بحسب الاحتياج، على أنه ليس في الخبر أيضا تصريح بأنه لم يصرف من ذلك شيئا لغير العرنيين، فليست الدلالة منه لذلك بظاهرة أصلا بخلاف ما ادعى ابن بطال أنه حجة قاطعة. قوله: "تابعه أبو قلابة وحميد وثابت عن أنس" أما متابعة أبي قلابة فتقدمت في الطهارة، وأما متابعة حميد فوصلها مسلم والنسائي وابن خزيمة، وأما متابعة ثابت فوصلها المصنف في الطب. وقد سبق الكلام على الحديث مستوفى في كتاب الطهارة.

(3/366)


69 - باب وَسْمِ الإِمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ
1502 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ"
[الحديث 1502
طرفاه في: 5542, 5824]

(3/366)


70 - باب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً
1503 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ"
[الحديث 1503
أطرافه في: 1504, 1507, 1509, 1511, 1512]
قوله: "باب فرض صدقة الفطر" كذا للمستملي، واقتصر الباقون على "باب" وما بعده، ولأبي نعيم "كتاب" بدل باب، وأضيفت الصدقة للفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان. وقال ابن قتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس، مأخوذة من الفطرة التي هي أصل الخلقة. والأول أظهر. ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث كما سيأتي "زكاة الفطر من رمضان". قوله: "ورأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضة" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، ووصله ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عن الآخرين. وإنما اقتصر البخاري على ذكر هؤلاء الثلاثة لكونهم صرحوا بفرضيتها، وإلا فقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، لكن الحنفية

(3/367)


يقولون بالوجوب دون الفرض على قاعدتهم في التفرقة. وفي نقل الإجماع مع ذلك نظر لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الأصم قالا إن وجوبها نسخ، واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله" وتعقب بأن في إسناده راويا مجهولا، وعلى تقدير الصحة فلا دليل فيه على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر. ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة، وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية، وأولوا قوله: "فرض" في الحديث بمعنى قدر، قال ابن دقيق العيد: هو أصله في اللغة، لكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب فالحمل عليه أولى انتهى. ويؤيده تسميتها زكاة، وقوله في الحديث: "على كل حر وعبد" والتصريح بالأمر بها في حديث قيس بن سعد وغيره، ولدخولها في عموم قوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فبين صلى الله عليه وسلم تفاصيل ذلك ومن جملتها زكاة الفطر. وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وثبت أنها نزلت في زكاة الفطر، وثبت في الصحيحين إثبات حقيقة الفلاح لمن اقتصر على الواجبات، قيل وفيه نظر لأن في الآية {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} فيلزم وجوب صلاة العيد، ويجاب بأنه خرج بدليل عموم "هن خمس لا يبدل القول لدي". قوله: "حدثنا محمد بن جهضم" بالجيم والضاد المعجمة وزن جعفر، وعمر بن نافع هو مولى ابن عمر ثقة ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في النهي عن القزع. قوله: "زكاة الفطر" زاد مسلم من رواية مالك عن نافع "من رمضان" واستدل به على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر لأنه وقت الفطر من رمضان، وقيل وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد لأن الليل ليس محلا للصوم، وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر، والأول قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك، والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك، ويقويه قوله في حديث الباب: "وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" قال المازري: قيل إن الخلاف ينبني على أن قوله: "الفطر من رمضان" الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون الوجوب بالغروب، أو الفطر الطارئ بعد فيكون بطلوع الفجر. وقال ابن دقيق العيد الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف لأن الإضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان، وأما وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر، وسيأتي شيء من ذلك في "باب الصدقة قبل العيد". قوله: "صاعا من تمر أو صاعا من شعير" انتصب "صاعا" على التمييز أو أنه مفعول ثان، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذين الشيئين إلا ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافع فزاد فيه السلت والزبيب، فأما السلت فهو بضم المهملة وسكون اللام بعدها مثناة: نوع من الشعير، وأما الزبيب فسيأتي ذكره في حديث أبي سعيد، وأما حديث ابن عمر فقد حكم مسلم في كتاب التمييز على عبد العزيز فيه بالوهم، وسنذكر البحث في ذلك في الكلام على حديث أبي سعيد. قوله: "على العبد والحر" ظاهره إخراج العبد عن نفسه ولم يقل به إلا داود فقال: يجب على السيد أن يمكن العبد من الاكتساب لها كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعا: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" أخرجه مسلم. وفي رواية له " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة الفطر في الرقيق" وقد تقدم من عند البخاري قريبا بغير الاستثناء، ومقتضاه أنها على السيد، وهل تجب عليه ابتداء

(3/368)


أو تجب على العبد ثم يتحملها السيد؟ وجهان للشافعية، وإلى الثاني نحا البخاري كما سيأتي في الترجمة التي تلي هذه. قوله: "والذكر والأنثى" ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا وبه قال الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر. وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق تجب على زوجها إلحاقا بالنفقة، وفيه نظر لأنهم قالوا إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد بخلاف النفقة فافترقا، واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزمه، وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن علي الباقر مرسلا نحو حديث ابن عمر وزاد فيه: "ممن تمونون" وأخرجه البيهقي من هذا الوجه فزاد في إسناده ذكر علي وهو منقطع أيضا. وأخرجه من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف أيضا. قوله: "والصغير والكبير" ظاهره وجوبها على الصغير، لكن المخاطب عنه وليه فوجوبها على هذا في مال الصغير وإلا فعلى من تلزمه نفقته وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقا فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه، وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري لا تجب إلا على من صام، واستدل لهما بحديث ابن عباس مرفوعا: "صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث" أخرجه أبو داود. وأجيب بأن ذكر التطهير خرج على الغالب كما أنها تجب على من لم يذنب كمتحقق الصلاح أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب على الجنين قال: وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه، ونقل بعض الحنابلة رواية عنه بالإيجاب، وبه قال ابن حزم لكن قيده بمائة وعشرين يوما من يوم حمل أمه به، وتعقب بأن الحمل غير محقق وبأنه لا يسمى صغيرا لغة ولا عرفا، واستدل بقوله في حديث ابن عباس "طهرة للصائم" على أنها تجب على الفقير كما تجب على الغني، وقد ورد ذلك صريحا في حديث أبي هريرة عند أحمد وفي حديث ثعلبة بن أبي صعير عند الدارقطني، وعن الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصابا، ومقتضاه أنها لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغني والفقير واستدل لهم بحديث أبي هريرة المتقدم "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" واشترط الشافعي ومن تبعه أن يكون ذلك فاضلا عن قوت يومه ومن تلزمه نفقته. وقال ابن بزيزة: لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها لأنها زكاة بدنية لا مالية. قوله: "من المسلمين" فيه رد على من زعم أن مالكا تفرد بها، وسيأتي بسط ذلك في الأبواب التي بعده. قوله: "وأمر بها إلخ" استدل بها على كراهة تأخيرها عن ذلك، وحمله ابن حزم على التحريم، وسيأتي البحث في ذلك بعد أبواب.

(3/369)


71 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
1504 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين"
قوله: "باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين" ظاهره أنه يرى أنها تجب على العبد وإن كان سيده يتحملها عنه، ويؤيده عطف الصغير عليه فإنها تجب علبه وإن كان الذي يخرجها غيره. قوله: "من المسلمين" قال ابن عبد البر: لم تختلف الرواة عن مالك في هذه الزيادة، إلا أن قتيبة بن سعيد رواه عن مالك بدونها، وأطلق أبو قلابة الرقاشي ومحمد بن وضاح وابن الصلاح ومن تبعه أن مالكا تفرد بها دون أصحاب نافع، وهو متعقب برواية عمر بن نافع

(3/369)


المذكورة في الباب الذي قبله، وكذا أخرجه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع بهذه الزيادة. وقال أبو عوانة في صحيحه: لم يقل فيه: "من المسلمين" غير مالك والضحاك ورواية عمر بن نافع ترد عليه أيضا. وقال أبو داود بعد أن أخرجه من طريق مالك وعمر بن نافع: رواه عبد الله العمري عن نافع فقال: "على كل مسلم" ورواه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع فقال فيه: "من المسلمين"، والمشهور عن عبيد الله ليس فيه: "من المسلمين" انتهى. وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق سعيد بن عبد الرحمن المذكورة. وأخرج الدارقطني وابن الجارود طريق عبد الله العمري؛ وقال الترمذي في "الجامع" بعد رواية مالك: رواه غير واحد عن نافع ولم يذكر فيه من المسلمين. وقال في "العلل" التي في آخر الجامع: روى أيوب وعبيد الله بن عمر وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع ولم يذكر فيه من المسلمين، وروى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه انتهى. وهذه العبارة أولى من عبارته الأولى، ولكن لا يدري من عنى بذلك. وقال النووي في شرح مسلم: رواه ثقتان غير مالك عمر بن نافع والضحاك انتهى. وقد وقع لنا من رواية جماعة غيرهما منهم كثير بن فرقد عند الطحاوي والدارقطني والحاكم ويونس بن يزيد عند الطحاوي والمعلى بن إسماعيل عند ابن حبان في صحيحه وابن أبي ليلى عند الدارقطني أخرجه من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي ليلى وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع، وهذه الطريق ترد على أبي داود في إشارته إلى أن سعيد بن عبد الرحمن تفرد بها عن عبيد الله بن عمر، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته حمل لفظ ابن أبي ليلى على لفظ عبيد الله، وقد اختلف فيه على أيوب أيضا كما اختلف على عبيد الله بن عمر: فذكر ابن عبد البر أن أحمد بن خالد ذكر عن بعض شيوخه عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب فذكر فيه: "من المسلمين" قال ابن عبد البر: وهو خطأ والمحفوظ فيه عن أيوب ليس فيه من المسلمين انتهى. وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عبد الله بن شوذب عن أيوب وقال فيه أيضا: "من المسلمين". وذكر شيخنا سراج الدين بن الملقن في شرحه تبعا لمغلطاي أن البيهقي أخرجه من طريق أيوب بن موسى وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد ثلاثتهم عن نافع وفيه الزيادة، وقد تتبعت تصانيف البيهقي فلم أجد فيها هذه الزيادة من رواية أحد من هؤلاء الثلاثة. وفي الجملة ليس فيمن روى هذه الزيادة أحد مثل مالك، لأنه لم يتفق على أيوب وعبيد الله في زيادتها، وليس في الباقين مثل يونس، لكن في الراوي عنه وهو يحيى بن أيوب مقال. واستدل بهذه الزيادة على اشتراط الإسلام في وجوب زكاة الفطر ومقتضاه أنها لا تجب على الكافر عن نفسه وهو أمر متفق عليه، وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة مثلا؟ نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجه للشافعية ورواية عن أحمد. وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ قال الجمهور: لا، خلافا لعطاء والنخعي والثوري والحنفية وإسحاق، واستدلوا بعموم قوله: "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر" وقد تقدم. وأجاب الآخرون بأن الخاص يقضي على العام، فعموم قوله: "في عبده" مخصوص بقوله: "من المسلمين" وقال الطحاوي قوله من المسلمين صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم، وظاهر الحديث يأباه لأن فيه العبد وكذا الصغير في رواية عمر بن نافع وهما ممن يخرج عنه، فدل على أن صفة الإسلام لا تختص بالمخرجين، ويؤيده رواية الضحاك عند مسلم بلفظ: "على كل نفس من المسلمين حر أو عبد" الحديث وقال القرطبي: ظاهر الحديث أنه قصد بيان مقدار الصدقة ومن تجب عليه ولم يقصد فيه بيان من يخرجها

(3/370)


عن نفسه ممن يخرجها عن غيره بل شمل الجميع. ويؤيده حديث أبي سعيد الآتي فإنه دال على أنهم كانوا يخرجون عن أنفسهم وعن غيرهم لقوله فيه: "عن كل صغير وكبير" لكن لا بد من أن يكون بين المخرج وبين الغير ملابسة كما بين الصغير ووليه والعبد وسيده والمرأة وزوجها. وقال الطيبي: قوله من المسلمين حال من العبد وما عطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة أنها جاءت مزدوجة على التضاد للاستيعاب لا للتخصيص، فيكون المعنى فرض على جميع الناس من المسلمين، وأما كونها فيم وجبت وعلى من وجبت؟ فيعلم من نصوص أخرى انتهى. ونقل ابن المنذر أن بعضهم احتج بما أخرجه من حديث ابن إسحاق "حدثني نافع أن ابن عمر كان يخرج عن أهل بيته حرهم وعبدهم صغيرهم وكبيرهم مسلمهم وكافرهم من الرقيق" قال: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث. وتعقب بأنه لو صح حمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعا ولا مانع منه واستدل بعموم قوله من المسلمين على تناولها لأهل البادية خلافا للزهري وربيعة والليث في قولهم إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة، وسنذكر بقية ما يتعلق بزكاة الفطر عن العبيد في أواخر أبواب صدقة الفطر إن شاء الله تعالى.

(3/371)


باب صاع من شعير
...
72 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ
1505 - حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد رضي الله عنه قال "كنا نطعم الصدقة صاعا من شعير"
[الحديث 1505
أطرافه في: 1506, 1508, 1510]
قوله: "باب صدقة الفطر صاع من شعير" أورد فيه حديث أبي سعيد مختصرا من رواية سفيان وهو الثوري، وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عنه تاما، وقد أخرجه ابن خزيمة عن الزعفراني عن قبيصة شيخ البخاري فيه تاما وقوله فيه: "كنا نطعم الصدقة" اللام للعهد عن صدقة الفطر.

(3/371)


باب صدقة الفطر صاعا من طعام
...
73 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ
1506 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ"
قوله: "باب صدقة الفطر صاع من طعام" في رواية غير أبي ذر "صاعا" بالنصب، ووجه الرفع ظاهر على أنه الخبر، وأما النصب فبتقدير فعل الإخراج، أي باب إخراج صدقة الفطر صاعا من طعام، أو على أنه خبر كان الذي حذف أو ذكر على سبيل الحكاية مما في لفظ الحديث. قوله: "صاعا من طعام أو صاعا من شعير" ظاهره أن الطعام غير الشعير وما ذكر معه، وسيأتي البحث فيه بعد باب.

(3/371)


74 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ
1507 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ

(3/371)


75 - باب صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ
1508 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَكِيمٍ الْعَدَنِيَّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ حَدَّثَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ قَالَ أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ"
قوله: "باب صاع من زبيب" أي إجزائه، وكأن البخاري أراد بتفريق هذه التراجم الإشارة إلى ترجيح التخيير في هذه الأنواع، إلا أنه لم يذكر الأقط وهو ثابت في حديث أبي سعيد، وكأنه لا يراه مجزئا في حال وجدان غيره كقول أحمد، وحملوا الحديث على أن من كان يخرجه كان قوته إذ ذاك أو لم يقدر على غيره، وظاهر الحديث يخالفه، وعند الشافعية فيه خلاف، وزعم الماوردي أنه يختص بأهل البادية وأما الحاضرة فلا يجزئ عنهم

(3/372)


بلا خلاف، وتعقبه النووي في "شرح المهذب" وقال: قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن أبي سعيد" تقدم في رواية مالك بلفظ: "أنه سمع أبا سعيد". قوله: "كنا نعطيها" أي زكاة الفطر. قوله: "في زمان النبي صلى الله عليه وسلم" هذا حكمه الرفع لإضافته إلى زمنه صلى الله عليه وسلم ففيه إشعار باطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره له ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره وهو الآمر بقبضها وتفرقتها. قوله: "صاعا من طعام أو صاعا من تمر" هذا يقتضي المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده، وقد حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة وأنه اسم خاص به قال: ويدل على ذلك ذكر الشعير وغيره من الأقوات والحنطة أعلاها فلولا أنه أرادها بذلك لكان ذكرها عند التفصيل كغيرها من الأقوات ولا سيما حيث عطفت عليها بحرف "أو" الفاصلة. وقال هو وغيره: وقد كانت لفظة "الطعام" تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح، وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه، لأن ما غلب استعمال اللفظ فيه كان خطوره عند الإطلاق أقرب انتهى. وقد رد ذلك ابن المنذر وقال: ظن بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد "صاعا من طعام" حجة لمن قال صاعا من حنطة، وهذا غلط منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره، ثم أورد طريق حفص بن ميسرة المذكورة في الباب الذي يلي هذا وهي ظاهرة فيما قال ولفظه: "كنا نخرج صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر" وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى عن عياض وقال فيه: "ولا يخرج غيره" قال وفي قوله: "فلما جاء معاوية وجاءت السمراء" دليل على أنها لم تكن قوتا لهم قبل هذا، فدل على أنها لم تكن كثيرة ولا قوتا فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجودا؟ انتهى كلامه. وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم عن عياض بن عبد الله قال: قال أبو سعيد وذكروا عنده صدقة رمضان فقال: "لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط، فقال له رجل من القوم: أو مدين من قمح، فقال: لا تلك قيمة معاوية مطوية لا أقبلها ولا أعمل بها" قال ابن خزيمة ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم، وقوله: "فقال رجل إلخ" دال على أن ذكر الحنطة في أول القصة خطأ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم كانوا يخرجون منها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا لما كان الرجل يقول له: أو مدين من قمح، وقد أشار أبو داود إلى رواية ابن إسحاق هذه وقال: إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ، وذكر أن معاوية بن هشام روى في هذا الحديث عن سفيان "نصف صاع من بر" وهو وهم وإن ابن عيينة حدث به عن ابن عجلان عن عياض فزاد فيه: "أو صاعا من دقيق" وأنهم أنكروا عليه فتركه، قال أبو داود: وذكر الدقيق وهم من ابن عيينة. وأخرج ابن خزيمة أيضا من طريق فضيل ابن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال: "لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن الحنطة" ولمسلم من وجه آخر عن عياض عن أبي سعيد "كنا نخرج من ثلاثة أصناف: صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير" وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة. وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذرة فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن وهي قوت غالب لهم. وقد روى الجوزقي من طريق ابن عجلان عن عياض في حديث أبي سعيد "صاعا من تمر، صاعا من سلت أو ذرة" وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله: "صاعا من شعير إلخ" بعد قوله

(3/373)


"صاعا من طعام" من باب عطف الخاص على العام، لكن محل العطف أن يكون الخاص أشرف، وليس الأمر هنا كذلك. وقال ابن المنذر أيضا: لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم. ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح انتهى. وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية، لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي. وكأن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان، فلا فرق بين الحنطة وغيرها. هذه حجة الشافعي ومن تبعه، وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير فقد فعل ذلك بالاجتهاد بناء منه على أن قيم ما عدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن، لكن يلزم على قولهم أن تعتبر القيمة في كل زمان فيختلف الحال ولا ينضبط، وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من حنطة، ويدل على أنهم لحظوا ذلك ما روى جعفر الفريابي في "كتاب صدقة الفطر" أن ابن عباس لما كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر وبين لهم أنها صاع من تمر، إلى أن قال: أو نصف صاع من بر. قال: فلما جاء علي ورأى رخص أسعارهم قال: اجعلوها صاعا من كل، فدل على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبو سعيد إلى الكيل كما سيأتي. ومن عجيب تأويله قوله: أن أبا سعيد ما كان يعرف القمح في الفطرة، وإن الخبر الذي جاء فيه أنه كان يخرج صاعا أنه كان يخرج النصف الثاني تطوعا، وأن قوله في حديث ابن عمر "فجعل الناس عدله مدين من حنطة" أن المراد بالناس الصحابة، فيكون إجماعا. وكذا قوله في حديث سعيد عند أبي داود "فأخذ الناس بذلك" وأما قول الطحاوي: إن أبا سعيد كان يخرج النصف الآخر تطوعا فلا يخفى تكلفه. والله أعلم. قوله: "فلما جاء معاوية" زاد مسلم في روايته: "فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر" وزاد ابن خزيمة: "وهو يومئذ خليفة". قوله: "وجاءت السمراء" أي القمح الشامي. قوله: "يعدل مدين" في رواية مسلم: "أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر" وزاد: "قال أبو سعيد: أما أنا لا أزال أخرجه أبدا ما عشت" وله من طريق ابن عجلان عن عياض "فأنكر ذلك أبو سعيد وقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولأبي داود من هذا الوجه "لا أخرج أبدا إلا صاعا" وللدارقطني وابن خزيمة والحاكم "فقال له رجل مدين من قمح، فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها" وقد تقدم ذكر هذه الرواية وما فيها. ولابن خزيمة: "وكان ذلك أول ما ذكر الناس المدين" وهذا يدل على وهن ما تقدم عن عمر وعثمان إلا أن يحمل على أنه كان لم يطلع على ذلك من قصتهما، قال النووي: تمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة، وفيه نظر، لأنه فعل صحابي قد خالفه فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الاتباع والتمسك بالآثار وترك للعدول إلى الاجتهاد مع وجود النص، وفي صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الاجتهاد وهو محمود. لكنه مع وجود النص فاسد الاعتبار.

(3/374)


باب الصدقة فبل العيد
...
76 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ
1509 - حدثنا آدم حدثنا حفص بن ميسرة حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة"
1510 - حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا أبو عمر عن زيد عن عياض بن عبد الله بن سعد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال "كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام وقال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر"
قوله: "باب الصدقة قبل العيد" قال ابن التين: أي قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، وبعد صلاة الفجر. وقال ابن عيينة في تفسيره: عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته، فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} . ولابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده1 " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: نزلت في زكاة الفطر" ثم أخرج المصنف في الباب حديث ابن عمر، وقد تقدم مطولا في الباب الأول. وحديث أبي سعيد وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله. وقوله في الإسناد "حدثنا أبو عمر" هو حفص بن ميسرة، وزيد هو ابن أسلم. ودل حديث ابن عمر على أن المراد بقوله: "يوم الفطر" أي أوله، وهو ما بين صلاة الصبح إلى صلاة العيد. وحمل الشافعي التقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار، وقد رواه أبو معشر عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نصلي، فإذا انصرف قسمه بينهم وقال: أغنوهم عن الطلب " أخرجه سعيد بن منصور، ولكن أبو معشر ضعيف. ووهم ابن العربي في عزو هذه الزيادة لمسلم، وسيأتي بقية حكم هذه المسألة في الباب الذي يليه.
ـــــــ
1 هذا الحديث ضعيف الإسناد, لأن كثيرا ضعيف جدا عند أهل الحديث

(3/375)


باب صدقة الفطر عن الحر والمملوك
...
77 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الْمَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ يُزَكَّى فِي التِّجَارَةِ وَيُزَكَّى فِي الْفِطْرِ
1511 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "فَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَوْ قَالَ رَمَضَانَ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ" فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُعْطِي التَّمْرَ فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ التَّمْرِ فَأَعْطَى شَعِيرًا فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ حَتَّى إِنْ كَانَ لِيُعْطِي عَنْ بَنِيَّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ"
قوله: "باب صدقة الفطر على الحر والمملوك" قيل: هذه الترجمة تكرار لما تقدم من قوله: "باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين" وأجاب ابن رشيد باحتمالين: أحدهما أن يكون أراد تقوية معارضة العموم في قوله

(3/375)


"والمملوك" لمفهوم قوله: "من المسلمين" أو أراد أن زكاة العبد من حيث هو مال لا من حيث هو نفس، وعلى كل تقدير فيستوي في ذلك مسلمهم وكافرهم. وقال الزين بن المنير: غرضه من الأولى أن الصدقة لا تخرج عن كافر، ولهذا قيدها بقوله: "من المسلمين"، وغرضه من هذه تمييز من تجب عليه أو عنه بعد وجود الشرط المذكور ولذلك استغنى عن ذكره فيها.قوله: "وقال الزهري إلخ" وصله ابن المنذر في كتابه الكبير ولم أقف على إسناده، وذكر بعضه أبو عبيد في "كتاب الأموال" قال: "حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: ليس على المملوك زكاة ولا يزكي عنه سيده إلا زكاة الفطر" وما نقله المصنف عن الزهري هو قول الجمهور. وقال النخعي والثوري والحنفية: لا يلزم السيد زكاة الفطر عن عبيد التجارة لأن عليه فيهم الزكاة، ولا تجب في مال واحد زكاتان. قوله: "فكان ابن عمر يعطي التمر" في رواية مالك في الموطأ عن نافع "كان ابن عمر لا يخرج إلا التمر في زكاة الفطر، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا" ولابن خزيمة من طريق عبد الوارث عن أيوب "كان ابن عمر إذا أعطى أعطى التمر إلا عاما واحدا". قوله: "فأعوز" بالمهملة والزاي أي احتاج، يقال أعوزني الشيء إذا احتجت إليه فلم أقدر عليه. وفيه دلالة على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر، وقد روى جعفر الفريابي من طريق أبي مجلز قال: "قلت لابن عمر: قد أوسع الله، والبر أفضل من التمر؛ أفلا تعطي البر؟ قال: لا أعطي إلا كما كان يعطي أصحابي" ويستنبط من ذلك أنهم كانوا يخرجون من أعلى الأصناف التي يقتات بها لأن التمر أعلى من غيره مما ذكر في حديث أبي سعيد وإن كان ابن عمر فهم منه خصوصية التمر بذلك والله أعلم. قوله: "حتى إن كان يعطي عن بني" زاد في نسخة الصغاني "قال أبو عبد الله: يعني بني نافع". قال الكرماني: روي بفتح أن وكسرها، وشرط المفتوحة قد وشرط المكسورة اللام فإما أن يحمل على الحذف أو تكون أن مصدرية وكان زائدة. وقول نافع هذا هو شاهد الترجمة، ووجه الدلالة منه أن ابن عمر راوي الحديث فهو أعلم بالمراد منه من غيره، وأولاد نافع إن كان رزقهم وهو بعد في الرق إشكال، وإن كان رزقهم بعد أن أعتق فلعل ذلك كان من ابن عمر على سبيل التبرع، أو كان يرى وجوبها على جميع من يمونه ولو لم تكن نفقته واجبة عليه. وقد روى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن نافع "أن ابن عمر كان يؤدي زكاة الفطر عن كل مملوك له في أرضه وغير أرضه، وعن كل إنسان يعوله من صغير وكبير، وعن رقيق امرأته، وكان له مكاتب فكان لا يؤدي عنه" وروى ابن المنذر من طريق ابن إسحاق قال: "حدثني نافع أن ابن عمر كان يخرج صدقة الفطر عن أهل بيته كلهم حرهم وعبدهم صغيرهم وكبيرهم مسلمهم وكافرهم من الرقيق" وهذا يقوي بحث ابن رشيد المتقدم، وقد حمله ابن المنذر على أنه كان يعطي عن الكافر منهم تطوعا. قوله: "وكان ابن عمر يعطيها للذين يقبلونها" أي الذي ينصبه الإمام لقبضها، به جزم ابن بطال. وقال ابن التيمي: معناه من قال أنا فقير. والأول أظهر. ويؤيده ما وقع في نسخة الصغاني عقب الحديث: "قال أبو عبد الله هو المصنف: كانوا يعطون للجمع لا للفقراء". وقد وقع في رواية ابن خزيمة من طريق عبد الوارث عن أيوب "قلت متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل. قلت متى يقعد العامل؟ قال قبل الفطر بيوم أو يومين". ولمالك في "الموطأ" عن نافع "أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة" وأخرجه الشافعي عنه وقال: هذا حسن، وأنا أستحبه -يعني تعجيلها قبل يوم الفطر- انتهى. ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة قال: "وكلني رسول الله

(3/376)


صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان" الحديث. وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر، فدل على أنهم كانوا يعجلونها. وعكسه الجوزقي فاستدل به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر وهو محتمل للأمرين.

(3/377)


78 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
1512 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن بن عمر رضي الله عنه قال " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر على الصغير والكبير والحر والمملوك"
قوله: "باب صدقة الفطر على الصغير والكبير" أورد فيه حديث ابن عمر من طريق يحيى وهو القطان عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري عن نافع عنه، وقد تقدم الكلام عليه.
" خاتمة ": اشتمل كتاب الزكاة من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث واثنين وسبعين حديثا، الموصول منها مائة حديث وتسعة عشر حديثا، والبقية متابعة ومعلقة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة حديث سواء، والخالص اثنان وسبعون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى سبعة عشر حديثا وهي حديث أبي ذر مع عثمان ومعاوية، وحديث ابن عمر في ذم الذي يكنز، وحديث أبي هريرة "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال"، وحديث عدي بن حاتم "جاء رجلان أحدهما يشكو العيلة"، وحديث عائشة "أينا أسرع لحوقا بك"، وحديث معن بن يزيد في الصدقة على الولد، وحديث أبي بكر الصديق في إيثاره بماله، وحديث أبي هريرة "خير الصدقة عن ظهر غنى"، وحديث أنس عن أبي بكر في الزكاة، وحديث ابن عمر "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع"، وحديث أبي سعيد في قصة زينب امرأة ابن مسعود، وحديث أبي لاس في ركوب إبل الصدقة، وحديث الزبير "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب"، وحديث سهل بن سعد "أحد جبل يحبنا ونحبه"، وحديث ابن عمر "فيما سقت السماء العشر"، وحديث الفضل بن عباس في الصلاة في الكعبة، وحديث أبي هريرة في قصة الرجل من بني إسرائيل. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرون أثرا منها أثر عمر في قوله لحكيم بن حزام لما أبى أن يأخذ حقه من الفيء. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(3/377)


كتاب الحج
باب وجوب الحج وفضله
...
بسم الله الرحمن الرحيم
25 - كتاب الحج
1 - باب وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ [97 آل عمران]
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}
1513 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن بن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال "كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع"
[الحديث 1513
أطرافه في: 1854, 1855, 4399, 6228]
قوله: "باب وجوب الحج وفضله، وقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} كذا لأبي ذر، وسقط لغيره البسملة وباب، ولبعضهم قوله: "وقول الله". وفي رواية الأصيلي: "كتاب المناسك". وقدم المصنف الحج على الصيام لمناسبة لطيفة تقدم ذكرها في المقدمة. ورتبه على مقاصد متناسبة: فبدأ بما يتعلق بالمواقيت، ثم بدخول مكة وما معها ثم بصفة الحج، ثم بأحكام العمرة، ثم بمحرمات الإحرام، ثم بفضل المدينة. ومناسبة هذا الترتيب غير خفية على الفطن. وأصل الحج في اللغة القصد. وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظم. وفي الشرع القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة. وهو بفتح المهملة وبكسرها لغتان، نقل الطبري أن الكسر لغة أهل نجد والفتح لغيرهم، ونقل عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم والكسر المصدر، وعن غيره عكسه. ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة. وأجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر. واختلف هل هو على الفور أو التراخي؟ وهو مشهور. وفي وقت ابتداء فرضه فقيل: قبل الهجرة وهو شاذ، وقيل بعدها. ثم اختلف في سنته فالجمهور على أنها سنة ست لأنها نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: "وأقيموا" أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم، وقيل المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج، وكان قدومه على ما ذكر الواقدي سنة خمس، وهذا يدل -إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها، وسيأتي مزيد بسط في الكلام على هذه المسألة في أول الكلام على العمرة. وأما فضله فمشهور ولا سيما في الوعيد على تركه في الآية، وسيأتي في باب مفرد. ولكن لم يورد المصنف في الباب غير حديث الخثعمية، وشاهد الترجمة منه خفي، وكأنه أراد إثبات فضله من جهة تأكيد الأمر

(3/378)


به بحيث أن العاجز عن الحركة إليه يلزمه أن يستنيب غيره ولا يعذر بترك ذلك، وسيأتي الكلام على حديث الخثعمية والاختلاف في إسناده على الزهري في أواخر محرمات الإحرام. والمراد منه هنا تفسير الاستطاعة المذكورة في الآية، وأنها لا تختص بالزاد والراحلة يل تتعلق بالمال والبدن، لأنها لو اختصت للزم المعضوب أن يشد على الراحلة ولو شق عليه، قال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة، والآية الكريمة عامة ليست مجملة فلا تفتقر إلى بيان، وكأنه كلف كل مستطيع قدر بمال أو ببدن، وسيأتي بيان الاختلاف في ذلك في الكلام على الحديث المذكور إن شاء الله تعالى. "تقسيم": الناس قسمان، من يجب عليه الحج ومن لا يجب، الثاني العبد وغير المكلف وغير المستطيع. ومن لا يجب عليه إما أن يجزئه المأتي به أو لا، الثاني العبد وغير المكلف. والمستطيع إما أن تصح مباشرته منه أو لا، الثاني غير المميز. ومن لا تصح مباشرته إما أن يباشر عنه غيره أو لا، الثاني الكافر. فتبين أنه لا يشترط لصحة الحج إلا الإسلام.

(3/379)


باب قول الله تعالى: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم}
...
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [27 الحج]: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . فجاجاً: الطرق الواسعة
1514 - حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا بن وهب عن يونس عن بن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن بن عمر رضي الله عنهما قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب راحلته بذي الحليفة ثم يهل حتى تستوي به قائمة"
1515 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ إِهْلاَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ"
قوله: "باب قول الله تعالى يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" قيل إن المصنف أراد أن الراحلة ليست شرطا للوجوب. وقال ابن القصار: في الآية دليل قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، فإن المخالف يزعم أن الحج لا يجب على الراجل وهو خلاف الآية انتهى وفيه نظر، وقد روى الطبري من طريق عمر بن ذر قال: قال مجاهد كانوا لا يركبون فأنزل الله {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب والمتجر. وروى ابن أبي حاتم من طريق محمد بن كعب عن ابن عباس "ما فاتني شيء أشد علي أن لا أكون حججت ماشيا لأن الله يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فبدأ بالرجال قبل الركبان. قوله: "فجاجا الطرق الواسعة" قال يحيى الفراء في "المعاني" في سورة نوح: قوله فجاجا واحدها فج وهي الطرق الواسعة. واعترضه الإسماعيلي فقال: يقال الفج الطريق بين الجبلين، فإذا لم يكن كذلك لم يسم الطريق فحا، كذا قال وهو قول بعض أهل اللغة، وجزم أبو عبيد ثم الأزهري بأن الفج الطريق الواسع، وقد نقل صاحب "المحكم" أن الفج الطريق الواسع في جبل أو في قبل جبل، وهو أوسع من الشعب، وروى ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {فِجَاجاً} يقول طرقا مختلفة. ومن طريق شعبة عن قتادة قال: طرقا وأعلاما.

(3/379)


وقال أبو عبيدة في "المجاز" فج عميق أي بعيد القعر، وهذا تفسير العميق يقال بئر عميقة القعر أي بعيدة القعر. ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته، وحديث جابر نحوه، وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب، وغرضه منه الرد على من زعم أن الحج ماشيا أفضل لتقديمه في الذكر على الراكب فبين أنه لو كان أفضل لفعله النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لم يحرم حتى استوت به راحلته، ذكر ذلك ابن المنير في الحاشية. وقال غيره: مناسبة الحديث للآية أن ذا الحليفة فج عميق والركوب مناسب لقوله وعلى كل ضامر. وقال الإسماعيلي: ليس في الحديثين شيء مما ترجم الباب به، ورد بأن فيهما الإشارة إلى أن الركوب أفضل فيؤخذ منه جواز المشي. قوله: "رواه أنس وابن عباس" أي إهلاله بعدما استوت به راحلته، وسيأتي حديث أنس موصولا في "باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح" وحديث ابن عباس قبله في "باب ما يلبس المحرم من الثياب" في أثناء حديث. قال ابن المنذر: اختلف في الركوب والمشي للحجاج أيهما أفضل؟ فقال الجمهور: الركوب أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولكونه أعون على الدعاء والابتهال ولما فيه من المنفعة. وقال إسحاق بن راهويه: المشي أفضل لما فيه من التعب. ويحتمل أن يقال: يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فالله أعلم.
" تنبيه ": أحمد بن عيسى شيخ المصنف في حديث ابن عمر وقع هكذا في رواية أبي ذر ووافقه أبو علي الشبوي وأهمله الباقون، وإبراهيم شيخه في حديث جابر وقع مهملا للأكثر وفي رواية أبي ذر حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي وهو الحافظ المعروف بالفراء الصغير.

(3/380)


3 باب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ
1516 - وَقَالَ أَبَانُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ"
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ
1517 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ "حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ"
1518 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ فَاعْتَمَرَتْ"
قوله: "باب الحج على الرحل" بفتح الراء وسكون المهملة وهو للبعير كالسرج للفرس أشار بهذا إلى أن التقشف أفضل من الترفه. قوله: "وقال أبان" هو ابن يزيد العطار والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. وهذه الطريق وصلها أبو نعيم في المستخرج من طريق حرمي بن حفص عن أبان بن يزيد العطار به، وسمعناه بعلو في "فوائد أبي العباس بن نجيح" ولم يخرج البخاري لمالك بن دينار وهو الزاهد المشهور البصري غير هذا الحديث الواحد

(3/380)


المعلق والغرض منه قوله فيه: "وحملها على قتب" وهو بفتح القاف والمثناة بعدها موحدة رحل صغير على قدر السنام وقد ذكره في آخر الباب موصولا بلفظ: "فأحقبها" أي أردفها على الحقيبة وهي الزنار الذي يجعل في مؤخر القتب، فقوله في رواية أبان "على قتب" أي حملها على مؤخر قتب، والحاصل أنه أردفها وكان هو على قتب فإن القصة واحدة. وسيأتي بسط القول في اعتمار عائشة من التنعيم في أبواب العمرة. قوله: "وقال عمر شدوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين" وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة وهو بموحدة ومهملة أنه سمع عمر يقول وهو يخطب "إذا وضعتم السروج فشدوا الرحال إلى الحج والعمرة فإنه أحد الجهادين" ومعناه إذا فرغتم من الغزو فحجوا واعتمروا، وتسمية الحج جهادا إما من باب التغليب أو على الحقيقة، والمراد جهاد النفس لما فيه من إدخال المشقة على البدن والمال، وسيأتي في ثاني أحاديث الباب الذي بعده ما يؤيده. قوله: "حدثنا محمد بن أبي بكر" هو المقدمي كذا وقع في رواية أبي ذر، ولغيره: "وقال محمد بن أبي بكر" وقد وصله الإسماعيلي قال: "حدثنا أبو يعلى والحسن بن سفيان وغيرهما قالوا: حدثنا محمد بن أبي بكر به". وعزرة بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء تأنيث عزر وهو المنع ومنه قوله تعالى: {وَيُعَزِّرُوْهُ} ، ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون. وقد أنكره علي بن المديني لما سئل عنه فقال: ليس هذا من حديث يزيد بن زريع والله أعلم. قوله: "وكانت زاملته" أي الراحلة التي ركبها، وهي وإن لم يجر لها ذكر لكن دل عليها ذكر الرحل، والزاملة البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل وهو الحمل، والمراد أنه لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه بل كان ذلك محمولا معه على راحلته وكانت هي الراحلة والزاملة. وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة قال: "كان الناس يحجون وتحتهم أزودتهم، وكان أول من حج على رحل وليس تحته شيء عثمان بن عفان" وقوله فيه: "ولم يكن شحيحا" إشارة إلى أنه فعل ذلك تواضعا واتباعا لا عن قلة وبخل. وقد روى ابن ماجه هذا الحديث بلفظ آخر لكن إسناده ضعيف فذكر بعد قوله: "على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم - ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة". قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن علي الفلاس. وأبو عاصم هو النبيل شيخ البخاري، وروى عنه هنا بواسطة، ونابل والد أيمن بنون وموحدة. قوله: "فأحقبها على ناقة" في رواية الكشميهني ناقته، وسيأتي الكلام عليه.

(3/381)


4 - باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ
1519 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال " سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال جهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور"
1520 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ "عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لاَ لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ"

(3/381)


[الحديث 1520 أطرافه في: 1861, 2784, 2875, 2876]
1521 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"
[الحديث 1521
أطرافه في: 1819, 1820]
قوله: "باب فضل الحج المبرور" قال ابن خالويه: المبرور المقبول. وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي. وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل والله أعلم. وقد تقدم في ذلك أقوال أخر مع مباحث الحديث الأول في "باب من قال إن الإيمان هو العمل" من كتاب الإيمان، منها أنه يظهر بآخره فإن رجع خيرا مما كان عرف أنه مبرور. ولأحمد والحاكم من حديث جابر "قالوا يا رسول الله ما بر الحج؟ قال إطعام الطعام وإفشاء السلام" وفي إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعين دون غيره. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن المبارك" هو العيشي بالتحتانية والشين المعجمة بصري وليس أخا لعبد الله بن المبارك المروزي الفقيه المشهور، وشيخه خالد هو ابن عبد الله الواسطي. قوله: "نرى الجهاد أفضل العمل" وهو بفتح النون أي نعتقد ونعلم، وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة. وقد رواه جرير عن صهيب عند النسائي بلفظ: "فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد". قوله: "لكن أفضل الجهاد" اختلف في ضبط "لكن" فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة، قال القابسي: وهو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحموي لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسماه جهادا لما فيه من مجاهدة النفس، وسيأتي بقية الكلام في أواخر كتاب الحج في "باب حج النساء" إن شاء الله تعالى. والمحتاج إليه هنا كونه جعل الحج أفضل الجهاد. قوله: "سمعت أبا حازم" هو سلمان، وأما أبو حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد فلم يسمع من أبي هريرة، وسيار أبو الحكم الراوي عنه بتقديم المهملة وتشديد التحتانية. قوله: "من حج لله" في رواية منصور عن أبي حازم الآتية قبيل جزاء الصيد " من حج هذا البيت" ولمسلم من طريق جريح عن منصور " من أتى هذا البيت" وهو يشمل الحج والعمرة. وقد أخرجه الدارقطني من طريق الأعمش عن أبي حازم بلفظ: " من حج أو اعتمر " لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف. قوله: "فلم يرفث " الرفث الجماع، ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول. وقال الأزهري: الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء. وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع انتهى. والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام "فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث" . "فائدة": فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع والأفصح الفتح في الماضي والضم في المستقبل والله أعلم. قوله: "ولم يفسق" أي لم يأت بسيئة ولا معصية، وأغرب ابن الأعرابي فقال: إن لفظ الفسق لم يسمع في الجاهلية ولا في أشعارهم وإنما هو إسلامي، وتعقب بأنه كثر استعماله في القرآن وحكايته عمن قبل الإسلام. وقال غيره: أصله انفسقت الرطبة إذا خرجت فسمي الخارج عن الطاعة فاسقا. قوله: "رجع كيوم ولدته أمه" أي بغير ذنب،

(3/382)


وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، قال الطيبي: الفاء في قوله: "فلم يرفث" معطوف على الشرط، وجوابه رجع أي صار، والجار والمجرور خبر له، ويجوز أن يكون حالا أي صار مشابها لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه اهـ. وقد وقع في رواية الدارقطني المذكورة "رجع كهيئته يوم ولدته أمه" . وذكر لنا بعض الناس أن الطيبي أفاد أن الحديث إنما لم يذكر فيه الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذكر، ويحتمل أن يقال إن ذلك يختلف بالقصد لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج فيما يظهر من الأدلة، أو المجادلة بطريق التعميم فلا يؤثر أيضا فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث والحسن منها ظاهر في عدم التأثير، والمستوي الطرفين لا يؤثر أيضا.

(3/383)


5 - باب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
1522 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ "حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ قَالَ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ"
قوله: "باب فرض مواقيت الحج والعمرة" المواقيت جمع ميقات كمواعيد وميعاد، ومعنى "فرض" قدر أو أوجب، وهو ظاهر نص المصنف وأنه لا يجيز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، ويزيد ذلك وضوحا ما سيأتي بعد قليل حيث قال: "ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة" وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز، وفيه نظر فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز وهو ظاهر جواب ابن عمر، ويؤيده القياس على الميقات الزماني فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدم عليه، وفرق الجمهور بين الزماني والمكاني فلم يجيزوا التقدم على الزماني وأجازوا في المكاني، وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح التقدم. وقال مالك يكره، وسيأتي شيء من ذلك في ترجمة "الحج أشهر معلومات" في قوله: "وكره عثمان أن يحرم من خراسان". قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية الجعفي، ورجال هذا الإسناد سوى ابن عمر كوفيون، وجبير والد زيد بالجيم والموحدة مصغر ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وفي الرواة زيد بن جبيرة بفتح الجيم وزيادة هاء في آخره لم يخرج له البخاري شيئا. قوله: "وله فسطاط وسرادق" الفسطاط معروف وهي الخيمة، وأصله عمود الخباء الذي يقوم عليه، وقيل لا يقال لها ذلك إلا إذا كانت من قطن، وهو أيضا مما يغطى به صحن الدار من الشمس وغيرها، وكل ما أحاط بشيء فهو سرادق ومنه "أحاط بهم سرادقها". قوله: "فسألته" فيه التفات لأنه قال أولا إنه أتى ابن عمر فكان السياق يقتضي أن يقول فسأله، لكن وقع عند الإسماعيلي: "قال فدخلت عليه فسألته". قوله: "فرضها" أي قدرها وعينها، ويحتمل أن يكون المراد أوجبها وبه يتم مراد المصنف، ويؤيده قرينة قول السائل "من أين يجوز لي" وسيأتي الكلام على الحديث بعد باب.

(3/383)


باب قوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}
...
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [197 البقرة]: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
1523 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

(3/383)


7 - باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
1524 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ"
[الحديث 1524
أطرافه في: 1526, 1529, 1530, 1845]
قوله: "باب مهل أهل مكة للحج والعمرة" المهل بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام موضع الإهلال، وأصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعا، قال ابن

(3/384)


الجوزي: وإنما يقول بفتح الميم من لا يعرف. وقال أبو البقاء العكبري: هو مصدر بمعنى الإهلال كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج، وأشار المصنف بالترجمة إلى حديث ابن عمر فإنه سيأتي بلفظ: "مهل"، وأما حديث الباب فذكره بلفظ: "وقت" أي حدد، وأصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضا، قال ابن الأثير: التوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة يقال: وقت الشيء بالتشديد يوقته ووقت بالتخفيف يوقته إذا بين مدته، ثم اتسع فيه فقيل للموضع ميقات. وقال ابن دقيق العيد: قيل إن التوقيت في اللغة التحديد والتعيين، فعلى هذا فالتحديد من لوازم الوقت، وقوله هنا "وقت" يحتمل أن يريد به التحديد أي حد هذه المواضع للإحرام، ويحتمل أن يريد به تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر. وقال عياض: وقت أي حدد، وقد يكون بمعنى أوجب. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} انتهى. ويؤيده الرواية الماضية بلفظ: "فرض". قوله: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة" أي مدينته عليه الصلاة والسلام. قوله: "ذا الحليفة" بالمهملة والفاء مصغرا مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين قاله ابن حزم. وقال غيره: بينهما عشر مراحل. وقال النووي: بينها وبين المدينة ستة أميال، ووهم من قال بينهما ميل واحد وهو ابن الصباغ. وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب، وبها بئر يقال لها بئر علي. قوله: "الجحفة" بضم الجيم وسكون المهملة، وهي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة، وفي قول النووي في "شرح المهذب" ثلاث مراحل نظر، وسيأتي في حديث ابن عمر أنها مهيعة بوزن علقمة وقيل بوزن لطيفة، وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها، قال ابن الكلبي: كان العماليق يسكنون يثرب، فوقع بينهم وبين بني عبيل -بفتح المهملة وكسر الموحدة وهم إخوة عاد- حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجتحفهم أي استأصلهم فسميت الجحفة. ووقع في حديث عائشة عند النسائي: "ولأهل الشام ومصر الجحفة" والمكان الذي يحرم منه المصريون الآن رابغ بوزن فاعل براء وموحدة وغين معجمة قريب من الجحفة، واختصت الجحفة بالحمى فلا ينزلها أحد إلا حم كما سيأتي في فضائل المدينة. قوله: "ولأهل نجد قرن المنازل" أما نجد فهو كل مكان مرتفع وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها الشام والعراق. والمنازل بلفظ جمع المنزل، والمركب الإضافي هو اسم المكان، ويقال له قرن أيضا بلا إضافة، وهو بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون، وضبطه صاحب "الصحاح" بفتح الراء وغلطوه، وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى عياض تعليق القابسي أن من قاله بالإسكان أراد الجبل ومن قاله بالفتح أراد الطريق، والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان. وحكى الروياني عن بعض قدماء الشافعية أن المكان الذي يقال له قرن موضعان: أحدهما في هبوط وهو الذي يقال له قرن المنازل، والآخر في صعود وهو الذي يقال له قرن الثعالب والمعروف الأول. وفي "أخبار مكة" للفاكهي أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت، وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبي صلى الله عليه وسلم الطائف يدعوهم إلى الإسلام وردهم عليه قال: "فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب" الحديث ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية، ووقع في مرسل عطاء عند الشافعي "ولأهل نجد قرن، ولمن سلك نجدا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل". ووقع في عبارة

(3/385)


القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عباس هذا "ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن" وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء، وهو المعتمد فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين: إحداهما طريق أهل الجبال وهم يصلون إلى قرن أو يحاذونه فهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق، والأخرى طريق أهل تهامة فيمرون بيلملم أو يحاذونه وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم. قوله: "ولأهل اليمن يلملم" بفتح التحتانية واللام وسكون الميم وبعدها لام مفتوحة ثم ميم مكان على مرحلتين من مكة بينهما ثلاثون ميلا ويقال لها ألملم بالهمزة وهو الأصل والياء تسهيل لها، وحكى ابن السيد فيه يرمرم براءين بدل اللامين.
" تنبيه " أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة، وقيل رفقا بأهل الآفاق لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة أي ممن له ميقات معين. قوله: "من لهم" أي المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة. ووقع في رواية أخرى كما يأتي في "باب دخول مكة بغير إحرام" بلفظ: "هن لهن" أي المواقيت للجماعات المذكورة أو لأهلهن على حذف المضاف والأول هو الأصل، ووقع في "باب مهل أهل اليمن" بلفظ: "هن لأهلهن" كما شرحته. وقوله هن ضمير جماعة المؤنث وأصله لمن يعقل، وقد استعمل فيما لا يعقل لكن فيما دون العشرة، وقوله: "ولمن أتى عليهن" أي على المواقيت من غير أهل البلاد المذكورة، ويدخل في ذلك من دخل بلدا ذات ميقات ومن لم يدخل، فالذي لا يدخل لا إشكال فيه إذا لم يكن له ميقات معين، والذي يدخل فيه خلاف كالشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور، وأطلق النووي الاتفاق ونفي الخلاف في شرحيه لمسلم والمهذب في هذه المسألة فلعله أراد في مذهب الشافعي وإلا فالمعروف عند المالكية أن للشامي مثلا إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك وإن كان الأفضل خلافه وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، قال ابن دقيق العيد: قوله: "ولأهل الشام الجحفة" يشمل من مر من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمر، وقوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهن" يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره، فهنا عمومان قد تعارضا انتهى ملخصا. ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله: "هن لهن" مفسر لقوله مثلا وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمر على ميقاتهم، ويؤيده عراقي خرج من المدينة فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير محرم، ويترجح بهذا قول الجمهور وينتفي التعارض. قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" فيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام، وسيأتي في ترجمة مفردة. قوله: "ومن كان دون ذلك" أي بين الميقات ومكة. قوله: "فمن حيث أنشأ" أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام إذ السفر من مكانه إلى مكة وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة، واستدل به ابن حزم على أن من ليس له ميقات فميقاته من حيث شاء ولا دلالة فيه لأنه يختص بمن كان دون الميقات أي إلى جهة مكة كما تقدم، ويؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه محرم من حيث تجدد له القصد ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله: "فمن حيث أنشأ". قوله: "حتى أهل مكة" يجوز فيه الرفع والكسر. قوله: "من مكة" أي لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة فإنه يحرم من مكانه ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، وهذا خاص بالحاج، واختلف في

(3/386)


أفضل الأماكن التي يحرم منها كما سيأتي في ترجمة مفردة. وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل كما سيأتي بيانه في أبواب العمرة. قال المحب الطبري: لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة، فتعين حمله على القارن، واختلف في القارن فذهب الجمهور إلى أن حكمه حكم الحاج في الإهلال من مكة. وقال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحل، ووجهه أن العمرة إنما تندرج في الحج فيما محله واحد كالطواف والسعي عند من يقول بذلك، وأما الإحرام فمحله فيهما مختلف، وجواب هذا الإشكال أن المقصود من الخروج إلى الحل في حق المعتمر أن يرد على البيت الحرام من الحل فيصح كونه وافدا عليه، وهذا يحصل للقارن لخروجه إلى عرفة وهي من الحل ورجوعه إلى البيت لطواف الإفاضة فحصل المقصود بذلك أيضا. واختلف فيمن جاوز الميقات مريدا للنسك فلم يحرم، فقال الجمهور: يأثم ويلزمه دم، فأما لزوم الدم فبدليل غير هذا، وأما الإثم فلترك الواجب. وقد تقدم الحديث من طريق ابن عمر بلفظ: "فرضها" وسيأتي بلفظ: "يهل" وهو خبر بمعنى الأمر والأمر لا يرد بلفظ الخبر إلا إذا أريد تأكيده، وتأكيد الأمر للوجوب، وسبق في العلم بلفظ: "من أين تأمرنا أن نهل" ولمسلم من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة". وذهب عطاء والنخعي إلى عدم الوجوب، ومقابله قول سعيد بن جبير لا يصح حجه وبه قال ابن حزم. وقال الجمهور: لو رجع إلى الميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم، قال أبو حنيفة بشرط أن يعود ملبيا، ومالك بشرط أن لا يبعد، وأحمد لا يسقط بشيء. "تنبيه": الأفضل في كل ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكة، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز.

(3/387)


باب ميفات أهل المدينة، ولا يهلوا قبل ذي الحليفة
...
8 - باب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلاَ يُهِلُّوا قَبْلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ
1525 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ "وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ"
قوله: "باب ميقات أهل المدينة، ولا يهلون قبل ذي الحليفة" قد تقدمت الإشارة إلى هذا في "باب فرض المواقيت" واستنبط المصنف من إيراد الخبر بصيغة الخبر مع إرادة الأمر تعين ذلك، وأيضا فلم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم قبل ذي الحليفة، ولولا تعين الميقات لبادروا إليه لأنه يكون أشق فيكون أكثر أجرا، وقد تقدم شرح المتن في الذي قبله. قوله: "قال عبد الله" هو ابن عمر. قوله: "وبلغني إلخ" سيأتي من رواية ابنه سالم عنه بعد باب بلفظ: "زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولم أسمعه" وتقدم في العلم من وجه آخر بلفظ: "لم أفقه هذه من النبي صلى الله عليه وسلم" وهو يشعر بأن الذي بلغ ابن عمر ذلك جماعة، وقد ثبت ذلك من حديث ابن عباس كما في الباب قبله، ومن حديث جابر عند مسلم، ومن حديث عائشة عند النسائي، ومن حديث الحارث بن عمرو السهمي عند أحمد وأبي داود والنسائي.

(3/387)


9 - باب مُهَلِّ أَهْلِ الشَّأْمِ
1526 - حدثنا مسدد حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن بن عباس رضي الله عنهما قال

(3/387)


10 - باب مُهَلِّ أَهْلِ نَجْدٍ
1527 - حدثنا علي حدثنا سفيان حفظناه من الزهري عن سالم عن أبيه "وقت النبي صلى الله عليه وسلم"
1528 - حدثنا أحمد حدثنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثم مهل أهل المدينة ذو الحليفة ومهل أهل الشام مهيعة وهي الجحفة وأهل نجد قرن" قال بن عمر رضي الله عنهما "زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولم أسمعه " ومهل أهل اليمن يلملم "
قوله: "باب مهل أهل نجد" أورد فيه حديث ابن عمر من طريقين إلى الزهري، فعلي شيخه في الإسناد الأول هو ابن المديني، وأحمد في الثاني هو ابن عيسى كما ثبت في رواية أبي ذر، وقد تقدم الكلام عليه قريبا.
11

(3/388)


- باب مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ
1529 - حدثنا قتيبة حدثنا حماد عن عمرو عن طاوس عن بن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن يلملم ولأهل نجد قرنا فهن لهن ولمن أتى عليهن أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمن أهله حتى إن أهل مكة يهلون منها"
قوله: "باب مهل من كان دون المواقيت" أي دونها إلى مكة أورد فيه حديث ابن عباس من وجه آخر، وحماد هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار.

(3/388)


12 - باب مُهَلِّ أَهْلِ الْيَمَنِ
1530 - حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن بن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لأهلهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة فمن كان دون ذلك فمن

(3/388)


13 - باب ذَاتُ عِرْقٍ لأهْلِ الْعِرَاقِ
1531 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ"
قوله: "باب ذات عرق لأهل العراق" هي بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف، سمي بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير، وهي أرض سبخة تنبت الطرفاء، بينها وبين مكة مرحلتان، والمسافة اثنان وأربعون ميلا وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة. قوله: "لما فتح هذان المصران" كذا للأكثر بضم "فتح" على البناء لما لم يسم فاعله. وفي رواية الكشميهني: "لما فتح هذين المصرين" بفتح الفاء والتاء على حذف الفاعل والتقدير لما فتح الله، وكذا ثبت في رواية أبي نعيم في "المستخرج" وبه جزم عياض، وأما ابن مالك فقال: تنازع "فتح" و "أتوا" وهو على إعمال الثاني وإسناد الأول إلى ضمير عمر، ووقع عند الإسماعيلي من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله مختصرا، وزاد في الإسناد عن عمر أنه حد لأهل العراق ذات عرق، والمصران تثنية مصر والمراد بهما الكوفة والبصرة وهما سرتا العراق، والمراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما، وإلا فهما من تمصير المسلمين. قوله: "وهو جور" بفتح الجيم وسكون الواو بعدها راء أي ميل، والجور الميل عن القصد ومنه قوله تعالى ومنها جائر. قوله: "فانظروا حذوها" أي اعتبروا ما يقابل الميقات من الأرض التي تسلكونها من غير ميل فاجعلوه ميقاتا، وظاهره أن عمر حد لهم ذات عرق باجتهاد منه، وقد روى الشافعي من طريق أبي الشعثاء قال: "لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق شيئا فاتخذ الناس بحيال قرن ذات عرق" وروى أحمد عن هشيم عن يحيى بن سعيد وغيره عن نافع عن ابن عمر فذكر حديث المواقيت وزاد فيه: "قال ابن عمر فآثر الناس ذات عرق على قرن" وله عن سفيان عن صدقة عن ابن عمر فذكر حديث المواقيت "قال فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن يومئذ عراق" وسيأتي في الاعتصام من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "لم يكن عراق يومئذ" ووقع في "غرائب مالك" للدارقطني من طريق عبد الرزاق عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل العراق قرنا" قال عبد الرزاق قال لي بعضهم إن مالكا محاه من كتابه. قال الدارقطني: تفرد به عبد الرزاق. قلت: والإسناد إليه ثقات أثبات، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عنه وهو غريب جدا، وحديث الباب يرده. وروى الشافعي من طريق طاوس قال: "لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل المشرق" وقال في "الأم ": لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس. وهذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس

(3/389)


منصوصا، وبه قطع الغزالي والرافعي في "شرح المسند" والنووي في "شرح مسلم" وكذا وقع في "المدونة" لمالك، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "شرح المهذب" أنه منصوص، وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه أخرجه من طريق ابن جريج "أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فذكره، وأخرجه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ: "فقال سمعت أحسبه يريد النبي صلى الله عليه وسلم" وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة وابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكا في رفعه. ووقع في حديث عائشة وفي حديث الحارث بن عمرو السهمي كلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي، وهذا يدل على أن للحديث أصلا، فلعل من قال إنه غير منصوص لم يبلغه أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث. وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثا ثابتا انتهى. لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا. وأما إعلال من أعله بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقال ابن عبد البر: هي غفلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لكنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق انتهى. وبهذا أجاب الماوردي وآخرون، لكن يظهر لي أن مراد من قال لم يكن العراق يومئذ أي لم يكن في تلك الجهة ناس مسلمون، والسبب في قول ابن عمر ذلك أنه روى الحديث بلفظ: "أن رجلا قال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل"؟ فأجابه. وكل جهة عينها في حديث ابن عمر كان من قبلها ناس مسلمون بخلاف المشرق والله أعلم. وأما ما أخرجه أبو داود والترمذي من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق فقد تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وإن كان حفظه فقد جمع بينه وبين حديث جابر وغيره بأجوبة منها أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق. ومنها أن العقيق ميقات لبعض العراقيين وهم أهل المدائن، والآخر ميقات لأهل البصرة، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبراني وإسناده ضعيف. ومنها أن ذات عرق كانت أولا في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة فعلى هذا فذات عرق والعقيق شيء واحد، ويتعين الإحرام من العقيق ولم يقل به أحد، وإنما قالوا يستحب احتياطا، وحكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه كان يحرم من الربذة وهو قول القاسم بن عبد الرحمن وخصيف الجزري، قال ابن المنذر: وهو أشبه في النظر إن كانت ذات عرق غير منصوصة، وذلك أنها تحاذي ذا الحليفة، وذات عرق بعدها، والحكم فيمن ليس له ميقات أن يحرم من أول ميقات يحاذيه، لكن لما سن عمر ذات عرق وتبعه عليه الصحابة واستمر عليه العمل كان أولى بالاتباع. واستدل به على أن من ليس له ميقات أن عليه أن يحرم إذا حاذى ميقاتا من هذه المواقيت الخمسة، ولا شك أنها محيطة بالحرم، فذو الحليفة شامية ويلملم يمانية فهي مقابلها وإن كانت إحداهما أقرب إلى مكة من الأخرى، وقرن شرقية والجحفة غربية فهي مقابلها وإن كانت إحداهما كذلك، وذات عرق تحاذي قرنا، فعلى هذا فلا تخلو بقعة من بقاع الأرض من أن تحاذي ميقاتا من هذه المواقيت، فبطل قول من قال من ليس له ميقات ولا يحاذي ميقاتا هل يحرم من مقدار أبعد من المواقيت أو أقربها؟ ثم حكى فيه خلافا، والفرض أن هذه الصورة لا تتحقق لما قلته إلا أن يكون قائله فرضه فيمن لم يطلع على المحاذاة كمن يجهلها، وقد نقل النووي في "شرح المهذب" أنه يلزمه أن يحرم على مرحلتين اعتبارا بقول عمر هذا في توقيته ذات عرق، وتعقب بأن عمر إنما حدها

(3/390)


لأنها تحاذي قرنا، وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة، فلعل القائل بالمرحلتين أخذ بالأقل لأن ما زاد عليه مشكوك فيه، لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد، ويحتمل أن يفرق بين من عن يمين الكعبة وبين من عن شمالها لأن المواقيت التي عن يمينها أقرب من التي عن شمالها فيقدر لليمين الأقرب وللشمال الأبعد والله أعلم. ثم إن مشروعية المحاذاة مختصة بمن ليس له أمامه ميقات معين، فأما من له ميقات معين كالمصري مثلا يمر ببدر وهي تحاذي ذا الحليفة فليس عليه أن يحرم منها بل له التأخير حتى يأتي الجحفة والله أعلم. " تنبيه ": العقيق المذكور هنا واد يتدفق ماؤه في غوري تهامة، وهو غير العقيق المذكور بعد بابين كما سيأتي بيانه.

(3/391)


14 باب 1532 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ"
قوله: "باب" كذا في الأصول بغير ترجمة، وهو بمنزلة الفصل من الأبواب التي قبله، ومناسبته لها من جهة دلالة حديثه على استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام من الميقات، وقد ترجم عليه بعض الشارحين "نزول البطحاء والصلاة بذي الحليفة" وحكى القطب أنه في بعض النسخ قال: وسقط في نسخة سماعنا لفظ: "باب" وفي شرح ابن بطال "الصلاة بذي الحليفة". قوله: "أناخ" بالنون والخاء المعجمة أي أبرك بعيره، والمراد أنه نزل بها. والبطحاء قد بين أنها التي بذي الحليفة. وقوله: "فصلى بها" يحتمل أن يكون للإحرام ويحتمل أن يكون للفريضة، وسيأتي من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بذي الحليفة ركعتين" ثم أن هذا النزول يحتمل أن يكون في الذهاب وهو الظاهر من تصرف المصنف، ويحتمل أن يكون في الرجوع ويؤيده حديث ابن عمر الذي بعده بلفظ: "وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات حتى أصبح" ويمكن الجمع بأنه كان يفعل الأمرين ذهابا وإيابا والله أعلم.

(3/391)


15 - باب خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ
1533 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مسْجِدِ الشَّجَرَةِ وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ"
قوله: "باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة" قال عياض: هو موضع معروف على طريق من أراد الذهاب إلى مكة من المدينة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى ذي الحليفة فيبيت بها، وإذا رجع بات بها أيضا ودخل على طريق المعرس بفتح الراء المثقلة وبالمهملتين وهو مكان معروف أيضا، وكل من الشجرة والمعرس على ستة أميال من المدينة لكن المعرس أقرب، وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد بيان في ذلك. قال ابن بطال: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما يفعل في العيد يذهب من طريق ويرجع من أخرى، وقد تقدم القول في حكمة ذلك مبسوطا، وقد قال

(3/391)


16 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ"
1534 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ التِّنِّيسِيُّ قَالاَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: " أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ"
[الحديث 1534
طرفاه في: 2337, 7343]
1535 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي قِيلَ لَهُ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم العقيق واد مبارك" أورد فيه حديث عمر في ذلك، وليس هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حكاه عن الآتي الذي أتاه. لكن روى أبو أحمد بن عدي من طريق يعقوب بن إبراهيم الزهري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا: "تخيموا بالعقيق فإنه مبارك" فكأنه أشار إلى هذا. وقوله: "تخيموا بالخاء المعجمة والتحتانية أمر بالتخيم والمراد به النزول هناك. وذكر ابن الجوزي في "الموضوعات" عن حمزة الأصبهاني أنه ذكر في "كتاب التصحيف" أن الرواية بالتحتانية تصحيف وأن الصواب بالمثناة الفوقانية، ولما قاله اتجاه لأنه وقع في معظم الطرق ما يدل على أنه من الخاتم، وهو من طريق يعقوب بن الوليد عن هشام بلفظه، ووقع في حديث عمر تختموا بالعقيق فإن جبريل أتاني به من الجنة الحديث وأسانيده ضعيفة. قوله: "آت من ربي" هو جبريل. قوله: " فقال صل في هذا الوادي المبارك " يعني وادي العقيق، وهو بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال. روى الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" أن تبعا لما رجع من المدينة انحدر في مكان فقال: هذا عقيق الأرض، فسمي العقيق. قوله: " وقل عمرة في حجة" برفع عمرة للأكثر وبنصبها لأبي ذر على حكاية اللفظ أي قل جعلتها عمرة، وهذا دال على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وسيأتي بيان ذلك بعد أبواب. وأبعد من قال معناه عمرة مدرجة في حجة أي أن عمل العمرة يدخل في عمل الحج فيجزي لها طواف واحد. وقال من معناه أنه يعتمر في تلك السنة بعد فراغ حجه. وهذا أبعد من الذي قبله، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك. نعم يحتمل أن يكون أمر أن يقول ذلك لأصحابه ليعلمهم مشروعية القران، وهو كقوله: "دخلت العمرة في الحج " قاله الطبري. واعترضه ابن المنير في الحاشية فقال: ليس نظيره، لأن قوله: "دخلت إلخ" تأسيس قاعدة، وقوله: "عمرة في حجة" بالتنكير يستدعي

(3/392)


الوحدة وهو إشارة إلى الفعل الواقع من القران إذ ذاك. قلت: ويؤيده ما يأتي في كتاب الاعتصام بلفظ: "عمرة وحجة" بواو العطف وسيأتي بيان ذلك بعد أبواب. وفي الحديث فضل العقيق كفضل المدينة وفضل الصلاة فيه، وفيه استحباب نزول الحاج في منزلة قريبة من البلد ومبيتهم بها ليجتمع إليهم من تأخر عنهم ممن أراد مرافقتهم، وليستدرك حاجته من نسيها مثلا فيرجع إليها من قريب. قوله في حديث ابن عمر "أنه أري" بضم الهمزة أي في المنام. وفي رواية كريمة: "رئي" بتقديم الراء أي رآه غيره. قوله: "وهو معرس" في رواية الكشميهني: "في معرس" بالتنوين، وقوله: "ببطن الوادي" تبين من حديث ابن عمر الذي قبله أنه وادي العقيق. قوله: "وقد أناخ بنا سالم" هو مقول موسى بن عقبة الراوي عنه، وقوله: "يتوخى" بالخاء المعجمة أي يقصد، و "المناخ" بضم الميم المبرك. قوله: "وهو أسفل" بالنصب ويجوز الرفع، والمراد بالمسجد الذي كان هنا في ذلك الزمان. وقوله: "بينه" أي بين المعرس. وفي رواية الحموي "بينهم" أي بين النازلين وبين الطريق، وقوله: "وسط من ذلك" بفتح المهملة أي متوسط بين بطن الوادي وبين الطريق، وعند أبي ذر "وسطا من ذلك" بالنصب.

(3/393)


17 - باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ الثِّيَابِ
1536 - قَالَ أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ "أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرِنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ قَالَ فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى يَعْلَى فَجَاءَ يَعْلَى وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: " أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنْ الْعُمْرَةِ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ" قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَرَادَ الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ نَعَمْ"
[الحديث 1536
أطرافه في: 1789, 1847, 4329, 4985]
قوله: "باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب" الخلوق بفتح الخاء المعجمة نوع من الطيب مركب فيه زعفران.
قوله: "قال أبو عاصم" هو من شيوخ البخاري ولم أره عنه إلا بصيغة التعليق، وبذلك جزم الإسماعيلي فقال: ذكره عن أبي عاصم بلا خبر، وأبو نعيم فقال: ذكر بلا رواية، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "حدثنا محمد حدثنا أبو عاصم" ومحمد هو ابن معمر أو ابن بشار ويحتمل أن يكون البخاري، ولم يقع في المتن ذكر الخلوق وإنما أشار به إلى ما ورد في بعض طرقه وهو في أبواب العمرة بلفظ: "وعليه أثر الخلوق". قوله: "أن يعلى" هو ابن أمية التميمي وهو المعروف بابن منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتانية وهي أمه وقيل جدته، وهو والد صفوان الذي روى عنه، وليست رواية صفوان عنه لهذا الحديث بواضحة لأنه قال فيها "إن يعلى قال لعمر" ولم يقل أن يعلى أخبره أنه قال لعمر، فإن يكن صفوان حضر مراجعتهما وإلا فهو منقطع، لكن سيأتي في أبواب العمرة من وجه آخر" عن صفوان بن يعلى عن أبيه" فذكر الحديث. قوله: "جاء رجل" سيأتي بعد أبواب

(3/393)


بلفظ: "جاء أعرابي" ولم أقف على اسمه لكن ذكر ابن فتحون في "الذيل" عن "تفسير الطرطوشي" أن اسمه عطاء ابن منية، قال ابن فتحون: إن ثبت ذلك فهو أخو يعلى ابن منية راوي الخبر، ويجوز أن يكون خطأ اسم الراوي فإنه من رواية عطاء عن صفوان بن يعلى ابن منية عن أبيه، ومنهم من لم يذكر بين عطاء ويعلى أحدا، ووقع في شرح شيخنا سراج الدين بن الملقن ما نصه: هذا الرجل يجوز أن يكون عمرو بن سواد إذ في كتاب "الشفاء" للقاضي عياض عنه قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متخلق فقال ورس ورس حط حط وغشيني بقضيب بيده في بطني فأوجعني" الحديث، فقال شيخنا: لكن عمرو هذا لا يدرك ذا فإنه صاحب ابن وهب انتهى كلامه. وهو معترض من وجهين: أما أولا فليست هذه القصة شبيهة بهذه القصة حتى يفسر صاحبها بها، وأما ثانيا ففي الاستدراك غفلة عظيمة لأن من يقول: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخيل فيه أنه صاحب ابن وهب صاحب مالك، بل إن ثبت فهو آخر وافق اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبيه، والفرض أنه لم يثبت لأنه انقلب على شيخنا إنما الذي في "الشفاء" سواد بن عمرو وقيل سوادة بن عمرو، أخرج حديثه المذكور عبد الرزاق في مصنفه والبغوي في "معجم الصحابة"، وروى الطحاوي من طريق أبي حفص بن عمرو عن يعلى أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو متخلق فقال ألك امرأة؟ قال لا، قال اذهب فاغسله. فقد يتوهم من لا خبرة له أن يعلى بن أمية هو صاحب القصة، وليس كذلك فإن راوي هذا الحديث يعلى بن مرة الثقفي، وهي قصة أخرى غير قصة صاحب الإحرام. نعم روى الطحاوي في موضع آخر أن يعلى بن أمية صاحب القصة قال: "حدثنا سليمان بن شعيب حدثنا عبد الرحمن هو ابن زياد الوضاحي حدثنا شعبة عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح أن رجلا يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها" قال قتادة قلت لعطاء إنما كنا نرى أن نشقها، فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد. قوله: "قد أظل به" بضم أوله وكسر الظاء المعجمة أي جعل عليه كالظلة. ووقع عند الطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم أن الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ويستفاد منه أن المأمور به وهو الإتمام يستدعي وجوب اجتناب ما يقع في العمرة. قوله: "يغط" بفتح أوله وكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي ينفخ، والغطيط صوت النفس المتردد من النائم أو المغمى، وسبب ذلك شدة ثقل الوحي، وكان سبب إدخال يعلى رأسه عليه في تلك الحال أنه كان يحب لو رآه في حالة نزول الوحي كما سيأتي في أبواب العمرة من وجه آخر عنه، وكان يقول ذلك لعمر فقال له عمر حينئذ: تعال فانظر، وكأنه علم أن ذلك لا يشق على النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "سري" بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة أي كشف عنه شيئا بعد شيء قوله: "اغسل الطيب الذي بك" هو أعم من أن يكون بثوبه أو ببدنه، وسيأتي البحث فيه. قوله: " واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك" في رواية الكشميهني: "كما تصنع" وسيأتي في أبواب العمرة بلفظ: "كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي" ولمسلم من طريق قيس بن سعد عن عطاء "وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك" وهو دال على أنه كان يعرف أعمال الحج قبل ذلك، قال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد. وقال ابن المنير في الحاشية قوله: "اصنع" معناه اترك لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم، فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل. قال وأما قول ابن بطال أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه نظر لأن التروك مشتركة بخلاف الأعمال فإن في الحج أشياء زائلة على العمرة كالوقوف

(3/394)


وما بعده. وقال النووي كما قال ابن بطال وزاد: ويستثنى من الأعمال ما يختص به الحج. وقال الباجي: المأمور به غير نزع الثوب وغسل الخلوق، لأنه صرح له بهما فلم يبق إلا الفدية. كذا قال ولا وجه لهذا الحصر، بل الذي تبين من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك أن عند مسلم والنسائي من طريق سفيان عن عمرو بن دينار وعن عطاء في هذا الحديث فقال: " ما كنت صانعا في حجك؟ قال أنزع عني هذه الثياب وأغسل عني هذا الخلوق. فقال ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك" . قوله: "فقلت لعطاء" القائل هو ابن جريج، وهو دال على أنه فهم من السياق أن قوله: "ثلاث مرات" من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظة "اغسله" مرة ثم مرة على عادته أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثة لتفهم عنه نبه عليه عياض، قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب كما في الترجمة، وإنما فيه أن الرجل كان متضمخا. وقوله له " اغسل الطيب الذي بك " يوضح أن الطيب لم يكن في ثوبه وإنما كان على بدنه ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام اهـ. والجواب أن البخاري على عادته يشير إلى ما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده، وسيأتي في حرمات الإحرام من وجه آخر بلفظ: "عليه قميص فيه أثر صفرة" والخلوق في العادة إنما يكون في الثوب. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن قتادة عن عطاء بلفظ: "رأى رجلا عليه حبة عليها أثر خلوق" ولمسلم من طريق رباح بن أبي معروف عن عطاء مثله. وقال سعيد بن منصور "حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك ومنصور وغيرهما عن عطاء عن يعلى بن أمية، أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحرمت وعلي جبتي هذه وعلى جبته ردغ من خلوق" الحديث وفيه: "فقال اخلع هذه الجبة واغسل هذا الزعفران" واستدل بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن. وأجاب الجمهور بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة كما ثبت في هذا الحديث، وهي في سنة ثمان بلا خلاف. وقد ثبت عن عائشة أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديها عند إحرامها كما سيأتي في الذي بعده وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب، فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران. وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقا محرما وغير محرم، وفي حديث ابن عمر الآتي قريبا "ولا يلبس -أي المحرم- من الثياب شيئا مسه زعفران" وفي حديث ابن عباس الآتي أيضا: "ولم ينه إلا عن الثياب المزعفرة" وسيأتي مزيد في ذلك الباب الذي بعده، واستدل به على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه. وقال مالك إن طال ذلك عليه لزمه، وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية: "يجب مطلقا" وعلى أن المحرم إذا صار عليه المخيط نزعه ولا يلزمه تمزيقه ولا شقه خلافا للنخعي والشعبي حيث قالا: لا ينزعه من قبل رأسه لئلا يصير مغطيا لرأسه أخرجه ابن أبي شيبة عنهما، وعن علي نحوه، وكذا عن الحسن وأبي قلابة، وقد وقع عند أبي داود بلفظ: " اخلع عنك الجبة فخلعها من قبل رأسه" وعلى أن المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم يمسك حتى يتبين له، وعلى أن بعض الأحكام ثبت بالوحي وإن لم يكن مما يتلى، لكن وقع عند الطبراني في "الأوسط" أن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم بالاجتهاد إلا إذا لم يحضره الوحي.

(3/395)


18 - باب الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ

(3/395)


وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَقَالَ عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا
1537 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ:
1538 - حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ"
1539 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ"
[الحديث 1539
أطرافه في: 1754, 5922, 5928, 5930]
قوله: "باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن" أراد بهذه الترجمة أن يبين أن الأمر بغسل الخلوق الذي في الحديث قبله إنما هو بالنسبة إلى الثياب، لأن المحرم لا يلبس شيئا مسه الزعفران كما سيأتي في الباب الذي بعده، وأما الطيب فلا يمنع استدامته على البدن، وأضاف إلى التطيب المقتصر عليه في حديث الباب الرجل والأدهان لجامع ما بينهما من الترفه فكأنه يقول يلحق بالتطيب سائر الترفهات فلا يحرم على المحرم، كذا قال ابن المنير، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما سيأتي بعد أربعة أبواب من طريق كريب عن ابن عباس قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن" الحديث، وقوله: "ترجل" أي سرح شعره، وكأنه يؤخذ من قوله في حديث عائشة "طيبته في مفرقه" لأن فيه نوع ترجيل، وسيأتي من وجه آخر بزيادة "وفي أصول شعره". قوله: "وقال ابن عباس إلخ" أما شم الريحان فقال سعيد بن منصور "حدثنا ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا للمحرم بشم الريحان" وروينا في "المعجم الأوسط" مثله عن عثمان. وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر خلافه، واختلف في الريحان فقال إسحاق: يباح، وتوقف أحمد. وقال الشافعي يحرم، وكرهه مالك والحنفية. ومنشأ الخلاف أن كل ما يتخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف، وأما غيره فلا. وأما النظر في المرآة فقال الثوري في جامعه رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه "عن هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا بأس أن ينظر في المرآة وهو محرم" وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن إدريس عن هشام به، ونقل كراهته عن القاسم بن محمد. وأما التداوي فقال أبو بكر بن أبي شيبة: "حدثنا أبو خالد الأحمر وعباد بن العوام عن أشعث عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول: يتداوى المحرم بما يأكل" وقال أيضا: "حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الضحاك عن ابن عباس إذا شققت يد المحرم أو رجلاه فليدهنهما بالزيت أو بالسمن" ووقع

(3/396)


في الأصل "يتداوى بما يأكل الزيت والسمن" وهما بالجر في روايتنا وصحح عليه ابن مالك عطفا على ما الموصولة فإنها مجرورة بالباء ووقع في غيرها بالنصب، وليس المعنى عليه لأن الذي يأكل هو الآكل لا المأكول، لكن يجوز على الاتساع. وفي هذا الأثر رد على مجاهد في قوله إن تداوى بالسمن أو الزيت فعليه دم أخرجه ابن أبي شيبة.
" تنبيه " قوله: "يشم" بفتح الشين المعجمة على الأشهر وحكي ضمها. قوله: "وقال عطاء يتختم ويلبس الهميان" هو بكسر الهاء معرب، يشبه تكة السراويل يجعل فيها النفقة ويشد في الوسط. وقد روى الدارقطني من طريق الثوري عن ابن إسحاق عن عطاء قال: لا بأس بالخاتم للمحرم. وأخرج أيضا من طريق شريك عن أبي إسحاق عن عطاء -وربما ذكره عن سعيد بن جبير- عن ابن عباس قال: لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم والأول أصح. وأخرجه الطبراني وابن عدي في الكامل من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف. قال ابن عبد البر: أجاز ذلك فقهاء الأمصار، وأجازوا عقده إذا لم يمكن إدخال بعضه في بعض، ولم ينقل عن أحد كراهته إلا عن ابن عمر، وعنه جوازه. ومنع إسحاق عقده وقيل إنه تفرد بذلك، وليس كذلك فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: لا بأس بالهميان للمحرم، ولكن لا يعقد عليه السير ولكن يلفه لفا. قال ابن أبي شيبة حدثنا الفضل بن دكين عن إسماعيل بن عبد الملك قال رأيت على سعيد بن جبير خاتما وهو محرم وعلى عطاء. قوله: "وطاف ابن عمر وهو محرم وقد حزم على بطنه بثوب" وصله الشافعي من طريق طاوس قال. رأيت ابن عمر يسعى وقد حزم على بطنه بثوب. وروي من وجه آخر عن نافع أن ابن عمر لم يكن عقد الثوب عليه وإنما غرز طرفه على إزاره. وروى ابن أبي شيبة من طريق مسلم بن جندب سمعت ابن عمر يقول لا تعقد علي شيئا وأنت محرم. قال ابن التين: هو محمول على أنه شده على بطنه فيكون كالهميان ولم يشده فوق المئزر وإلا فمالك يرى على من فعل ذلك الفدية. قوله: "ولم تر عائشة بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها" وقع في نسخة الصغاني بعد قوله بأسا: قال أبو عبد الله يعني الذين إلخ. التبان بضم المثناة وتشديد الموحدة سراويل قصير بغير أكمام، والهودج بفتح الهاء وبالجيم معروف، ويرحلون بفتح أوله وسكون الراء وفتح الحاء المهملة قال الجوهري: رحلت البعير أرحله بفتح أوله رحلا إذا شددت على ظهره الرحل، قال الأعشى:
"رحلت أميمة غدوة أجمالها"
،وسيأتي في التفسير استشهاد البخاري بقول الشاعر:
"إذا ما قمت أرحلها بليل"
وعلى هذا فوهم من ضبطه هنا بتشديد الحاء المهملة وكسرها. وقد وصل أثر عائشة سعيد بن منصور من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها حجت ومعها غلمان لها وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسونها وهم محرمون. وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ: "يشدون هودجها" وفي هذا رد على ابن التين في قوله: أرادت النساء لأنهن يلبسن المخيط بخلاف الرجال، وكأن هذا رأي رأته عائشة وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم. قوله: "سفيان" هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر، والإسناد إلى ابن عمر كوفيون وكذا إلى عائشة. قوله: "يدهن بالزيت" أي عند الإحرام بشرط أن لا يكون مطيبا، كمأ أخرجه الترمذي من وجه آخر عنه مرفوعا، والموقوف عنه أخرجه ابن أبي شيبة وهو أصح، ويؤيده ما تقدم في كتاب الغسل من طريق محمد بن المنتشر أن ابن عمر قال: "لأن أطلي بقطران أحب إلي من أن أتطيب ثم أصبح محرما" وفيه إنكار عائشة عليه، وكان ابن عمر يتبع في ذلك أباه فإنه كان يكره استدامة الطيب بعد الإحرام كما سيأتي، وكانت عائشة تنكر عليه

(3/397)


ذلك. وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر أن عائشة كانت تقول "لا بأس بأن يمس الطيب عند الإحرام" قال فدعوت رجلا وأنا جالس بجنب ابن عمر فأرسلته إليها وقد علمت قولها ولكن أحببت أن يسمعه أبي، فجاءني رسولي فقال إن عائشة تقول لا بأس بالطيب عند الإحرام فأصب ما بدا لك. قال فسكت ابن عمر. وكذا كان سالم بن عبد الله بن عمر يخالف أباه وجده في ذلك لحديث عائشة، قال ابن عيينة "أخبرنا عمرو بن دينار عن سالم أنه ذكر قول عمر في الطيب ثم قال: قالت عائشة" فذكر الحديث، قال سالم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. قوله: "فذكرته لإبراهيم" هو مقول منصور، وإبراهيم هو النخعي. قوله: "فقال ما تصنع بقوله" يشير إلى ما بينته وإن كان لم يتقدم إلا ذكر الفعل، ويؤخذ منه أن المفزع في النوازل إلى السنن وأنه مستغنى بها عن آراء الرجال وفيها المقنع. قوله: "كأني أنظر" أرادت بذلك قوة تحققها لذلك بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه. قوله: "وبيص" بالموحدة المكسورة وآخره صاد مهملة هو البريق، وقد تقدم في الغسل قول الإسماعيلي: إن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلألؤ، وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط. قوله: "في مفارق" جمع مفرق وهو المكان الذي يفترق فيه الشعر في وسط الرأس، قيل ذكرته بصيغة الجمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر. قوله: "لإحرامه" أي لأجل إحرامه، وللنسائي: "حين أراد أن يحرم" ولمسلم نحوه كما سيأتي قريبا. قوله: "ولحله" أي بعد أن يرمي ويحلق. واستدل بقولها "كنت أطيب" على أن كان لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرة واحدة، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع كما سيأتي في كتاب اللباس، كذا استدل به النووي في "شرح مسلم: "وتعقب بأن المدعي تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرة واحدة ولا يخفى ما فيه. وقال النووي في موضع آخر: المختار أنها لا تقتضي تكرارا ولا استمرارا، وكذا قال الفخر في "المحصول"، وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه قال ولهذا استفدنا من قولهم "كان حاتم يقري الضيف" أن ذلك كان يتكرر منه. وقال جماعة من المحققين إنها تقتضي التكرار ظهورا، وقد تقع قرينة تدل على عدمه، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك، والمعني أنها كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر منه فعل الإحرام لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك، على أن هذه اللفظة لم تتفق الرواة عنها عليها، فسيأتي للبخاري من طريق سفيان ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك فيه هنا بلفظ: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم" وسائر الطرق ليس فيها صيغة "كان" والله أعلم. واستدل به على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام، وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام وهو قول الجمهور، وعن مالك يحرم ولكن لا فدية. وفي رواية عنه تجب. وقال محمد بن الحسن: يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى عينه بعده. وتجب المالكية بأمور: منها أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيب لقوله في رواية ابن المنتشر المتقدمة في الغسل "ثم طاف بنسائه ثم أصبح محرما" فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر، ويرده قوله في الرواية الماضية أيضا: "ثم أصبح محرما ينضح طيبا" فهو ظاهر في أن نضح الطيب -وهو ظهور رائحته- كان في حال إحرامه، ودعوى بعضهم أن فيه تقديما وتأخيرا والتقدير طاف على نسائه ينضح طيبا ثم أصبح محرما خلاف الظاهر، ويرده قوله في رواية الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم عند مسلم: "كان

(3/398)


إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك" وللنسائي وابن حبان: "رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم" وقال بعضهم: إن الوبيص كان بقايا الدهن المطيب الذي تطيب به فزال وبقي أثره من غير رائحة، ويرده قول عائشة ينضح طيبا. وقال بعضهم: بقي أثره لا عينه، قال ابن العربي ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت انتهى. وقد روى أبو داود وابن أبي شيبة من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: "كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا". فهذا صريح في بقاء عين الطيب، ولا يقال إن ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين. وقال بعضهم: كان ذلك طيبا لا رائحة له تمسكا برواية الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة "بطيب لا يشبه طيبكم" قال بعض رواته: يعني لا بقاء له أخرجه النسائي. ويرد هذا التأويل ما في الذي قبله. ولمسلم من رواية منصور بن زاذان عن عبد الرحمن بن القاسم "بطيب فيه مسك" وله من طريق الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم "كأني أنظر إلى وبيص المسك" وللشيخين من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه "بأطيب ما أجد". وللطحاوي والدارقطني من طريق نافع عن ابن عمر عن عائشة "بالغالية الجيدة" هذا يدل على أن قولها بطيب لا يشبه طيبكم أي أطيب منه، لا كما فهمه القائل يعني ليس له بقاء. وادعى بعضهم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم قال المهلب وأبو الحسن القصار وأبو الفرج من المالكية، قال بعضهم: لأن الطيب من دواعي النكاح فنهى الناس عنه وكان هو أملك الناس لإربه ففعله، ورجحه ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقد ثبت عنه أنه قال: "حبب إلي النساء والطيب" أخرجه النسائي من حديث أنس، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس. وقال المهلب: إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي، وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية وكيف بها، ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة قالت: "طيبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم" وبقولها "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين" أخرجه الشيخان من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عنها، وسيأتي من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ: "وأشارت بيديها" واعتذر بعض المالكية بأن عمل أهل المدينة على خلافه، وتعقب بما رواه النسائي من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسا من أهل العلم - منهم القاسم بن محمد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث - فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة، فكلهم أمر به. فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعى مع ذلك العمل على خلافه. قوله: "ولحله قبل أن يطوف بالبيت" أي لأجل إحلاله من إحرامه قبل أن يطوف طواف الإفاضة، وسيأتي في اللباس من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ: "قبل أن يفيض" وللنسائي من هذا الوجه "وحين يريد أن يزور البيت" ولمسلم نحوه من طريق عمرة عن عائشة، وللنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة "ولحله بعدما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت" واستدل به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته على الطواف بالبيت، وهو دال على أن للحج تحللين فمن قال أن الحلق نسك كما هو قول الجمهور وهو الصحيح عند الشافعية يوقف استعمال الطيب وغيره من المحرمات المذكورة عليه، ويؤخذ ذلك

(3/399)


من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى ثم حلق ثم طاف، فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها "قبل أن يطوف بالبيت" قال النووي في "شرح المهذب" ظاهر كلام ابن المنذر وغيره أنه لم يقل بأن الحلق ليس بنسك إلا الشافعي، وهو في رواية عن أحمد، وحكي عن أبي يوسف، واستدل به على جواز استدامة الطيب بعد الإحرام، وخالف الحنفية فأوجبوا فيه الفدية قياسا على اللبس، وتعقب بأن استدامة اللبس لبس واستدامة الطيب ليس بطيب، ويظهر ذلك بما لو حلف. وقد تقدم التعقب على من زعم أن المراد بريق الدهن أو أثر الطيب الذي لا رائحة له بما فيه كفاية.

(3/400)


19 - باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا
1540 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ مُلَبِّدًا"
[الحديث 1540
أطرافه في: 1549, 5914, 5915]
قوله: "باب من أهل ملبدا" أي أحرم وقد لبد شعر رأسه، أي جعل فيه شيئا نحو الصمغ ليجتمع شعره لئلا يتشعث في الإحرام أو يقع فيه القمل. حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في ذلك وهو مطابق للترجمة، وقوله: "سمعته يهل ملبدا" أي سمعته يهل في حال كونه ملبدا، ولأبي داود والحاكم من طريق نافع عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام لبد رأسه بالعسل، قال ابن عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين، ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره. قلت ضبطناه في روايتنا في سنن أبي داود بالمهملتين.

(3/400)


20 - باب الإِهْلاَلِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ
1541 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا موسى بن عقبة سمعت سالم بن عبد الله قال سمعت بن عمر رضي الله عنهما وحدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه يقول "ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد" يعني مسجد ذي الحليفة
قوله: "باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة" أي لمن حج من المدينة.
أورد فيه حديث سالم أيضا عن أبيه في ذلك من وجهين، وساقه بلفظ مالك.
وأما لفظ سفيان فأخرجه الحميدي في مسنده بلفظ: "هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد مسجد ذي الحليفة" وأخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة بلفظ: "كان ابن عمر إذا قيل له الإحرام من البيداء قال: البيداء التي تكذبون فيها إلخ، إلا أنه قال: من عند الشجرة حين قام به بعيره" وسيأتي للمصنف بعد أبواب ترجمة "من أهل حين استوت به راحلته" وأخرج فيه من طريق صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر قال: "أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة" وكان ابن عمر ينكر على رواية ابن عباس الآتية بعد بابين بلفظ: "ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل" وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير "قلت لابن

(3/400)


21 - باب مَا لاَ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ
1542 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ, إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلاَ تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ"
قوله: "باب ما لا يلبس المحرم من الثياب" المراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قرن، وحكى ابن دقيق العيد أن ابن عبد السلام كان يستشكل معرفة حقيقة الإحرام يعني على مذهب الشافعي ويرد على من يقول إنه النية، لأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه، وشرط الشيء غيره، ويعترض على من يقول إنه التلبية بأنها ليست ركنا وكأنه يحوم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء انتهى. والذي يظهر أنه مجموع الصفة الحاصلة من تجرد وتلبية ونحو ذلك، وسيأتي في آخر "باب التلبية" ما يتعلق بشيء من هذا الغرض. قوله: "أن رجلا قال يا رسول الله" لم أقف على اسمه في شيء من الطرق، وسيأتي في "باب ما ينهى من الطيب للمحرم" ومن طريق الليث عن نافع بلفظ: "ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام" وعند النسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه "ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا" وهو مشعر بأن السؤال عن ذلك كان قبل الإحرام. وقد حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أن في رواية ابن جريج والليث عن نافع أن ذلك كان في المسجد، ولم أر ذلك في شيء من الطرق عنهما. نعم أخرج البيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب، ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء عن عبد الله بن عون، كلاهما عن نافع عن ابن عمر "نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بذلك المكان" وأشار نافع إلى مقدم المسجد فذكر الحديث، وظهر أن ذلك كان بالمدينة، ووقع في حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج أنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك في عرفات فيحمل على التعدد، ويؤيده أن حديث ابن عمر أجاب به السائل. وحديث ابن عباس ابتدأ به في الخطبة. قوله: "ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القمص إلخ" قال النووي قال العلماء هذا الجواب من بديع الكلام وجزله لأن ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر فقال:

(3/401)


لا يلبس كذا أي ويلبس ما سواه انتهى. وقال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر، وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب فكان الأليق السؤال عما لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسلوب الحكيم، ويقرب منه قوله تعالى: {يسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} الآية، فعدل عن جنس المنفق وهو المسئول عنه إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة ولا تشترط المطابقة انتهى. وهذا كله بناء على سياق هذه الرواية وهي المشهورة عن نافع، وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ: "ما يترك المحرم" وهي شاذة والاختلاف فيها على ابن جريج لا على نافع، ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ: "أن رجلا قال: ما يجتنب المحرم من الثياب" أخرجه أحمد وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحيهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه، وأخرجه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري فقال مرة "ما يترك" ومرة "ما يلبس"، وأخرجه المصنف في أواخر الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ نافع، فالاختلاف فيه على الزهري يشعر بأن بعضهم رواه بالمعنى فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها، واتجه البحث المتقدم. وطعن بعضهم في قول من قال من الشراح أن هذا من أسلوب الحكيم بأنه كان يمكن الجواب بما يحصر أنواع ما لا يلبس كأن يقال ما ليس بمخيط ولا على قدر البدن كالقميص أو بعضه كالسراويل أو الخف ولا يستر الرأس أصلا ولا يلبس ما مسه طيب كالورس والزعفران، ولعل المراد من الجواب المذكور ذكر المهم وهو ما يحرم لبسه ويوجب الفدية. قوله: "المحرم" أجمعوا على أن المراد به هنا الرجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس، ويؤيده قوله في آخر حديث الليث الآتي في آخر الحج "لا تنتقب المرأة" كما سيأتي البحث فيه، وقوله: "لا تلبس" بالرفع على الخبر وهو في معنى النهي، وروي بالجزم على أنه نهي، قال عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالقميص والسراويل على كل مخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى الرأس به مخيطا أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل انتهى. وخص ابن دقيق العيد الإجماع الثاني بأهل القياس وهو واضح، والمراد بتحريم المخيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له ولو في بعض البدن فأما لو ارتدى بالقميص مثلا فلا بأس. وقال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر، قال: ومن النادر المكتل يحمله على رأسه. قلت: إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صح ما قال، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيئة الحامل لحاجته لا يضر على مذهبه. ومما لا يضر أيضا الانغماس في الماء فإنه لا يسمى لابسا، وكذا ستر الرأس باليد. قوله: "إلا أحد" قال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه جواز استعمال أحد في الإثبات خلافا لمن خصه بضرورة الشعر، قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يستعمل في الإثبات إلا إن كان يعقبه نفي. قوله: "لا يجد نعلين" زاد معمر في روايته عن الزهري عن سالم في هذا الموضع زيادة حسنة تفيد ارتباط ذكر النعلين بما سبق وهي قوله: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين" واستدل بقوله: "فإن لم يجد" على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين

(3/402)


المقطوعين وهو قول الجمهور، وعن بعض الشافعية جوازه وكذا عند الحنفية. وقال ابن العربي: إن صارا كالنعلين جاز وإلا متى سترا من ظاهر الرجل شيئا لم يجز إلا للفاقد، والمراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده أو ترك بذل المالك له وعجزه عن الثمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة، ولو بيع بغبن لم يلزمه شراؤه أو وهب له لم يجب قبوله إلا إن أعير له. قوله: "فليلبس" ظاهر الأمر للوجوب، لكنه لما شرع للتسهيل لم يناسب التثقيل وإنما هو للرخصة. قوله: "وليقطعهما أسفل من الكعبين" في رواية ابن أبي ذئب الماضية في آخر كتاب العلم " حتى يكونا تحت الكعبين" والمراد كشف الكعبين في الإحرام وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ومؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه. وقال محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك، وقيل إن ذلك لا يعرف عند أهل اللغة، وقيل إنه لا يثبت عن محمد إن السبب في نقله عنه أن هشام بن عبيد الله الرازي سمعه يقول في مسألة المحرم إذا لم يجد النعلين حيث يقطع خفيه فأشار محمد بيده إلى موضع القطع، ونقله هشام إلى غسل الرجلين في الطهارة، وبهذا يتعقب على من نقل عن أبي حنيفة كابن بطال أنه قال: إن الكعب هو الشاخص في ظهر القدم، فإنه لا يلزم من نقل ذلك عن محمد بن الحسن -على تقدير صحته عنه- أن يكون قول أبي حنيفة. ونقل عن الأصمعي وهو قول الإمامية أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم، وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين، وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين، وعن الحنفية تجب، وتعقب بأنها لو وجبت لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة. واستدل به على اشتراط القطع، خلافا للمشهور عن أحمد فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع لإطلاق حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج بلفظ: "ومن لم يحد نعلين فليلبس خفين" وتعقب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد فينبغي أن يقول بها هنا، وأجاب الحنابلة بأشياء: منها دعوى النسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه وعن جابر بن زيد عن ابن عباس حديثه وقال: انظروا أي الحديثين قبل، ثم حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: حديث ابن عمر قبل لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات. وأجاب الشافعي عن هذا في "الأم" فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شك أو قالها فلم يقلها عنه بعض رواته انتهى. وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين، قال ابن الجوزي: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه انتهى. وهو تعليل مردود بل لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة، على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضا فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، وهو يرتاب أحد من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم، بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعا إلا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الأصيلي: إنه شيخ بصري لا يعرف كذا قال، وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمة. واستدل بعضهم بالقياس على السراويل كما سيأتي البحث فيه في حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى، وأجيب بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار. واحتج بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد

(3/403)


والله لا يحب الفساد، وأجيب بأن الفساد إنما يكون فيما نهى الشرع عنه لا فيما أذن فيه. وقال ابن الجوزي: يحمل الأمر بالقطع على الإباحة لا على الاشتراط عملا بالحديثين، ولا يخفى تكلفه. قال العلماء: والحكمة في منع المحرم من اللباس والطيب البعد عن الترفه، والاتصاف بصفة الخاشع، وليتذكر بالتجرد القدوم على ربه فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات. قوله: "ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس" قيل عدل عن طريقة ما تقدم ذكره إشارة إلى اشتراك الرجال والنساء في ذلك وفيه نظر، بل الظاهر أن نكتة العدول أن الذي يخالطه الزعفران والورس لا يجوز لبسه سواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه. والورس بفتح الواو وسكون الراء بعدها مهملة نبت أصفر طيب الريح يصبغ به، قال ابن العربي: ليس الورس بطيب، ولكنه نبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشم، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب. واستدل بقوله: "مسه" على تحريم ما صبغ كله أو بعضه ولو خفيت رائحته. قال مالك في الموطأ: إنما يكره لبس المصبغات لأنها تنفض. وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة لم يمنع. والحجة فيه حديث ابن عباس الآتي في الباب الذي تقدم بلفظ: "ولم ينه عن شيء من الثياب إلا المزعفرة التي تردع الجلد" وأما المغسول فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز خلافا لمالك، واستدل لهم بما روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث: "إلا أن يكون غسيلا" أخرجه يحيي بن عبد الحميد الحماني في مسنده عنه، وروى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أن يحيي بن معين أنكره على الحماني، فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزدي: قد كتبته عن أبي معاوية. وقام في الحال فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيي بن معين انتهى. وهي زيادة شاذة لأن أبا معاوية وإن كان متقنا لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال، قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله ولم يجيء بهذه الزيادة غيره. قلت: والحماني ضعيف وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال، واستدل به المهلب على منع استدامة الطيب وفيه نظر، واستنبط من منع لبس الثوب المزعفر منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران وهذا قول الشافعية، وعن المالكية خلاف. وقال الحنفية لا يحرم لأن المراد اللبس والتطيب والآكل لا يعد متطيبا.
" تنبيه ": زاد الثوري في روايته عن أيوب عن نافع في هذا الحديث: "ولا القباء" أخرجه عبد الرزاق عنه، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضا. والقباء بالقاف والموحدة معروف، ويطلق على كل ثوب مفرج، ومنع لبسه على المحرم متفق عليه، إلا أن أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كميه لا إذا ألقاه على كتفيه، ووافقه أبو ثور والخرقي من الحنابلة. وحكى الماوردي نظيره إن كان كمه ضيقا، فإن كان واسعا فلا.

(3/404)


22 - باب الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِي الْحَجِّ
1543, 1544 - حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس رضي الله عنهما "أن أسامة رضي الله عنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم

(3/404)


يلبي حتى رمى جمرة العقبة
[الحديث 1543
طرفه في: 1686]
[الحديث 1544
أطرافه في: 1670, 1685, 1687]
قوله: "باب الركوب والارتداف في الحج" أورد فيه حديث ابن عباس في إردافه صلى الله عليه وسلم أسامة ثم الفضل، وسيأتي الكلام عليه في "باب التلبية والتكبير غداة النحر" والقصة وإن كانت وردت في حالة الدفع من عرفات إلى منى لكن يلحق بها ما تضمنته الترجمة في جميع حالات الحج، قال ابن المنير: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم قصد بإردافه من ذكر ليحدث عنه بما يتفق له في تلك الحال من التشريع.

(3/405)


23 - باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأُزُرِ
وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَقَالَتْ لاَ تَلَثَّمْ وَلاَ تَتَبَرْقَعْ وَلاَ تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلاَ زَعْفَرَانٍ وَقَالَ جَابِرٌ لاَ أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الأَسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ
1545 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الأَرْدِيَةِ وَالأُزُرِ تُلْبَسُ إِلاَّ الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لأَنَّهُ قَلَّدَهَا ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ"
[الحديث 1545
طرفاه في: 1625, 1731]
قوله: "باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر" هذه الترجمة مغايرة للسابقة التي قبلها من حيث أن تلك معقودة لما لا يلبس من أجناس الثياب، وهذه لما يلبس من أنواعها. والأزر بضم الهمزة والزاي جمع إزار. قوله: "ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة" وصله سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: "كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة" إسناده صحيح. وأخرجه البيهقي من طريق ابن أبي مليكة "أن عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف وهي محرمة" وأجاز الجمهور لبس المعصفر للمحرم. وعن أبي حنيفة العصفر طيب وفيه الفدية، واحتج بأن عمر كان ينهي عن الثياب المصبغة، وتعقبه ابن المنذر بأن عمر كره ذلك لئلا يقتدي به الجاهل فيظن جواز لبس المورس والمزعفر، ثم ساق له قصة مع طلحة فيها بيان ذلك. قوله: "وقالت"

(3/405)


أي عائشة "لا تلثم" بمثناة واحدة وتشديد المثلثة وهو على حذف إحدى التاءين. وفي رواية أبي ذر تلتثم بسكون اللام وزيادة مثناة بعدها أي لا تغطي شفتها بثوب، وقد وصله البيهقي، وسقط من رواية الحموي من الأصل. وقال سعيد بن منصور "حدثنا هشيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها" وفي "مصنف ابن أبي شيبة": عن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن وعطاء قالا "لا تلبس المحرمة القفازين والسراويل ولا تبرقع ولا تلثم، وتلبس ما شاءت من الثياب إلا ثوبا ينفض عليها ورسا أو زعفرانا" وهذا يشبه ما ذكر في الأصل عن عائشة. قوله: "وقال جابر" أي ابن عبد الله الصحابي. قوله: "لا أرى المعصفر طيبا" أي تطيبا. وصله الشافعي ومسدد بلفظ: "لا تلبس المرأة ثياب الطيب ولا أرى المعصفر طيبا" وقد تقدم الخلاف في ذلك. قوله: "ولم تر عائشة بأسا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة" وصله البيهقي من طريق ابن باباه المكي "أن امرأة سألت عائشة: ما تلبس المرأة في إحرامها؟ قالت عائشة تلبس من خزها وبزها وأصباغها وحليها" وأما المورد والمراد ما صبغ على لون الورد فسيأتي موصولا في "باب طواف النساء" في آخر حديث عطاء عن عائشة، وأما الخف فوصله ابن أبي شيبة عن ابن عمر والقاسم بن محمد والحسن وغيرهم. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا تستر به عن نظر الرجال:، ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر" تعني جدتها قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا كما جاء عن عائشة قالت: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه" انتهى. وهذا الحديث أخرجه هو من طريق مجاهد عنها وفي إسناده ضعف. قوله: "وقال إبراهيم" أي النخعي. قوله: "لا بأس أن يبدل ثيابه" وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة كلاهما عن هشيم عن مغيرة وعبد الملك ويونس، أما مغيرة فعن إبراهيم، وأما عبد الملك فعن عطاء، وأما يونس فعن الحسن قالوا "يغير المحرم ثيابه ما شاء" لفظ سعيد. وفي رواية ابن أبي شيبة: "أنهم لم يروا بأسا أن يبدل المحرم ثيابه" قال سعيد "وحدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا إذا أتوا بئر ميمون اغتسلوا ولبسوا أحسن ثيابهم فدخلوا فيها مكة". قوله: "حدثنا فضيل" هو بالتصغير. قوله: "ترجل" أي سرح شعره. قوله: "وادهن" قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، وأجمعوا أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه، ففرقوا بين الطيب والزيت في هذا، فقياس كون المحرم ممنوعا من استعمال الطيب في رأسه أن يباح له استعمال الزيت في رأسه، وقد تقدمت الإشارة إلى الخلاف في ذلك قبل بأبواب. قوله: "التي تردع" بالمهملة أي تلطخ يقال ردع إذا التطخ، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب إذا لزق بجلده، قال ابن بطال وقد روي بالمعجمة من قولهم أردغت الأرض إذا كثرت مناقع المياه فيها، والردغ بالغين المعجمة الطين انتهى. ولم أر في شيء من الطرق ضبط هذه اللفظة بالغين المعجمة ولا تعرض لها عياض ولا ابن قرقول والله أعلم ووقع في الأصل تردع على الجلد قال ابن الجوزي: الصواب حذف "على" كذا قال، وإثباتها موجه أيضا كما تقدم. قوله: "فأصبح بذي الحليفة" أي وصل إليها نهارا ثم بات بها كما سيأتي صريحا في الباب الذي بعده من حديث أنس. قوله: "حتى استوى على البيداء أهل" تقدم نقل الخلاف

(3/406)


في ذلك وطريق الجمع بين المختلف فيه. قوله: "وذلك لخمس بقين من ذي القعدة" أخرج مسلم مثله من حديث عائشة، واحتج به ابن حزم في كتاب "حجة الوداع" له على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، قال: لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قول ابن عباس "لخمس" يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة بناء على ترك عد يوم الخروج، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا كما سيأتي قريبا من حديث أنس، فتبين أنه لم يكن يوم الجمعة فتعين أنه يوم الخميس. وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عد يوم الخروج أو على ترك عده ويكون ذو القعدة تسعا وعشرين يوما انتهى. ويؤيده ما رواه ابن سعد والحاكم في "الإكليل" أن خروجه من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وفيه رد على من منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر ناقصا فلا يصح الكلام فيقول مثلا لخمس إن بقين بزيادة أداة الشرط، وحجة المجيز أن الإطلاق يكون على الغالب ومقتضى قوله أنه دخل مكة لأربع خلون من ذي الحجة أن يكون دخلها صبح يوم الأحد وبه صرح الواقدي. قوله: "والطيب والثياب" أي كذلك، وقوله: "الحجون" بفتح المهملة بعدها جيم مضمومة هو الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة على يمين المصعد وهناك مقبرة أهل مكة. وسيأتي بقية شرح ما اشتمل عليه حديث ابن عباس هذا مفرقا في الأبواب.

(3/407)


24 - باب مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ. قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1546 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ"
1547 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ"
قوله: "باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح" يعني إذا كان حجه من المدينة، والمراد من هذه الترجمة مشروعية المبيت بالقرب من البلد التي يسافر منها ليكون أمكن من التوصل إلى مهماته التي ينساها مثلا، قال ابن بطال: ليس ذلك من سنن الحج، إنما هو من جهة الرفق ليلحق به من تأخر عنه، قال ابن المنير: لعله أراد أن يدفع توهم من يتوهم أن الإقامة بالميقات وتأخير الإحرام شبيه بمن تعداه بغير إحرام فبين أن ذلك غير لازم حتى ينفصل عنه. قوله: "قاله ابن عمر" يشير إلى حديثه المتقدم في "باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة". قوله: "حدثني ابن المنكدر" كذا رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه، وخالفهم عيسى بن يونس فقال: "عن ابن جريج عن الزهري عن أنس" وهي رواية شاذة. قوله: "وبذي الحليفة ركعتين" فيه مشروعية قصر الصلاة لمن خرج من بيوت البلد وبات خارجا عنها ولو لم يستمر سفره، واحتج به أهل الظاهر في قصر الصلاة في السفر القصير، ولا حجة فيه لأنه كابتداء سفر لا المنتهى، وقد تقدم البحث في ذلك في أبواب قصر الصلاة، وتقدم الخلاف في ابتداء =

12.

: مجلد 12. فتح الباري
المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 = إهلاله قريبا. قوله في الرواية الثانية "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "وأحسبه" الشك فيه من أبي قلابة، وقد تقدم في طريق ابن المنكدر التي قبلها بغير شك، وسيأتي بعد بابين من طريق أخرى عن أيوب بأتم من هذا السياق.

(3/408)


25 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلاَلِ
1548 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا"
قوله: "باب رفع الصوت بالإهلال" قال الطبري: الإهلال هنا رفع الصوت بالتلبية وكل رافع صوته بشيء فهو مهل به، وأما أهل القوم الهلال فأرى أنه من هذا لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته انتهى. وسيأتي اختيار البخاري خلاف ذلك بعد أبواب. قوله: "وسمعتهم يصرخون بهما جميعا" أي بالحج والعمرة، ومراد أنس بذلك من نوى منهم القران، ويحتمل أن يكون على سبيل التوزيع، أي بعضهم بالحج وبعضهم بالعمرة قاله الكرماني. ويشكل عليه قوله في الطريق الأخرى "يقول لبيك بحجة وعمرة معا" وسيأتي إنكار ابن عمر على أنس ذلك، سيأتي ما فيه في "باب التمتع والقران" وفيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية، وقد روى مالك في "الموطأ" وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم من طريق خلاد بن السائب عن أبيه مرفوعا: "جاءني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي يرفعون أصواتهم بالإهلال" ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف على التابعي في صحابيه. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال: "كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين" وأخرج أيضا بإسناد صحيح من طريق المطلب بن عبد الله قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم" واختلف الرواة عن مالك فقال ابن القاسم عنه: لا يرفع صوته بالتلبية إلا في المسجد الحرام ومسجد منى. وقال في الموطأ: لا يرفع صوته بالتلبية في مسجد الجماعات، ولم يستثن شيئا. ووجه الاستثناء أن المسجد الحرام جعل للحاج والمعتمر وغيرهما وكان الملبي إنما يقصد إليه فكان ذلك وجه الخصوصية، وكذلك مسجد منى.

(3/408)


26 - باب التَّلْبِيَةِ
1549 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ"
1550 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " إِنِّي لاَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ" . تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ

(3/408)


27 - باب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإِهْلاَلِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ
1551 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ قَالَ وَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا

(3/411)


وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ
قوله: "باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال" سقط من رواية المستملي لفظ التحميد، والمراد بالإهلال هنا التلبية، وقوله: "عند الركوب" أي بعد الاستواء على الدابة لا حال وضع الرجل مثلا في الركاب، وهذا الحكم - وهو استحباب التسبيح وما ذكر معه قبل الإهلال - قل من تعرض لذكره مع ثبوته، وقيل أراد المصنف الرد على من زعم أنه يكتفي بالتسبيح وغيره عن التلبية، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أتى بالتسبيح وغيره ثم لم يكتف به حتى لبى. ثم أورد المصنف حديث أنس وهو مشتمل على أحكام، فتقدم منها ما يتعلق بقصر الصلاة وبالإحرام وسيأتي ما يتعلق بالقران قريبا. قوله: "ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب" ظاهره أن إهلاله كان بعد صلاة الصبح، لكن عند مسلم من طريق أبي حسان عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج" وللنسائي من طريق الحسن عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالبيداء ثم ركب" ويجمع بينهما بأنه صلاها آخر ذي الحليفة وأول البيداء والله أعلم. قوله: "ثم أهل بحج وعمرة" يأتي الكلام عليه في "باب التمتع والقران" قريبا إن شاء الله تعالى. قوله: "حتى كان يوم التروية" بضم يوم لأن كان تامة. قوله: "ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنات بيده قياما، وذبح بالمدينة كبشين أملحين. قال أبو عبد الله" وهو المصنف "قال بعضهم: هذا عن أيوب عن رجل عن أنس" هكذا وقع عند الكشميهني، والبعض المبهم هنا ليس هو إسماعيل بن علية كما زعم بعضهم فقد أخرجه المصنف عن مسدد عنه في "باب نحر البدن قائمة" بدون هذه الزيادة، ويحتمل أن يكون حماد بن سلمة، فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أيوب لكن صرح بذكر أبي قلابة، ووهيب أيضا ثقة حجة فقد جعله من رواية أيوب عن أبي قلابة عن أنس فعرف أنه المبهم، وقد تابعه عبد الوهاب الثقفي على حديث ذبح الكبشين الأملحين عن أيوب عن أبي قلابة كما سيأتي في الأضاحي إن شاء الله تعالى.

(3/412)


28 - بَاب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً
1552 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً"
قوله: "باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة" أورد فيه حديث ابن عمر مختصرا وقد تقدم الكلام عليه قريبا، ورواية صالح بن كيسان عن نافع من الأقران، وقد سمع ابن جريج من نافع كثيرا وروى هذا عنه بواسطة، وهو دال على قلة تدليسه والله أعلم.

(3/412)


29 - باب الإِهْلاَلِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
1553 - وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ رَكِبَ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ وَزَعَمَ أَنَّ

(3/412)


30 - باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي
1555 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي"
[الحديث 1555 – طرفاه في: 3355, 5913]
قوله: "باب التلبية إذا انحدر في الوادي" أورد فيه حديث ابن عباس "أما موسى كأني أنظر إليه إذا انحدر إلى الوادي يلبي" وفيه قصة وسيأتي بها الإسناد بأتم من هذا السياق في كتاب اللباس. وقوله: "أما موسى كأني أنظر إليه" قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته لأنه لم يأت أثر ولا خبر أن موسى حي وأنه سيحج، إنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر "ليهلن ابن مريم بفج الروحاء" انتهى، وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، فسيأتي في اللباس بالإسناد المذكور بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال إن الراوي غلط فزاده؟ وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أبي العالية عن ابن عباس بلفظ: "كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا إصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي وله جؤار إلى الله بالتلبية، قاله لما مر بوادي الأزرق" واستفيد منه تسمية الوادي، وهو خلف أمج بينه وبين مكة ميل واحد، وأمج بفتح الهمزة والميم وبالجيم قرية ذات مزارع هناك، وفي هذا الحديث أيضا ذكر يونس، أفيقال إن الراوي الآخر غلط فزاد يونس؟ وقد اختلف أهل التحقيق في معني قوله: "كأني أنظر" على أوجه: الأول هو على الحقيقة والأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون فلا مانع أن يحجوا في هذا الحال كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى قائما في قبره يصلي، قال القرطبي: حببت إليهم العبادة فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} الآية، لكن تمام هذا التوجيه أن يقال إن المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له صلى الله عليه وسلم في الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهي في القبور، قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا فيرى في اليقظة كما يرى في النوم. ثانيها كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا كيف تعبدوا وكيف حجوا وكيف لبوا، ولهذا قال: "كأني". ثالثها كأنه أخبر بالوحي عن ذلك فلشدة قطعه به قال: "كأني أنظر إليه". رابعها كأنها رؤية منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر

(3/414)


ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي، وهذا هو المعتمد عندي لما سيأتي في أحاديث الأنبياء من التصريح بنحو ذلك في أحاديث أخر، وكون ذلك كان في المنام والذي قبله أيضا ليس ببعيد والله أعلم. قال ابن المنير في الحاشية: توهيم المهلب للراوي وهم منه، وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض إنما ثبت أنه سينزل. قلت أراد المهلب بأن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق فقال: "كأني أنظر إليه" ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلن ابن مريم بالحج" والله أعلم. قوله: "إذ انحدر" كذا في الأصول وحكى عياض أن بعض العلماء أنكر إثبات الألف وغلط رواته قال: وهو غلط منه إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا لأنه وصفه حالة انحداره فيما مضى. وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود.
" تنبيه " لم يصرح أحد ممن روي هذا الحديث عن ابن عون بذكر النبي صلى الله عليه وسلم قاله الإسماعيلي، ولا شك أنه مراد لأن ذلك لا يقوله ابن عباس من قبل نفسه ولا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

(3/415)


31 - باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ
أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلاَلَ كُلُّهُ مِنْ الظُّهُورِ وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ: خَرَجَ مِنْ السَّحَابِ
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهُوَ مِنْ اسْتِهْلاَلِ الصَّبِيِّ
1556 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ" قَالَتْ فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا"
قوله: "باب كيف تهل الحائض والنفساء" أي كيف تحرم. قوله: "أهل: تكلم به إلخ" هكذا في رواية المستملي والكشميهني. وليس هذا مخالفا لما قدمناه من أن أصل الإهلال رفع الصوت لأن رفع الصوت يقع بذكر الشيء عند ظهوره. قوله: " {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وهو من استهلال الصبي" أي أنه من رفع الصوت بذلك فاستهل الصبي أي رفع صوته بالصياح إذا خرج من بطن أمه، وأهل به لغير الله أي رفع الصوت به عند الذبح للأصنام، ومنه استهلال المطر والدمع وهو صوت وقعه بالأرض ومن لازم ذلك الظهور غالبا. قوله: "فأهللنا بعمرة" قال عياض: اختلفت الروايات في إحرام عائشة اختلافا كثيرا. قلت: وسيأتي بسط القول فيه بعد بابين في "باب التمتع والقران". قوله: "فقال انقضي رأسك" هو بالقاف وبالمعجمة. قوله: "وامتشطي وأهلي بالحج " وهو شاهد الترجمة. وقد سبق في كتاب الحيض بلفظ: "وافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" وسيأتي بقية الكلام

(3/415)


عليه بعد هذا. قوله: "ثم طافوا طوافا آخر" كذا للكشميهني والجرجاني، ولغيرهما: "طوافا واحدا" والأول هو الصواب قاله عياض، قال الخطابي: استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم بالامتشاط، وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة، قال: وهذا لا يشاكل القصة. وقيل إن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة، قال: وهذا لا يعلم وجهه. وقيل كانت مضطرة إلى ذلك. قال: ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لتهل بالحج لا سيما إن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر، وأما الامتشاط فلعل المراد به تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان.

(3/416)


32 - باب مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1557 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ" وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ
[الحديث 1557 – أطرافه في: 1568, 1570, 1785, 2506, 4352, 7230, 7367]
1558 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلاَلُ الْهُذَلِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأَصْفَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ قَالَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لاَحْلَلْتُ" وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ "قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ قَالَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ"
1559 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ أَهْلَلْتُ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ قُلْتُ لاَ فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ" فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي فَقَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَالَ اللَّهُ [196 البقرة]: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ"
[الحديث 1559 – أطرافه في: 1565, 1724, 1795, 4346, 4397]
قوله: "باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم" أي فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فجاز الإحرام على الإبهام، لكن لا يلزم منه جواز تعليقه إلا على فعل من يتحقق أنه يعرفه كما وقع في حديثي الباب، وأما مطلق الإحرام على الإبهام فهو جائز ثم يصرفه المحرم لما شاء لكونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك وهذا قول الجمهور، وعن المالكية

(3/416)


لا يصح الإحرام على الإبهام وهو قول الكوفيين، قال ابن المنير: وكأنه مذهب البخاري لأنه أشار بالترجمة إلى أن ذلك خاص بذلك الزمن لأن عليا وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام فأحالاه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الآن فقد استقرت الأحكام وعرفت مراتب الإحرام فلا يصح ذلك والله أعلم. وكأنه أخذ الإشارة من تقييده بزمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "قاله ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى ما أخرجه موصولا في "باب بعث علي إلى اليمن" من كتاب المغازي من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر فذكر فيه حديثا "فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن حاجا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بم أهللت فإن معنا أهلك، قال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم": الحديث، إنما قال له "فإن معنا أهلك" لأن فاطمة كانت قد تمتعت بالعمرة وأحلت كما بينه مسلم من حديث جابر. قوله: "وزاد محمد بن بكر عن ابن جريج" يعني عن عطاء عن جابر، ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر وقد وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وأبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء كلاهما عن محمد بن بكر به، وسيأتي معلقا أيضا في المغازي من هذا الوجه مقرونا بطريق مكي بن إبراهيم أيضا هناك أتم، والمذكور في كل من الموضعين قطعة من الحديث، وأورد بقيته بهذين السندين معلقا وموصولا في كتاب الاعتصام، والمراد بقوله في طريق مكي "وذكر قول سراقة" أي سؤاله "أعمرتنا لعامنا هذا أو للأبد قال بل للأبد" وسيأتي موصولا في أبواب العمرة من وجه آخر عن عطاء عن جابر. قوله: "وامكث حراما كما أنت" في حديث ابن عمر المشار إليه قال: "فأمسك فإن معنا هديا" قوله: "حدثنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث بن سعيد، ومروان الأصفر يقال اسم أبيه خاقان وهو أبو خلف البصري، وروي أيضا عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما من الصحابة، وليس له في البخاري عن أنس سوى هذا الحديث وهو من أفراد الصحيح قال الترمذي حسن غريب. وقال الدارقطني في "الأفراد" لا أعلم رواه عن سليم بن حيان غير عبد الصمد بن عبد الوارث. قوله: "قدم علي من اليمن" سيأتي في المغازي ذكر سبب بعث علي إلى اليمن وأن ذلك قبل حجة الوداع وبيان ذلك من حديث البراء بن عازب ومن حديث بريدة. قوله: "عن طارق بن شهاب" في رواية أيوب بن عائذ الآتية في المغازي عن قيس بن مسلم: "سمعت طارق بن شهاب". قوله: "عن أبي موسى" هو الأشعري. وفي رواية أيوب المذكورة "حدثني أبو موسى". قوله: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن" سيأتي تحرير وقت ذلك وسببه في كتاب المغازي. قوله: "وهو بالبطحاء" زاد في رواية شعبة عن قيس الآتية في "باب متى يحل المعتمر" منيخ أي نازل بها وذلك في ابتداء قدومه. قوله: "بم أهللت" في رواية شعبة "فقال أحججت؟ قلت نعم قال بم أهللت". قوله: "قلت أهللت" في رواية شعبة "قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحسنت". قوله: "فأمرني فطفت" في رواية شعبة "طف بالبيت وبالصفا والمروة". قوله: "فأتيت امرأة من قومي" في رواية شعبة "امرأة من قيس" والمبادر إلى الذهن من هذا الإطلاق أنها من قيس عيلان وليس بينهم وبين الأشعريين نسبة لكن في رواية أيوب بن عائذ امرأة من نساء بني قيس وظهر لي من ذلك أن المراد بقيس قيس بن سليم والد أبي موسى الأشعري وأن المرأة زوج بعض إخوته، وكان لأبي موسى من الإخوة أبو رهم وأبو بردة قيل ومحمد. قوله: "أو غسلت رأسي" كذا فيه بالشك، وأخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بلفظ: "وغسلت رأسي" بواو العطف. قوله: "فقدم عمر" ظاهر سياقه أن قدوم عمر كان في تلك الحجة وليس كذلك بل البخاري اختصره، وقد أخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي أيضا بعد قوله

(3/417)


"وغسلت رأسي: فكنت أفتي الناس بذاك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر، فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك" فذكر القصة وفيه: "فلما قدم قلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك "؟ فذكر جوابه. وقد اختصره المصنف أيضا من طريق شعبة لكنه أبين من هذا ولفظه: "فكنت أفتي به حتى كانت خلافة عمر فقال: إن أخذنا" الحديث، ولمسلم أيضا من طريق إبراهيم بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل رويدك ببعض فتياك الحديث. وفي هذه الرواية تبيين عمر العلة التي لأجلها كره التمتع وهي قوله: "قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن - أي بالنساء - ثم يروحوا في الحج تقطر رءوسهم" انتهى، وكان من رأي عمر عدم الترفه للحج بكل طريق، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء لئلا يستمر الميل إلى ذلك بخلاف من بعد عهده به، ومن يفطم ينفطم. وقد أخرج مسلم من حديث جابر أن عمر قال: "افصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم". وفي رواية: "إن الله يحل لرسوله ما شاء، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله". قوله: "أن نأخذ بكتاب الله إلخ" محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة أن كتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا دالة على ذلك لأنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله، لكن الجواب عن ذلك ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ولولا أن معي الهدي لأحللت" فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر في ذلك أنه منع منه سدا للذريعة. وقال المازري: قيل إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة، وقيل العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه، وعلى الثاني إنما نهى عنها ترغيبا في الإفراد الذي هو أفضل لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها. وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ ولهذا كان يضرب الناس عليها كما رواه مسلم بناء على معتقده أن الفسخ كان خاصا بتلك السنة، قال النووي: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد كما يظهر من كلامه، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة ونفي الاختلاف في الأفضل كما سيأتي في الباب الذي بعده، ويمكن أن يتمسك من يقول بأنه إنما نهي عن الفسخ بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبا من مسلم: "أن الله يحل لرسوله ما شاء" والله أعلم. وفي قصة أبي موسى وعلي دلالة على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير مع اختلاف آخر الحديثين في التحلل، وذلك أن أبا موسى لم يكن منه هدي فصار له حكم النبي صلى الله عليه وسلم، لو لم يكن معه هدي وقد قال: "لولا الهدي لأحللت" أي وفسخت الحج إلى العمرة كما فعله أصحابه بأمره كما سيأتي، وأما علي فكان معه هدي فلذلك أمر بالبقاء على إحرامه وصار مثله قارنا. قال النووي: هذا هو الصواب، وقد تأوله الخطابي وعياض بتأويلين غير مرضيين انتهى. فأما تأويل الخطابي فإنه قال: فعل أبي موسى يخالف فعل علي، وكأنه أراد بقوله أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم أي كما يبينه لي ويعينه لي من أنواع ما يحرم به فأمره أن يحل بعمل عمرة لأنه لم يكن معه هدي، وأما تأويل عياض فقال: المراد بقوله: "فكنت أفتي الناس بالمتعة" أي بفسخ الحج إلى العمرة، والحامل لهما على ذلك اعتقادهما أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا مع قوله: " لولا أن معي الهدي لأحللت" أي فسخت الحج وجعلته عمرة فلهذا أمر أبا موسى بالتحلل لأنه لم يكن معه هدي، بخلاف علي. قال عياض: وجمهور الأئمة على أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بالصحابة انتهى. وقال ابن المنير في الحاشية: ظاهر كلام عمر التفريق بين ما دل عليه الكتاب

(3/418)


ودلت عليه السنة، وهذا التأويل يقتضي أنهما يرجعان إلى معنى واحد، ثم أجاب بأنه لعله أراد إبطال وهم من توهم أنه خالف السنة حيث منع من الفسخ فبين أن الكتاب والسنة متوافقان على الأمر بالإتمام وأن الفسخ كان خاصا بتلك السنة لإبطال اعتقاد الجاهلية أن العمرة لا تصح في أشهر الحج انتهى. وأما إذا قلنا كان قارنا على ما هو الصحيح المختار فالمعتمد ما ذكر النووي والله أعلم. وسيأتي بيان اختلاف الصحابة في كيفية التمتع في "باب التمتع والقران" إن شاء الله تعالى. واستدل به على جواز الإحرام المبهم وأن المحرم به يصرفه لما شاء وهو قول الشافعي وأصحاب الحديث، ومحل ذلك ما إذا كان الوقت قابلا بناء على أن الحج لا ينعقد في غير أشهره كما سيأتي في الباب الذي يليه.

(3/419)


باب قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
...
33 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [197 البقرة]: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} , [189 البقرة]: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لاَ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ"
وَكَرِهَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ
1560 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِي الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ قَالَتْ فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: " مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلاَ" قَالَتْ فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَتْ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ وَكَانَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ قُلْتُ سَمِعْتُ قَوْلَكَ لِأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ قَالَ وَمَا شَأْنُكِ قُلْتُ لاَ أُصَلِّي قَالَ فَلاَ يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا" قَالَتْ فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ قَالَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي النَّفْرِ الْآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ وَنَزَلْنَا مَعَهُ فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: "اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنْ الْحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا ثُمَّ ائْتِيَا هَا هُنَا فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِي" قَالَتْ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ وَفَرَغْتُ مِنْ الطَّوَافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ هَلْ فَرَغْتُمْ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ, فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ" ضَيْرِ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا وَيُقَالُ ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا
قوله: "باب قول الله تعالى الحج أشهر معلومات إلى قوله في الحج، وقوله: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ

(3/419)


لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} قال العلماء: تقدير قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي الحج حج أشهر معلومات أو أشهر الحج أو وقت الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال الواحدي: يمكن حمله على غير إضمار وهو أن الأشهر جعلت نفس الحج اتساعا لكون الحج يقع فيها كقولهم ليل نائم. وقال الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": المراد وقت إحرام الحج لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أن المراد وقت الإحرام به، وأجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة أولها شوال، لكن اختلفوا هل هي ثلاثة بكمالها وهو قول مالك ونقل عن "الإملاء" للشافعي، أو شهران وبعض الثالث وهو قول الباقين، ثم اختلفوا فقال ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون: عشر ليال من ذي الحجة، وهل يدخل يوم النحر أو لا؟ قال أبو حنيفة وأحمد: نعم. وقال الشافعي في المشهور المصحح عنه: لا. وقال بعض أتباعه: تسع من ذي الحجة ولا يصح في يوم النحر ولا في ليلته وهو شاذ. واختلف العلماء أيضا في اعتبار هذه الأشهر هل هو على الشرط أو الاستحباب؟ فقال ابن عمر وابن عباس وجابر وغيرهم من الصحابة والتابعين: هو شرط فلا يصح الإحرام بالحج إلا فيها، وهو قول الشافعي، وسيأتي استدلال ابن عباس لذلك في هذا الباب، واستدل بعضهم بالقياس على الوقوف وبالقياس على إحرام الصلاة وليس بواضح لأن الصحيح عند الشافعية أن من أحرم بالحج في غير أشهره انقلب عمرة تجزئه عن عمرة الفرض، وأما الصلاة فلو أحرم قبل الوقت انقلب بشرط أن يكون ظانا دخول الوقت لا عالما فاختلفا من وجهين. قوله: "وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أشهر الحج إلخ" وصله الطبري والدارقطني من طريق ورقاء عن عبد الله بن دينار عنه قال: "الحج أشهر معلومات، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" وروى البيهقي من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثله والإسنادان صحيحان، وأما ما رواه مالك في "الموطأ" عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "من اعتمر في أشهر الحج -شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة- قبل الحج فقد استمتع" فلعله تجوز في إطلاق ذي الحجة جمعا بين الروايتين والله أعلم. قوله: "وقال ابن عباس إلخ" وصله ابن خزيمة والحاكم والدارقطني من طريق الحاكم عن مقسم عنه قال: "لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج" ورواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس قال: "لا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج". قوله: "وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خراسان أو كرمان" وصله سعيد بن منصور "حدثنا هشيم حدثنا يونس بن عبيد أخبرنا الحسن هو البصري أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه". وقال عبد الرزاق "أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من خراسان، فقدم على عثمان فلامه وقال: غزوت وهان عليك نسكك" وروى أحمد بن سيار في "تاريخ مرو" من طريق داود بن أبي هند قال: "لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرما، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع". وهذه أسانيد يقوي بعضها بعضا. وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق محمد بن إسحاق أن ذلك كان في السنة التي قتل فيها عثمان، ومناسبة هذا الأثر للذي قبله أن بين خراسان ومكة أكثر من مسافة أشهر الحج، فيستلزم أن يكون أحرم في غير أشهر الحج فكره ذلك عثمان، وإلا فظاهره يتعلق بكراهة الإحرام قبل الميقات فيكون من متعلق الميقات المكاني لا الزماني. حديث عائشة في قصة عمرتها، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الباب الذي بعده، وشاهد الترجمة منه قولها

(3/420)


"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج" فإن هذا كله يدل على أن ذلك كان مشهورا عندهم معلوما، وقوله فيه: "وحرم الحج" بضم الحاء المهملة والراء أي أزمنته وأمكنته وحالاته، وروي بفتح الراء وهو جمع حرمة أي ممنوعات الحج، وقوله: "يا هنتاه" بفتح الهاء والنون -وقد تسكن النون- بعدها مثناة وآخرها هاء ساكنة كناية عن شيء لا يكره باسمه تقول في النداء للمذكر يا هن وقد تزاد الهاء في آخره للسكت فتقول يا هنه، وأن تشبع الحركة في النون فتقول يا هناه وتزاد في جميع ذلك للمؤنث مثناة. وقال بعضهم الألف والهاء في آخره كهما في الندبة، وقوله: "قلت لا أصلي" كناية عن أنها حاضت، قال ابن المنير: كنت عن الحيض بالحكم الخاص به أدبا منها، وقد ظهر أثر ذلك في بناتها المؤمنات فكلهن يكنين عن الحيض بحرمان الصلاة أو غير ذلك. وقوله: "فلا يضرك" في رواية الكشميهني: "فلا يضيرك" بكسر الضاد وتخفف التحتانية من الضير، وقوله: "النفر الثاني" هو رابع أيام منى، وقوله: "فإني انظر كما" في رواية الكشميهني: "أنتظركما" بزيادة مثناة، وقوله: "حتى إذا فرغت" أي من الاعتمار وفرغت من الطواف وحذف الأول للعلم به.

(3/421)


باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي
...
34 - باب التَّمَتُّعِ وَالإِقْرَانِ وَالإِفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ
1561 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَحِضْتُ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ قَالَ وَمَا طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا قَالَتْ صَفِيَّةُ مَا أُرَانِي إِلاَّ حَابِسَتَهُمْ قَالَ عَقْرَى حَلْقَى أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَتْ قُلْتُ بَلَى قَالَ: "لاَ بَأْسَ انْفِرِي" قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا"
1562 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ"
1563 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ "شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ أَهَلَّ

(3/421)


بِهِمَا لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ"
[الحديث 1563 – طرفه في: 1569]
1564 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الأَثَرْ وَانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ حِلٌّ كُلُّهُ"
1565 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ"
1566 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ"
[الحديث 1566 – أطرافه في: 1697, 1725, 4398, 5916]
1567 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ "تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَمَرَنِي فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلاً يَقُولُ لِي حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي أَقِمْ عِنْدِي فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي قَالَ شُعْبَةُ فَقُلْتُ لِمَ فَقَالَ لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُ"
[الحديث 1567 – طرفه في: 1688]
1568 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ قَالَ "قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَقَالَ لِي أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَصِيرُ الْآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ فَقَالَ "حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ لَهُمْ: " أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلاَلاً حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً فَقَالُوا كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ فَقَالَ افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ فَلَوْلاَ أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ وَلَكِنْ لاَ يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَفَعَلُوا"

(3/422)


1569 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال "اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة فقال علي ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا"
قوله: "باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي" أما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضا، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع أيضا القران لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع فسخ الحج أيضا إلى العمرة انتهى. وأما القران فوقع في رواية أبي ذر "الإقران" بالألف وهو خطأ من حيث اللغة كما قاله عياض وغيره، وصورته الإهلال بالحج والعمرة معا، وهذا لا خلاف في جوازه. أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه وهذا مختلف فيه. وأما الإفراد فالإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع وفي غير أشهره أيضا عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء. وأما فسخ الحج فالإحرام بالحج ثم يتحلل منه بعمل عمرة فيصير متمتعا وفي جوازه اختلاف آخر، وظاهر تصرف المصنف إجازته، فإن تقدير الترجمة باب مشروعية التمتع إلخ، ويحتمل أن يكون التقدير باب حكم التمتع إلخ فلا يكون فيه دلالة على أنه يجيزه. قوله: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" تقدم في الباب قبله بيان الوقت الذي خرجوا فيه. قوله: "ولا نرى إلا أنه الحج"، ولأبي الأسود عن عروة عنها كما سيأتي "مهلين بالحج" ولمسلم من طريق القاسم عنها "لا نذكر إلا الحج" وله من هذا الوجه "لبينا بالحج" وظاهره أن عائشة من غيرها من الصحابة كانوا أولا محرمين بالحج، لكن في رواية عروة عنها هنا "فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج" فيحمل الأول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فخرجوا لا يعرفون إلا الحج، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج وسيأتي في "باب الاعتمار بعد الحج" من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها "فقال: من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل" ولأحمد من طريق ابن شهاب عن عروة "فقال. من شاء فليهل بعمرة، ومن شاء فليهل بحج" ولهذه النكتة أورد المصنف في الباب حديث ابن عباس "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور" فأشار إلى الجمع بين ما اختلف عن عائشة في ذلك، وأما عائشة نفسها فسيأتي في أبواب العمرة وفي حجة الوداع من المغازي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها في أثناء هذا الحديث قالت: "وكنت ممن أهل بعمرة" وسبق في كتاب الحيض من طريق ابن شهاب نحوه عن عروة، زاد أحمد من وجه آخر عن الزهري "ولم أسق هديا" فادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعروة عنها أنها أهلت بالحج مفردا وتعقب بأن قول عروة عنها إنها أهلت بعمرة صريح، وأما قول الأسود وغيره عنها "لا نرى إلا الحج" فليس صريحا في إهلالها بحج مفرد فالجمع بينهما ما تقدم من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابي

(3/423)


كما أخرجه مسلم عنه، وكذا رواه طاوس ومجاهد عن عائشة ويحتمل في الجمع أيضا أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردا كما فعل غيرها من الصحابة، وعلى هذا ينزل حديث الأسود ومن تبعه "ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة" وعلى هذا يتنزل حديث عروة "ثم لما دخلت مكة وهي حائض فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج" على ما سيأتي من الاختلاف في ذلك والله أعلم. قوله: "فلما قدمنا تطوفنا بالبيت" أي غيرها لقولها بعده "فلم أطف" فإنه تبين به أن قولها "تطوفنا" من العام الذي أريد به الخاص. قوله: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل" أي من الحج بعمل العمرة، وهذا هو فسخ الحج المترجم به. قوله: "ونساؤه لم يسقن" أي الهدي. قوله: "فأحللن" أي وهي منهن لكن منعها من التحلل كونها حاضت ليلة دخولهم مكة، وقد مضى في الباب قبله بيان ذلك وأنها بكت وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها "كوني في حجك" فظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تجعل عمرتها حجا ولهذا قالت: "يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج" فأعمرها لأجل ذلك من التنعيم. وقال مالك ليس العمل على حديث عروة قديما ولا حديثا، قال ابن عبد البر: يريد ليس عليه العمل في رفض العمرة وجعلها حجا بخلاف جعل الحج عمرة فإنه وقع للصحابة. واختلف في جوازه من بعدهم لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معني قوله: "ارفضي عمرتك" أي اتركي التحلل منها وأدخلي عليها الحج فتصير قارنة، ويؤيده قوله في رواية لمسلم: "وأمسكي عن العمرة" أي عن أعمالها، وإنما قالت عائشة "وأرجع بحج" لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين، واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها "وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة" أخرجه أحمد، وهذا يقوي قول الكوفيين إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك بقولها في الرواية المتقدمة "دعي عمرتك" في رواية: "ارفضي عمرتك" ونحو ذلك. واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما فعلت عائشة، لكن في رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر "أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كانت بسرف حاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أهلي بالحج، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال: قد حللت من حجك وعمرتك، قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال فأعمرها من التنعيم" ولمسلم من طريق طاوس عنها "فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم طوافك يسعك لحجك وعمرتك" فهذا صريح في أنها كانت قارنة لقوله: "قد حللت من حجك وعمرتك" وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة. وقد وقع في رواية لمسلم: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه" وسيأتي الكلام على قصة صفية في أواخر الحج وعلى ما في قصة اعتمار عائشة من الفوائد في أبواب العمرة إن شاء الله تعالى. قوله: "وأرجع أنا بحجة" في رواية الكشميهني: "وأرجع لي بحجة". قوله: "فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة لم يحلوا حتى كان يوم النحر" كذا فيه هنا، وسيأتي في حجة الوداع بلفظ: "فلم يحلوا" بزيادة فاء وهو الوجه. قوله: "عن الحكم" هو ابن عتيبة بالمثناة والموحدة مصغرا الفقيه الكوفي، وعلي بن الحسين هو زين العابدين. قوله: "شهدت عثمان وعليا" سيأتي في آخر الباب من طريق سعيد بن المسيب أن ذلك كان بعسفان. قوله: "وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما" أي بين الحج والعمرة "فلما رأى علي" في رواية سعيد بن المسيب "فقال علي ما تريد إلى أن

(3/424)


تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية الكشميهني: "إلا أن تنهى" بحرف الاستثناء، زاد مسلم من هذا الوجه "فقال عثمان دعنا عنك. قال: إني لا أستطيع أن أدعك" وقوله: "وأن يجمع بينهما" يحتمل أن تكون الواو عاطفة فيكون نهي عن التمتع والقران معا، ويحتمل أن يكون عطفا تفسيريا وهو على ما تقدم أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعا، ووجهه أن القارن يتمتع بترك النصب بالسفر مرتين فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانا أو إيقاعا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرة على الحج، وقد رواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب بلفظ: "نهى عثمان عن التمتع" وزاد فيه: "فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان، فقال له علي: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟ قال: بلى" وله من وجه آخر "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا" زاد مسلم من طريق عبد الله بن شقيق عن عثمان قال: "أجل، ولكنا كنا خائفين" قال النووي: لعله أشار إلى عمرة القضية سنة سبع، لكن لم يكن في تلك السنة حقيقة تمتع إنما كان عمرة وحدها. قلت: هي رواية شاذة، فقد روى الحديث مروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وهما أعلم من عبد الله بن شقيق فلم يقولا ذلك، والتمتع إنما كان في حجة الوداع وقد قال ابن مسعود كما ثبت عنه في الصحيحين "كنا آمن ما يكون الناس" وقال القرطبي: قوله: "خائفين" أي من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتع، كذا قال؛ وهو جمع حسن ولكن لا يخفى بعده. ويحتمل أن يكون عثمان أشار إلى أن الأصل في اختياره صلى الله عليه وسلم فسخ1 إلى العمرة في حجة الوداع دفع اعتقاد قريش منع العمرة في أشهر الحج، وكان ابتداء ذلك بالحديبية لأن إحرامهم بالعمرة كان في ذي القعدة وهو من أشهر الحج، وهناك يصح إطلاق كونهم خائفين، أي من وقوع القتال بينهم وبين المشركين، وكان المشركون صدوهم عن الوصول إلى البيت فتحللوا من عمرتهم، وكانت أول عمرة وقعت في أشهر الحج، ثم جاءت عمرة القضية في ذي القعدة أيضا، ثم أراد صلى الله عليه وسلم تأكيد ذلك بالمبالغة فيه حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة. قوله: "ما كنت لأدع إلخ" زاد النسائي والإسماعيلي: "فقال عثمان: تراني أنهى الناس وأنت تفعله؟ فقال: ما كنت أدع". وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين، والبيان بالفعل مع القول، وجواز الاستنباط من النص لأن عثمان لم يخف عليه أن التمتع والقران جائزان، وإنما نهى عنهما ليعمل فالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع جواز ذلك، وكل منهما مجتهد مأجور.
" تنبيه ": ذكر ابن الحاجب حديث عثمان في التمتع دليلا لمسألة اتفاق أهل العصر الثاني بعد اختلاف أهل العصر الأول فقال: وفي الصحيح أن عثمان كان نهى عن المتعة، قال البغوي: ثم صار إجماعا. وتعقب بأن نهي عثمان عن المتعة إن كان المراد به الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج فلم يستقر الإجماع عليه لأن الحنفية يخالفون فيه. وإن كان المراد به فسخ الحج إلى العمرة فكذلك لأن الحنابلة يخالفون فيه، ثم وراء ذلك أن رواية النسائي السابقة مشعرة بأن عثمان رجع عن النهي فلا يصح التمسك به، ولفظ البغوي بعد أن ساق حديث عثمان في "شرح السنة": هذا خلاف علي وأكثر الصحابة على الجواز، واتفقت عليه الأئمة بعد فحمله على أن عثمان نهى عن التمتع المعهود، والظاهر أن عثمان ما كان يبطله إنما كان يرى أن الإفراد أفضل منه، وإذا كان ذلك فلم تتفق الأئمة على ذلك فإن الخلاف في أي الأمور الثلاثة أفضل باق والله أعلم. وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهدا
ـــــــ
1 في طبعة بولاق: هكذا في النسخ التي بأيدينا, ولعله سقط منه لفظة "حجه"

(3/425)


آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان على علي ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك والله أعلم. عن ابن عباس قال: "كانوا يرون أن العمرة" بفتح أوله أي يعتقدون، والمراد أهل الجاهلية. ولابن حبان من طريق أخرى عن ابن عباس قال: "والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون" فذكر نحوه فعرف بهذا تعيين القائلين. قوله: "من أفجر الفجور" هذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة عن غير أصل. قوله: "ويجعلون المحرم صفر" كذا هو في جميع الأصول من الصحيحين، قال النووي: كان ينبغي أن يكتب بالألف، ولكن على تقدير حذفها لا بد من قراءته منصوبا لأنه مصروف بلا خلاف، يعني والمشهور عن اللغة الربيعية كتابة المنصوب بغير ألف فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يصرف فيقرأ بالألف. وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه لكن في "المحكم" كان أبو عبيدة لا يصرفه فقيل له: إنه لا يمتنع الصرف حتى يجتمع علتان فما هما؟ قال: المعرفة والساعة. وفسره المطرزي بأن مراده بالساعة أن الأزمنة ساعات والساعة مؤنثة انتهى. وحديث ابن عباس هذا حجة قوية لأبي عبيدة، ونقل بعضهم أن في صحيح مسلم: "صفرا" بالألف. وأما جعلهم ذلك فقال النووي: قال العلماء المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية فكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه ويؤخرون تحريم المحرم إلى نفس صفر لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة والغارة بعضهم على بعض، فضللهم الله في ذلك فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. قوله: "ويقولون إذا برأ الدبر" بفتح المهملة والموحدة أي ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقة السفر فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج، و قوله: "وعفا الأثر" أي اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها، ويحتمل أثر الدبر المذكور. وفي سنن أبي داود و "عفا الوبر" أي كثر وبر الإبل الذي حلق بالرحال، وهذه الألفاظ تقرأ ساكنة الراء لإرادة السجع، ووجه تعلق جواز الاعتمار بانسلاخ صفر -مع كونه ليس من أشهر الحج وكذلك المحرم- أنهم لما جعلوا المحرم صفرا ولا يستقرون ببلادهم في الغالب ويبرأ دبر إبلهم إلا عند انسلاخه ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرم الذي هو في الأصل صفر، العمرة عندهم في غير أشهر الحج، وأما تسمية الشهر صفرا فقال رؤبة أصلها أنهم كانوا يغيرون فيه بعضهم على بعض فيتركون منازلهم صفرا أي خالية من المتاع، وقيل لإصفار أماكنهم من أهلها. قوله: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في الأصول من رواية موسى بن إسماعيل عن وهيب، وقد أخرجه المصنف في "أيام الجاهلية" عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب بلفظ: "فقدم" بزيادة فاء وهو الوجه، وكذا أخرجه مسلم من طريق بهز بن أسد والإسماعيلي من طريق إبراهيم بن الحجاج كلاهما عن وهيب. قوله: "صبيحة رابعة" أي يوم الأحد. قوله: "مهلين بالحج" في رواية إبراهيم بن الحجاج "وهم يلبون بالحج" وهي مفسرة لقوله مهلين، واحتج به من قال كان حج النبي صلى الله عليه وسلم مفردا، وأجاب من قال كان قارنا بأنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة. قوله: "أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم" أي لما كانوا يعتقدونه أولا. وفي رواية إبراهيم بن الحجاج "فكبر ذلك عندهم". قوله: "أي الحل" كأنهم كانوا يعرفون أن للحج تحللين فأرادوا بيان ذلك فبين لهم أنهم يتحللون الحل كله، لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد، ووقع في رواية الطحاوي "أي الحل نحل؟ قال: الحل كله". حديث أبي موسى "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بالحل"

(3/426)


هكذا أورده مختصرا. وقد تقدم تاما مشروحا قبل بباب. ووقع للكشميهني: "فأمره بالحل" على الالتفات. حديث حفصة "أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة" الحديث، لم يقع في رواية مسلم قوله: "بعمرة" وذكر ابن عبد البر أن أصحاب مالك ذكرها بعضهم وحذفها بعضهم، واستشكل كيف حلوا بعمرة مع قولها ولم تحل من عمرتك، والجواب أن المراد قولها بعمرة أي إن إحرامهم بعمرة كان سببا لسرعة حلهم، واستدل به على أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتى يحل بالحج ويفرغ منه، لأنه جعل العلة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وكذا وقع في حديث جابر سابع أحاديث الباب، وأخبر أنه لا يحل حتى ينحر الهدي وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومن وافقهما، ويؤيده قوله في حديث عائشة أول حديث الباب: "فأمر من لم يكن ساق الهدي أن يحل" والأحاديث بذلك متضافرة وأجاب بعض المالكية والشافعية عن ذلك بأن السبب في عدم تحلله من العمرة كونه أدخلها على الحج، وهو مشكل عليه لأنه يقول إن حجه كان مفردا. وقال بعض العلماء. ليس لمن قال كان مفردا عن هذا الحديث انفصال، لأنه إن قال به استشكل عليه كونه علل عدم التحلل بسوق الهدي لأن عدم التحلل لا يمتنع على من كان قارنا عنده، وجنح الأصيلي وغيره إلى توهيم مالك في قوله: "ولم تحل أنت من عمرتك" وأنه لم يقله أحد في حديث حفصة غيره، وتعقبه ابن عبد البر -على تقدير تسليم انفراده- بأنها زيادة حافظ فيجب قبولها، على أنه لم ينفرد، فقد تابعه أيوب وعبيد الله بن عمر وهما مع ذلك حفاظ أصحاب نافع انتهى. ورواية عبيد الله بن عمر عند مسلم، وقد أخرجه مسلم من رواية ابن جريج والبخاري من رواية موسى بن عقبة والبيهقي من رواية شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن نافع بدونها، ووقع في رواية عبيد الله بن عمر عند الشيخين "فلا أحل حتى أحل من الحج" ولا تنافي هذه رواية مالك لأن القارن لا يحل من العمرة ولا من الحج حتى ينحر، فلا حجة فيه لمن تمسك بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا كما سيأتي، لأن قول حفصة "ولم تحل من عمرتك" وقوله هو "حتى أحل من الحج" ظاهر في أنه كان قارنا. وأجاب من قال كان مفردا عن قوله: "ولم تحل من عمرتك" بأجوبة: أحدها قاله الشافعي معناه ولم تحل أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وقيل معناه ولم تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك، قالوا وقد تأتي "من" بمعنى الباء كقوله عز وجل: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي بأمر الله، والتقدير ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك، وقيل ظنت أنه فسخ حجه بعمرة كما فعل أصحابه بأمره فقالت لم لم تحل أنت أيضا من عمرتك؟ ولا يخفى ما في بعض هذه التأويلات من التعسف. والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا بمعنى أنه أدخل العمرة على الحج بعد أن أهل به مفردا، لا أنه أول ما أهل أحرم بالحج والعمرة معا، وقد تقدم حديث عمر مرفوعا: "وقل عمرة في حجة" وحديث أنس "ثم أهل بحج وعمرة" ولمسلم من حديث عمران بن حصين "جمع بين حج وعمرة" ولأبي داود والنسائي من حديث البراء مرفوعا: "أني سقت الهدي وقرنت" وللنسائي من حديث علي مثله، ولأحمد من حديث سراقة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع" وله من حديث أبي طلحة "جمع بين الحج والعمرة" وللدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي قتادة والبزار من حديث ابن أبي أوفى ثلاثتهم مرفوعا مثله، وأجاب البيهقي عن هذه الأحاديث وغيرها نصرة لمن قال أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا فنقل عن سليمان بن حرب أن رواية أبي قلابة أنس "أنه سمعهم يصرخون بهما جميعا" أثبت من رواية من روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة، ثم تعقبه بأن

(3/427)


قتادة وغيره من الحفاظ رووه عن أنس كذلك، فالاختلاف فيه على أنس نفسه، قال فلعله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يعلم غيره كيف يهل بالقران فظن أنه أهل عن نفسه وأجاب عن حديث حفصة بما نقل عن الشافعي أن معنى قولها "ولم تحل أنت من عمرتك" أي من إحرامك كما تقدم، وعن حديث عمر بأن جماعة رووه بلفظ: "صلى في هذا الوادي وقال عمرة في حجة" قال: وهؤلاء أكثر عددا ممن رواه "وقل عمرة في حجة" فيكون إذنا في القران لا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم في حال نفسه، وعن حديث عمران بأن المراد بذلك إذنه لأصحابه في القران بدليل روايته الأخرى "أنه صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر" وروايته الأخرى "أنه صلى الله عليه وسلم تمتع" فإن مراده بكل ذلك إذنه في ذلك، وعن حديث البراء بأنه ساقه في قصة علي وقد رواها أنس يعني كما تقدم في هذا الباب وجابر كما أخرجه مسلم وليس فيها لفظ: "وقرنت" وأخرج حديث مجاهد عن عائشة قالت: "لقد علم ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها في حجته" أخرجه أبو داود. وقال البيهقي تفرد أبو إسحاق عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفء "فقالت ما اعتمر في رجب قط" وقال هذا هو المحفوظ يعني كما سيأتي في أبواب العمرة، ثم أشار إلى أنه اختلف فيه على أبي إسحاق فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا وقال زكريا عن أبي إسحاق عن البراء، ثم روى حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم حج حجتين قبل أن يهاجر وحجة قرن منها عمرة" يعني بعدما هاجر، وحكي عن البخاري أنه أعله لأنه من رواية زيد بن الحباب عن الثوري عن جعفر عن أبيه عنه، وزيد ربما يهم في الشيء، والمحفوظ عن الثوري مرسل، والمعروف عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج خالصا، ثم روى حديث ابن عباس نحو حديث مجاهد عن عائشة وأعله بداود العطار وقال إنه تفرد بوصله عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه ابن عيينة عن عمرو فأرسله ولم يذكر ابن عباس، ثم روى حديث الصبي بن معبد أنه أهل بالحج والعمرة معا فأنكر عليه، فقال له عمر "هديت لسنة نبيك" الحديث وهو في السنن وفيه قصة، وأجاب عنه بأنه يدل على جواز القران لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من التعسف. وقال النووي: الصواب الذي نعتقده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، ولا شك أن القران أفضل من الإفراد الذي لا يعتمر في سننه عندنا، ولم ينقل أحد أن الحج وحده أفصل من القران، كذا قال والخلاف ثابت قديما وحديثا، أما قديما فالثابت عن عمر أنه قال: "إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تنشئوا لكل منهما سفرا" وعن ابن مسعود نحوه أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وأما حديثا فقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر في تلك السنة. وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخلاف بيننا وبين الشافعي مبني على أن القارن يطوف طوافا واحدا وسعيا واحدا فبهذا قال إن الإفراد أفضل، ونحن عندنا أن القارن يطوف طوافين وسعيين فهو أفضل لكونه أكثر عملا. وقال الخطابي: اختلفت الرواية فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم به محرما، والجواب عن ذلك بأن كل راو أضاف إليه ما أمر به اتساعا، ثم رجح بأنه كان أفرد الحج، وهذا هو المشهور عند المالكية والشافعية، وقد بسط الشافعي القول فيه في "اختلاف الحديث" وغيره ورجح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم إحراما مطلقا ينتظر ما يؤمر به فنزل عليه الحكم بذلك وهو على الصفا، ورجحوا الإفراد أيضا بأن الخلفاء الراشدين واظبوا عليه ولا يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل، وبأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه كره الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التمتع والجمع بينهما حتى فعله علي لبيان الجواز، وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقران انتهى.وهذا ينبني على أن دم القران دم جبران وقد

(3/428)


منعه من رجح القران وقال إنه دم فضل وثواب كالأضحية، ولو كان دم نقص لما قام الصيام مقامه، ولأنه يؤكل منه ودم النقص لا يؤكل منه كدم الجزاء قاله الطحاوي. وقال عياض نحو ما قال الخطابي وزاد: وأما إحرامه هو فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردا، وأما رواية من روى متمتعا فمعناه أمر به لأنه صرح بقوله: "ولولا أن معي الهدي لأحللت" فصح أنه لم يتحلل. وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي وقيل له "قل عمرة في حجة" انتهى. وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سيق إليه قديما ابن المنذر وبينه ابن حزم في "حجة الوداع" بيانا شافيا ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا يطول ذكره، ومحصله أن كل من روي عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روي عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روي عنه القران أراد ما استقر عليه أمره، ويترجح رواية من روى القران بأمور: منها أن معه زيادة علم على من روى الإفراد وغيره، وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك: فأشهر من روي عنه الإفراد عائشة وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته كما تقدم، وابن عمر وقد ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج كما سيأتي في أبواب الهدي، وثبت أنه جمع بين حج وعمرة ثم حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وسيأتي أيضا، وجابر وقد تقدم قوله إنه اعتمر مع حجته أيضا. وروى القران عنه جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه، وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال أفردت ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال: "قرنت" وصح عنه أنه قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" وأيضا فإن من روي عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وينتفي التعارض، ويؤيده أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران كما تقدم، ومن روي عنه التمتع فإنه محمول على الاقتصار على سفر واحد للنسكين، ويؤيده أن من جاء عنه التمتع لما وصفه بصورة القران لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج وهذه إحدى صور القران، وأيضا فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيا بأسانيد جياد بخلاف روايتي الإفراد والتمتع وهذا يقتضي رفع الشك عن ذلك والمصير إلى أنه كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد ومن التمتع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وبه قال الثوري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني وابن المنذر وأبو إسحاق المروزي ومن المتأخرين تقي الدين السبكي وبحث مع النووي في اختياره أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأن الإفراد مع ذلك أفضل مستندا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور كما في ثالث أحاديث الباب، وملخص ما يتعقب به كلامه أن البيان قد سبق منه صلى الله عليه وسلم في عمره الثلاث فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها وعمرة القضية التي بعدها وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره عمرة حجته بيان الجواز فقط مع أن الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل لكونه صلى الله عليه وسلم تمناه فقال: "لولا أني سقت الهدي لأحللت" ولا يتمنى إلا الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه، وأجيب بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته وإلا فالأفضل ما اختاره الله له واستمر عليه. وقال ابن قدامة يترجح التمتع بأن الذي يفرد إن اعتمر بعدها فهي عمرة مختلف في إجزائها عن حجة الإسلام بخلاف عمرة التمتع فهي مجزئة بلا خلاف فيترجح التمتع على الإفراد ويليه القران. وقال من رجح

(3/429)


القران. هو أشق من التمتع وعمرته مجزئة بلا خلاف فيكون أفضل منهما، وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاث في الفضل سواء وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه، وعن أبي يوسف القران والتمتع في الفضل سواء وهما أفضل من الإفراد، وعن أحمد: من ساق الهدي فالقران أفضل له ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه، زاد بعض أتباعه ومن أراد أن ينشئ لعمرته من بلده سفرا فالإفراد أفضل له قال: وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، فمن قال الإفراد أفضل فعلى هذا يتنزل لأن أعمال سفرين للنسكين أكثر مشقة فيكون أعظم أجرا ولتجزئ عنه عمرته من غير نقص ولا اختلاف ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر مع موافقته على أنه كان قارنا كالطحاوي وابن حبان وغيرهما فقيل أهل أولا بعمرة ثم لم يحلل منها إلى أن أدخل عليها الحج يوم التروية، ومستند هذا القائل حديث ابن عمر الآتي في أبواب الهدي بلفظ: "فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة ثم أهل بالحج". وهذا لا ينافي إنكار ابن عمر على أنس كونه نقل أنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج والعمرة كما سيأتي في حجة الوداع من المغازي لاحتمال أن يكون من إنكاره كونه نقل أنه أهل بهما معا وإنما المعروف عنده أنه أدخل أحد النسكين على الآخر لكن جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة مخالف لما عليه أكثر الأحاديث فهو مرجوح، وقيل أهل أولا بالحج مفردا ثم استمر على ذلك إلى أن أمر أصحابه بأن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة وفسخ معهم، ومنعه من التحلل من عمرته المذكورة ما ذكره في حديث الباب وغيره من سوق الهدي فاستمر معتمرا إلى أن أدخل عليها الحج حتى تحلل منهما جميعا، وهذا يستلزم أنه أحرم بالحج أولا وآخرا، وهو محتمل لكن الجمع الأول أولى. وقيل إنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا واستمر عليه إلى أن تحلل منه بمنى ولم يعتمر في تلك السنة وهو مقتضى من رجح أنه كان مفردا. والذي يظهر لي أن من أنكر القران من الصحابة نفى أن يكون أهل بهما في أول الحال، ولا ينفي أن يكون أهل بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة فيجتمع القولان كما تقدم والله أعلم. قوله: "ولم تحلل" بكسر اللام الأولى أي لم تحل، وإظهار التضعيف لغة معروفة. قوله: "لبدت" بتشديد الموحدة أي شعر رأسي، وقد تقدم بيان التلبيد، وهو أن يجعل فيه شيء ليلتصق به، ويؤخذ منه استحباب ذلك للمحرم. قوله: " فلا أحل حتى أنحر" يأتي الكلام عليه في الحديث السابع. قوله: "أبو جمرة" بالجيم والراء. قوله: "تمتعت فنهاني ناس" لم أقف على أسمائهم، وكان ذلك في زمن ابن الزبير وكان ينهى عن المتعة كما رواه مسلم من حديث أبي الزبير عنه وعن جابر، ونفل ابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه كان لا يرى التمتع إلا للمحصر، ووافقه علقمة وإبراهيم. وقال الجمهور لا اختصاص لذلك للحصر. قوله: "فأمرني" أي أن أستمر على عمرتي، ولأحمد ومسلم من طريق غندر عن شعبة "فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك فأمرني بها، ثم انطلقت إلى البيت فنمت فأتاني آت في منامي". قوله: "وعمرة متقبلة" في رواية النضر عن شعبة كما سيأتي في أبواب الهدي "متعة متقبلة" وهو خبر مبتدأ محذوف أي هذه عمرة متقبلة، وقد تقدم تفسير المبرور في أوائل الحج. قوله: "فقال سنة أبي القاسم" هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه سنة، ويجوز فيه النصب أي وافقت سنة أبي القاسم أو على الاختصاص. وفي رواية النضر "فقال: الله أكبر، سنة أبي القاسم" وزاد فيه زيادة يأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم قال لي" أي ابن عباس "أقم عندي وأجعل لك سهما من مالي" أي نصيبا. "قال شعبة فقلت" يعني لأبي جمرة "ولم"؟ أي استفهمه عن سبب ذلك "فقال للرؤيا" أي لأجل

(3/430)


الرؤيا المذكورة. ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل.الحديث السابع: قوله: "حدثنا أبو شهاب" هو الأكبر واسمه موسى بن نافع. قوله: "حجك مكيا" في رواية الكشميهني: "حجتك مكية" يعني قليلة الثواب لقلة مشقتها. وقال ابن بطال معناه أنك تنشئ حجك من مكة كما ينشئ أهل مكة منها فيفوتك فضل الإحرام من الميقات. قوله: "فدخلت على عطاء" أي ابن أبي رباح. قوله: "يوم ساق البدن معه" بضم الموحدة وإسكان الدال جمع بدنة وذلك في حجة الوداع، وقد رواه مسلم عن ابن نمير عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "عام ساق الهدي". قوله: "فقال لهم أحلوا من إحرامكم إلخ" أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي. قوله: "وقصروا" إنما أمرهم بذلك لأنهم يهلون بعد قليل بالحج فأخر الحلق لأن بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط. قوله: "واجعلوا التي قدمتم بها متعة" أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتعين، فأطلق على العمرة متعة مجازا والعلاقة بينهما ظاهرة. ووقع في رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عند مسلم: "فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة" ونحوه في رواية الباقر عن جابر في الخبر الطويل عند مسلم. قوله: "فقال افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي إلخ" فيه ما كان عليه عليه السلام من تطييب قلوب أصحابه وتلطفه بهم وحلمه عنهم. قوله: "لا يحل مني حرام" بكسر حاء يحل أي شيء حرام، والمعنى لا يحل مني ما حرم علي، ووقع في رواية مسلم: "لا يحل مني حراما" بالنصب على المفعولية وعلى هذا فيقرأ يحل بضم أوله والفاعل محذوف تقديره لا يحل طول المكث ونحو ذلك مني شيئا حراما حتى يبلغ الهدي محله، أي إذا نحر يوم منى. واستدل به على أن من اعتمر فساق هديا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وقد تقدم حديث حفصة نحوه، ويأتي حديث عائشة من طريق عقيل عن الزهري عن عروة عنها بلفظ: "من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر" وتأول ذلك المالكية والشافعية على أن معناه ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا يخفى ما فيه. قلت: فإنه خلاف ظاهر الأحاديث المذكورة وبالله التوفيق. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "أبو شهاب ليس له حديث مسند إلا هذا" أي لم يرو حديثا مرفوعا إلا هذا الحديث، قال مغلطاي: كأنه يقول من كان هكذا لا يجعل حديثه أصلا من أصل العلم. قلت: إذا كان موصوفا بصفة من يصحح حديثه لم يضره ذلك مع أنه قد توبع عليه. ثم كلام مغلطاي محمول على ظاهر الإطلاق، وقد أجاب غيره بأنه مقيد بالرواية عن عطاء فإن حديثه هذا طرف من حديث جابر الطويل الذي انفرد مسلم بسياقه من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر، وفي هذا الطرف زيادة بيان لصفة التحلل من العمرة ليس في الحديث الطويل حيث قال فيه: "أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا إلى يوم التروية وأهلوا بالحج" ويستفاد منه جواز جواب المفتي لمن سأله عن حكم خاص بأن يذكر له قصة مسندة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتمل على جواب سؤاله ويكون ما اشتملت عليه من الفوائد الزائدة على ذلك زيادة خير، وينبغي أن يكون محل ذلك لائقا بحال السائل. ثم ذكر المصنف حديث اختلاف عثمان وعلي في التمتع وقد تقدم من وجه آخر وهو ثاني أحاديث هذا الباب، فاشتملت أحاديث الباب على ما ترجم به، فحديث عائشة من طريق يؤخذ منه الفسخ والإفراد، وحديث علي

(3/431)


من طريقه يؤخذ منه التمتع والقران، وحديث ابن عباس يؤخذ منه الفسخ، وكذا حديث أبي موسى وجابر، وحديث حفصة يؤخذ منه أن من تمتع بالعمرة إلى الحج لا يحل من عمرته إن كان ساق الهدي، وكذا حديث جابر، وحديث ابن عباس الثاني يؤخذ منه مشروعية التمتع وكذا حديث جابر أيضا. والله أعلم.

(3/432)


35 - باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ
1570 - حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال سمعت مجاهدا يقول حدثنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك اللهم لبيك بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة"
قوله: "باب من لبى بالحج وسماه" أورد فيه حديث جابر مختصرا من طريق مجاهد عنه وهو بين فيما ترجم له، ويؤخذ منه فسخ الحج إلى العمرة. وقد ذهب الجمهور إلى أنه منسوخ، وذهب ابن عباس إلى أنه محكم وبه قال أحمد وطائفة يسيرة.

(3/432)


باب التمتع على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
...
36 - باب التَّمَتُّعِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1571 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ"
[الحديث 1571 – طرفه في: 4518]
قوله: "باب التمتع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا في رواية أبي ذر، وسقط لغيره: "على عهد إلخ" ولبعضهم "باب" بغير ترجمة، وكذا ذكره الإسماعيلي، والأول أولى. وفي الترجمة إشارة إلى الخلاف في ذلك وإن كان الأمر استقر بعد على الجواز. قوله: "حدثني مطرف" هو ابن عبد الله بن الشخير، ورجال الإسناد كلهم بصريون. قوله: "عن عمران" هو ابن حصين الخزاعي، ولمسلم من طريق شعبة عن قتادة عن مطرف "بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك" فذكر الحديث. قوله: "ونزل القرآن" أي بجوازه يشير إلى قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية. ورواه مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن همام بلفظ: "ولم ينزل فيه القرآن" أي بمنعه، وتوضحه رواية مسلم الأخرى من طريق شعبة وسعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة بلفظ: "ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله" وزاد من طريق شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف "ولم ينزل فيه القرآن بحرمة" وله من طريق أبي العلاء عن مطرف "فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم تنه عنه حتى مضى لوجهه" وللإسماعيلي من طريق عفان عن همام "تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فيه القرآن ولم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينسخها شيء" وقد أخرجه المصنف في تفسير البقرة من طريق أبي رجاء العطاردي عن عمران بلفظ: "أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن بحرمة فلم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء". قوله: "قال رجل برأيه ما شاء" وفي رواية أبي العلاء "ارتأى كل امرئ بعدما شاء أن يرتئي" قائل ذلك هو عمران بن حصين، ووهم من زعم أنه مطرف الراوي عنه لثبوت ذلك

(3/432)


باب قول الله تعالى: {ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام}
...
37 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[169 البقرة]: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
1572 - وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ "أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوا إِهْلاَلَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ وَقَالَ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ" كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى[169 البقرة]: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ} إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ الشَّاةُ تَجْزِي فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ اللَّهُ {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

(3/433)


وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابهِ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ
قوله: "باب قول الله تعالى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي تفسير قوله، وذلك في الآية إشارة إلى التمتع لأنه سبق فيها {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} إلى أن قال: {ذَلِكَ} . واختلف السلف في المراد بحاضري المسجد فقال نافع والأعرج: هم أهل مكة بعينها وهو قول مالك واختاره الطحاوي ورجحه. وقال طاوس وطائفة: هم أهل الحرم وهو الظاهر. وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت وهو قول الشافعي في القديم. وقال في الجديد: من كان من مكة على دون مسافة القصر، ووافقه أحمد. وقال مالك: أهل مكة ومن حولها سوى أهل المناهل كعسفان وسوى أهل منى وعرفة. قوله: "وقال أبو كامل" وصله الإسماعيلي قال: "حدثنا القاسم المطرز حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو كامل" فذكره بطوله لكنه قال: "عثمان بن سعد" بدل عثمان بن غياث وكلاهما بصري وله رواية عن عكرمة، لكن عثمان بن غياث ثقة وعثمان بن سعد ضعيف، وقد أشار الإسماعيلي إلى أن شيخه القاسم وهم في قوله عثمان بن سعد، ويؤيده أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في "الأطراف" أنه وجده من رواية مسلم بن الحجاج عن أبي كامل كما ساقه البخاري قال: فأظن البخاري أخذه عن مسلم لأنني لم أجده إلا من رواية مسلم، كذا قال وتعقب باحتمال أن يكون البخاري أخذه عن أحمد بن سنان فإنه أحد مشايخه، ويحتمل أيضا أن يكون أخذه عن أبي كامل نفسه فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع. وأبو معشر البراء اسمه يوسف بن يزيد والبراء بالتشديد نسبة له إلى بري السهام. قوله: "فلما قدمنا مكة" أي قربها لأن ذلك كان بسرف كما تقدم عن عائشة. قوله: " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة " الخطاب بذلك لمن كان أهل بالحج مفردا كما تقدم واضحا عن عائشة أنهم كانوا ثلاث فرق. قوله: "طفنا" في رواية الأصيلي: "فطفنا" بزيادة فاء وهو الوجه، ووجه الأول بالحمل على الاستئناف أو هو جواب لما وقال جملة حالية وقد مقدرة فيها. قوله: "ونسكنا المناسك" أي من الوقوف والمبيت وغير ذلك. قوله: "وأتينا النساء" المراد به غير المتكلم لأن ابن عباس لم يكن إذ ذاك بالغا. قوله: "عشية التروية" أي بعد الظهر ثامن ذي الحجة، وفيه حجة على من استحب تقديمه على يوم التروية كما نقل عن الحنفية، وعن الشافعية يختص استحباب يوم التروية بعد الزوال بمن ساق الهدي. قوله: "فقد تم حجنا" للكشميهني: "وقد" بالواو. ومن هنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس، ومن هنا إلى أوله مرفوع. قوله: "فصيام ثلاثة أيام في الحج" سيأتي عن ابن عمر وعائشة موقوفا أن آخرها يوم عرفة فإن لم يفعل صام أيام مني أي الثلاثة التي بعد يوم النحر وهي أيام التشريق، وبه قال الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي في القديم، ثم رجع عنه وأخذ بعموم النهي عن صيام أيام التشريق. قوله: "وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم" كذا أورده ابن عباس، وهو تفسير منه للرجوع في قوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} ويوافقه حديث ابن عمر الأتي في "باب من ساق البدن معه" من طريق عقيل عن الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعا: "قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل" إلى أن قال: "فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" وهذا قول الجمهور، وعن الشافعي معناه الرجوع إلى مكة، وعبر عنه مرة بالفراغ من أعمال الحج، ومعنى الرجوع التوجه من مكة

(3/434)


فيصومها في الطريق إن شاء وبه قال إسحاق بن راهويه. قوله: "الشاة تجزي" أي عن الهدي، وهي جملة حالية وقعت بدون واو وسيأتي في أبواب الهدي بيان ذلك. قوله: "بين الحج والعمرة" بيان للمراد بقوله: "فجمعوا النسكين" وهو بإسكان السين قال الجوهري النسك بالإسكان العبادة وبالضم الذبيحة. قوله: "فإن الله أنزله" أي الجمع بين الحج والعمرة وأخذ بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . قوله: "وسنه نبيه" أي شرعه حيث أمر أصحابه به. قوله: "غير أهل مكة" بنصب غير ويجوز كسره، وذلك إشارة إلى التمتع، وهذا مبني على مذهبه بأن أهل مكة لا متعة لهم وهو قول الحنفية، وعند غيرهم أن الإشارة إلى حكم التمتع وهو الفدية فلا يجب على أهل مكة بالتمتع دم إذا أحرموا من الحل بالعمرة، وأجاب الكرماني بجواب ليس طائلا. قوله: "التي ذكر الله" أي بعد آية التمتع حيث قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقد تقدم نقل الخلاف في ذي الحجة هل هو بكماله أو بعضه. قوله: "فمن تمتع في هذه الأشهر" ليس لهذا القيد مفهوم لأن الذي يعتمر في غير أشهر الحج لا يسمى متمتعا ولا دم عليه وكذلك المكي عند الجمهور، وخالفه فيه أبو حنيفة كما تقدم والله أعلم. ويدخل في عموم قوله: "فمن تمتع" من أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ثم حج منها وبه قال الحسن البصري، وهو مبني على أن التمتع إيقاع العمرة في أشهر الحج فقط، والذي ذهب إليه الجمهور أن التمتع أن يجمع الشخص الواحد بينهما في سفر واحد في أشهر الحج في عام واحد وأن يقدم العمرة وأن لا يكون مكيا، فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعا. قوله: "والجدال المراء" روى ابن أبي نسيبة من طريق مقسم عن ابن عباس قال: "ولا جدال في الحج: تماري صاحبك حتى تغضبه" وكذا أخرجه عن ابن عمر مثله، ومن طريق عكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن يسار وغيرهم نحو قول ابن عباس. وأخرج من طريق عبد العزيز بن رفيع عن مجاهد قال: قوله: "ولا جدال في الحج" قال: قد استقام أمر الحج. ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قد صار الحج في ذي الحجة لا شهر ينسأ ولا شك في الحج، لأن أهل الجاهلية كانوا يحجون في غير ذي الحجة.

(3/435)


38 - باب الِاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
1573 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ"
قوله: "باب الاغتسال عند دخول مكة" قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم يجزئ منه الوضوء. وفي "الموطأ" أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام، وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه. وقال الشافعية إن عجز عن الغسل تيمم. وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة وإنما ذكروه للطواف، والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف. قوله: "ثم يبيت بذي طوى" بضم الطاء وبفتحها. قوله: "ويغتسل" أي به. قوله: "كان يفعل ذلك" يحتمل أن الإشارة به إلى الفعل الأخير وهو الغسل وهو مقصود الترجمة، ويحتمل أنها إلى الجميع وهو الأظهر، فسيأتي في الباب الذي يليه ذكر المبيت فقط مرفوعا من رواية أخرى عن ابن عمر، تقدم الحديث بأتم من هذا في

(3/435)


"باب الإهلال مستقبل القبلة".

(3/436)


باب دخول مكة نهارا أو لايلا
...
39 - باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَاراً أَوْ لَيْلاً
بَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي طِوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ
1574 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال "بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة وكان بن عمر رضي الله عنهما يفعله
قوله: "باب دخول مكة نهارا أو ليلا" أورد فيه حديث ابن عمر في المبيت بذي طوى حتى يصبح، وهو ظاهر في الدخول نهارا، وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب عن نافع بلفظ: "كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا" وأما الدخول ليلا فلم يقع منه صلى الله عليه وسلم إلا في عمرة الجعرانة فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت كما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث محرش الكعبي، وترجم عليه النسائي: "دخول مكة ليلا" وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهارا ويخرجوا منها ليلا.
وأخرج عن عطاء: إن شئتم فادخلوا ليلا، إنكم لستم كرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان إماما فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس انتهى، وقضية هذا أن من كان إماما يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارا.

(3/436)


40 - باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
1575 - حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثني ينعقد قال حدثني مالك عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى"
قوله: "باب من أين يدخل مكة" أورد فيه حديث مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى" أخرجه عن إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى عنه، وليس هو في "الموطأ" ولا رأيته في "غرائب مالك للدارقطني" ولم أقف عليه إلا من رواية معن بن عيسى، وقد تابع إبراهيم بن المنذر عليه عبد الله بن جعفر البرمكي، وقد عز على الإسماعيلي استخراجه فأخرجه عن ابن ناجية عن البخاري مثله وزاد في آخره: "يعني ثنيتي مكة" وهذه الزيادة قد أخرجها أيضا أبو داود حيث أخرج الحديث عن عبد الله بن جعفر البرمكي عن معن بن عيسى مثله، وقد ذكره المصنف في الباب الذي بعده من طريق أخرى عن نافع وسياقه أبين من سياق مالك.

(3/436)


41 - بَاب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ
1576 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى

(3/436)


42 - باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى [125-128 البقرة]
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

(3/438)


1582 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَمَّا بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَرِنِي إِزَارِي فَشَدَّهُ عَلَيْهِ "
1583 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَهَا أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ"
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ
1584 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ"
1585 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلاَ حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا" قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ خَلْفًا يَعْنِي بَابًا
1586 - حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: " يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لاَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ, وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ, وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ" فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى هَدْمِهِ قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ, وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ

(3/439)


مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: هَا هُنَا قَالَ. جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنْ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا
قوله: "باب فضل مكة وبنيانها وقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} فساق الآيات إلى قوله :{التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} كذا في رواية كريمة، وساق الباقون بعض الآية الأولى، ولأبي ذر كلها ثم قال: إلى قوله :{التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ثم ساق المصنف في الباب حديث جابر في بناء الكعبة، وحديث عائشة في ذلك من أربعة طرق، وليس في الآيات ولا الحديث ذكر لبنيان مكة لكن بنيان الكعبة كان سبب بنيان مكة وعمارتها فاكتفى به. واختلف في أول من بنى الكعبة كما سيأتي في أحاديث الأنبياء في الكلام على حديث أبي ذر أي مسجد وضع في الأرض أول، وكذا قصة بناء إبراهيم وإسماعيل لها يأتي في أحاديث الأنبياء، ويقتصر هنا على قصة بناء قريش لها وعلى قصة بناء ابن الزبير وما غيره الحجاج بعده لتعلق ذلك بحديثي الباب. والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا، وقوله تعالى: {مَثَابَةً} أي مرجعا للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يعودون إليه، روى عبد بن حميد بإسناد جيد عن مجاهد قال: "يحجون ثم يعودون" وهو مصدر وصف به الموضع، وقوله: "وأمنا" أي موضع أمن وهو كقوله: "أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا" والمراد ترك القتال فيه كما سيأتي شرحه في الكلام على حديث الباب الذي بعده. وقوله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة، ويجوز أن يكون معطوفا على اذكروا نعمتي أو على معنى مثابة أي ثوبوا إليه واتخذوا، والأمر فيه للاستحباب بالاتفاق. وقرأ نافع وابن عامر "واتخذوا" بلفظ الماضي عطفا على "جعلنا" أو على تقدير إذ أي إذ جعلنا وإذ اتخذوا، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه على الأصح، وسيأتي شرحه في قصة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وعن عطاء مقام إبراهيم عرفة وغيرها من المناسك لأنه قام فيها ودعا. وعن النخعي الحرم كله. وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في أوائل كتاب الصلاة. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} استدل به على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت، وخالف مالك في الفرض. قوله: {اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} يأتي الكلام عليه في حديث: "إن إبراهيم حرم مكة" وأنه لا يعارض حديث: " أن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض" لأن معني الأول أن إبراهيم أعلم الناس بذلك، والثاني ما سبق من تقدير الله. وقوله: {مَنْ آمَنَ} بدل من أهله أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة {وَمَنْ كَفَرَ} عطف على من آمن قيل قاس إبراهيم الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما وإن الرزق قد يكون استدراجا وإلزاما للحجة، وسيأتي الكلام على القواعد في تفسير البقرة وأنها الأساس، وظاهره أنه كان مؤسسا قبل إبراهيم، ويحتمل أن يكون المراد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت كما سيأتي عند نقل الاختلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله: "ربنا تقبل منا" أي يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} ، قد أظهره ابن مسعود في قراءته. قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال عبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز قال لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل فأراه الطواف بالبيت سبعا قال وأحسبه وبين الصفا والمروة، ثم أتى به عرفة فقال: أعرفت؟ قال نعم، قال: فمن ثم سميت عرفات. ثم أتى به جمعا فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة. ثم أتى به منى فعرض لهما الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات فقال ارمه بها وكبر مع كل

(3/440)


حصاة. قوله. {وَتُبْ عَلَيْنَا} قيل طلبا الثبات على الإيمان لأنهما معصومان، وقيل أراد أن يعرف الناس أن ذلك الموقف مكان التوبة، وقيل المعني وتب على من اتبعنا. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وهذا أحد الأحاديث التي أخرجها البخاري عن شيخه أبي عاصم النبيل بواسطة. قوله: "لما بنيت الكعبة" هذا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدرك هذه القصة، فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن حضرها من الصحابة، وقد روى الطبراني وأبو نعيم في "الدلائل" من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير قال: "سألت جابرا هل يقوم الرجل عريانا؟ فقال: أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما انهدمت الكعبة نقل كل بطن من قريش وأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل مع العباس، وكانوا يضعون ثيابهم على العواتق يتقوون بها - أي على حمل الحجارة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتقلت رجلي فخررت وسقط ثوبي فقلت للعباس: هلم ثوبي، فلست أتعرى بعدها إلا إلى الغسل" لكن ابن لهيعة ضعيف، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان عن أبي الزبير ذكره أبو نعيم فإن كان محفوظا وإلا فقد حضره من الصحابة العباس كما في حديث الباب، فلعل جابرا حمله عنه. وروى الطبراني أيضا، والبيهقي في "الدلائل" من طريق عمرو بن أبي قيس، والطبري في التهذيب من طريق هارون بن المغيرة، وأبو نعيم في "المعرفة" من طريق قيس بن الربيع، وفي "الدلائل" من طريق شعيب بن خالد كلهم عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال: "لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانا قال فكتمته حتى أظهر الله نبوته" تابعه الحكم بن أبان عن عكرمة أخرجه أبو نعيم أيضا، وروى ذلك أيضا عن طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس ليس فيه العباس وقال في آخره: "فكان أول شيء رأى من النبوة" والنضر ضعيف، وقد خبط في إسناده وفي متنه، فإنه جعل القصة في معالجة زمزم بأمر أبي طالب وهو غلام، وكذا روى ابن إسحاق في "السيرة" عن أبيه عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك" فكأن هذه قصة أخرى، واغتر بذلك الأزرقي فحكى قولا "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاما" ولعل عمدته في ذلك ما سيأتي عن معمر عن الزهري، ولحديث معمر شاهد من حديث أبي الطفيل أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الحاكم والطبراني قال: "كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر، وكانت قدر ما يقتحمها العناق، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة:، فأقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت، فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا فقدموا به بالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا. فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك، وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين" قال معمر: وأما الزهري فقال: "لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فتشاورت قريش في هدمها وهابوه، فقال الوليد: إن

(3/441)


الله لا يهلك من يريد الإصلاح، فارتقى على ظاهر البيت ومعه العباس فقال اللهم لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم. فلما رأوه سالما تابعوه" قال عبد الرزاق وأخبرنا ابن جريج قال: قال مجاهد "كان ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة" وكذا رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن جبير بن مطعم بإسناد له، وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه والأول أشهر، وبه جزم ابن إسحاق. ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء، وذكر ابن إسحاق "أن السيل كان يأتي فيصيب الكعبة فيتساقط من بنائها، وكان رضما فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة" فذكر القصة مطولا في بنائهم الكعبة وفي اختلافهم فيمن يضع الحجر الأسود حتى رضوا بأول داخل، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحكموه في ذلك فوضعه بيده. قال: "وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا" ووقع عند الطبراني من طريق أخرى عن ابن خثيم عن أبي الطفيل أن اسم النجار المذكور باقوم، وللفاكهي من طريق ابن جريج مثله، قال: "وكان يتجر إلى بندر وراء ساحل عدن، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فقال لقريش: إن أجريتم عيري مع عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب، ففعلوا" وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: "اسم الذي بنى الكعبة لقريش باقوم، وكان روميا" وقال الأزرقي "كان طولها سبعة وعشرين ذراعا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها في الحجر". قوله: "فخر إلى الأرض" في رواية زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار الماضية في "باب كراهية التعري" من أوائل الصلاة "فجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه". قوله: "فطمحت عيناه" بفتح المهملة والميم أي ارتفعتا، والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق. وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج في أوائل السيرة النبوية "ثم أفاق فقال". قوله: "أرني إزاري" أي أعطني، وحكى ابن التين كسر الراء وسكونها وقد قرئ بهما. وفي رواية عبد الرزاق الآتية "إزاري إزاري" بالتكرير. قوله: "فشده عليه" زاد زكريا بن إسحاق "فما رئي بعد ذلك عريانا" وقد تقدم شاهدها من حديث أبي الطفيل. قوله: "عن سالم بن عبد الله" أي ابن عمر. قوله: "أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر" أي الصديق، ووقع في رواية مسلم: "أبي بكر بن أبي قحافة" وعبد الله هذا هو أخو القاسم بن محمد. قوله: "أخبر عبد الله بن عمر" بنصب عبد الله على المفعولية، وظاهره أن سالما كان حاضرا لذلك فيكون من روايته عن عبد الله بن محمد، وقد صرح بذلك أبو أويس عن ابن شهاب، لكنه سماه عبد الرحمن بن محمد فوهم أخرجه أحمد، وأغرب إبراهيم بن طهمان فرواه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" والمحفوظ الأول. وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم لكنه اختصره، وأخرجه مسلم من طريق نافع عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر عن عائشة فتابع سالما فيه وزاد في المتن "ولأنفقت كنز الكعبة" ولم أر هذه الزيادة إلا من هذا الوجه، ومن طريق أخرى أخرجها أبو عوانة من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير عن عائشة وسيأتي البحث فيها في "باب كسوة الكعبة". قوله: "قومك" أي قريش. قوله: "اقتصروا عن قواعد إبراهيم" سيأتي بيان ذلك في الطريق التي تلي هذه. قوله: "لولا حدثان" بكسر المهملة وسكون الدال بعدها مثلثة بمعني الحدوث، أي قرب عهدهم. قوله: "لفعلت" أي لرددتها على قواعد إبراهيم. قوله: "فقال عبد الله" أي ابن عمر بالإسناد المذكور، وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه بهذه القصة مجردة. قوله: "لئن كانت" ليس هذا شكا من ابن عمر في صدق

(3/442)


عائشة، لكن يقع في كلام العرب كثيرا صورة التشكيك والمراد التقرير واليقين. قوله: "ما أرى" بضم الهمزة أي أظن، وهي رواية معمر، وزاد في آخر الحديث: "ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك" ونحوه في رواية أبى أويس المذكورة. قوله: "استلام" افتعال من السلام، والمراد هنا لمس الركن بالقبلة أو اليد. قوله: "يليان" أي يقربان من "الحجر" بكسر المهملة وسكون الجيم وهو معروف على صفة نصف الدائرة وقدرها تسع وثلاثون ذراعا، والقدر الذي أخرج من الكعبة سيأتي قريبا. قوله: "حدثنا الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء المحاربي، وقد تقدم في العلم من وجه آخر عن الأسود بزيادة نبهنا على ما فيها هناك. قوله: "عن الجدر" بفتح الجيم وسكون المهملة كذا للأكثر وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه. وفي رواية المستملي: "الجدار" قال الخليل: الجدر لغة في الجدار انتهى. ووهم من ضبطه بضمها لأن المراد الحجر، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن أبي الأحوص شيخ مسدد فيه: "الجدر أو الحجر" بالشك، ولأبي عوانة من طريق شيبان عن الأشعث "الحجر" بغير شك. قوله: "أمن البيت هو؟ قال نعم" هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت، وكذا قوله في الطريق الثانية "أن أدخل الجدر في البيت" وبذلك كان يفتي ابن عباس كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل قال: "سمعت ابن عباس يقول: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت، فلم يطاف به إن لم يكن من البيت "؟ وروى الترمذي والنسائي من طريق علقمة عن أمه عن عائشة قالت: "كنت أحب أن أصلي في البيت، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال: صلي فيه فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروه حتى بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت" ونحوه لأبي داود من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة، ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة، ولأحمد من طريق سعيد بن جبير عن عائشة وفيه: "أنها أرسلت إلى شيبة الحجبي ليفتح لها البيت بالليل فقال: ما فتحناه في جاهلية ولا إسلام بليل" وهذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة، منها لمسلم من طريق أبي قزعة عن الحارث بن عبد الله عن عائشة في حديث الباب: "حتى أزيد فيه من الحجر"، وله من وجه آخر عن الحارث عنها "فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة أذرع" وله من طريق سعيد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير عن عائشة في هذا الحديث: "وزدت فيها من الحجر ستة أذرع" وسيأتي في آخر الطريق الرابعة قول يزيد بن رومان الذي رواه عن عروة أنه أراه لجرير بن حازم فحزره ستة أذرع أو نحوها، ولسفيان بن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد "أن ابن الزبير زاد فيها ستة أذرع مما يلي الحجر" وله عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن الزبير "ستة أذرع وشبر" وهكذا ذكر الشافعي عن عدد لقيهم من أهل العلم من قريش كما أخرجه البيهقي في "المعرفة" عنه، وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة، وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة مرفوعا: "لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع" فهي شاذة، والرواية السابقة أرجح لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ، ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه وهو أنه أريد بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر فتجتمع مع الروايات الأخرى، فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء، ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في هذه القصة: ولأدخلت فيها من الحجر أربعه أذرع" فيحمل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويجمع بين الروايات كلها بذلك ولم أر من سبقني إلى ذلك، وسأذكر ثمرة هذا البحث في آخر

(3/443)


الكلام على هذا الحديث. قوله: " ألم تري" أي ألم تعرفي. قوله: " قصرت بهم النفقة " بتشديد الصاد أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره، ويوضحه ما ذكر ابن إسحاق في "السيرة" عن عبد الله بن أبي نجيح أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية "أن أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم - وهو جد جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي - قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس" وروى سفيان بن عيينة في جامعه" عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زهرة أدرك ذلك فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال أن قريشا تقربت لبناء الكعبة - أي بالنفقة الطيبة - فعجزت فتركوا بعض البيت في الحجر، فقال عمر صدقت". قوله: "ليدخلوا" في رواية المستملي: "يدخلوا" بغير لام زاد مسلم من طريق الحارث بن عبد الله عن عائشة "فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط". قوله: "حديث عهدهم " بتنوين حديث. قوله: "بجاهلية" في رواية الكشميهني بالجاهلية، وقد تقدم في العلم من طريق الأسود "حديث عهد بكفر" ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة "حديث عهد بشرك ". قوله: "فأخاف أن تنكر قلوبهم" في رواية شيبان عن أشعث "تنفر" بالفاء بدل الكاف، ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النفرة التي خشيها صلى الله عليه وسلم أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم. قوله: " أن أدخل الجدر " كذا وقع هنا، وهو مؤول بمعني المصدر أي أخاف إنكار قلوبهم إدخال الحجر، وجواب لولا محذوف، وقد رواه مسلم عن سعيد بن منصور عن أبي الأحوص بلفظ: "فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل" فأثبت جواب لولا، وكذا أثبته الإسماعيلي من طريق شيبان عن أشعث ولفظه: "لنظرت فأدخلته". قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "عن عائشة" كذا رواه مسلم من طريق أبي معاوية والنسائي من طريق عبدة بن سليمان، وأبو عوانة من طريق علي بن مسهر، وأحمد عن عبد الله بن نمير كلهم عن هشام، وخالفهم القاسم بن معن فرواه عن هشام عن أبيه عن أخيه عبد الله بن الزبير عن عائشة أخرجه أبو عوانة، ورواية الجماعة أرجح، فإن رواية عروة عن عائشة لهذا الحديث مشهورة من غير هذا الوجه، فسيأتي في الطريق الرابعة من طريق يزيد بن رومان عنه وكذا لأبي عوانة من طريق قتادة وأبي النضر كلاهما عن عروة عن عائشة بغير واسطة، ويحتمل أن يكون عروة حمل عن أخيه عن عائشة منه شيئا زائدا على روايته عنها كما وقع للأسود بن يزيد مع ابن الزبير فيما تقدم شرحه في كتاب العلم. قوله: "وجعلت له خلفا " بفتح المعجمة وسكون اللام بعدها فاء، وقد فسره في الرواية المعلقة، وضبطه الحربي في "الغريب" بكسر الخاء المعجمة قال: والخالفة عمود في مؤخر البيت، والصواب الأول، وبينه قوله في الرواية الرابعة "وجعلت لها بابين".
" تنبيه " قوله: "وجعلت" بسكون اللام وضم التاء عطفا على قوله: "لبنيته" وضبطها القابسي بفتح اللام وسكون المثناة عطفا على استقصرت وهو وهم، فإن قريشا لم تجعل له بابا من خلف، وإنما هم النبي صلى الله عليه وسلم بجعله، فلا يغتر بمن حفظ هذه الكلمة بفتح ثم سكون. قوله: "قال أبو معاوية حدثنا هشام" يعني ابن عروة بسنده هذا "خلفا يعني بابا"، والتفسير المذكور من قول هشام بينه أبو عوانة من طريق علي بن مسهر عن هشام قال: الخلف الباب. وطريق أبي معاوية وصلها مسلم والنسائي، ولم يقع في روايتهما التفسير المذكور. وأخرجه ابن خزيمة عن أبي كريب عن أبي أسامة وأدرج التفسير ولفظه: "وجعلت لها خلفا" يعني بابا آخر من خلف يقابل الباب المقدم. قوله في

(3/444)


الطريق الرابعة "حدثنا يزيد" هو ابن هارون كما جزم به أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "عن عروة" كذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه فأخرجه أحمد بن حنبل وأحمد بن سنان وأحمد بن منيع في مسانيدهم عنه هكذا، والنسائي عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، والإسماعيلي من طريق هارون الجمال والزعفراني كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحارث بن أبي أسامة فرواه عن يزيد بن هارون فقال: "عن عبد الله بن الزبير" بدل عروة بن الزبير، وبكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه فكأن يزيد بن رومان سمعه من الأخوين. قلت: قد تابعه محمد بن مشكان كما أخرجه الجوزقي عن الدغولي عنه عن وهب بن جرير، ويزيد قد حمله عن الأخوين، لكن رواية الجماعة أوضح فهي أصح. قوله: "حديث عهد" كذا لجميع الرواة بالإضافة. وقال المطرزي: لا يجوز حذف الواو في مثل هذا والصواب "حديثو عهد" والله أعلم. قوله: "فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه" زاد وهب بن جرير في روايته: "وبنائه". قوله: "قال يزيد" هو ابن رومان بالإسناد المذكور. قوله: "وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه - إلى قوله - كأسنمة الإبل" هكذا ذكره يزيد بن رومان مختصرا، وقد ذكره مسلم وغيره واضحا فروى مسلم من طريق عطاء بن أبي رباح قال: "لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام فكان من أمره ما كان" وللفاكهي في "كتاب مكة" من طريق أبي أويس عن يزيد بن رومان وغيره: "قالوا لما أحرق أهل الشام الكعبة ورموها بالمنجنيق وهت الكعبة" ولابن سعد في الطبقات من طريق أبي الحارث بن زمعة قال: "ارتحل الحصين بن نمير يعني الأمير الذي كان يقاتل ابن الزبير من قبل يزيد بن معاوية - لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين قال: فأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، فإذا الكعبة تنفض - أي تتحرك - متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق" وللفاكهي من طريق عثمان بن ساج "بلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح، وفي المسجد يومئذ خيام فمشى الحريق حتى أخذ في البيت فظن الفريقان أنهم هالكون، وضعف بناء البيت حتى أن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته" ولعبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل أنه حضر ذلك قال: "كانت الكعبة قد وهت من حريق أهل الشام قال فهدمها ابن الزبير، فتركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: أشيروا علي في الكعبة" الحديث، ولابن سعد من طريق ابن أبي مليكة قال: "لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج الناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين" وحكي عن الواقدي أنه رد ذلك وقال. الأثبت عندي أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يوما، وجزم الأزرقي بأن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين. قلت ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ابتداء البناء في ذلك الوقت وامتد أمده إلى الموسم ليراه أهل الآفاق ليشنع بذلك على بني أمية. ويؤيده أن في تاريخ المسبحي أن الفراغ من بناء الكعبة كان في سنة خمس وستين، وزاد المحب الطبري أنه كان في شهر رجب والله أعلم. وأن لم يكن هذا الجمع مقبولا فالذي في الصحيح مقدم على غيره. وذكر مسلم في رواية عطاء إشارة ابن عباس عليه بأن لا يفعل، وقول ابن الزبير لو أن أحدكم احترق بيته بناه حتى يجدده، وأنه استخار الله ثلاثا ثم عزم على أن ينقضها، قال فتحاماه الناس حتى صعد رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، وجعل ابن الزبير أعمدة

(3/445)


فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه, وقال ابن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد قال: "خرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه فهدم" وفي رواية أبي أويس المذكورة "ثم عزل ما كان يصلح أن يعاد في البيت فبنوا به فنظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يبني به فأمر به أن يحفر له في جوف الكعبة فيدفن، واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحجر فلم يصيبوا شيئا حتى شق على ابن الزبير، ثم أدركوها بعدما أمعنوا، فنزل عبد الله بن الزبير فكشفوا له عن قواعد إبراهيم وهي صخر أمثال الخلف من الإبل، فأنفضوا له أي حركوا تلك القواعد بالعتل فنفضت قواعد البيت ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض، فحمد الله وكبره، ثم أحضر الناس فأمر بوجوههم وأشرافهم حتى شاهدوا ما شاهدوه ورأوا بنيانا متصلا فأشهدهم على ذلك" وفي رواية عطاء "وكان طول الكعبة ثمان عشرة ذراعا فزاد ابن الزبير في طولها عشرة أذرع" وقد تقدم من وجه آخر أنه كان طولها عشرين ذراعا، فلعل راويه جبر الكسر، وجزم الأزرقي بأن الزيادة تسعة أذرع فلعل عطاء جبر الكسر أيضا. وروى عبد الرزاق من طريق ابن سابط عن زيد "أنهم كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلفة والحجارة مشبكة بعضها ببعض" وللفاكهي من وجه آخر عن عطاء قال: "كنت في الأمناء الذين جمعوا على حفره، فحفروا قامة ونصفا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عرق المروة، فضربوه فارتجت قواعد البيت فكبر الناس، فبنى عليه" وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق "فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض فتركه مكشوفا ثمانية أيام ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل: وجه حجر ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر" قال مسلم في رواية عطاء "وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه" وفي رواية الأسود التي في العلم "ففعله عبد الله بن الزبير" وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند الإسماعيلي: "فنقضه عبد الله بن الزبير فجعل له بابين في الأرض" ونحوه للترمذي من طريق شعبة عن أبي إسحاق، وللفاكهي من طريق أبي أويس عن موسى بن ميسرة "أنه دخل الكعبة بعدما بناها ابن الزبير، فكان الناس لا يزدحمون فيها يدخلون من باب ويخرجون من آخر". "فصل" لم يذكر المصنف رحمه الله قصة تغيير الحجاج لما صنعه ابن الزبير، وقد ذكرها مسلم في رواية عطاء قال: "فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد وضعه على أس نظر العدول من أهل مكة إليه، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد بابه الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه" وللفاكهي من طريق أبي أويس عن هشام بن عروة "فبادر -يعني الحجاج- فهدمها وبنى شقها الذي يلي الحجر، ورفع بابها، وسد الباب الغربي. قال أبو أويس: فأخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعن الحجاج" ولابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد "فرد الذي كان ابن الزبير أدخل فيها من الحجر، قال فقال عبد الملك: وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك" وقد أخرج قصة ندم عبد الملك على ذلك مسلم من وجه آخر، فعنده من طريق الوليد بن عطاء "أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك في خلافته فقال: ما أظن أبا خبيب - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها، فقال الحارث: بلى أنا سمعته منها" زاد عبد الرزاق عن ابن جريج فيه: "وكان الحارث مصدقا لا يكذب. فقال عبد الملك: أنت سمعتها تقول ذلك؟ قال: نعم، فنكت ساعة بعصاه وقال: وددت أني تركته

(3/446)


وما تحمل" وأخرجها أيضا من طريق أبي قزعة قال: "بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين - فذكر الحديث - فقال له الحارث: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث بهذا، فقال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على بناء ابن الزبير".
" تنبيه ": جميع الروايات التي جمعتها هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سمته، وقد ذكر الأزرقي أن جملة ما غيره الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر والباب المسدود الذي في الجانب الغربي عن يمين الركن اليماني وما تحته عتبة الباب الأصلي وهو أربعة أذرع وشبر، وهذا موافق لما في الروايات المذكورة، لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلي وهو في الارتفاع مثله، ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عهد ابن الزبير لم يكن لاصقا بالأرض، فيحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الروايات لكن الحجاج لما غيره رفعه ورفع الباب الذي يقابله أيضا ثم بدا له فسد الباب المجدد، لكن لم أر النقل بذلك صريحا. وذكر الفاكهي في "أخبار مكة" أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة ثلاث وستين ومائتين فإذا هو مقابل باب الكعبة وهو بقدره في الطول والعرض، وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة كما في الباب الموجود سواء. فالله أعلم. قوله: "فحزرت" بتقديم الزاي على الراء أي قدرت. قوله: "ستة أذرع أو نحوها" قد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثانية وأنها أرجح الروايات، وأن الجمع بين المختلف منها ممكن كما تقدم، وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب كما جنح إليه ابن الصلاح وتبعه النووي، لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع، ولم يتعذر ذلك هنا، فيتعين حمل المطلق على المقيد كما هي قاعدة مذهبهما، ويؤيده أن الأحاديث المطلقة والمقيدة متواردة على سبب واحد وهو أن قريشا قصروا على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن ابن الزبير أعاده على بناء إبراهيم، وأن الحجاج أعاده على بناء قريش، ولم تأت رواية قط صريحة أن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت، قال المحب الطبري في "شرح التنبيه" له: والأصح أن القدر الذي في الحجر من البيت قدر سبعة أذرع، والرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد، فإن إطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازا، وإنما قال النووي ذلك نصرة لما رجحه من أن جميع الحجر من البيت، وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على إيجاب الطواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه، ونقل غيره أنه لا يعرف في الأحاديث المرفوعة ولا عن أحد من الصحابة ومن بعدهم أنه طاف من داخل الحجر وكان عملا مستمرا، ومقتضاه أن يكون جميع الحجر من البيت، وهذا متعقب فإنه لا يلزم من إيجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت، فقد نص الشافعي أيضا كما ذكره البيهقي في "المعرفة" أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع، ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم كما تقدم، فعلى هذا فلعله رأى إيجاب الطواف من وراء الحجر احتياطا، وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم من بعده فعلوه استحبابا للراحة من تسور الحجر لا سيما والرجال والنساء يطوفون جميعا فلا يؤمن من المرأة التكشف، فلعلهم أرادوا حسم هذه المادة، وأما ما نقله المهلب عن ابن أبي زيد أن حائط الحجر لم يكن مبنيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى كان عمر فبناه ووسعه قطعا للشك، وأن الطواف قبل ذلك كان حول البيت، ففيه نظر. وقد أشار المهلب إلى أن عمدته في ذلك ما سيأتي في "باب بنيان الكعبة" في أوائل السيرة النبوية بلفظ: "لم

(3/447)


يكن حول البيت حائط، كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر فبنى حوله حائطا جدره قصيرة، فبناه ابن الزبير" انتهى. وهذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر، فدخل الوهم على قائله من هنا. ولم يزل الحجر موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به كثير من الأحاديث الصحيحة، نعم في الحكم بفساد طواف من دخل الحجر وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر، وقد قال بصحته جماعة من الشافعية كإمام الحرمين ومن المالكية كأبي الحسن اللخمي، وذكر الأزرقي أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعا وثلث ذراع منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعا، فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت فلا يفسد طواف من طاف دونه والله أعلم. وأما قول المهلب إن الفضاء لا يسمى بيتا وإنما البيت البنيان لأن شخصا لو حلف لا يدخل بيتا فانهدم ذلك البيت فلا يحنث بدخوله فليس بواضح، فإن المشروع من الطواف ما شرع للخليل بالاتفاق، فعلينا أن نطوف حيث طاف ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت لأن العبادات لا يسقط المقدور عليه منها بفوات المعجوز عنه، فحرمة البقعة ثابتة ولو فقد الجدار، وأما اليمين فمتعلقة بالعرف، ويؤيده ما قلناه أنه لو انهدم مسجد فنقلت حجارته إلى موضع آخر بقيت حرمة المسجد بالبقعة التي كان بها ولا حرمة لتلك الحجارة المنقولة إلى غير مسجد، فدل على أن البقعة أصل للجدار بخلاف العكس، أشار إلى ذلك ابن المنير في الحاشية. وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد غير ما تقدم ما ترجم عليه المصنف في العلم وهو "ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس" والمراد بالاختيار في عبارته المستحب، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب. وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة، وحديث الرجل مع أهله في الأمور العامة، وحرص الصحابة على امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. " تكميل ": حكى ابن عبد البر وتبعه عياض وغيره عن الرشيد أو المهدي أو المنصور أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه. قلت: وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهي منها ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص. وقال له "لا آمن أن يجيء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت" أخرجه الفاكهي من طريق عطاء عنه، وذكر الأزرقي أن سليمان بن عبد الملك هم بنقض ما فعله الحجاج، ثم ترك ذلك لما ظهر له أنه فعله بأمر أبيه عبد الملك، ولم أقف في شيء من التواريخ على أن أحدا من الخلفاء ولا من دونهم غير من الكعبة شيئا مما صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته، وكذا وقع الترميم في جدارها غير مرة وفي سقفها وفي مسلم سطحها، وجدد فيها الرخام فذكر الأزرقي عن ابن جريج "أن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك" ووقع في جدارها الشامي ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة، ثم في سنة ثمانين وستمائة، ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا في سنة اثنتين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم فاهتم بذلك سلطان الإسلام الملك المؤيد وأرجو من الله تعالى أن يسهل له ذلك، ثم حججت سنة أربع وعشرين وتأملت المكان الذي قيل عنه فلم أجده في تلك البشاعة، وقد رمم ما تشعث من الحرم في أثناء سنة خمس وعشرين إلى أن نقض سقفها في سنة سبع وعشرين

(3/448)


على يدي بعض الجند فجدد لها سقفا ورخم السطح، فلما كان في سنة ثلاث وأربعين صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولا، فأداه رأيه الفاسد إلى نقض السقف مرة أخرى وسد ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل: منها الضوء إلى الكعبة، ولزم من ذلك امتهان الكعبة، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب، فغار بعض المجاورين فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك. فبلغ السلطان الظاهر فأنكر أن يكون أمر بذلك، وجهز بعض الجند لكشف ذلك فتعصب للأول بعض من جاور واجتمع الباقون رغبة ورهبة فكتبوا محضرا بأنه ما فعل شيئا إلا عن ملأ منهم، وأن كل ما فعله مصلحة، فسكن غضب السلطان وغطى عنه الأمر. وقد جاء عن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهو بالتحتانية قبل الألف وبعدها معجمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة - يعني الكعبة - حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك1 هلكوا" أخرجه أحمد وابن ماجه وعمر بن شبة في "كتاب مكة" وسنده حسن، فنسأل الله تعالى الأمن من الفتن بحلمه وكرمه، ومما يتعجب منه أنه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحجاج إما من الجدار الذي بناه في الجهة الشامية وإما في السلم الذي جدده للسطح والعتبة، وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة كالرخام أو لتحسين كالباب والميزاب، وكذا ما حكاه الفاكهي عن الحسن بن مكرم عن عبد الله بن بكر السهمي عن أبيه قال: "جاورت بمكة فعابت - أي بالعين المهملة وبالباء الموحدة - أسطوانة من أساطين البيت فأخرجت وجيء بأخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل والكعبة لا تفتح ليلا فتركوها ليعودوا من غد ليصلحوها فجاءوا من غد فأصابوها أقدم من قدح" أي بكسر القاف وهو السهم، وهذا إسناد قوي رجاله ثقات، وبكر هو ابن حبيب من كبار أتباع التابعين، وكأن القصة كانت في أوائل دولة بني العباس، وكانت الأسطوانة من خشب. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/449)


43 - باب فَضْلِ الْحَرَمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى [91 النمل]
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ}
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ[57 القصص ]:
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
1587 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن بن عباس رضي الله عنهما قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها"
قوله: "باب فضل الحرم" أي المكي الذي سيأتي ذكر حدوده في "باب لا يعضد شجر الحرم". قوله: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} الآية" وجه تعلقها بالترجمة من جهة إضافة الربوبية إلى البلدة فإنه على سبيل التشريف لها، وهي أصل الحرم. قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} روى النسائي في
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: "صنعوا ذلك"

(3/449)


التفسير "أن الحارث بن مر بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبع الهدي معك نتخطف من أرضنا، فأنزل الله عز وجل ردا عليه: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} الآية" أي إن الله جعلهم في بلد أمين وهم منه في أمان في حال كفرهم فكيف لا يكون أمنا لهم بعد أن أسلموا وتابعوا الحق. وأورد المصنف في الباب حديث ابن عباس "أن هذا البلد حرمه الله" أخرجه مختصرا، وسيأتي بأتم من هذا السياق في "باب لا يحل القتال بمكة" ويأتي الكلام عليه مستوفى قريبا هناك إن شاء الله تعالى.

(3/450)


44 - باب تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَأَنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى [25 الحج]: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الْبَادِي: الطَّارِي مَعْكُوفًا: مَحْبُوسًا
1588 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ؟ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا لأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لاَ يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ" قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى[72 الأنفال]: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الْآيَةَ
[الحديث 1588 – أطرافه في: 305, 4282, 6764]
قوله: "باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} الآية" أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف حديث علقمة بن نضلة قال: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن" أخرجه ابن ماجه وفي إسناده انقطاع وإرسال. وقال بظاهره ابن عمر ومجاهد وعطاء، قال عبد الرزاق عن ابن جريج: كان عطاء ينهي عن الكراء في الحرم، فأخبرني أن عمر نهى أن تبوب دور مكة لأنها ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر عن ذلك لعمر. وروى الطحاوي من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أنه قال: مكة مباح، لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها. وروى عبد الرزاق من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر: لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف، واختلف عن محمد، وبالجواز قال الجمهور واختاره الطحاوي. ويجاب عن حديث علقمة على تقدير صحته بحمله على ما سيجمع به ما اختلف عن عمر في ذلك. واحتج الشافعي بحديث أسامة الذي أورده البخاري في هذا الباب، قال الشافعي: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه وبقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فأضاف الدار إليه. واحتج ابن خزيمة بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فنسب الله الديار إليهم كما نسب الأموال إليهم، ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما

(3/450)


كانوا مظلومين في الإخراج من دور ليست بملك لهم، قال: ولو كانت الدور التي باعها عقيل لا تملك لكان جعفر وعلي أولى بها إذ كانا مسلمين دونه. وسيأتي في البيوع أثر عمر أنه اشترى دارا للسجن بمكة. ولا يعارض ما جاء عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه كان ينهي أن تغلق دور مكة في زمن الحاج أخرجه عبد بن حميد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد إن عمر قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا، لينزل البادي حيث شاء، وقد تقدم من وجه آخر عن عمر، فيجمع بينهما بكرامة الكراء رفقا بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء، وإلى هذا جنح الإمام أحمد وآخرون. واختلف عن مالك في ذلك، قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدل على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر دور مكة. وقال الأبهري: لم يختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة فتحت عنوة، واختلفوا هل من بها على أهلها لعظم حرمتها أو أقرت للمسلمين؟ ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها والكراء، والراجح عند من قال إنها فتحت عنوة أن النبي صلى الله عليه وسلم من بها على أهلها فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك ذكره السهيلي وغيره، وليس الاختلاف في ذلك ناشئا عن هذه المسألة فقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله هنا "المسجد الحرام" هل هو الحرم كله أو مكان الصلاة فقط، واختلفوا أيضا هل المراد بقوله: "سواء" في إلا من والاحترام أو فيما هو أعم من ذلك وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضا، قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} جميع الحرم وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن. قال: ولا نعلم عالما منع من ذلك ولا كره لحائض ولا لجنب دخول الحرم ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة وحوانيتها ولا يقول بذلك أحد والله أعلم. قلت: والقول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة، وسنذكر في "باب فتح مكة" من المغازي الراجح من الخلاف في فتحها صلحا أو عنوة إن شاء الله تعالى. قوله: "البادي الطاري" هو تفسير منه بالمعني، وهو مقتضى ما جاء عن ابن عباس وغيره كما رواه عبد بن حميد وغيره. وقال الإسماعيلي: البادي الذي يكون في البدو، وكذا من كان ظاهر البلد فهو باد، ومعنى الآية أن المقيم والطارئ سيان. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: سواء فيه أهل مكة وغيرهم. قوله: "معكوفا محبوسا" كذا وقع هنا، وليست هذه الكلمة في الآية المذكورة وإنما هي في آية الفتح، ولكن مناسبة ذكرها هنا قوله في هذه الآية {الْعَاكِفُ} والتفسير المذكور قاله أبو عبيدة في المجاز، والمراد بالعاكف المقيم. وروى الطحاوي من طريق سفيان عن أبي حصين قال: أردت أن أعتكف وأنا بمكة، فسألت سعيد بن جبير فقال: أنت عاكف، ثم قرأ هذه الآية. قوله: "عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان" في رواية مسلم عن حرملة وغيره عن ابن وهب "أن علي بن الحسين أخبره أن عمرو بن عثمان أخبره". قوله: "أين تنزل، في دارك" حذف أداة الاستفهام من قوله: "في دارك" بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي عن يونس عن عبد الأعلى عن ابن وهب بلفظ: "أتنزل في دارك" وكذا أخرجه الجوزقي من وجه آخر عن أصبغ شيخ البخاري فيه، وللمصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري "أين تنزل غدا" فكأنه استفهمه أولا عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهمه عن ذلك، وظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد دخول مكة، ويزيده وضوحا رواية زمعة بن صالح عن الزهري

(3/451)


بلفظ: "لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة قيل: أين تنزل أفي بيوتكم" الحديث، وروى علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن حسين قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة: أين تنزل؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من طل" قال علي بن المديني: ما أشك أن محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا الحديث عن أبيه، لكن في حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين أراد أن ينفر من منى، فيحمل على تعدد القصة. قوله: " وهل ترك عقيل" في رواية مسلم وغيره: "وهل ترك لنا ". قوله: "من رباع أو دور" الرباع جمع ربع بفتح الراء وسكون الموحدة وهو المنزل المشتمل على أبيات وقيل هو الدار فعلى هذا فقوله: "أو دور" إما للتأكيد أو من شك الراوي. وفي رواية محمد بن أبي حفصة "من منزل" وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة وقال في آخره: ويقال إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمر، فمن ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حق أبيه عبد الله وفيها ولد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وكان عقيل إلخ" محصل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما، وباعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها. وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار1 وزاد في روايته من طريق محمد بن أبي حفصة "فكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك: تركنا نصيبنا من الشعب" أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب. وقال الداودي وغيره: كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره، وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفا لقلوب من أسلم منهم، وسيأتي في الجهاد مزيد بسط في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وقال الخطابي: وعندي أن تلك الدار إن كانت قائمة على ملك عقيل فإنما لم ينزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها دور هجروها في الله تعالى فلم يرجعوا فيما تركوه. وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلا باعها، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها. قوله: "فكان عمر" في رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب عند الإسماعيلي: "فمن أجل ذلك كان عمر يقول" وهذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد وهو عند المصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة ومعمر عن الزهري وأخرجه مفردا في الفرائض من طريق ابن جريج عنه، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. ويختلج في خاطري أن القائل "وكان عمر إلخ" هو ابن شهاب فيكون منقطعا عن عمر.
قوله: "قال ابن شهاب وكانوا يتأولون إلخ" أي كانوا يفسرون قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} بولاية الميراث أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث وغيره.
ـــــــ
1 بهامش طبعة بولاق في نسخة "بثمانية آلاف دينار"

(3/452)


45 - باب نُزُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ
1589 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ"
[الحديث 1588 – أطرافه في: 1590, 3882, 4284, 4285, 7479]

(3/452)


1590 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قال النبي صلى الله عليه وسلم: مِنْ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ يَعْنِي ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
وَقَالَ سَلاَمَةُ عَنْ عُقَيْلٍ وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَقَالاَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ
قوله: "باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة" أي موضع نزوله، ووقع هنا في نسخة الصغاني "قال أبو عبد الله: نسبت الدور إلى عقيل وتورث الدور وتباع وتشتري". قلت: والمحل اللائق بهذه الزيادة الباب الذي قبله لما تقدم تقريره والله أعلم. قوله: "حين أراد قدوم مكة" بين في الرواية التي بعدها أن ذلك كان حين رجوعه من منى. قوله: "إن شاء الله تعالى" هو على سبيل التبرك والامتثال للآية. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية مسلم عن زهير بن حرب عن الوليد بن مسلم بسنده" حدثني أبو سلمة حدثنا أبو هريرة". قوله: "يعني بذلك المحصب" في رواية المستملي: "يعني ذلك" والأول أصح، ويختلج في خاطري أن جميع ما بعد قوله يعني المحصب إلى آخر الحديث من قول الزهري أدرج في الخبر، فقد رواه شعيب كما في هذا الباب وإبراهيم بن سعد كما سيأتي في السيرة ويونس كما سيأتي في التوحيد كلهم عن ابن شهاب مقتصرين على الموصول منه إلى قوله: "على الكفر" ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك. قوله: "وذلك أن قريشا وكنانة" فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيا إذ العطف يقتضي المغايرة فترجح القول بأن قريشا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم ولد كنانة. نعم لم يعقب النضر غير مالك ولا مالك غير فهر فقريش ولد النضر بن كنانة وأما كنانة فأعقب من غير النضر فلهذا وقعت المغايرة. قوله: "تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب" كذا وقع عنده بالشك، ووقع عند البيهقي من طريق أخرى عن الوليد "وبني المطلب" بغير شك فكأن الوهم منه فسيأتي على الصواب ويأتي شرحه في أواخر الباب. قوله: "أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم" في رواية محمد بن مصعب عن الأوزاعي عند أحمد "أن لا يناكحوهم ولا يخالطوهم" وفي رواية داود بن رشيد عن الوليد عند الإسماعيلي: "وأن لا يكون بينهم وبينهم شيء" وهي أعم، وهذا هو المراد بقوله في الحديث: "على الكفر". قوله: "حتى يسلموا" بضم أوله وإسكان المهملة وكسر اللام. قوله: "وقال سلامة عن عقيل" وصله ابن خزيمة في صحيحه من طريقه. قوله: "ويحيى بن الضحاك عن الأوزاعي" وقع في رواية أبي ذر وكريمة: "ويحيى عن الضحاك" وهو وهم، وهو يحيى بن عبد الله بن الضحاك نسب لجده البابلتي بموحدتين وبعد اللام المضمومة مثناة مشددة نزيل حران وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، ويقال إنه لم يسمع من الأوزاعي، ويقال إن الأوزاعي كان زوج أمه، وطريقه هذه وصلها أبو عوانة في صحيحه والخطيب في "المدرج" وقد تابعه على الجزم بقوله: "بني هاشم وبني المطلب" محمد بن مصعب عن الأوزاعي أخرجه أحمد وأبو عوانة أيضا، وسيأتي شرح هذه القصة في السيرة النبوية إن شاء الله تعالى.

(3/453)


باب قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام...}
...
46 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[35 إبرهيم ]:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} الآيَةَ
قوله: "باب قول الله عز وجل {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي - إلى قوله:- لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} لم يذكر في هذه الترجمة حديثا، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس في قصة إسكان إبراهيم لهاجر وابنها في مكان مكة، وسيأتي مبسوطا في أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى. ووقع في شرح ابن بطال ضم هذا الباب إلى الذي بعده فقال بعد قوله يشكرون "وقول الله جعل الله الكعبة البيت الحرام إلخ" ثم قال فيه أبو هريرة فذكر أحاديث الباب الثاني.

(3/454)


47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[97 المائدة]:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
1591 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ"
[الحديث 1591 – طرفه في: 1596]
1592 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ, وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ. فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ"
[الحديث 1592 – أطرافه في: 1893, 2001, 2002, 3831, 4502, 4504]
1593 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ" تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُحَجَّ الْبَيْتُ" وَالأَوَّلُ أَكْثَرُ سَمِعَ. قَتَادَةُ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ أَبَا سَعِيدٍ
قوله: "باب قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ - إلى قوله – عَلِيمٌ} كأنه يشير إلى أن

(3/454)


المراد بقوله: {قِيَاماً} أي قواما وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم، ولهذه النكتة أورد في الباب قصة هدم الكعبة في آخر الزمان، وقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية فقال: لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة. وعن عطاء قال: قياما للناس لو تركوه عاما لم ينظروا أن يهلكوا. ثم أورد المصنف في هذا الباب ثلاثة أحاديث: أولها حديث أبي هريرة "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده.ثانيها حديث عائشة في صيام عاشوراء قبل نزول فرض رمضان، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد في آخر كتاب الصيام، والمقصود منه هنا قوله في هذه الطريق "وكان يوما تستر فيه الكعبة" فإنه يفيد أن الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور ويقومون بها، وعرف بهذا جواب الإسماعيلي في قوله: ليس في الحديث مما ترجم به شيء سوى بيان اسم الكعبة المذكورة في الآية، ويستفاد من الحديث أيضا معرفة الوقت الذي كانت الكعبة تكسى فيه من كل سنة وهو يوم عاشوراء، وكذا ذكر الواقدي بإسناده عن أبي جعفر الباقر أن الأمر استمر على ذلك في زمانهم، وقد تغير ذلك بعد فصارت تكسى في يوم النحر، وصاروا يعمدون إليه في ذي القعدة فيعلقون كسوته إلى نحو نصفه، ثم صاروا يقطعونها فيصير البيت كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوه الكسوة الجديدة.
" تنبيه ": قال الإسماعيلي جمع البخاري بين رواية عقيل وابن أبي حفصة في المتن، وليس في رواية عقيل ذكر الستر، ثم ساقه بدونه من طريق عقيل. وهو كما قال، وعادة البخاري التجوز في مثل هذا. وقد رواه الفاكهي من طريق ابن أبي حفصة فصرح بسماع الزهري له من عروة. ثالثها حديث أبي سعيد الخدري في حج البيت بعد يأجوج ومأجوج، أورده موصولا من طريق إبراهيم - وهو ابن طهمان، عن الحجاج بن الحجاج وهو الباهلي البصري عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عنه وقال بعده: سمع قتادة عبد الله بن أبي عتبة وعبد الله سمع أبا سعيد الخدري، وغرضه بهذا أنه لم يقع فيه تدليس. وهل أراد بهذا أن كلا منهما سمع هذا الحديث بخصوصه أو في الجملة؟ فيه احتمال. وقد وجدته من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة مصرحا بسماع قتادة من عبد الله بن أبي عتبة في حديث: "كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها" وهو عند أحمد، وعند أبي عوانة في مستخرجه من وجه آخر. قوله: "ليحجن" بضم أوله وفتح المهملة والجيم. قوله: "تابعه أبان وعمران عن قتادة" أي على لفظ المتن، فأما متابعة أبان - وهو ابن يزيد العطار - فوصلها الإمام أحمد عن عفان وسويد بن عمرو الكلبي وعبد الصمد بن عبد الوارث ثلاثتهم عن أبان فذكر مثله، وأما متابعة عمران وهو القطان فوصلها أحمد أيضا عن سليمان بن داود وهو الطيالسي عنه، وكذا أخرجه ابن خزيمة وأبو يعلى من طريق الطيالسي، وقد تابع هؤلاء سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أخرجه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عنه ولفظه: "إن الناس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النخل بعد خروج يأجوج ومأجوج ". قوله: "فقال عبد الرحمن" يعني ابن مهدي. قوله: "عن شعبة" يعني عن قتادة بهذا السند. قوله: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت" وصله الحاكم من طريق أحمد بن حنبل عنه قال البخاري: والأول أكثر، أي لاتفاق من تقدم ذكره على هذا اللفظ وانفراد شعبة بما يخالفهم، وإنما قال ذلك لأن ظاهرهما التعارض، لأن المفهوم من الأول أن البيت يحج بعد أشراط الساعة، ومن الثاني أنه لا يحج بعدها، ولكن يمكن الجمع بين الحديثين، فإنه لا يلزم من حج الناس بعد خروج يأجوج ومأجوج أن يمتنع الحج في وقت ما عند قرب ظهور الساعة، ويظهر والله أعلم أن المراد بقوله: "ليحجن البيت" أي مكان البيت لما سيأتي بعد باب

(3/455)


أن الحبشة إذا خربوه لم يعمر بعد ذلك.

(3/456)


48 - باب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ
1594 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ و حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ فَقَالَ لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ قَسَمْتُهُ قُلْتُ إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلاَ قَالَ هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا"
[الحديث 1594 – طرفه في: 7275]
قوله: "باب كسوة الكعبة" أي حكمها في التصرف فيها ونحو ذلك. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري في الطريقين، وإنما قدم الأولى مع نزولها لتصريح سفيان بالتحديث فيها، وأما ابن عيينة فلم يسمعه من واصل بل رواه عن الثوري عنه أخرجه ابن خزيمة من طريقه. قوله: "جلست مع شيبة" هو ابن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الله بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة نسبة إلى حجب الكعبة يكنى أبا عثمان. قوله: "على الكرسي" في رواية عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الشيباني عند ابن ماجه والطبراني بهذا السند "بعث معي رجل بدراهم هدية إلى البيت، فدخلت البيت وشيبة جالس على كرسي، فناولته إياها فقال: لك هذه؟ فقلت: لا ولو كانت لي لم آتك بها، قال أما إن قلت ذلك فقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه" فذكره. قوله: "فيها" أي الكعبة. قوله: "صفراء ولا بيضاء" أي ذهبا ولا فضة، قال القرطبي: غلط: من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة، وإنما أراد الكنز الذي بها، وهو ما كان يهدي إليها فيدخر ما يزيد عن الحاجة، وأما الحلي فمحبسة عليها كالقناديل فلا يجوز صرفها في غيرها. وقال ابن الجوزي: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال تعظيما لها فيجتمع فيها. قوله: "إلا قسمته" أي المال. وفي رواية عمر بن شبة في "كتاب مكة" عن قبيصة شيخ البخاري فيه: "إلا قسمتها" وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند المصنف في الاعتصام "إلا قسمتها بين المسلمين" وعند الإسماعيلي من هذا الوجه "لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين" ومثله في رواية المحاربي المذكورة. قوله: "قلت إن صاحبيك لم يفعلا" في رواية ابن مهدي المذكورة "قلت ما أنت بفاعل. قال لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك" وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه وكذا المحاربي "قال ولم ذاك؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه". قوله: "هما المرءان" تثنية مرء بفتح الميم ويجوز ضمها والراء ساكنة على كل حال بعدها همزة أي الرجلان. قوله: "أقتدي بهما" في رواية عمر بن شبة تكرير قوله: "المرءان أقتدي بهما" وفي رواية ابن مهدي في الاعتصام "يقتدي بهما" على البناء للمجهول.
وفي رواية الإسماعيلي والمحاربي "فقام كما هو وخرج". ودار نحو هذه القصة بين عمر أيضا وأبي بن كعب أخرجه عبد الرزاق وعمر بن شبة من طريق الحسن "أن عمر أراد أن يأخذ كنز الكعبة فينفقه في سبيل الله فقال له أبي بن كعب: قد سبقك صاحباك، فلو كان فضلا لفعلاه" لفظ عمر بن شبة. وفي رواية عبد الرزاق "فقال له أبي بن كعب: والله ما ذاك لك، قال: ولم؟ قال: أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال ابن بطال: أراد عمر لكثرته إنفاقه في منافع المسلمين،

(3/456)


ثم لما ذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له أمسك، وإنما تركا ذلك والله أعلم لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم الإسلام وترهيب العدو. قلت: أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث بل يحتمل أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة في بناء الكعبة "لأنفقت كنز الكعبة" ولفظه: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض" الحديث، فهذا التعليل هو المعتمد. وحكى الفاكهي في "كتاب مكة" أنه صلى الله عليه وسلم وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية، فقيل له: لو استعنت بها على حربك فلم يحركه، وعلى هذا فإنفاقه جائز كما جاز لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم لزوال سبب الامتناع، ولولا قوله في الحديث: "في سبيل الله" لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس، ويمكن أن يحمل قوله في سبيل الله على ذلك لأن عمارة الكعبة يصدق عليه أنه في سبيل الله، واستدل التقي السبكي بحديث الباب على جواز تعليق قناديل الذهب والفضة في الكعبة ومسجد المدينة فقال: هذا الحديث عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدى إليها أو ينذر لها، قال: وأما قول الرافعي لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة ولا تعليق قناديلها فيها حكى الوجهين في ذلك: أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف، والآخر المنع إذ لم ينقل من فعل السلف، فهذا مشكل لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد بدليل تجويز سترها بالحرير والديباج، وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف. ثم تمسك للجواز بما وقع في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته. ثم استدل للجواز بأن تحريم استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما قال: وليس في تحلية المساجد بالقناديل الذهب شيء من ذلك، وقد قال الغزالي: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن فإنه لم يثبت في الذهب إلا تحريمه على الأمة فيما ينسب للذهب وهذا بخلافه فيبقى على أصل الحل ما لم ينه إلى الإسراف انتهى. وتعقب بأن تجويز ستر الكعبة بالديباج قام الإجماع عليه، وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدي به، والوليد لا حجة في فعله، وترك عمر بن عبد العزيز النكير أو الإزالة يحتمل عدة معان فلعله كان لا يقدر على الإنكار خوفا من سطوة الوليد، ولعله لم يزلها لأنه لا يتحصل منها شيء، ولا سيما إن كان الوليد جعل في الكعبة صفائح فلعله رأى أن تركها أولى لأنها صارت في حكم المال الموقوف فكأنه أحفظ لها من غيره، وربما أدى قلعه إلى إزعاج بناء الكعبة فتركه، ومع هذه الاحتمالات لا يصلح الاستدلال بذلك للجواز. وقوله إن الحرام من الذهب إنما هو استعماله في الأكل والشرب إلخ هو متعقب بأن استعمال كل شيء بحسبه، واستعمال قناديل الذهب هو تعليقها للزينة، وأما استعمالها للإيقاد فممكن على بعد، وتمسكه بما قاله الغزالي يشكل عليه بأن الغزالي قيده بما لم ينته إلى الإسراف، والقنديل الواحد من الذهب يكتب تحلية عدة مصاحف، وقد أنكر السبكي على الرافعي تمسكه في المنع بكون ذلك لم ينقل عن السلف، وجوابه أن الرافعي تمسك بذلك مضموما إلى شيء آخر وهو أنه قد صح النهي عن استعمال الحرير والذهب فلما استعمل السلف الحرير في الكعبة دون الذهب -مع عنايتهم بها وتعظيمها- دل على أنه بقي عندهم على عموم النهي، وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب، والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه والله أعلم.
" تنبيه ": قال الإسماعيلي ليس في حديث الباب لكسوة الكعبة ذكر، يعني فلا يطابق الترجمة. وقال ابن بطال:

(3/457)


معني الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة صوابا كان حكم الكسوة حكم المال تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مقصوده التنبيه على أ ن كسوة الكعبة مشروع، والحجة فيه أنها لم تزل تقصد بالمال يوضع فيها على معنى الزينة إعظاما لها فالكسوة من هذا القبيل، قال: ويحتمل أن يكون أراد ما في بعض طرق الحديث كعادته ويكون هناك طريق موافقة للترجمة إما لخلل شرطها وإما لتبحر الناظر في ذلك، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون أخذه من قول عمر: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة، فالمال يطلق على كل شيء فيدخل فيه الكسوة، وقد ثبت في الحديث: "ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت" قال: ويحتمل أيضا - فذكر نحو ما قال ابن بطال وزاد - فأراد التنبيه على أنه موضع اجتهاد، وإن رأي عمر جواز التصرف في المصالح. وأما الترك الذي احتج به عليه شيبة فليس صريحا في المنع، والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة، إذ في بقائها تعريض لإتلافها ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية، قال: ويؤخذ من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأزمنة أهم. قال: واستدلال ابن بطال بالترك على إيجاب بقاء الأحباس لا يتم إلا إن كان القصد بمال الكعبة إقامتها وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك، ويحتمل أن يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة وسدنتها أو إرصاده لمصالح الحرم أو لأعم من ذلك، وعلى كل تقدير فهو تحبيس لا نظير له فلا يقاس عليه انتهى. ولم أر في شيء من طريق حديث شيبة هذا ما يتعلق بالكسوة، إلا أن الفاكهي روى في "كتاب مكة" من طريق علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي شيبة الحجبي فقال: يا أم المؤمنين، إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر، فننزعها ونحفر بئرا فنعمقها وندفنها لكي لا تلبسها الحائض والجنب، قالت: بئسما صنعت، ولكن بعها فاجعل ثمنها في سبيل الله وفي المساكين، فإنها إذا نزعت عنها لم يضر من لبسها من حائض أو جنب، فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع له فيضعها حيث أمرته" وأخرجه البيهقي من هذا الوجه، لكن في إسناده راو ضعيف، وإسناد الفاكهي سالم منه. وأخرج الفاكهي أيضا من طريق ابن خيثم "حدثني رجل من بني شيبة قال: رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين" وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه "أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج" فلعل البخاري أشار إلى شيء من ذلك.
"فصل" في معرفة بدء كسوة البيت: روى الفاكهي من طريق عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أنه سمعه يقول: "زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أسعد، وكان أول من كسا البيت الوصائل" ورواه الواقدي عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عنه، ومن وجه آخر عن عمر موقوفا، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: بلغنا أن تبعا أول من كسا الكعبة الوصائل فسترت بها. قال: وزعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل عليه السلام. وحكى الزبير بن بكار عن بعض علمائهم أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وأول من كسا الكعبة، أو كسيت في زمنه. وحكى البلاذري أن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أد. وروى الواقدي أيضا عن إبراهيم بن أبي ربيعة قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. وروى الفاكهي

(3/458)


بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب قال: لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة فاحترقت ثيابها وكانت كسوة المشركين، فكساها المسلمون بعد ذلك. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن حسن هو ابن صالح عن ليث هو ابن أبي سليم قال: كانت كسوة الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المسوح والأنطاع. ليث ضعيف، والحديث معضل. وقال أبو بكر أيضا حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عجوز من أهل مكة قالت: أصيب ابن عفان وأنا بنت أربع عشرة سنة، قالت: ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكساء الأحمر يطرح عليه والثوب الأبيض. وقال ابن إسحاق: بلغني أن البيت لم يكس في عهد أبي بكر ولا عمر، يعني لم يجدد له كسوة. وروى الفاكهي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات يوم يقلدها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة. زاد في رواية صحيحة أيضا. فلما كست الأمراء الكعبة جللها القباطي، ثم تصدق بها. وهذا يدل على أن الأمر كان مطلقا للناس. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه قالت: سألت عائشة أنكسو الكعبة؟ قالت: الأمراء يكفونكم. وروى عبد الرزاق عن الأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى عن هشام بن عروة أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وإبراهيم ضعيف. وتابعه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف أيضا أخرجه الزبير عنه عن هشام، وروى الواقدي عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر الباقر قال: كساها يزيد بن معاوية الديباج، وإسحاق بن أبي فروة ضعيف. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرت أن عمر كان يكسوها القباطي، وأخبرني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كساها القباطي والحبرات وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان، وأن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا أصاب ما نعلم لها من كسوة أوفق منه. وروى أبو عروبة في "الأوائل" له عن الحسن قال: أول من لبس الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الفاكهي في "كتاب مكة" من طريق مسعر عن جسرة قال: أصاب خالد بن جعفر بن كلاب لطيمة في الجاهلية فيها نمط من ديباج، فأرسل به إلى الكعبة فنيط عليها، فعلى هذا هو أول من كسا الكعبة الديباج. وروى الدارقطني في المؤتلف أن أول من كسا الكعبة الديباج نتيلة بنت جناب والدة العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج. وذكر الزبير بن بكار أنها أضلت ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس فنذرت أن وجدته أن تكسو البيت فرده عليها رجل من جذام فكست الكعبة ثيابا بيضا. وهذا محمول على تعدد القصة. وحكى الأزرقي أن معاوية كساها الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان، فحصلنا في أول من كساها مطلقا على ثلاثة أقوال: إسماعيل وعدنان وتبع وهو أسعد المذكور في الرواية الأولى، ولا تعارض بين ما روي عنه أنه كساها الأنطاع والوصائل لأن الأزرقي حكى في "كتاب مكة" أن تبعا أري في المنام أن يكسو الكعبة فكساها الأنطاع، ثم أري أن يكسوها فكساها الوصائل وهي ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس بعده في الجاهلية. ويجمع بين الأقوال الثلاثة إن كانت ثابتة بأن إسماعيل أول من كساها مطلقا، وأما تبع فأول من كساها ما ذكر، وأما عدنان فلعله أول من كساها بعد إسماعيل، وسيأتي في أوائل غزوة الفتح ما يشعر أنها كانت تكسى في رمضان، وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة أقوال: خالد أو نتيلة أو معاوية أو يزيد أو ابن الزبير أو الحجاج، ويجمع بينها بأن كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها وإنما كان فيما كساها شيء من الديباج، وأما معاوية فلعله كساها في آخر

(3/459)


خلافته فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد، وأما ابن الزبير فكأنه كساها ذلك بعد تجديد عمارتها فأوليته بذلك الاعتبار، لكن لم يداوم على كسوتها الديباج، فلما كساها الحجاج بأمر عبد الملك استمر ذلك فكأنه أول من داوم على كسوتها الديباج في كل سنة. وقول ابن جريج أول من كساها ذلك عبد الملك يوافق القول الأخير، فإن الحجاج إنما كساها بأمر عبد الملك. وقول ابن إسحاق أن أبا بكر وعمر لم يكسيا الكعبة فيه نظر، لما تقدم عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر كان ينزعها كل سنة، لكن يعارض ذلك ما حكاه الفاكهي عن بعض المكيين أن شيبة بن عثمان استأذن معاوية في تجريد الكعبة فأذن له فكان أول من جردها من الخلفاء، وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئا فوق شيء. وقد تقدم سؤال شيبة لعائشة أنها تجتمع عندهم فتكثر. وذكر الأزرقي أن أول من ظاهر الكعبة بين كسوتين عثمان بن عفان. وذكر الفاكهي أن أول من كساها الديباج الأبيض المأمون بن الرشيد واستمر بعده. وكسيت في أيام الفاطميين الديباج الأبيض. وكساها محمد بن سبكتكين ديباجا أصفر، وكساها الناصر العباسي ديباجا أخضر، ثم كساها ديباجا أسود فاستمر إلى الآن. ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة قرية من نواحي القاهرة يقال لها بيسوس كأن اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال ثم وقفها كلها على هذه الجهة فاستمر، ولم تزل تكسى من هذا الوقف إلى سلطنة الملك المؤيد شيخ سلطان العصر فكساها من عنده سنة لضعف وقفها، ثم فوض أمرها إلى بعض أمنائه وهو القاضي زين الدين عبد الباسط - بسط الله له في رزقه وعمره - فبالغ في تحسينها بحيث يعجز الواصف عن صفة حسنها جزاه الله على ذلك أفضل المجازاة. وحاول ملك الشرق شاه روخ في سلطنة الأشرف برسباي أن يأذن له في كسوة الكعبة فامتنع، فعاد راسله أن يأذن له أن يكسوها من داخلها فقط فأبى، فعاد راسله أن يرسل الكسوة إليه ويرسلها إلى الكعبة ويكسوها ولو يوما واحدا، واعتذر بأنه نذر أن يكسوها ويريد الوفاء بنذره، فاستفتى أهل العصر فتوقفت عن الجواب وأشرت إلى أنه إن خشي منه الفتنة فيجاب دفعا للضرر، وتسرع جماعة إلى عدم الجواز ولم يستندوا إلى طائل، بل إلى موافقة هوى السلطان، ومات الأشرف على ذلك.

(3/460)


49 - باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ"
1595 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا"
1596 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب هدم الكعبة" أي في آخر الزمان. قوله: "وقالت عائشة" في رواية غير أبي ذر "قالت" بحذف الواو، وهذا طرف من حديث وصله المصنف في أوائل البيوع من طريق نافع بن حبير عنها بلفظ: " يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم" وسيأتي الكلام عليه

(3/460)


هناك، ومناسبته لهذه الترجمة من جهة أن فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع، فمرة يهلكهم الله قبل الوصول إليها وأخرى يمكنهم، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأولين. قوله: "عبيد الله بن الأخنس" بمعجمة ونون ثم مهملة وزن الأحمر، وعبيد الله بالتصغير كوفي يكنى أبا مالك. قوله: " كأني به " كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والذي يظهر أن في الحديث شيئا حذف، ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي عند أبي عبيد في "غريب الحديث" من طريق أبي العالية عن علي قال: "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع - أو قال أصمع - حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم" ورواه الفاكهي من هذا الوجه ولفظه: "أصعل" بدل أصلع وقال: "قائما عليها يهدمها بمسحاته" ورواه يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعا. قوله: "كأني به أسود أفحج" بوزن أفعل بفاء ثم حاء ثم جيم، والفحج تباعد ما بين الساقين، قال الطيبي وفي إعرابه أوجه: قيل هو حال من خبر كان وهو باعتبار المعنى الذي أشبه الفعل، وقيل هما حالان من خبر كان وذو الحال إما المستقر المرفوع أو المجرور والثاني أشبه أو هما بدلان من الضمير المجرور، وعلى كل حال يلزم إضمار قبل الذكر، وهو مبهم يفسره ما بعده كقولك رأيته رجلا، وقيل هما منصوبان على التمييز. وقوله: "حجرا حجرا" حال كقولك بوبته بابا بابا، وقوله في حديث علي "أصلع أو أصعل أو أصمع" الأصلع من ذهب شعر مقدم رأسه، والأصعل الصغير الرأس، والأصمع الصغير الأذنين. وقوله: "حمش الساقين" بحاء مهملة وميم ساكنة ثم معجمة أي دقيق الساقين، وهو موافق لقوله في رواية أبي هريرة "ذو السويقتين" كما سيأتي في الحديث الذي بعده. قوله: "يقلعها حجرا حجرا" زاد الإسماعيلي والفاكهي في آخره: "يعني الكعبة". قوله: "عن ابن شهاب" كذا رواه الليث عن يونس، وتابعه عبد الله بن وهب عن يونس عند أبي نعيم في المستخرج، وخالفهما ابن المبارك فرواه عن يونس عن الزهري فقال عن سحيم مولى بني زهرة عن أبي هريرة رواه الفاكهي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك، فإن كان محفوظا فيكون للزهري فيه شيخان عن أبي هريرة. قوله: " ذو السويقتين" تثنية سويقة وهي تصغير ساق أي له ساقان دقيقان. قوله: "من الحبشة" أي رجل من الحبشة، ووقع هذا الحديث عند أحمد من طريق سعيد بن سمعان عن أبي هريرة بأتم من هذا السياق ولفظه: "يبايع للرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا، وهم الذين يستخرجون كنزه" ولأبي قرة في "السنن" من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة" ونحوه لأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وزاد أحمد والطبراني من طريق مجاهد عنه "فيسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، كأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته أو بمعوله" .
وللفاكهي من طريق مجاهد نحوه وزاد: "قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر إليه هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو فلم أرها" قيل: هذا الحديث يخالف قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} ولأن الله حبس عن مكة الفيل ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين؟ وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى في الأرض أحد يقول الله الله كما ثبت في صحيح مسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان "لا يعمر بعده أبدا" وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال

(3/461)


وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده في وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاثمائة فقتلوا من المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرة وقلعوا الحجر الأسود فحولوه إلى بلادهم ثم أعادوه بعد مدة طويلة، ثم غزي مرارا بعد ذلك، كل ذلك لا يعارض قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين فهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولن يستحل هذا البيت إلا أهله" ، فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من علامات نبوته، وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمن المذكور فيها. والله أعلم.

(3/462)


50 - باب مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الأَسْوَدِ
1597 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ"
[الحديث 1597 – طرفاه في: 1605, 1610]
قوله: "باب ما ذكر في الحجر الأسود" أورد فيه حديث عمر في تقبيل الحجر وقوله: "لا تضر ولا تنفع" وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك، وقد وردت فيه أحاديث: منها حديث عند الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب" أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف قال الترمذي: حديث غريب، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وقفه أشبه والذي رفعه ليس بقوي. ومنها حديث ابن عباس مرفوعا: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" أخرجه الترمذي وصححه، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصرا ولفظه: "الحجر الأسود من الجنة" وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وفي صحيح ابن خزيمة أيضا عن ابن عباس مرفوعا: "أن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق" وصححه أيضا ابن حبان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضا. قوله: "عن إبراهيم" هو ابن يزيد النخعي، وقد رواه سفيان وهو الثوري بإسناد آخر عن إبراهيم وهو ابن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة عن عمر أخرجه مسلم. قوله: "إني أعلم أنك حجر" في رواية أسلم الآتية بعد باب عن عمر أنه قال: "أما والله إني لأعلم أنك". قوله: "لا تضر ولا تنفع" أي إلا بإذن الله، وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا قال له علي بن أبي طالب إنه يضر وينفع، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد" وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدا، وقد روى النسائي من وجه آخر ما يشعر بأن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق طاوس عن ابن عباس قال: "رأيت عمر قبل الحجر ثلاثا ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك" ثم قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك" قال الطبري: إنما قال

(3/462)


ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان. وقال المهلب: حديث عمر هذا يرد على من قال إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختيارا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم. وقال الخطابي: معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحب الطبري: معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه فلما كان الحاج أول ما يقدم يسن له تقبيله نزل منزلة يمين الملك ولله المثل الأعلى. وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاده أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك، وسيأتي بقية الكلام على التقبيل والاستلام بعد تسعة أبواب. قال شيخنا في "شرح الترمذي": فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله، وأما قول الشافعي ومهما قبل من البيت فحسن فلم يرد به الاستحباب لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين.
" تكميل ": اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي فقال: كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد؟ وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ، ولا ينصبغ على العكس من البياض. وقال المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد. قال: وروي عن ابن عباس إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، فإن ثبت فهذا هو الجواب. قلت: أخرجه الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف والله أعلم.

(3/463)


51 - باب إِغْلاَقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ
1598 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ "دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ, فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ, فَلَقِيتُ بِلاَلًا فَسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ"
قوله: "باب إغلاق البيت، ويصلي في أي نواحي البيت شاء" أورد فيه حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين العمودين، وتعقب بأنه يغاير الترجمة من جهة أنها تدل على التخيير، والفعل المذكور يدل على التعيين. وأجيب بأنه حمل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع بعينه على سبيل الاتفاق لا على سبيل القصد لزيادة فضل في ذلك المكان على غيره، ويحتمل أن يكون مراده أن ذلك الفعل ليس حتما وإن كانت الصلاة في تلك البقعة التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من غيرها، ويؤيده ما سيأتي في الباب الذي يليه من تصريح ابن عمر بنص الترجمة مع كونه كان يقصد المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه لفضله، وكأن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى الحكمة في إغلاق الباب حينئذ، وهو أولى من دعوى ابن بطال الحكمة فيه لئلا يظن الناس أن ذلك سنة، وهو مع ضعفه

(3/463)


منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما اطلع عليه بلال ومن كان معه، وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه فعل الواحد وقد تقدم بسط هذا في "باب الغلق للكعبة" من كتاب الصلاة، وظاهر الترجمة أنه يشترط للصلاة في جميع الجوانب إغلاق الباب ليصير مستقبلا في حال الصلاة غير الفضاء، والمحكي عن الحنفية الجواز مطلقا، وعن الشافعية وجه مثله لكن يشترط أن يكون للباب عتبة بأي قدر كانت، ووجه يشترط أن يكون قدر قامة المصلي، ووجه يشترط أن يكون قدر مؤخر الرجل وهو المصحح عندهم، وفي الصلاة فوق ظهر الكعبة نظير هذا الخلاف والله أعلم. وأما قول بعض الشارحين إن قوله: "ويصلي في أي نواحي البيت شاء" يعكر على الشافعية فيما إذا كان البيت مفتوحا ففيه نظر لأنه جعله حيث يغلق الباب، وبعد الغلق لا توقف عندهم في الصحة. قوله: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت" كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبينا من رواية يونس بن يزيد عن نافع عند المصنف في كتاب الجهاد بزيادة فوائد ولفظه: "أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته" وفي رواية فليح عن نافع الآتية في المغازي "وهو مردف أسامة - يعني ابن زيد - على القصواء، ثم اتفقا ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد" وفي رواية فليح "عند البيت. وقال لعثمان ائتنا بالمفتاح، فجاءه بالمفتاح ففتح له الباب فدخل" ولمسلم وعبد الرزاق من رواية أيوب عن نافع "ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه أو لأخرجن هذا السيف من صلبي، فلما رأت ذلك أعطته، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الباب: "فظهر من رواية فليح أن فاعل فتح هو عثمان المذكور، لكن روى الفاكهي - من طريق ضعيفة - عن ابن عمر قال: "كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده" وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزيز بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، ويقال له الحجبي بفتح المهملة والجيم، ولآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، وله أيضا صحبة ورواية، واسم أم عثمان المذكورة سلافة بضم المهملة والتخفيف والفاء. قوله: "هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان" زاد مسلم من طريق أخرى "ولم يدخلها معهم أحد" ووقع عند النسائي من طريق ابن عون عن نافع "ومعه الفضل بن عباس وأسامة وبلال وعثمان" زاد الفضل، ولأحمد من حديث ابن عباس "حدثني أخي الفضل - وكان معه حين دخلها - أنه لم يصل في الكعبة" وسيأتي البحث فيه بعد بابين. قوله: "فأغلقوا عليهم" زاد في رواية حسان بن عطية عن نافع عند أبي عوانة "من داخل" وزاد يونس "فمكث نهارا طويلا" وفي رواية فليح "زمانا" بدل نهارا. وفي رواية جويرية عن نافع التي مضت في أوائل الصلاة "فأطال" ولمسلم من رواية ابن عون عن نافع "فمكث فيها مليا" وله من رواية عبيد الله عن نافع "فأجافوا عليهم الباب طويلا" ومن رواية أيوب عن نافع "فمكث فيها ساعة" وللنسائي من طريق ابن أبي مليكة "فوجدت شيئا فذهبت ثم جئت سريعا فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم خارجا منها" ووقع في الموطأ بلفظ: "فأغلقاها عليه" والضمير لعثمان وبلال، ولمسلم من طريق ابن عون عن نافع "فأجاف عليهم عثمان الباب"، والجمع بينهما أن عثمان هو المباشر لذلك لأنه من وظيفته، ولعل بلالا ساعده في ذلك. ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والراضي به. قوله: "فلما فتحوا كنت أول من ولج" في رواية فليح "ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم" وفي رواية أيوب "وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم" وفي رواية جويرية "كنت أول الناس ولج على أثره" وفي رواية ابن عون "فرقيت الدرجة

(3/464)


فدخلت البيت" وفي رواية مجاهد الماضية في أوائل الصلاة عن ابن عمر "وأجد بلالا قائما بين البابين" وأفاد الأزرقي في "كتاب مكة" أن خالد بن الوليد كان على الباب يذب عنه الناس، وكأنه جاء بعدما دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأغلق. قوله: "فلقيت بلالا فسألته" زاد في رواية مالك عن نافع الماضية في أوائل الصلاة "ما صنع "؟ وفي رواية جويرية ويونس وجمهور أصحاب نافع "فسألت بلالا أين صلى"؟ اختصروا أول السؤال، وثبت في رواية سالم هذه حيث قال: "هل صلى فيه؟ قال نعم" وكذا في رواية مجاهد وابن أبي مليكة عن ابن عمر "فقلت: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال نعم" فظهر أنه استثبت أولا هل صلى أو لا، ثم سأل عن موضع صلاته من البيت. ووقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم: "فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة" على الشك، والمحفوظ أنه سأل بلالا كما في رواية الجمهور: ووقع عند أبي عوانة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر أنه سأل بلالا وأسامة بن زيد حين خرجا "أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ فقالا على جهته" وكذا أخرجه البزار نحوه، ولأحمد والطبراني من طريق أبي الشعثاء عن ابن عمر قال: "أخبرني أسامة أنه صلى فيه هاهنا" ولمسلم والطبراني من وجه آخر "فقلت أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا" فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال كما تقدم تفصيله، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة فسأل عثمان أيضا وأسامة، ويؤيد ذلك قوله في رواية ابن عون عند مسلم: "ونسيت أن أسألهم كم صلى" بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم الرواية التي أشرنا إليها من عند مسلم، وكأنه لم يقف على بقية الروايات، ولا يعارض قصته مع قصة أسامة ما أخرجه مسلم أيضا من حديث ابن عباس أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل فيه، ولكنه كبر في نواحيه. فإنه يمكن الجمع بينهما بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره صلى الله عليه وسلم حين صلى. وسيأتي مزيد بسط فيه بعد بابين في الكلام على حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى. قوله: "بين العمودين اليمانيين" في رواية جويرية "بين العمودين المقدمين" وفي رواية مالك عن نافع "جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره" وفي رواية عنه "عمودين عن يمينه" وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في "باب الصلاة بين السواري" بما يغني عن إعادته، لكن نذكر هنا ما لم يتقدم ذكره؛ فوقع في رواية فليح الآتية في المغازي "بين ذينك العمودين المقدمين، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره" وقال في آخر روايته: "وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء" وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبني في زمن ابن الزبير، فأما الآن فقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع كما في الباب الذي يليه أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي والدارقطني في "الغرائب" من طريقه وطريق عبد الله بن وهب وغيرهما عنه ولفظه: "وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع" وكذا أخرجها أبو عوانة من طريق هشام بن سعد عن نافع، وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك بلفظ: "نحو من ثلاثة أذرع" وهي موافقة لرواية موسى بن عقبة. وفي "كتاب مكة" للأزرقي والفاكهي من وجه آخر أن معاوية سأل ابن عمر "أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة" فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فإنه تقع قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة أذرع سواء، وتقع ركبتاه أو يداه ووجهه إن كان أقل من ثلاثة والله أعلم. وأما مقدار صلاته

(3/465)


حينئذ فقد تقدم البحث فيه في أوائل الصلاة، وأشرت إلى الجمع بين رواية مجاهد عن ابن عمر أنه صلى ركعتين وبين رواية من روى عن نافع أن ابن عمر قال نسيت أن أسأله كم صلى، وإلى الرد على. من زعم أن رواية مجاهد غلط بما فيه مقنع بحمد الله تعالى. وفي هذا الحديث من الفوائد: رواية الصاحب عن الصاحب، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل والاكتفاء به، والحجة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضا خبر واجد فكيف يحتج للشيء بنفسه؟ لأنا نقول: هو فرد ينضم إلى نظائر مثله يوجب العلم بذلك، وفيه اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة، وفيه السؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها، وفيه أن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة ويحضره من هو دونه فيطلع على ما لم يطلع عليه، لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك، واستدل به المصنف فيما مضى على أن الصلاة إلى المقام غير واجبة، وعلى جواز الصلاة بين السواري في غير الجماعة، وعلى مشروعية الأبواب والغلق للمساجد، وفيه أن السترة إنما تشرع حيث يخشى المرور فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بين العمودين ولم يصل إلى أحدهما، والذي يظهر أنه ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار كما تقدم أنه كان بين مصلاه والجدار نحو ثلاثة أذرع، وبذلك ترجم له النسائي على أن حد الدنو من السترة أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع، ويستفاد منه أن قول العلماء تحية المسجد الحرام الطواف مخصوص بغير داخل الكعبة لكونه صلى الله عليه وسلم جاء فأناخ عند البيت فدخله فصلى فيه ركعتين فكانت تلك الصلاة إما لكون الكعبة كالمسجد المستقل أو هو تحية المسجد العام والله أعلم. وفيه استحباب دخول الكعبة، وقد روى ابن خزيمة والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: "من دخل البيت دخل في حسنة وخرج مغفورا له" قال البيهقي تفرد به عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحدا بدخوله. وروى ابن أبي شيبة من قول ابن عباس: أن دخول البيت ليس من الحج في شيء، وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، ورده بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح ولم يكن حينئذ محرما، وأما ما رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن خزيمة والحاكم عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو قرير العين ثم رجع وهو كئيب فقال: دخلت الكعبة فأخاف أن أكون شققت على أمتي" فقد يتمسك به لصاحب هذا القول المحكي لكون عائشة لم تكن معه في الفتح ولا في عمرته، بل سيأتي بعد بابين أنه لم يدخل في الكعبة في عمرته، فتعين أن القصة كانت في حجته وهو المطلوب، وبذلك جزم البيهقي، وإنما لم يدخل في عمرته لما كان في البيت من الأصنام والصور كما سيأتي، وكان إذ ذاك لا يتمكن من إزالتها، بخلاف عام الفتح. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه فليس في السياق ما يمنع ذلك، وسيأتي النقل عن جماعة من أهل العلم أنه لم يدخل الكعبة في حجته. وفيه استحباب الصلاة في الكعبة وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم وهو قول الجمهور، وعن ابن عباس لا تصح الصلاة داخلها مطلقا، وعلله بأنه يلزم من ذلك استدبار بعضها وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها. وقال به بعض المالكية والظاهرية والطبري. وقال المازري: المشهور في المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة، وعن ابن عبد الحكم الإجزاء، وصححه ابن عبد البر وابن العربي.
وعن ابن حبيب يعيد أبدا، وعن أصبغ إن كان متعمدا، وأطلق الترمذي عن مالك جواز النوافل، وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب وما تسرع فيه الجماعة، وفي "شرح العمدة" لابن دقيق العيد: كره مالك الفرض

(3/466)


أو منعه فكأنه أشار إلى اختلاف النقل عنه في ذلك، ويلتحق بهذه المسألة الصلاة في الحجر. ويأتي فيها الخلاف السابق في أول الباب في الصلاة إلى جهة الباب، نعم إذا استدبر الكعبة واستقبل الحجر لم يصح على القول بأن تلك الجهة منه ليست من الكعبة، ومن المشكل ما نقله النووي في "زوائد الروضة" عن الأصحاب أن صلاة الفرض داخل الكعبة - إن لم يرج جماعة - أفضل منها خارجها، ووجه الإشكال أن الصلاة خارجها متفق على صحتها بين العلماء بخلاف داخلها، فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق.

(3/467)


52 - باب الصَّلاَةِ فِي الْكَعْبَةِ
1599 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِ أَذْرُعٍ فَيُصَلِّي يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِلاَلٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ"
قوله: "باب الصلاة في الكعبة" أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك من طريق عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة عن نافع. قوله: "قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة أي مقابل. قوله: "يتوخى" بتشديد الخاء المعجمة أي يقصد. قوله: "وليس على أحد بأس إلخ" الظاهر أنه من كلام ابن عمر مع احتمال أن يكون من كلام غيره، وقد تقدم الحديث المرفوع في كتاب الصلاة في "باب الصلاة بين السواري".

(3/467)


53 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحُجُّ كَثِيرًا وَلاَ يَدْخُلُ
1600 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ "اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ قَالَ لاَ"
قوله: "باب من لم يدخل الكعبة" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم أن دخولها من مناسك الحج، وقد تقدم البحث فيه قبل بباب، واقتصر المصنف على الاحتجاج بفعل ابن عمر لأنه أشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة فلو كان دخولها عنده من المناسك لما أخل به مع كثرة اتباعه. قوله: "وكان ابن عمر إلخ" وصله سفيان الثوري في جامعه من رواية عبد الله بن الوليد العدلي عنه عن حنظلة عن طاوس قال: "كان ابن عمر يحج كثيرا ولا يدخل البيت" وأخرجه الفاكهي في "كتاب مكة" من هذا الوجه. قوله: "خالد بن عبد الله" هو الطحان البصري، وهذا الإسناد نصفه بصري ونصفه كوفي. قوله: "اعتمر" أي في سنة سبع عام القضية. قوله: "أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة"؟ الهمزة للاستفهام، أي في تلك العمرة. قوله: "قال لا" قال النووي:

(3/467)


باب من كبر نواحي الكعبة
...
54 - باب مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ
1601 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ"
قوله: "باب من كبر في نواحي الكعبة" أورد فيه حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم كبر في البيت ولم يصل فيه: "وصححه المصنف واحتج به مع كونه يرى تقديم حديث بلال في إثباته الصلاة فيه عليه، ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى الترجمة لأن ابن عباس أثبت التكبير ولم يتعرض له بلال، وبلال أثبت الصلاة ونفاها ابن عباس فاحتج المصنف بزيادة ابن عباس، وقد يقدم إثبات بلال على نفي غيره لأمرين: أحدهما أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وإنما أسند نفيه تارة لأسامة وتارة لأخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى أحمد من طريق ابن عباس عن أخيه الفضل نفي الصلاة فيها فيحتمل أن يكون تلقاه عن أسامة فإنه كان معه كما تقدم، وقد مضى في كتاب الصلاة أن ابن عباس روي عنه نفي الصلاة فيها عند مسلم، وقد وقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عن أسامة عند أحمد وغيره فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات واختلف على من نفى. وقال النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة فنفاها عملا بظنه. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته انتهى. ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور" فهذا الإسناد جيد، قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة

(3/468)


عوده انتهى. وهو مفرع على أن هذه القصة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن فقد روى عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق علي بن بذيمة - وهو تابعي وأبوه بفتح الموحدة ثم معجمة وزن عظيمة - قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ بحبوته فحلها" الحديث، فلعله احتبى فاستراح فنعس فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفي رؤيته لا ما في نفس الأمر، ومنهم من جمع بين الحديثين بغير ترجيح أحدهما على الآخر وذلك من أوجه: أحدها حمل الصلاة المثبتة على اللغوية والمنفية على الشرعية، وهذه طريقة من يكره الصلاة داخل الكعبة فرضا ونفلا، وقد تقدم البحث فيه، ويرد هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه من تعيين قدر الصلاة، فظهر أن المراد بها الشرعية لا مجرد الدعاء. ثانيها قال القرطبي: يمكن حمل الإثبات على التطوع والنفي على الفرض، وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك، وقد تقدم البحث فيها. ثالثها قال المهلب شارح البخاري: يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين، صلى في إحداهما ولم يصل في الأخرى. وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين فيقال: لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض، وهذا جمع حسن، لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم دخل في يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما روى الأزرقي في "كتاب مكة" عن سفيان عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة وحدة السفر لا الدخول، وقد وقع عند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع والله أعلم. ويؤيد الجمع الأول ما أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق حماد عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: قلت له كيف أصلي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة، تسبح وتكبر ولا تركع ولا تسجد، ثم عند أركان البيت سبح وكبر وتضرع واستغفر ولا تركع ولا تسجد، وسنده صحيح. قوله: "وفيه الآلهة" أي الأصنام، وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، وفي جواز إطلاق ذلك وقفة، والذي يظهر كراهته، وكانت تماثيل على صور شتى فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول البيت وهي فيه لأنه لا يقر على باطل، ولأنه لا يحب فراق الملائكة وهي لا تدخل ما فيه صورة. قوله: "الأزلام" سيأتي شرحها مبينا حيث ذكرها المصنف في تفسير المائدة. قوله: "أم والله" كذا للأكثر ولبعضهم "أما" بإثبات الألف.
قوله: "لقد علموا" قيل وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون اسم أول من أحدث الاستقسام بها، وهو عمرو بن لحي، وكانت نسبتهم إلى إبراهيم وولده الاستقسام بها افتراء عليهما لتقدمهما على عمرو.

(3/469)


55 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ
1602 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ, فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ

(3/469)


يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ"
[الحديث 1602 – طرفه في: 4256]
قوله: "باب كيف كان بدء الرمل" أي ابتداء مشروعيته، وهو بفتح الراء والميم هو الإسراع. وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه، وذكر حديث ابن عباس في قصة الرمل في عمرة القضية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في المغازي، وعلى ما يتعلق بحكم الرمل بعد باب. قوله: "أن يرملوا" بضم الميم وهو في موضع مفعول يأمرهم تقول أمرته كذا وأمرته بكذا. و "الأشواط" بفتح الهمزة بعدها معجمة جمع شوط بفتح الشين وهو الجري مرة إلى الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة، و "الإبقاء" بكسر الهمزة وبالموحدة والقاف الرفق والشفقة، وهو بالرفع على أنه فاعل "لم يمنعه" ويجوز النصب. وفي الحديث جواز تسمية الطوفة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته، ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم. وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أولى.

(3/470)


57 - باب اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلاَثًا
1603 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ"
[الحديث 1603 – أطرافه في: 1604, 1616, 1617, 1644]
قوله: "باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثا" أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو مطابق للترجمة من غير مزيد.
قوله: "يخب" بفتح أوله وضم الخاء المعجمة بعدها موحدة أي يسرع في مشيه، والخبب بفتح المعجمة والموحدة بعدها موحدة أخرى: العدو السريع، يقال خبت الدابة إذا أسرعت وراوحت بين قدميها، وهذا يشعر بترادف الرمل والخبب عند هذا القائل. وقوله: "أول" منصوب على الظرف، و قوله: "من السبع" بفتح أوله أي السبع طوفات، وظاهره أن الرمل يستوعب الطوفة، فهو مغاير لحديث ابن عباس الذي قبله لأنه صريح في عدم الاستيعاب، وسيأتي القول فيه في الباب الذي بعده في الكلام على حديث عمر إن شاء الله تعالى.

(3/470)


57 - باب الرَّمَلِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
1604 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ"
تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

(3/470)


58 - باب اسْتِلاَمِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ
1607 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالاَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ

(3/472)


باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين
...
الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور" قال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فقال: قلبه شعبة، وقد كان شعبة يقول: الناس يخالفونني في هذا، ولكنني سمعته من قتادة هكذا انتهى. وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة على الصواب أخرجه أحمد أيضا، وكذا أخرجه من طريق مجاهد عن ابن عباس نحو، وروى الشافعي من طريق محمد بن كعب القرظي "إن ابن عباس كان يمسح الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: ليس شيء من البيت مهجورا، فيقول ابن عباس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، ولفظ رواية مجاهد المذكورة عن ابن عباس أنه "طاف مع معاوية، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا، فقال له ابن عباس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فقال معاوية: صدقت" وبهذا يتبين ضعف من حمله على التعدد، وأن اجتهاد كل منهما تغير إلى ما أنكره على الآخر، وإنما قلت ذلك لأن مخرج الحديثين واحد وهو قتادة عن أبي الطفيل؛ وقد جزم أحمد بأن شعبة قلبه فسقط التجويز العقلي. قوله: "إنه" الهاء للشأن. قوله: "لا يستلم هذان الركنان" كذا للأكثر على البناء للمجهول، وللحموي والمستملي: "لا نستلم هذين الركنين" بفتح النون ونصب هذين الركنين على المفعولية. قوله: "وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن" وصله ابن أبي شيبة من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أنه رأى أباه يستلم الأركان كلها وقال: "إنه ليس شيء منه مهجورا" وأخرج الشافعي نحوه عنه من وجه آخر كما تقدم، وفي "الموطأ" عن هشام بن عروة بن الزبير أن أباه "كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها"، وأخرجه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن هشام بلفظ: "إذا بدأ استلم الأركان كلها وإذا ختم". ثم أورد المصنف حديث ابن عمر قال: "لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين" وقد تقدم قول ابن عمر "إنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الركنين الشاميين لأن البيت لم يتمم عل قواعد إبراهيم" وعلى هذا المعنى حمل ابن التين تبعا لابن القصار استلام ابن الزبير لهما لأنه لما عمر الكعبة أتم البيت على قواعد إبراهيم انتهى، وتعقب ذلك بعض الشراح بأن ابن الزبير طاف مع معاوية واستلم الكل، ولم يقف على هذا الأثر وإنما وقع ذلك لمعاوية مع ابن عباس، وأما ابن الزبير فقد أخرج الأزرقي في "كتاب مكة" فقال: إن ابن الزبير لما فرغ من بناء البيت وأدخل فيه من الحجر ما أخرج منه ورد الركنين على قواعد إبراهيم خرج إلى التنعيم واعتمر وطاف بالبيت واستلم الأركان الأربعة، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعها حتى قتل ابن الزبير. وأخرج من طريق ابن إسحاق قال: بلغني أن آدم لما حج استلم الأركان كلها، وأن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعا يستلمان الأركان. وقال الداودي: ظن معاوية أنهما ركنا البيت الذي وضع عليه من أول، وليس كذلك، لما سبق من حديث عائشة، والجمهور على ما دل عليه حديث ابن عمر، وروى ابن المنذر وغيره استلام جميع الأركان أيضا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة وعن سويد بن غفلة من التابعين. وقد يشعر ما تقدم في أوائل الطهارة من حديث عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر "رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها" فذكر منها "ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين" الحديث بأن الذين رآهم عبيد بن جريج من الصحابة والتابعين كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الركنين اليمانيين. وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبين بالسنة ومستند التعميم القياس، وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجورا بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت،

(3/474)


وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا، ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به، ويؤخذ منه حفظ المراتب وإعطاء كل ذي حق حقه وتنزيل كل أحد منزلته. " فائدة ": في البيت أربعة أركان، الأول له فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم. وللثاني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط ولا يقبل الآخران ولا يستلمان، هذا على رأي الجمهور. واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني أيضا. "فائدة أخرى": استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب، وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيل قبره فلم ير به بأسا، واستبعد بعض اتباعه صحة ذلك، ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين1 وبالله التوفيق.
ـــــــ
1 الأحكام التي تنسب إلى الدين لا بد من ثبوتها في نصوص الدين, وكل ما لم يكن عليه الأمر في زمن التشريع وفي نصوص التشريع فهو مردود على من يزعمه. وتقدم قول الإمام الشافعي "ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا" وهو مقتضى قول أمير المؤمنين عمر فيما خاطب به الحجر الأسود برقم 1597و1610.هذه هي النصوص, وسيأتي قول الحافظ عن ابن عمر في جوابه لمن سأله عن اسنلام الحجر"أمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به ويتقي الرأي,.والخروج عن هذه الطريقة تغيير للدين وخروج به إلى غير ما أراده الله.

(3/475)


60 - باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ
1610 - حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ورقاء أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه قال "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك"
1611 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ" سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ قَالَ اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ"
قوله: "باب تقبيل الحجر" بفتح المهملة والجيم أي الأسود، أورد فيه حديث عمر مختصرا، وقد تقدم الكلام عليه قبل أبواب. ثم أورد فيه حديث ابن عمر "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله" ولابن المنذر من طريق أبي خالد عن عبيد الله عن نافع "رأيت ابن عمر استلم الحجر وقبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله" ويستفاد منه استحباب الجمع بين التسليم والتقبيل بخلاف الركن اليماني فيستلمه فقط والاستلام المسح باليد والتقبيل بالفم، وروى الشافعي من وجه آخر عن ابن عمر قال: "استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلا" الحديث واختص الحجر الأسود بذلك لاجتماع الفضيلتين له كما تقدم. قوله: "حدثنا حماد" في رواية أبي الوقت "ابن زيد". قوله: "عن الزبير بن عربي" في رواية أبي داود الطيالسي عن حماد "حدثنا الزبير". قوله: "سأل رجل" هو الزبير الراوي، كذلك وقع عند أبي داود الطيالسي عن حماد "حدثنا الزبير سألت ابن عمر". قوله: "أرأيت إن زحمت" أي أخبرني ما أصنع إذا زحمت، وزحمت بضم الزاي بغير إشباع، وفي بعض

(3/475)


باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه
باب التكبير عند الركن
...
طوفة. قوله: "تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد" يعني في التكبير، وأشار بذلك إلى أن رواية عبد الوهاب عن خالد المذكورة في الباب الذي قبله الخالية عن التكبير لا تقدح في زيادة خالد بن عبد الله لمتابعة إبراهيم، وقد وصل طريق إبراهيم في كتاب الطلاق، وسيأتي الكلام في طواف المريض راكبا في بابه إن شاء الله تعالى.

(3/477)


63 - باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا
1614,1615حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَهُ ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا"
[الحديث 1614 – طرفه في: 1641]
[الحديث 1615 – طرفاه في:1642,1796]
1616 - حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا أبو ضمرة أنس حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمرو"
1617 - حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة"
قوله: "باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته إلخ" قال ابن بطال: غرضه بهذه الترجمة الرد على من زعم أن المعتمر إذا طاف حل قبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فأراد أن يبين أن قول عروة "فلما مسحوا الركن حلوا" محمول على أن المراد لما استلموا الحجر الأسود وطافوا وسعوا حلوا، بدليل حديث ابن عمر الذي أردفه به في هذا الباب، وزعم ابن التين أن معنى قول عروة "مسحوا الركن" أي ركن المروة أي عند ختم السعي، وهو متعقب برواية ابن الأسود عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء قالت: "اعتمرت أنا وعائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا" أخرجه المصنف، وسيأتي في أبواب العمرة. وقال النووي: لا بد من تأويل قوله: "مسحوا الركن" لأن المراد به الحجر الأسود ومسحه يكون في أول الطواف ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه بالإجماع، فتقديره: فلما مسحوا الركن وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا حلوا. وحذفت هذه المقدرات للعلم بها

(3/477)


لظهورها. وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل تمام الطواف. ثم مذهب الجمهور أنه لا بد من السعي بعده ثم الحلق. وتعقب بأن المراد بمسح الركن الكناية عن تمام الطواف لا سيما واستلام الركن يكون في كل طوفة. فالمعنى فلما فرغوا من الطواف حلوا، وأما السعي والحلق فمختلف فيهما كما قال، ويحتمل أن يكون المعنى فلما فرغوا من الطواف وما يتبعه حلوا. قلت: وأراد بمسح الركن هنا استلامه بعد فراغ الطواف والركعتين كما وقع في حديث جابر، فحينئذ لا يبقى إلا تقدير وسعوا لأن السعي شرط عند عروة بخلاف ما نقل عن ابن عباس، وأما تقدير حلقوا فينظر في رأي عروة فإن كان الحلق عنده نسكا فيقدر في كلامه وإلا فلا. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث كما سيأتي بعد أربعة عشر بابا من وجه آخر عن ابن وهب. قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن" هو أبو الأسود النوفلي المدني المعروف بيتيم عروة. قوله: "ذكرت لعروة قال فأخبرتني عائشة" حذف البخاري صورة السؤال وجوابه واقتصر على المرفوع منه، وقد ذكره مسلم من هذا الوجه ولفظه: "أن رجلا من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف أيحل أم لا؟ فإن قال لك لا يحل فقل له: إن رجلا يقول ذلك. قال فسألته قال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قال فتصدى لي الرجل فحدثته فقال: فقل له فإن رجلا كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك؟ قال فجئته أي عروة فذكرت له ذلك فقال: من هذا؟ فقلت: لا أدري، أي لا أعرف اسمه. قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني؟ أظنه عراقيا. يعني وهم يتعنتون في المسائل. قال: قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أنه توضأ" فذكر الحديث، والرجل الذي سأل لم أقف على اسمه، وقوله: "فإن رجلا كان يخبر" عنى به ابن عباس فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهل بالحج إذا طاف يحل من حجه، وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، وقد أخرج المصنف ذلك في "باب حجة الوداع" في أواخر المغازي من طريق ابن جريج "حدثني عطاء عن ابن عباس قال: إذا طاف بالبيت فقد حل. فقلت من أين؟ قال: هذا ابن عباس قال: من قوله سبحانه {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد ذلك المعرف، قال: كان ابن عباس يراه قبل وبعد" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ: "كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غيره إلا حل. قلت لعطاء: من أي تقول ذلك؟ فذكره" ولمسلم من طريق قتادة سمعت أبا حسان الأعرج قال: "قال رجل لابن عباس: ما هذه الفتيا أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم وإن رغمتم" وله من طريق وبرة بن عبد الرحمن قال: "كنت جالسا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقا" وإذا تقرر ذلك فمعنى قوله في حديث أبي الأسود "قد فعل رسول الله ذلك" أي أمر به، وعرف أن هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور ووافقه فيه ناس قليل منهم إسحاق بن راهويه، وعرف أن مأخذه فيه ما ذكر، وجواب الجمهور أن النبي أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم، واتفقوا كلهم أن من أهل بالحج مفردا

(3/478)


لا يضره الطواف بالبيت، وبذلك احتج عروة في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالطواف ولم يحل من حجه ولا صار عمرة وكذا أبو بكر وعمر، فمعنى قوله: "ثم لم تكن عمرة" أي لم تكن الفعلة عمرة، هذا إن كان بالنصب على أنه خبر كان، ويحتمل أن تكون كان تامة والمعنى ثم لم تحصل عمرة وهي على هذا بالرفع، وقد وقع في رواية مسلم بدل عمرة "غيره" بغين معجمة وياء ساكنة وآخره هاء، قال عياض وهو تصحيف. وقال النووي لها وجه أي لم يكن غير الحج، وكذا وجهه القرطبي. قوله: "ثم حججت مع أبي الزبير" كذا للأكثر، والزبير بالكسر بدل من أبي، ووقع في رواية الكشميهني مع ابن الزبير يعني أخاه عبد الله، قال عياض: وهو تصحيف، وسيأتي في الطريق الآتية بعد أربعة عشر بابا مع أبي الزبير بن العوام وكأن سبب هذا التصحيف أنه وقع في تلك الطريق من الزيادة بعد ذكر أبي بكر وعمر ذكر عثمان ثم معاوية وعبد الله بن عمر قال: "ثم حججت مع أبي الزبير" فذكره وقد عرف أن قتل الزبير كان قبل معاوية وابن عمر، لكن لا مانع أن يحجا قبل قتل الزبير فرآهما عروة، أو لم يقصد بقوله: "ثم" الترتيب فإن فيها أيضا: "ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر" فأعاد ذكره مرة أخرى، وأغرب بعض الشارحين فرجح رواية الكشميهني موجها لها بما ذكرته، وقد أوضحت جوابه بحمد الله. قوله: "وقد أخبرتني أمي" هي أسماء بنت أبي بكر، وأختها هي عائشة، واستشكل من حيث أن عائشة في تلك الحجة لم تطف لأجل حيضها، وأجيب بالحمل على أنه أراد حجة أخرى غير حجة الوداع، فقد كانت عائشة بعد النبي صلى الله عليه وسلم تحج كثيرا، وسيأتي الإلمام بشيء من هذا في أبواب العمرة إن شاء الله تعالى. قوله: "فلما مسحوا الركن حلوا" أي صاروا حلالا، وقد تقدم في أول الباب ما فيه من الإشكال وجوابه، وفي هذا الحديث استحباب الابتداء بالطواف للقادم لأنه تحية المسجد الحرام، واستثنى بعض الشافعية ومن وافقه المرأة الجميلة أو الشريفة التي لا تبرز فيستحب لها تأخير الطواف إلى الليل إن دخلت نهارا، وكذا من خاف فوت مكتوبة أو جماعة مكتوبة أو مؤكدة أو فائتة فإن ذلك كله يقدم على الطواف، وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور من الشافعية عليه دم، وهل يتداركه من تعمد تأخيره لغير عذر، وجهان كتحية المسجد، وفيه الوضوء للطواف، وسيأتي حيث ترجم له المصنف بعد أربعة عشر بابا. الحديث الثاني حديث ابن عمر أخرجه من وجهين كلاهما من رواية نافع عنه: أحدهما من رواية موسى بن عقبة والآخر من رواية عبيد الله، والراوي عنهما واحد وهو أبو ضمرة أنس بن عياض، زاد في رواية موسى "ثم سجد سجدتين" والمراد بهما ركعتا الطواف "ثم سعى بين الصفا والمروة" وزاد في رواية عبيد الله أنه كان يسعى ببطن المسيل، وقد تقدم ما يتعلق بالرمل قبل خمسة أبواب، وأما السعي بين الصفا والمروة فسيأتي الكلام عليه حيث ترحم له المصنف بعد خمسة عشر بابا إن شاء الله تعالى، والمراد ببطن المسيل الوادي لأنه موضع السيل.

(3/479)


64 - باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ
1618 - و قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ قَالَ كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الرِّجَالِ قُلْتُ أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَوْ قَبْلُ قَالَ إِي لَعَمْرِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ قُلْتُ كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ قَالَ لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ كَانَتْ

(3/479)


عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً مِنْ الرِّجَالِ لاَ تُخَالِطُهُمْ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ انْطَلِقِي عَنْكِ وَأَبَتْ يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ قُلْتُ وَمَا حِجَابُهَا قَالَ هِيَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا
1619 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ "شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ" فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}
قوله: "باب طواف النساء مع الرجال" أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن. قوله: "وقال لي عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم" هذا أحد الأحاديث التي أخرجها عن شيخه عن أبي عاصم النبيل بواسطة، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه أولا من طريق البخاري ثم أخرجه هكذا وكذا البيهقي، وأما أبو نعيم فأخرجه أولا من طريق البخاري ثم أخرجه من طريق أبي قرة موسى بن طارق عن ابن جريج قال مثله غير قصة عطاء مع عبيد بن عمير، قال أبو نعيم: هذا حديث عزيز ضيق المخرج. قلت: قد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج بتمامه، وكذا وجدته من وجه آخر أخرجه الفاكهي في "كتاب مكة" عن ميمون بن الحكم الصنعاني عن محمد بن جعشم وهو بجيم ومعجمة مضمومتين بينهما عين مهملة قال: أخبرني ابن جريج فذكره بتمامه أيضا. قوله: "إذ منع ابن هشام" هو إبراهيم -أو أخوه محمد- ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي وكان خالي هشام بن عبد الملك فولى محمدا إمرة مكة وولى أخاه إبراهيم بن هشام إمرة المدينة وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته فلهذا قلت: يحتمل أن يكون المراد، ثم عذبهما يوسف بن عمر الثقفي حتى ماتا في محنته في أول ولاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك بأمره سنة خمس وعشرين ومائة قاله خليفة بن خياط في تاريخه، وظاهر هذا أن ابن هشام أول من منع ذلك، لكن روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة، وهذا إن صح لم يعارض الأول لأن ابن هشام منعهن أن يطفن حين يطوف الرجال مطلقا، فلهذا أنكر عليه عطاء واحتج بصنيع عائشة وصنيعها شبيه بهذا المنقول عن عمر، قال الفاكهي: ويذكر عن ابن عيينة أن أول من فرق ببن الرجال والنساء في الطواف خالد بن عبد الله القسري انتهى، وهذا إن ثبت فلعله منع ذلك وقتا ثم تركه فإنه كان أمير مكة في زمن عبد الملك بن مروان وذلك قبل ابن هشام بمدة طويلة. قوله: "كيف يمنعهن" معناه أخبرني ابن جريج بزمان المنع قائلا فيه كيف يمنعهن. قوله: "وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال" أي غير مختلطات بهن. قوله: "بعد الحجاب" في رواية المستملي: "أبعد" بإثبات همزة الاستفهام، وكذا هو للفاكهي. قوله: "إي لعمري" هو بكسر الهمزة بمعني نعم. قوله: "لقد أدركته بعد الحجاب" ذكر عطاء هذا لرفع توهم من يتوهم أنه حمل ذلك عن غيره، ودل على أنه

(3/480)


رأى ذلك منهن، والمراد بالحجاب نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وكان ذلك في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش كما سيأتي في مكانه، ولم يدرك ذلك عطاء قطعا. قوله: "يخالطن" في رواية المستملي: "يخالطهن" في الموضعين، والرجال بالرفع على الفاعلية. قوله: "حجرة" بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها راء أي ناحية، قال القزاز: هو مأخوذ من قولهم: نزل فلان حجرة من الناس أي معتزلا. وفي رواية الكشميهني: "حجزة" بالزاي وهي رواية عبد الرزاق فإنه فسره في آخره فقال: يعني محجوزا بينها وبين الرجال بثوب، وأنكر ابن قرقول حجرة بضم أوله وبالراء، وليس بمنكر فقد حكاه ابن عديس وابن سيده فقالا: يقال قعد حجرة بالفتح والضم أي ناحية. قوله: "فقالت امرأة" زاد الفاكهي "معها" ولم أقف على اسم هذه المرأة، ويحتمل أن تكون دقرة بكسر المهملة وسكون القاف امرأة روى عنها يحيي بن أبي كثير أنها كانت تطوف مع عائشة بالليل فذكر قصة أخرجها الفاكهي. قوله: "انطلقي عنك" أي عن جهة نفسك. قوله: "يخرجن" زاد الفاكهي "وكن يخرجن إلخ". قوله: "متنكرات" في رواية عبد الرزاق "مستترات "واستنبط منه الداودي جواز النقاب للنساء في الإحرام وهو في غاية البعد. قوله: "إذا دخلن البيت قمن" في رواية الفاكهي "سترن". قوله: "حين يدخلن" في رواية الكشميهني: "حتى يدخلن" وكذا هو للفاكهي، والمعنى إذا أردن دخول البيت وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه. قوله: "وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير" أي الليثي، والقائل ذلك عطاء، وسيأتي في أول الهجرة من طريق الأوزاعي عن عطاء قال: "زرت عائشة مع عبيد بن عمير". قوله: "وهي مجاورة في جوف ثبير" أي مقيمة فيه، واستنبط منه ابن بطال الاعتكاف في غير المسجد لأن ثبيرا خارج عن مكة وهو في طريق منى انتهى، وهذا مبني على أن المراد بثبير الجبل المشهور الذي كانوا في الجاهلية يقولون له: أشرق ثبير كيما نغير، وسيأتي ذلك بعد قليل، وهذا هو الظاهر، وهو جبل المزدلفة، لكن بمكة خمسة جبال أخرى يقال لكل منها ثبير ذكرها أبو عبيد البكري وياقوت وغيرهما، فيحتمل أن يكون المراد لأحدها، لكن يلزم من إقامة عائشة هناك أنها أرادت الاعتكاف، سلمنا لكن لعلها اتخذت في المكان الذي جاورت فيه مسجدا اعتكفت فيه وكأنها لم يتيسر لها مكان في المسجد الحرام تعتكف فيه فاتخذت ذلك. قوله: "وما حجابها" زاد الفاكهي "حينئذ". قوله: "تركية" قال عبد الرزاق: هي قبة صغيرة من لبود تضرب في الأرض. قوله: "درعا موردا" أي قميصا لونه لون الورد، ولعبد الرزاق "درعا معصفرا وأنا صبي" فبين بذلك سبب رؤيته إياها، ويحتمل أن يكون رأى ما عليها اتفاقا، وزاد الفاكهي في آخره: "قال عطاء وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تطوف راكبة في خدرها من وراء المصلين في جوف المسجد" وأفرد عبد الرزاق هذا، وكأن البخاري حذفه لكونه مرسلا فاغتنى عنه بطريق مالك الموصولة فأخرجها عقبة. قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن" هو أبو الأسود يتيم عروة. قوله: "عن أم سلمة" هي والدة زينب الراوية عنها. قوله: "أني أشتكي" أي أنها ضعيفة، وقد بين المصنف من طريق هشام بن عروة عن أبيه سبب طواف أم سلمة وأنه طواف الوداع، وسيأتي بعد ستة أبواب. قوله: "وأنت راكبة" في رواية هشام "على بعيرك". قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي" في رواية هشام "والناس يصلون" وبين فيه أنها صلاة الصبح، وقد تقدم البحث في ذلك في صفة الصلاة، وفيه جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر، وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ولا تقطع صفوفهم أيضا ولا يتأذون بدابتها، فأما طواف الراكب من

(3/481)


غير عذر فسيأتي البحث فيه بعد أبواب، ويلتحق بالراكب المحمول إذا كان له عذر، وهل يجزئ هذا الطواف عن الحامل والمحمول؟ فيه بحث. واحتج به بعض المالكية لطهارة بول ما يؤكل لحمه، وقد تقدم توجيه ذلك والتعقب عليه في "باب إدخال البعير المسجد للعلة".

(3/482)


65 - باب الْكَلاَمِ فِي الطَّوَافِ
1620 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طاووسا أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ قُدْهُ بِيَدِهِ"
[الحديث 1620 – أطرافه في: 1621, 6702, 6703]
قوله: "باب الكلام في الطواف" أي إباحته، وإنما لم يصرح بذلك لأن الخبر ورد في كلام يتعلق بأمر بمعروف لا بمطلق الكلام، ولعله أشار إلى الحديث المشهور عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقد استنبط منه ابن عبد السلام أن الطواف أفضل أعمال الحج لأن الصلاة أفضل من الحج فيكون ما اشتملت عليه أفضل، قال: وأما حديث: "الحج عرفة" فلا يتعين، التقدير معظم الحج عرفة بل يجوز إدراك الحج بالوقوف بعرفة. قلت: وفيه نظر، ولو سلم فما لا يتقوم الحج إلا به أفضل مما ينجبر، والوقوف والطواف سواء في ذلك فلا تفضيل. قوله: "بإنسان ربط يده إلى إنسان" زاد أحمد عن عبد الرزاق عن ابن جريج "إلى إنسان آخر" وفي رواية النسائي من طريق حجاج عن ابن جريج "بإنسان قد ربط يده بإنسان". قوله: "بسير" بمهملة مفتوحة وياء ساكنة معروف، وهو ما يقد من الجلد وهو الشراك. قوله: "أو بشيء غير ذلك" كأن الراوي لم يضبط ما كان مربوطا به، وقد روى أحمد والفاكهي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان فقال: ما بال القران؟ قالا: إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة، فقال: أطلقا أنفسكما، ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله" وإسناده إلى عمرو حسن، ولم أقف على تسمية هذين الرجلين صريحا إلا أن في الطبراني من طريق فاطمة بنت مسلم: "حدثني خليفة بن بشر عن أبيه أنه أسلم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ماله وولده، ثم لقيه هو وابنه طلق بن بشر مقترنين بحبل فقال: ما هذا؟ فقال: حلفت لئن رد الله علي مالي وولدي لأحجن بيت الله مقرونا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحبل فقطعه وقال لهما: حجا، إن هذا من عمل الشيطان" ، فيمكن أن يكون بشر وابنه طلق صاحبي هذه القصة. وأغرب الكرماني فقال. قيل اسم الرجل المقود هو ثواب ضد العقاب انتهى، ولم أر ذلك لغيره ولا أدري من أين أخذه. قوله: "قد" بضم القاف وسكون الدال فعل أمر، في رواية أحمد والنسائي: "قده" بإثبات هاء الضمير وهو للرجل المقود، قال النووي: وقطعه عليه الصلاة والسلام السير محمول على أنه لم يمكن إزالة هذا المنكر إلا بقطعه، أو أنه دل على صاحبه فتصرف فيه. وقال غيره: كان أهل الجاهلية يتقربون إلى الله بمثل هذا الفعل. قلت: وهو بين من سياق حديثي عمرو بن شعيب وخليفة بن بشر. وقال ابن بطال في هذا الحديث: إنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال وتغيير ما يراه الطائف من المنكر. وفيه الكلام في الأمور الواجبة

(3/482)


والمستحبة والمباحة. قال ابن المنذر: أولى ما شغل المرء به نفسه في الطواف ذكر الله وقراءة القرآن، ولا يحرم الكلام المباح إلا أن الذكر أسلم. وحكى ابن التين خلافا في كراهة الكلام المباح. وعن مالك تقييد الكراهة بالطواف الواجب. قال ابن المنذر: واختلفوا في القراءة، فكان ابن المبارك يقول: ليس شيء أفضل من قراءة القرآن، وفعله مجاهد، واستحبه الشافعي وأبو ثور، وقيده الكوفيون بالسر، وروي عن عروة والحسن كراهته، وعن عطاء ومالك أنه محدث، وعن مالك لا بأس به إذا أخفاه ولم يكثر منه، قال ابن المنذر: من أباح القراءة في البوادي والطرق ومنعه في الطواف لا حجة له. ونقل ابن التين عن الداودي أن في هذا الحديث من نذر ما لا طاعة لله تعالى فيه لا يلزمه، وتعقبه بأنه ليس في هذا الحديث شيء من ذلك وإنما ظاهر الحديث أنه كان ضرير البصر ولهذا قال له قده بيده انتهى. ولا يلزم من أمره له بأن يقوده أنه كان ضريرا بل يحتمل أن يكون بمعنى آخر غير ذلك، وأما ما أنكره من النذر فمتعقب بما في النسائي من طريق خالد بن الحارث عن ابن جريح في هذا الحديث أنه قال أنه نذر، ولهذا أخرجه البخاري في أبواب النذر كما سيأتي الكلام عليه مشروحا هناك إن شاء الله تعالى.

(3/483)


66 - باب إِذَا رَأَى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ
1621 - حدثنا أبو عاصم عن بن جريج عن سليمان الأحول عن طاوس عن بن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه"
قوله: "باب إذا رأى سيرا أو شيئا يكره في الطواف قطعه" أورد فيه حديث ابن عباس من وجه آخر عن ابن جريج بإسناده ولفظه: "رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه" وهذا مختصر من الحديث الذي قبله، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله، قال ابن بطال: وإنما قطعه لأن القود بالأزمة إنما يفعل بالبهائم وهو مثلة

(3/483)


67 - باب لاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلاَ يَحُجُّ مُشْرِكٌ
1622 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلاَ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ
قوله: "باب لا يطوف بالبيت عريان" أورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك، وفيه حجة لاشتراط ستر العورة في الطواف كما يشترط في الصلاة، وقد تقدم طرف من ذلك في أوائل الصلاة، والمخالف في ذلك الحنفية قالوا: ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عريانا أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم. وذكر ابن إسحاق في سبب هذا الحديث أن قريشا ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانا، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها فجاء الإسلام فهدم ذلك كله. قوله: "أن لا يحج" بالنصب. وفي رواية صالح بن كيسان عن الزهري عند المؤلف في التفسير "أن لا يحجن" وهو يعين ذلك للنهي، وقوله: "ولا يطوف" يجوز فيه النصب، والتقدير وأن لا يطوف، والرفع على أن "أن" مخففة من الثقيلة، ويجوز أن يقرأ بفتح الطاء وتشديد الواو وسكون الفاء عطفا على الذي قبله، وسيأتي

(3/483)


باب إذا وقف الطواف
...
68 - باب إِذَا وَقَفَ فِي الطَّوَافِ وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاَةُ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِي وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قوله: "باب إذا وقف في الطواف" أي هل ينقطع طوافه أو لا، وكأنه أشار بذلك إلى ما روي عن الحسن أن من أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف فقطعه أن يستأنفه ولا يبني على ما مضى، وخالفه الجمهور فقالوا يبني، وقيده مالك بصلاة الفريضة وهو قول الشافعي، وفي غيرها إتمام الطواف أولى فإن خرج بنى. وقال أبو حنيفة وأشهب يقطعه ويبني، واختار الجمهور قطعه للحاجة، ومال نافع طول القيام في الطواف بدعة. قوله: "وقال عطاء إلخ" وصل نحوه عبد الرزاق عن ابن جريج "قلت لعطاء الطواف الذي يقطعه علي الصلاة وأعتد به أيجزئ؟ قال نعم، وأحب إلي أن لا يعتد به. قال فأردت أن أركع قيل أن أتم سبعي، قال: لا، أوف سبعك إلا أن تمنع من الطواف" وقال سعيد بن منصور "حدثنا هشيم حدثنا عبد الملك عن عطاء أنه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه ثم تحضر الجنازة يخرج فيصلي عليها ثم يرجع فيقضي ما بقي عليه من طوافه". قوله: "ويذكر نحوه عن ابن عمر" وصل نحوه سعيد بن منصور "حدثنا إسماعيل بن زكريا عن جميل بن زيد قال: رأيت ابن عمر طاف بالبيت فأقيمت الصلاة فصلى مع القوم، ثم قام فبني على ما مضى من طوافه". قوله: "وعبد الرحمن بن أبي بكر" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء "أن عبد الرحمن بن أبي بكر طاف في إمارة عمرو بن سعيد على مكة - يعني في خلافة معاوية - فخرج عمرو إلى الصلاة، فقال له عبد الرحمن: انظرني حتى أنصرف على وتر، فانصرف على ثلاثة أطواف - يعني ثم صلى - ثم أتم ما بقي" وروى عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس قال: "من بدت له حاجة وخرج إليها فليخرج على وتر من طوافه ويركع ركعتين" ففهم بعضهم منه أنه يجزئ عن ذلك ولا يلزمه الإتمام، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن عطاء "إن كان الطواف تطوعا وخرج في وتر فإنه يجزئ عنه" ومن طريق أبي الشعثاء أنه أقيمت الصلاة وقد طاف خمسة أطواف فلم يتم ما بقي. "تنبيه": لم يذكر البخاري في الباب حديثا مرفوعا إشارة إلى أنه لم يجد فيه حديثا على شرطه، وقد أسقط ابن بطال من شرحه ترجمة الباب الذي يليه فصارت أحاديثه لترجمة "إذا وقف في الطواف" ثم استشكل إيراد كونه عليه الصلاة والسلام طاف أسبوعا وصلى ركعتين في هذا الباب، وأجاب بأنه يستفاد منه أنه عليه الصلاة والسلام لم يقف ولا جلس قي طوافه فكانت السنة فيه الموالاة.

(3/484)


69 - باب صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَقَالَ السُّنَّةُ أَفْضَلُ لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبُوعًا قَطُّ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
1623 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ

(3/484)


70 - باب مَنْ لَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأَوَّلِ
1625 - حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا فضيل حدثنا موسى بن عقبة أخبرني كريب عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال "قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف وسعى بين الصفا والمروة ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة"

(3/485)


قوله: "باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة" أي لم يطف تطوعا، ويقرب بضم الراء ويجوز كسرها. أورد فيه حديث ابن عباس في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وهذا لا يدل على أن الحاج منع من الطواف قبل الوقوف، فلعله صلى الله عليه وسلم ترك الطواف تطوعا خشية أن يظن أحد أنه واجب، وكان يحب التخفيف على أمته، واجتزأ عن ذلك بما أخبرهم به من فضل الطواف بالبيت، ونقل عن مالك أن الحاج لا ينتفل بطواف حتى يتم حجه، وعنه الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة وهو المعتمد.
" تنبيه ": نقل ابن التين عن الداودي أن الطواف الذي طاقه النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة من فروض الحج ولا يكون إلا وبعده السعي. ثم ذكر ما يتعلق بالمتمتع، قال ابن التين: وقوله: "من فروض الحج" ليس بصحيح لأنه كان مفردا والمفرد لا يجب عليه طواف القدوم لقدومه، وليس طواف القدوم للحج ولا هو فرض من فروضه، وهو كما قال.

(3/486)


71 - باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ
وَصَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ
1626 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتْ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أُقِيمَتْ صَلاَةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ"
قوله: "باب من صلى ركعتي الطواف خارجا من المسجد" هذه الترجمة معقودة لبيان إجزاء صلاة ركعتي الطواف في أي موضع أراد الطائف وإن كان ذلك خلف المقام أفضل، وهو متفق عليه إلا في الكعبة أو الحجر، ولذلك عقبها بترجمة من صلى ركعتي الطواف خلف المقام. قوله: "وصلى عمر خارجا من الحرم" سيأتي شرحه في الباب الذي يلي الباب بعده. قوله: "عن أم سلمة قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثني محمد بن حرب إلخ" هكذا عطف هذه على التي قبلها وساقه هنا على لفظ الرواية الثانية، وتجوز في ذلك فإن اللفظين مختلفان، وقد تقدم لفظ الرواية الأولى في "باب طواف النساء مع الرجال" ويأتي بعد بابين أيضا. قوله: "يحيى بن أبي زكريا الغساني" هو يحيى بن يحيى اشتهر باسمه واشتهر أبوه بكنيته، والغساني بغين معجمة وسين مهملة مشدودة نسبة إلى بني غسان، قال أبو علي الجياني: وقع لأبي الحسن القابسي في هذا الإسناد تصحيف في نسب يحيى فضبطه بعين مهملة ثم شين معجمة. وقال ابن التين: قيل هو العشاني بعين مهملة ثم معجمة خفيفة نسبة إلى بني عشانة، وقيل هو بالهاء يعني بلا نون نسبة إلى بني عشاه. قلت: وكل ذلك تصحيف، والأول هو المعتمد. قال ابن قرقول: رواه القابسي بمهملة ثم معجمة خفيفة وهو وهم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "عن عروة عن أم سلمة" كذا للأكثر، ووقع للأصيلي عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة، وقوله: "عن زينب" زيادة في هذه الطريق فقد أخرجه أبو علي بن السكن عن علي بن عبد الله بن مبشر عن محمد بن حرب شيخ البخاري فيه ليس فيه زينب. وقال الدارقطني في "كتاب التتبع" في

(3/486)


طريق يحيى بن أبي زكريا هذه: هذا منقطع، فقد رواه حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة ولم يسمعه عروة عن أم سلمة انتهى. ويحتمل أن يكون ذلك حديثا آخر فإن حديثها هذا في طواف الوداع كما بيناه قبل قليل، وأما هذه الرواية فذكرها الأثرم قال: "قال لي أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة. قال أبو عبد الله: هذا خطأ، فقد قال وكيع عن هشام عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة. قال: وهذا أيضا عجيب، ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمكة؟ وقد سألت يحيى بن سعيد - يعني القطان - عن هذا فحدثني به عن هشام بلفظ أمرها أن توافي ليس فيه هاء. قال أحمد: وبين هذين فرق، فإذا عرف ذلك تبين التغاير بين القصتين، فإن إحداهما صلاة الصبح يوم النحر والأخرى صلاة صبح يوم الرحيل من مكة" وقد أخرج الإسماعيلي حديث الباب من طريق حسان بن إبراهيم وعلي بن هاشم ومحاضر بن المورع وعبدة بن سليمان، وهو عند النسائي أيضا من طريق عبدة كلهم عن هشام عن أبيه عن أم سلمة وهذا هو المحفوظ، وسماع عروة من أم سلمة ممكن فإنه أدرك من حياتها نيفا وثلاثين سنة وهو معها في بلد واحد، وقد تقدم الكلام على حديث أم سلمة في "باب طواف النساء مع الرجال" وموضع الحاجة منه هنا قوله في آخره: "فلم يصل حتى خرجت" أي من المسجد أو من مكة، فدل على جواز صلاة الطواف خارجا من المسجد إذ لو كان ذلك شرطا لازما لما أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وفي رواية حسان عند الإسماعيلي: "إذا قامت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك من وراء الناس وهم يصلون . قالت ففعلت ذلك ولم أصل حتى خرجت" أي فصليت وبهذا ينطبق الحديث مع الترجمة، وفيه رد على من قال يحتمل أن تكون أكملت طوافها قبل فراغ صلاة الصبح ثم أدركتهم في الصلاة فصلت معهم صلاة الصبح ورأت أنها تجزئها عن ركعتي الطواف، وإنما لم يبت البخاري الحكم في هذه المسألة لاحتمال كون ذلك يختص بمن كان له عذر لكون أم سلمة كانت شاكية ولكون عمر إنما فعل ذلك لكونه طاف بعد الصبح وكان لا يرى التنفل بعده مطلقا حتى تطلع الشمس كما سيأتي واضحا بعد باب، واستدل به على أن من نسي ركعتي الطواف قضاهما حيث ذكرهما من حل أو حرم وهو قول الجمهور، وعن الثوري يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم، وعن مالك إن لم يركعهما حتى تباعد ورجع إلى بلده فعليه دم، قال ابن المنذر: ليس ذلك أكثر من صلاة المكتوبة وليس على من تركها غير قضائها حيث ذكرها.

(3/487)


72 - باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ
1627 - حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن دينار قال سمعت بن عمر رضي الله عنهما يقول "قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ثم خرج إلى الصفا وقد قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
قوله: "باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام" أورد فيه حديث ابن عمر الماضي قبل بابين، وسيأتي الكلام عليه في أبواب العمرة، وهو ظاهر فيما ترجم له. وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع عند مسلم: "طاف ثم تلا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فصلى عند المقام ركعتين" قال ابن المنذر: احتملت قراءته أن تكون

(3/487)


صلاة الركعتين خلف المقام فرضا، لكن أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء، إلا شيئا ذكر عن مالك في أن من صلى ركعتي الطواف الواجب في الحجر يعيد، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بذلك مستوفى في أوائل كتاب الصلاة في "باب قول الله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى".

(3/488)


73 - باب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ
وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى
1628 – حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ حَتَّى إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَعَدُوا حَتَّى إِذَا كَانَتْ السَّاعَةُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاَةُ قَامُوا يُصَلُّونَ"
1629 - حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا أبو ضمرة حدثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد الله رضي الله عنه قال "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة ثم طلوع الشمس وعند غروبها"
1630 - حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ قَالَ "رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ"
1631 - قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيُخْبِرُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إِلاَّ صَلاَّهُمَا"
قوله: "باب الطواف بعد الصبح والعصر" أي ما حكم صلاة الطواف حينئذ؟ وقد ذكر فيه آثارا مختلفة، ويظهر من صنيعه أنه يختار فيه التوسعة، وكأنه أشار إلى ما رواه الشافعي وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما من حديث جبير بن مطعم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار" وإنما لم يخرجه لأنه ليس على شرطه، وقد أورد المصنف أحاديث تتعلق بصلاة الطواف، ووجه تعلقها بالترجمة إما من جهة أن الطواف صلاة فحكمهما واحد، أو من جهة أن الطواف مستلزم للصلاة التي تشرع بعده وهو أظهر، وأشار به إلى الخلاف المشهور في المسألة، قال ابن عبد البر: كره الثوري والكوفيون الطواف بعد العصر والصبح، قالوا فإن فعل فليؤخر الصلاة، ولعل هذا عند بعض الكوفيين وإلا فالمشهور عند الحنفية أن الطواف لا يكره وإنما تكره الصلاة، قال ابن المنذر: رخص في الصلاة بعد الطواف في كل وقت جمهور الصحابة ومن بعدهم، ومنهم من كره ذلك أخذا بعموم النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وهو قول عمر والثوري وطائفة وذهب إليه مالك وأبو حنيفة. وقال أبو الزبير:

(3/488)


رأيت البيت يخلو بعد هاتين الصلاتين ما يطوف به أحد. وروى أحمد بإسناد حسن عن أبي الزبير عن جابر قال: "كنا نطوف فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة، ولم نكن نطوف بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس" فال "وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تطلع الشمس بين قرني شيطان". قوله: "وكان ابن عمر رضي الله عنها يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس" وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء "إنهم صلوا الصبح بغلس، وطاف ابن عمر بعد الصبح سبعا ثم التفت إلى أفق السماء فرأى أن عليه غلسا، قال: فاتبعته حتى أنظر أي شيء يصنع فصلى ركعتين" قال وحدثنا داود العطار عن عمرو بن دينار "رأيت ابن عمر طاف سبعا بعد الفجر وصلى ركعتين وراء المقام" هذا إسناد صحيح، وهذا جار على مذهب ابن عمر في اختصاص الكراهة بحال طلوع الشمس وحال غروبها، وقد تقدم ذلك عنه صريحا في أبواب المواقيت، وروى الطحاوي من طريق مجاهد قال: "كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلي ما كانت الشمس بيضاء حية نقية، فإذا اصفرت وتغيرت طاف طوافا واحدا حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ركعتين، وفي الصبح نحو ذلك" وقد جاء عن ابن عمر أنه كان لا يطوف بعد هاتين الصلاتين، قال سعيد بن أبي عروبة في "المناسك": عن أيوب عن نافع "أن ابن عمر كان لا يطوف بعد صلاة العصر ولا بعد صلاة الصبح"، وأخرجه ابن المنذر من طريق حماد عن أيوب أيضا، ومن طريق أخرى عن نافع "كان ابن عمر إذا طاف بعد الصبح لا يصلي حتى تطلع الشمس، وإذا طاف بعد العصر لا يصلي حتى تغرب الشمس" ويجمع بين ما اختلف عنه في ذلك بأنه كان في الأغلب يفعل ذلك، والذي يعتمد من رأيه عليه التفصيل السابق. قوله: "وطاف عمر بعد الصبح فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى" وصله مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر به، وروى الأثرم عن أحمد عن سفيان عن الزهري مثله، إلا أنه قال: "عن عروة" بدل حميد، قال أحمد: أخطأ فيه سفيان، قال الأثرم: وقد حدثني به نوح بن يزيد من أصله عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري كما قال سفيان انتهى. وقد رويناه بعلو في "أمالي ابن منده" من طريق سفيان ولفظه: "أن عمر طاف بعد الصبح سبعا ثم خرج إلى المدينة، فلما كان بذي طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين". قوله: "عن حبيب" هو المعلم كما جزم به المزي في "الأطراف" وقد ضاق على الإسماعيلي وأبي نعيم مخرجه فتركه الإسماعيلي، وأخرجه أبو نعيم من طريق البخاري هذه، والحسن بن عمر البصري شيخه جزم المزي بأنه الحسن بن عمر بن شقيق وهو من أهل البصرة وكان يتجر إلى بلخ فكان يقال له البلخي، وسيأتي له ذكر في كتاب اللباس. قوله: "ثم قعدوا إلى المذكر" بالمعجمة وتشديد الكاف أي الواعظ، وضبطه ابن الأثير في "النهاية" بالتخفيف بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه قال: وأرادت موضع الذكر، إما الحجر، وإما الحجر. قوله: "الساعة التي تكره فيها الصلاة" أي التي عند طلوع الشمس، وكأن المذكورين كانوا يتحرون ذلك الوقت فأخروا الصلاة إليه قصدا فلذلك أنكرت عليهم عائشة هذا إن كانت ترى أن الطواف سبب لا تكره مع وجوده الصلاة في الأوقات المنهية، ويحتمل أنها كانت تحمل النهي على عمومه، ويدل لذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة أنها قالت: "إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو العصر فطف، وآخر الصلاة حتى تغيب الشمس أو حتى تطلع فصل لكل أسبوع ركعتين" وهذا إسناد حسن. قوله: "قال عبد العزيز" يعني بالإسناد المذكور وليس بمعلق، وكأن عبد الله بن الزبير استنبط جواز الصلاة بعد الصبح من جواز الصلاة بعد

(3/489)


العصر فكان يفعل ذلك بناء على اعتقاده أن ذلك على عمومه، وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في أواخر المواقيت قبيل الأذان، وبينا هناك أن عائشة أخبرت أنه صلى الله عليه وسلم لم يتركهما وأن ذلك من خصائصه، أعني المواظبة على ما يفعله من النوافل لا صلاة الراتبة في وقت الكراهة فأغنى ذلك عن أعادته هنا، والذي يظهر أن ركعتي الطواف تلتحق بالرواتب. والله أعلم.

(3/490)


74 - باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا
1632 - حدثني إسحاق الواسطي حدثنا خالد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر"
1633 - حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ ب {الطُّوْر وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} "
قوله: "باب المريض يطوف راكبا" أورد فيه حديث ابن عباس وحديث أم سلمة، والثاني ظاهر فيما ترجم له لقولها فيه: "أني اشتكي" وقد تقدم الكلام عليهما في "باب إدخال البعير المسجد للعلة" في أواخر أبواب المساجد، وأن المصنف حمل سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا على أنه كان عن شكوى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس أيضا بلفظ: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته" ووقع في حديث جابر عند مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وليسألوه" فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين، وحينئذ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبا لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز إلا أن المشي أولى، والركوب مكروه تنزيها، والذي يترجح المنع لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد، ووقع في حديث أم سلمة "طوفي من وراء الناس" وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف، وإذا حوط المسجد امتنع داخله، إذ لا يؤمن التلويث فلا يجوز بعد التحويط، بخلاف ما قبله فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي، وعلى هذا فلا فرق في الركوب -إذا ساغ- بين البعير والفرس والحمار، وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها، واحتمل أيضا أن تكون راحلته عصمت من التلويث حينئذ كرامة له فلا يقاس غيره عليه، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير وبعره، وقد تقدم حديث ابن عباس قبل أبواب، وزاد أبو داود في آخر حديثه "فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين" واستدل به للتكبير عند الركن، وتقدم الكلام على حديث أم سلمة أيضا. "تنبيه": خالد هو الطحان، وخالد شيخه هو الحذاء.

(3/490)


75 - باب سِقَايَةِ الْحَاجِّ
1634 - حدثنا عبد الله بن أبي الأسود حدثنا أبو ضمرة حدثنا عبيد الله عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال "استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من

(3/490)


76 - باب مَا جَاءَ فِي زَمْزَمَ
1636 - وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا افْتَحْ قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ"
1637 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَهُ قَالَ "سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ"
[الحديث 1637 – طرفه في: 5617]

(3/492)


قوله: "باب ما جاء في زمزم" كأنه لم يثبت عنده في فضلها حديث على شرطه صريحا، وقد وقع في مسلم من حديث أبي ذر "أنها طعام طعم" زاد الطيالسي من الوجه الذي أخرجه منه مسلم: "وشفاء سقم" وفي المستدرك من حديث ابن عباس مرفوعا: "ماء زمزم لما شرب له" رجاله موثقون، إلا أنه اختلف في إرساله ووصله وإرساله أصح، وله شاهد من حديث جابر، وهو أشهر منه أخرجه الشافعي وابن ماجه ورجاله ثقات إلا عبد الله بن المؤمل المكي فذكر العقيلي أنه تفرد به، لكن ورد من رواية غيره عند البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان ومن طريق حمزة الزيات كلاهما عن أبي الزبير بن سعيد عن جابر، ووقع في "فوائد ابن المقري" من طريق سويد بن سعيد عن ابن المبارك عن ابن أبي الموالي عن ابن المنكدر عن جابر، وزعم الدمياطي أنه على رسم الصحيح وهو كما قال من حيث الرجال إلا أن سويدا وإن أخرج له مسلم فإنه خلط وطعنوا فيه وقد شذ بإسناده، والمحفوظ عن ابن المبارك عن ابن المؤمل، وقد جمعت في ذلك جزءا، والله أعلم. وسميت زمزم لكثرتها، يقال ماء زمزم أي كثير، وقيل لاجتماعها نقل عن ابن هشام. وقال أبو زيد: الزمزمة من الناس خمسون ونحوهم، وعن مجاهد: إنما سميت زمزم لأنها مشتقة من الهزمة والهزمة الغمز بالعقب في الأرض، أخرجه الفاكهي بإسناد صحيح عنه، وقيل لحركتها قاله الحربي، وقيل لأنها زمت بالميزان لئلا تأخذ يمينا وشمالا، وستأتي قصتها في شأن إسماعيل وهاجر في أحاديث الأنبياء وقصة حفر عبد المطلب لها في أيام الجاهلية إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال عبدان" سيأتي في أحاديث الأنبياء أتم منه بلفظ: "وقال لي عبدان" وأورده هنا مختصرا، وقد وصله الجوزقي بتمامه عن الدغولي عن محمد بن الليث عن عبدان بطوله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الصلاة. والمقصود منه هنا قوله: "ثم غسله بماء زمزم". قوله: "حدثنا محمد" في رواية أبي ذر هو ابن سلام، والفزاري هو مروان بن معاوية وغلط من قال هو أبو إسحاق، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، قال ابن بطال وغيره: أراد البخاري أن الشرب من ماء زمزم من سنن الحج. وفي "المصنف" عن طاوس قال: "شرب نبيذ السقاية من تمام الحج" وعن عطاء "لقد أدركته وإن الرجل ليشربه فتلزق شفتاه من حلاوته" وعن ابن جريج عن نافع "أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ في الحج" فكأنه لم يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب منه لأنه كان كثير الاتباع للآثار أو خشي أن يظن الناس أن ذلك من تمام الحج كما نقل عن طاوس. قوله: "فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير" عند ابن ماجه من هذا الوجه قال عاصم: فذكرت ذلك لعكرمة فحلف بالله ما فعل - أي ما شرب قائما - لأنه كان حينئذ راكبا انتهى. وقد تقدم أن عند أبي داود من رواية عكرمة عن ابن عباس أنه أناخ فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكر شربه قائما لنهيه عنه، لكن ثبت عن علي عند البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما" فيحمل على بيان الجواز.

(3/493)


77 - باب طَوَافِ الْقَارِنِ
1638 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال: "من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما" فقدمت مكة وأنا حائض فلما قضينا حجنا أرسلني مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت

(3/493)


فقال صلى الله عليه وسلم: " هذه مكان عمرتك" فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا"
1639 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ إِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ فَيَصُدُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ فَلَوْ أَقَمْتَ فَقَالَ قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسوة حَسَنَةٌ} ثُمَّ قَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا قَالَ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا"
[الحديث 1639 – أطرافه في: 1640, 1693, 1708, 1729, , 1807,1806, 1808, 1810, 1812, 1813, 4183, 4184, 4185]
1640 - حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع "أن بن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف أن يصدوك فقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي وأهدى هديا اشتراه بقديد ولم يزد على ذلك فلم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وقال بن عمر رضي الله عنهما كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"
قوله: "باب طواف القارن" أي هل يكتفي بطواف واحد أو لا بد من طوافين، أورد فيه حديث عائشة في حجة الوداع وفيه: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا" وحديث ابن عمر في حجة عام نزل الحجاج بابن الزبير أورده من وجهين في كل منهما أنه: جمع بين الحج والعمرة أهل بالعمرة أولا ثم أدخل عليها الحج وطاف لهما طوافا واحدا كما في الطريق الأولى، وفي الطريق الثانية: ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وفي هذه الرواية رفع احتمال قد يؤخذ من الرواية الأولى أن المراد بقوله طوافا واحدا أي طاف لكل منهما طوافا يشبه الطواف الذي للآخر، والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع ولفظه: "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد" وأعله الطحاوي بأن الدراوردي أخطأ فيه وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب والليث وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب من أن ذلك وقع لابن عمر وأنه قال: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك" لا أنه روى

(3/494)


هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ، وهو تعليل مردود فالدراوردي صدوق، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين. واحتج الحنفية بما روي عن علي أنه "جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل" وطرقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه. وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك، والمخرج في الصحيحين وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة، وأما السعي مرتين فلم يثبت. وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء أصلا. قلت: لكن روى الطحاوي وغيره مرفوعا1 عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت، ولم أر في الباب أصح من حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في هذا الباب، وقد أجاب الطحاوي عن حديث ابن عمر بأنه اختلف عليه في كيفية إحرام النبي صلى الله عليه وسلم وإن الذي يظهر من مجموع الروايات عنه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا بحجة ثم فسخها فصيرها عمرة ثم تمتع بها إلى الحج، كذا قال الطحاوي مع جزمه قبل ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا. وهب أن ذلك كما قال فلم لا يكون قول ابن عمر "هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أمر من كان قارنا أن يقتصر على طواف واحد، وحديث ابن عمر المذكور ناطق بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا فإنه مع قوله فيه تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف فعل القران حيث قال: "بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج": وهذا من صور القران، وغايته أنه سماه تمتعا لأن الإحرام عنده بالعمرة في أشهر الحج كيف كان يسمى تمتعا. ثم أجاب عن حديث عائشة بأنها أرادت بقولها" وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافا واحدا" يعني الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج لأن حجتهم كانت مكية، والحجة المكية لا يطاف لها إلا بعد عرفة، قال: والمراد بقولها "جمعوا بين الحج والعمرة" جمع متعة لا جمع قران انتهى. وإني لكثير التعجب منه في هذا الموضع كيف ساغ له هذا التأويل، وحديث عائشة مفصل للحالتين فإنها صرحت بفعل من تمتع ثم من قرن حيث قالت: "فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى" فهؤلاء أهل التمتع ثم قالت: "وأما الذين جمعوا إلخ" فهؤلاء أهل القران، وهذا أبين من أن يحتاج إلى إيضاح والله المستعان. وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا" ومن طريق طاوس عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يسعك طوافك لحجك وعمرتك" وهذا صريح في الإجزاء وإن كان العلماء اختلفوا فيما كانت عائشة محرمة به، قال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال: "حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا" وهذا إسناد صحيح، وفيه بيان ضعف ما روي عن علي وابن مسعود من ذلك، وقد روى آل بيت علي عنه مثل الجماعة، قال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه كان يحفظ عن علي "للقارن طواف واحد" خلاف ما يقول أهل العراق، ومما يضعف ما روي عن علي من ذلك أن أمثل طرقه عنه رواية عبد الرحمن بن أذينة عنه وقد ذكر فيها أنه "يمتنع على من ابتدأ الإهلال بالحج أن يدخل عليه العمرة، وأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين" والذين احتجوا بحديثه
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في نسخة "موقوفا"

(3/495)


لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحج، فإن كانت الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلت عليه وإلا فلا حجة فيها. وقال ابن المنذر: احتج أبو أيوب1 من طريق النضر بأنا أجزنا جميعا للحج والعمرة سفرا واحدا وإحراما واحدا وتلبية واحدة فكذلك يجزي عنهما طواف واحد وسعي واحد لأنهما خالفا في ذلك سائر العبادات. وفي هدا القياس مباحث كثيرة لا نطيل بها. واحتج غيره بقوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وهو صحيح كما سلف فدل على أنها لا تحتاج بعد أن دخلت فيه إلى عمل آخر غير عمله، والحق أن المتبع في ذلك السنة الصحيحة وهي مستغنية عن غيرها، وقد تقدم الكلام على بقية حديث عائشة، وسيأتي الكلام على حديث ابن عمر في أبواب المحصر إن شاء الله تعالى، وننبه هناك على اختلاف الرواية فيه. قوله: "لا آمن" كذا للأكثر بالمد وفتح الميم الخفيفة أي أخاف، وللمستملي: "لا أيمن" بياء ساكنة بين الهمزة والميم فقبل إنها إمالة، وقيل لغة تميمية وهي عندهم بكسر الهمزة. قوله: "فإن حيل" كذا للأكثر، وللكشميهني: "وأن يحل" بضم الياء وفتح المهملة واللام ساكنة، وقوله في الطريق الثانية "بطوافه الأول" أي الذي طافه يوم النحر للإفاضة، وتوهم بعضهم أنه أراد طواف القدوم فحمله على السعي. وقال ابن عبد البر: فبه حجة لمالك في قوله أن طواف القدوم إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلا أو نسيه حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي، قال: ولا أعلم أحدا قال به غيره وغير أصحابه، وتعقب بأنه إن حمل قوله: "طوافه الأول" على طواف القدوم فإنه أجزأ عن طواف الإفاضة كان ذلك دالا على الإجزاء مطلقا ولو تعمده لا بقيد الجهل والنسيان لا إذا حملنا قوله طوافه الأول على طواف الإفاضة يوم النحر أو على السعي، ويؤيد التأويل الثاني حديث جابر عند مسلم: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول" وهو محمول على ما حمل عليه حديث ابن عمر المذكور والله أعلم.
"تنبيه": وقع هنا عقب الطريق الثانية لحديث ابن عمر المذكور في نسخة الصغاني تعلية السند المذكور لبعض الرواة ولفظه: قال أبو إسحاق حدثنا قتيبة ومحمد بن رمح قالا حدثنا الليث مثله، وأبو إسحاق هذا إن كان هو المستملي فقد سقط بينه وبين قتيبة وابن رمح رجل وإن كان غيره فيحتمل أن يكون إبراهيم بن معفل النسفي الراوي عن البخاري والله أعلم.
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في نسخة "أبو ثور"

(3/496)


78 - باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ
1641 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ "قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.

(3/496)


ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلاَ يَسْأَلُونَهُ وَلاَ أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّونَ وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لاَ تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُمَا لاَ تَحِلاَنِ"
1642 - وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي "أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا"
قوله: "باب الطواف على وضوء" أورد فيه حديث عائشة "أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف" الحديث بطوله، وليس فيه دلالة على الاشتراط إلا إذا انضم إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، وباشتراط الوضوء للطواف قال الجمهور، وخالف فيه بعض الكوفيين، ومن الحجة عليهم قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت: "غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" وسيأتي بيان الدلالة منه بعد بابين. قوله: "ما كان يبدؤون بشيء حين يضعون أقدامهم من الطواف بالبيت" قال ابن بطال: لا بد من زيادة لفظ: "أول" بعد لفظ: "أقدامهم" وأجاب الكرماني بأن معناه ما كانوا يبدؤون بشيء آخر حين يضعون أقدامهم في المسجد لأجل الطواف انتهى، وحاصله أنه لم يتعين حذف لفظ أول بل يجوز أن يكون الحذف في موضع آخر لكن الأول أولى لأن الثاني يحتاج إلى جعل من بمعنى من أجل وهو قليل، وأيضا فلفظ: "أول" قد ثبت في بعض الروايات وثبت أيضا في مكان آخر من الحديث نفسه ووقع في رواية الكشميهني: "حتى يضعوا" بدل "حين يضعون" وتوجيهه واضح. قوله: "ثم إنهما لا تحلان" أي سواء كان إحرامهما بالحج وحده أو بالقران خلافا لمن قال أن من حج مفردا فطاف حل بذلك كما تقدم عن ابن عباس. وقوله: "أمي" يعني أسماء بنت أبي بكر، وخالته هي عائشة، وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في "باب من طاف إذا قدم". "تنبيه": قال الداودي ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة، وما قبله من كلام عائشة. وقالا أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله: "ثم لم تكن عمرة" ومن قوله: "ثم حج أبو بكر إلخ" من كلام عروة انتهى، فعلى هذا يكون بعض هذا منقطعا لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر، نعم أدرك عثمان، وعلى قول الداودي يكون الجميع متصلا وهو الأظهر.

(3/497)


79 - باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
1643 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ

(3/497)


كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّفَ بِهِمَا وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الإِسْلاَمِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ"
[الحديث 1643 – أطرافه في: 1790, 4495, 4861]
قوله: "باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله" أي وجوب السعي بينهما مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله قاله ابن المنير في الحاشية، وتمام هذا نقل أهل اللغة في تفسير الشعائر قال الأزهري: الشعائر المقالة التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها. وقال الجوهري: الشعائر أعمال الحج وكل ما جعل علما لطاعة الله. ويمكن أن يكون الوجوب مستفادا من قول عائشة "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة" وهو في بعض طرق حديثها المذكور في هذا الباب عند مسلم، واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراه - بكسر المثناة وسكون: الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء - وهي إحدى نساء بني عبد الدار - قالت: "دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي، وسمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما، وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل وفيه ضعف، ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. قلت: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى وإذا انضمت إلى الأولى قويت، واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة، فقد وقع عند الدارقطني عنها "أخبرتني نسوة من بني عبد الدار" فلا يضره الاختلاف، والعمدة في الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، واستدل بعضهم بحديث أبي موسى في إهلاله، وقد تقدم في أبواب المواقيت وفيه: "طف بالبيت وبين الصفا والمروة" واختلف أهل العلم في هذا: فالجمهور قالوا هو ركن لا يتم الحج بدونه، وعن أبي حنيفة واجب

(3/498)


يجبر بالدم، وبه قال الثوري في الناسي لا في العامد، وبه قال عطاء، وعنه أنه سنة لا يجب بتركه شيء، وبه قال أنس فيما نقله ابن المنذر، واختلف عن أحمد كهذه الأقوال الثلاثة، وعند الحنفية تفصيل فيما إذا ترك بعض السعي كما هو عندهم في الطواف بالبيت، وأغرب ابن العربي فحكى الإجماع على أن السعي ركن في العمرة، وإنما الاختلاف في الحج. وأغرب الطحاوي فقال في كلام له على المشعر الحرام: قد ذكر الله أشياء في الحج لم يرد بذكرها إيجابها في قول أحد من الأمة من ذلك قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، وكل أجمع على أنه لو حج ولم يطوف بهما أن حجه قد تم وعليه دم. وقد أطنب ابن المنير في الرد عليه في حاشيته على ابن بطال. قوله: "فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة إلخ" الجواب محصله أن عروة احتج للإباحة باقتصار الآية على رفع الجناح فلو كان واجبا لما اكتفى بذلك لأن رفع الإثم علامة المباح، ويزداد المستحب بإثبات الأجر، ويزداد الوجوب عليهما بعقاب التارك، ومحل جواب عائشة أن الآية ساكتة عن الوجوب وعدمه مصرحة برفع الإثم عن الفاعل، وأما المباح فيحتاج إلى رفع الإثم عن التارك، والحكمة في التعبير بدلك مطلقة جواب السائلين لأنهم توهموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية أنه لا يستمر في الإسلام فخرج الجواب مطابقا لسؤالهم، وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر، ولا مانع أن يكون الفعل واجبا ويعتقد إنسان امتناع إيقاعه على صفة مخصوصة فيقال له لا جناح عليك في ذلك، ولا يستلزم ذلك نفي الوجوب، ولا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل نفي الإثم عن التارك، فلو كان المراد مطلق الإباحة لنفي الإثم عن التارك، وقد وقع في بعض الشواذ باللفظ الذي قالت عائشة أنها لو كانت للإباحة لكانت كذلك حكاه الطبري وابن أبي داود في "المصاحف" وابن المنذر وغيرهم عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، وأجاب الطبري بأنها محمولة على القراءة المشهورة و "لا" زائدة، وكذا قال الطحاوي. وقال غيره: لا حجة في الشواذ إذا خالفت المشهور. وقال الطحاوي أيضا: لا حجة لمن قال إن السعي مستحب بقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} لأنه راجع إلى أصل الحج والعمرة لا إلى خصوص السعي لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع والله أعلم. قوله: "يهلون" أي يحجون. قوله: "لمناة" بفتح الميم والنون الخفيفة صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل وكانوا يعبدونها، والطاغية صفة لها إسلامية. قوله: "بالمشلل" بضم أوله وفتح المعجمة ولامين الأولى مفتوحة مثقلة هي الثنية المشرفة على قديد، زاد سفيان عن الزهري "بالمشلل من قديد" أخرجه مسلم وأصله للمصنف كما سيأتي في تفسير النجم، وله في تفسير البقرة من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن - فذكر الحديث وفيه - كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد" أي مقابله، وقديد بقاف مصغر قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه قاله أبو عبيد البكري. قوله: "فكان من أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة" وقوله بعد ذلك "إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة" ظاهره أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة ويقتصرون على الطواف بمناة فسألوا عن حكم الإسلام في ذلك، ويصرح بذلك رواية سفيان المذكورة بلفظ: "إنما كان من أهل بمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة" وفي رواية معمر عن الزهري "إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة" أخرجه البخاري تعليقا، ووصله أحمد وغيره. وفي رواية يونس عن الزهري عند مسلم: "إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في آبائهم، من

(3/499)


أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة" فطرق الزهري متفقة، وقد اختلف فيه على هشام بن عروة عن أبيه فرواه مالك عنه بنحو رواية شعيب عن الزهري، ورواه أبو أسامة عنه بلفظ: "إنما أنزل الله هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة" أخرجه مسلم، وظاهره يوافق رواية الزهري، وبذلك جزم محمد بن إسحاق فيما رواه الفاكهي من طريق عثمان بن ساج عنه "أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة - قال - وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ومن دان دينهم من أهل يثرب" فهذا يوافق رواية الزهري. وأخرج مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام هذا الحديث فخالف جميع ما تقدم ولفظه: "إنما كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما أساف ونائلة فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية" فهذه الرواية تقتضي أن تحرجهم إنما كان لئلا يفعلوا في الإسلام شيئا كانوا يفعلونه في الجاهلية لأن الإسلام أبطل أفعال الجاهلية إلا ما أذن فيه الشارع، فخشوا أن يكون ذلك من أمر الجاهلية الذي أبطله الشارع، فهذه الرواية توجيهها ظاهر بخلاف رواية أبي أسامة فإنها تقتضي أن التحرج عن الطواف بين الصفا والمروة لكونهم كانوا لا يفعلونه في الجاهلية، ولا يلزم من تركهم فعل شيء في الجاهلية أن يتحرجوا من فعله في الإسلام، ولولا الزيادة التي في طريق يونس حيث قال وكانت سنة في آبائهم إلخ لكان الجمع بين الروايتين ممكنا بأن نقول: وقع في رواية الزهري حذف تقديره أنهم كانوا يهلون في الجاهلية لمناة ثم يطوفون بين الصفا والمروة فكان من أهل أي بعد ذلك في الإسلام يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة لئلا يضاهي فعل الجاهلية. ويمكن أيضا أن يكون في رواية أبي أسامة حذف تقديره كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية، فجاء الإسلام فظنوا أنه أبطل ذلك فلا يحل لهم، ويبين ذلك رواية أبي معاوية المذكورة حيث قال فيها "فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية"، إلا أنه وقع فيها وهم غير هذا نبه عليه عياض فقال: قوله لصنمين على شط البحر وهم، فإنهما ما كانا قط على شط البحر وإنما كانا على الصفا والمروة، إنما كانت مناة مما يلي جهة البحر انتهى. وسقط من روايته أيضا إهلالهم أولا لمناة، فكأنهم كانوا يهلون لمناة فيبدؤون بها ثم يطوفون بين الصفا والمروة لأجل أساف ونائلة، فمن ثم تحرجوا من الطواف بينهما في الإسلام، ويؤيد ما ذكرناه حديث أنس المذكور في الباب الذي بعده بلفظ: "أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم، لأنها كانت من شعار الجاهلية" وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة قال: "كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما أساف ونائلة كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما" الحديث، وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: "قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية"، وروى الفاكهي وإسماعيل القاضي في "الأحكام" بإسناد صحيح عن الشعبي قال: "كان صنم بالصفا يدعى أساف ووثن بالمروة يدعى نائلة، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى بهما وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية" وذكر الواحدي في "أسبابه" عن ابن عباس نحو هذا وزاد فيه:

(3/500)


يزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا. والباقي نحو. وروى الفاكهي بإسناد صحيح إلى أبي مجلز نحوه. وفي "كتاب مكة" لعمر بن شبة بإسناد قوي عن مجاهد في هذه الآية قال: قالت الأنصار أن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، فنزلت. ومن طريق الكلبي قال: كان الناس أول ما أسلموا كرهوا الطواف بينهما لأنه كان على كل واحد منهما صنم فنزلت، فهذا كله يوضح قوة رواية أبي معاوية وتقدمها على رواية غيره، ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يقربهما على ما اقتضته رواية الزهري واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف عن الطواف بينهما لكونه كان عندهم جميعا من أفعال الجاهلية، فيجمع بين الروايتين بهذا، وقد أشار إلى نحو هذا الجمع البيهقي والله أعلم. "تنبيه": قول عائشة "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة" أي فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيتها، ويؤيده قولها "لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما". قوله: "ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن" القائل هو الزهري، ووقع في رواية سفيان عن الزهري عند مسلم: "قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك". قوله: "إن هذا العلم" كذا للأكثر، أي أن هذا هو العلم المتين، وللكشميهني: "إن هذا لعلم" بفتح اللام وهي المؤكدة وبالتنوين على أنه الخبر. قوله: "إن الناس إلا من ذكرت عائشة" إنما ساغ له هذا الاستثناء مع أن الرجال الذين أخبروه أطلقوا ذلك لبيان الخبر عنده من رواية الزهري له عن عروة عنها، ومحصل ما أخبر به أبو بكر بن عبد الرحمن أن المانع لهم من التطوف بينهما أنهم كانوا يطوفون بالبيت وبين الصفا والمروة في الجاهلية، فلما أنزل الله الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بينهما ظنوا رفع ذلك الحكم فسألوا هل عليهم من حرج إن فعلوا ذلك، بناء على ما ظنوه من أن التطوف بينهما من فعل الجاهلية. ووقع في رواية سفيان المذكورة "إنما كان من لا يطوف بينهما من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية" وهو يؤيد ما شرحناه أولا. قوله: "فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين" كذا في معظم الروايات بإثبات الهمزة وضم العين بصيغة المضارعة للمتكلم، وضبطه الدمياطي في نسخته بالوصل وسكون العين بصيغة الأمر، والأول أصوب فقد وقع في رواية سفيان المذكورة فأراها نزلت: وهو بضم الهمزة أي أظنها، وحاصله أن سبب نزول الآية على هذا الأسلوب كان للرد على الفريقين: الذين تحرجوا أن يطوفوا بينهما لكونه عندهم من أفعال الجاهلية، والذين امتنعوا من الطواف بينهما لكونهما لم يذكرا. قوله: "حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت" يعني تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج وهي قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ووقع في رواية المستملي وغيره: "حتى ذكر بعد ذلك ما ذكر الطواف بالبيت" وفي توجيهه عسر، وكأن قوله: "الطواف بالبيت" بدل من قوله: "ما ذكر" بتقدير الأول إنما امتنعوا من السعي بين الصفا والمروة لأن قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} دل على الطواف بالبيت ولا ذكر للصفا والمروة فيه حتى نزل "إن الصفا والمروة من شعائر الله" بعد نزول {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} أما الثاني فيجوز أن تكون ما مصدرية أي بعد ذلك الطواف بالبيت الطواف بين الصفا والمروة. والله أعلم.

(3/501)


80 - باب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنٍ

(3/501)


1644 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقُلْتُ لِنَافِعٍ أَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِي إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ"
1645 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ "سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
1646 – "وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ"
1647 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ تَلاَ [21 الاحزاب]: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسوة حَسَنَةٌ} "
1648 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ قَالَ "قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ نَعَمْ: لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ [158 البقرة]: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} "
[الحديث 1648 – طرفه في: 4496]
1649 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ"
زَادَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعْتُ عَطَاءً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.. مِثْلَهُ
[الحديث 1649 – طرفه في: 4257]
قوله: "باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة" أي في كيفيته. قوله: "وقال ابن عمر إلخ" وصله الفاكهي من طريق ابن جريج "أخبرني نافع قال: نزل ابن عمر من الصفا، حتى إذا حاذى باب بني عباد سعى، حتى إذا انتهى إلى الزقاق الذي يسلك بين دار بني أبي حسين ودار بنت قرظة" ومن طريق عبيد الله بن أبي يزيد قال: "رأيت ابن عمر يسعى من مجلس أبي عباد إلى زقاق ابن أبي حسين" قال سفيان هو بين هذين العلمين. وروى ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن الأسود عن مجاهد وعطاء قال: "رأيتهما يسعيان من خوخة بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين، قال فقلت لمجاهد، فقال: هذا بطن المسيل الأول" اهـ. والعلمان اللذان أشار إليهما معروفان إلى الآن. وروى ابن خزيمة

(3/502)


والفاكهي من طريق أبي الطفيل قال: "سألت ابن عباس عن السعي فقال: لما بعث الله جبريل إلى إبراهيم ليريه المناسك عرض له الشيطان بين الصفا والمروة، فأمر الله أن يجيز الوادي. قال ابن عباس: فكانت سنة" وسيأتي في أحاديث الأنبياء أن ابتداء ذلك كان من هاجر. وروى الفاكهي بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "هذا ما أورثتكموه أم إسماعيل" وسيأتي حديثه في آخر الباب في سبب فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. قوله: "حدثنا محمد بن عبيد" زاد أبو ذر في روايته: "هو ابن أبي حاتم" ولغيره: "محمد بن عبيد بن ميمون" وهو الصواب وبه جزم أبو نعيم، ولعل حاتما اسم جد له إن كانت رواية أبي ذر فيه مضبوطة. وقد ذكر أبو علي الجياني أنه رآه بخط أبي محمد الأصيلي في نسخته "حدثنا محمد بن عبيد بن حاتم". قوله: "كان إذا طاف الطواف الأول" أي طواف القدوم. قوله: "خب" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة وقد تقدم في "باب من طاف إذا قدم مكة". قوله: "وكان يسعى بطن المسيل" أي المكان الذي يجتمع فيه السيل، وقوله بطن منصوب على الظرف، وهذا مرفوع عن ابن عمر، وكأن المصنف بدأ بالموقوف عنه في الترجمة لكونه مفسرا لحد السعي، والمراد به شدة المشي وإن كان جميع ذلك يسمى سعيا. قوله: "فقلت لنافع" القائل عبيد الله بن عمر المذكور، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالاستلام قبل بأبواب. حديث ابن عمر أيضا في طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة، أورده من وجهين، وقد تقدم في "باب صلى النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين" قال شيخنا ابن الملقن هنا قال صاحب المحيط من الحنفية: لو بدأ بالمروة وختم بالصفا أعاد شوطا فإن البداءة واجبة، ولا أصل لما قال الكرماني أن الترتيب ليس بشرط ولكن تركه مكروه لترك السنة فيستحب إعادة الشوط. قلت: الكرماني المذكور عالم من الحنفية وليس هو شمس الدين شارح البخاري، وإنما نبهت على ذلك لئلا يتوهم أن شيخنا وقف على شرحه ونقل منه فإن هذا الكلام ما هو في شرح شمس الدين وشمس الدين شافعي المذهب يرى الترتيب شرطا في صحة السعي. حديث ابن عمر أيضا في طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة، أورده من وجهين، وقد تقدم في "باب صلى النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين" قال شيخنا ابن الملقن هنا قال صاحب المحيط من الحنفية: لو بدأ بالمروة وختم بالصفا أعاد شوطا فإن البداءة واجبة، ولا أصل لما قال الكرماني أن الترتيب ليس بشرط ولكن تركه مكروه لترك السنة فيستحب إعادة الشوط. قلت: الكرماني المذكور عالم من الحنفية وليس هو شمس الدين شارح البخاري، وإنما نبهت على ذلك لئلا يتوهم أن شيخنا وقف على شرحه ونقل منه فإن هذا الكلام ما هو في شرح شمس الدين وشمس الدين شافعي المذهب يرى الترتيب شرطا في صحة السعي. حديث أنس في نزول قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وقد تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبله. الرابع حديث ابن عباس "إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته" والمراد بالسعي هنا شدة المشي، وقد تقدم القول فيه في "باب بدء الرمل". قوله: "زاد الحميدي إلخ" أي زاد التصريح بالتحديث من عمرو لسفيان ومن عطاء لعمرو، وهكذا رويناه في "مسند الحميدي" رواية بشر بن موسى عنه ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في المستخرج. وأخرج مسلم في هذا الباب حديث جابر "أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الركعتين بعد طوافه خرج إلى الصفا فقال: أبدأ بما بدأ الله به" واستدل به على اشتراط البداءة بالصفا، ورواه النسائي بلفظ الأمر فقال: "ابدؤوا بما بدأ الله به" . "تكميل": قال ابن عبد السلام المروة أفضل من الصفا لأنها تقصد بالذكر والدعاء أربع مرات بخلاف الصفا فإنما يقصد ثلاثا، قال: وأما البداءة بالصفا فليس بوارد لأنه وسيلة. قلت: وفيه نظر لأن الصفا تقصد أربعا أيضا أولها عند البداءة فكل منهما مقصود بذلك ويمتاز بالابتداء، وعند التنزل يتعادلان، ثم ما ثمرة هذا التفضيل مع أن العبادة المتعلقة بهما لا تتم إلا بهما معا؟

(3/503)


81 - باب تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلاَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ

(3/503)


1650 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ "قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي"
1651 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ ح وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لاَحْلَلْتُ" وَحَاضَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ"
1652 - حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ "كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ أَنَّ أُخْتَهَا كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ هَلْ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ قَالَ: "لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَدْ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ" فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلْنَهَا أَوْ قَالَتْ سَأَلْنَاهَا فَقَالَتْ وَكَانَتْ لاَ تَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا إِلاَّ قَالَتْ بِأَبِي فَقُلْنَا أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كَذَا وَكَذَا قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي فَقَالَ لِتَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى فَقُلْتُ أَلْحَائِضُ فَقَالَتْ أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا"
قوله: "باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة" جزم بالحكم الأول لتصريح الأخبار التي ذكرها في الباب بذلك، وأورد المسألة الثانية مورد الاستفهام للاحتمال وكأنه أشار إلى ما روي عن مالك في حديث الباب بزيادة "ولا بين الصفا والمروة" قال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن مالك إلا يحيى بن يحيي التميمي النيسابوري. قلت: فإن كان يحيي حفظه فلا يدل على اشتراط الوضوء للسعي لأن

(3/504)


السعي يتوقف على تقدم طواف قبله فإذا كان الطواف ممتنعا امتنع لذلك لا لاشتراط الطهارة له. وقد روي عن ابن عمر أيضا قال: "تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة" أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قال: وحدثنا ابن فضيل عن عاصم قلت لأبي العالية تقرأ الحائض؟ قال: لا، ولا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة. ولم يذكر ابن المنذر عن أحد من السلف اشتراط الطهارة للسعي إلا عن الحسن البصري، وقد حكى المجد بن تيمية من الحنابلة رواية عندهم مثله، وأما ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيح "إذا طافت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة فلتسع" وعن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن مثله، وهذا إسناد صحيح عن الحسن فلعله يفرق بين الحائض والمحدث كما سيأتي. وقال ابن بطال: كأن البخاري فهم أن قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". أن لها أن تسعى ولهذا قال: وإذا سعى على غير وضوء اهـ، وهو توجيه جيد لا يخالف التوجيه الذي قدمته وهو قول الجمهور، وحكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث واحتج بحديث أسامة بن شريك "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: سعيت قبل أن أطوف، قال: طف ولا حرج" وقال الجمهور: لا يجزئه، وأولوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم وقيل طواف الإفاضة. حديث عائشة وفيه: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" وهو بفتح التاء والطاء المهملة المشددة وتشديد الهاء أيضا أو هو على حذف إحدى التاءين وأصله تتطهري، ويؤيده قوله في رواية مسلم: "حتى تغتسلي" والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور، وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط، قال ابن أبي شيبة: حدثنا غندر حدثنا شعبة سألت الحكم وحمادا ومنصورا وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة فلم يروا به بأسا. وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدا ثم حاضت أجزأ عنها. وفي هذا تعقب على النووي حيث قال في "شرح المهذب": انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف، واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدم إن فعله اهـ، ولم ينفردوا بذلك كما ترى، فلعله أراد انفرادهم عن الأئمة الثلاثة، لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول يوافق هذا. حديث جابر في الإهلال بالحج وفيه قصة قدوم علي ومعه الهدي، وقصة عائشة "حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت" الحديث وسيأتي الكلام عليه مستوفى في "باب عمرة التنعيم" من أبواب العمرة، والاحتياج منه لقوة "غير أنها لم تطف بالبيت". "تنبيه": ساقه المؤلف هنا رحمه الله بلفظ خليفة، وسيأتي لفظ محمد بن المثنى في "باب عمرة التنعيم". حديث حفصة "كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف - وفيه - ويعتزل الحيض المصلى" وقد تقدم في الحيض وفي العيدين وتقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الحيض، والمحتاج إليه هنا قولها في آخره: "أو ليس تشهد عرفة وتشهد كذا وتشهد كذا" فهو المطابق لقول جابر "فنسكت المناسك كلها إلا الطواف بالبيت" وكذا قولها "ويعتزل الحيض المصلى" فإنه يناسب قوله: "إن الحائض لا تطوف بالبيت" لأنها إذا أمرت باعتزال المصلى كان اعتزالها للمسجد بل للمسجد الحرام بل للكعبة من باب الأولى.

(3/505)


باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي والحاج إذا خرج إلى منى
...
82 - باب الإِهْلاَلِ مِنْ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّيِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى
وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّي بِالْحَجِّ قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَهْلَلْنَا مِنْ الْبَطْحَاءِ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ
قوله: "باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي والحاج إذا خرج من منى" كذا في معظم الروايات، وفي نسخة معتمدة من طريق أبي الوقت "إلى منى" وكذا ذكره ابن بطال في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه ولا إشكال فيها، وعلى الأول فلعله أشار إلى الخلاف في ميقات المكي، قال النووي: ميقات من بمكة من أهلها أو غيرهم نفس مكة على الصحيح، وقيل مكة وسائر الحرم اهـ. والثاني مذهب الحنفية، واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل، وفي قول للشافعي من المسجد، وحجة الصحيح ما تقدم في أول كتاب الحج من حديث ابن عباس "حتى أهل مكة يهلون منها" وقال مالك وأحمد وإسحاق: يهل من جوف مكة ولا يخرج إلى الحل إلا محرما، واختلفوا في الوقت الذي يهل فيه: فذهب الجمهور إلى أن الأفضل أن يكون يوم التروية، وروى مالك وغيره بإسناد منقطع وابن المنذر بإسناد متصل عن عمر أنه قال لأهل مكة "ما لكم يقدم الناس عليكم شعثا وأنتم تنضحون طيبا مدهنين، إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج" وهو قول ابن الزبير ومن أشار إليهم عبيد بن جريج بقوله لابن عمر أهل الناس إذا رأوا الهلال، وقيل إن ذلك محمول على الاستحباب وبه قال مالك وأبو ثور. وقال ابن المنذر: الأفضل أن يهل يوم التروية إلا المتمتع الذي لا يجد الهدي ويريد الصوم فيعجل الإهلال ليصوم ثلاثة أيام بعد أن يحرم، واحتج الجمهور بحديث أبي الزبير عن جابر وهو الذي علقه المصنف في هذا الباب، وقوله في الترجمة "للمكي" أي إذا أراد الحج، وقوله: "الحاج" أي الآفاقي إذا كان قد دخل مكة متمتعا. قوله: "وسئل عطاء إلخ" وصله سعيد بن منصور من طريقه بلفظ: "رأيت ابن عمر في المسجد فقيل له: قد رئي الهلال - فذكر قصة فيها - فأمسك حتى كان يوم التروية فأتى البطحاء، فلما استوت به راحلته أحرم" وروى مالك في "الموطأ" أن ابن عمر أهل لهلال ذي الحجة، وذلك أنه كان يرى التوسعة في ذلك. قوله: "وقال عبد الملك إلخ" الظاهر أن عبد الملك هو ابن أبي سليمان وقد وصله مسلم من طريقه عن عطاء عن جابر قال: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا" الحديث وفيه: "أيها الناس أحلوا، فأحللنا، حتى كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج" وقد روى عبد الملك بن جريج نحو هذه القصة وسيأتي في أثناء حديث. "تنبيه": قوله: "بظهر" أي وراء ظهورنا، وقوله: "أهللنا بالحج" أي جعلنا مكة من ورائنا في يوم التروية حال كوننا مهلين بالحج، فعلم أنهم حين الخروج من مكة كانوا محرمين، ويوضح ذلك ما بعده. قوله: "وقال أبو الزبير عن جابر أهللنا من البطحاء" وصله أحمد ومسلم من طريق ابن جريج عنه عن جابر قال: "أمرنا النبي إذا أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال:

(3/506)


فأهللنا من الأبطح" وأخرجه مسلم مطولا من طريق الليث عن أبي الزبير فذكر قصة فسخهم الحج إلى العمرة، وقصة عائشة لما حاضت وفيه: "ثم أهللنا يوم التروية" وزاد من طريق زهير عن أبي الزبير "أهللنا بالحج" وفي حديثه الطويل عنده نحو.
" تنبيه ": يوم التروية سيأتي الكلام عليه في الترجمة التي بعد هذه. قوله: "وقال عبيد بن جريج لابن عمر إلخ" وصله المؤلف في أوائل الطهارة في اللباس بأتم من سياقه هنا، قال ابن بطال وغيره: وجه احتجاج ابن عمر على ما ذهب إليه أنه يهل يوم التروية إذا كان بمكة بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إنما أهل حين انبعثت به راحلته بذي الحليفة، ولم يكن بمكة ولا كان ذلك يوم التروية من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهل من ميقاته من حين ابتدائه في عمل حجته واتصل له عمله ولم يكن بينهما مكث ربما انقطع به العمل. فكذلك المكي إذا أهل يوم التروية اتصل عمله، بخلاف ما لو أهل من أول الشهر، وقد قال ابن عباس: لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى.

(3/507)


83 - باب أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟
1653 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ "سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ بِمِنًى قُلْتُ فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ قَالَ بِالأَبْطَحِ ثُمَّ قَالَ افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ"
[الحديث 1653 – طرفاه في: 1654, 1763]
1654 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ لَقِيتُ أَنَسًا ح و حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ "خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ فَقُلْتُ أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْيَوْمَ الظُّهْرَ فَقَالَ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ"
قوله: "باب أين يصلي الظهر يوم التروية" أي يوم الثامن من ذي الحجة وسمي التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فقد كثرت جدا واستغنوا عن حمل الماء. وقد روى الفاكهي في "كتاب مكة" من طريق مجاهد قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد، إذا رأيت الماء بطريق مكة، ورأيت البناء يعلو أخاشبها، فخذ حذرك. وفي رواية: فاعلم أن الأمر قد أظلك. وقيل في تسميته التروية أقوال أخرى شاذة: منها أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها. ومنها أن إبراهيم رأى في ليلته أنه يذبح ابنه فأصبح متفكرا يتروى. ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج. ومنها أن الإمام يعلم الناس فيه مناسك الحج. ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو من الثاني لكان يوم التروي بتشديد الواو، أو من الثالث لكان من الرؤيا، أو من الرابع لكان من الرواية. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي. وإسحاق الأزرق هو ابن يوسف، وسفيان هو الثوري. قال الترمذي بعد أن أخرجه: صحيح يستغرب من حديث إسحاق الأزرق عن الثوري، يعني أن إسحاق تفرد به وأظن أن لهذه النكتة أردفه البخاري بطريق أبي بكر بن عياش عن عبد العزيز،

(3/507)


ورواية أبي بكر وإن كان قصر فيها كما سنوضحه لكنها متابعة قوية لطريق إسحاق، وقد وجدنا له شواهد: منها ما وقع في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر" الحديث. وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات" وله عن ابن عمر أنه "كان يحب - إذا استطاع - أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وحديث ابن عمر في "الموطأ" عن نافع عنه موقوفا، ولابن خزيمة والحاكم من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير قال: "من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة". قوله: "يوم النفر" بفتح النون وسكون الفاء يأتي الكلام عليه في أواخر أبواب الحج. قوله: "حدثنا علي" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، والذي يظهر لي أنه ابن المديني، وقد ساق المصنف الحديث على لفظ إسماعيل بن أبان، وإنما قدم طريق علي لتصريحه فيها بالتحديث بين أبي بكر وهو ابن عياش وعبد العزيز وهو ابن رفيع. قوله: "فلقيت أنسا ذاهبا" في رواية الكشميهني: "راكبا". قوله: "انظر حيث يصلي أمراؤك فصل" هذا فيه اختصار يوضحه رواية سفيان وذلك أنه في رواية سفيان بين له المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية وهو منى كما تقدم، ثم خشي عليه أن يحرص على ذلك فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة مع الجماعة فقال له صل مع الأمراء حيث يصلون. وفيه إشعار بأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز وإن كان الاتباع أفضل، ولما خلت رواية أبي بكر بن عياش عن القدر المرفوع وقع في بعض الطرق عنه وهم فرواه الإسماعيلي من رواية عبد الحميد بن بيان عنه بلفظ: "أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر هذا اليوم؟ قال: صلى حيث يصلي أمراؤك "قال الإسماعيلي: قوله: "صلى "غلط. قلت: ويحتمل أن يكون كانت "صل" بصيغة الأمر كغيرها من الروايات فأشبع الناسخ اللام فكتب بعدها باء فقرأها الراوي بفتح اللام. وأغرب الحميدي في جمعه فحذف لفظ فصل من آخر رواية أبي بكر ابن عياش فصار ظاهره أن أنسا أخبر أنه صلى حيث يصلي الأمراء، وليس كذلك فهذا بعينه الذي أطلق الإسماعيلي أنه غلط. وقال أبو مسعود في "الأطراف": جود إسحاق عن سفيان هذا الحديث ولم يجوده أبو بكر بن عياش. قلت: وهو كما قال، وقد قدمت عذر البخاري في تخريجه وأنه أراد به دفع من يتوقف في تصحيحه لتفرد إسحاق به عن سفيان. ووقع في رواية عبد الله بن محمد في هذا الباب زيادة لفظة لم يتابعه عليها سائر الرواة عن إسحاق وهي قوله: "أين صلى الظهر والعصر"؟ فإن لفظ: "العصر" لم يذكره غيره، فسيأتي في أواخر صفة الحج عن أبي موسى محمد بن المثنى عند المصنف، وكذا أخرجه ابن خزيمة عن أبي موسى، وأخرجه أحمد في مسنده عن إسحاق نفسه، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب، وأبو داود عن أحمد بن إبراهيم، والترمذي عن أحمد بن منيع ومحمد بن وزير، والنسائي عن محمد بن إسماعيل بن علية وعبد الرحمن بن محمد بن سلام، والدارمي عن أحمد بن حنبل ومحمد بن أحمد، وأبو عوانة في صحيحه عن سعدان بن يزيد، وابن الجارود في "المنتقى "عن محمد بن وزير، وسمويه في فوائده عن محمد بن بشار بندار، وأخرجه ابن المنذر والإسماعيلي من طريق بندار، زاد الإسماعيلي وزهير بن حرب وعبد الحميد بن بيان وأحمد بن منيع كلهم -وهم اثنا عشر نفسا- عن إسحاق الأزرق، ولم يقل أحد منهم في روايته: "والعصر"، وادعى الداودي أن ذكر العصر هنا وهم وإنما ذكر العصر في النفس، وتعقب بأن النصر مذكور في هذه

(3/508)


الرواية في الموضعين، وقد تقدم التصريح في حديث جابر عند مسلم بأنه صلى الظهر والعصر وما بعد ذلك إلى صبح يوم عرفة بمنى، فالزيادة في نفس الأمر صحيحة إلا أن عبد الله بن محمد تفرد بذكرها عن إسحاق دون بقية أصحابه والله أعلم. "تكميل": ليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في الصحيحين إلا هذا الحديث الواحد، وله عن غير أنس أحاديث تقدم بعضها في "باب من طاف بعد الصبح" والمراد بالنفر الرجوع من منى بعد انقضاء أعمال الحج، والمراد بالأبطح المحصب كما سيأتي في مكانه. وفي الحديث أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى وهو قول الجمهور، وروى الثوري في جامعه عن عمرو بن دينار فال: رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة. وقد تقدمت رواية القاسم عنه أن السنة أن يصليها بمنى فلعله فعل ما نقله عمرو عنه لضرورة أو لبيان الجواز، وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس قال: "إذا زاغت الشمس فليرح إلى منى" قال ابن المنذر في حديث ابن الزبير: أن من السنة أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار، قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا. ثم روي عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم التروية حتى دخل الليل وذهب ثلثه، قال ابن المنذر: والخروج إلى منى في كل وقت مباح إلا أن الحسن وعطاء قالا: لا بأس أن يتقدم الحاج إلى منى قبل يوم التروية بيوم أو يومين. وكرهه مالك، وكره الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي إلا إن أدركه وقت الجمعة فعليه أن يصليها قبل أن يخرج. وفي الحديث أيضا الإشارة إلى متابعة أولي الأمر، والاحتراز عن مخالفة الجماعة.

(3/509)


باب أين يصلي بمنى
...
84 - باب الصَّلاَةِ بِمِنًى
1655 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلاَفَتِهِ"
1656 - حدثنا آدم حدثنا شعبة عن أبي إسحاق الهمداني عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال "صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنى ركعتين"
1657 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ"
قوله: "باب الصلاة بمنى" أي هل يقصر الرباعية أم لا؟ وقد تقدم البحث في ذلك في أبواب قصر الصلاة في الكلام على نظير هذه الترجمة، وأورد فيها أحاديث الباب الثلاثة، لكن غاير في بعض أسانيدها: فإنه أورد حديث ابن عمر هناك من طريق نافع عنه، وهنا من طريق ولده عبيد الله عنه. قوله: "وعثمان صدرا من خلافته" زاد في رواية نافع المذكورة "ثم أتمها" وأورد حديث حارثة هناك عن أبي الوليد وهنا عن آدم كلاهما عن شعبة، وحديث

(3/509)


ابن مسعود هناك من رواية عبد الواحد وهنا من رواية سفيان كلاهما عن الأعمش. قوله: "فليت حظي من أربع ركعتان" قال الداودي: خشي ابن مسعود أن لا يجزئ الأربع فاعلها وتبع عثمان كراهة لخلافه، وأخبر بما يعتقده. وقال غيره: يريد أن لو صلى أربعا تكلفها فليتها تقبل كما تقبل الركعتان انتهى. والذي يظهر أنه قال ذلك على سبيل التفويض إلى الله لعدم إطلاعه على الغيب وهل يقبل الله صلاته أم لا، فتمنى أن يقبل منه من الأربع التي يصليها ركعتان ولو لم يقيل الزائد، وهو يشعر بأن المسافر عنده مخير بين القصر والإتمام والركعتان لا بد منهما، ومع ذلك فكان يخاف أن لا يقبل منه شيء، فحاصله أنه قال: إنما أتم متابعة لعثمان، وليت الله قبل مني ركعتين من الأربع. وقد تقدم الكلام على بقية فوائد هذه الأحاديث في أبواب القصر وعلى السبب في إتمام عثمان بمنى ولله الحمد.

(3/510)


85 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
1658 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَالِمٌ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ "شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ"
[الحديث 1658 – أطرافه في:1661, 1988, 5604, 5618, 5636]
قوله "باب صوم يوم عرفة" يعني بعرفة أورد فيه حديث أم الفضل وسيأتي الكلام عليه في كتاب الصيام مستوفى إن شاء الله تعالى وترجم له بنظير هذه الترجمة سواء.

(3/510)


باب التلبية إذا غدا من منى إلى عرفة
...
86 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ
1658 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ "سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْه"
قوله: "باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة" أي مشروعيتهما، وغرضه بهذه الترجمة الرد على من قال. يقطع المحرم التلبية إذا راح إلى عرفة، وسيأتي البحث فيه بعد أربعة عشر بابا إن شاء الله تعالى. قوله: "عن محمد بن أبي بكر الثقفي" تقدم في العيدين من وجه آخر عن مالك "حدثني محمد" وليس لمحمد المذكور في الصحيح عن أنس ولا غيره غير هذا الحديث الواحد، وقد وافق أنسا على روايته عبد الله بن عمر أخرجه مسلم. قوله: "وهما غاديان" أي ذاهبان غدوة. قوله: "كيف كنتم تصنعون" أي من الذكر، ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن أبي بكر "قلت لأنس غداة عرفة: ما نقول في التلبية في هذا اليوم". قوله: "فلا ينكر عليه" بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية موسى بن عقبة "لا يعيب أحدنا على صاحبه" وفي حديث ابن عمر المشار إليه من طريق عبد الله بن أبي سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه "غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات، منا الملبي ومنا المكبر" وفي رواية له "قال - يعني عبد الله بن أبي سلمة - فقلت له - يعني لعبيد الله - عجبا لكم كيف لم تسألوه ماذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع" وأراد عبد الله بن أبي سلمة بذلك الوقوف على الأفضل، لأن الحديث يدل على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره لهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأراد أن يعرف ما كان يصنع هو

(3/510)


87 - باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ
1660 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ "كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لاَ يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ قَالَ هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجُ فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي فَقُلْتُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ"
[الحديث 1660 – طرفاه في:1662, 1663]
قوله: "باب التهجير بالرواح يوم عرفة" أي من نمرة، لحديث ابن عمر أيضا: "غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل نمرة - وهو منزل الإمام الذي ينزل فيه بعرفة - حتى إذ كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف" أخرجه أحمد وأبو داود، وظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها، لكن في حديث جابر الطويل عند مسلم أن توجهه صلى الله عليه وسلم منها كان بعد طلوع الشمس ولفظه: "فضربت له قبة بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت فأتى بطن الوادي" انتهى، ونمرة بفتح النون وكسر الميم موضع بقرب عرفات خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات. قوله: "عن سالم" هو ابن عبد الله بن عمر. قوله: "كتب عبد الملك" يعني ابن مروان. قوله: "إلى الحجاج" يعني ابن يوسف الثقفي حين أرسله إلى قتال ابن الزبير كما سيأتي مبينا بعد باب. قوله: "في الحج" أي في أحكام الحج، وللنسائي من طريق أشهب عن مالك "في أمر الحج "وكان ابن الزبير لم يمكن الحجاج وعسكره من دخول مكة فوقف قبل الطواف. قوله: "فجاء ابن عمر رضي الله عنهما وأنا معه" القائل هو سالم، ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري "فركب هو وسالم وأنا معهما" وفي روايته: "قال ابن شهاب: وكنت يومئذ صائما فلقيت من الحر شدة" واختلف الحفاظ في رواية معمر هذه فقال يحيى بن معين: هي وهم، ابن شهاب لم ير ابن عمر ولا سمع منه. وقال الذهلي لست أدفع رواية معمر لأن ابن وهب روى عن العمري عن ابن شهاب نحو رواية معمر، وروى عنبسة بن خالد عن يونس عن ابن شهاب قال: "وفدت إلى مروان وأنا محتلم" قال الذهلي: ومروان مات سنة خمس وستين، وهذه القصة كانت سنة ثلاث وسبعين انتهى. وقال غيره. أن رواية عنبسة هذه أيضا وهم، وإنما قال الزهري وفدت على عبد الملك، ولو كان الزهري وفد على مروان لأدرك جلة الصحابة ممن ليست له عنهم رواية إلا بواسطة. وقد أدخل مالك وعقيل - وإليهما المرجع في حديث الزهري - بينه وبين ابن عمر في هذه القصة سالما فهذا هو المعتمد. قوله: "فصاح عند سرادق الحجاج" أي خيمته، زاد الإسماعيلي من هذا الوجه "أين هذا" أي الحجاج. ومثله يأتي بعد باب من رواية القعنبي. قوله: "وعليه ملحفة" بكسر الميم أي إزار كبير، والمعصفر

(3/511)


المصبوغ بالعصفر. وقوله: "يا أبا عبد الرحمن" هي كنية ابن عمر، وقوله: "الرواح" بالنصب أي عجل أو رح. قوله: "إن كنت تريد السنة" في رواية ابن وهب "إن كنت مريد أن تصيب السنة". قوله: "فأنظرني" بالهمزة وكسر الظاء المعجمة أي أخرني، وللكشميهني بألف وصل وضم الظاء أي انتظرني. قوله: "فنزل" يعني ابن عمر كما صرح به بعد بابين. قوله: "فاقصر" بألف موصولة ومهملة مكسورة. قال ابن عبد البر: هذا الحديث يدخل عندهم في المسند لأن المراد بالسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطلقت ما لم تضف إلى صاحبها كسنة العمرين. قلت: وهي مسألة خلاف عند أهل الحديث والأصول، وجمهورهم على ما قال ابن عبد البر، وهي طريقة البخاري ومسلم، ويقويه قول سالم لابن شهاب إذ قال له "أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وهل يتبعون في ذلك إلا سنته"؟ وسيأتي بعد باب. قوله: "وعجل الوقوف" قال ابن عبد البر: كذا رواه القعنبي وأشهب، وهو عندي غلط لأن أكثر الرواة عن مالك قالوا "وعجل الصلاة" قال ورواية القعنبي لها وجه، لأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة. قلت: قد وافق القعنبي عبد الله بن يوسف كما ترى، ورواية أشهب التي أشار إليها عند النسائي، فهؤلاء ثلاثة رووه هكذا، فالظاهر أن الاختلاف فيه من مالك، وكأنه ذكره باللازم لأن الغرض بتعجيل الصلاة حينئذ تعجيل الوقوف، قال ابن بطال: وفي هذا الحديث الغسل للوقوف بعرفة لقول الحجاج لعبد الله أنظرني، فانتظره، وأهل العلم يستحبونه انتهى. ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما انتظره لحمله على أن اغتساله عن ضرورة. نعم روى مالك في "الموطأ" عن نافع أن ابن عمر كان يغتسل لوقوفه عشية عرفة. وقال الطحاوي: فيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن الحجاج لم يكن يتقي المنكر الأعظم من سفك الدماء وغيره حتى يتقي المعصفر، وإنما لم ينهه ابن عمر لعلمه بأنه لا ينجع فيه النهي، ولعلمه بأن الناس لا يقتدون بالحجاج انتهى ملخصا. وفيه نظر لأن الاحتجاج إنما هو بعدم إنكار ابن عمر، فبعدم إنكاره يتمسك الناس في اعتقاد الجواز، وقد تقدم الكلام على مسألة المعصفر في بابه. وقال المهلب: فيه جواز تأمير الأدون على الأفضل. وتعقبه ابن المنير أيضا بأن صاحب الأمر في ذلك هو عبد الملك، وليس بحجة ولا سيما في تأمير الحجاج، وأما ابن عمر فإنما أطاع لذلك فرارا من الفتنة. قال: وفيه أن إقامة الحج إلى الخلفاء، وأن الأمير يعمل في الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم. وفيه مداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة عليهم في ذلك. وفيه فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل عنه، وتعقبه ابن المنير بأن ابن عمر إنما ابتدأ بذلك لمسألة عبد الملك له في ذلك، فإن الظاهر أنه كتب إليه بذلك كما كتب إلى الحجاج، قال: وفيه الفهم بالإشارة والنظر لقول سالم "فجعل الحجاج ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك قال: صدق" انتهى. وفيه طلب العلو في العلم لتشوف الحجاج إلى سماع ما أخبره به سالم من أبيه ابن عمر، ولم ينكر ذلك ابن عمر. وفيه تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس. وفيه احتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه. وفيه الحرص على نشر العلم لانتفاع الناس به. وفيه صحة الصلاة خلف الفاسق، وأن التوجه إلى المسجد الذي بعرفة حين تزول الشمس للجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر سنة، ولا يضر التأخر بقدر ما يشتغل به المرء من متعلقات الصلاة كالغسل ونحوه. وسيأتي بقية ما فيه في الذي يليه.

(3/512)


88 - باب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ
1661 - حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي النضر عن عمير مولى عبد الله بن العباس عن أم الفضل بنت الحارث "أن ناسا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه"
قوله: "باب الوقوف على الدابة بعرفة" أورد فيه حديث أم الفضل في فطره صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بها، وقد تقدم قريبا، ويأتي الكلام عليه في كتاب الصيام، وموضع الحاجة منه قوله فيه: "وهو واقف على بعيره" وأصرح منه حديث جابر الطويل عند مسلم ففيه: "ثم ركب إلى الموقف فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس" واختلف أهل العلم في أيهما أفضل: الركوب أو تركه بعرفة؟ فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب لكونه صلى الله عليه وسلم وقف راكبا، ومن حيث النظر فإن في الركوب عونا على الاجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ كما ذكروا مثله في الفطر، وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعليم منه، وعن الشافعي قول أنهما سواء، واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وأن النهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا أجحف بالدابة.

(3/513)


89 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِعَرَفَةَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ مَعَ الإِمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
1662 - وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ "أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلاَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صَدَقَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ فَقُلْتُ لِسَالِمٍ أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَالِمٌ وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ سُنَّتَهُ؟"
قوله: "باب الجمع بين الصلاتين بعرفة" لم يبين حكم ذلك، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك الجمع المذكور يختص بمن يكون مسافرا بشرطه، وعن مالك والأوزاعي وهو وجه للشافعية أن الجمع بعرفة جمع للنسك فيحوز لكل أحد، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن القاسم بن محمد "سمعت ابن الزبير يقول: إن من سنة الحج أن الإمام يروح إذا زالت الشمس يخطب فيخطب الناس، فإذا فرغ من خطبته نزل فصلى الظهر والعصر جميعا"، واختلف فيمن صلى وحده كما سيأتي. قوله: "وكان ابن عمر إلخ" وصله إبراهيم الحربي في المناسك له قال: "حدثنا الحوضي عن همام أن نافعا حدثه أن ابن عمر كان إذا لم يدرك الإمام يوم عرفة جمع بين الظهر والعصر في منزله" وأخرج الثوري في جامعه رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع مثله، وأخرجه ابن المنذر من هذا الوجه، وبهذا قال الجمهور، وخالفهم في ذلك النخعي والثوري وأبو حنيفة فقالوا: يختص الجمع بمن صلى مع الإمام، وخالف أبا حنيفة في ذلك صاحباه والطحاوي، ومن أقوى الأدلة لهم صنيع ابن عمر هذا، وقد روى حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين وكان مع ذلك يجمع وحده فدل على أنه عرف أن الجمع لا يختص بالإمام، ومن قواعدهم

(3/513)


أن الصحابي إذا خالف ما روى دل على أن عنده علما بأن مخالفه أرجح تحسينا للظن به فينبغي أن يقال هذا هنا، وهذا في الصلاة بعرفة، وأما صلاة المغرب فعند أبي حنيفة وزفر ومحمد يجب تأخيرها إلى العشاء فلو صلاها في الطريق أعاد، وعن مالك يجوز لمن به أو بدابته عذر فيصليها لكن بعد مغيب الشفق الأحمر، وعن المدونة يعيد من صلى المغرب قبل أن يأتي جمعا، وكذا من جمع بينها وبين العشاء بعد مغيب الشفق فيعيد العشاء، وعن أشهب: إن جاء جمعا قبل الشفق جمع. وقال ابن القاسم: حتى يغيب، وعند الشافعية وجمهور أهل العلم: لو جمع تقديما أو تأخيرا قبل جمع أو بعد أن نزلها أو أفرد أجزأ وفاتت السنة. واختلافهم مبني على أن الجمع بعرفة وبمزدلفة للنسك أو للسفر. قوله: "وقال الليث إلخ" وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح جميعا عن الليث. قوله: "سأل عبد الله" يعني ابن عمر. قوله: "فهجر بالصلاة" أي صل بالهاجرة وهي شدة الحر. قوله: "إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة" بضم المهملة وتشديد النون أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ابن عمر فهم من قول ولده سالم "فهجر بالصلاة" أي الظهر والعصر معا فأجاب بذلك فطابق كلام ولده. وقال الطيبي: قوله: "في السنة "هو حال من فاعل يجمعون أي متوغلين في السنة، قاله تعريضا بالحجاج. قوله: "فقلت لسالم" القائل هو ابن شهاب، وقوله: "أفعل" بهمزة استفهام، وقوله: "هل يتبعون بذلك" بتشديد المثناة وكسر الموحدة بعدها مهملة كذا للأكثر من الاتباع، وللكشميهني: "يبتغون في ذلك" بسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها غين معجمة من الابتغاء أي لا يطلبون في ذلك الفعل إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الحموي بحذف "في" وهي مقدرة.

(3/514)


90 - باب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ
1663 - حدثنا عبد الله بن مسلمة أخبرنا مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله "أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج أن يأتم بعبد الله بن عمر في الحج فلما كان يوم عرفة جاء بن عمر رضي الله عنهما وأنا معه حين زاغت الشمس أو زالت فصاح ثم فسطاطه أين هذا فخرج إليه فقال بن عمر الرواح فقال الآن قال نعم قال أنظرني أفيض علي ماء فنزل بن عمر رضي الله عنهما حتى خرج فسار بيني وبين أبي فقلت إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فقال بن عمر صدق"
قوله: "باب قصر الخطبة بعرفة" أورد فيه حديث ابن عمر الماضي قريبا وفيه قول سالم "إن كنت تريد السنة اليوم فاقصر الخطبة "وقد تقدم الكلام عليه مستوفى، وقيد المصنف قصر الخطبة بعرفة اتباعا للفظ الحديث، وقد أخرج مسلم الأمر باقتصار الخطبة في أثناء حديث لعمار أخرجه في الجمعة، قال ابن التين: أطلق أصحابنا العراقيون أن الإمام لا يخطب يوم عرفة. وقال المدنيون والمغاربة يخطب وهو قول الجمهور، ويحمل قول العراقيين على معنى أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلق بالصلاة كخطبة الجمعة، وكأنهم أخذوه من قول مالك: كل صلاة يخطب لها يجهر فيها بالقراءة، فقيل له: فعرفة يخطب فيها ولا يجهر بالقراءة فقال: إنما تلك للتعليم.

(3/514)


باب التَّعْجِيلِ إِلَى الْمَوْقِفِ
قوله: "باب التعجيل إلى الموقف" كذا للأكثر هذه الترجمة بغير حديث، وسقط من رواية أبي ذر أصلا، ووقع في نسخة الصغاني هنا ما لفظه: "يدخل في الباب حديث مالك عن ابن شهاب - يعني الذي رواه عن سالم وهو المذكور في الباب الذي قبل هذا - ولكني أريد أن أدخل فيه غير معاد" يعني حديثا لا يكون تكرر كله سندا ومتنا. قلت: وهو يقتضي أن أصل قصده أن لا يكرر، فيحمل على أن كل ما وقع فيه من تكرار الأحاديث إنما هو حيث يكون هناك مغايرة إما في السند وإما في المتن حتى أنه لو أخرج الحديث في الموضعين عن شيخين حدثاه به عن مالك لا يكون عنده معادا ولا مكررا، وكذا لو أخرجه في موضعين بسند واحد لكن اختصر من المتن شيئا، أو أورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا، وهذه الطريق لم يخالفها إلا في مواضع يسيرة مع طول الكتاب إذا بعدما بين البابين بعدا شديدا. ونقل الكرماني أنه رأى في بعض النسخ عقب هذه الترجمة "قال أبو عبد الله يعني المصنف: يزاد في هذا الباب هم حديث مالك عن ابن شهاب، ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادا" أي مكررا. قلت: كأنه لم يحضره حينئذ طريق للحديث المذكور عن مالك غير الطريقين اللتين ذكرهما، وهذا يدل على أنه لا يعيد حديثا إلا لفائدة إسنادية أو متنية كما قدمته، وأما قوله في هذه الزيادة التي نقلها الكرماني "هم" فهي بفتح الهاء وسكون الميم. قال الكرماني: قيل إنها فارسية وقيل عربية ومعناها قريب من معنى أيضا. قلت: صرح غير واحد من علماء العربية ببغداد بأنها لفظة اصطلح عليها أهل بغداد وليست بفارسية ولا هي عربية قطعا، وقد دل كلام الصغاني في نسخته التي أتقنها وحررها - وهو من أئمة اللغة - خلو كلام البخاري عن هذه اللفظة.

(3/515)


91 - باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
1664 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ "كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ مِنْ الْحُمْسِ فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا؟"
1665 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ "كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلاَّ الْحُمْسَ وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ وَكَانَتْ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قَالَ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ"
[الحديث 1665 – طرفه في: 4520]
قوله: "باب الوقوف بعرفة" أي دون غيرها فيما دونها أو فوقها.وأورد المصنف في ذلك حديثين: الأول

(3/515)


قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار. قوله: "أضللت بعيرا" كذا للأكثر في الطريق الثانية. وفي رواية الكشميهني: "لي" كما في الأولى. قوله: "فذهبت أطلبه يوم عرفة" في رواية الحميدي في مسنده ومن طريقه أخرجه أبو نعيم "أضللت بعيرا لي يوم عرفة فخرجت أطلبه بعرفة "فعلى هذا فقوله يوم عرفة يتعلق بأضللت، فإن جبيرا إنما جاء إلى عرفة ليطلب بعيره لا ليقف بها. قوله: "من الحمس" بضم المهملة وسكون الميم بعدها مهملة سيأتي تفسيره. قوله: "فما شأنه هاهنا" في رواية الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وابن أبي عمر جميعا عن سفيان "فما له خرج من الحرم" وزاد مسلم في روايته عن عمرو الناقد وأبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بعد قوله: "فما شأنه هاهنا": وكانت قريش تعد من الحمس وهذه الزيادة توهم أنها من أصل الحديث وليس كذلك بل هي من قول سفيان بينه الحميدي في مسنده عنه، ولفظه متصلا بقوله: "ما شأنه هاهنا". قال سفيان والأحمس الشديد على دينه، وكانت قريش تسمى الحمس، وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم. ووقع عند الإسماعيلي من طريقيه بعد قوله: "فما له خرج من الحرم" قال سفيان الحمس يعني قريشا، وكانت تسمى الحمس وكانت لا تجاوز الحرم ويقولون نحن أهل الله لا نخرج من الحرم وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قوله: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" انتهى. وعرف بهاتين الزيادتين معنى حديث جبير، وكأن البخاري حذفهما استغناء بالرواية عن عروة، لكن في سياق سفيان فوائد زائدة. وقد روى بعض ذلك ابن خزيمة وإسحاق بن راهويه في مسنده موصولا من طريق ابن إسحاق حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن عمه نافع بن جبير عن أبيه قال: "كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون نحن الحمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا". ولفظ يونس بن بكير عن ابن إسحاق في المغازي مختصرا وفيه: "توفيقا من الله له". وأخرجه إسحاق أيضا عن الفضل بن موسى عن عثمان بن الأسود عن عطاء أن حبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لي في الجاهلية فوجدته بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك". وأما تفسير الحمس فروى إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" من طريق ابن جريج عن مجاهد قال: الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها هن القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر، والأحمس في كلام العرب الشديد، وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحما ولا يضربون وبرا ولا شعرا، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم. وروى إبراهيم أيضا من طريق عبد العزيز بن عمران المدني قال: سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد انتهى. والأول أشهر وأكثر وأنه من التحمس وهو التشدد، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تحمس تشدد، ومنه حمس الوغي إذا اشتد، وسيأتي مزيد لذلك في الكلام على الحديث الذي بعده. وأفادت هذه الرواية أن رواية جبير له لذلك كانت قبل الهجرة، وذلك قبل أن يسلم جبير، وهو نظير روايته أنه سمعه يقرأ في المغرب بالطور وذلك قبل أن يسلم جبير أيضا كما تقدم، وتضمن ذلك التعقب على السهيلي حيث ظن أن رواية جبير لذلك كانت في الإسلام في حجة الوداع فقال: انظر كيف أنكر جبير هذا وقد حج بالناس عتاب سنة ثمان وأبو بكر سنة تسع، ثم قال: إما أن يكونا وقفا بجمع كما كانت قريش تصنع، وإما أن يكون جبير لم يشهد

(3/516)


معهما الموسم. وقال الكرماني: وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة كانت سنة عشر وكان جبير حينئذ مسلما لأنه أسلم يوم الفتح، فإن كان سؤاله عن ذلك إنكارا أو تعجبا فلعله لم يبلغه نزول قوله تعالى :{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وإن كان للاستفهام عن حكمة المخالفة عما كانت عليه الحمس فلا إشكال، ويحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة بعرفة قبل الهجرة انتهى ملخصا. وهذا الأخير هو المعتمد كما بينته قبل بدلائله، وكأنه تبع السهيلي في ظنه أنها حجة الوداع، أو وقع له اتفاقا، ودل هذا الحديث على أن المراد بقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الإفاضة من عرفة. وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة لأنها ذكرت بلفظة "ثم" بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام. وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر لما ورد منه على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون، أو التقدير فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عنده ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس. قوله: "قال عروة" في رواية عبد الرزاق عن معمر "عن هشام بن عروة عن أبيه فذكره". قوله: "والحمس قريش وما ولدت" زاد معمر "وكان ممن ولدت قريش خزاعة وبنو كنانة وبنو عامر بن صعصعة"، وقد تقدم في أثر مجاهد أن منهم أيضا غزوان وغيرهم، وذكر إبراهيم الحربي في غريبه عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة يعني وغيرهم. وعرف بهذا أن المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قريشية، لا جميع القبائل المذكورة. قوله: "فأخبرني أبي" القائل هو هشام بن عروة، والموصول من الحديث هذا القدر في سبب نزول هذه الآية وسيأتي في تفسير البقرة من وجه آخر أتم من هذا. وقوله: "فدفعوا إلى عرفات "في رواية الكشميهني: "فرفعوا" بالراء، ولمسلم من طريق أبي أسامة عن هشام "رجعوا إلى عرفات" والمعني أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها، وقد تقدم في طريق جبير سبب امتناعهم من ذلك، وتقدم الكلام على قصة الطواف عريانا في أوائل الصلاة، وعرف برواية عائشة أن المخاطب بقوله تعالى {أَفِيضُوا} النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم. وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الضحاك أن المراد بالناس هنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وعنه المراد به الإمام، وعن غيره آدم، وقرئ في الشواذ "الناسي" بكسر السين بوزن القاضي والأول أصح، نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره من طريق يزيد بن شيبان قال: "كنا وقوفا بعرفة فأتانا ابن مريع فقال: إني رسول رسول الله إليكم، يقول لكم: كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم" الحديث، ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصة ب قوله: "من حيث أفاض الناس" بل هو الأعم من ذلك، والسبب فيه ما حكته عائشة رضي الله عنها. وأما الإتيان في الآية بقوله: "ثم" فقيل هي بمعنى الواو وهذا اختيار الطحاوي، وقيل لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون، قال الزمخشري: وموقع "ثم" هنا موقعها من قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، فتأتي ثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة

(3/517)


فقال: "ثم أفيضوا" لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ، قال الخطابي: تضمن قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الأمر بالوقوف بعرفة لأن الإفاضة إنما تكون عند اجتماع قبله، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه.

(3/518)


92 - باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ
1666 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ "سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ قَالَ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ قَالَ هِشَامٌ وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فَجْوَةٌ مُتَّسَعٌ وَالْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ"
قوله: "باب السير إذا دفع من عرفة" أي صفته. قوله: "عن أبيه" في رواية ابن خزيمة من طريق سفيان عن هشام "سمعت أبي". قوله: "سئل أسامة وأنا جالس" في رواية النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك "وأنا جالس معه" وفي رواية مسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام عن أبيه "سئل أسامة وأنا شاهد وقال سألت أسامة بن زيد". قوله: "حين دفع" في رواية يحيى بن يحيى الليثي وغيره عن مالك في الموطأ "حين دفع من عرفة". قوله: "العتق" بفتح المهملة والنون هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع، قال في "المشارق": هو سير سهل في سرعة. وقال القزاز: العنق سير سريع، وقيل المشي الذي يتحرك به عنق الدابة، وفي "الفائق": العنق الخطو الفسيح. وانتصب العنق على المصدر المؤكد من لفظ الفعل. قوله: "نص" أي أسرع، قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها، وأصل النص غاية المشي ومنه نصصت الشيء رفعته، ثم استعمل في ضرب سريع من السير. قوله: "قال هشام" يعني ابن عروة الراوي، وكذا بين مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن وأبو عوانة من طريق أنس بن عياض كلاهما عن هشام أن التفسير من كلامه، وأدرجه يحيى القطان فيما أخرجه المصنف في الجهاد، وسفيان فيما أخرجه النسائي، وعبد الرحيم بن سليمان ووكيع فيما أخرجه ابن خزيمة كلهم عن هشام، وقد رواه إسحاق في مسنده عن وكيع ففصله وجعل التفسير من كلام وكيع، وقد رواه ابن خزيمة من طريق سفيان ففصله وجعل التفسير من كلام سفيان، وسفيان ووكيع إنما أخذا التفسير المذكور عن هشام فرجع التفسير إليه، وقد رواه أكثر رواة "الموطأ" عن مالك فلم يذكروا التفسير، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة ومسلم من طريق حماد بن زيد كلاهما عن هشام، قال ابن خزيمة: في هذا الحديث دليل على أن الحديث الذي رواه ابن عباس عن أسامة أنه قال: "فما رأيت ناقته رافعة يدها حني أتى جمعا "أنه محمول على حال الزحام دون غيره اهـ، وأشار بذلك إلى ما أخرجه حفص من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أسامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه حين أفاض من عرفة وقال: أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإلايجاف، قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعا" الحديث، وأخرجه أبو داود، وسيأتي للمصنف بعد باب من حديث ابن عباس ليس فيه أسامة، ويأتي الكلام عليه هناك. وأخرج مسلم من طريق عطاء عن ابن عباس عن أسامة في أثناء حديث قال: "فما

(3/518)


زال يسير على هينته حتى أتى جمعا" وهذا يشعر بأن ابن عباس إنما أخذه عن أسامة كما ستأتي الحجة لذلك. وقال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة، لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام، وفيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك. قوله: "فجوة" بفتح الفاء وسكون الجيم المكان المتسع كما سيأتي تفسيره في آخر الباب، ورواه أبو مصعب ويحيى بن بكير وغيرهما عن مالك بلفظ: "فرجة" بضم الفاء وسكون الراء وهو بمعنى الفجوة. قوله في رواية المستملي وحده "قال أبو عبد الله" هو المصنف. "فجوة: متسع والجمع فجوات" أي بفتحتين. "وفجاء" أي بكسر الفاء والمد. "وكذلك ركوة وركاء" وركوات. قوله: "مناص ليس حين فرار" أي هرب، أي تفسير قوله تعالى:{وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} وإنما ذكر هذا الحرف هنا لقوله: "نص" ولا تعلق له به إلا لدفع وهم هن يتوهم أن أحدهما مشتق من الآخر وإلا فمادة نص غير مادة ناص، قال أبو عبيدة في "المجاز": المناص مصدر من قوله ناص ينوص.

(3/519)


93 - باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ
1667 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي فَقَالَ الصَّلاَةُ أَمَامَكَ"
1668 – حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع قال: "كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يجمع بين المغرب والعشاء بجمع, غير أنه يمر بالشعب الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل فينتفض ويتوضأ ولا يصلي حتى يصلي بجمع".
1669 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ "رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْبَ الأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فَقُلْتُ: "الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصَّلاَةُ أَمَامَكَ" فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ جَمْعٍ
1670 - قَالَ كُرَيْبٌ "فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ"
قوله: "باب النزول بين عرفة وجمع" أي لقضاء الحاجة ونحوها، وليس من المناسك. قوله: "عن يحيى بن

(3/519)


سعيد" هو الأنصاري وروايته عن موسى بن عقبة من رواية الأقران لأنهما تابعيان صغيران، وقد حمله موسى عن كريب فصار في الإسناد ثلاثة من التابعين. قوله: "حيث أفاض" في رواية أبي الوقت "حين" هي أولى لأنها ظرف زمان وحيث ظرف مكان.
" نكتة ": في حيث ست لغات ضم آخرها وفتحه وكسره وبالواو بدل الياء مع الحركات.
قوله: "مال إلى الشعب" بين محمد بن أبي حرملة في روايته الآتية بعد حديث عن كريب أنه قرب المزدلفة، وأردف المصنف بهذا الحديث حديث ابن عمر أنه كان يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك في كونه يقضي الحاجة بالشعب ويتوضأ لكنه لا يصلي إلا بالمزدلفة، وقوله: "فينتفض" بفاء وضاد معجمة أي يستجمر، وقد سبق بيانه في كتاب الطهارة، وأخرجه الفاكهي من وجه آخر عن ابن عمر من طريق سعيد بن جبير قال: "دفعت مع ابن عمر من عرفة، حني إذا وازينا الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء المغرب دخله ابن عمر فتنفض فيه، ثم توضأ وكبر، فانطلق حتى جاء جمعا فأقام فصلى المغرب. فلما سلم قال: الصلاة، ثم صلى العشاء" وأصله في الجمع بجمع عند مسلم وأصحاب السنن، وروى الفاكهي أيضا من طريق ابن جريج قال: قال عطاء "أردف النبي صلى الله عليه وسلم أسامة، فلما جاء الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء الآن المغرب نزل فأهرق الماء ثم توضأ" وظاهر هذين الطريقين أن الخلفاء كانوا يصلون المغرب عند الشعب المذكور قبل دخول وقت العشاء، وهو خلاف السنة في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة. ووقع عند مسلم من طريق محمد بن عقبة عن كريب "لما أتى الشعب الذي ينزله الأمراء "وله من طريق إبراهيم بن عقبة عن كريب "الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب" والمراد بالخلفاء والأمراء في هذا الحديث بنو أمية فلم يوافقهم ابن عمر على ذلك، وقد جاء عن عكرمة إنكار ذلك، وروى الفاكهي أيضا من طريق ابن أبي نجيح سمعت عكرمة يقول: اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالا واتخذتموه مصلى، وكأنه أنكر بذلك على من ترك الجمع بين الصلاتين لمخالفته السنة في ذلك، وكان جابر يقول: لا صلاة إلا بجمع، أخرجه ابن المنذر بإسناد صحيح، ونقل عن الكوفيين، وعند ابن القاسم صاحب مالك وجوب الإعادة، وعن أحمد إن صلى أجزأه وهو قول أبي يوسف والجمهور. قوله: "عن محمد بن أبي حرملة" هو المدني مولى آل حويطب ولا يعرف اسم أبيه، وكان خصيف يروي عنه فيقول: "حدثني محمد بن حويطب" فذكر ابن حبان أن خصيفا كان ينسبه إلى جد مواليه، والإسناد من شيخ قتيبة إلخ كلهم مدنيون. قوله: "ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم" بكسر الدال أي ركبت وراءه، وفيه الركوب حال الدفع من عرفة والارتداف على الدابة، ومحله إذا كانت مطيقة، وارتداف أهل الفضل، ويعد ذلك من إكرامهم للرديف لا من سوء أدبه. قوله: "فصببت عليه الوضوء" بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به، ويؤخذ منه الاستعانة في الوضوء، وللفقهاء فيها تفصيل لأنها إما أن تكون في إحضار الماء مثلا أو في صبه على المتوضئ أو مباشرة غسل أعضائه، فالأول جائز والثالث مكروه إلا إن كان لعذر، واختلف في الثاني والأصح أنه لا يكره بل هو خلاف الأولى، فأما وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فهو إما لبيان الجواز وهو حينئذ أفضل في حقه أو للضرورة. قوله: "وضوءا خفيفا" أي خففه بأن توضأ مرة مرة وخفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته، وهو معنى قوله في رواية مالك الآتية بعد باب بلفظ: "فلم يسبغ الوضوء" وأغرب ابن عبد البر فقال: معنى قوله: "فلم يسبغ الوضوء" أي استنجى به، وأطلق عليه اسم الوضوء اللغوي لأنه من الوضاءة وهي النظافة ومعني الإسباغ الإكمال أي لم يكمل وضوءه فيتوضأ للصلاة، قال: وقد قيل إنه نوضأ وضوءا خفيفا، ولكن الأصول تدفع هذا لأنه لا يشرع الوضوء لصلاة واحدة مرتين،

(3/520)


وليس ذلك في رواية مالك. ثم قال: وقد قيل إن معنى قوله: "لم يسبغ الوضوء" أي لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء بل اقتصر على بعضها، واستضعفه اهـ. وحكى ابن بطال أن عيسى بن دينار من قدماء أصحابهم سبق ابن عبد البر إلى ما اختاره أو لا، وهو متعقب بهذه الرواية الصريحة، وقد تابع محمد بن أبي حرملة عليها محمد بن عقبة أخو موسى أخرجه مسلم بمثل لفظه، وتابعهما إبراهيم بن عقبة أخو موسى أيضا أخرجه مسلم أيضا بلفظ: "فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ"، وقد تقدم في الطهارة من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن موسى بن عقبة بلفظ: "فجعلت أصب عليه ويتوضأ"، ولم تكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يباشر ذلك أحد منه حال الاستنجاء، ويوضحه ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عطاء مولى ابن سباع عن أسامة في هذه القصة قال فيها أيضا: "ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإداوة" قال القرطبي: اختلف الشراح في قوله: "ولم يسبغ الوضوء" هل المراد به اقتصر به على بعض الأعضاء فيكون وضوءا لغويا، أو اقتصر على بعض العدد فيكون وضوءا شرعيا؟ قال: وكلاهما محتمل، لكن يعضد من قال بالثاني قوله في الرواية الأخرى "وضوءا خفيفا "لأنه يقال في الناقص خفيف، ومن موضحات ذلك أيضا قول أسامة له "الصلاة" فإنه يدل على أنه رآه يتوضأ وضوءه للصلاة ولذلك قال له أتصلي، كذا قال ابن بطال وفيه نظر لأنه لا مانع أن يقول له ذلك لاحتمال أن يكون مراده أتريد الصلاة فلم لم تتوضأ وضوءها؟ وجوابه بأن الصلاة أمامك معناه أن المغرب لا تصلي هنا فلا تحتاج إلى وضوء الصلاة، وكأن أسامة طن أنه صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب ورأى وقتها قد كاد أن يخرج أو خرج، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنها في تلك الليلة يشرع تأخيرها لتجمع مع العشاء بالمزدلفة، ولم يكن أسامة يعرف تلك السنة قبل ذلك وأما اعتلال ابن عبد البر بأن الوضوء لا يشرع مرتين لصلاة واحدة فليس بلازم لاحتمال أنه توضأ ثانيا عن حدث طارئ، وليس الشرط بأنه لا يشرع تجديد الوضوء إلا لمن أدى به صلاة فرضا أو نفلا متفق عليه، بل ذهب جماعة إلى جوازه وإن كان الأصح خلافه، وإنما توضأ أولا ليستديم الطهارة ولا سيما في تلك الحالة لكثرة الاحتياج إلى ذكر الله حينئذ، وخفف الوضوء لقلة الماء حينئذ، وقد تقدم شيء من هذا في أوائل الطهارة. وقال الخطابي: إنما ترك إسباغه حين نزل الشعب ليكون مستصحبا للطهارة في طريقه، وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلي به، فلما نزل وأرادها أسبغه. وقول أسامة "الصلاة" بالنصب على إضمار الفعل، أي تذكر الصلاة أو صل، ويجوز الرفع على تقدير حضرت الصلاة مثلا. قوله: "الصلاة أمامك" بالرفع وأمامك بفتح الهمزة بالنصب على الظرفية أي الصلاة ستصلى بين يديك، أو أطلق الصلاة على مكانها أي المصلى بين يديك، أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها، وفيه تذكير التابع بما تركه متبوعه ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له وجه صوابه. قوله: "حتى أتى المزدلفة فصلى" أي لم يبدأ بشيء قبل الصلاة، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم: "ثم سار حتى بلغ جمعا فصلى المغرب والعشاء"، وقد بينه في رواية مالك بعد باب بلفظ: "حتى جاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما" وبين مسلم من وجه آخر عن إبراهيم بن عقبة عن كريب أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين على الإناخة ولفظه: "فأقام المغرب، ثم أناخ الناس، ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلوا ثم حلوا" وكأنهم صنعوا ذلك رفقا بالدواب أو للأمن من تشويشهم بها، وفيه إشعار بأنه خفف القراءة في الصلاتين، وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع، وسيأتي البحث في ذلك بعد ثلاثة أبواب. وقوله في رواية

(3/521)


مالك "ولم يصل بينهما" أي لم يتنفل، وسيأتي حديث ابن عمر في ذلك بعد بابين. قوله: "ثم ردف الفضل" أي ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم: "قال كريب فقلت لأسامة: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال ردفه الفضل بن العباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي" يعني إلى منى. وسيأتي الكلام على التلبية بعد سبعة أبواب، واستدل بالحديث على جمع التأخير وهو إجماع بمزدلفة، لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر وعند الحنفية والمالكية بسبب النسك، وأغرب الخطابي فقال: فيه دليل على أنه لا يجوز أن يصلي الحاج المغرب إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ المزدلفة، ولو أجزأته في غيرها لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام.

(3/522)


94 - باب أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِفَاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ
1671 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ زَجْراً شَدِيداً وَضَرْبًا وَصَوْتاً لِلإِبِلِ فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ "
أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا خِلاَلَكُمْ مِنْ التَّخَلُّلِ: بَيْنَكُمْ {وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا} : بَيْنَهُمَا"
قوله: "باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة" أي من عرفة. قوله: "حدثنا إبراهيم بن سويد" هو المدني وهو ثقة لكن قال ابن حبان: في حديثه مناكير انتهى. وهذا الحديث قد تابعه عليه سليمان بن بلال عند الإسماعيلي، والراوي عنه إبراهيم بن سويد مدني أيضا واسم جده حبان، ووهم الأصيلي فسماه مولى حكاه الجياني وخطؤوه فيه. قوله: "مولى المطلب" أي ابن عبد الله بن حنطب. قوله: "مولى والبة" بكسر اللام بعدها موحدة خفيفة بطن من بني أسد. قوله: "أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة" أي من عرفة. قوله: "زجرا" بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي صياحا لحث الإبل. قوله: "وضربا" زاد في رواية كريمة: "وصوتا" وكأنها تصحيف من قوله وضربا فظنت معطوفة. قوله: " عليكم بالسكينة " أي في السير، والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة. قوله: "فإن البر ليس بالإيضاع" أي السير السريع، ويقال هو سير مثل الخبب فبين صلى الله عليه وسلم أن تكلف الإسراع في السير ليس البر أي مما يتقرب به، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لما خطب بعرفة "ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له" وقال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة. قوله: "أوضعوا أسرعوا" هو من كلام المصنف، وهو قول أبي عبيدة في المجاز. قوله: "خلالكم من التخلل بينكم" هو أيضا من قول أبي عبيدة ولفظه: "ولأوضعوا أي لأسرعوا، خلالكم أي بينكم وأصله من التخلل" وقال غيره المعنى وليسعوا بينكم بالنميمة يقال أوضع البعير أسرعه وخص الراكب لأنه أسرع من الماشي، وقوله: "وفجرنا خلالهما: بينهما" هو قول أبي عبيدة أيضا ولفظه: "وفجرنا خلالهما أي وسطهما وبينهما" وإنما ذكر البخاري هذا التفسير لمناسبة أوضعوا للفظ الإيضاع، ولما كان متعلق أوضعوا الخلال ذكر تفسيره تكثيرا للفائدة.

(3/522)


95 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ
1672 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سمعه يقول "دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة فقال الصلاة أمامك فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما"
قوله: "باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة" أي المغرب والعشاء، ذكر فيه حديث أسامة وقد تقدم الكلام عليه مستوفى قبل باب. قوله: "عن كريب عن أسامة" قال ابن عبد البر رواه أصحاب مالك عنه هكذا, إلا أشهب وابن الماجشون فإنهما أدخلا بين كريب وأسامة عبد الله بن عباس أخرجه النسائي.

(3/523)


96 - باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ
1673 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلاَ عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا"
1674 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ"
[الحديث 1674 – طرفه في:4414
قوله: "باب من جمع بينهما" أي بين الصلاتين المذكورتين. قوله: "ولم يتطوع" أي لم يتنفل بينهما.
قوله: "جمع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء" كذا لأبي ذر، ولغيره: "بين المغرب والعشاء". قوله: "بجمع" بفتح الجيم وسكون الميم أي المزدلفة، وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها، وروي عن قتادة أنها سميت جمعا لأنها يجمع فيها بين الصلاتين، وقيل وصفت بفعل أهلها لأنهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله أي يتقربون إليه بالوقوف فيها، وسميت المزدلفة إما لاجتماع الناس بها أو لاقترابهم إلى منى أو لازدلاف الناس منها جميعا أو للنزول بها في كل زلفة من الليل أو لأنها منزلة وقربة إلى الله أو لازدلاف آدم إلى حواء بها. قوله: "بإقامة" لم يذكر الأذان، وسيأتي البحث فيه بعد باب. قوله: "ولم يسبح بينهما" أي لم يتنفل، و قوله: "ولا على إثر كل واحدة منهما" أي عقبها، ويستفاد منه أنه ترك التنفل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما، بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل، ومن ثم قال الفقهاء تؤخر سنة العشاءين عنهما، ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين

(3/523)


بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما انتهى. ويعكر على نقل الاتفاق فعل ابن مسعود الآتي في الباب الذي بعده. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري وفي روايته عن عدي بن ثابت رواية تابعي عن تابعي. وفي رواية عبد الله بن يزيد شيخ عدي فيه رواية صحابي عن صحابي، والإسناد كله دائر بين مدني وكوفي، وزاد مسلم من رواية الليث عن يحيى عن عدي عن عبد الله بن يزيد "وكان أميرا على الكوفة على عهد ابن الزبير". قوله: "بالمزدلفة" مبين لقوله في رواية مالك عن يحيى بن سعيد التي أخرجها المصنف في المغازي بلفظ: "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء جميعا" وللطبراني من طريق جابر الجعفي عن عدي بهذا الإسناد "صلى بجمع المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة" وفيه رد على قول ابن حزم: أن حديث أبي أيوب ليس فيه ذكر أذان ولا إقامة، لأن جابرا وإن كان ضعيفا فقد تابعه محمد بن أبي ليلى عن عدي على ذكر الإقامة فيه عند الطبراني أيضا فيقوى كل واحد منهما بالآخر.

(3/524)


97- باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
1675 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ "حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَمَرَ - أُرَى رجلاً- فَأَذَّنَ وَأَقَامَ قَالَ عَمْرٌو لاَ أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلاَّ مِنْ زُهَيْرٍ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُمَا صَلاَتَانِ تُحَوَّلاَنِ عَنْ وَقْتِهِمَا صَلاَةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ"
[الحديث 1675 – طرفاه في: 1682, 1683
قوله: "باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما" أي من المغرب والعشاء بالمزدلفة. قوله: "زهير" هو الجعفي، وأبو إسحاق هو السبيعي، وشيخه هو النخعي، وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "حج عبد الله" في رواية أحمد عن حسن بن موسى، وللنسائي من طريق حسين بن عياش كلاهما عن زهير بالإسناد "حج عبد الله بن مسعود فأمرني علقمة أن ألزمه فلزمته فكنت معه" وفي رواية إسرائيل الآتية بعد باب "خرجت مع عبد الله إلى مكة ثم قدمنا جمعا". قوله: "حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك" أي من مغيب الشفق.قوله: "فأمر رجلا" لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو عبد الرحمن بن يزيد فإن في رواية حسن وحسين المذكورتين "فكنت معه فأتينا المزدلفة، فلما كان حين طلع الفجر قال قم، فقلت له إن هذه الساعة ما رأيتك صليت فيها".
قوله: "ثم أمر أرى رجلا فأذن وأقام، قال عمرو ولا أعلم الشك إلا من زهير" أرى بضم الهمزة أي أظن، وقد بين عمرو وهو ابن خالد شيخ البخاري فيه أنه من شيخه زهير، وأخرجه الإسماعيلي من طريق الحسن بن موسى عن زهير مثل ما رواه عنه عمرو ولم يقل ما قال عمرو، وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عمرو عن زهير وقال فيه: "ثم أمر قال زهير أرى فأذن وأقام" وسيأتي بعد باب رواية إسرائيل عن أبي إسحاق بأصرح مما قال زهير ولفظه: "ثم قدمنا جمعا

(3/524)


فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما" والعشاء بفتح العين ورواه ابن خزيمة وأحمد من طريق ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق بلفظ: "فأذن وأقام ثم صلى المغرب ثم تعشى ثم قام فأذن وأقام وصلى العشاء ثم بات بجمع، حتى إذا طلع الفجر فأذن وأقام" ولأحمد من طريق جرير بن حازم عن أبي إسحاق "فصلى بنا المغرب، ثم دعا بعشاء فتعشى ثم قام فصلى العشاء ثم رقد" ووقع عند الإسماعيلي من رواية شبابة عن ابن أبي ذئب في هذا الحديث: "ولم يتطوع قبل كل واحدة منهما ولا بعدها" ولأحمد من رواية زهير "فقلت له إن هذه لساعة ما رأيتك صليت فيها". قوله: "فلما طلع الفجر" في رواية المستملي والكشميهني: "فلما حين طلع الفجر "وفي رواية الحسين بن عياش عن زهير "فلما كان حين طلع الفجر". قوله: "قال عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "عن وقتهما" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "عن وقتها" بالأفراد، وسيأتي في رواية إسرائيل بعد باب رفع هذه الجملة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "حين يبزغ" بزاي مضمومة وغين معجمة أي يطلع، وفي هذا الحديث مشروعية الأذان والإقامة لكل من الصلاتين إذا جمع بينهما، قال ابن حزم: لم نجده مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عنه لقلت به. ثم أخرج من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: قال أبو إسحاق فذكرته لأبي جعفر محمد بن علي فقال: أما نحن أهل البيت فهكذا نصنع، قال ابن حزم: وقد روي عن عمر من فعله، قلت أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم، ولا يخفى تكلفه، ولو تأتي له ذلك في حق عمر -لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجهم- لم يتأت له في حق ابن مسعود لأنه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذن لهم، وقد أخذ بظاهره مالك، وهو اختيار البخاري. وروى ابن عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفا ومع كونه لم يروه ويترك ما روي عن أهل المدينة وهو مرفوع، قال ابن عبد البر: وأعجب أنا من الكوفيين حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة وتركوا ما رووا في ذلك عن ابن مسعود مع أنهم لا يعدلون به أحدا. قلت: الجواب عن ذلك أن مالكا اعتمد على صنيع عمر في ذلك وإن كان لم يروه في "الموطأ" واختار الطحاوي ما جاء عن جابر يعني في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم أنه جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وهذا قول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد وبه قال ابن الماجشون وابن حزم وقواه الطحاوي بالقياس على الجمع بين الظهر والعصر بعرفة. وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو رواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط، وهو ظاهر حديث أسامة الماضي قربيا حيث قال: "فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلوا حتى أقام العشاء" وقد جاء عن ابن عمر كل واحد من هذه الصفات أخرجه الطحاوي وغيره، وكأنه كان يراه من الأمر الذي يتخير فيه الإنسان، وهو المشهور عن أحمد، واستدل بحديث ابن مسعود على جواز التنفل بين الصلاتين إن أراد الجمع بينهما لكون ابن مسعود تعشى بين الصلاتين، ولا حجة فيه لأنه لم يرفعه، ويحتمل أن لا يكون قصد الجمع، وظاهر صنيعه يدل على ذلك لقوله إن المغرب تحول عن وقتها فرأى أنه وقت هذه المغرب خاصة، ويحتمل أن يكون قصد الجمع وكان يرى أن العمل بين الصلاتين لا يقطعه إذا كان ناويا للجمع، ويحتمل قوله: "تحول عن وقتها" أي المعتاد، وأما إطلاقه على صلاة الصبح أنها تحول عن وقتها فليس معناه أنه أوقع الفجر قبل طلوعها، وإنما أراد أنها وقعت قبل الوقت المعتاد فعلها فيه في الحضر، ولا حجة فيه لمن منع التغليس بصلاة الصبح لأنه ثبت

(3/525)


عن عائشة وغيرها كما تقدم في المواقيت التغليس بها، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه، وهو بين في رواية إسرائيل الآتية حيث قال: "ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول طلع الفجر وقائل يقول لم يطلع" واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وجمع لقول ابن مسعود "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين" وأجاب المجوزون بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر وأنس وابن عباس وغيرهم وتقدم في موضعه بما فيه كفاية، وأيضا فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم وهم لا يقولون به، وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق، وأيضا فالحصر فيه ليس على ظاهره لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة.

(3/526)


98 - باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ
1676 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ "وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاَةِ الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
1677 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ"
[الحديث 1677 – طرفه في: 1678, 1856]
1678 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ"
1679 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لاَ فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظُّعُنِ"
1680 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا"
[الحديث 1680 – طرفه في: 1681]

(3/526)


1681 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَأَذِنَ لَهَا فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلاَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ"
قوله: "باب من قدم ضعفة أهله" أي من نساء وغيرهم. قوله: "بليل" أي من منزله بجمع. قوله: "فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم" ضبطه الكرماني بفتح القاف وكسر الدال قال: وحذف الفاعل للعلم به وهو من ذكر أولا، وبفتح الدال على البناء للمجهول. وقوله: "إذا غاب القمر" بيان للمراد من قوله في أول الترجمة "بليل"، ومغيب القمر تلك الليلة يقع عند أوائل الثلث الأخير، ومن ثم قيده الشافعي ومن تبعه بالنصف الثاني. قال صاحب "المغني": لا نعلم خلافا في جواز تقديم الضعفة بليل من جمع إلى منى.ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: الأول حديث ابن عمر. قوله: "قال سالم" في رواية ابن وهب عند مسلم عن يونس عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره. قوله: "المشعر" بفتح الميم والعين، وحكى الجوهري كسر الميم وقيل إنه لغة أكثر العرب. وقال ابن قرقول: كسر الميم لغة لا رواية. وقال ابن قتيبة: لم يقرأ بها في الشواذ، وقيل بل قرئ حكاه الهذلي. وسمي المشعر لأنه معلم للعبادة، والحرام لأنه من الحرم أو لحرمته. وقوله: "ما بدا لهم" بغير همز أي ظهر لهم، وأشعر ذلك بأنه لا توقيف لهم فيه.
قوله: "ثم يرجعون" في رواية مسلم: "ثم يدفعون "وهو أوضح، ومعنى الأول أنهم يرجعون عن الوقوف إلى الدفع ثم يقدمون منى على ما فصل في الخبر، وقوله: "لصلاة الفجر" أي عند صلاة الفجر. قوله: "وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع فيه أرخص، وفي بعض الروايات رخص بالتشديد وهو أظهر من حيث المعنى لأنه من الترخيص لا من الرخص، واحتج به ابن المنذر لقول من أوجب المبيت بمزدلفة على غير الضعفة لأن حكم من لم يرخص له ليس كحكم من رخص له، قال: ومن زعم أنهما سواء لزمه أن يجيز المبيت على منى لسائر الناس لكونه صلى الله عليه وسلم أرخص لأصحاب السقاية وللرعاء أن لا يبيتوا بمنى، قال: فإن قال لا تعدوا بالرخص مواضعها فليستعمل ذلك هنا، ولا يأذن لأحد أن يتقدم من جمع إلا لمن رخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقال علقمة والنخعي والشعبي: من ترك المبيت بمزدلفة فاته الحج. وقال عطاء والزهري وقتادة والشافعي والكوفيون وإسحاق: عليه دم، قالوا: ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف. وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع، وفي حديث ابن عمر دلالة على جواز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس لقوله: "أن من يقدم عند صلاة الفجر إذا قدم رمى الجمرة" وسيأتي ذلك صريحا من صنيع أسماء بنت أبي بكر في الحديث الثالث من هذا الباب، ويأتي الكلام عليه فيه إن شاء الله تعالى. حديث ابن عباس، وفائدته تعيين من أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهله في ذلك، وأورده من وجهين في الثاني منهما أنه ليس البعث المذكور خاصا له لأن اللفظ الأول وهو قول "بعثني" قد يوهم اختصاصه بذلك وفي الثاني "أنا ممن قدم" فأفهم أنه لم يختص، وقوله في الثاني "في ضعفة أهله" قد أخرجه المصنف في "باب حج الصبيان" من طريق حماد عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ: "في الثقل" زاد مسلم من هذا الوجه "وقال في الضعفة"، ولسفيان فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس مثله، وقد أخرج طريق عطاء هذه مطولة الطحاوي من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير عن عطاء [قال أخبرني] ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس" قال فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف، ولأبي داود من طريق حبيب عن عطاء عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس" ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي الزبير عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة". حديث ابن عباس، وفائدته تعيين من أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهله في ذلك، وأورده من وجهين في الثاني منهما أنه ليس البعث المذكور خاصا له لأن اللفظ الأول وهو قول "بعثني" قد يوهم اختصاصه بذلك وفي الثاني "أنا ممن قدم" فأفهم أنه لم يختص، وقوله في الثاني "في ضعفة أهله" قد أخرجه المصنف في "باب حج الصبيان" من طريق حماد عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ: "في الثقل" زاد مسلم من هذا الوجه "وقال في الضعفة"، ولسفيان

(3/527)


فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس مثله، وقد أخرج طريق عطاء هذه مطولة الطحاوي من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير1 عن عطاء [قال أخبرني2] ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس" قال فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف، ولأبي داود من طريق حبيب عن عطاء عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس" ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي الزبير عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة". قوله: "حدثني عبد الله مولى أسماء" هو ابن كيسان المدني يكنى أبا عمر، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سيأتي في أبواب العمرة، وقد صرح ابن جريج بتحديث عبد الله له هكذا في رواية مسدد هذه عن يحيى، وكذا رواه مسلم عن محمد بن أبي بكر المقدمي وابن خزيمة عن بندار، وكذا أخرجه أحمد في مسنده كلهم عن يحيى، وأخرجه مسلم من طريق عيسى بن يونس، وأخرجه الإسماعيلي من طريق داود العطار، والطبراني من طريق ابن عيينة، والطحاوي من طريق سعيد بن سالم، وأبو نعيم من طريق محمد بن بكير كلهم عن ابن جريج، وأخرجه أبو داود عن محمد بن خلاد عن يحيى القطان عن ابن جريج عن عطاء أخبرني مخبر عن أسماء، وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء أن مولى أسماء أخبره، وكذا أخرجه الطبراني من طريق أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد، فالظاهر أن ابن جريج سمعه من عطاء ثم لقي عبد الله فأخذه عنه، ويحتمل أن يكون مولى أسماء شيخ عطاء غير عبد الله. قوله: "قالت فارتحلوا" في رواية مسلم: "قالت ارتحل بي". قوله: "فمضينا حتى رمت الجمرة" في رواية ابن عيينة "فمضينا بها". قوله: "يا هنتاه" أي يا هذه، وقد سبق ضبطه في "باب الحج أشهر معلومات". قوله: "ما أرانا" بضم الهمزة أي أظن. وفي رواية مسلم بالجزم "فقلت لها لقد غلسنا" وفي رواية مالك "لقد جئنا منى بغلس" وفي رواية داود العطار "لقد ارتحلنا بليل" وفي رواية أبي داود "فقلت أنا رمينا الجمرة بليل وغلسنا" أي جئنا بغلس. قوله: "أذن للظعن" بضم الظاء المعجمة جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة مطلقا. وفي رواية أبي داود المذكورة "إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية مالك "لقد كنا نفعل ذلك مع من هو خير منك" تعني النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بهذا الحديث على جواز الرمي قبل طلوع الشمس عند من خص التعجيل بالضعفة وعند من لم يخصص، وخالف في ذلك الحنفية فقالوا: لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها، وبهذا قال أحمد وإسحاق والجمهور، وزاد إسحاق "ولا يرميها قبل طلوع الشمس "وبه قال النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور، ورأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاوس والشعبي والشافعي، واحتج الجمهور بحديث ابن عمر الماضي قبل هذا، واحتج إسحاق بحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغلمان بني عبد المطلب: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن العرني -وهو بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون- عن ابن عباس، وأخرجه الترمذي والطحاوي من طرق عن الحكم عن مقسم عنه، وأخرجه أبو داود من طريق حبيب عن عطاء، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان. وإذا كان من رخص له منع أن
ـــــــ
1 في المطبوعات السابقة "الصفراء", والتصحيح من التقريب وتهذيب التهذيب.
2 عن الطحاوي

(3/528)


يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى. واحتج الشافعي بحديث أسماء هذا. ويجمع بينه وبين حديث ابن عباس بحمل الأمر في حديث ابن عباس علي الندب، ويؤيده ما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى ابن عباس عنه قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر" وقال ابن المنذر. السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر لأن فاعله مخالف للسنة، ومن رمى حينئذ فلا إعادة عليه إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه. واستدل به أيضا على إسقاط الوقوف بالمشعر الحرام عن الضعفة، ولا دلالة فيه لأن رواية أسماء ساكتة عن الوقوف، وقد بينته رواية ابن عمر التي قبلها. وقد اختلف السلف في هذه المسألة فكان بعضهم يقول: ومن مر بمزدلفة فلم ينزل بها فعليه دم، ومن نزل بها ثم دفع منها في أي وقت كان من الليل فلا دم عليه ولو لم يقف مع الإمام. وقال مجاهد وقتادة والزهري والثوري: من لم يقف بها فقد ضيع نسكا وعليه دم، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي عن عطاء، وبه قال الأوزاعي لا دم عليه مطلقا، وإنما هو منزل من شاء نزل به ومن شاء لم ينزل به. وروى الطبري بسند فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: "إنما جمع منزل لدلج المسلمين" وذهب ابن بنت الشافعي وابن خزيمة إلى أن الوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، ونقله ابن المنذر عن علقمة والنخعي، والعجب أنهم قالوا من لم يقف بها فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة، واحتج الطحاوي بأن الله لم يذكر الوقوف وإنما قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وقد أجمعوا على أن من وقف بها بغير ذكر أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضا. قال: وما احتجوا به من حديث عروة بن مضرس -وهو بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها مهملة- رفعه قال: "من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه" لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام انتهى. وحديث عروة أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم ولفظ أبي داود عنه "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف -يعني يجمع- قلت جئت يا رسول الله من جبل طيء فأكلت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وللنسائي: "من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك" ولأبي يعلى "ومن لم يدرك جمعا فلا حج له" وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءا في إنكار هذه الزيادة وبين أنها من رواية مطرف عن الشعبي عن عروة وأن مطرفا كان يهم في المتون، وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم أنه من لم يصل صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام أن الحج يفوته التزاما لما ألزمه به الطحاوي، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي، وعند الحنفية يجب بترك الوقوف بها دم لمن ليس به عذر، ومن جملة الأعذار عندهم الزحام. قوله: "عن القاسم" هو ابن محمد بن أبي بكر والد عبد الرحمن الراوي عنه. قوله: "استأذنت سودة" أي بنت زمعة أم المؤمنين. وله: "ثقيلة" أي من عظم جسمها. قوله: "ثبطة" بفتح المثلثة وكسر الموحدة بعدها مهملة خفيفة أي بطيئة الحركة كأنها تثبط بالأرض أي تشبث بها، ولم يذكر محمد بن كثير شيخ البخاري فيه عن سفيان وهو الثوري ما استأذنته سودة فيه، فلذلك عقبه بطريق أفلح

(3/529)


عن القاسم المبينة لذلك، وقد أخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن الثوري فبين ذلك ولفظه: "أن سودة بنت زمعة كانت امرأة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدفع من جمع قبل دفعة الناس فأذن لها"، ولأبي عوانة من طريق قبيصة عن الثوري "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة ليلة جمع"، وأخرجه مسلم من طريق وكيع فلم يسق لفظه، ومن طريق عبد الله بن عمر العمري عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ: "وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس" فذكر بقية الحديث مثل سياق محمد بن كثير، وله نحوه من طريق أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم وفيه من الزيادة "وكانت عائشة لا تفيض إلا مع الإمام". قوله: "حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم" في رواية الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن أفلح "أخبرنا القاسم" وله من طريق أبي بكر الحنفي عن أفلح "سمعت القاسم". قوله: "أن تدفع قبل حطمة الناس" في رواية مسلم عن القعنبي عن أفلح "أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس" والحطمة بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين الزحمة. قوله: "فلأن أكون" بفتح اللام فهو مبتدأ وخبره "أحب" وقولها "مفروح" أي ما يفرح به من كل شيء.
" تنبيه ": وقع عند مسلم عن القعنبي عن أفلح بن حميد ما يشعر بأن تفسير الثبطة بالثقيلة من القاسم راوي الخبر ولفظه: "وكانت امرأة ثبطة، يقول القاسم: والثبطة الثقيلة" ولأبي عوانة من طريق ابن أبي فديك عن أفلح بعد أن ساق الحديث بلفظ: "وكانت امرأة ثبطة قال: الثبطة الثقيلة" وله من طريق أبي عامر العقدي عن أفلح "وكانت امرأة ثبطة، يعني ثقيلة" فعلى هذا فقوله في رواية محمد بن كثير عند المصنف وكانت امرأة ثقيلة ثبطة من الأدراج الواقع قبل ما أدرج عليه وأمثلته قليلة جدا، وسببه أن الراوي أدرج التفسير بعد الأصل فظن الراوي الآخر أن اللفظين ثابتان في أصل المتن فقدم وأخر. والله أعلم.

(3/530)


99 - باب مَتَى يُصَلِّي الْفَجْرَ بِجَمْعٍ
1682 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا"
1683 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلاَتَيْنِ كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَائِلٌ يَقُولُ طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلاَةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ ثُمَّ قَالَ لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ"

(3/530)


قوله: "باب متى يصلي الفجر بجمع" ذكر فيه حديث ابن مسعود مختصرا ومطولا. قوله: "حدثني عمارة" هو ابن عمير، وعبد الرحمن هو ابن يزيد النخعي، والإسناد كله كوفيون. قوله: "لغير ميقاتها" في رواية غير أبي ذر "بغير" بالموحدة بدل اللام، والمراد في غير وقتها المعتاد كما بيناه في الكلام عليه قبل باب. قوله: "خرجت" في رواية غير أبي ذر "خرجنا". قوله: "والعشاء بينهما" بفتح المهملة لا بكسرها أي الأكل، وقد تقدم إيضاحه. قوله: "فلا يقدم" بفتح الدال. قوله: "حتى يعتموا" أي يدخلوا في العتمة وهو وقت العشاء الآخرة كما تقدم بيانه في المواقيت. قوله: "لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن" يعني عثمان كما بين في آخر الكلام، وقوله: "فما أدري" هو كلام عبد الرحمن بن يزيد الراوي عن ابن مسعود، وأخطأ من قال أنه كلام ابن مسعود، والمراد أن السنة الدفع من المشعر الحرام عند الإسفار قبل طلوع الشمس، خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية كما في حديث عمر الذي بعده.
" فائدة ": وقع في رواية جرير بن حازم عن أبي إسحاق عند أحمد من الزيادة في هذا الحديث أن نظير هذا القول صدر من ابن مسعود عند الدفع من عرفة أيضا ولفظه: "لما وقفنا بعرفة غابت الشمس فقال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب، قال: فما أدري أكلام ابن مسعود أسرع أو إفاضة عثمان، قال: فأوضع الناس. ولم يزد ابن مسعود على العنق حتى أتى جمعا" وله من طريق زكريا عن أبي إسحاق في هذا الحديث: "أفاض ابن مسعود من عرفة على هينته لا يضرب بعيره حتى أتى جمعا" وقال سعيد بن منصور "حدثنا سفيان وأبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد أن ابن مسعود أوضع بعيره في وادي محسر" وهذه الزيادة مرفوعة في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم. قوله: "فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة" سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.

(3/531)


100 - باب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ
1684 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ "شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ"
[الحديث 1684 – طرفه في: 3838]
قوله: "باب متى يدفع من جمع" أي بعد الوقوف بالمشعر الحرام. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي. قوله: "لا يفيضون" زاد يحيى القطان عن شعبة "من جمع" أخرجه الإسماعيلي، وكذا هو للمصنف في أيام الجاهلية من رواية سفيان الثوري عن أبي إسحاق، وزاد الطبراني من رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان "حتى يروا الشمس على ثبير". قوله: "ويقولون: أشرق ثبير" أشرق بفتح أوله فعل أمر من الإشراق أي أدخل في الشروق. وقال ابن التين: وضبطه بعضهم بكسر الهمزة كأنه ثلاثي من شرق وليس ببين، والمشهور أن المعنى لتطلع عليك الشمس وقيل: معناه أضئ يا جبل، وليس ببين أيضا. وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة جبل معروف هناك، وهو على يسار الذاهب إلى منى، وهو أعظم جبال مكة، عرف برجل من هذيل اسمه ثبير دفن فيه. زاد أبو الوليد عن شعبة "كيما نغير" أخرجه الإسماعيلي، ومثله لابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق، وللطبري من طريق

(3/531)


إسرائيل عن أبي إسحاق "أشرق ثبير لعلنا نغير" قال الطبري: معناه كيما ندفع للنحر، وهو من قتلهم أغار الفرس إذا أسرع في عدوه، قال ابن التين: وضبطه بعضهم بسكون الراء في ثبير وفي نغير لإرادة السجع. قوله: "ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس" الإفاضة الدفعة قاله الأصمعي، ومنه أفاض القوم في الحديث إذا دفعوا فيه، ويحتمل أن يكون فاعل أفاض عمر فيكون انتهاء حديثه ما قبل هذا، ويحتمل أن يكون فاعل أفاض النبي صلى الله عليه وسلم لعطفه على قوله خالفهم، وهذا هو المعتمد. وقد وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عند الترمذي "فأفاض" وفي رواية الثوري "فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض" وللطبري من طريق زكريا عن أبي إسحاق بسنده "كان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس" وله من رواية إسرائيل "فدفع لقدر صلاة القوم المسفرين لصلاة الغداة" وأوضح من ذلك ما وقع في حديث جابر الطويل عند مسلم: "ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله تعالى وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس" وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك وصنيع عثمان بما يوافقه، وروى ابن المنذر من طريق الثوري عن أبي إسحاق "سألت عبد الرحمن بن يزيد: متى دفع عبد الله من جمع؟ قال: كانصراف القوم المسفرين من صلاة الغداة" وروى الطبري من حديث علي قال: "لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف. حتى إذا أسفر دفع" وأصله في الترمذي دون قوله: "حتى إذا أسفر "ولابن خزيمة والطبري من طريق عكرمة عن ابن عباس "كان أهل الجاهلية يقفون بالمزدلفة، حتى إذا طلعت الشمس فكانت على رءوس الجبال كأنها العمائم على رءوس الرجال دفعوا، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسفر كل شيء قبل أن تطلع الشمس" وللبيهقي من حديث المسور بن مخرمة نحوه، وفي هذا الحديث فضل الدفع من الموقف بالمزدلفة عند الأسفار، وقد تقدم بيان الاختلاف فيمن دفع قبل الفجر. ونقل الطبري الإجماع على أن من لم يقف فيه حتى طلعت الشمس فاته الوقوف قال ابن المنذر: وكان الشافعي وجمهور أهل العلم يقولون بظاهر هذه الأخبار، وكان مالك يرى أن يدفع قبل الأسفار، واحتج له بعض أصحابه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعجل الصلاة مغلسا إلا ليدفع قبل الشمس، فكل من بعد دفعه من طلوع الشمس كان أولى.

(3/532)


101 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ وَالارْتِدَافِ فِي السَّيْرِ
1685 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَ الْفَضْلَ فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ"
1687,1686 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا" أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى قَالَ فَكِلاَهُمَا قَالاَ لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ"
قوله: "باب التلبية والتكبير غداة النحر حتى يرمي" في رواية الكشميهني: "حين يرمي" وهو أصوب.قال

(3/532)


الكرماني: ليس في الحديث ذكر التكبير، فيحتمل أن يكون أشار إلى الذكر الذي في خلال التلبية، وأراد أن يستدل على أن التكبير غير مشروع حينئذ لأن قوله: "لم يزل" يدل على إدامة التلبية وإدامتها تدل على ترك ما عداها، أو هو مختصر من حديث فيه ذكر التكبير انتهى. والمعتمد أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما جرت به عادته، فعند أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي من طريق مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير". قوله: "فأخبر الفضل" في رواية مسلم من طريق عيسى بن يونس عن ابن جريج عن عطاء "فأخبرني ابن عباس أن الفضل أخبره". قوله: "فكلاهما" أي الفضل بن عباس وأسامة بن زيد، وفي ذكر أسامة إشكال لما تقدم في "باب النزول بين عرفة وجمع" أن عند مسلم في رواية إبراهيم بن عقبة عن كريب أن أسامة قال: "وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي" لأن مقتضاه أن يكون أسامة سبق إلى رمي الجمرة فيكون إخباره بمثل ما أخبر به الفضل من التلبية مرسلا، لكن لا مانع أنه يرجع مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجمرة أو يقيم بها حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج مسلم أيضا من حديث أم الحصين قالت: "فرأيت أسامة بن زيد وبلالا في حجة الوداع وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة".
" تنبيه ": زاد ابن أبي شيبة من طريق علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل في هذا الحديث: "فرماها سبع حصيات يكبر مع كل حصاة "وسيأتي هذا الحكم بعد نيف وثلاثين بابا، وفي هذا الحديث أن التلبية تستمر إلى رمي الجمرة يوم النحر، وبعدها يشرع الحاج في التحلل، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: "التلبية شعار الحج، فإن كنت حاجا فلب حتى بدء حلك، وبدء حلك أن ترمي جمرة العقبة" وروى سعيد بن منصور من طريق ابن عباس قال: "حججت مع عمر إحدى عشرة حجة، وكان يلبي حتى يرمي الجمرة" وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم. وقالت طائفة: يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم، وهو مذهب ابن عمر، لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة. وقالت طائفة: يقطعها إذا راح إلى الموقف، رواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي، وبه قال مالك وقيده بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي والليث، وعن الحسن البصري مثله لكن قال: "إذا صلى الغداة يوم عرفة" وهو بمعنى الأول. وقد روى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "حججت مع عبد الله، فلما أفاض إلى جمع جعل يلبي، فقال رجل: أعرابي هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا" وأشار الطحاوي إلى أن كل من روي عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لا تشرع، وجمع في ذلك بين ما اختلف من الآثار والله أعلم. واختلفوا أيضا هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة أو عند تمام الرمي؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويدل لهم ما روى ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال: "أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة" قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى، وأن المراد بقوله: "حتى رمى جمرة العقبة" أي أتم رميها.

(3/533)


102 - باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي

(3/533)


الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 196 البقرة
1688حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ "سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِي حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قَالَ وَقَالَ آدَمُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ وَغُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ "عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ وَحَجٌّ مَبْرُورٌ"
قوله: "باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} - إلى قوله تعالى – {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كذا في رواية أبي ذر وأبي الوقت، وساق في طريق كريمة ما بين قوله: "الهدي" قوله: {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وغرض المصنف بذلك تفسير الهدي، وذلك أنه لما انتهى في صفة الحج إلى الوصول إلى منى أراد أن يذكر أحكام الهدي والنحر، لأن ذلك يكون غالبا بمنى. والمراد بقوله: "فمن تمتع" أي في حال الأمن لقوله: "فإذا أمنتم فمن تمتع" وفيه حجة للجمهور في أن التمتع لا يختص بالمحصر، وروى الطبري عن عروة قال في قوله: "فإذا أمنتم" أي من الوجع ونحوه، قال الطبري: والأشبه بتأويل الآية أن المراد بها الأمن من الخوف، لأنها نزلت وهم خائفون بالحديبية فبينت لهم ما يعملون حال الحصر، وما يعملون حال الأمن. قوله: "أخبرنا النضر" هو ابن شميل صاحب العربية. قوله: "أبو جمرة" بالجيم والراء وقد تقدم لهذا الحديث طريق في آخر "باب التمتع والقران" وقد تقدم الكلام عليه هناك، والغرض منه هنا بيان الهدي. قوله: "وسألته" أي ابن عباس. قوله: "عن الهدي" فقال فيها أي المتعة يعني يجب على من تمتع دم. قوله: "جزور" بفتح الجيم وضم الزاي أي بعير ذكرا كان أو أنثى، وهو مأخوذ من الجزر أي القطع ولفظها مؤنث تقول هذه الجزور. قوله: "أو شرك" بكسر الشين المعجمة وسكون الراء أي مشاركة في دم أي حيث يجزئ الشيء الواحد عن جماعة، وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" وبهذا قال الشافعي والجمهور، سواء كان الهدي تطوعا أو واجبا، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك أو كان بعضهم يريد التقرب وبعضهم يريد اللحم، وعن أبي حنيفة. يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي، وعن زفر مثله بزيادة أن تكون أسبابهم واحدة، وعن داود وبعض المالكية: يجوز في هدي التطوع دون الواجب، وعن مالك: لا يجوز مطلقا، واحتج له إسماعيل القاضي بأن حديث جابر إنما كان بالحديبية حيث كانوا محصرين، وأما حديث ابن عباس فخالف أبا جمرة عنه ثقات أصحابه فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة، ثم ساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم عن ابن عباس قال: وقد روى ليث عن طاوس عن ابن عباس مثل رواية أبي جمرة، وليث ضعيف. قال: وحدثنا سليمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن ابن عباس قال: "ما كنت أرى أن دما واحدا يقضي عن أكثر من واحد" انتهى. وليس بين رواية أبي جمرة ورواية غيره منافاة لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي

(3/534)


بالإبل والبقر، وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا. وأما رواية محمد عن ابن عباس فمتقطعة، ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد حتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك فأفتى به أبا جمرة، وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج بروايته وهو أبو جمرة الضبعي. وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة. قال أحمد: حدثنا عبد الوهاب حدثنا مجاهد عن الشعبي قال: "سألت ابن عمر قلت: الجزور والبقرة تجزئ عن سبعة؟ قال. يا شعبي، ولها سبعة أنفس؟ قال قلت: فإن أصحاب محمد يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن الجزور عن سبعة والبقرة عن سبعة. قال فقال ابن عمر لرجل: أكذلك يا فلان؟ قال: نعم. قال: ما شعرت بهذا". وأما تأويل إسماعيل لحديث جابر بأنه كان بالحديبية فلا يدفع الاحتجاج بالحديث، بل روى مسلم من طريق أخرى عن جابر في أثناء حديث قال: "فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي ونجمع النفر منا في الهدية" وهذا يدل على صحة أصل الاشتراك، واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة، إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال: تجزئ عن عشرة، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية، واحتج لذلك في صحيحه وقواه، واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج "أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير" الحديث وهو في الصحيحين، وأجمعوا على أن الشاة لا يصح الاشتراك فيها، وقوله: "أو شاة" هو قول الجمهور، ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر. ووافقهما القاسم وطائفة. قال إسماعيل القاضي في "الأحكام" له: أظنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن، قال: ويرد هذا قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وأجمع المسلمون أن في الظبي شاة فوقع عليها اسم هدي. قلت: قد احتج بذلك ابن عباس فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال ابن عباس: الهدي شاة. فقيل له في ذلك، قال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقوون به، ما في الظبي؟ قالوا شاة، قال: فإن الله تعالى يقول: "هديا بالغ الكعبة". قوله: "ومتعة متقبلة" قال الإسماعيلي وغيره: تفرد النضر بقوله: "متعة "ولا أعلم أحدا من أصحاب شعبة رواه عنه إلا قال: "عمرة "وقال أبو نعيم: قال أصحاب شعبة كلهم عمرة إلا النضر فقال متعة. قلت: وقد أشار المصنف إلى هذا بما علقه بعد. قوله: "وقال آدم ووهب بن جرير وغندر عن شعبة عمرة إلخ" أما طريق آدم فوصلها عنه في "باب التمتع والقران" وأما طريق وهب بن جرير فوصلها البيهقي من طريق إبراهيم بن مرزوق عن وهب وأما طريق غندر فوصلها أحمد عنه، وأخرجها مسلم عن أبي موسى وبندار كلاهما عن غندر.

(3/535)


103 - باب رُكُوبِ الْبُدْنِ , لِقَوْلِهِ[36 الحج]: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ سُمِّيَتْ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا وَالْقَانِعُ السَّائِلُ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ وَشَعَائِرُ اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ وَاسْتِحْسَانُهَا وَالْعَتِيقُ عِتْقُهُ مِنْ

(3/535)


الْجَبَابِرَةِ وَيُقَالُ وَجَبَتْ سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ وَمِنْهُ وَجَبَتْ الشَّمْسُ
1689 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا فَقَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ"
[الحديث 1689 – أطرافه في: 1706, 2755, 6160]
1690 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالاَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا ثَلاَثًا"
[الحديث 1690 – طرفاه في: 2754, 6159]
قوله: "باب ركوب البدن لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} - إلى قوله تعالى – {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} هكذا في رواية أبي ذر وأبي الوقت، وساق في رواية كريمة الآيتين، واستدل المصنف لجواز ركوب البدن بعموم قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} وأشار إلى قول إبراهيم النخعي "لكم فيها خير": من شاء ركب ومن شاء حلب، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنه بإسناد جيد. والبدن بسكون الدال في قراءة الجمهور، وقرأ الأعرج وهي رواية عن عاصم بضمها، وأصلها من الإبل وألحقت بها البقر شرعا. قوله: "قال مجاهد سميت البدن لبدنها" هو بفتح الموحدة والمهملة للأكثر، وبضمها وسكون الدال لبعضهم.
وفي رواية الكشميهني لبدانتها أي سمنها، وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سميت البدن من قبل السمانة. قوله: "والقانع السائل، والمعتر الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير" أي يطيف بها متعرضا لها، وهذا التعليق أخرجه أيضا عبد بن حميد من طريق عثمان بن الأسود قلت لمجاهد: ما القانع؟ قال جارك الذي ينتظر ما دخل بيتك، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه ولا يسألك شيئا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: القانع هو الطامع. وقال مرة: هو السائل. ومن طريق الثوري عن فرات عن سعيد بن جبير: المعتر الذي يعتريك يزورك ولا يسألك. ومن طريق ابن جريج عن مجاهد: المعتر الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير. وقال الخليل في العين: القنوع المتذلل للمسألة، قنع إليه مال وخضع، وهو السائل. والمعتر الذي يعترض ولا يسأل. ويقال قنع بكسر النون إذا رضي وقنع بفتحها إذا سأل. وقرأ الحسن "المعتري" وهو بمعنى المعتر. قوله: "وشعائر الله استعظام البدن واستحسانها" أخرجه عبد بن حميد أيضا من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "ومن يعظم شعائر الله" قال استعظام البدن استحسانها واستسمانها. ورواه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس نحوه، لكن فيه ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ. قوله: "والعتيق عتقه من الجبابرة" أخرج عبد بن حميد أيضا من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سمي العتيق لأنه أعتق من الجبابرة. وقد جاء هذا مرفوعا أخرجه البزار من حديث

(3/536)


عبد الله بن الزبير. قوله: "ويقال وجبت سقطت إلى الأرض ومنه وجبت الشمس" هو قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقسم عن ابن عباس قال: فإذا وجبت أي سقطت، وكذا أخرجه الطبري من طريقين عن مجاهد. قوله: "عن الأعرج" لم تختلف الرواة عن مالك عن أبي الزناد فيه، ورواه ابن عيينة عن أبي الزناد فقال عن الأعرج عن أبي هريرة، أو عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة، أخرجه سعيد بن منصور عنه. وقد رواه الثوري عن أبي الزناد بالإسنادين مفرقا. قوله: "رأى رجلا" لم أقف على اسمه بعد طول البحث. قوله: "يسوق بدنة" كذا في معظم الأحاديث، ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس عن أنس "مر ببدنة أو هدية" ولأبي عوانة من هذا الوجه "أو هدي"، وهو مما يوضح أنه ليس المراد بالبدنة مجرد مدلولها اللغوي. ولمسلم من طريق المغيرة عن أبي الزناد "بينا رجل يسوق بدنة مقلدة "وكذا في طريق همام عن أبي هريرة، وسيأتي للمصنف في "باب تقليد البدن" أنها كانت مقلدة نعلا. قوله: "فقال: اركبها " زاد النسائي من طريق سعيد عن قتادة، والجوزقي من طريق حميد عن ثابت كلاهما عن أنس "وقد جهده المشي" ولأبي يعلى من طريق الحسن عن أنس "حافيا" لكنها ضعيفة. قوله: "ويلك في الثانية أو في الثالثة" وقع في رواية همام عند مسلم: "ويلك اركبها، ويلك اركبها" ولأحمد من رواية عبد الرحمن بن إسحاق والثوري كلاهما عن أبي الزناد، ومن طريق عجلان عن أبي هريرة قال: "اركبها ويحك. قال: إنها بدنة. قال: اركبها ويحك " زاد أبو يعلى من رواية الحسن "فركبها" وقد قلنا إنها ضعيفة، لكن سيأتي للمصنف من طريق عكرمة عن أبي هريرة "فلقد رأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها" وتبين بهذه الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام، ولو كان المراد مدلولها اللغوي لم يحصل الجواب بقوله إنها بدنة لأن كونها من الإبل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي كونها هديا فلذلك قال إنها بدنة، والحق أنه لم يخف ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكونها كانت مقلدة، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته "ويلك" واستدل به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبا أو متطوعا به؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك، فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك. وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث علي "أنه سئل: هل يركب الرجل هديه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالرجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه" أي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، إسناده صالح. وبالجواز مطلقا قال عروة بن الزبير، ونسبه ابن المنذر لأحمد وإسحاق، وبه قال أهل الظاهر، وهو الذي جزم به النووي في "الروضة "تبعا لأصله في الضحايا، ونقله في "شرح المهذب" عن القفال والماوردي، ونقل فيه عن أبي حامد والبندنيجي وغيرهما تقييده بالحاجة. وقال الروياني: تجويزه بغير حاجة يخالف النص، وهو الذي حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق، وأطلق ابن عبد البر كراهة ركوبها بغير حاجة عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء، وقيده صاحب "الهداية" من الحنفية بالاضطرار إلى ذلك، وهو المنقول عن الشعبي عند ابن أبي شيبة ولفظه: لا يركب الهدي إلا من لا يجد منه بدا. ولفظ الشافعي الذي نقله ابن المنذر وترجم له البيهقي: يركب إذا اضطر ركوبا غير فادح. وقال ابن العربي عن مالك: يركب للضرورة، فإذا استراح نزل. ومقتضى من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى، والدليل على اعتبار هذه القيود الثلاثة - وهي الاضطرار والركوب بالمعروف وانتهاء الركوب بانتهاء الضرورة - ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا بلفظ: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها، وروى سعيد بن

(3/537)


منصور من طريق إبراهيم النخعي قال: يركبها إذا أعيا قدر ما يستريح على ظهرها. وفي المسألة مذهب خامس وهو المنع مطلقا نقله ابن العربي عن أبي حنيفة وشنع عليه، ولكن الذي نقله الطحاوي وغيره الجواز بقدر الحاجة إلا أنه قال: ومع ذلك يضمن ما نقص منها بركوبه. وضمان النقص وافق عليه الشافعية في الهدي الواجب كالنذر. ومذهب سادس وهو وجوب ذلك نقله ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر تمسكا بظاهر الأمر، ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة والسائبة، ورده بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرا ولم يأمر أحدا منهم بذلك انتهى. وفيه نظر لما تقدم من حديث علي، وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في "المراسيل" عن عطاء "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها. قلت: ماذا؟ قال: الراجل والمتيع اليسير فإن نتجت حمل عليها ولدها"1 ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعين طريقا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك. واختلف المجيزون هل يحمل عليها متاعه؟ فمنعه مالك وأجازه الجمهور. وهل يحمل عليها غيره؟ أجازه الجمهور أيضا على التفصيل المتقدم. ونفل عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها. وقال الطحاوي في "اختلاف العلماء": قال أصحابنا والشافعي إن احتلب منها شيئا تصدق به. فإن أكله تصدق بثمنه، ويركب إذا احتاج فإن نقصه ذلك ضمن. وقال مالك: لا يشرب من لبنه فإن شرب لم يغرم. ولا يركب إلا عند الحاجة فإن ركب لم يغرم. وقال الثوري: لا يركب إلا إذا اضطر. قوله: "ويلك" قال القرطبي: قالها له تأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه، وبهذا جزم ابن عبد البر وابن العربي وبالغ حتى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا قال: ولولا أنه صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك، فعلى الحالتين هي إنشاء. ورجحه عياض وغيره قالوا: والأمر هنا وإن قلنا إنه للإرشاد لكنه استحق الذم بتوقفه على امتثال الأمر. والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادا، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف، فلما أغلظ إليه بادر إلى الامتثال. وقيل لأنه كان أشرف على هلكة من الجهد. وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة، فالمعنى أشرفت على الهلكة فاركب، فعلى هذا هي إخبار وقيل هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها كقوله لا أم لك، ويقويه ما تقدم في بعض الروايات بلفظ: "ويحك" بدل ويلك، قال الهروي: ويل يقال لمن وقع في هلكة يستحقها، وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها. وفي الحديث تكرير الفتوى، والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر، وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه، وجواز مسايرة الكبار في السفر، وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها، واستنبط منه المصنف جواز انتفاع الواقف بوقفه، وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة أما الخاصة فالوقف على النفس لا يصح عند الشافعية ومن وافقهم كما سيأتي بيانه في مكانه إن شاء الله تعالى. قوله: "عن أنس" في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: "سمعت أنس بن مالك". قوله: "قال اركبها ثلاثا" كذا في رواية أبي ذر مختصرا وفي رواية غيره قال: "إنها بدنة، قال اركبها. قال إنها بدنة، قال اركبها. ثلاثا" وكذا أخرجه أبو مسلم الكجي في السنن عن مسلم بن إبراهيم شيخ
ـــــــ
1 في "مراسيل أبي داود" المطبوعة بمصر سنة 1310ص 19 "قلت ماذا؟ قال: الرجل الراجل والمتبع السير , وإن نتجت حمل عليها ولدها وعدله"

(3/538)


البخاري فيه، ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج". وأخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن مسلم كذلك لكن قال في آخره: "ويلك" بدل "ثلاثا" وللترمذي من طريق أبي عوانة عن قتادة "فقال له في الثالثة أو الرابعة: اركبها ويحك أو ويلك" وللنسائي من طريق سعيد عن قتادة "قال في الرابعة: اركبها ويلك".

(3/539)


104 - باب مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ
1691 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ" فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ"
1692 - وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب من ساق البدن معه" أي من الحل إلى الحرم، قال المهلب: أراد المصنف أن يعرف أن السنة في الهدي أن يساق من الحل إلى الحرم، فإن اشتراه من الحرم خرج به إذا حج إلى عرفة. وهو قول مالك قال: فإن لم يفعل فعليه البدل، وهو قول الليث. وقال الجمهور: إن وقف به بعرفة فحسن وإلا فلا بدل عليه. وقال أبو حنيفة: ليس بسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ساق الهدي من الحل لأن مسكنه كان خارج الحرم. وهذا كله في الإبل، فأما البقر فقد يضعف عن ذلك، والغنم أضعف، ومن ثم قال مالك: لا يساق إلا من عرفة أو ما قرب منها لأنها تضعف عن قطع طول المسافة. قوله: "عن عقيل" في رواية مسلم من طريق شعيب بن الليث عن أبيه "حدثني عقيل". قوله: "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج" قال المهلب: معناه أمر بذلك، لأنه كان ينكر على أنس قوله أنه قرن ويقول بل كان مفردا، وأما قوله: "وبدأ فأهل بالعمرة" فمعناه أمرهم بالتمتع، وهو أن يهلوا بالعمرة أولا ويقدموها قبل الحج، قال: ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر. قلت. لم يتعين هذا التأويل المتعسف، وقد قال ابن المنير في الحاشية: أن حمل قوله: "تمتع" على معنى أمر من أبعد التأويلات، والاستشهاد

(3/539)


عليه بقوله رجم وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات، لأن الرجم من وظيفة الإمام، والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه، وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه. ثم أجاز تأويلا آخر وهو أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله لا سيما مع قوله: "خذوا عني مناسككم" فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه عليه الصلاة والسلام تمتع فأطلق ذلك. قلت: ولم يتعين هذا أيضا، بل يحتمل أن يكون معنى قوله: "تمتع" محمولا على مدلوله اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغيرها، بل قال النووي. أن هذا هو المتعين. قال: وقوله: "بالعمرة إلى الحج" أي بإدخال العمرة على الحج، وقد قدمنا في "باب التمتع والقران" تقرير هذا التأويل، وإنما المشكل هنا قوله: "بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج" لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقر كما تقدم على أنه بدأ أولا بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا بالعكس. وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: لبيك بعمرة وحجة معا. وهذا مطابق لحديث أنس المتقدم، لكن قد أنكر ابن عمر ذلك على أنس، فيحتمل أن يحمل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما أي في ابتداء الأمر، ويعين هذا التأويل قوله في نفس الحديث: "وتمتع الناس إلخ" فإن الذين تمتعوا إنما بدؤوا بالحج لكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلوا بعد ذلك بمكة ثم حجوا من عامهم. قوله: "فساق معه الهدي من ذي الحليفة" أي من الميقات، وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت ومن الأماكن البعيدة، وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس. قوله: "فإنه لا يحل من شيء" تقدم بيانه في حديث حفصة في "باب التمتع والقران". قوله: "ويقصر" كذا لأبي ذر، وأما الأكثر فعندهم "وليقصر" وكذا في رواية مسلم، قال النووي: معناه أنه يفعل الطواف والسعي والتقصير ويصير حلالا، وهذا دليل على أن الحلق أو التقصير نسك، وهو الصحيح، وقيل استباحة محظور. قال: وإنما أمره بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج. قوله: "وليحلل" هو أمر معناه الخبر أي قد صار حلالا فله فعل كل ما كان محظورا عليه في الإحرام، ويحتمل أن يكون أمرا على الإباحة لفعل ما كان عليه حراما قبل الإحرام. قوله: "ثم ليهل بالحج" أي يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بثم الدالة على التراخي، فلم يرد أن يهل بالحج عقب إهلاله من العمرة. قوله: "وليهد"1 أي هدي التمتع وهو واجب بشروطه. قوله: "فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج" أي لم يجد الهدي بذلك المكان، ويتحقق ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذ أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه أو يمتنع من بيعه إلا بغلائه فينقل إلى الصوم كما هو نص القرآن، والمراد بقوله: "في الحج" أي بعد الإحرام به. وقال النووي: هذا هو الأفضل، فإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه على الصحيح، وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح قاله مالك وجوزه الثوري وأصحاب الرأي، وعلى الأول فمن استحب صيام عرفة بعرفة قال: يحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع وإلا فيحرم يوم السادس ليفطر بعرفة، فإن فاته الصوم قضاه، وقيل يسقط ويستقر الهدي في ذمته وهو قول الحنفية. وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية أظهرهما لا يجوز، قال النووي: وأصحهما من حيث الدليل الجواز. قوله: "ثم خب" تقدم الكلام عليه في "باب استلام الحجر الأسود" وتقدم الكلام على السعي في بابه، وقوله: "ثم سلم فانصرف فأتى الصفا" ظاهره أنه لم يتخلل بينهما
ـــــــ
1 هذه الكلمة ليست في نسخ الصحيح التي بأيدينا.

(3/540)


عمل آخر، لكن في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم: "ثم رجع إلى الحجر فاستلمه ثم خرج من باب الصفا". قوله: "ثم حل من كل شيء حرم منه" تقدم أن سبب عدم إحلاله كونه ساق الهدي، وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلل منها كما أمر به أصحابه. واستدل به على أن التحلل لا يقع بمجرد طواف القدوم خلافا لابن عباس وهو واضح، وقد تقدم البحث فيه. وقوله: "وفعل مثل ما فعل" إشارة إلى عدم خصوصيته بذلك، وفيه مشروعية طواف القدوم للقارن والرمل فيه إن عقبه بالسعي، وتسمية السعي طوافا، وطواف الإفاضة يوم النحر، واستدل به على أن الحلق ليس بركن، وليس بواضح لأنه لا يلزم من ترك ذكره في هذا الحديث أن لا يكون وقع بل هو داخل في عموم قوله: "حتى قضى حجه".
" تنبيه ": وقع بين قوله: "وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وبين قوله: "من أهدى وساق الهدي من الناس" في رواية أبي الوقت لفظ: "باب" وقال: "فيه عن عروة عن عائشة إلخ" وهو خطأ شنيع فإن قوله: "من أهدى" فاعل قوله: "وفعل" فالفصل بينهما بلفظ باب خطأ ويصير فاعل فعل محذوفا، وأغرب الكرماني فشرحه على أن فاعل فعل هو ابن عمر راوي الخبر، وأما أبو نعيم في "المستخرج" فساق الحديث بتمامه إلخ ثم أعاد هذا اللفظ بترجمة مستقلة، وساق حديث عائشة بالإسناد الذي قبله وقال في كل منهما "أخرجه البخاري عن يحيى بن بكير" وهذا غريب1 والأصوب ما رواه الأكثر، ووقع في رواية أبي الوليد الباجي عن أبي ذر بعد قوله: "ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فاصلة صورتها (.) وبعدها "من أهدى وساق الهدي من الناس" وعن عروة أن عائشة أخبرته. قال أبو الوليد: أمرنا أبو ذر أن نضرب على هذه الترجمة، يعني قوله: "من أهدى وساق الهدي من الناس" انتهى. وهو عجيب من أبي الوليد ومن شيخه، فإن قوله: "من أهدى" هو صفة لقوله: "وفعل" ولكنهما ظنا أنها ترجمة فحكما عليها بالوهم، وليس كذلك. وكذا أخرجه مسلم من رواية شعيب فساق حديث ابن عمر إلى قوله: "من الناس" ثم أعاد الإسناد بعينه إلى عائشة قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالحج إلى العمرة "وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن عبد الله" وقد تعقب المهلب قول الزهري "بمثل الذي أخبرني سالم" فقال: يعني مثله في الوهم لأن أحاديث عائشة كلها شاهدة بأنه حج مفردا. قلت: وليس وهما إذ لا مانع من الجمع بين الروايتين بمثل ما جمعنا به بين المختلف عن ابن عمر بأن يكون المراد بالإفراد في حديثها البداءة بالحج وبالتمتع بالعمرة إدخالها على الحج، وهو أولى من توهيم جبل من جبال الحفظ. والله أعلم.
ـــــــ
1 في نسخة "قريب"

(3/541)


105 - باب مَنْ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ الطَّرِيقِ
1693 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لأَبِيهِ "أَقِمْ فَإِنِّي لاَ آمَنُهَا أَنْ سَتُصَدُّ عَنْ الْبَيْتِ قَالَ إِذاً أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي الْعُمْرَةَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الدَّارِ قَالَ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا"

(3/541)


قوله: "باب من اشترى الهدي من الطريق" أي سواء كان في الحل أو الحرم إذ سوقه معه من بلده ليس بشرط. وقال ابن بطال: أراد أن يبين أن مذهب ابن عمر في الهدي أنه ما أدخل من الحل إلى الحرم، لأن قديدا من الحل. قلت: لا يخفى أن الترجمة أعم من فعل ابن عمر فكيف تكون بيانا له. قوله: "فإني لا آمنها" بالمد وفتح الميم الخفيفة، وقد تقدم في "باب طواف القارن" بلفظ: "لا آمن" والهاء هنا ضمير الفتنة أي لا آمن الفتنة أن تكون سببا في صدك عن البيت، وسيأتي بيان ذلك في "باب المحصر" مع بقية الكلام عليه. وفي رواية المستملي والسرخسي هنا "لا أيمنها" وقد تقدم ضبطه وشرحه في "باب طواف القارن". قوله: "أن تصد" في رواية السرخسي "أن ستصد" قوله: "فأهل بالعمرة" زاد في رواية أبي ذر "من الدار" وكذا أخرجه أبو نعيم من رواية علي بن عبد العزيز عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، ويؤخذ منه جواز الإحرام من قبل الميقات، وللعلماء فيه اختلاف: فنقل ابن المنذر الإجماع على الجواز، ثم قيل هو أفضل من الإحرام من الميقات، وقيل دونه، وقيل مثله، وقيل من كان له ميقات معين فهو في حقه أفضل وإلا فمن داره، وللشافعية في أرجحية الميقات عن الدار اختلاف. وقال الرافعي يؤخذ من تعليلهم أن من أمن على نفسه كان أرجح في حقه وإلا فمن الميقات أفضل، وقد تقدم قول المصنف "وكره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان" في "باب قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ". قوله: "فلم يحل حتى حل" في رواية السرخسي "حتى أحل" بزيادة ألف والحاء مفتوحة وهي لغة شهيرة يقال حل وأحل.

(3/542)


106 - باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ
وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا أَهْدَى مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الأَيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً
1695,1694 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قَالاَ "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ"
[الحديث 1494 – أطرافه في: 1811, 2712, 2731, 4158, 4178, 4181]
[الحديث 1695 – أطرافه في: 2711, 2732, 4157, 4179, 4180]
1696 - حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت "فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها وأشعرها وأهداها فما حرم عليه شيء كان أحل له"
[الحديث 1696 – أطرافه في: 1698, 1699, 1700, 1701, 1702, 1703, 1704, 1705, 2317, 5566]
قوله: "باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم" قال ابن بطال: غرضه أن يبين أن المستحب أن لا يشعر المحرم ولا يقلد إلا في ميقات بلده انتهى. والذي يظهر أن غرضه الإشارة إلى رد قول مجاهد لا يشعر حتى يحرم أخرجه ابن أبي شيبة لقوله في الترجمة "من أشعر ثم أحرم" ووجه الدلالة لذلك من حديث المسور قوله: "حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم" فإن ظاهره البداءة بالتقليد، ومن حديث عائشة قوله: "ثم قلدها وأشعرها

(3/542)


وما حرم عليه شيء" فإنه يدل على أن تقدم الإحرام ليس شرطا في صحة التقليد والإشعار، وأبين من ذلك لتحصيل مقصود الترجمة ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج" وسيأتي الكلام على حديث المسور حيث ساقه المصنف مطولا في كتاب الشروط وعلى حديث عائشة بعد بابين. قوله في صدر الباب "وقال نافع كان ابن عمر إلخ" وصله مالك في "الموطأ" قال: "عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة على ساكنها الصلاة والسلام قلده بذي الحليفة يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو متوجه إلى القبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به فإذا قدم غداة النحر نحره. وعن نافع عن ابن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال بسم الله والله أكبر" وأخرج البيهقي من طريق ابن وهب عن مالك وعبد الله بن عمر عن نافع "أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابا، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة" وتبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة وفي الأيسر أخرى بحسب ما يتهيأ له ذلك، وإلى الإشعار في الجانب الأيمن ذهب الشافعي وصاحبا لأبي حنيفة وأحمد في رواية، وإلى الأيسر ذهب مالك وأحمد في رواية، ولم أر في حديث ابن عمر ما يدل على تقدم ذلك على إحرامه. وذكر ابن عبد البر في "الاستذكار" عن مالك قال: لا يشعر الهدي إلا عند الإهلال، يقلده ثم يشعره ثم يصلي ثم يحرم. وفي هذا الحديث مشروعية الإشعار، وفائدته الإعلام بأنها صارت هديا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت، أو ضلت عرفت، أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه. وأبعد من منع الإشعار، واعتل باحتمال أنه كان مشروعا قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان، وسيأتي نقل الخلاف في ذلك بعد باب. قوله: "زمن الحديبية" وقع عند الكشميهني: "من المدينة".

(3/543)


107 - باب فَتْلِ الْقَلاَئِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ
1697 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله قال أخبرني نافع عن بن عمر عن حفصة رضي الله عنهم قالت قلت "يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت قال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج"
1698 - حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثنا بن شهاب عن عروة وعن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم"
قوله: "باب فتل القلائد للبدن والبقر" أورد فيه حديث حفصة "ما شأن الناس حلوا" وحديث عائشة "كان يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه" قال ابن المنير في الحاشية: ليس في الحديثين ذكر البقر إلا أنهما مطلقان، وقد

(3/543)


صح أنه أهداهما جميعا، كذا قال، وكأنه أراد حديث عائشة "دخل علينا يوم النحر بلحم بقر" الحديث وسيأتي بعد أبواب، ولا دلالة فيه على أنه كان ساق البقر، وترجمة البخاري صحيحة لأنه إن كان المراد بالهدي في الحديث الإبل والبقر معا فلا كلام، وإن كان المراد الإبل خاصة فالبقر في معناها، وقد سبق الكلام على حديث حفصة مستوفى في "باب التمتع والقران" ومناسبته للترجمة من جهة أن التقليد يستلزم تقدم الفتل عليه، ويوضح ذلك حديث عائشة المذكور معه، ويأتي الكلام عليه بعد باب.
" تنبيه ": أخذ بعض المتأخرين من اقتصار البخاري في هذه الترجمة على الإبل والبقر أنه موافق لمالك وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلد، وغفل هذا المتأخر عن أن البخاري أفرد ترجمة لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة كعادته في تفريق الأحكام في التراجم.

(3/544)


108 - باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ
وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ الْمِسْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَلَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ"
1699 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ"
قوله: "باب إشعار البدن" ذكر فيه حديث عروة عن المسور معلقا، وقد تقدم موصولا قبل باب. حديث عائشة "فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها" الحديث فيه مشروعية الإشعار، وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل مم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا، وبذلك قال الجمهور من السلف والخلف، وذكر الطحاوي في "اختلاف العلماء" كراهته عن أبي حنيفة، وذهب غيره إلى استحبابه للاتباع، حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: هو حسن. قال وقال مالك: يختص الإشعار بمن لها سنام، قال الطحاوي: ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه، فدل على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الخطابي وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود، بل هو باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم. وكالختان والحجامة، وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيده الذي كرهه به كأنه يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه، فكان قريبا. وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار، وانتصر له الطحاوي في "المعاني" فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح، ولا سيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سد الباب عن العامة لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من كان عارفا بالسنة في ذلك فلا. وفي هذا تعقب على الخطابي حيث قال: لا أعلم أحدا كره الإشعار إلا أبا حنيفة، وخالفه صاحباه فقالا بقول الجماعة انتهى. وروي عن إبراهيم النخعي أيضا أنه كره الإشعار، ذكر ذلك الترمذي قال: سمعت أبا السائب يقول كنا عند وكيع فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعي أنه قال الإشعار مثلة، فقال له وكيع: أقول لك أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك بأن تحبس انتهى. وفيه

(3/544)


تعقب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف. وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع. ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه.
" تنبيه ": اتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل، إلا سعيد بن جبير. واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها، ولكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار، وأما على ما نقل عن مالك فلكونها ليست ذات أسنمة. والله أعلم.

(3/545)


109 - باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلاَئِدَ بِيَدِهِ
1700 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ "زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ قَالَتْ عَمْرَةُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ"
قوله: "باب من قلد القلائد بيده" أي الهدايا، وله حالان: إما أن يسوق الهدي ويقصد النسك فإنما يقلدها ويشعرها عند إحرامه، وإما أن يسوقه ويقيم فيقلدها من مكانه وهو مقتضى حديث الباب، وسيأتي بيان ما يقلد به بعد باب والغرض بهذه الترجمة أنه كان عالما بابتداء التقليد ليترتب عليه ما بعده، قال ابن التين: يحتمل أن يكون قول عائشة "ثم قلدها بيده" بيانا لحفظها للأمر ومعرفتها به، محتمل أن تكون أرادت أنه صلى الله عليه وسلم تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد، ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يظن أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي. قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم" كذا للأكثر، وسقط "عمرو" من رواية أبي ذر. وعمرة هي خالة عبد الله الراوي عنها، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري. قوله: "أن زياد بن أبي سفيان" كذا وقع في "الموطأ" وكأن شيخ مالك حدث به كذلك في زمن بني أمية وأما بعدهم فما كان يقال له إلا زياد ابن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد، وكانت أمه سمية مولاة الحارث بن كلدة الثقفي تحت عبيد المذكور فولدت زيادا على فراشه فكان ينسب إليه، فلما كان في خلافة معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زيادا ولده فاستلحقه معاوية لذلك وزوج ابنه ابنته وأمر زيادا على العراقين البصرة والكوفة جمعهما له ومات في خلافة معاوية سنه ثلاث وخمسين.
" تنبيه ": وقع عند مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك في هذا الحديث: "أن ابن زياد" بدل قوله: "أن زياد بن أبي سفيان" وهو وهم نبه عليه الغساني ومن تبعه، قال النووي وجميع من تكلم على صحيح مسلم: والصواب ما وقع في البخاري، وهو الموجود عند جميع رواة الموطأ. قوله: "حتى ينحر هديه" زاد مسلم في روايته: "وقد بعثت بهديي فاكتبي إلي بأمرك" زاد الطحاوي من رواية ابن وهب عن مالك "أومري صاحب الهدي" أي الذي معه الهدي، أي بما يصنع. قوله: "قالت عمرة" هو بالسند المذكور. وقد روى الحديث المرفوع عن عائشة القاسم وعروة كما مضى قريبا مختصرا، ورواه عنها أيضا مسروق، وسيأتي في آخر الباب الذي بعده مختصرا، وأورده في الضحايا مطولا وترجم هناك على حكم من أهدى وأقام هل يصير محرما أو لا؟ ولم يترجم

(3/545)


به هناك، ولفظه هناك "عن مسروق أنه قال: يا أم المؤمنين إن رجلا يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس" فذكر الحديث نحوه. ولفظ الطحاوي في حديث مسروق "قال قلت لعائشة: إن رجالا هاهنا يبعثون بالهدي إلى البيت ويأمرون الذي يبعثون معه بمعلم لهم يقلدها في ذلك اليوم، فلا يزالون محرمين حتى يحل الناس" الحديث وقال سعيد بن منصور "حدثنا هشيم حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا محدث عن عائشة وقيل لها إن زيادا إذا بعث بالهدي أمسك عما يمسك عنه المحرم حتى ينحر هديه، فقالت عائشة: أو له كعبة يطوف بها". قال: "وحدثنا يعقوب حدثنا هشام عن أبيه بلغ عائشة أن زيادا بعث بالهدي وتجرد فقالت إن كنت لأفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يبعث بها وهو مقيم عندنا ما يجتنب شيئا" وروى مالك في الموطأ "عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق فسأل عنه فقالوا إنه أمر بهديه أن يقلد، قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك فقال: بدعة ورب الكعبة" ورواه ابن أبي شيبة: "عن الثقفي عن يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم أن ربيعة أخبره أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان علي متجردا على منبر البصرة" فذكره، فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك. قال ابن التين: خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجت عائشة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه، ولعل ابن عباس رجع عنه انتهى. وفيه قصور شديد فإن ابن عباس لم ينفرد بذلك بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع "أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي" ومنهم قيس بن سعد بن عبادة أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك، وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن علي بن الحسين عن عمر وعلي أنهما قالا في الرجل يرسل ببدنته "أنه يمسك عما يمسك عنه المحرم" وهذا منقطع. وقال ابن المنذر "قال عمر وعلي وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم". وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك محرما، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار، ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال: "كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا، فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي" الحديث وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده، إلا أن نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ. وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم إلا الجماع ليلة جمع، رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح. نعم جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقر على خلاف ما قال ابن عباس، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه وأخرجه البيهقي من طريقه قال: "أول من كشف العمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة" فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها قال: "فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس" وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق، قال وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام. قال وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرما ولا يجب عليه شيء. ونقل الخطابي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس وهو خطأ عليهم، فالطحاوي أعلم بهم منه. ولعل

(3/546)


الخطابي ظن التسوية بين المسألتين. قوله: "بيدي" فيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها. قوله: "مع أبي" بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة، تريد بذلك أباها أبا بكر الصديق. واستفيد من ذلك وقت البعث وأنه كان في سنة تسع عام حج أبو بكر بالناس. قال ابن التين: أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصة، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع لئلا يظن ظان أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، فأرادت إزالة هذا اللبس وأكملت ذلك بقولها "فلم يحرم عليه شيء كان له حلا حتى نحر الهدي" أي وانقضى أمره ولم يحرم، وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى، لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى. وحاصل اعتراض عائشة على ابن عباس أنه ذهب إلى ما أفتى به قياسا للتولية في أمر الهدي على المباشرة له، فبينت عائشة أن هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السنة الظاهرة. وفي الحديث من الفوائد تناول الكبير الشيء بنفسه وإن كان له من يكفيه إذا كان مما يهتم به، ولا سيما ما كان من إقامة الشرائع وأمور الديانة. وفيه تعقب بعض العلماء على بعض، ورد الاجتهاد بالنص، وأن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم التأسي به حتى تثبت الخصوصية.

(3/547)


110 - باب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ
1701 - حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت "أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنما"
1702 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلاَئِدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلاَلاً"
1703 - حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد حدثنا منصور وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت "كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها يمكث حلالاً"
1704 - حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن عامر عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت "فتلت لهدي النبي صلى الله عليه وسلم تعني القلائد قبل أن يحرم"
قوله: "باب تقليد الغنم" قال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليدها. زاد غيره: وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم إنها تضعف عن التقليد، وهي حجة ضعيفة لأن المقصود من التقليد العلامة وقد اتفقوا على أنها لا تشعر لأنها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها، والحنفية في الأصل يقولون: ليست الغنم من الهدي، فالحديث حجة عليهم من جهة أخرى. وقال ابن عبد البر. احتج من لم ير بإهداء الغنم بأنه صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة ولم يهد فيها غنما انتهى. وما أدري ما وجه الحجة منه، لأن حديث الباب دال على أنه أرسل بها وأقام، وكان ذلك قبل حجته قطعا، فلا تعارض بين الفعل والترك لأن مجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز. ثم من الذي صرح من الصحابة بأنه لم يكن في هداياه في حجته غنم حتى يسوغ الاحتجاج بذلك؟ ثم ساق ابن المنذر من طريق

(3/547)


عطاء وعبيد الله بن أبي يزيد وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدم مقلدة. ولابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه. والمراد بذلك الرد على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها. وأعل بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم، قال المنذري وغيره: وليست هذه بعلة لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، وإنما أردف البخاري بطريقه طريق أبي نعيم مع أن طريق أبي نعيم عنده أعلى درجة لتصريح الأعمش بالتحديث عن إبراهيم في رواية عبد الواحد، مع أن في رواية عبد الواحد زيادة التقليد وزيادة إقامته في أهله حلالا. ثم أردفه برواية منصور عن إبراهيم استظهارا لرواية عبد الواحد لما في حفظ عبد الواحد عندهم وإن كان هو عنده حجة، وأما إردافه برواية مسروق مع أنه لا تصريح فيها بكون القلائد للغنم فلأن لفظ الهدي أعم من أن يكون لغنم أو غيرها، فالغنم فرد من أفراد ما يهدى، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أهدى الإبل وأهدى البقر، فمن ادعى اختصاص الإبل بالتقليد فعليه البيان. وعامر في طريق مسروق هو الشعبي، وزكريا الراوي عنه هو ابن أبي زائدة. وقد ذكرت في الباب الذي قبله أنه أخرج طريق مسروق من وجه آخر عن الشعبي مطولا.

(3/548)


111 - باب الْقَلاَئِدِ مِنْ الْعِهْنِ
1705 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "فَتَلْتُ قَلاَئِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي"
قوله: "باب القلائد من العهن" بكسر المهملة وسكون الهاء أي الصوف، وقيل: هو المصبوغ منه، وقيل: هو الأحمر خاصة. قوله: "عن أم المؤمنين" هي عائشة، بينه يحيى بن حكيم عن معاذ أخرجه أبو نعيم في "المستخرج "وكذا وقعت تسميتها عند الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن عون. قوله: "فتلت قلائدها" أي الهدايا. وفي رواية يحيى المذكورة "أنا فتلت تلك القلائد" ولمسلم من وجه آخر عن ابن عون مثله وزاد: "فأصبح فينا حلالا يأتي ما يأتي الحلال من أهله" وفيه رد على من كره القلائد من الأوبار واختار أن تكون من نبات الأرض، وهو منقول عن ربيعة ومالك. وقال ابن التين: لعله أراد أنه الأولى، مع القول بجواز كونها من الصوف. والله أعلم.

(3/548)


112 - باب تَقْلِيدِ النَّعْلِ
1706 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ: "ارْكَبْهَا " قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ "ارْكَبْهَا" قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا" تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب تقليد النعل" يحتمل أن يريد الجنس، ويحتمل أن يريد الوحدة أي النعل الواحدة فيكون فيه إشارة

(3/548)


113 - باب الْجِلاَلِ لِلْبُدْنِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ يَشُقُّ مِنْ الْجِلاَلِ إِلاَّ مَوْضِعَ السَّنَامِ
وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلاَلَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا
1707 - حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه قال "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتصدق بجلال البدن التي نحرت وبجلودها"
[الحديث 1707 – أطرافه في: 1716و1716م, 1717, 1718, 2299]
قوله: "باب الجلال للبدن" بكسر الجيم وتخفيف اللام جمع جل بضم الجيم وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه. قوله: "وكان ابن عمر لا يشق من الجلال إلا موضع السنام فإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدق بها" هذا التعليق وصل بعضه مالك في "الموطأ" عن نافع "أن عبد الله بن عمر كان لا يشق جلال بدنه" وعن نافع "أن ابن عمر كان يجلل بدنه القباطي والحلل ثم يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها إياها" وعن مالك أنه سأل عبد الله بن دينار "ما كان ابن عمر يصنع بجلال بدنه حين كسيت الكعبة هذه الكسوة؟ قال: كان يتصدق بها" وقال البيهقي بعد أن أخرجه من طريق يحيى بن بكير عن مالك زاد فيه غيره عن مالك "إلا موضع السنام" إلى آخر الأثر المذكور. قال المهلب ليس التصدق بجلال البدن فرضا، وإنما صنع ذلك ابن عمر لأنه أراد أن لا يرجع في شيء أهل به له، ولا في شيء أضيف إليه اهـ. وفائدة شق الجل من موضع السنام ليظهر الإشعار لئلا يستتر ما تحتها. وروى ابن المنذر من طريق أسامة بن زيد عن نافع "أن ابن عمر كان يجلل بدنه الأنماط والبرود والحبر حتى يخرج

(3/549)


من المدينة، ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها، قال نافع: وربما دفعها إلى بني شيبة. وأورد المصنف حديث علي في التصدق بجلال البدن مختصرا، وسيأتي الكلام عليه مستوفي بعد سبعة أبواب إن شاء الله تعالى.
" تنبيه ": ما في هذه الأحاديث من استحباب التقليد والإشعار وغير ذلك يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفائه، والمقرر أن إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره، فأما أن يقال إن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص الحج من عموم الإخفاء، وإما أن يقال لا يلزم من التقليد والإشعار إظهار العمل الصالح لأن الذي يهديها يمكنه أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها ولا يقول إنها لفلان فتحصل سنة التقليد مع كتمان العمل، وأبعد من استدل بذلك على أن العمل إذا شرع فيه صار فرضا. وإما أن يقال إن التقليد جعل علما لكونها هديا حتى لا يطمع صاحبها في الرجوع فيها.

(3/550)


114 - باب مَنْ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنْ الطَّرِيقِ وَقَلَّدَهَا
1708 - حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا أبو ضمرة حدثنا موسى بن عقبة عن نافع قال أراد بن عمر رضي الله عنهما الحج عام حجة الحرورية في عهد بن الزبير رضي الله عنهما فقيل له إن الناس كائن بينهم قتال ونخاف أن يصدوك فقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إذا أصنع كما صنع أشهدكم أني أوجبت عمرة حتى كان بظاهر البيداء قال ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني جمعت حجة مع عمرة وأهدى هديا مقلدا اشتراه حتى قدم فطاف بالبيت وبالصفا ولم يزد على ذلك ولم يحلل من شيء حرم منه حتى يوم النحر فحلق ونحر ورأى أن قد قضى طوافه الحج والعمرة بطوافه الأول ثم قال كذلك صنع النبي صلى الله عليه وسلم"
قوله: "باب من اشترى هديه من الطريق وقلدها" تقدم قبل ثمانية أبواب "من اشترى الهدي من الطريق" وأورد فيه حديث ابن عمر هذا من وجه آخر، وإنما زادت هذه الترجمة التقليد، وقد تقدم القول فيه مستوفى في "باب من قلد القلائد بيده" وحديث ابن عمر يأتي الكلام عليه مستوفى في أبواب المحصر إن شاء الله تعالى. لكن قوله في هذه الرواية: "عام حجة الحرورية "وفي رواية الكشميهني: "حج الحرورية في عهد ابن الزبير" مغاير لقوله في "باب طواف القارن" من رواية الليث عن نافع "عام نزول الحجاج بابن الزبير" لأن حجة الحرورية كانت في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وذلك قبل أن يتسمى ابن الزبير بالخلافة، ونزول الحجاج بابن الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين وذلك في آخر أيام ابن الزبير، فأما أن يحمل على أن الراوي أطلق على الحجاج وأتباعه حرورية لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحق، وإما أن يحمل على تعدد القصة. وقد ظهر من رواية أيوب عن نافع أن القائل لابن عمر الكلام المذكور هو ولده عبيد الله كما تقدم في "باب من اشترى الهدي من الطريق" وسيأتي في أول الإحصار مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

(3/550)


115 - باب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ
1709 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ قَالَتْ فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالَ نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ قَالَ يَحْيَى فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ فَقَالَ أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ"
قوله: "باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن" أما التعبير بالذبح مع أن حديث الباب بلفظ النحر فإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الذبح، وسيأتي بعد سبعة أبواب من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، ونحر البقر جائز عند العلماء إلا أن الذبح مستحب عندهم لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وخالف الحسن بن صالح فاستحب نحرها، وأما قوله: "من غير أمرهن" فأخذه من استفهام عائشة عن اللحم لما دخل به عليها، ولو كان ذبحه بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام، لكن ليس ذلك دافعا للاحتمال، فيجوز أن يكون علمها بذلك تقدم بأن يكون استأذنهن في ذلك، لكن لما أدخل اللحم عليها احتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك. قوله: "عن عمرة" في رواية سليمان المذكورة حدثتني عمرة. قوله: "لا نرى" بضم النون أي لا نظن. قوله: "إلا الحج" تقدم القول فيه في الكلام على "باب التمتع والإفراد والقران". وقوله: "فدخل علينا" بضم الدال على البناء للمجهول. قوله: "بلحم بقر" قال ابن بطال: أخذ بظاهره جماعة فأجازوا الاشتراك في الهدي والأضحية، ولا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون عن كل واحدة بقرة وأما رواية يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن أزواجه بقرة واحدة" فقد قال إسماعيل القاضي: تفرد يونس بذلك، وقد خالفه غيره اهـ. ورواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما، ويونس ثقة حافظ، وقد تابعه معمر عند النسائي أيضا ولفظه أصرح من لفظ يونس قال: "ما ذبح عن آل محمد في حجه الوداع إلا بقرة" وروى النسائي أيضا من طريق يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن" صححه الحاكم، وهو شاهد قوي لرواية الزهري وأما ما رواه عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: "ذبح عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حججنا بقرة بقرة" أخرجه النسائي أيضا فهو شاذ خالف لما تقدم، وقد رواه المصنف في الأضاحي ومسلم أيضا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ: "ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر" ولم يذكر ما زاده عمار الدهني، وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن لكن بلفظ: "أهدى" بدل "ضحى" والظاهر أن التصرف من الرواة لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ: "أهدى" وتبين أنه هدي التمتع فليس فيه حجة على مالك في قوله لا ضحايا على أهل منى، وتبين توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية والله أعلم.

(3/551)


واستدل به على أن الإنسان قد يلحقه من عمل غيره ما عمله عنه بغير أمره ولا علمه، وتعقب باحتمال الاستئذان كما تقدم في الكلام على الترجمة، وفيه جواز الأكل من الهدي والأضحية، وسيأتي نقل الخلاف فيه بعد سبعة أبواب. قوله: "قال يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري بالإسناد المذكور كله إليه. قوله: "فذكرته للقاسم" يعني ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "فقال أتتك بالحديث على وجهه" أي ساقته لك سياقا تاما لم تختصر منه شيئا، وكأنه يشير بذلك إلى روايته هو عن عائشة فإنها مختصرة كما قدمت الإشارة إليها في هذا الباب.

(3/552)


116 - باب النَّحْرِ فِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى
1710 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ خَالِدَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
1712 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمْ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ"
قوله: "باب النحر في منحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى" قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد انتهى. وكأنه أخذه من أثر أخرجه الفاكهي من طريق ابن جريج عن طاوس قال: "كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى عن يسار المصلي". قال وقال غير طاوس من أشياخنا مثله وزاد: "وأمر بنسائه أن ينزلن جنب الدار بمنى، وأمر الأنصار أن ينزلوا الشعب وراء الدار". قلت: والشعب هو عند الجمرة المذكورة. قال ابن التين: وللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "هذا المنحر، وكل منى منحر" انتهى. والحديث المذكور أخرجه مسلم من حديث جابر ولفظه: "نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم" وهذا ظاهره أن نحره صلى الله عليه وسلم بذلك المكان وقع عن اتفاق، لا لشيء يتعلق بالنسك، ولكن ابن عمر كان شديد الاتباع. وقد روى عمر بن شبة في كتابه من طريق ابن جريج عن عطاء قال: "كان ابن عمر لا ينحر إلا بمنى" وحكى ابن بطال قول مالك في النحر بمنى للحاج والنحر بمكة للمعتمر، وأطال في تقرير ذلك وترجيحه، ولا خلاف في الجواز وإن اختلف في الأفضل. قوله: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم" هو المعروف بابن راهويه، وكذلك أخرجه في مسنده. وأخرجه من طريقه أبو نعيم. قوله: "قال عبيد الله" أي ابن عمر بالإسناد المذكور، والمعنى أن مراد نافع بإطلاق المنحر منحر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى المصنف هذا الحديث في الأضاحي أوضح من هذا ولفظه: "حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا خالد بن الحارث" فذكر الحديث قال: "قال عبيد الله يعني منحر النبي صلى الله عليه وسلم" ولهذا أردفه المصنف هنا بطريق موسى بن عقبة عن نافع المصرحة بإضافة المنحر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الخبر، وأفادت رواية موسى زيادة وقت بعث الهدي إلى المنحر وأنها من آخر الليل. قوله: "مع حجاج" بضم المهملة جمع حاج، وقوله: "فيهم الحر والمملوك" معناه أنه لا يشترط بعث الهدي مع الأحرار دون الأرقاء، وسيأتي في الأضاحي من طريق كثير بن فرقد عن نافع عن ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلي" وهذا محمول على الأضحية بالمدينة.

(3/552)


117 - باب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ
1712 - حدثنا سهل بن بكار حدثنا وهيب عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس -وذكر الحديث- قال "ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياما وضحى بالمدينة كبشين أملحين أقرنين, مختصرا"
قوله: "باب من نحر هديه بيده" أورد فيه حديث أنس مختصرا وفيه: "نحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن" وسيأتي بعد باب واحد بتمامه بالإسناد الذي ساقه هنا سواء، وليست هذه الترجمة وحديثها عند أكثر الرواة، بل ثبتت لأبي ذر عن المستملي وحده، وفي نسخة الصغاني بعد الترجمة ما نصه "حديث سهل بن بكار عن وهيب" فاكتفى بالإشارة.

(3/553)


118 - باب نَحْرِ الإِبِلِ مُقَيَّدَةً
1713 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا قَالَ ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ
قوله: "باب نحر الإبل مقيدة" أورد فيه حديث ابن عمر، وهو مطابق لما ترجم له. قوله: "عن يونس" هو ابن عبيد، في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن عبد الأعلى عن يزيد بن زريع "أخبرنا يونس" والإسناد سوى الصحابي كلهم بصريون. قوله: "عن زياد بن جبير" بجيم وموحدة مصغر بصري تابعي ثقة ليس له في الصحيحين سوى هذا الحديث وحديث آخر أخرجه المصنف في النذر بهذا الإسناد وأخرجه في الصوم بإسناد آخر إلى يونس بن عبيد، وقد سبق في أوائل الحج حديث غير هذا من طريق زيد بن جبير عن ابن عمر، وهو غير زياد بن جبير هذا وليس أخا له أيضا لأن زيدا طائي كوفي وزيادا ثقفي بصري لكنهما اشتركا في الثقة وفي الرواية عن ابن عمر. قوله: "أتى على رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "قد أناخ بدنته ينحرها" زاد أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس "لينحرها بمنى". قوله: "ابعثها" أي أثرها، يقال بعثت الناقة أثرتها. و قوله: "قياما" أي عن قيام، وقياما مصدر بمعنى قائمة وهي حال مقدرة، أو قوله: "ابعثها "أي أقمها، أو العامل محذوف تقديره انحرها. وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي: "انحرها قائمة". قوله: "مقيدة" أي معقولة الرجل قائمة على ما بقي من قوائمها، ولأبي داود من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها" وقال سعيد بن منصور "حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير رأيت ابن عمر ينحر بدنته وهي معقولة إحدى يديها". قوله: "سنة محمد" بنصب سنة بعامل مضمر كالاختصاص، أو التقدير متبعا سنة محمد. قلت: ويجوز الرفع، ويدل عليه رواية الحربي في المناسك بلفظ: "فقال له انحرها قائمة فإنها سنة محمد" وفي هذا الحديث استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة، وعن الحنفية يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة، وفيه تعليم الجاهل وعدم السكوت على مخالفة السنة وإن كان مباحا، وفيه أن قول الصحابي من السنة كذا مرفوع عند الشيخين لاحتجاجهما بهذا الحديث

(3/553)


في صحيحيهما. قوله: "وقال شعبة عن يونس أخبرني زياد" هذا التعليق أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده قال: "أخبرنا النضر بن شميل حدثنا شعبة عن يونس سمعت زياد بن جبير يقول: انتهيت مع ابن عمر فإذا رجل قد أضجع بدنته وهو يريد أن ينحرها فقال قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم" وقد نسب مغلطاي ومن تبعه تعليق شعبة المذكور لتخريج إبراهيم الحربي عن عمرو بن مرزوق عن شعبة، فراجعته فوجدته فيه عن يونس عن زياد بالعنعنة، وليس في ذلك وفاء بمقصود البخاري، فإنه أخرج طريق شعبة لبيان سماع يونس له من زياد، وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر غندر عن شعبة بالعنعنة.

(3/554)


باب نحر الإبل قائمة
...
119 - باب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {صَوَافَّ} قِيَامًا
1714 - حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَبَاتَ بِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَجَعَلَ يُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ فَلَمَّا عَلاَ عَلَى الْبَيْدَاءِ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا وَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ"
1715 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ"
قوله: "باب نحر البدن قائمة" في رواية الكشميهني: "قياما".
قوله: "وقال ابن عمر سنة محمد" يشير إلى حديثه في الباب الذي قبله. قوله: "وقال ابن عباس صواف قياما" وهكذا ذكره سفيان بن عيينة في تفسيره عن عبيد الله ابن أبي يزيد عنه في تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قال: قياما، أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة، وأخرجه عبد بن حميد عن أبي نعيم عنه. وقوله: "صواف"بالتشديد جمع صافة أي مصطفة في قيامها. ووقع في "مستدرك الحاكم"من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى "صوافن "أي قياما على ثلاث قوائم معقولة، وهي قراءة ابن مسعو "صوافن" بكسر الفاء بعدها نون جمع صافنة وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. قوله: "حدثنا سهل بن بكار" الإسناد إلى آخره بصريون. قوله: "فبات بها فلما أصبح" في رواية الكشميهني: "فبات بها حتى أصبح". وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الحج، والمراد منه هنا قوله: "ونحر بيده سبع بدن قياما" كذا في رواية أبي ذر وفي رواية كريمة وغيرها سبعة بدن1 فقيل في توجيهها أراد أبعرة فلذا ألحق بها الهاء، والجمع بينه وبين ما قبله واضح، وسيأتي بيان ما نحره وعدده في حديث علي إن شاء الله تعالى قريبا، ويأتي الكلام على حديث التضحية بالكبشين في كتاب الأضاحي. قوله: "وعن أيوب عن رجل عن أنس" المراد به بيان اختلاف إسماعيل بن علية ووهيب على أيوب فيه، فساقه وهيب عنه بإسناد واحد وفصل إسماعيل بعضه فقال: "عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس"
ـــــــ
1 الذي في القسطلاني: وفي رواية غير أبي ذر "سبع بدن" بدون تاء

(3/554)


وقال في بعضه "عن أيوب عن رجل عن أنس" قال الداودي: لو كان كله عند أيوب عن أبي قلابة ما أبهمه. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون إسماعيل شك فيه أو نسيه، ووهيب ثقة فقد جزم بأن جميع الحديث عنه، وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في "باب التسبيح والتحمي" في أوائل الحج.
" تنبيه ": حكى ابن بطال عن المهلب أنه وقع عنده هنا "فلما أهل لنا بهما جميعا" قال ومعناه أمر من أهل بالقران لأنه هو كان مفردا، فمعنى "أهل لنا" أي أباح لنا الإهلال فكان ذلك أمرا وتعليما لهم كيف يهلون، وإلا فما معنى "لنا" في هذا الموضع؟ انتهى. ولم أقف في شيء من الروايات التي اتصلت لنا في هذا الحديث ولا في غيره على ما ذكر. وإنما الذي في أصولنا "فلما علا على البيداء لبى بهما جميعا" ولعله وقع في نسخته "فلما علا على البيداء أهل "وفي أخرى "لبى" فكتبت "لبى" بألف فصارت صورتها "لنا" بنون خفيفة وجمع بينها وبين الرواية الأخرى فصارت "أهل لنا" ولا وجود لذلك في شيء من الطرق.

(3/555)


120 - باب لاَ يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنْ الْهَدْيِ شَيْئًا
1716 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ فَأَمَرَنِي فَقَسَمْتُ لُحُومَهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَسَمْتُ جِلاَلَهَا وَجُلُودَهَا"
1716م - قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى الْبُدْنِ وَلاَ أُعْطِيَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا"
قوله: "باب لا يعطى الجزار من الهدي شيئا" فاعل "يعطي" محذوف أي صاحب الهدي، والجزار منصوب على المفعولية وروي بفتح الطاء والجزار بالرفع. قوله: "أخبرنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن عبد الرحمن" سيأتي في الباب الذي بعده التصريح بالإخبار بين مجاهد وعبد الرحمن وبين عبد الرحمن وعلي. قوله: "وقال سفيان" هو المذكور بالإسناد المذكور وليس معلقا، وقد وصله النسائي قال: "أخبرنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الرحمن هو ابن مهدي حدثنا سفيان"، وعبد الكريم المذكور هو الجزري كما في الرواية التي في الباب بعده. قوله: "فقمت على البدن" أي التي أرصدها للهدي، وفي الرواية الأخرى "أن أقوم على البدن" أي عند نحرها للاحتفاظ بها، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك أي على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك، ولم يقع في هذه الرواية عدد البدن، لكن وقع في الرواية الثالثة أنها مائة بدنة، ولأبي داود من طريق ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين بدنة، وأمرني فنحرت سائرها" وأصح منه ما وقع عند مسلم في حديث جابر الطويل فإن فيه: "ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها" فعرف بذلك أن البدن كانت مائة بدنة وأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر منها ثلاثا وستين ونحر علي الباقي، والجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين ثم أمر

(3/555)


عليا أن ينحر فنحر سبعا وثلاثين مثلا ثم نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وثلاثين، فإن ساغ هذا الجمع وإلا فما في الصحيح أصح. قوله: "ولا أعطي عليها شيئا في جزارتها" وكذا قوله في الرواية التي في الباب بعده: "ولا يعطي في جزارتها شيئا" ظاهرهما أن لا يعطي الجزار شيئا البتة، وليس ذلك المراد بل المراد أن لا يعطي الجزار منها شيئا كما وقع عند مسلم، وظاهره مع ذلك غير مراد بل بين النسائي في روايته من طريق شعيب بن إسحاق عن ابن جريج أن المراد منع عطية الجزار من الهدي عوضا عن أجرته ولفظه: "ولا يعطى في جزارتها منها شيئا" واختلف في الجزارة فقال ابن التين: الجزارة بالكسر اسم للفعل وبالضم اسم للسواقط، فعلى هذا فينبغي أن يقرأ بالكسر وبه صحت الرواية، فإن صحت بالضم جاز أن يكون المراد لا يعطى من بعض الجزور أجرة الجزار. وقال ابن الجوزي وتبعه المحب الطبري: الجزارة بالضم اسم لما يعطى كالعمالة وزنا ومعنى، وقيل: هو بالكسر كالحجامة والخياطة، وجوز غيره الفتح. وقال ابن الأثير: الجزارة بالضم كالعمالة ما يأخذه الجزار من الذبيحة عن أجرته، وأصلها أطراف البعير -الرأس واليدان والرجلان- سميت بذلك لأن الجزار كان يأخذها عن أجرته.

(3/556)


باب من يتصدق بجلود الهدي
...
121 - باب يُتَصَدَّقُ بِجُلُودِ الْهَدْيِ
1717 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا وَلاَ يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا".
قوله: "باب يتصدق بجلود الهدي" أورد فيه حديث علي من رواية ابن جريج عن عبد الكريم الجزري وهو ابن مالك والحسن بن مسلم وهو المكي جميعا عن مجاهد، وساقه بلفظ الحسن بن مسلم، وأما لفظ عبد الكريم فقد أخرجه مسلم من طريق ابن أبي خيثمة زهير بن معاوية عنه نحوه وزاد: "وقال نحن نعطيه من عندنا". قوله: "وأن يقسم بدنه" بسكون الدال المهملة ويجوز ضمها. قوله: "لحومها وجلودها وجلالها" زاد ابن خزيمة من هذا الوجه في روايته: "على المساكين". قوله: "ولا يعطي في جزارتها شيئا" زاد مسلم وابن خزيمة: "ولا يعطي في جزارتها منها شيئا" قال ابن خزيمة: المراد بقوله: "يقسمها كلها" على المساكين إلا ما أمر به من كل بدنة ببضعة فطبخت كما في حديث جابر يعني الطويل عند مسلم كما تقدم التنبيه عليه، قال: والنهي عن إعطاء الجزار المراد به أن لا يعطي منها عن أجرته، وكذا قال البغوي في "شرح السنة" قال: وأما إذا أعطي أجرته كاملة ثم تصدق عليه إذا كان فقيرا كما يتصدق على الفقراء فلا بأس بذلك. وقال غيره: إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة، وأما إعطاؤه صدقة أو هدية أو زيادة على حقه فالقياس الجواز، ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة، قال القرطبي: ولم يرخص في إعطاء الجزار منها في أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير. واستدل به على منع بيع الجلد، قال القرطبي: فيه دليل على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم وإعطائها حكمه، وقد اتفقوا على أن لحمها لا يباع فكذلك الجلود والجلال، وأجازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو وجه عند الشافعية، قالوا: ويصرف ثمنه مصرف الأضحية. واستدل أبو ثور على أنهم اتفقوا على جواز الانتفاع به، وكل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، وعورض باتفاقهم على جواز

(3/556)


الأكل من لحم هدي التطوع، ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه، وسيأتي الكلام على الأكل منها في الباب الذي بعده، وأقوى من ذلك في رد قوله ما أخرجه أحمد في حديث قتادة بن النعمان مرفوعا: "لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي، وتصرفوا وكلوا، واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوا، وإن أطعمتم من لحومها فكلوا إن شئتم".

(3/557)


122 - باب يُتَصَدَّقُ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ
1718 - حدثنا أبو نعيم حدثنا سيف بن أبي سليمان قال سمعت مجاهدا يقول حدثني بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه حدثه قال "أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فأمرني بلحومها فقسمتها ثم أمرني بجلالها فقسمتها ثم بجلودها فقسمتها"
قوله: "باب يتصدق بجلال البدن" أورد فيه حديث علي من طريق أخرى عن مجاهد، وقد تقدم الكلام عليه قبل أبواب في "باب الجلال والبدن". وفي حديث علي من الفوائد سوق الهدي، والوكالة في نحر الهدي، والاستئجار عليه، والقيام عليه وتفرقته والإشراك فيه، وأن من وجب عليه شيء لله فله تخليصه، ونظيره الزرع يعطى عشره ولا يحسب شيئا من نفقته على المساكين.

(3/557)


123 - باب {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج 26-30]

(3/557)


124 – باب مَا يَأْكُلُ مِنْ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ
وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ وَقَالَ عَطَاءٌ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنْ الْمُتْعَةِ
1719 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: كُنَّا لاَ نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاَثِ مِنًى فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كُلُوا وَتَزَوَّدُوا" فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ لاَ
[الحديث 1719 – أطرافه في: 2980, 5434, 5567]
1720 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا

(3/557)


125 - باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ
1721 - حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا هشيم أخبرنا منصور عن عطاء عن بن عباس رضي الله عنهما قال "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه فقال لا حرج لا حرج"
1722 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لاَ حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ لاَ حَرَجَ قَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لاَ حَرَجَ" وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَفَّانُ أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1723 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ لاَ حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ قَالَ لاَ حَرَجَ"
1724 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَحْسَنْتَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ حَتَّى خِلاَفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ"
قوله: "باب الذبح قبل الحلق" أورد فيه حديث السؤال عن الحلق قبل الذبح، ووجه الاستدلال به لما ترجم له أن السؤال عن ذلك دال على أن السائل عرف أن الحكم على عكسه، وقد أورد حديث ابن عباس من طرق ثم حديث أبي موسى، فأما الطريق الأولى لحديث ابن عباس فمن طريق منصور بن زاذان عن عطاء عنه بلفظ: "سئل عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه" والثانية من طريق أبي بكر وهو ابن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن ابن عباس فذكر فيه الزيارة قبل الرمي والحلق قبل الذبح والذبح قبل الرمي وعرف به المراد بقوله في رواية منصور "ونحوه"

(3/559)


والثالثة من رواية ابن خثيم عن عطاء. قوله: "وقال عبد الرحيم بن سليمان عن ابن خثيم"1 وهو عبد الله بن عثمان وهذه الرواية المعلقة وصلها الإسماعيلي من طريق الحسن بن حماد عنه ولفظه: "أن رجلا قال: يا رسول الله، طفت بالبيت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج" وصله الطبراني في "الأوسط" من طريق سعيد بن محمد بن عمرو الأشعثي عن عبد الرحيم. وقال: تفرد به عبد الرحيم عن ابن خثيم. كذا قال، والرواية التي تلي هذه ترد عليه. وعرف بهذا أن مراد البخاري أصل الحديث لا خصوص ما ترجم به من الذبح قبل الحلق. قوله: "وقال القاسم بن يحيى حدثني ابن خثيم" لم أقف على طريقه موصولة. قوله: "وقال عفان أراه عن وهيب حدثنا ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس" القائل "أراه" هو البخاري، فقد أخرجه أحمد عن عفان بدونها ولفظه: "جاء رجل فقال: يا رسول الله، حلقت ولم أنحر. قال: لا حرج فانحر. وجاءه آخر فقال: يا رسول الله، نحرت قبل أن أرمي. قال: فارم ولا حرج" وزعم خلف أن البخاري قال فيه: "حدثنا عفان" والمراد بهذا التعليق بيان الاختلاف فيه على ابن خثيم هل شيخه فيه عطاء أو سعيد بن جبير، كما اختلف فيه على عطاء هل شيخه فيه ابن عباس أو جابر، فالذي يتبين من صنيع البخاري ترجيح كونه عن ابن عباس ثم كونه عن عطاء وأن الذي يخالف ذلك شاذ، وإنما قصد بإيراده بيان الاختلاف. وفي رواية عفان هذه الدلالة على تعدد السائلين عن الأحكام المذكورة. قوله: "وقال حماد" يعني ابن سلمة إلخ. هذه الطريق وصلها النسائي والطحاوي والإسماعيلي وابن حبان من طرق عن حماد بن سلمة به نحو سياق عبد العزيز بن رفيع، والطريق الرابعة من طريق عكرمة عن ابن عباس. قوله: "عبد الأعلى" هو ابن عبد الأعلى وخالد هو الحذاء، وكأن البخاري استظهر به لما وقع في طريق عطاء من الاختلاف، فأراد أن يبين أن لحديث ابن عباس أصلا آخر. وفي طريق عكرمة هذه زيادة حكم الرمي بعد المساء فإن فيه إشعارا بأن الأصل في الرمي أن يكون نهارا، وسيأتي الكلام على حكم هذه المسألة بعد أربعة أبواب. حديث أبي موسى تقدم الكلام عليه في "باب التمتع والقران" ومطابقته للترجمة من قول عمر فيه: "لم يحل حتى بلغ الهدي محله" لأن بلوغ الهدي محله يدل على ذبح الهدي فلو تقدم الحلق عليه لصار متحللا قبل بلوغ الهدي محله، وهذا هو الأصل، وهو تقديم الذبح على الحلق، وأما تأخيره فهو رخصة كما سيأتي. قوله: "ففلت" بفاء التعقيب بعدها فاء ثم لام خفيفة مفتوحتين ثم مثناة أي تتبعت القمل منه.
ـــــــ
1 كذا بنسخ الشرح, وقال مصحح طبعة بولاق: ولعله رواية للشارح

(3/560)


126 - باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَحَلَقَ
1725 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن بن عمر عن حفصة رضي الله عنهم أنها قالت "يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر"
قوله: "باب من لبد رأسه عند الإحرام وحلق" أي بعد ذلك عند الإحلال، قيل أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف فيمن لبد هل يتعين عليه الحلق أو لا؟ فنقل ابن بطال عن الجمهور تعين ذلك حتى عن الشافعي. وقال أهل الرأي

(3/560)


لا يتعين بل إن شاء قصر اهـ، وهذا قول الشافعي في الجديد وليس للأول دليل صريح، وأعلى ما فيه ما سيأتي في اللباس عن عمر "من ضفر رأسه فليحلق" وأورد المصنف في هذا الباب حديث حفصة وفيه: "أني لبدت رأسي" وليس فيه تعرض للحلق إلا أنه معلوم من حاله صلى الله عليه وسلم أنه حلق رأسه في حجه. وقد ورد ذلك صريحا في حديث ابن عمر كما في أول الباب الذي بعده، وأردفه ابن بطال بحديث حفصة فجعله من هذا الباب لمناسبته للترجمة، وقد قلت غير مرة إنه لا يلزمه أن يأتي بجميع ما اشتمل عليه الحديث في الترجمة بل إذا وجدت واحدة كفت، وقد تقدم الكلام على حديث حفصة في "باب التمتع والقران".

(3/561)


127 - باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإِحْلاَلِ
1726 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب بن أبي حمزة قال نافع كان بن عمر رضي الله عنهما يقول "حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته"
[الحديث 1726 – طرفاه في: 4410, 4411]
1727 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ"
1728- -حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَهَا ثَلاَثًا قَالَ وَلِلْمُقَصِّرِينَ"
1729 - حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع أن عبد الله قال "حلق النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم"
1730 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ "قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ"
قوله: "باب الحلق والتقصير عند الإحلال" قال ابن المنير في الحاشية: أفهم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نسك لقوله: "عند الإحلال" وما يصنع عند الإحلال وليس هو نفس التحلل وكأنه استدل على ذلك بدعائه صلى الله عليه وسلم لفاعله والدعاء يشعر بالثواب والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك لأن المباحات لا تتفاضل، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور إلا رواية مضعفة عن الشافعي أنه استباحة محظور، وقد أوهم كلام ابن المنذر أن الشافعي تفرد بها، لكن حكيت أيضا عن عطاء وعن أبي يوسف وهي رواية عن أحمد وعن بعض المالكية، وسيأتي ما فيه بعد بابين. ثم ذكر المصنف في الباب لابن عمر ثلاثة

(3/561)


أحاديث ولأبي هريرة حديثا ولابن عباس حديثا. فالحديث الأول لابن عمر من طريق شعيب بن أبي حمزة قال: قال نافع "كان ابن عمر يقول: حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته" وهذا طرف من حديث طويل أوله "لما نزل الحجاج بابن الزبير" الحديث، نبه على ذلك الإسماعيلي. والحديث الثاني لابن عمر في الدعاء للمحلقين وسيأتي بسطه.
والحديث الثالث لابن عمر من طريق جويرية بن أسماء عن نافع أن عبد الله وهو ابن عمر قال: "حلق النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم" وكأن البخاري لم يقع له على شرطه التصريح بمحل الدعاء للمحلقين فاستنبط من الحديث الأول والثالث أن ذلك كان في حجة الوداع، لأن الأول صرح بأن حلاقه وقع في حجته، والثالث لم يصرح بذلك إلا أنه بين فيه أن بعض الصحابة حلق وبعضهم قصر، وقد أخرجه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: "حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه وقصر بعضهم". وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافع مثل حديث جويرية سواء وزاد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله المحلقين" فأشعر ذلك بأن ذلك وقع في حجة الوداع، وسنذكر البحث فيه مع ابن عبد البر هنا إن شاء الله تعالى.
" تنبيه ": أفاد ابن خزيمة في صحيحه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع متصلا بالمتن المذكور قال: "وزعموا أن الذي حلقه معمر بن عبد الله بن نضلة" وبين أبو مسعود في "الأطراف" أن قائل "وزعموا" ابن جريج الراوي له عن موسى بن عقبة. قوله: "قالوا والمقصرين يا رسول الله" لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد، والواو في قوله: "والمقصرين" معطوفة على شيء محذوف تقديره قل والمقصرين أو قل وارحم المقصرين، وهو يسمى العطف التلقيني. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "والمقصرين" إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت لغير عذر. قوله: "قال والمقصرين" كذا في معظم الروايات عن مالك إعادة ذلك الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة "الموطأ "بإعادة ذلك ثلاث مرات نبه عليه ابن عبد البر في "التقصي" وأغفله في "التمهيد" بل قال فيه: أنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك. وقد راجعت أصل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في "التقصي". قوله: "وقال الليث" وصله مسلم ولفظه: "رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قالوا: والمقصرين، قال: والمقصرين" والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك. قوله: "وقال عبيد الله" بالتصغير وهو العمري، وروايته وصلها مسلم من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه باللفظ الذي علقه البخاري، وأخرجه أيضا عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عنه بلفظ: "رحم الله المحلقين قالوا: والمقصرين" فذكر مثل رواية مالك سواء وزاد: "قال رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين" وبيان أن كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين معطوف على مقدر تقديره يرحم الله المحلقين، وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاث مرات صريحا فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة. وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ: "قال في الثالثة والمقصرين" والجمع بينهما واضح بأن من قال في الرابعة فعلى ما شرحناه، ومن قال في الثالثة أراد أن قوله: "والمقصرين" معطوف على الدعوة الثالثة، أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه ذلك.أخرجه أحمد من طريق أيوب عن نافع بلفظ: " اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: وللمقصرين -حتى قالها ثلاثا أو أربعا- ثم قال: والمقصرين" ورواية من جزم مقدمة على رواية من شك. قوله: "حدثنا عياش بن الوليد"

(3/562)


هو الرقام بالتحتانية والمعجمة، ووقع في رواية ابن السكن بالموحدة والمهملة. وقال أبو علي الجياني: الأول أرجح بل هو الصواب، وكان القابسي يشك عن أبي زيد فيه فيهمل ضبطه فيقول: عباس أو عياش. قلت: لم يخرج البخاري للعباس - بالموحدة والمهملة - ابن الوليد إلا ثلاثة أحاديث نسبه في كل منهما "النرسي" أحدها في علامات النبوة والآخر في المغازي والثالث في الفتن ذكره معلقا قال: "وقال عباس النرسي"، وأما الذي بالتحتانية والمعجمة فأكثر عنه وفي الغالب لا ينسبه والله أعلم. قوله: "قالها ثلاثا" أي قوله: "اللهم اغفر للمحلقين" وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة. "تنبيه": لم أر في حديث أبي هريرة من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه إلا من رواية محمد بن فضيل هذه بهذا الإسناد في جميع ما وقفت عليه من السنن والمسانيد، فهي من أفراده عن عمارة ومن أفراد عمارة عن أبي زرعة، وتابع أبا زرعة عليه عبد الرحمن بن يعقوب أخرجه مسلم من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة، ورواية أبي زرعة أتم. واختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال ابن عبد البر: لم يذكر أحد من رواة نافع عن ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية، وهو تقصير وحذف، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم. ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة" وحديث ابن عباس بلفظ: "حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين" الحديث، وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الماضي ولم يسق لفظه بل قال: "فذكر معناه" وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئا، ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطرق عنه، وقد قدمت في صدر الباب أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يومئ إليه صنيع البخاري، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضا الطحاوي من طريق الأوزاعي وأحمد وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد، وزاد فيه أبو داود أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة من طريق ابن إسحاق "حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه" وهو عند ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان، وأخرجه أحمد من هذا الوجه وزاد في سياقه "عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع" فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع. وأما قول ابن عبد البر "فوهم" فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في "السنن" ومن طريق الطبراني في "الأوسط" ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في "المغازي" وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث، فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم

(3/563)


الحصين: هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع، قال: وهو الصحيح المشهور. وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في "النهاية" ثم قال النووي: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين انتهى. وقال عياض: كان في الموضعين. ولذا قال ابن دقيق العيد أنه الأقرب. قلت: بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، والقصة مشهورة كما ستأتي في مكانها. فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير. وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل فإن في آخره عند ابن ماجة وغيره أنهم "قالوا يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: لأنهم لم يشكوا". وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في "النهاية": كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر انتهى. وفيما قاله نظر وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك. والأولى ما قاله الخطابي وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به، وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. وفي حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه. قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط، فإن شاء حلق وإن شاء قصر. نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر. ثم روي عنه أنه قال: كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة انتهى. وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا للزوم. نعم عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه، وهو قول الثوري والشافعي في القديم والجمهور. وقال في الجديد وفاقا للحنفية: لا يتعين إلا إن نذره أو كان شعره خفيفا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه. وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد، ولا حجة فيه، وفيه أن الحلق أفضل من التقصير، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئا مما يتزين به، بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى. وفيه إشارة إلى التجرد، ومن ثم استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة والله أعلم. وأما قول النووي تبعا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقى على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر ففيه نظر، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتقشف فإنه يحل له عقبة كل شيء إلا النساء في الحج خاصة. واستدل بقوله: "المحلقين" على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة. وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد

(3/564)


واستحبه الكوفيون والشافعي، ويجزئ البعض عندهم، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع، إلا أبا يوسف فقال النصف. وقال الشافعي: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ، هذا للشافعية وهو مرتب عند غيرهم على الحلق، وهذا كله في حق الرجال وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود ولفظه: "ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير" وللترمذي من حديث علي "نهى أن تحلق المرأة رأسها" وقال جمهور الشافعية: لو حلقت أجزأها ويكره. وقال القاضيان أبو الطيب وحسين: لا يجوز، والله أعلم. وفي الحديث أيضا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له، وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحا. قوله: "عن الحسن بن مسلم" في رواية يحيى بن سعيد عن ابن جريج "حدثني الحسن بن مسلم" أخرجه مسلم، والإسناد سوى أبي عاصم مكيون، وفيه رواية صحابي عن صحابي. ومعاوية هو ابن أبي سفيان الخليفة المشهور. قوله: "عن معاوية" في رواية مسلم: "أن معاوية بن أبي سفيان أخبره". قوله: "قصرت" أي أخذت من شعر رأسه، وهو يشعر بأن ذلك كان في نسك، إما في حج أو عمرة، وقد ثبت أنه حلق في حجته فتعين أن يكون في عمرة، ولا سيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة ولفظه: "قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة" أو "رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة" وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة، لكن وقع عند مسلم من طريق أخرى عن طاوس بلفظ: "أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة؟ فقلت له لا أعلم هذه إلا حجة عليك" وبين المراد من ذلك في رواية النسائي فقال بدل قوله: "فقلت له لا إلخ" يقول ابن عباس "وهذه على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة وقد تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولأحمد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال: "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات" الحديث وقال: "وأول من نهى عنها معاوية. قال ابن عباس: فعجبت منه، وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص" انتهى. وهذا يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية "أن هذه حجة عليك" إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة. وأصرح منه ما وقع عند أحمد من طريق قيس بن سعد عن عطاء "أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص معي وهو محرم" وفي كونه في حجة الوداع نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة. وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا وثبت أنه حلق بمنى وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له "ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر" . قلت: ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن

(3/565)


يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظروه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره: "فعلناها - يعني العمرة - في أشهر الحج وهذا يومئذ كافر بالعرش" بضمتين يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه. ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس. وكذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعد معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة. وأخرج الحاكم في "الإكليل" في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولا وكان الحلاق غائبا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية وثبت أنه صلى الله عليه وسلم - حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله علي به في هذا الفتح ولله الحمد ثم لله الحمد أبدا. قال صاحب "الهدي" الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن نفسه بقوله: "فلا أحل حتى أنحر" وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره، ثم قال: ولعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته انتهى. ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشر، إلا أنها شاذة، وقد قال قيس بن سعد عقبها: والناس ينكرون ذلك انتهى. وأظن قيسا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون في قول معاوية "قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص" حذف تقديره قصرت أنا شعري عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ويعكر عليه قوله في رواية أحمد "قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة" أخرجه من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس. وقال ابن حزم يحتمل أن يكون معاوية قصر عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شعر لم يكن الحلاق استوفاه يوم النحر، وتعقبه صاحب "الهدي" بأن الحالق لا يبقى شعرا يقصر منه، ولا سيما وقد قسم صلى الله عليه وسلم شعره بين الصحابة الشعرة والشعرتين، وأيضا فهو صلى الله عليه وسلم لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيا واحدا في أول ما قدم فماذا يصنع عند المروة في العشر. قلت: وفي رواية العشر نظر كما تقدم، وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري وابن القيم، وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة، واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد. قوله: "بمشقص" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة، قال القزاز: هو نصل عريض يرمى به الوحش. وقال صاحب "المحكم" : هو الطويل من النصال وليس بعريض. وكذا قال أبو عبيد والله أعلم.

(3/566)


128 - باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ
1731 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا".
قوله: "باب تقصير المتمتع بعد العمرة" أي عند الإحلال منها. قوله: "حدثنا محمد بن أبي بكر" هو المقدمي، وفضيل شيخه بالتصغير. قوله: "ثم يحلوا ويحلقوا أو يقصروا" فيه التخيير بين الحلق والتقصير للمتمتع، وهو على التفصيل الذي قدمناه إن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحلق وإلا فالتقصير ليقع له الحلق في الحج.
والله أعلم.

(3/567)


129 - باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ
وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ"
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى"
1732 - وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا ثُمَّ يَقِيلُ ثُمَّ يَأْتِي مِنًى" يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ
1733 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا حَائِضٌ قَالَ: " حَابِسَتُنَا هِيَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ اخْرُجُوا"
وَيُذْكَرُ عَنْ الْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَالأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَفَاضَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ"
قوله: "باب الزيارة يوم النحر" أي زيارة الحاج البيت للطواف به، وهو طواف الإفاضة، ويسمى أيضا طواف الصدر وطواف الركن. قوله: "وقال أبو الزبير إلخ" وصله أبو داود والترمذي وأحمد من طريق سفيان وهو الثوري عن أبي الزبير به، قال ابن القطان الفاسي: هذا الحديث مخالف لما رواه ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف يوم النحر نهارا انتهى. فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك، فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام. قوله: "ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى" وصله الطبراني من طريق قتادة عنه. وقال ابن المديني في "العلل" روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام ولم اسمعه منه عن أبيه عن قتادة حدثني أبو حسان عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى" وقال الأثرم قلت لأحمد تحفظ عن قتادة؟ فذكر هذا الحديث فقال: كتبوه من كتاب معاذ، قلت:

(3/567)


فإن هنا إنسانا يزعم أنه سمعه من معاذ، فأنكر ذلك. وأشار الأثرم بذلك إلى إبراهيم بن محمد بن عرعرة فإن من طريقه أخرجه الطبراني بهذا الإسناد، وأبو حسان اسمه مسلم بن عبد الله قد أخرج له مسلم حديثا غير هذا عن ابن عباس وليس هو من شرط البخاري. ولرواية أبي حسان هذه شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة "حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة". قوله: "وقال لنا أبو نعيم إلخ" ثم قال: "رفعه عبد الرزاق حدثنا عبيد الله" وصله ابن خزيمة والإسماعيلي من طريق عبد الرزاق بلفظ أبي نعيم وزاد في آخره: "ويذكر -أي ابن عمر- أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله" وفيه التنصيص على الرجوع إلى منى بعد القيلولة في يوم النحر، ومقتضاه أن يكون خرج منها إلى مكة لأجل الطواف قبل ذلك. ثم ذكر المصنف حديث أبي سلمة أن عائشة قالت: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضنا يوم النحر" أي طفنا طواف الإفاضة، وهو مطابق للترجمة، وذكر فيه قصة صفية وسيأتي الكلام عليه في "باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت" قريبا. قوله: "ويذكر عن القاسم وعروة والأسود عن عائشة أفاضت صفية يوم النحر" وغرضه بهذا أن أبا سلمة لم ينفرد عن عائشة بذلك، وإنما لم يجزم لأن بعضهم أورده بالمعنى كما نبينه، أما طريق القاسم فهي عند مسلم من طريق أفلح بن حميد عنه عن عائشة قالت: "كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحابستنا صفية؟ قلنا: قد أفاضت. قال: فلا إذا" ورواه أحمد من وجه آخر عن القاسم عنها "أن صفية حاضت بمنى وكانت قد أفاضت" الحديث. وأما طريق عروة فرواه المصنف في المغازي من طريق شعيب عن الزهري عنه عن عائشة "أن صفية حاضت بعدما أفاضت" وأخرجه الطحاوي عقب رواية الأسود عن عائشة بلفظ: "أكنت أفضت يوم النحر؟ قالت. نعم " أخرجه من طريق يونس عن الزهري به وقال نحوه، وأما طريق الأسود فوصلها المصنف في "باب الإدلاج من المحصب" بلفظ: "حاضت صفية" الحديث وفيه: " أطافت يوم النحر؟ فقيل نعم".

(3/568)


130 - باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِياً أَوْ جَاهِلاً
1734 - حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا بن طاوس عن أبيه عن بن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال لا حرج"
1735 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج فسأله رجل فقال حلقت قبل أن أذبح قال اذبح ولا حرج وقال رميت بعد ما أمسيت فقال لا حرج"
قوله: "باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا" أورد فيه حديث ابن عباس في ذلك، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده، ولم يبين الحكم في الترجمة إشارة منه إلى أن الحكم برفع الحرج مقيد بالجاهل أو الناسي فيحتمل اختصاصهما بذلك، أو إلى أن نفي الحرج لا يستلزم رفع وجوب القضاء أو الكفارة، وهذه المسألة مما وقع فيها الاختلاف بين العلماء كما سنبينه إن شاء الله تعالى، وكأنه أشار بلفظ النسيان والجهل إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كما يأتي بيانه أيضا في الباب الذي يليه وأما قوله: "إذا رمى بعدما أمسى" فمنتزع من

(3/568)


حديث ابن عباس في الباب قال: "رميت بعدما أمسيت" أي بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل.

(3/569)


131 - باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ
1736 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلاَ حَرَجَ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
1737 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ "أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
1738 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ" تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
قوله: "باب الفتيا على الدابة عند الجمرة" هذه الترجمة تقدمت في كتاب العلم لكن بلفظ: "باب الفتيا وهو واقف على الدابة أو غيرها" ثم قال بعد أبواب كثيرة "باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار" وأورد في كل من الترجمتين حديث عبد الله بن عمرو المذكور في هذا الباب، ومثل هذا لا يقع له إلا نادرا، وقد اعترض عليه الإسماعيلي بأنه ليس في شيء من الروايات عن مالك أنه كان على دابة، بل في رواية يحيى القطان عنه أنه جلس في حجة الوداع فقام رجل، ثم قال الإسماعيلي: فإن ثبت في شيء من الطرق أنه كان على دابة فيحمل قوله: "جلس" على أنه ركبها وجلس عليها قلت: وهذا هو المتعين، فقد أورد هو رواية صالح بن كيسان بلفظ: "وقف على راحلته" وهي بمعنى جلس، والدابة تطلق على المركوب من ناقة وفرس وبغل وحمار، فإذا ثبت في الراحلة كان الحكم في البقية كذلك. ثم قال الإسماعيلي: إن صالح بن كيسان تفرد بقوله: "وقف على راحلته" وليس كما قال، فقد ذكر ذلك أيضا يونس عند مسلم ومعمر عند أحمد والنسائي كلاهما عن الزهري، وقد أشار المصنف إلى ذلك بقوله: "تابعه معمر" أي في قوله: "وقف على راحلته" ثم أورد المصنف حديث عبد الله بن عمرو وهو ابن العاصي كما في الطريق الثانية، بخلاف ما وقع في بعض نسخ العمدة وشرح عليه ابن دقيق العيد ومن تبعه على أنه ابن عمر بضم العين أي ابن الخطاب، وأورده

(3/569)


المصنف من أربعة طرق عن الزهري عن عيسى بن طلحة، وطلحة هو ابن عبيد الله أحد العشرة عن عبد الله، ولم أره من حديثه إلا بهذا الإسناد، وقد اختلف أصحاب الزهري عليه في سياقه، وأتمهم عنه سياقا صالح بن كيسان وهي الطريق الثالثة، ولم يسق المصنف لفظها، وهي عند أحمد في مسنده عن يعقوب وفيه زيادة على سياق ابن جريج ومالك، وقد تابعه يونس عن الزهري عند مسلم بزيادة أيضا سنبينها. قوله: "مالك عن ابن شهاب" كذا في "الموطأ"، وعند النسائي من طريق يحيى وهو القطان عن مالك "حدثني الزهري". قوله: "عن عيسى" في رواية صالح "حدثني عيسى". قوله: "وقف في حجة الوداع" لم يعين المكان ولا اليوم، لكن تقدم في كتاب العلم عن إسماعيل عن مالك "بمنى" وكذا في رواية معمر، وفيه من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري "عند الجمرة" وفي رواية ابن جريج وهي الطريق الثانية هنا "يخطب يوم النحر" وفي رواية صالح ومعمر كما تقدم "على راحلته" قال عياض: جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد على أن معنى خطب أي علم الناس لا أنها من خطب الحج المشروعة، قال: ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب، والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام فيها الناس ما بقي عليهم من مناسكهم. وصوب النووي هذا الاحتمال الثاني. فإن قيل لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين الذي قبله فإنه ليس في شيء من طرق الحديثين -حديث ابن عباس وحديث عبد الله بن عمرو- بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار، قلت: نعم لم يقع التصريح بذلك، لكن في رواية ابن عباس "أن بعض السائلين قال رميت بعدما أمسيت" وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك، على أن حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد لا يعرف له طريق إلا طريق الزهري هذه عن عيسى عنه، الاختلاف فيه من أصحاب الزهري، وغايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، واجتمع من مرويهم ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعين أنها الخطبة التي شرعت لتعليم بقية المناسك، فليس قوله خطب مجازا عن مجرد التعليم بل حقيقة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها فسيأتي في آخر الباب الذي يليه من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى. قوله: "فقال رجل" لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد، ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وسأبين أنهم كانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره كان الأعراب يسألونه، وكأن هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم. قوله: "لم أشعر" أي لم أفطن، يقال شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له، وقيل الشعور العلم، ولم يفصح في رواية مالك بمتعلق الشعور، وقد بينه يونس عند مسلم ولفظه: "لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي" وقال آخر "لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر" وفي رواية ابن جريج: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، وقد تبين ذلك في رواية يونس، عند مسلم ولفظه "لم

(3/570)


أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي" وقال آخر "لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر" وفي رواية بن جريج كنت أحسب أن كذا قبل كذا وقد تبين ذلك في رواية يونس وزاد في رواية ابن جريج: وأشباه ذلك. ووقع في رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم: "حلقت قبل أن أرمي" وقال آخر "أفضت إلى البيت قبل أن أرمي" وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضا، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإفاضة قبل الرمي، والأوليان في حديث ابن عباس أيضا كما مضى، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس أيضا السؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر وفي حديث أبي سعيد عند الطحاوي، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق، وفي حديث جابر الذي علقه المصنف فيما مضى ووصله ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السؤال عن السعي قبل الطواف. قوله: "اذبح ولا حرج" أي لا ضيق عليك في ذلك، وقد تقدم في "باب الذبح قبل الحلق" تقرير ترتيبه، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة. وفي حديث أنس في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى فنحر. وقال للحالق خذ" ولأبي داود "رمى ثم نحر ثم حلق" وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، إلا أن ابن الجهم المالكي استثنى القارن فقال: لا يحلق حتى يطوف، كأنه لاحظ أنه في عمل العمرة والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف، ورد عليه النووي بالإجماع، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك. واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض فأجمعوا على الإجزاء في ذلك كما قاله ابن قدامة في "المغني" إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع. وقال القرطبي: روي عن ابن عباس ولم يثبت عنه أن من قدم شيئا على شيء فعليه دم، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي انتهى. وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر، فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع كما سيأتي. قال: وذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل "لا حرج" فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا، لأن اسم الضيق يشملهما. قال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، قال: إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: "لا حرج" أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية، وتعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم حينئذ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره. وقال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئ لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه في الحج، كما لو ترك الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه جاهلا أو ناسيا لكن يجب عليه الإعادة. والعجب ممن يحمل قوله: " ولا حرج" على نفي الإثم فقط ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض من تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج. وأما احتجاج النخعي ومن تبعه في تقديم الحلق على غيره بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} قال: فمن حلق قبل الذبح إهراق دما عنه رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح، فقد أجيب بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه فيه وقد حصل،

(3/571)


وإنما يتم ما أراد أن لو قال ولا تحلقوا حتى تنحروا. واحتج الطحاوي أيضا بقول ابن عباس: من قدم شيئا من نسكه أو أخره فليهرق لذلك دما، قال وهو أحد من روى أن لا حرج، فدل على أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط. وأجيب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف، فإن ابن أبي شيبة أخرجها وفيها إبراهيم بن مهاجر وفيه مقال، وعلى تقدير الصحة فيلزم من يأخذ بقول ابن عباس أن يوجب الدم في كل شيء من الأربعة المذكورة ولا يخصه بالحلق قبل الذبح أو قبل الرمي. وقال ابن دقيق العيد: منع مالك وأبو حنيفة تقديم الحلق على الرمي والذبح لأنه حينئذ يكون حلقا قبل وجود التحللين، وللشافعي قول مثله، وقد بني القولان له على أن الحلق نسك أو استباحة محظور؟ فإن قلنا إنه نسك جاز تقديمه على الرمي وغيره لأنه يكون من أسباب التحلل، وإن قلنا إنه استباحة محظور فلا، قال: وفي هذا البناء نظر، لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل، لأن النسك ما يتاب عليه، وهذا مالك يرى أن الحلق نسك ويرى أنه لا يقدم على الرمي مع ذلك. وقال الأوزاعي: إن أفاض قبل الرمي إهراق دما. وقال عياض: اختلف عن مالك في تقديم الطواف على الرمي. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجب عليه إعادة الطواف، فإن توجه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم. قال ابن بطال: وهذا يخالف حديث ابن عباس، وكأنه لم يبلغه انتهى. قلت: وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث عبد الله بن عمرو، وكأن مالكا لم يحفظ ذلك عن الزهري. قوله: "فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر" في رواية يونس عند مسلم وصالح عند أحمد "فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض أو أشباهها إلا قال: افعلوا ذلك ولا حرج" واحتج به وبقوله في رواية مالك "لم أشعر" بأن الرخصة تختص بمن نسي أو جهل لا بمن تعمد، قال صاحب "المغني" قال الأثرم عن أحمد: إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه، وإن كان عالما فلا لقوله في الحديث: "لم أشعر". وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبا لما سقط بالسهو، كالترتيب بين السعي والطواف فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي، وأما ما وقع في حديث أسامة بن شريك فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن، ولم يقل بظاهر حديث أسامة إلا أحمد وعطاء فقالا: لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه، أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه. وقال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول في الحج بقوله: "خذوا عني مناسككم" وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. وأيضا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز إطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة، وقد علق به الحكم فلا يمكن إطراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي "فما سئل عن شيء إلخ" فإنه يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين سنة فلا يبقى حجة في حال العمد والله أعلم. قوله: "عن عبد الله" في رواية صالح "أنه سمع عبد الله". وفي رواية ابن جريج وهي الثانية "إن عبد الله حدثه". قوله: "حدثنا سعيد بن يحيى حدثنا أبي" هو يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي الأموي. قوله في رواية ابن جريج "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهن كلهن: افعل ولا حرج" قال الكرماني: اللام في قوله: "لهن" متعلقة بقال، أي قال لأجل هذه الأفعال، أو بمحذوف أي قال يوم النحر لأجلهن أو بقوله: "لا حرج" أي لا حرج لأجلهن انتهى. ويحتمل أن تكون اللام بمعنى عن أي قال

(3/572)


عنهن كلهن. "تكميل": قال ابن التين هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك لأنه خرج جوابا للسؤال ولا يدخل فيه غيره انتهى. وكأنه غفل عن قوله في بقية الحديث: "فما سئل عن شيء قدم ولا أخر" وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر، لكن قوله في رواية ابن جريج "وأشباه ذلك" يرد عليه، وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور، وبقيت عدة صور لم تذكرها الرواة إما اختصارا وإما لكونها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة، منها صورة الترتيب المتفق عليها والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد جواز القعود على الراحلة للحاجة، ووجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لكون الذين خالفوها لما علموا سألوه عن حكم ذلك، واستدل به البخاري على أن من حلف على شيء ففعله ناسيا أن لا شيء عليه كما سيأتي في الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. قوله في الطريق الثالثة "حدثني إسحاق" كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن السكن فقال: "إسحاق بن منصور" وأورده أبو نعيم في "المستخرج" من "مسند إسحاق بن راهويه" وهو المترجح عندي لتعبيره بقوله: "أخبرنا يعقوب" لأن إسحاق بن راهويه لا يحدث عن مشايخه إلا بلفظ الإخبار بخلاف إسحاق بن منصور فيقول: "حدثنا". قوله: "وقف النبي" في رواية ابن جريج "أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "تابعه معمر عن الزهري" قد سبق أن أحمد وصله.

(3/573)


132 - باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى
1739 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ "فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
[الحديث 1739 – طرفه في: 7079]
1740 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ تَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو
[الحديث 1740 – أطرافه في: 1812, 1841, 1843, 5804, 5853]
1741 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا

(3/573)


اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ, فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ, فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ, فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
1742 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قال النبي صلى الله عليه وسلم بِمِنًى: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ وَوَدَّعَ النَّاسَ فَقَالُوا هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ"
[الحديث 1742 – أطرافه في: 4403, 6043, 6166, 6785, 6868, 2077]
قوله: "باب الخطبة أيام منى" أي مشروعيتها خلافا لمن قال إنها لا تشرع وأحاديث الباب صريحة في ذلك إلا حديث جابر بن زيد عن ابن عباس وهو ثاني أحاديث الباب، فإن فيه التقييد بالخطبة بعرفات، وقد أجاب عنه ابن المنير كما سيأتي. وأيام منى أربعة يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وليس في شيء من أحاديث الباب التصريح بغير يوم النحر وهو الموجود في أكثر الأحاديث كحديث الهرماس بن زياد وأبي أمامة كلاهما عند أبي داود، وحديث جابر بن عبد الله عند أحمد "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أي يوم أعظم حرمة" الحديث، وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو وفيه ذكر الخطبة يوم النحر، وأما قوله في حديث ابن عمر أنه قال ذلك بمنى فهو مطلق فيحمل على المقيد فيتعين يوم النحر، فلعل المصنف أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب كما عند أحمد من طريق أبي حرة الرقاشي عن عمه فقال: "كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عن الناس" فذكر نحو حديث أبي بكرة، فقوله: "في أوسط أيام التشريق" يدل أيضا على وقوع ذلك أيضا في اليوم الثاني أو الثالث. وفي حديث سراء بنت نبهان عند أبي داود "خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس فقال: أي يوم هذا؟ أليس أوسط أيام التشريق". وفي الباب عن كعب بن عاصم عند الدارقطني، وعن ابن أبي نجيح عن رجلين من بني بكر عند أبي داود، وعن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد، قال ابن المنير في الحاشية: أراد البخاري الرد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور في هذا الحديث من قبيل الوصايا العامة لا على أنه من شعار الحج، فأراد البخاري أن يبين أن الراوي قد سماها خطبة كما سمى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتفقوا على مشروعية الخطبة بعرفات فكأنه الحق المختلف فيه بالمتفق عليه انتهى والله أعلم. وسنذكر نقل الاختلاف في

(3/574)


مشروعية الخطبة يوم النحر في آخر الباب. وعلي بن عبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المديني ويحيى بن سعيد هو القطان وفضيل بالتصغير وغزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي. قوله: "فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام" كذا في حديث ابن عباس هذا، وفي حديث أبي بكرة ثالث أحاديث الباب: " أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى " وحديث ابن عمر المذكور بعده نحو إلا أنه ليس فيه: "فسكت إلخ" بل فيه بعد قولهم أعلم "قال هذا يوم حرام" فقيل في الجمع بين الحديثين: لعلهما واقعتان، وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة وفد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما إن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت، وقيل في الجمع إنهم فوضوا أولا كلهم بقولهم الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض، وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين، فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليس في الأول لقوله فيه: "أتدرون" سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن ذلك، أشار إلى ذلك الكرماني. وقيل: في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة وابن عمر، فكأنه أطلق قولهم يوم حرام باعتبار أنهم قرروا ذلك بقولهم بلى، وسكت في رواية ابن عمر عن ذكر جوابهم، وهذا جمع حسن، وقد تقدم الكلام في هذا باختصار في كتاب العلم في "باب قوله رب مبلغ أوعى من سامع". قوله: " يوم حرام" أي يحرم فيه القتال، وكذلك الشهر وكذلك البلد، وسيأتي الكلام على قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا" في كتاب الفتن مستوعبا إن شاء الله تعالى. قوله: "فأعادها مرارا" لم أقف على عددها صريحا ويشبه أن يكون ثلاثا كعادته صلى الله عليه وسلم. قوله: "ثم رفع رأسه" زاد الإسماعيلي من هذا الوجه "إلى السماء". قوله: "قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته" يريد بذلك الكلام الأخير وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فليبلغ الشاهد الغائب " إلى آخر الحديث، وقد رواه أحمد بن حنبل عن عبد الله بن نمير عن فضيل بإسناد الباب بلفظ: "ثم قال ألا فليبلغ إلخ" وهو يوضح ما قلناه والله أعلم. قوله: "إلى أمته" في رواية أحمد عن ابن نمير "أنها لوصيته إلى ربه" وكذلك رواه عمرو بن علي الفلاس والمقدمي عن يحيى بن سعيد أخرجه أبو نعيم من طريقهما.
" تنبيه ": لستة أيام متوالية من أيام ذي الحجة أسماء: الثامن يوم التروية، والتاسع عرفة، والعاشر النحر، والحادي عشر القر، والثاني عشر النفر الأول، والثالث عشر النفر الثاني. وذكر مكي بن أبي طالب أن السابع يسمى يوم الزينة وأنكره النووي. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن دينار. و قوله: "يخطب بعرفات" هو طرف من حديث سيأتي في "باب لبس الخفين للمحرم" عن أبي الوليد عن شعبة بهذا الإسناد وبعده متصلا "يخطب بعرفات بقوله: من لم يجد النعلين فليلبس الخفين" الحديث وذكره بعده بباب عن آدم عن شعبة بلفظ: "خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: من لم يجد" فذكر الحديث. قوله: "تابعه ابن عيينة عن عمرو" أي أن سفيان بن عيينة تابع شعبة في رواية هذا الحديث، والمراد به أصل الحديث، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن سفيان بن عيينة ولفظه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: من لم يجد" فذكره فلم يعين موضع الخطبة، وكذلك رواه الحميدي وابن أبي شيبة وغيرهما عن سفيان، وهو عند مسلم وغيره من طريق سفيان كذلك. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وقرة هو ابن خالد، وحميد بن عبد الرحمن هو الحميري، وإنما كان عند ابن سيرين أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة لأنه دخل في الولايات وكان حميد زاهدا. قوله: "أليس يوم النحر" بنصب يوم

(3/575)


على أنه خبر ليس والتقدير أليس اليوم يوم النحر، ويجوز الرفع على أنه اسم ليس والتقدير أليس يوم النحر هذا اليوم والأول أوضح، لكن يؤيد هذا الثاني قوله: " أليس ذو الحجة" أي أليس ذو الحجة هذا الشهر. قوله: "بالبلدة الحرام" كذا فيه بتأنيث البلد وتذكير الحرام وذلك أن لفظ الحرام اضمحل منه معنى الوصفية وصار اسما، قال الخطابي: يقال إن البلدة اسم خاص بمكة وهي المرادة بقوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} وقال الطيبي: المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستجمعة للكمال، كما أن الكعبة تسمى البيت ويطلق عليها ذلك. وقد اختصرت ذلك من كلام طويل للتوربشتي. قوله: " إلى يوم تلقون" بفتح يوم وكسره مع التنوين وعدمه، وترك التنوين مع الكسر هو الذي ثبتت به الرواية. قوله: "اللهم اشهد" تقدم أنه أعاد ذلك في حديث ابن عباس، وإنما قال ذلك لأنه كان فرضا عليه أن يبلغ، فأشهد الله على أنه أدى ما أوجبه عليه. "والمبلغ" بفتح اللام أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله له، قال المهلب: فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن "رب "موضوعة للتقليل. قلت: هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلبت على الاستعمال الأول، لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية أخرى تقدمت في العلم بلفظ: " عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه " وفي الحديث دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به، ويجوز وصفه بكونه من أهل العلم بذلك. وفي الحديث من الفوائد أيضا وجوب تبليغ العلم على الكفاية، وقد يتعين في حق بعض الناس، وفيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه، وفيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد لأن المخاطبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وإنما قدم السؤال عنها تذكارا لحرمتها وتقريرا لما ثبت في نفوسهم ليبني عليه ما أراد تقريره على سبيل التأكيد. قوله: "عن أبيه" هو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر فروايته عن جده. قوله: "أفتدرون" في رواية الإسماعيلي عن القاسم المطرز عن محمد بن المثنى شيخ البخاري قال: "أو تدرون" قوله: "وقال هشام بن الغاز" بالغين المعجمة وآخره زاي خفيفة، وقد وصله ابن ماجة قال: "حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا هشام" وأخرجه الطبراني عن أحمد بن المعلى، والإسماعيلي عن جعفر الفريابي كلاهما عن هشام بن عمار، وعن جعفر الفريابي عن دحيم عن الوليد بن مسلم عن هشام بن الغاز، ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود. قوله: "بين الجمرات" بفتح الجيم والميم فيه تعيين البقعة التي وقف فيها، كما أن في الرواية التي قبلها تعيين المكان، كما أن في حديثي ابن عباس وأبي بكرة تعيين اليوم، ووقع تعيين الوقت من اليوم في رواية رافع بن عمر والمزني عند أبي داود والنسائي ولفظه: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى" الحديث. قوله: "في الحجة التي حج" هذا هو المعروف عند من ذكر أولا، ووقع في رواية الكشميهني: "في حجته التي حج" وللطبراني "في حجة الوداع". قوله: "بهذا" أي بالحديث الذي تقدم من طريق محمد بن زيد عن جده، وأراد المصنف بذلك أصل الحديث وأصل معناه لكن السياق مختلف فإن في طريق محمد بن زيد أنهم أجابوا بقولهم "الله ورسوله أعلم" وفي هذا عند ابن ماجة وغيره في أجوبتهم قالوا: يوم النحر، قالوا: بلد حرام، قالوا: شهر حرام. ويجمع بينهما بنحو ما تقدم وهو أنهم أجابوا أولا بالتفويض فلما سكت أجابوا بالمطلوب. وأغرب الكرماني فقال: قوله: "بهذا"

(3/576)


أي وقف متلبسا بهذا الكلام. قوله: "وقال هذا يوم الحج الأكبر" فيه دليل لمن يقول إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر وسيأتي البحث فيه في أول تفسير سورة براءة إن شاء الله تعالى. قوله: "فطفق" في رواية ابن ماجة وغيره بين قوله: "يوم الحج الأكبر" وبين قوله: "فطفق" من الزيادة "ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا اليوم" وقد وقع معنى ذلك في طريق محمد بن زيد أيضا. قوله: "فودع الناس" وقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك ولفظه: "أنزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب، فوقف بالعقبة واجتمع الناس إليه فقال: يا أيها الناس" فذكر الحديث، وفي هذه الأحاديث دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر، وبه أخذ الشافعي ومن تبعه، وخالف ذلك المالكية والحنفية قالوا: خطب الحج ثلاثة، سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر بمنى. ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر وقال: إن بالناس حاجة إليها ليتعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف. وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج. وقال ابن القصار: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه خطب، قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة اهـ. وأجيب بأنه نبه صلى الله عليه وسلم في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم شهر ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل كان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب، وقد بين الزهري -وهو عالم أهل زمانه- أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر، وأن ذلك من عمل الأمراء، يعني من بني أمية. قال ابن أبي شيبة: "حدثنا وكيع عن سفيان هو الثوري عن ابن جريج عن الزهري قال: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فشغل الأمراء فأخروه إلى الغد" وهذا وإن كان مرسلا لكنه يعتضد بما سبق، وبان به أن السنة الخطبة يوم النحر لا ثانيه، وأما قول الطحاوي إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل فلا ينفي قوع ذلك أو شيئا منه في نفس الأمر، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم في الباب قبله أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو، وثبت أيضا في بعض طرق أحاديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس حينئذ "خذوا عني مناسككم" فكأنه وعظهم بما وعظهم به وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله. ومما يرد به على تأويل الطحاوي ما أخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو على ناقته بعرفات: أتدرون أي يوم هذا" الحديث، ونحوه للطبراني في الكبير من حديث ابن عباس. وأخرج أحمد من حديث نبيط بن شريط أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة على بعير أحمر يخطب "فسمعته يقول: أي يوم أحرم؟ قالوا: هذا اليوم. قال فأي بلد أحرم "

(3/577)


الحديث، ونحوه لأحمد من حديث العداء بن خالد، فهذا الحديث -الذي وقع في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم خطب به يوم النحر- قد ثبت أنه خطب به قبل ذلك يوم عرفة، وأما الأحاديث التي وردت عن الصحابة بتصريحهم أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر غير ما تقدم، فمنها حديث الهرماس بن زياد أخرجه أبو داود ولفظه: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته الجدعاء يوم الأضحى" وحديث أبي إمامة "سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر" أخرجه عبد الرحمن، وحديث معاذ "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى" أخرجه1 وحديث رافع بن عمرو "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى "أخرجه2 وأخرج من مرسل مسروق "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر" والله أعلم.
ـــــــ
1 بياض بالأصل
2 بياض بالأصل وعبارة القسطلاني تفيد أن الذي أخرج حديث رافع بن عمرو هو أبو داود والنسائي

(3/578)


133 - باب هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى
1743 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
1744 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ"
1745 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ" تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ وَأَبُو ضَمْرَةَ
قوله: "باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى" مقصوده بالغير من كان له عذر من مرض أو شغل كالحطابين والرعاء. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا اقتصر عليه وأحال به على ما بعده، ولفظه عند الإسماعيلي من طريق إبراهيم بن موسى عن عيسى بن يونس المذكور في الإسناد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته". قوله في طريق ابن جريج "أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن" كذا اقتصر عليه أيضا وأحال به على ما بعده، ولفظه عند أحمد في مسنده عن محمد بن بكر المذكور في الإسناد "أذن للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية". قوله: "تابعه أبو أسامة" أي تابع ابن نمير، وصله مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة قال حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله ولفظه مثل رواية ابن نمير. قوله: "وعقبة بن خالد" وصله عثمان بن أبي شيبة في مسنده عنه. قوله: "وأبو ضمرة" يعني أنس بن عياض، وقد تقدم في "باب سقاية الحاج" في أثناء أبواب الطواف ولفظه مثل رواية ابن نمير، والنكتة في استظهار البخاري بهذه المتابعات بعد إيراده له من ثلاثة طرق لشك وقع في رواية يحيى بن سعيد القطان في وصله،

(3/578)


فقد أخرجه أحمد عن يحيى عن عبيد الله عن نافع قال: ولا أعلمه إلا عن ابن عمر، قال الإسماعيلي: وقد وصله أيضا بغير شك موسى بن عقبة والدراوردي وعلي بن مسهر ومحمد بن فليح وغيرهم كلهم عن عبيد الله وأرسله ابن المبارك عن عبيد الله. قلت: الظاهر أن عبيد الله كان ربما شك في وصله بدليل رواية يحيى القطان، وكأنه كان في أكثر أحواله يجزم بوصله بدليل رواية الجماعة، وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور، وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد وهو مذهب الحنفية أنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم؟ فقيل يختص الحكم بالعباس وهو جمود، وقيل يدخل معه آله، وقيل قومه وهم بنو هاشم، وقيل كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك. ثم قيل أيضا يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو عملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم من عممه وهو الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين، وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره؟ محل احتمال. وجزم الشافعية بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعاهده بأهل السقاية، كما جزم الجمهور بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد واختاره ابن المنذر، أعني الاختصاص بأهل السقاية والرعاء لإبل، والمعروف عن أحمد اختصاص العباس بذلك وعليه اقتصر صاحب المغني. وقال المالكية: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء، قالوا: وهن ترك المبيت بغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة. وقال الشافعي: عن كل ليلة إطعام مسكين، وقيل عنه التصدق بدرهم وعن الثلاث دم وهي رواية عن أحمد، والمشهور عنه وعن الحنفية لا شيء عليه، وقد تقدم الكلام على سقاية العباس في الباب المشار إليه في أول الكلام على هذا الباب. وفي الحديث أيضا استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام وبدار من استؤمر إلى الأذن عند ظهور المصلحة. والمراد بأيام منى ليلة الحادي عشر واللتين بعده، ووقع في رواية روح عن ابن جريج عند أحمد أن مبيت تلك الليلة بمنى، وكأنه عنى ليلة الحادي عشر لأنها تعقب يوم الإفاضة، وأكثر الناس يفيضون يوم النحر ثم في الذي يليه وهو الحادي عشر. والله أعلم.

(3/579)


134 - باب رَمْيِ الْجِمَارِ
وَقَالَ جَابِرٌ رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ
1746 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ "سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ قَالَ إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ قَالَ كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا"
قوله: "باب رمي الجمار" أي وقت رميها أو حكم الرمي، وقد اختلف فيه: فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم، وعند المالكية سنة مؤكدة فيجبر، وعندهم رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه، ومقابله قول بعضهم إنها إنما تشرع حفظا للتكبير فإن تركه وكبر أجزأه حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها. قوله: "وقال جابر رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى. الحديث" وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج "أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ضحى يوم النحر وحده، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس"

(3/579)


ورواه الدارمي عن عبيد الله بن موسى عن ابن جريج بلفظ التعليق، لكن قال: "وبعد ذلك عند زوال الشمس" ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عيسى بن يونس عن ابن جريج "أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا" فذكره. قوله: "عن وبرة" بفتح الواو والموحدة، هو ابن عبد الرحمن المسلي بضم الميم وسكون المهملة بعدها لام كوفي ثقة، رجال الإسناد إلى ابن عمر كوفيون. قوله: "متى أرمي الجمار" يعني في غير يوم الأضحى. قوله: "فارمه" بهاء ساكنة للسكت، وقوله: "إذا رمى إمامك فارمه" يعني الأمير الذي على الحج، وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه ابن عيينة عن مسعر بهذا الإسناد فقال فيه: "فقلت له أرأيت إن أخر إمامي" أي الرمي فذكر له الحديث أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عنه ومن طريقه الإسماعيلي، وفيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقا، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد، إلا في اليوم الثالث فيجزئه.

(3/580)


135 - باب رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي
1747 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ "رَمَى عَبْدُ اللَّهِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا فَقَالَ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ بِهَذَا"
[الحديث 1747 – أطرافه في: 1748, 1749, 1750]
قوله: "باب رمي الجمار من بطن الوادي" كأنه أشار بذلك إلى رد ما رواه ابن أبي شيبة وغيره عن عطاء "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلو إذا رمى الجمرة" لكن يمكن الجمع بين هذا وبين حديث الباب بأن التي ترمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة لكونها عند الوادي بخلاف الجمرتين الأخريين، ويوضح ذلك قوله في حديث ابن مسعود في الطريق الآتية بعد باب بلفظ: "حين رمى جمرة العقبة" وكذا روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون عن عمر "أنه رمى جمرة العقبة في السنة التي أصيب فيها وفي غيرها من بطن الوادي" ومن طريق الأسود "رأيت عمر رمى جمرة العقبة من فوقها" وفي إسناد هذا الثاني حجاج بن أرطأة وفيه ضعف، وسنذكر بقية الكلام عليه هناك. قوله: "وقال عبد الله بن الوليد" هو العدني هكذا رويناه موصولا في "جامع سفيان الثوري" رواية العدني عنه من طريق عبد الرحمن بن منده بإسناده إلى عبد الله بن الوليد، وفائدة هذا التعليق بيان سماع سفيان وهو الثوري له من الأعمش. وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى، ومن أسفلها استحبابا.=

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...